كتاب : الاجتهاد من كتاب التلخيص لإمام الحرمين
المؤلف : عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني

كتاب الاجتهاد للجويني

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تصويب المجتهدين وذكر وجوه الخلاف فيه
اعلم وفقك الله ان ما يجري فيه كلام العلماء ينقسم الى المسائل القطعية والى المسائل الاجتهادية العارية عن ادلة القطع
فأما المسائل القطعية فتنقسم الى العقلية والسمعية
فأما العقلية فهي التي تنتصب فيها ادلة القطع على الاستقلال

وتفضي الى المطلب من غير افتقار الى تقرير الشرع وذلك معظم مسائل العقائد نحو اثبات حدث العالم واثبات المحدث وقدمه وصفاته وتبيين تنزيهه عما يلزم فيه مضاهاة الحوادث واثبات القدر واثبات جواز الرؤية وابطال القول بخلق القران وتحقيق قدم الارادة الى غير ذلك من الاصول
واما الشرعية فكل مسألة تنطوي على حكم من احكام التكليف مدلول عليها بدلالة قاطعة من نص او اجماع
وقد اختلفت عبارات اصحابنا اذ سئلوا عن تحديد مسائل الاصول فذكر القاضي عبارات في مصنفاته فقال في بعضها حد الاصل مالا يجوز التعبد فيه الا بأمر واحد فيندرج تحت هذا الحد مسائل الاعتقاد ويخرج عنه مسائل الشرع أجمع قطعيها ومجتهدها
وقال مرة اخرى حد الاصل يصح من الناظر العثور فيه على العلم من غير تقدير ورود الشرع
وزيف في هذا الكتاب ما ذكره في كتبه وقال لا ينبغي ان نحد

بهذه وامثالها اصول الدين اذ يدخل عليها وجوب معرفة الباري ومعرفة صفاته ووجوب معرفة النبوة فوجوب معرفة هذه الاصول من اصول الدين فلا سبيل الى الحاق هذا القبيل بمسائل الفروع مع علمنا بأن الوجود لا يثبت الا شرعا فبطل من هذا الوجه حصر مسائل الاصول في العقليات ولذلك يجوز تقدير نسخ وجوب المعرفة عندنا فكل ما ثبت اصله بالشرع يجوز فيه تقدير النسخ
فالحد الصحيح الذي عول عليه فيما هو من اصول الدين ان قال كل مسألة يحرم الخلاف فيها مع استقرار الشرع ويكون معتقد خلافها جاهلا فهي من الاصول سواء استندت الى العقليات ام لم تستند اليها
فإن قال قائل فالعقليات التي يتكلم فيها ارباب الكلام ويقع الاستقلال بذواتها في العقائد تعد من الاصول ولا يتحقق فيها تحريم الخلاف
قلنا ان كانت مناطة بقاعدة من قواعد الدين وان كانت من

الدقائق يحرم الخلاف فيها وان كانت لا تتعلق بشيء من القواعد فلا تعد من اصول الدين وانما اعتبارنا بأصول الدين

حكم تصويب المجتهدين في الاصول
فإذا عرفت ما هو الاصل فلا تقل فيما هذا سبيله ان كان مجتهد مصيب بل المصيب فيها واحد ومن عداه جاهل مخطىء وهذا ما صار اليه كافة الاصوليين الا عبيدالله بن الحسن العنبري فإنه ذهب الى ان كل مجتهد مصيب في الاصول كما ان كل مجتهد مصيب في الفروع
ثم اختلفت الروايات عنه فقال في اشهر الروايتين انا اصوب كل

مجتهد في الذين تجمعهم الملة واما الكفرة فلا يصوبون وغلا بعض الرواة عنه فصوب الكافة من المجتهدين دون الراكنين الى الدعة والمعرضين عن امر الاجتهاد وحقيقة مذهبه يبين في الخلاف فهذا بيان احد القسمين وهو مسائل الاصول

حكم المجتهدين في الفروع من حيث التصويب والتخطئة
فاما مسائل الفروع فنذكر حدها اولا
واصح ما يقال فيها ان نقول كل حكم في افعال المكلفين لم يقم عليه دلالة عقل ولا ورد في حكمه المختلف فيه دلالة سمعية قاطعة فهو من الفروع

واذا اختلف فيه العلماء في مباينة اجتهادهم فما حكمهم في التصويب والتخطئة
فاما نفاة القياس فقد قطعوا بان المصيب واحد وعينوه وزعموا ان من اخطأ الحق المعين فهو مأثوم مأزور ولم يقل بهذا المذهب من القائسين الا الاصم وبشر المريسي فانهما زعما ان المصيب واحد والمطلوب واحد ومن تعداه مأثوم

وصار كافة العلماء الى نفي الاثم والحرج في مسائل الفروع واختلفوا بعد ذلك في التصويب
فاما الشافعي رحمه الله فليس له في المسألة نص على التخصيص لا نفيا ولا اثباتا ولكن اختلف النقلة عنه المستنبطون من قضايا كلامه
فذهب الاكثرون الى انه يقول المصيب واحد ثم اختلف هؤلاء فذهب بعضهم الى انه كان يقول المجتهد كلف الاجتهاد والعثور على الحق ونصب الدليل المفضي الى العلم بما كلف فان اصابه فله اجران وان اخطاه فالوزر محطوط عنه لغموض الدليل والى هذا المذهب صار معظم القائلين بان المصيب واحد
وذهب اخرون الى ان الحق لا دليل عليه يفضي الى العلم به ولكنه كالشيء المكنون يتفق العثور عليه ويتفق تعريه وليس على العلم به دليل
ثم اختلف هؤلاء فذهب بعضهم الى ان العثور عليه مما يجب على المكلف وان لم يكن عليه دليل يفضي الى العلم
وذهب اخرون الى ان العثور عليه ليس بواجب وانما الواجب الاجتهاد وهذا حقيقة مذهب من يقول ان كل مجتهد مصيب في اجتهاده
واما ابو حنيفة فقد اختلفت الرواية عنه والذي يصح عنه انه كان

يقول كل مجتهد مصيب في اجتهاده واحدهم عاثر على الحق والباقون مخطئون فيه وكلهم على الصواب بالاجتهاد
قال القاضي والذي توضح عندنا من فحوى كلام الشافعي رحمه الله القول بتصويب المجتهدين وقد نقل ذلك بعض اصحاب الشافعي عنه صريحا وعد نصوصا منبئة عما قاله
والصحيح من مذهب الشافعي ان المصيب واحد
وذهب طائفة من العلماء الى ان المجتهد مأمور بطلب الاشبه وصار محمد بن الحسن وابو يوسف

وابن سريج في احدى الروايتين عنه الى مثل ذلك ولا يتبين الاشبه الا بتفصيل وسنقرر فيه بابا
فهذه جملة المذاهب التي عدا القول بتصويب المجتهدين اجتهادا وحكما
وما صار اليه المعتزلة قاطبة ان كل مجتهد مصيب اجتهادا وحكما ومال شيخنا ابو الحسن الى ذلك وهو اختيار القاضي وكل من انتمى الى الاصول الا الاستاذ ابا اسحق فانه صار الى ان المصيب

واحد وحكى الطبري ذلك عن ابن فورك والذي عندنا انه كان يقول بتصويب المجتهدين
ونحن الان نرد على العنبري اولا ثم نذكر شبه القائلين بان المصيب واحد ونتقصى عن جميعها ثم نذكر ادلتنا ثم نقرر بعد ذلك ثلاثة ابواب احدها في الرد على من قال كل مجتهد مصيب في اجتهاده والثاني في القائلين بالاشبه والثالث في القول بالتخيير مع تصويب المجتهدين

مسألة
في الرد على العنبري حيث قال بتصويب المجتهدين في مسائل الاصول فنقول لا يخلو من احد امرين في المختلفين في نفي الصفات واثباتها والقول بخلق القرآن وقدمه وغيرهما من مسائل الاصول
اما ان يقول كل واحد من المذهبين حق وهو علم ثابت متعلق بالمعلوم على ما هو به فان قال ذلك فهو خروج منه الى

السفسطة وترك الضروريات وجحد البداية فانا نعلم بضرورة العقل استحالة كون الشيء قديما حادثا ثابتا منفيا جائزا مستحيلا فبطل المصير الى هذا القسم وتبين ان احد المجتهدين هو العالم بحقيقة ما فيه الكلام والثاني جاهل
فان زعم ان كل مجتهد مصيب في الاصول بمعنى انه لم يكلف الا الاجتهاد فاما العثور على الحق فلم يتعلق به تكليف لصعوبة مدركه واختلاف الاراء وغموض طرق الادلة فان سلك هذا المسلك في القول بالتصويب وقال مع ذلك بطرد مذهبه في الكفر فقد انسل من الدين حين عذر الكفار في الاصرار على الكفر
فان قال ذلك في الذين تجمعهم الملة كان الكلام عليه من وجهين
احدهما ان نقول ما الذي حجزك عن القول بان المصيب واحد فان تمسك بغموض الادلة قيل له فالكلام في النبوات والاحاطة بصفات المعجزات وتمييزها عن المخاريق والكرامات اغمض عند العارفين باصول

الديانات من الكلام في القدر وغيره مما اختلف فيه اهل الملة فهلا عذرت الكفرة بما ذكرت وهذا ما لا محيص له عنه
والوجه الاخر من الكلام ان نقول مما خاض فيه اهل الملة القول بالتشبيه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا والقول بخلق القران الى غير ذلك مما يعظم خطره وقد اجمع المسلمون قبل العنبري على انه يجب على المسلم ادراك بطلان القول بالتشبيه ولا يسوغ الاضراب عن معرفة هذا وامثاله من اصول الحقائق وما قال احد ممن مضى وبقي انه لا تجب معرفة العقائد على الحقيقة بل قالوا قاطبة ان معرفة العقائد واجبة على كل مكلف وهذا ما لا سبيل الى رده فبطل ما قاله من كل وجه وقد ذكرنا في خلال الكلام ما عليه معول الرجل
مسألة
في تصويب المجتهدين في الفروع
وقد قدمنا ذكر المذاهب وها نحن الان نذكر شبه القائلين بان المصيب واحد فمما سبق الى التمسك به الفقهاء الذين لا يحصلون حقائق

الاصول ان قالوا اذا اختلفت العلماء في تحليل وتحريم فلو قلنا ان كل واحد منهما مصيب كان ذلك محالا من القول وجمعا بين متنافيين فان الشيء الواحد يستحيل كونه حلالا حراما واطنبوا فيه والذي ذكرناه يؤدي الى مقصودهم
والذي يقال لهم اول ما فتحتم به كلامكم غلط فان العين الواحدة لا تحل ولا تحرم اذ التحليل والتحريم لا يتعلقان بالاعيان وانما يتعلقان بافعال المكلفين فالمحرم فعل المكلف في العين والمحلل فعله فيه فهما اذا شيئان حرم احدهما وحل الثاني فهذا وجه مفاتحتهم بالكلام على انا نقول لو تتبعناكم وانما المتنافي ان يحرم الشيء ويحل على الشخص الواحد في الحالة الواحدة وليس هذا سبيل المجتهدين فان كل مجتهد مؤاخذ باجتهاده وتنزلت العين الدائرة في النفي والاثبات بينهما مع اختلاف اجتهاديهما منزلة العين المملوكة بين مالكها وغير مالكها وهي محللة عليه محرمة على غيره وكذلك الميتة بين المضطر والمختار فهذا اكثر من ان يحصى فبطل ادعاء التناقض

وربما يفرض من قال ان المصيب واحد صورا في غير دعوى التناقض ونحن نذكر ما يقع به الاستقلال حتى يستدل بطرق الجواب فيها على امثالها
ومما تمسكوا به أن قالو اذا قال للمرأة زوجها في حال الغضب وسالته الطلاق انت بائن والزوج شافعي يعتقد ان الطلاق لا يقع بذلك والمرأة حنفية تعتقد وقوع الطلاق قالوا فاذا زعمتم ان كل واحد منهما مصيب ولعلهما كانا مجتهدين فالجمع بين القول بتصويبها وتصويبه يقتضي الجمع بين التسليط على الاستمتاع والمنع منه فان الرجل مسلط على قضية اعتقاده على الاستمتاع ومن موجب اعتقاده انه لا يجوز لها ان تمنعه استمتاعا مباحا منها له ومن موجب اعتقادها التحريم ووجوب الامتناع وهذا متناقض جدا
فاول ما نفاتحهم به ان نقول فانتم معاشر القائلين بان المصيب واحد لا سبيل لكم الى ان تنزلوا المرأة على قوله أو تنزلوا الرجل على قولها فانكم لا تعرفون في الظاهر المصيب منهما فما وجه جوابكم

اذا عنت هذه الحادثة فكل ما قدرتموه جوابا ظاهرا في حقهما فهو حكم الله تعالى عندنا ظاهرا و باطنا وان زعموا ان الامر بينهما يوقف الى ان يرفعا الى حاكم فيقضي عليهما بموجب اعتقاده قلنا فالوقت قبل الرفع حكم الله تعالى عليهما قطعا واذا رفعا اليه فما حكم به القاضي فهو حكم الله تعالى قطعا
وان زعموا ان المرأة مأمورة بالامتناع جهدها والرجل مباح له طلب الاستمتاع وان ادى ذلك الى قهرها ولم يعدوا ذلك متناقضا في ظاهر الجواب فهو الحكم عند الله تعالى وعندنا ظاهرا وباطنا
والجملة الكافية في ذلك جدالا وتحقيقا ما قدمناه من ان كل ما يقدره القائلون بان المصيب واحد في امثال هذه المسائل ويزعمون انه كلام منهم في الظاهر فهو الحكم عندنا في الظاهر والباطن
ومما يتمسكون به من الصور ان المرأة اذا نكحت بغير ولي اولا ثم زوجها وليها ثانيا والذي زوج بها ثانيا شافعي المذهب يعتقد بطلان نكاح الاول والذي تزوج بها اولا حنفي يعتقد صحة النكاح الاول وبطلان

الثاني والمرأة مترددة بين دعوتيهما وهما مجتهدان مثلا فما وجه تصويبهما وفيه الافضاء الى تحليلها لهما وتحريمها عليهما او جمع الحل والتحريم في حق كل واحد منهما
قلنا فلو حدثت هذه المسألة وسئلتم عنها فبمذا كنتم تفضلون الحكم فيها ظاهرا وكل ما اجبتم به في ظاهر الامر ولم تعتدوه تناقضا فهو حكم الله تعالى عندنا وان اجتزيت بهذا القدر كفاك وان اردت التفصيل في الجواب قلت
من القائلين بان المصيب واحد من صار في هذه الصورة الى الوقف حتى يرفع الامر الى القاضي كما قدمناه في الصورة المعلومة الاولى فعلى هذا القول حكم الله تعالى فيهما الوقف ظاهرا وباطنا حتى يرفع امرهما الى القاضي فينزلهما على اعتقاد نفسه فحكم الله تعالى حينئذ عليهما ذلك
ومنهم من قال تسلم المرأة الى الزوج الاول فانه نكحها نكاحا يعتقد صحته وهو السابق به فلا يبعد ان يقول ان هذا هو الحكم

واعلم ان هذه المسألة وامثالها من المجتهدات وفيها تقابل الاحتمالات فيجتهد المجتهد فيها عندنا فما ادى اليه اجتهاده فهو حق من وقف او تقديم او تأخير أو غيرهما من وجوه الجواب وقد اكثروا في ايراد الصور وفيما ذكرناه المغنى ان شاء الله تعالى
والذي عول عليه الاستاذ ابو اسحق في المسألة لما رأى أن ادعاء التناقض في الاحكام لا وجه له التزم التناقض في الادلة فقال لا تثبت الاحكام في آحاد المسائل الشرعية الا بالادلة كما لا يثبت اصل الشريعة المتلقاة من تبليغ الرسول عليه السلام الا بالمعجزة الدالة على صدقه وقد اتفق العلماء قاطبة على ان الاحكام في جواز الاجتهاد تستند الى ادلة وامارات فاذا ثبت هذا الاصل فالذي اداه اجتهاده الى الحل متمسك بامارة او دلالة تعم في قضيتها ولا تخص هذا المجتهد بعينه وكذلك من قال بالتحريم معتصم بطريقة عامة في قضيتها اذ ليس في قضية دلالة من ادلة الشريعة اختصاص لبعض المجتهدين فالقول بتصويبهما في الحل والتحريم مع ما مهدناه من انهما لا يثبتان الا بدلالتين او امارتين ذهاب

الى تحقيق الامارتين العامتين وتصحيحهما وهما متناقضتان وان لم يتناقض الحل والتحريم في حق رجلين
وقد انفصل بعض من لا يتحقق مقصود هذه المسألة عن هذه الدلالة بأن قال انما يستقيم هذا اذ لو قلنا ان ما يتمسك به في صور الاجتهادات ادلة فاما وقد قدمنا بانهما ليست بادلة لا يلزم فيها التناقض
وهذا ليس بشيء فان التناقض في الامارات المنصوبة على الاحكام كالتناقض في الدلائل الدالة على مدلولاتها بانفسها من غير بعد نصب فيها وهذا بين لا خفاء به
وطريق الجواب عن ذلك ما ذكره القاضي في علل الاحكام وذلك انه قال اذا اختلف المجتهدان في تعليل البر في حكم الربا وألحق احدهما به فرعا ونفاه الثاني ومرجعهما في الاجتهاد الى وصف البر فليس في وصف البر دلالتان بأنفسهما على النفي والاثبات ولسنا نقول ايضا ان صاحب الشريعة نصب في البر علامة معلومة عنده وكلفنا العثور عليها او نصب فيه امارتين حتى نقدر الامارتين المنصوبتين متناقضتين او

متماثلتين اذ لو قلنا بذلك كنا قائلين بطلب شيء والعثور عليه سوى العمل وهذا قول ثان الحق هو طلب علم او هو طلب الاشبه ونحن نبطل الطريقتين جميعا فيخرج من ذلك انا لا نقدر دلالتين ولا امارتين منصوبتين على الوجه الذي فرضه المستدل علينا ولكنا نقول امارة الحكم في حق كل واحد منهما غلبة ظنه وكأن الرب تعالى جعل غلبة ظن كل مجتهد علما على الحكم بموجب ظنه وهذا ما لا يتحقق فيه تناقض فتبين ذلك واعلمه فأنه سر المسألة ولا يحيط به الا من تأكد غوصه فيها ولا ينتفي بعدها علينا مؤونة الا بشيء واحد وهو انهم ان قالوا اذا زعمتم ان الذي يتمسك به المجتهد لا يقدر امارة منصوبة شرعا فماذا يطلب المجتهد وليس عنده فيما يطلب علة منصوبة عند الله تعالى قبل طلبه ولا يتحقق طلب من غير مطلوب وهذا اصعب سؤال لهم ولو قامت للقائل بان المصيب واحد حجة لكانت هذه ولا تحسبن ذلك تشككا فنحن من القاطعين بان كل مجتهد مصيب وسنتقصى عن هذا السؤال عند ذكرنا الاشبه ان شاء الله تعالى
ومما استدلوا به في المسألة ان قالوا اذا قلتم ان كل مجتهد مصيب

فبم تنكرون على من يزعم ان القائل بأن المصيب واحد مصيب ايضا وهذا ما لا طائل وراءه فانا انما نقول بتصويب المجتهدين في مسائل الاجتهاد وهذه المسألة التي نحن فيها من مسائل القطع وهي ملتحقة بالقطعيات التي المصيب فيها واحد متعين
ومما تمسكوا به ايضا ان قالوا اذا كان كل مجتهد مصيبا فما فائدة التناظر والحجاج وما زال العلماء من عصر الرسول عليه السلام الى عصرنا يتحاجون ويطلب كل واحد منهم من المتناظرين دعاء خصمه الى ما ينصره من المذهب فلو كان كل مجتهد مصيبا مأمورا بملازمة اجتهاده وهو الحق عند الله تعالى لما كان في طرق الحجاج والنظر فائدة وفي اجماع العلماء على التناظر دليل على فساد هذا الاصل واوضحوا ذلك بان قالوا كما وجدناهم يتحاجون في اصول الديانات فكذلك سبيلهم في الشرعيات ثم كان نظرهم في العقليات لطلب العلم بالمنظور فيه فكذلك النظر في الشرعيات
وهذا الذي ذكروه باطل من أوجه منها

أن نقول انتم وان زعمتم ان المصيب واحد قيل لكم اذا اجتهد المجتهد فاداه اجتهداه الى التحريم فهل له في ظاهر الحكم الاخذ بالتحليل فيقولون في جواب ذلك انه ليس له مخالفة اجتهاده في ظاهر الامر والتناظر على زعمكم يتضمن خلاف ذلك فقد لزمكم ما ألزمتمونا
والوجه الاخر في الجواب ان نقول ما تلزمونه من التناظر ثابت اجماعا وما ادعيتموه من عرض المتناظرين فأنتم منازعون فيه ولسنا نسلم ان العلماء انما يناظرون ليدع كل واحد منهم خصمه الى مذهبه فتبينوا ذلك ففيه اشتد النزاع ولا سبيل لهم الى اثباته
فان تمسكوا بعادات بعض اهل العصر قوبلوا بعادات الصحابة والتابعين فانهم ما تناظروا ليدع كل واحد صاحبه الى مذهبه وانما

تناظروا لوجوه منها التوصل الى التذاكر في طرق الاجتهاد فان التذاكر والتناظر من اقوى الامور المرشدة الى ذلك ومن فوائد النظر ايضا العثور على ما يقطع به والبحث عن النصوص وعن ما يحل محلها وابداء فوائد النظر تبرع منا وليس علينا الا ممانعتهم عما ادعوه من العرض
وللقوم طرق في الاستدلال تتعلق بالسمعيات منها
انهم تمسكوا بقوله تعالى في قصة داود وسليمان عليهما السلام ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما قالوا فدل الظاهر على انهما اجتهدا صلوات الله عليهما ووفق سليمان للعثور على الحق وهو المعنى بقوله تعالى ففهمناها سليمان وأكدوا الاستدلال بأن قالوا كانت الواقعة من مسائل الفروع فانها كانت في زرع نفشت فيه غنم القوم فافسدته
والجواب عن ذلك من اوجه
احدها ان نقول من انكر اجتهاد الانبياء لم يساعدكم على ان المسألة كانت اجتهادية وكذلك من نفي الزلل عن الأنبياء فينكر ذلك أشد الانكار ثم ليس في الظاهر من الاية دليل على خطأ داود عليه السلام بل في ظاهرها ما يدل على اصابته فانه تعالى قال وكلا آتينا

حكما وعلما فسقط استدلالهم جملة واكثر ما تنبىء عنه الاية كونهما مصيبين وكون ما حكم به سليمان اولى واحسن
فان طالبونا بعد ذلك بتأويل الاية لم تلزمنا اجابتهم بعدما بينا انه لا اعتصام لهم في الاية ثم ان تبرعنا بالتأويل فالوجه فيه انهما صلوات الله عليهما اجتهدا وكان كل واحد منهما على حكم وعلم وثبت الحكمان بموجب اجتهادهما عليهما السلام ثم نسخ حكم داود بعد ثبوته ونزل النص بتقرير حكم سليمان فهذا وجه التأويل
ومما استدلوا به ايضا وحسبوه من عمدتهم ما روي عن النبي عليه السلام انه قال اذا اجتهد الحاكم فاصاب فله اجران وان اجتهد فأخطأ فله اجر واحد أخرجه البخاري ومسلم وغيرهم

قالوا فثبت ان رسول الله عليه السلام خطأ المجتهد ولا يتصور مع القول بتصويب المجتهدين ثبوت خطأ المجتهد
قلنا هذا من اخبار الاحاد والمسألة قطعية ثم نقول لهم الخبر محمول على ما اذا اجتهد وأخطأ النص بعد بذل كبير مجهوده
فان قالوا والذي بذل مجهوده في طلب النص فلم يعثر عليه فحكم الله عليه عندكم موجب اجتهاده فما معنى الخطأ
قلنا ليس المعنى بالخطأ انه أخطأ ما كلف ولكن المعنى به انه أخطأ النص فلم يصبه ثم نقول ظاهر الخبر يدل عليكم فانه عليه السلام

اثبت الاجر في حق كل واحد من المجتهدين فالذي أخطأ ما كلف فحط الوزر عنه اجدر منه بالاجر فترك التعرض لحط الوزر والافصاح باثبات الاجر من أبين الادلة على انتفاء الخطأ الذي فيه تنازعنا فبطل ما قالوه
فهذه جمل عمدهم وهي ترشدك الى امثالها

أدلة من قال بتصويب المجتهدين
وأما أدلة القائل بتصويب المجتهدين فقد ذكر القاضي طرقا في الدليل وقد تأملتها فرأيت بعضها يفتقر في الثبوت الى بعض وكلها في التحقيق اركان دلالة واحدة فرأيت ان اركب منها دلالة واستقصي فيها وجوه الكلام على السبيل التي اشبعها القاضي فنقول لمخالفينا
الحق الذي ادعيتم اتحاده عند الله تعالى لا يخلون اما ان تزعموا انا

كلفنا العثور عليه واما ان تزعموا انه لم يتعلق به حكم تكليف فان زعمتم انا لم نكلف العثور عليه فوجوده وعدمه في حق المكلف بمثابة واحدة اذ ليس هو حقا عليه وهذا القسم مما لا يقول الخصم به فلا فائدة في طلب الاطناب فيه
فان زعموا ان الذي هو حق عند الله تعالى قد كلفنا العثور عليه والعمل بموجبه وهو مذهب القوم فهذا باطل لاصلين نمهدهما
احدهما اجماع المسلمين قاطبة على ان كل مجتهد مأمور بالعمل على قضية اجتهاده فان غلب على ظن احد المجتهدين في واقعة الحل وغلب على ظن الاخر التحريم فلا يسوغ للمحرم الاخذ بغير موجب اجتهاده ولو حاد عنه عصى وانتسب الى الماثم فاذا تقرر باطلاق الأمة كون كل مجتهد مؤاخذ بالعمل بقضية اجتهاده فلا يخلون اما ان يكون ما عمل به حقا عند الله تعالى واما ان لا يكون كذلك فان كان حقا عند الله تعالى فهو الذي يلتمسه ويجب على هذا الاصل كون كل مجتهد من المجتهدين مصيبا

وان زعموا انه يجب عليه العمل ظاهرا ويجوز ان يكون منهيا عنه عند الله تعالى فهذا باب من الجهالة لا يرضى المحققون سلوكه فان الامة اجمعت على ان كل مجتهد مأمور بالعمل بقضية اجتهاده حتى لو مال عن ذلك انتسب الى المأثم وان تغير اجتهاده في الثاني فكيف تجمع الامة على وجوب ما يجوز كونه منهيا عنه وهل هو الا التناقض الذي ادعوه علينا في صدر شبههم فهذا تمهيد احد الاصلين
وأما الاصل الثاني فهو ان نقول اذا قدرتم ورود العمل بموجب الاجتهاد حكما هو الحق فلا يخلون اما ان تزعموا انه مما يعلم والى العلم به سبيل وهو نصب عليه دليل واما ان تقولوا هو مما امرنا بالعلم به ولا دليل يؤدي اليه واما ان تقولوا ما كلفنا العلم به اصلا
فان زعمتم انا كلفنا العلم به واليه صار معظم المخالفين وزعموا ان عليه ادلة منصوبة لو تمسك بها الناظر لافضت به اليه فهذا باطل من اوجه
اقربها ان الادلة في المجتهدات الحكمية مضبوطة الاوصاف وليست تقتضي علما لذواتها بخلاف ادلة العقول فانها لو اقتضت علما لذواتها

لاقتضته من غير نصب وقد استقصينا القول في ذلك في احكام القياس فاذا بطل تنزلها منزلة الادلة العقلية في اقتضائها العلم لذواتها دل على انها انما نصبت امارات شرعا ثم نعلم انها في قضية الشرع ليست مما يقطع بها اذ منها خبر الواحد ولا يسوغ القطع بنقله ومنها طرق الاقيسة ولا يسوغ ايضا القطع باصابة المستنبط لها على منهج اصل مخالفينا فانا يستقيم كونها مفضية الى العلم مع التشكك والاسترابة في اصولها وهذا ما لا جواب عنه فبطل من هذا الوجه ما ادعوه من انا كلفنا العلم بالحق ونصب عليه الدليل المفضي اليه
ومما يبطل ادعاء العلم ما ذكره القاضي من ان الصحابة ومن بعدهم من التابعين ما زالوا يتكلمون في مسائل الاجتهاد وكل منهم يزعم ان كل مجتهد متبع لاجتهاده ولا يسوغ له الاضراب عنه وكان كل واحد منهم لا يقطع بأن الذي تمسك به هو الحق والكل مدعوون اليه فان لم يصل اليه فقد أخطأ الحق وأكثر ما كان يدعيه المجتهد منهم غلبة الظن وترجيح الامارات واما القطع فلم يصر اليه احد منهم وكذلك كل علم

مقطوع به فثبت بذلك ثبوتا واضحا انتفاء العلم في المجتهدات اذ لو كنا كلفنا اصابته لما ذهب عنه من فرطنا ولو ذهبوا عنه كانوا متفقين على خلاف الحق ولا تجتمع الامة على ضلاله والذي يحقق لك ما ذكرنا ان احدا ما كان يؤثم اصحابه بالعدول عن الحق فلو كان كان الوصول الى الحق متصورا وهو واجب ولكان من مال عنه وحاد عن نصبه تاركا لواجب يقدر على الوصول اليه فلما لم يؤثم بعض الصحابة بعضا في المجتهدات وكذلك علماء عصرنا لا يؤثم بعضهم بعضا في المجتهدات على انهم قالوا من حكم الواجب ان يعصي المكلف بتركه والذي يحقق ذلك ان الناس لما افترقوا فيما يليق بالديانات دعوا للحق طوعا او كرها او قهرا وذلك نحو مخالفة الخوارج

وخروجهم على الامام الحق الى غير ذلك فهذا عقد الدلالة على الذين قالوا انا كلفنا في المجتهدات العلم ونصب لنا عليه الدليل
فان قالوا انا كلفنا العلم ولم ينصب عليه دليل يوصل اليه المتمسك به فهذا خرق لاجماع الامة وذلك انهم اجمعوا على ان المكلف انما يكلف العلم فيما يتصور فيه الاستدلال المفضي الى العلم على ان ارباب التحقيق قالوا في احكام النظر ان العلم ينقسم الى الضروري والكسبي فاما الضروري فلا يفتقر في حصوله الى دليل ولكنه يحصل من فعل الله تعالى بدءا غير مقدور للعبد وما هذا سبيله لا يجوز ان يتعلق التكليف به اذ التكليف انما يتعلق بما يدخل تحت المقدور فاما الكسبي من العلوم فلا يسوغ حصوله مقدورا الا ان يكون مدلولا اذ لو لم نقل ذلك ادى الى بطلان ارتباط النظر بالعلم وهذا مما يستقصي في غير هذا الفن على انه مجمع عليه من القوم فبطل بما ذكرناه اجمع تقدير علم في الواقعة سوى الذي يعلم في ظاهر الامر وتبين ان الحق ما يؤدي اليه اجتهاد كل مجتهد
وقد وجه المخالفون على اصل واحد مما ذكرنا اسئلة والدلالة

تستقل دون ذلك الاصل وذلك انهم سألونا اسئلة في تمسكنا في ان الصحابة لم يؤثم بعضهم بعضا ونحن نذكرها ونتفصى عنها ان شاء الله تعالى على انا لا نحتاج الى هذا الاصل في عقد الدلالة وفيما عداه غنية ولكن لا يتوجه عليه شيء من اسئلة الخصم
فمما سألوه ان قالوا بم تنكرون على من يزعم ان بعضهم كان يؤثم بعضا فلم ادعيتم الاجماع في ذلك وما دليلكم عليه
والجواب عن ذلك من وجهين
احدهما ان نعلم قطعا ان ائمة الصحابة كانوا يختلفون في المسائل ثم يعظم بعضهم بعضا ولا يستجيز اطلاق اللسان في اصحابه بل تنزيه عن كل شين على انهم كانوا لا يعصون على ما لا يجوز الاعصاء عليه كيف وقد كانوا يوجبون على كل مجتهد ان يؤخذ بموجب اجتهاده وهذا ثابت قطعا في مذاهبهم ومذاهب اهل عصرنا فانى يستقيم مع ذلك الحكم بالتأثيم
ثم نقول ان بعد عليكم امر الصحابة فاجماع اهل العصر يغنيكم فان احدا منهم لا يؤثم العلماء في المجتهدات بل يسوغ لكل مجتهد ان يتبع اجتهاده بعد ان لا يألوا جهدا

فان قالوا قد اشتهر عن اصحاب الرسول عليه السلام التناكر والتغليظ في القول في المجتهدات واشتهر ايضا عنهم الانتساب الى الخطأ ونسبته فمما روي في ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه انه قال في توريث الجد مع الاخ الا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل اب الاب ابا وقال في العول من شاء باهلته والذي احصى رمل عالج عددا لم يجعل في المال نصفا وثلثين أخرجه الحاكم في المستدرك

والمباهلة هي الملاعنة من قوله نبتهل أي نلتعن وروي عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه انه قال في قصة المرأة التي ارسل اليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسولا ينهاها عن الفجور وكانت ترتقي سلما فاجهضت جنينها لما بلغتها الرسالة فاشار بعض الصحابة على عمر رضي الله عنه بأنك مؤدب فلا غرم عليك فقال علي رضي الله عنه عند ذلك ان اجتهدوا فقد اخطأوا وان لم يجتهدوا فقد غشوك ارى عليك الدية وهذا تصريح من علي رضي الله عنه بتخطئتهم

وباع زيد بن ارقم عبدا له بيع العينة فقالت عائشة رضي الله عنها الا اخبروا زيد بن أرقم انه ابطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ان لم يتب
ونهى عمر بن الخطاب عن المغالاة في المهر وهو يخطب فقامت اليه امرأة فقالت مالك تحجر علينا في خيرة الله فقال عمر صدقت وكل الناس افقه من عمر أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله فاعترف على نفسه بالخطأ
واشتهر عن الصحابة في المجتهدات تسمية الخطأ على انفسهم

فقال أبو بكر رضي الله عنه في كثير منها ان اصبت فمن الله وان أخطأت فمن نفسي أخرجه البهقي وقال ابن مسعود في قصة بروع بنت واشق إن اصبت فمن الل وان اخطأت فمن الشيطان أخرجه أبو داود وهذا القبيل قد اشتهر عنهم اشتهارابين ولا معنى للخطأ في المجتهدات مع القول بتصويب المجتهدين فهذا ما تمسكوا به من الاثار
واول ما نفاتحهم به ان نقول كيف يستقيم منكم حمل عادات الصحابة وشيمهم على حلاف ما اجمع عليه اهل العصر وقد اجمع اهل العصر قاطبة على ان مسائل الاجتهاد لا يجري فيها التأثيم وانما

يجري التأثيم في ان يخالف الرجل موجب اجتهاده وكيف يسوغ مع هذا الاجماع ان يقع التاثيم في الصحابة مع تنزههم عما يشينهم ويحطهم عما فضلهم الله به فتعين بعد ذلك عليهم وعلينا تتبع ما ذكروه من الاثار بالتأويل والذي يوضح ذلك ان ما نقلوا فيه تغليظ القول مختلف فيه وقد اتفق اهل العصر على انه لا يجري فيه التغليظ مع كونه مختلفا فيه
ومما ذكر فيه التغليظ بيع العينة وقد اتفق المسلمون على انه من باع على الوجه المختلف فيه لا يحبط جهاده مع الرسول صلى الله عليه و سلم ومما يؤثر فيه التغليظ مسائل الجد اذ روي عن علي رضي الله عنه انه قال من اراد ان يقتحم جراثيم جهنم فليتكلم في الجد برأيه وهذا متروك الظاهر من وجهين
احدهما ان التكلم في الجد لابد منه

والثاني ان الخلاف فيه لا يحل محل تقحم الجراثيم فقد اندفع عنا ما ادعوه من التأثيم احتجاجا اذ قد بينا افتقار الخصم الى التأويل وازالة الظاهر ثم الكلام على ما ذكروه من الاثار من اوجه
احدها ان نقول انها احاد ولا تكاد ان تبلغ مبلغ القطع والذي تمسكنا به من اجماع اهل العصر في ترك التأثيم واجماع الصحابة قطعي لا ريب فيه
والوجه الثاني من الكلام ان نقول ان صح التأثيم وتغليظ القول في بعض هذه الصور فذلك لان المغلظ المؤثم اعتقد ان الذي جرى الكلام فيه ليس من المجتهدات وحسبه من القطعيات ولذلك غلظ القول والامر على خلاف ما قدروه فاما الذين يتفقون على كونه مجتهدا فيجمعون على ترك التأثيم فيه
فان قالوا فكيف حسب ابن عباس مسألة العول قطعية
قلنا فلسنا نضمن عصمة ابن عباس ولا عصمة من هو اجل منه من اصحابه وغرضنا من مساق هذا الكلام ان نصرف التغليظ عن المجتهدات فتدبره

فاما ما تمسكوا به من الاثار المنطوية على الانتساب الى الخطأ والنسبة اليه فليس يليق بما اصلناه من كفهم عن التأثيم ولكن تمسكوا به بدءا
فنقول لا معتصم فيها فانها آحاد وهي مع ذلك عرضة للتأويل
واما ما تعلقوا به من النقل من قول بعضهم إن أخطأت فمن نفسي فمعناه ان أخطأت نصا لم يبلغني وليس المعنى به الخطأ فيما كلف
وما روي عن عمر رضي الله عنه من الاعتراف بالخطأ في المغالات في المهر فهو على وجهه فان ظاهر نهيه رضي الله عنه في خلال الخطبة على ملأ من الصحابة ينبىء عن الزجر والردع وفيه الافضاءالى تحريم المباح مع مهابة عمر رضي الله عنه في القلوب فلما صدر منه النهي المطلق رأى استدراكه والاعتراف على نفسه
وما روي عن علي رضي الله عنه فهو بصدد التأويل ايضا فانه قال ان اجتهدوا فقد اخطأوا معناه فقد أخطأوا وجه الرأي الذي أبديته ورأيته وليس المعنى أنهم أخطأوا ما كلفوا فهذا وجه ما تمسكوا به من الاثار وقد تحررت الدلالة التي عضدناها

والاولى عندنا إذا خضنا في الاستدلال ان نقسم الكلام على قسمين فنقول
تصويب المجتهدين عندك مما يستحيل المصير اليه عقلا او هو مما يمتنع شرعا فان قال هو مما يستحيل عقلا فقد ألحق جائزا بالمحالات فان الذي صار اليه المصوبون لو قدر ورود الشرع به لم يستحل فان الرب تعالى لو قال آيات أحكامي على المكلفين غلبات ظنهم فمن غلب على ظنه شيء فالعمل بموجبه حكمي عليه فهذا لا يعد من المستحيلات
فان عادوا وتمسكوا في تحقيق الاستحالة بما ادعوه من طرق المناقضات فالجواب عنها هين على ما سبق
وان زعموا ان ذلك لا يستحيل عقلا وانما يمتنع سمعا فنقيم عليهم الدلالة التي سبقت حينئذ وانما رأينا هذا التقسيم لان المخالفين يتسرعون الى ادعاء استحالة تصويب المجتهدين عقلا حتى اذا سلكوا هذا المنهج هان الكلام عليهم وان ردوا الامر الى الشرع تمسكنا بالدلالة السابقة نحو الكلام على القائلين بأن المجتهد مأمور بالعثور على الحق وان المصيب من المجتهدين واحد
وبقي الكلام علينا في ثلاثة فصول

احدها في الرد على من قال كل مجتهد مصيب في اجتهاده
والثاني تفصيل القول في الاشبه
والثالث القول بالتخيير اذا قلنا بتصويب المجتهدين عند تقابل الامارات

فصل
ذهب بعض اصحاب ابي حنيفة الى ان كل مجتهد مصيب في اجتهاده وأحدهما مصيب في الحكم والثاني مخطىء فيه ويؤثر ذلك عن ابي حنيفة ويحكى عن المزني وغيره من اصحاب الشافعي مثله وذكر القاضي للشافعي نصوصا دالة على الاخذ فيها بهذا المأخذ
وأول ما نفاتح به القوم ان نقول هل يكلف المجتهد العثور على الحق المطلوب بالاجتهاد فلا يخلون عند ذلك اما ان يقولوا لا يتعين على المجتهد الا الاجتهاد فأما العثور على الحق فلا يكلف

فان سلكوا هذا المسلك فقد افصحوا بمذهبنا فانهم صوبوا كل مجتهد فيما كلف على ان عبارتهم بشعة جدا فانهم اثبتوا حكما لا يتعلق به التكليف وهذا مردود باتفاق فان الاحكام في المجتهدات وغيرها من الشرعيات يتعلق التكليف بها اجماعا اذ من المستحيل ثبوت تحريم وتحليل وايجاب وندب من غير ان يتعلق به تكليف مكلف
فان قالوا ان المجتهد مامور بالاجتهاد والعثور على الحق كما قال الاولون
فيقال لهم فهل على الحق دليل
فان قالوا اجل قيل لهم وكيف يكون المجتهد مصيبا في إجتهاده وهو لم يتمسك بما يفضي به الى الحق اما بان حاد عن الدلالة فلم يتعلق بها او فرط فلم يكمل النظر فيها فلا يستقيم مع هذا الاصل القول بان المجتهد ادى ما كلف في اجتهاده
وان قالوا ان بعض ما اتى به من الاجتهاد فقد ادى ما كلف فيه ولكن لم يتممه
فنقول فما يؤمنه انه لم يسلك طريق النظر في الدلالة ولم يضع نظره اولا الا في شبهة فمع تجويز ذلك كيف يطلقون القول بتصويبه في الاجتهاد على ان الاجتهاد مما لا يتبعض فاذا لم يكمل لم يصح

شيء منه فانه يطلب لغيره ويتنزل منزلة الصلاه يؤدي بعضها ثم يطرأ عليها ما يبطلها على انا نقول بعد ما بينا تناقضهم نتمسك عليهم بالادلة القاطعة التي لا مخلص منها
بان نقول اليس كل مجتهد مأمورا بان يعمل بموجب اجتهاده مأثوما بالانكفاف عنه عاصيا بتركه وهذا حقيقة الوجوب ولا موجب الا الله فكيف يتحقق مع ذلك ان يأمره بشيء ويعصيه بتركه ويجوز ان يكون منهيا عما امر به فهل هذا الا تناقض لا يستريب فيه ذو عقل
فان قالوا فالذي ذكرتموه يبطل عليكم بما لو اجتهد وعمل بموجب اجتهاده ثم تبين له انه أخطأ نصا فإنه كان مأمورا بموجب اجتهاده ثم تبين له انه كان مخطئا وهذا ما يعدونه من اعظم القوادح فيما تمسكنا به
فنقول اذا لم يفرط المجتهد في الطلب وشدة البحث عن النصوص ولم يتمكن من العثور عليه فحكم الله تعالى عليه موجب اجتهاده قطعا ويتنزل منزلة من لم يبلغه الناسخ للحكم فيكون مخاطبا على الاصح بموجب المنسوخ الى ان يبلغه الناسخ فاذا صددناهم عن ذلك ضاق عليهم كل مسلك واستمر لنا ما طردناه من الدليل

فصل
في القول بالاشبه وذكر اختلاف الناس فيه
ذهب طائفة من العلماء الى ان كل مجتهد مصيب ولا يكلف الا العمل بما ادى الى اجتهاده ويكون هو مأمورا عند وضع الاجتهاد بطلب الاشبه عند الله تعالى ولكن يعمل بقضية اجتهاده ولم يقل بالاشبه الا المصوبون واليه مال عيسى بن ابان والكرخي في بعض رواياته وهو الذي ارتضاه محمد بن الحسن ثم اذا روجعوا في الاشبه اختلفت اجوبتهم في بيانه
فذهب بعضهم الى الكف عن بيانه وهذا نهاية الغي فان ما ذكروه ان كان مجهولا عندهم يستحيل اعتقاده وان كان معلوما فبأي بينة
وذهب بعضهم الى ان الاشبه عند الله تعالى اولى طرق الشبه في المقاييس والعبر ومثلوا ذلك بان قالوا اذا الحق القائس الارز بالبر بوصف الطعم أو بوصف القوت او الكيل فأحد هذه الاوصاف اشبه عند الله تعالى

واقرب في التمثيل والمجتهد يكلف نفسه بالاجتهاد العثور عليه ثم لا عليه ان أخطأه
وذهب آخرون في تفسير الاشبه الى ان قالوا الاشبه عند الله تعالى هو الذي لو ورد النص تقديرا لما ورد الا به
فنقول لهم اذا صوبنا المجتهدين واوجبنا على كل واحد يتبع موجب اجتهاده وجعلنا كل واحد على حق عند الله تعالى فلا معنى لتقدير الاشبه مع ذلك
على انا نقول لهم هل يكلف المجتهد العثور على الاشبه ام لا يكلف ذلك فان لم يكلف العثور عليه فكيف يجب طلبه مع ان المجتهد يعتقد انه لا يكلف العثور عليه
وان قلتم انه يجب العثور عليه فاذا لم يعثر عليه الا واحد من المجتهدين وجب تخطئة الباقين وهذا خوض في المذهب الاول الذي ابطلناه
اذا لا فصل بين تقدير الاشبه ولا دليل يوصل اليه على ان ما عولوا عليه يهدم المصير الى الاشبه فانه يستحيل الجمع بين قول القائل يجب على كل مكلف ان يعمل بموجب اجتهاده ويعصي بتركه ويجوز ان يكون الامثل له غيره والاشبه عند الله تعالى ترك ما يعصيه بتركه ثم نقول ما ذكرتموه في الاشبه لا معنى له فانكم ان عنيتم انه مشابهة الفرع

الاصل في اوصاف الذوات فهذا مستحيل في طرق اجتهاد الشرعيات فان الشيء يقاس على خلافه كما يقاس على مثله فلا يعول في العبر الشرعية على تماثل الاوصاف الذاتية عقلا عن اقتضاء الحكم وكونه اولى به فهذا محال وقد قدمنا في ابطاله ما فيه كفاية
قلنا ان شيئا من هذه الاوصاف لا يدل عقلا على الاحكام
وان عنوا بالاشبه ان الرب تعالى نصب وصفا من الاوصاف علما دون غيره فكيف تقولون مع ذلك بتصويب المجتهدين وهذا ما لا مخلص له منه
ثم نقول لم يؤثر عن القائلين بالاشبه الا المقالات الثلاث التي حكيناها
احدها الكف عن التفسير وهو يورط في الجهالة
والثاني التفسير باولى وجوه القياس وهو باطل فان الاولى لا يخلو اما ان يكون اولى عقلا وهو باطل واما ان يكون اولى بمعنى انه علم على الحكم دون غيره فهو الحق دون غيره اذا وما سواه خطأ ولا معنى للاشبه سوى ما قلناه
فان فسروا الاشبه بانه الذي لو ورد النص لم يرد الا به
فنقول فقولوا ان من أخطأه مع انه وجب عليه طلبه فهو مخطىء

فان قالوا لا نجعله مخطئا لانه لم يرد به النص
قلنا فلا تجعلوه الاشبه لانه لم يرد به النص فانه لا معنى لكونه اشبه يرجع الى ذاته انما يكون اشبه بنصب صاحب الشريعة اياه علما على الحكم فاذا لم ينصبه لم يكن لكونه اشبه معنى
فاذا استدل القائلون بالاشبه بنكتة واحدة على المصوبين فقالوا لا بد للمجتهد من مطلوب ولا يتصور طلب من غير مطلوب وقد منعتم ان يمون المطلوب علما وانكرتم ان يكون الله تعالى حكم معين في الحادثة او امارة منصوبة على الحكم يتعين العثور عليها
فاذا ابطلتم مع ذلك الاشبه فما الذي تطلبونه وهذا اعظم سؤال على المصوبين وربما يوضحون ذلك بالاجتهاد في القبلة فيقولون من خفيت عليه دلالة القبلة فهو مامور بطلبها ثم انما نكلفه ان يصلي الى الجهة التي ادى اجتهاده اليها ولكن يتأسس اجتهاده على طلب القبلة ثم يعمل بقضيتها ولكن يكلف سوى قضية اجتهاده وكذلك قولنا في الاشبه
والجواب عن ذلك ان نقول هذا الذي ذكرتموه لا يصح منكم اولا فان معولكم فيما ذكرتموه على ان الطلب من غير مطلوب لا يتحقق وهذا ينعكس عليكم مع قولكم بان العثور على المطلوب لا يجب فاذا لم توجبوا العثور على المطلوب وعلم كل مجتهد ذلك من نفسسه فأي معنى لوجوب الطلب

ثم نقول بم تنكرون على من يزعم ان المطلوب بالاجتهاد غلبة الظن فمهما غلب بطريق الاجتهاد على ظن المجتهد ضرب من الحكم فغلبة ظنه انه حكم الله تعالى عليه
فان قالوا مجرد غلبة الظن لا ينتصب آية وفاقا حتى تقع غلبة الظن عن اجتهاده والاجتهاد ينبغي ان ينبني على قصد مطلوب ويستحيل ان يكون مطلوب المجتهد غلبة الظن بل يطلب شيئا ويغلب على ظنه انه اصابه فيكون ذلك غلبة ظن صادرة عن اجتهاده المتعلق بمطلوبه وانتم اذا لم تثبتوا مطلوبا اصلا فلا يتقرر اجتهاد
قلنا سبيل التوصل الى غلبة الظن ما نذكره الان وهو أن المرأ المجتهد يعلم ان الصحابة رضوان الله عليهم تمسكوا باعتبار العلل وغلبة الاشباه وحكموا بما يخطر لهم من قضاياها فيسلك المجتهد مسلكهم مع انه يعتقد عدم تعيين حكم محقق او مقدر فمهما قدر نفسه سالكا مسلكهم في الحادثة الواقعة فيغلب على ظنه عند ذلك موجب اجتهاده فقد وضح

وجه التوصل الى غلبة الظن من غير تقدير الاشبه كما صرتم اليه ومن غير تقدير الحق الكائن كما صار اليه الاولون

فصل
فان قال القائل اذا اجتهد المجتهد فتقابل في ظنه وجهان من الاجتهاد ولم يترجح احدهما على الاخر وهما متعلقان بحكمين متنافيين فما قولكم في هذه الصورة
قلنا اما من زعم ان المصيب واحد فقد اختلفت اقوالهم في هذه الصورة فذهب بعضهم الى انه يقلد عالما غيره قطع بأحد وجهي اجتهاده
وذهب احزون الى انه لا يقلد عالما ولا ياخذ باجتهاد نفسه ولكن يتوقف ويصمم على طرق الترجيح
وان تضيق الامر فقد اختلف مانعوا التقليد عند ذلك
فذهب ذاهبون الى جواز التقليد عند ذلك في هذه الحالة وان منعوها في غيرها من الاحوال وذهب اخرون الى انه لا يقلد ولكن يعمل باحدهما وسنستقصي القول في ذلك في كتاب التقليد ان شاء الله عز و جل
واما المصوبون فقد خير بعضهم ومنع بعضهم القول بالتخيير وصار

إلى التوقف او التقليد وزعم انه حكم الله تعالى عليه قطعا
قال القاضي والصحيح في ذلك عندنا ما صار اليه شيخنا وهو ان المجتهد يتخير في الاخذ بأي الاجتهادين شاء والدليل عليه بطلان التقليد على ما نوضحه فاذا بطل التقليد وقد اوضحنا بما قدمناه ان كل مجتهد مصيب وقد استوى في حقه الاجتهادان فلا سبيل الى الاخذ بما شاء الا بضيق الوقت فنزل الحكمان في حقه منزلة الكفارة في حق الحالف
فان قال قائل ففي المصير الى التخيير خرق الاجماع وذلك انه اذا نقل عن الصحابة قولان في المسألة فاجتهد فيهما المجتهد وتقاوم الاجتهادان في حقه فلو صار الى التخيير كان قولا ثالثا
والدليل عليه ان من صار الى ايجاب رقبة في حادثة مع من صار الى ايجاب الكسوة لا يوافقان من خير بينهما فان المخير يسلك مسلكا سوى مسلكهما فمن هذا الوجه لزم اختراع قول ثالث والذي يحقق ذلك ان التخيير من الاحكام المعدودة في مراتب احكام الشريعة ويتميز به بعض الكفارات عن بعض
قلنا هذا الذي ذكرتموه ينقلب عليكم على وجه لا تجدون عنه محيصا فانا نقول اذا تقابل الاجتهادان وتضيق الحكم ولم يجد المجتهد من يقلده فما قولكم في هذه الصورة فيضطرون الى القول بانه

يأخذ باحدهما ويلزمهم في هذه الصورة ما الزمونا
فان قالوا يتوقف فكيف يمكنهم ذلك وقد صور عليهم التضييق ومنع التخيير باجماع على ان للخصم ان يقول التوقف حكم ثالث
ثم نقول لسنا نقول ان التخيير يثبت حكما في حق المجتهد حتى يعتقد انه حكم ثالث ولكن ياخذ باحدهما فيوافق من شاء من المختلفين في العصر الماضي وهو كالمستفتي يتصدى له مفتيان متساويان في كل الاوصاف وفتواهما له مختلفتان فياخذ بفتوى احدهما ولا يكون ذلك تخييرا فوضح الانفصال عما الزمونا
فان قالوا اليس معولكم على غلبة الظن في كل ما قدمتموه فاذا تقابل الاجتهادان فقد خلت المسألة عن غلبة الظن
قلنا اذا تقابل الاجتهادان فتقابلهما امارة في اثار غلبة ظن التخيير وهذا واضح فافهمه وقد انقضى الكلام في تصويب المجتهدين

باب
في جواز التعبد بالقياس في حضرة الرسول عليه السلام
اختلف العلماء في ذلك فذهب ذاهبون الى منع التعبد بالقياس بحضرة الرسول صلى الله عليه و سلم
وذهب اخرون الى جواز ذلك عقلا وهو الذي نرتضيه لان الجائز يتميز عن المستحيل بانتفاء وجوه الاستحالة وجملة وجوه الاستحالة منتفية في جواز ورود التعبد بالقياس بحضرة الرسول عليه السلام ولو قدر مصرحا به لم يستحل بان يقول صاحب الشريعة اذا عنت لكم حادثة فانتم بالخيار فيها فان شئتم راجعتموني لاخبركم بحكم الله تعالى وجوبا او اجتهادا وان شئتم فاجتهدوا فغلبة ظنكم امارة حكم الله تعالى

عليكم فهذا لا يستحيل عقلا في صفة المتعبد تعالى وجل ولا في صفة التعبد ولا في صورة التعبد
فان قالوا من كان بحضرة الرسول صلى الله عليه و سلم فهو قادر على التوصل الى النص ولا يسوغ الاجتهاد مع القدرة على الوصول الى النص
قلنا هذا ايضا دعوة منكم على انا نقول ليس كلامنا فيما استقر فيه نص وانما كلامنا في حادثة لم يؤثر فيها عن الرسول صلى الله عليه و سلم جواب فهي قبل مراجعة الرسول صلى الله عليه و سلم خالية عن النص

فصل
فان قال قائل قد ذكرتم جواز التعبد بالقياس عقلا فهل ورد الشرع به
قال القاضي اما الذين غابوا عن مجلسه صلى الله عليه و سلم فقد صح تعبدهم بالقياس في اخبار تلقتها الامة بالقبول منها حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه حيث قال له الرسول صلى الله عليه و سلم بم تحكم قال بكتاب الله قال فان لم تجد قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فان لم تجد قال فاجتهد رأيي ولا آلو فقال عليه السلام الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما

يرضاه رسول الله رواه أبو داود
ونعلم ايضا ان الذين بعدوا عن مجلسه من ولاته ومستخلفيه على العساكر والبلاد كان يعن لهم من الحوادث ما لا نص فيه وكانوا لا يتوقفون في جميعها والرسول صلى الله عليه و سلم يعلم ذلك منهم فهذا في الغيبة عنه

اما الذين كانوا بحضرته فلم تقم حجة شرعية في تعبدهم بالقياس وان وردت لفظة شاذة او محتملة للتأويل

القول في جواز تعبد النبي صلى الله عليه و سلم بالاجتهاد فيما لا نص فيه
اختلف الناس في ذلك فذهب الذين احالوا التعبد بالقياس الى الجري على مقتضى اصلهم في استحالة التعبد بالقياس
فاما القائلون بالقياس فقد اختلفوا ايضا
فذهب بعضهم الى انه لا يجوز تعبد الرسول صلى الله عليه و سلم بالقياس والتحري والاجتهاد ومنعوا ذلك عقلا
وذهب اخرون الى جواز تعبده بالقياس والاجتهاد والحقوا ذلك بجائزات العقول وهذا الذي نختاره

والدليل عليه انه ليس فيه وجه من وجوه الاستحالة في المتعبد تعالى وجل ولا في التعبد ولا في المتعبد ولا يبعد ان يقول الرب تعالى لرسوله صلى الله عليه و سلم اذا وقعت حادثة فاجتهد فيه رأيك فما مال اليه رأيك فهو الحق وهذا واضح لمن تأمله
وتمسك من احال تعبده بالقياس بطرق منها
ان العمل بالقياس عمل بغالب الظن فلو تمسك به الرسول صلى الله عليه و سلم لكان يبلغ عن ربه شريعته بموجب غلبة الظن وذلك مستحيل في اوصاف الرسول صلى الله عليه و سلم
فنقول هذا الذي ذكرتموه باطل وذلك ان المجتهد عندنا يغلب على ظنه اولا ثم يقطع على الله سبحانه وتعالى بموجب غلبة الظن ونعلم

ان غلبة الظن امارة نصبها الله تعالى في موجبها وكذلك الرسول صلى الله عليه و سلم يقطع بما يحكم به وينزل ذلك منزلة ما لو قال الله تعالى لرسوله مهما ظننت اقبال فلان وقدومه فاقطع به فانك لا تظن الا حقا فهذا سائغ لا استحالة فيه
ومما تمسكوا به ان قالوا لو ساغ للرسول ان يجتهد لساغ لغيره ان يجتهد ايضا ثم يكون كل مجتهد مؤاخذ باجتهاده فيؤدي ذلك الى ان يخالف المجتهدون الرسول صلى الله عليه و سلم اذا اختلفت الاجتهادات وفي ذلك ابطال الاتباع والحط لمنزلة الرسول صلى الله عليه و سلم
والجواب عن هذا السؤال ان نقول لو رددنا الى موجب العقل لم يكن فيما قلتموه استحالة وكل مجتهد مؤاخذ باجتهاده وكان الرسول صلى الله عليه و سلم لا يدعو المجتهدين الى اتباعه فيؤدي ذلك الى مخالفة الاتباع فهذا في سبيل العقل ولكن قامت دلالة الاجماع على ان ما يقدم عليه الرسول صلى الله عليه و سلم في تبيين الشرع لا على سبيل الاختصاص به فيجب اتباعه فيه ولا يجوز الاستبداد بالحكم على خلاف ما يبينه فمنعنا بذلك ترك الاتباع واستقلال كل مجتهد بنفسه فكأن الرب تعالى يقول كل مجتهد مؤاخذ باجتهاده الا ما كان للنبي صلى الله عليه و سلم فيه اجتهاد فهو القدوة

ومما تمسكوا به ايضا ان قالوا لو جاز ان يجتهد النبي صلى الله عليه و سلم لجاز ان يخطىء مرة ويصيب اخرى وفي ذلك ابطال الثقة بما يقوله
قلنا هذه غفلة عظيمة منكم فانا لم نصور من احاد المجتهدين الخطأ على ما اوضحنا من اصلنا في تصويب المجتهدين احادا فكيف تظنون منا ذلك في اجتهاد الرسول صلى الله عليه و سلم على انا لو قدرنا جواز الخطأ من سائر المجتهدين فلا يجوز من الرسول صلى الله عليه و سلم فانه واجب العصمة فينزل في اجتهاده منزلة من لو اجتمع كافة الامة على ضرب من الاجتهاد اجماعا منهم فلا يسوغ خطأهم
وان قلنا ان المصيب واحد في المجتهدات فيتصور خطأ آحاد المجتهدين فبطل ما قالوا
ومما استدلوا به ايضا ان قالوا لو كان للرسول صلى الله عليه و سلم ان يجتهد لجاز لجبريل عليه السلام ان يجتهد ويخبر الرسول صلى الله عليه و سلم عن اجتهاده وهو يضيف الكل الى الوحي فيما يبلغه جبريل عليه السلام فيختلط الوحي بغيره وفيه لبس عظيم في الدليل
قلنا هذه ركيك من القول فإن جبريل عليه السلام اذا اجتهد اخبر

الرسول صلى الله عليه و سلم باجتهاده حتى لا ينقل الكل وحيا اذا علم ان الامر يلتبس فبطلت عصمتهم ووضح جواز تعبده بالقياس

فصل
في وقوع التعبد سمعا
فان قال قائل قد بينتم جواز تعبد الرسول صلى الله عليه و سلم بالاجتهاد عقلا فهل ثبت ذلك سمعا
قلنا قد اختلف العلماء في ذلك
فذهب ذاهبون الى انه ورد السمع بذلك
وذهب اخرون الى انه لم يرد به سمع
ونحن نذكر ما تمسك به كل فريق ونتكلم عليه إن شاء الله تعالى
فاما الذين نفوا ورود السمع به فقد استدلوا بأن قالوا
لو كان شرع للرسول صلى الله عليه و سلم الاجتهاد لكان لا يتوقف في كثير من الاحكام ينتظر فيها الوحي وكان يتشرع الى الاجتهاد حسب ما يجوز له
وهذا باطل فان للاخرين ان يقولوا انما كان يتوقف فيما لم يكن للاجتهاد فيه مساغ ولم يكن له اصل يرد اليه اعتبارا وقياسا اذ لم يكن قد استقر الشرع وتأسست قواعده على انه لا يبعد انه عليه السلام خير

بين الاجتهاد وبين انتظار الوحي فكان يجتهد مرة وينتظر الوحي اخرى
ومما استدلوا به ايضا ان قالوا لو كان النبي صلى الله عليه و سلم يتمسك بالاجتهاد لنقل ذلك نفلا مستفيضا قاطعا للريب كما نقل تمسكه بالوحي
وهذا ما لا معتصم فيه أيضا اذ ليس من شرط كل ما يؤثر عن الرسول صلى الله عليه و سلم يجب ان يستفيض بل منه ما ينقل آحادا ومنه ما ينقل استفاضة على انه كان لا يجب على الرسول صلى الله عليه و سلم ان يخبرهم بمصادر احكامه وقضاياه
وتمسك هؤلاء بالطرق التي قدمناها في استحالة تعبده بالاجتهاد عقلا وقد قدمنا الاجوبة عنها وهذا كلام هؤلاء
فأما الذين قالوا ان الشرع ورد بتعبده صلى الله عليه و سلم بالاجتهاد فقد استدلوا بما جرى من أمر أسارى بدر فان النبي صلى الله عليه و سلم فاداهم باجتهاده ورأيه ولم يقدم على ذلك عن قضية وحي ولهذا عاتبه الرب تعالى في قوله ما كان لنبي ان يكون له أسرى حتى يثخن في الارض اللآية وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أشار على النبي صلى الله عليه و سلم ان يقتلهم فقال صلى الله عليه و سلم عند

نزول الاية لقد كان العذاب اقرب الينا من هذه الشجرة ولو أنزل لما نجا منه الا عمر أخرج الحديث مسلم وقالوا فهذه الاية مع سبب نزولها دلالة واضحة على فاعترف على نفسه بالخطأ حكمه صلى الله عليه و سلم بالاجتهاد قال القاضي رضي الله عنه من زعم ان هذه الاية تدل على حكمه صلى الله عليه و سلم بالاجتهاد فقد افترى على الله تعالى بأعظم الفرية فان فيه تعرضا لتجويز الخطأ على الرسول صلى الله عليه و سلم مع تقديره عليه الناس على ضربين في تجويز الخطأ على الرسل عليهم السلام فمن جوزه منهم لم يجوز تقديره عليه
فان قيل بم تنكرون على من يزعم انه لم يقر على ما عوتب عليه

قلنا فعدم التقرير هو ان لا ينفذ ما أخطأ فيه وكان ينبغي ان يقتل الاسرى وينقض عهود المفاداة فوضح بذلك بطلان الاستدلال واستوى الفريقان في التأويل
فان قيل فما تأويل الاية بعد سقوط الاحتجاج
قيل اما الرسول صلى الله عليه و سلم فقد كان خير بين القتل والمن والمفاداة والاسترقاق كما أنبأ قوله تعالى فاما منا بعد واما فداء حتى تضع الحرب اوزارها عن بعض هذه الخلال ولكن خاض اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في تخيير بعض هذه الخلال حتى كأنه بلغ منهم او من بعضهم مبلغ قطع الرأي والتحكم فنقم الله تعالى ذلك عليهم بيد ان النبي صلى الله عليه و سلم ادخل نفسه معهم في موجب العتاب تكرما والاية تنبىء عن تنزهه وانه تعالى قال ما كان لنبي ان يكون له اسرى حتى يثخن في الارض فلما انجز حديثه خاطب الصحابة فقال تريدون عرض الدنيا ونحن نعلم ان الرسول صلى الله عليه و سلم لا يخاطب بذلك وقد عرضت عليه خزائن الارض فأباها
ومما استدلوا به في ورود التعبد بالاجتهاد انه صلى الله عليه و سلم قال في حكم الحرم

لا يعضد شجرها ولا يختلي خلاها فقال العباس الا الاذخر فانه لقبورنا وبيوتنا فقال صلى الله عليه و سلم على الفور الا الاذخر أخرجه البخاري ونحن نعلم انه ما قاله إلا اجتهادا
وهذا الذي ذكروه تحكم ايضا فلا يبعد انه قاله وحيا وكان معه في ذلك الوقت جبريل عليهما السلام أو ملك آخر يسدده فبطل معتصم الفريقين
والمحتار انه لم يرد في الشرع دلالة يقطع بها في نفي الاجتهاد ولا في اثباته فيتوقف فيه على مورد الشريعة

القول في تخريج الشافعي رحمه الله المسألة على قولين وذكر مراده فيه
اشتهر عن الشافعي رحمه الله ذكر القولين فصاعدا في الحادثة

الواحدة مع العلم باستحالة اجتماعهما في الصحة في حق المجتهد الواحد
وقد اعترض عليه في ذلك جعل وغيره من متأخري المعتزلة
ونحن نذكر ما عولوا عليه من وجوه الاعتراض ونتفصى عنها بذكر وجه تخريج المسألة على قولين
فمما اعترضوا به ان قالوا اذا جمع الجامع بين قولين احدهما التحريم والآخر التحليل وذكرهما جميعا ولم يرجح احدهما على الثاني وأضافهما الى نفسه في مثل الصفة التي يضيف بها جملة المذهب الى نفسه فلا يخلو حاله في ذلك اما ان يريد صحة القولين جميعا في حق المجتهد الواحد

فيكون ذلك تناقضا وتنافيا ومباهتة للضروريات والبديهة وان كان لا يعتقد ذلك فاطلاقه الكلام على وجه ينبىء عما قلناه ضرورة اذ ليس لاحد من العلماء ان يطلق من القول ما ظاهره الغلط وهو يريد به خلاف ظاهره وانما صح من صاحب الشريعة اطلاق ألفاظ محمولة على خلاف ظواهرها للعلم بوجوب حكمته وثبوت عصمته وتنزهه عن الزلل وهذه السابقة من محمل النازلين على التأويل فاما آحاد العلماء فكل واحد منهم بصدد الخطأ فاذا بدرت منهم لفظة ظاهرها الخطأ ولم تجب له العصمة حملت على الظاهر
وهذا الذي ذكروه ساقط من الكلام من أوجه
أحدها إنه لو ساغ ما قالوه لوجب سد باب التجوز والتوسع في الكلام على غير صاحب الشريعة حتى لا يجوز لاحد ان ينظر لمجازات اللغة ويتعين على الكافة النطق بحقيقة اللغة حتى ينتسب الناطق بالمجاز الى السفه والعته فلما لم يكن ذلك بطل ما قالوه

ثم نقول أليس ورد على صاحب الشريعة ألفاظ متأولة والمجوز لذلك على زعمكم ما سبق من العلم بعصمته
فان قالوا اجل قيل لهم فكيف يظن بالشافعي في مثل رتبته ان يحل الشيء ويحرمه معا ويعتقد ذلك اعتقادا ومن كمال العقل ان يعرف المرء تنافي المتنافيات وتناقضها فنعلم من الشافعي رحمه الله انه لم يسلك هذا المسلك وإنما سلك مسلكا غيره فينتصب ذلك قرينه مقارنه للظاهر نازلة منزلة الاستثناء المقارن للعموم وهذا بين لا خفاء فيه
فان قالوا فلو قال الشافعي رحمه الله ظلمت وتعديت أفتحمل ذلك على غير ظاهره
قلنا لا يضطرنا الى حمله على خلاف ظاهره شيء اذ يسوغ من الشافعي رحمه الله وممن هو أجل منه ان يظلم فأما ان يعتقد كون الشيء حلالا حراما فلا يتحقق ذلك منه اصلا
فان قالوا فقد ابدع الشافعي على الصحابة وخرق الاجماع في ذكر القولين فان الصحابة لما اختلفوا لم يذكر احد منهم في الصورة الواحدة قولين
قلنا الجواب عن ذلك من وجهين

احدهما انهم كما لم يذكروا قولين لم يمنعوا ذكر القولين فليس في كفهم عن ذكر الشيء ما يدل على منعهم اياه فسقط ما قالوه
ثم نقول كم ذكروا من وجوه الاحتمال في الحادثة الواحدة ولكن لم يصفوها بالاقوال كما ذكروا وجوه الاحتمال والاجتهاد ولم يسموه ربطا وتحريرا وفرعا واصلا ولم يذكروا من عبارات متناظري الزمان إلا القليل ولا يدل ذلك على خروج اهل الزمان عن اجماعهم
فان قالوا فما وجه تخريج الشافعي المسألة على قولين وما معناه
قلنا اختلف في ذلك أجوبة أصحابه ونحن نذكر ما ذكروه ثم نعول على الأصح منه ان شاء الله تعالى
فذهب بعضهم إلى أنه قصد بذكر القولين حكاية مذهبين من مذاهب العلماء وهذا غير سديد من وجهين
احدهما انه قد يجعل المسألة على قولين في صورة لا يؤثر فيها عن العلماء قول على التنصيص
والآخر انه يضيف القولين الى اجتهاده ولا يجري ذلك مجرى

حكاية المذاهب فإنه اذا حكى المذاهب فصيغة كلامه في الحكاية تتميز عند كل منصف عن صيغة ذكره القولين
وقال ابو اسحق المروزي انما ذكر القولين ليبين ان ما عداهما فاسد عنده وحصر الحق في قولين او ثلاثة على ما يذكره
وهذا الذي ذكره فيه نظر ايضا فإن الشافعي لا يقطع في المجتهدات بتخطئة غيره ومن تدبر اصوله عرف ذلك منها
والصحيح من ذلك أن نقول ما يؤثر فيه عن الشافعي قولان فهو على اقسام
فمنه القول الجديد والقول القديم فقد وضح من مقتضى كلامه انه بذكره الجديد رجع عن القديم فلا يجتمع له في امثال ذلك قولان
ومنه ان ينص على قولين في الجديد ولكنه يميل الى احدهما

ويختاره فهو مذهبه والاخر ليس بقول له وانما ذكره اولا توطئة للخلاف وتمهيدا له
ولو نص على قولين في الجديد ثم ذكر احدهما بعد ذلك وأضرب عن ذكر الثاني فما صار اليه المزني رحمه الله ان ذلك رجوع منه عن القول الثاني ولما قاله وجه وان كان انكره معظم الأصحاب

و أما اذا نص على قولين جميعا ولم يرجح احدهما بعد ذلك على الاخر ولم ينص على احدهما بعد نصه عليهما ونقل مثل ذلك حتى قال المحققون ان هذا الفن لا يكاد يبلغ عشرا
قال القاضي رضي الله عنه فالوجه عندي انه قال في مثل هذا الموضع بالتخيير وكان يقول بتصويب المجتهدين وهذا الذي قاله غير سديد فإن الصحيح من مذهب الشافعي ان المصيب واحد على ان فيما ذكره القاضي دخلا عظيما ونبين ذلك بان نمهد اصلا في التخيير فنقول
من قال بالتخيير على ما قدمنا القول فيه انما يمكنه القول بالتخيير في تقدير واجبين مثل ان يؤدي احد الاجتهادين الى ايجاب شيء ويؤدي الاجتهاد الثاني الى ايجاب غيره ولا يؤدي تقدير جمعهما على سبيل التخيير الى تناقض وينزل منزلة اركان كفارة اليمين فاذا تصورت المسألة بهذه الصورة ساغ المصير الى التخيير

واما اذا كان احد الاجتهادين يؤدي الى تحليل والثاني يؤدي الى تحريم فلا يتصور التخيير في القولين اذ من المستحيل التخيير بين التحليل والتحريم وهذا بين لكل متأمل وقد ذكره القاضي رحمه الله في خلال كلامه وكذلك لا يتصور التخيير بين محرمين فاذا وضح ذلك فقد اختلف قول الشافعي رحمه الله كثيرا في تحليل وتحريم فكيف يمكن حمل إختلاف قوله على القول بالتخيير
فالسديد اذا ان نقول في القسم الاخير الذي اتممنا الكلام به وهو ان ينص على قولين في الجديد ولا يختار احدهما ليس له في المسألة قول ولا مذهب وانما ذكر القولين ليتردد فيهما وعدم اختياره لاحدهما لا يكون ذلك خطأ منه بل علو رتبه الرجل وتوسعه في العلم وعلمه بطريق الاشباه ان يتفق له ذلك ويبعد ان يبتدىء الرجل مسائل الشرع ويختمها ولا يعن له مسألة الا ويغلب على ظنه في اول نظرة جواب واحد

فإن قال قائل فلا معنى لقولكم للشافعي قولان اذ ليس له على ما زعمتم في مثل هذه المسائل قول واحد ولا قولان
قلنا هكذا نقول ولا نتحاشى منه وانما وجه الإضافه الى الشافعي ذكره لهما واستقصاؤه وجوه الاشباه فيهما
فهذا اسد الطرق واوضحها وقد شعب القاضي رحمه الله كلامه في هذه المسألة والذي ذكرناه لبابة وتعلم ذلك اذا طالعت كتابه

-

كتاب التقليد
القول في حقيقة التقليد
احتلف ارباب الاصول في حقيقة التقليد فذهب قوم منهم الى ان التقليد هو قبول قول القائل ولا يدري من اين يقول ما يقول وهذا القول غير مرضي عندنا فان التقليد ينبىء عن الاتباع المتعري عن اصل الحجة فإذا لم يكن في تحديد التقليد ما ينبىء عن ذلك لم يكن الحد مرضيا اصلا وهذا القائل يقول اذا جوزنا للرسول صلى الله عليه و سلم الاجتهاد فقبول قوله تقليد له من حيث ان القائل لا يدري من اين قاله الرسول صلى الله عليه و سلم
وذهب بعضهم الى ان التقليد قبول قول القائل بلا حجة ومن

سلك هذه الطريقة منع ان يكون قبول قول النبي صلى الله عليه و سلم تقليدا فان حجة في نفسه وهذا اختلاف في عبارة يهون موقعها عند ذوي التحقيق غير ان الاولى في حد التقليد عندنا ان نقول التقليد هو اتباع من لم يقم باتباعه حجة ولم يستند الى علم فيندرج تحت هذا الحد الافعال والاقوال وقد خصص معظم المحققين كلامهم بالقول ولا معنى للاختصاص به فان الاتباع في الافعال المبنية كالاتباع في الاقوال
ويندرج تحت هذا الحد اصل في التقليد ذهل عنه معظم الاصوليين وذلك ان معظمهم مع الاختلاف في حد التقليد مجمعون على القول بأن العامي مقلد للمفتي بما يأخذ منه فأدرجوه تحت الحدين السابقين وقالوا ان قلنا ان التقليد قبول قول الغير بلا حجة فقد تحقق تحقق ذلك في المفتي فإن قوله في نفسه ليس بحجة وان حددنا التقليد

بأنه قبول قول القائل مع الجهل بمأخذه فهذا المعنى يتحقق في قول المفتي ايضا
قال القاضي والذي نختاره ان ذلك ليس بتقليد اصلا فإن قول العالم حجة في حق المستفتي اذا الرب تعالى وجل نصب قول العالم علما في حق العامي واوجب عليه العمل به كما اوجب على العالم العمل بموجب اجتهاده واجتهاده علم على علمه وقوله علم على المستفتي ويخرج لك من هذا الاصل انه لا يتصور على ما نرتضيه تقليد مباح في الشريعة لا في اصول الدين ولا في فروعه اذ التقليد هو الاتباع الذي لم يقم به حجة

ولو ساغ تسمية العامي مقلدا مع ان قول العالم في حقه واجب الاتباع جاز ان يسمى المتمسك بالنصوص والاجماع وادله العقول مقلدا وهذا واضح في مقصوده
ثم ان نذكر بعد ذلك منع التقليد في الاصول ثم في الفروع

القول في منع التقليد في الاصول
اعلم ان هذا الباب يرسم الكلام فيه في فن الكلام بيد ان نذكر ما يقع الاستقلال به
فلا يسوغ لأحد ان يعول في معرفة الله تعالى وفي معرفة ما يجب له من الاوصاف ويجوز عليه ويتقدس عنه على التقليد وكذلك القول في جملة قواعد العقائد بل

يجب على كل معترف ان يستدل في هذه

الاصول ولن يقع له العلوم فيها الا بتعقب للنظر الصحيح
وذهبت الحشوية الى القول بالتقليد في اصول الدين لما

اقعدهم عيهم عن مبالغ ذوي النظر ولم يغنهم تقاعصهم حتى ازروا على ذوي الحجاج السالكين اسد المناهج
وطرق الرد عليهم كثيرا والواحد منها يجزىء من تأمل فنقول

لهم معاشر المقلدين هل علمتم ان التقليد يفضى الى العلم أم لم تعلموا ذلك
فان قلتم أنا لم نعلمه وهي كلمة الحق ففي ضلال تعمهون وبه على انفسكم تعترفون
وان زعمتم انا نعلم افضاؤه الى الحق فلا يخلون اما ان تعلموا ذلك ضرورة وبديهة او لا تعلمون ذلك ضرورة وبديهة فان ادعيتم العلم الضروري سقطت مكالمتكم ووضحت مباهتتكم ولم تسلموا عن معارضتكم بدعوى الضرورة في صد مقالتكم

وان هم زعموا إنا نعلم افضاء التقليد الى طرق التسديد بالدلالة سئلوا عن اقامتها وهيهات وان خاضوا في ابتغائها وانتحائها فقد خاضوا في النظر من حيث لم يشعروا
وان زعموا أنا علمنا افضاء التقليد الى العلم بالتقليد سئلوا عن اقامة الدليل على التقليد الذي جعلوه اصلا للتقليد فيتسلسل عليهم القول ولا يجدون عنه مخرجا
فان قالوا انما علمنا افضاء التقليد الى العلم بما في الكتاب والسنة من الامر بالاتباع قيل لهم انى لكم التمسك بكتاب الله ولا يثبت كتاب الله تعالى الا بحجة فبم علمتم ان الذي اعتصمتم به كتاب الله تعالى فهذه ورطة لا مخلص لهم منها
ثم نقول لهم اذا قلدتم في اصول الدين واحدا منكم فلا شك انكم

لا توجبون لمن اتبعتموه العصمة وتجوزون عليه الزلل فما الذي حملكم على اتباعه وهذه حالة فان رجعتم الى مجرد القول فقد وسعتم مذاهب الدين واقل ما يلزمكم عليه كف النكير عن معتقدي البدع اذ قلدوا اسلافهم فان واحدا منكم لم يعول على حجاج
فان قالوا معنا السواد الاعظم وقد وصى الرسول صلى الله عليه و سلم باتباع السواد الاعظم
قلنا فلا جهل يزيد على ما اظهرتموه فانكم تنازعون في اثبات الرسل وتطالبون بما فيه عصمتهم وتستدلون فيه بقول الرسول صلى الله عليه و سلم ثم لا معول على السواد الاعظم في اصل الدين فان سواد الكفرة اعظم من سوادنا ولقد كان الرسول صلى الله عليه و سلم في صدر الاسلام في شرذمة قليلة العدد وليس المعنى باتباع السواد الاعظم الاتباع في اصول الدين فبطل ما قالوه من كل وجه ووضحت في اصول الدين غوايتهم وانشرحت في اصول العقائد عورتهم

ثم نقول لهم خبرونا هل في السموات والارضين حجة على ثبوت الصانع فان انكروا ذلك انتسبوا الى رد الكتاب وهو مفزعهم وان اثبتوا فيها حجة سئلوا عن وجهها فيضطرون الى الخوض في الحجاج والكلام عليهم طويل وهذا قليل من كثير
واعتصم اصحابنا بكل ظاهر في الكتاب والسنة يتضمن الامر بالاعتبار والاحتجاج ولهم جمل من الظواهر يهون الكلام عليها فرأينا الاضراب عن تمسكهم بها

القول في منع التقليد في الفروع
اعلم ان العلماء اختلفوا في جواز التقليد في الفروع والكلام في ذلك ينقسم الى اصلين
احدهما تقليد الصحابة والثاني تقليد من عداهم من العلماء فاما تقليد الصحابة فسنفرده بالكلام بعد ذلك ان شاء الله تعالى
فاما تقليد من سواهم فقد اختلف العلماء فيه

فذهب بعضهم الى انه يجوز للعالم اذا عنت له حادثة ان يقلد عالما غيره مع اقتداره ان يحمل الاسنة ثم الذين سوغوا التقليد على هذا الوجه اختلفوا في انه هل يجوز ان يقلد ليفتي بما قلد فيه فمنهم من جوز ذلك ومنهم من اباه
وذهب بعض العلماء الى انه لا يجوز للعالم ان يقلد عالما في مثل درجته ويجوز له ان يقلد من هو اعلم منه مع استوائهما في كون

كل واحد منهما مجتهدا والى ذلك مال محمد بن الحسن وابو حنيفة كان يجوز التقليد مطلقا
وذهب الشافعي ومعظم العلماء الى انه لا يجوز للعالم تقليد العالم من غير الصحابة ثم هؤلاء اختلفوا في صورة واحدة وهي ان العالم اذا انسدت عليه طرق الاجتهاد وتضيق عليه حكم الحادثة نحو الاجتهاد في القبلة مع تضيق وقت الصلاة فهل يسوغ له والحالة هذه ان يقلد عالما
فما ذهب اليه الشافعي منع التقليد في هذه الصورة ايضا واجاز المزني التقليد في هذه الصورة
قال القاضي رحمه الله والذي نختاره منع التقليد واذا قيل لنا فهل في الشرع تقليد مباح ابيناه وان الزمونا العامي المستفتي لم نجعله مقلدا على ما اوضحنا القول فيه في الباب السابق
ونحن نقدم على الخوض في الحجاج فصلا ذهل عنه معظم المتكلمين في هذا الباب فنقول لو رددنا الى جائزات العقول لكان اخذ العالم بقول عالم اخر من الجائزات لو قامت به حجة شرعية وليس من

المستحيلات فكان يجوز ان يقول الرب تعالى لكل عالم ان يأخذ بقول عالم مثله ويترك الاجتهاد ولو ثبت ذلك لم يكن ذلك تقليدا بل يصير قول العالم المفتي علما وامارة في حق العالم المستفتي ويكون متمسكا بما نصبه الله تعالى حجة له
ومعظم من خاض في هذا الباب بنى الادلة بناء يدل على منع التقليد عقلا ونحن نذكر ما ذكره مانعوا التقليد ونبين فساده ثم نذكر ما علينا المعول ان شاء الله تعالى
فمما عولوا عليه ان قالوا كل عالم بصدد الزلل فإذا لم تجب له العصمة لم تقم بقوله الحجة واذا كان المجتهد قادرا على التمسك بالحجاج والاجتهاد فذلك احرى له
وهذه دعوى مجردة فيقال لهم ان زعمتم ان من لا يجب له العصمة لا يجوز الرجوع الى قوله وهل تنازعون الا في هذا فلو قال الرب تعالى مهما صدر قول من عالم فقبلوه وان جوزتم خطأه فحكمي

عليكم موجب حكمه ولا عليكم لو اخطأ في نفسه كان ذلك غير مستحيل
والذي يوضح ذلك انا نرجع الى قول الرواة مع جواز زللهم ونرجع الى طرق الاعتبار في المجتهدات وان كنا لا نقطع بها ونرجع الى قول الشهود في الحكومات والخصومات مع انا لا نقطع بصدقهم فبطل التعويل على هذه الطريقة
ومما عولوا عليه ايضا ان قالوا اذا استوى العالمان في التمكن من الاجتهاد ينزلان في ذلك منزلة العامي والعالم في اصل الدين فانهما لما استويا في تصور الاستدلال والنظر من كل واحد منهما في اصل الدين لم يجز للعامي تقليد العالم فيما يقدر على الاجتهاد فيه وكذلك العالمان في الفروع
فيقال لهم هذا غير مستقيم فانا لو قدرنا ورود الشرع بتقليد العالم العالم في الفروع لم يستحل كما قدمناه في صدر الباب ولو قدرنا ورود الشرع بالتقليد في معرفة الله تعالى لكان مستحيلا فإن من شروط

ورود التكليف معرفة المكلف ولن يعلم من طريق التقليد ولو قال تعالى لا تستدلوا واعلموا لكان ذلك من قبيل تكليف المحال وهذا بين لكل من تأمله على ان الاجتهاد في الفروع انما هو تمسك بما لا يقطع به وليس كالاستدلال في الاصول وكل ما يوردونه يبطل تقريبه من الطرق التي ذكرناها
ومما يستدلون به ايضا ان قالوا لو جاز للعالم تقليد العالم لما افترق المتبع والمتبع والشرط ان يفارق التابع المتبوع اما في علم واما في عصمة وقد عدما جميعا في المتنازع فيه
فيقال لهم وهذه دعوى ايضا ثم نقول لم شرطتم اختلاف التابع والمتبوع في العصمة او العلم وعن هذا يسألون فيضعف كل ما يعتصمون به

وربما يستدلون بظواهر لا تقوم بها حجة وهي كثيرة والذي يجب التعويل عليه ان نقول لو جوزنا للعالم ان يقلد العالم لكان قوله في حقه علما منصوبا على الحكم الواجب عليه وينزل ذلك منزلة سائر الادلة المنصوبة في الشرعيات على ما اوضحناه فيما سبق فإذا كان كذلك فيستحيل اثباته دليلا عقلا فإن الادلة السمعية يدرك جواز كونها ادلة بالعقول فاما ان يدرك ثبوتها ادلة بالعقول فلا فانها لا تدل على مدلولالتها لانفسها وانما تدل بنصب صاحب الشريعة اياها ادلة
فاذا وضح ذلك قلنا قد قامت الادلة القاطعة على انتصاب المقاييس والعبر وغيرها من طرق الاجتهاد ادلة وبقي التقليد على النزاع وموارد الشرع التي تلتمس منها دلالات القطع مضبوطة منها نصوص الكتاب والسنن المستفيضة واجماع الامة وليس مع خصومنا نص كتاب ولا نص سنة مستفيضة ولا ينبغي الاجماع في موضع الخلاف ايضا فهذا مصادر الادلة الشرعية القطعية فاذا انسدت بطل كون قول العالم حجة في حق

عالم مثله فان قالوا اما الاجماع فلا ندعيه واما نصوص الكتاب فلم زعمتم انتفاؤها وهل هذا الا تمسك منكم بالدعوى وكذلك المطالبة بالسنن
قيل لهم هذا الان تعنت منكم وعناد فإنا قلنا ليس معكم نص كتاب لا يقبل التأويل في اثبات التقليد ولا يمكننا ان نتلو القرآن عليكم من اوله الى اخره ولكنا تأملنا ما فيه اعتصامكم من أي الكتاب فرأيناها لا تبلغ مبالغ النصوص ويعارضها ما هو اقوى منها في الاحتجاج وما قلناه في السنن يتحقق على هذا المنهج اذ ليس فيها نص ولو قدر كان سبيله الاحاد
وتتأكد هذه الدلالة بأصل نوضحه فنقول لا ينتصب النص دليلا وعلما في الشرعيات الا بدلالة قاطعة فإنه لو ثبت بما لا يقطع به لاحتاج الى اثبات يثبته ثم تسلسل القول فيه الا ما لا يتناهى فهذه هي الدلالةالسديدة وما عليها معترض

فان قالوا اكثر ما ادعيتموه انتفاء ورود الشرع بنصب قول العالم علما في حق العالم وعدم ورود الشرع لا يدل على تحريم التقليد فإن التحريم يفتقر الى دليل كما ان الاباحة تفتقر الى دليل فانتفاء دليل الاباحة لا يدل على التحريم
وهذا لعمري سؤال يجب الاعتناء بالجواب عنه فنقول اذا ثبت ان قول العالم لم ينتصب علما شرعا ولم يقم عليه الظن حجة ومثل ذلك لو قدر لكان سبيله الشرع فقد وضح وجوب الاجتهاد بالادلة القاطعة فلا سبيل الى ترك ما ثبت قطعا بما لم يثبت
ويتضح هذا بأن نقول اجمع المسلمون على ان من تصدى له طريقان شرعيان وصح طريق الشرع في احدهما وجوبا ولم يرد الشرع في الثاني لا نفيا ولا اثباتا فيجب التمسك بما وضح الشرع فيه وهذا اجماع فاذا ثبت لنا انتفاء الادلة السمعية فتثبت ملازمة الاجتهاد بطريق الاجماع وهذا واضح لا خفاء به
واوما القاضي رحمه الله الى الاستدلال بالظواهر المنصوبة على الامر بالاعتبار نحو قوله تعالى فاعتبروا يا اولى الابصار وقوله تعالى افلا يتدبرون القرآن الى غير ذلك من الظواهر الدالة على وجوب الاعتبار وهي سهلة المدرك اذا تتبعتها ومنها قوله تعالى واتبعوا

ما انزل اليكم من ربكم ولذلك شواهد من سنة الرسول صلى الله عليه و سلم ولكنها احاد
وكل ما ذكرناه دليلا في هذا الفصل فهو دليل في جملة فصول الباب ونرد به على من جوز الفتوى بالتقليد وعلى من جوز تقليد الاعلم فطريق الرد على جميعهم واحد غير مختلف

شبه المخالفين
فمما استدلوا به ان قالوا اذا جاز للعامي ان يقلد العالم لم يستبعد ذلك في العالم فانه في حال تقليده غير عالم بما قلده فيه كما ان العامي غير عالم بما يستفتي فيه
وهذا ساقط من الكلام اذ ذكرنا ان العامي لا يكون مقلدا في استفتائه ولكن ينزل قول العالم في حقه منزلة الادلة في حق المجتهدين وقد قامت دلالة الاجماع على انتصاب قول العالم علما عليه ولا دليل على كونه علما في حق العالم وليست هذه المسألة مما يتمسك فيها بالطرديات ونسلك في مفاتحة الكلام عليهم اذا تمسكوا بهذا الطرد ان نطالبهم باثبات علة الاصل ليتحقق بعد ذلك الجمع بين الفرع والاصل ولا سبيل لهم الى ذلك
وقد استدلوا بجملة من الظواهر اقربها قوله تعالى فاسألوا اهل

الذكر ان كنتم لا تعلمون وهذا المجتهد غير عالم بالحادثة التي وقعت اذ لم يتفق اجتهاده فيها فينبغي ان يسأل من يعلمها
فنقول هذا الذي ذكرتموه يخالف الظاهر واقوال المفسرين وذلك ان المعني بالاية توجه الامر بالسؤال على الذين لا يتمكنون من الاجتهاد ومجرى الاية ينبىء عن ذلك فأنه تعالى قسم السائل والمسؤول قسمين فوصف المسؤول بكونه من اهل الذكر ووصف السائل بأنه لا يعلم هذا الضرب من التقسيم تصريح بأن السائل من الذين لا يعدون من العلماء فلا يندرج تحته من وقعت له حادثة وهو قادر على درك الحكم فيها
والذي يوضح الحق في ذلك ان من جوز تقليد العالم لم يشترط ان

يكون المقلد قد سبق منه النظر والاجتهاد قبل استيفائه ليكون عالما عند الاستفتاء بل جوز ان يبتدأ المسؤول الاجتهاد بعد السؤال فيكون المسؤول اذا على قول المستدلين بظاهر الاية ممن لا يعلم وهذا واضح جدا في رد استدلالهم

فصل
اذا وقعت حادثة وفيها على المجتهد تكليف ولو اجتهد لفات ما كلف اذ الوقت مضيق ولو قلد عالما قد فرغ من الاجتهاد لتمكن من اقامة الفرض فهل له التقليد في هذه الصورة
اختلف اصحاب الشافعي رحمه الله فيه فذهب المزني الى جواز التقليد وذهب غيره الى منع التقليد
ومن منع التقليد استدل بأنه من المجتهدين وقد ثبت منع تقليد المجتهدين ولا يعتبر ذلك بضيق الوقت ولا سعته وانما يعتبر الاجتهاد على القول بمنع التقليد شرطا فيما يعلمه المجتهد من الحكم وما كان من

الشرائط فلا يختلف الحكم فيه بخشية الفوات والدليل عليه ستر العورة والطهارة وما عداها من شرائط الصلاة
قال القاضي رحمه الله والكلام في هذا الضرب لا يكاد يلحق القطع فإنا وان منعناه من التقليد فيتعين عليه اقامة الفرض من غير اجتهادعلى ما يتفق ولا يجعل الاجتهاد شرطا في اقامة فرض الوقت فإذا كان يصلي على الاتفاق عند التباس امارات القبلة فلا يبعد ان يصلي مقلدا والمسألة من الفروع فتدبرها
فهذا احد قسمي الكلام في التقليد فان ذكرنا في صدر الباب ان نتكلم في فصلين

احدهما تقليد العلماء بعضهم بعضا من غير الصحابة
والثاني تقليد الصحابة رضي الله عنهم وبقي علينا الكلام في تقليد الصحابة

القول في تقليد الصحابي
وهل ينتصب قوله حجة وذكر الاختلاف فيه
اختلف العلماء في قول الصحابي المجتهد فذهب الشافعي في القديم الى انه حجة يجب على المجتهدين من اهل سائر الاعصار التمسك به ثم قال لهم انما يكون حجة اذا لم تختلف الصحابة ولكن نقل قول واحد عن واحد ولم يظهر خلاف فيكون حينئذ حجة وان لم ينتشر
وقال في بعض اقواله اذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم فالتمسك بقول الخلفاء اولى وهذ كالدليل على انه لم يسقط الاحتجاج باقوال الصحابة لاجل الاختلاف
وقال في بعض اقواله القياس الجلي يقدم على قول الصحابي

وقال في موضع اخر ان قول الصحابي مقدم على القياس

واجمعوا ان قول الصحابي لا يكون حجة على الصحابي
والظاهر من المذاهب انهم اذا اختلفوا يسقط الاحتجاج باقوالهم فنبدأ بما تمسك به القائلون بان قول الصحابي حجة
فمما استدلوا به ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي
فنقول لهم انما عني بالسنة الامر فيها بلزوم الطاعة للخلفاء

والتحضيض على الانقياد والطاعة باقصى الجهد
فان زعموا ان الامر بالاقتداء عام فما ذكروه ساقط من وجهين
احدهما انا لا نقول بالعموم
والثاني ان الحديث غير منطو على صيغة عموم فإن السنة ليس فيها قضية عموم بل هي لفظة محتملة والدليل على ذلك انه صلى الله عليه و سلم لو كان يريد الاحتجاج بقول الصحابي على ما يعتقده المخالفون لما خصص الخلفاء بالذكر فلما اراد بما قاله الطاعة خصصه بالخلفاء
ومما استدلوا به ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال اصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم
فنقول لهم بما تنكرون على من يزعم انه اراد بذلك امر العوام في عصره بالاقتداء بالعلماء
فان قالوا ان اللفظة عامة قيل لهم ونحن لا نقول بالعموم على انكم خصصتم اللفظ في حق الصحابة بعضهم مع بعض والذي يوضح بطلان احتجاجهم ان اللفظة منبئة عن تخيير والدليل على ذلك انه صلى الله عليه و سلم قال بأيهم اقديتم اهتديتم

وهذا في الظاهر ينبىء عن اختلافهم في المسألة الواحدة ثم يخير المجتهد في الاخذ بقول ايهم شاء ولو اختلفوا لسقط الاحتجاج بقولهم عند مخالفينا فسقط استدلالهم من كل وجه
وربما يتمسكون بجمل من الظواهر يؤول مرجعها الى ما ذكرناه
وربما يتمسكون بطرق من المعنى فيقولون ان اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ورضي عنهم شاهدوا الوحي والتنزيل ومواقع الخطاب وشهدوا قرائن الاحوال فلا يصدر القول منهم مع ورود الشرع باحسان الظن بهم الا وهو الحق
وهذا الذي ذكروه لا طائل تحته فانهم مع ما ذكرناه بصدد الزلل لم يقم حجة قاطعة على الاستدلال بقولهم ولا يدل العقل على ذلك ايضا فلم يبقى فيما ذكروه معتصم
ودليلنا في هذه المسألة هو الذي قدمناه في المسألة الاولى في منع التقليد فأطردها على وجهها
وقد اعتبر بعض المعتبرين بما اذا اختلف الصحابة واعتبر بعضهم

ذلك بقول الصحابة بعضهم على بعض والاولى التعويل على النكتة التي قدمناها فإنك اذا قست على صورة الخلاف لم يسلم قياسك اذ يقول المخالف لا استبعاد في نصب قول الصحابي علما وحجة شرعا من غير اختلاف فإذا ظهر اختلافهم لم ينتصب حجة والجمع بينهما ضرب من الطرد والاحسن ان اردت التمسك بهذا الفصل ان تورده مستفصلا مستغرقا ولا يستدل به بدءا فقلما تستقيم للخصم طريق من الطرق وقد اطنب القاضي في كلام بعض مخالفينا على بعض ومن احكم ما قلناه هان عليه ما سواه

القول في صفة العالم الذي يسوغ له الفتوى في الاحكام
اجمعوا على انه لا يحل لمن شدا شيئا من العلم ان يفتي وانما

يحل له الفتي ويحل للغير قبول قوله في الفتوى اذا استجمع اوصافا
منها ان يكون عالما بطرق الادلة ووجوهها التي منها تدل والفرق بين عقليها وسمعيها ويكون عالما بقضايا الخطاب ما يحتمل منه وما لا يحتمل ووجوه الاحتمال والخصوص والعموم والمجمل والمفسر والصريح والفحوى والجملة الجامعة كما فرضه القاضي من هذا القبيل ان يكون عالما باصول الفقه وقد حددنا اصول الفقه بما يتميز به عن سائر الفنون
ومما يشترط في المجتهد ان يكون عالما بالآيات المتعلقة بالاحكام من كتاب الله تعالى ولا يشترط حفظ ما عداها من الآيات
ومما يشترط ان يحيط من سنن الرسول صلى الله عليه و سلم بما يتعلق بالاحكام حتى لا يشذ منها الا الاقل ولا نكلفه الاحاطة بجميعها فان ذلك مما لا ينضبط

ومما يشترط ان يكون ذا دراية في اللغة والعربية ولا يشترط ان يحيط بمعظمها وفاقا فان الاحاطة بمعظم اللغة والعربية يستوعب العمر وهذه رتبة لم يدعها أئمة اللغة والعربية وايضا فانما يشترط من اللغة والعربية قدر ما يتوصل به الى معرفة الكتاب والسنة ولا يجزىء ان ياخذ تفسير الايات والاخبار تقليدا بل يشترط ان يتدرب في اللغة والعربية بحيث يكون منها على ثقة وخبرة
ومما يشترط ان يكون عالما بمطاعن الاخبار المتعلقة بالاحكام ولا يشترط ان يجمع علم الحديث بل يجزىء ان يحيط علما بما قاله أئمة الحديث في الاخبار المتعلقة بالاحكام
ومما يشترط ان يحيط علما بمعظم مذاهب السلف فانه لو لم يحط بها لم يأمن من خرق الاجماع في الفتاوي

ثم يشترط بعد ذلك ان يكون ورعا في دينه
وقد ذكر القاضي في خلال كلامه ما يدل على ان التبحر في فن الكلام شرط في استجماع اوصاف المجتهدين
قلت ولست ارى ذلك شرطا اذا الأئمة في الاعصار الخالية ما زالوا يفتون في الحوادث وكانوا لا يشتغلون بطرق حجاج المتكلمين وقد اشار الاستاذ ابو اسحق الى قريب مما ذكره القاضي وما صار اليه الفقهاء قاطبة عدم اشتراط ذلك

القول في صفة المستفتي وما عليه من الاجتهاد
اجمع العلماء على ان العامي لا يجب عليه سبر طرق الادلة في

احاد المسائل فإنه لا يبلغ الى ذلك الا بأن يستجمع اوصاف المجتهدين ولو كلفنا الناس اجمع ان يبلغوا انفسهم رتبة المفتين لانقطعوا عن اسباب المعايش وافضى ذلك الى امتناع الطلب على الطلبة ايضا فاذا ثبت انه لا يجب عليهم الاجتهاد في احاد المسائل وانما فرضه الرجوع الى قول المفتي فهل عليه ان يجتهد في اعيان المفتين
ذهب بعض المعتزلة الى انه لا يجب عليه شيء من الاجتهاد وهذا اجتراء منهم على حرق الاجماع فان الامة مجمعة على ان من عنت له حادثة لم يسغ له ان يستفتي فيها كل من يلقاه

فلو نفينا وجوب الاجتهاد جملة افضى ذلك الى تجويز الاستفتاء من غير فحص وتنقير عن احوال المفتين وهذا تورط في مراغمة الاتفاق فاذا وضح بما قدمناه وجوب ضرب من الاجتهاد فمبلغه ان يسأل عن احوال العماء حتى اذا تقرر لديه بقول الاثبات والثقات ان الذي يستفتي منه بالغ مبلغ الاجتهاد فيستفتي حينئذ
ثم ردد القاضي جوابه فقال لو قال قائل اذا اخبره بذلك عدلان مهتديان الى ما يخبران عنه فله الاجتزاء باخبارهما كان ذلك محتملا ولو قال قائل انه لا يستفتي الا من استفاضة الاخبار عن بلوغه مبلغ الاجتهاد كان ذلك محتملا والى الجواب الاخير مال القاضي والمسألة على الاحتمال كما تراها

فصل
اذا لم يكن في البلدة التي فيها المستفتي الا عالم واحد فيقلده ولا يكلف الانتقال عنه
وان جمعت البلدة العلماء وكل منهم بالغ مبلغ الاجتهاد فقد ذهب الفقهاء الى ان الواجب عليه ان يقلد الاعلم منهم ولا يسوغ له تقليد من عداه وهذا غير صحيح والسديد أن له ان يقلد من شاء منهم والذي يحقق ذلك ان الذي ثبت في شرائط المفتي ما قدمناه فاذا اتصف المرء به ساغ تقليده ولم يثبت في اصول الشريعة رعاية ما يزيد على الشرائط الذي قدمناها
والذي يوضح الحق في ذلك ان الصحابة رضوان الله عليهم انقسموا الى الفاضل والمفضول وكان الصديق رضي الله عنه افضلهم في مذهب

اهل الحق ثم لم يكلفوا المستفتين ان لا يستفتوا غيره بل لم يجمعوا السائلين على احد تعيينا منهم وتخصيصا فوضح بذلك انه لا يتعين على المستفتي التعرض للاعلم
فلو قال قائل فجوزوا على ما ذكرتموه امامة المفضول
قلنا هذا خوض منكم في غير هذا الفن وقد اقمنا فيما نحن فيه اوضح دلالة فما وجه تمسككم بالامامة
وذهب بعض من لاحظ له في الاصول الى ان المستفتي يأخذ باثقل الاجوبة ويغلظ الامر على نفسه اذا تعارضت اجوبة العلماء اذ الحق ثقيل وهذا تحكم من هذا القائل لان الثقل ليس علامة للصحة فرب ثقيل باطل ورب سمح صحيح كيف وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم بعثت بالحنفية السمحاء

فإن قال قائل فلوا تعارض فتوتان في تحريم وتحليل فبم يأخذ المستفتي قلنا يأخذ بأسبقهما اليه فان بدرا من عالمين جميعا اخذ بأيهما شاء
نجز الكتاب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه والصلاة والسلام على سيد الامم ومصباح الظلم النور الباهر والمصباح الزاهر محمد خاتم الانبياء وعلى اله الطاهرين والسلام
وكتاب المجتهدين وذكر القول في اصول الفقه للامام ابي المعالي من كتاب التلخيص رحمه الله ونفع به قارئه والحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين