رسالة في تحقيق مسألة علم الله
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله

فصل في مسألة العلم
الناس المنتسبون إلى الإسلام في علم الله باعتبار تعلقه بالمستقبل على ثلاثة أقوال
أحدها أنه يعلم المستقبلات بعلم قديم لازم لذاته ولا يتجدد له عند وجود المعلومات نعت ولا صفة وإنما يتجدد مجرد التعلق بين العلم والمعلوم وهذا قول طائفة من الصفاتية من الكلابية والأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وهو قول طوائف من المعتزلة وغيرهم من نفاة الصفات لكن هؤلاء يقولون يعلم المستقبلات ويتجدد التعلق بين العالم والمعلوم لا بين العلم والمعلوم
وقد تنازع الأولون هل له علم واحد أو علوم متعددة على قولين والأول قول الأشعري وأكثر أصحابه والقاضي أبي يعلى وأتباعه ونحو هؤلاء والثاني قول أبي سهل الصعلوكي
والقول الثاني أنه لا يعلم المحدثات إلا بعد حدوثها وهذا أصل قول القدرية الذين يقولون لم يعلم أفعال العباد إلا بعد وجودها وأن الأمر أنف

لم يسبق القد ربشقاوة ولا سعادة وهم غلاة القدرية الذين حدثوا في زمان ابن عمر وتبرأ منهم وقد نص الأئمة كمالك والشافعي وأحمد على تكفير قائل هذه المقالة
لكن القدرية صرحوا بنفي العلم السابق والقدر الماضي في أفعال العباد المأمور بها والمنهي عنها وما يتعلق بذلك من الشقاوة والسعادة ثم منهم من اقتصر على نفي العلم بذلك خاصة وقال إنه قدر الحوادث وعلمها إلا هذا لأن الأمر والنهي مع هذا العلم يتناقض عنده بخلاف ما لا أمر فيه ولا نهي
ومنهم من قال ذلك في عموم المقدرات وقد حكى نحو هذا القول عن عمرو بن عبيد وأمثاله وقد قيل إنه رجع عن ذلك قبل إنكاره لأن كون تبت يدا أبي لهب وتب سورة المسد 1 و ذرني ومن خلقت

وحيدا سورة المدثر 11 ونحو ذلك في اللوح المحفوظ وأمثال ذلك
والقول الثالث أنه يعلمها قبل حدوثها ويعلمها بعلم آخر حين وجودها وهذا قد حكاه المتكلمون كأبي المعالي عن جهم فقالوا إنه ذهب إلى إثبات علوم حادثة لله تعالى وقال البارىء عالم لنفسه وقد كان في الأزل عالما بنفسه وبما سيكون فإذا خلق العالم وتجددت المعلومات أحدث لنفسه علوما بها يعلم المعلومات الحادثة ثم العلوم تتعاقب حسب تعاقب المعلومات في وقوعها متقدمة عليها أي العلوم متقدمة على الحوادث وذكروا أنه قال إنها في غير محل نظير ما قالت المعتزلة البصرية في الإرادة
وهذا القول وإن كان قد احتج عليه بما في القرآن من قوله ليعلم فتلك النصوص لا تدل على هذا القول
فإن هذا القول مضمونة تجدد علم قبل الحدوث والذي في القرآن إنما ذكروا دلالته على ما بعد الوجود وهذا قولان متغايران وإنما يحتج عليه بمثل قوله في حديث أبرص وأقرع وأعمى بدا لله أن يبتليهم وليس

هذا بداء يخالف العلم القديم كما قاله بعض غلاة الرافضة وكذلك أبو الحسين البصري قال بإثبات علوم متجددة في ذات الله بحسب تجدد المعلومات وكذلك أبو البركات صاحب المعتبر الإمام في الفلسفة

قال بتجدد علوم وإرادات له وذكر أن إلهيته لهذا العالم لا تصح إلا مع هذا القول وكذلك أبو عبدالله الرازي يميل إلى هذا القول في المطالب العالية وغيرها
وأما السمع والبصر والكلام فقد ذكر الحارث المحاسبي عن أهل السنة في تجدد ذلك عند وجود المسموع المرئي قولين
والقول بسمع وبصر قديم يتعلق بها عند وجودها قول ابن كلاب وأتباعه والأشعري والقول بتجدد الإدراك مع قدم الصفة قول طوائف كثيرة كالكرامية وطوائف سواهم والقول بثبوت الإدراك قبل حدوثها وبعد وجودها قول السالمية كأبي الحسن بن سالم وأبي طالب المكي

والطوائف الثلاثة تنتسب إلى أئمة السنة كالإمام أحمد وفي أصحابه من قال بالأول ومنهم من قال بالثاني والسالمية تنتسب إليه
وكذلك الإرادة والمشيئة فيها للصفاتية ثلاثة أقوال
أحدها أنها ليست إلا قديمة وهو قول ابن كلاب والأشعري وأتباعهما
الثاني أنها ليست إلا حادثة والفرق بين هذا وبين قول المعتزلة البصرية أن المعتزلة يقولون بحدوثها لا في محل لامتناع كونه محلا للحوادث عندهم وهؤلاء يقولون تقوم بذاته كما يقوم الكلام بذاته
والثالث أنها قديمة وحادثة وهو قول طوائف من الكرامية وأهل الحديث والصوفية وغيرهم وكذلك يقول هؤلاء إنه يوصف بأنه متكلم في الأزل وأنه يتكلم إذا شاء كما صرح بذلك الأئمة كالإمام أحمد وغيره
لكن في تحقيق ذلك نزاع بين المتأخرين فقيل القديم هو القدرة على الكلام كما قالت الكرامية وقيل بل القولان متضادان كما ذكر أبو بكر عبدالعزيز وعبدالله بن حامد عن أصحاب أحمد

فأما إثبات علمه وتقديره للحوادث قبل كونها ففي القرآن والحديث والآثار ما لا يكاد يحصر بل كل ما أخبر الله به قبل كونه فقد علمه قبل كونه وهو سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون وقد أخبر بذلك والنزاع في هذا مع غلاة القدرية ونحوهم
وأما المستقبل فمثل قوله وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه سورةالبقرة 242 وقوله أم حسبتم أن تدخلوا الجنة الآية سورة البقرة 214 آل عمران 142 وقوله أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم الآية سورة التوبة 16 وقوله فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين سورة العنكبوت 3 وقوله فليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين سورة العنكبوت 11 وقوله ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم سورة محمد 31
آخره والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم