كتاب : تحفة المودود بأحكام المولود
المؤلف : محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية

تحفة المودود
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين الحمد لله العلي العظيم الحليم الكريم الغفور الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين أظهر خلق الإنسان من سلالة من طين ثم جعله نطفة في قرار مكين ثم خلق النطفة علقة سوداء للناظرين ثم خلق العلقة مضغة وهي قطعة لحم بقدر أكلة الماضغين ثم خلق المضغة عظاما مختلفة المقادير والأشكال والمنافع أساسا يقوم عليه هذا البناء المبين ثم كسا العظام لحما هو لها كالثوب للابسين ثم أنشأه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين فسبحان من شملت قدرته كل مقدور وجرت مشيئته في خلقه بتصاريف الأمور وتفرد بملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور الشورى 49 وتبارك العلي العظيم الحليم الكريم السميع البصير العليم هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا اله إلا هو العزيز الحكيم آل عمران 3 وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له إلها جل عن المثيل والنظير وتعالى عن الشريك والظهير وتقدس عن شبه خلقه فليس كمثله شيء وهو السميع البصير وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمنيه على وحيه وحجته على عباده أرسله رحمة للعالمين وقدوة للعاملين ومحجة للسالكين وحجة على العباد أجمعين فهدى من الضلالة وعلم به من الجهالة وكثر به بعد القلة وأعز به بعد الذلة وأغنى به بعد العيلة وفتح برسالته أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة حتى وضحت شرائع الأحكام وظهرت شرائع الإسلام وعز حزب الرحمن وذل حزب الشيطان فأشرق وجه الدهر حسنا واصبح الظلام ضياء واهتدى كل حيران فصلى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله وعباده المؤمنون عليه كما وجه الله وعرف به ودعا إليه وعليه السلام ورحمة الله وبركاته أما بعد فان الله سبحانه نوع أحكامه على الإنسان من حين خروجه إلى هذه الدار إلى حين يستقر في دار القرار وقبل ذلك وهو في الظلمات الثلاث كانت أحكامه القدرية جارية عليه ومنتهية إليه فلما انفصل عن أمه تعلقت به أحكامه الأمرية وكان المخاطب بها الأبوين أو من يقوم مقامهما في تربيته والقيام عليه فلله سبحانه فيه أحكام قيمه بها ما دام تحت كفالته فهو المطالب بها دونه حتى إذا بلغ حد التكليف تعلقت به الأحكام وجرت عليه الأقلام وحكم له بأحكام أهل الكفر وأهل الإسلام وأخذ في التأهب لمنازل السعداء أو دار الأشقياء فتطوى به مراحل الأيام والليالي إلى الدار التي كتب من أهلها ويسر في مراحله تلك لأسبابها واستعمل بعملها فإذا انتهى به السير إلى آخر مرحلة أشرف منها على المسكن الذي عمر له قبل إيجاده إما منزل شقوته وإما منزل سعادته فهناك يضع عصا السفر عن عاتقه ويستقر نواه وتصير دار العدل مأواه أو دار السعادة مثواه
فصل
وهذا كتاب قصدنا فيه ذكر أحكام المولود المتعلقة به بعد ولادته ما دام صغيرا من عقيقته وأحكامها وحلق رأسه وتسميته وختانه وبوله وثقب أذنه وأحكام تربيته وأطواره من حين كونه نطفة إلى مستقره في الجنة أو النار فجاء كتابا نافعا في معناه مشتملا من الفوائد على ما لا يكاد يوجد بسواه من نكت بديعة من التفسير وأحاديث تدعو الحاجة إلى معرفتها وعللها والجمع بين مختلفها ومسائل فقهية لا يكاد الطالب يظفر بها وفوائد حكمية تشتد الحاجة إلى العلم بها فهو كتاب ممتع لقارئه معجب للناظر فيه يصلح للمعاش والمعاد ويحتاج إلى مضمونه كل من وهب له شيء من الأولاد ومن الله أستمد السداد وأسأله التوفيق لسبل الرشاد انه كريم جواد وسميته
تحفة المودود بأحكام المولود
والله سبحانه المسؤول أن يجعله خالصا لوجهه الكريم انه حسبنا ونعم الوكيل وجعلته سبعة عشر بابا 1 - الباب الأول في استحباب طلب الأولاد 2 - الباب الثاني في كراهة تسخط ما وهب الله له من البنات 3 - الباب الثالث في استحباب بشارة من ولد له ولد 4 - الباب الرابع في استحباب الأذان والإقامة في أذنه 5 - الباب الخامس في استحباب تحنيكه 6 - الباب السادس في العقيقة وأحكامها وذكر الاختلاف في وجوبها وحجة التابعين 7 - الباب السابع في حلق رأسه والتصدق بزنة شعره 8 - الباب الثامن في ذكر تسميته ووقتها ووجوبها 9 - الباب التاسع في ختان المولود وأحكامه 10 - الباب العاشر في ثقب أذن الذكر والأنثى وحكمه 11 - الباب الحادي عشر في حكم بول الغلام والجارية قبل أكلهما الطعام 12 - الباب الثاني عشر في حكم ريق الرضيع ولعابه وهل هو طاهر أو نجس لأنه لا يغسل فمه مع كثرة قيئه 13 - الباب الثالث عشر في جواز حمل الأطفال في الصلاة وان لم يعلم حال ثيابهم 14 - الباب الرابع عشر في استحباب تقبيل الأطفال والأهل 15 - الباب الخامس عشر في وجوب تأديب الأولاد وتعليمهم والعدل بينهم 16 - الباب السادس عشر في ذكر فصول نافعة في تربية الأطفال 17 - الباب السابع عشر في أطوار الطفل من حين كونه نطفة إلى وقت دخوله الجنة أو النار الباب
الأول
في استحباب طلب الولد
قال الله تعالى فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم البقرة 187 فروى شعبة عن الحكم عن مجاهد قال هو الولد وقاله الحكم وعكرمة والحسن البصري والسدي والضحاك وأرفع ما فيه ما رواه محمد بن سعد عن أبيه حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قال هو الولد وقال ابن زيد هو الجماع وقال قتادة ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم وعن ابن عباس رواية أخرى قال ليلة القدر والتحقيق أن يقال لما خفف الله عن الأمة بإباحة الجماع ليلة الصوم إلى طلوع الفجر وكان المجامع يغلب عليه حكم الشهوة وقضاء الوطر حتى لا يكاد يخطر بقلبه غير ذلك أرشدهم سبحانه إلى أن يطلبوا رضاه في مثل هذه اللذة ولا يباشروها بحكم مجرد الشهوة بل يبتغوا بها ما كتب الله لهم من الأجر والولد الذي يخرج من أصلابهم يعبد الله لا يشرك به شيئا ويبتغوا ما أباح الله لهم من الرخصة بحكم محبته لقبول رخصه فإن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته ومما كتب لهم ليلة القدر وأمروا أن يبتغوها لكن يبقى أن يقال فما تعلق ذلك بإباحة مباشرة أزواجهم فيقال فيه إرشاد إلى أن لا يشغلهم ما أبيح لهم من المباشرة عن طلب هذه الليلة التي هي خير من ألف شهر فكأنه سبحانه يقول اقضوا وطركم من نساءكم ليلة الصيام ولا يشغلكم ذلك عن ابتغاء ما كتب الله لكم من هذه الليلة التي فضلكم الله بها والله أعلم وعن انس قال كان رسول الله يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهيا شديدا ويقول تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة رواه الإمام أحمد وأبو حاتم في صحيحة وعن معقل بن يسار قال جاء رجل إلى النبي فقال إنى أصبت امرأة ذات حسن وجمال وإنها لا تلد أفأتزوجها قال لا ثم أتاه الثانية فنهاه ثم أتاه الثالثة فقال تزوجوا الولود فإني مكاثر بكم رواه أبو داود والنسائي وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال أنكحوا أمهات الأولاد فإني أباهي بكم يوم القيامة رواه الإمام أحمد وعن عائشة قالت قال رسول الله النكاح من سنتي ومن لم يعمل بسنتي فليس مني وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة وقد روى حماد بن سلمة عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي قال إن العبد لترفع له الدرجة فيقول أي رب أنى لي هذا فيقول باستغفار ولدك لك من بعدك
فصل
ومما يرغب في الولد ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي حسان قال توفي ابنان لي فقلت لأبي هريرة سمعت من رسول الله حديثا تحدثناه تطيب به أنفسنا عن موتانا قال نعم صغارهم دعاميص الجنة يتلقى أحدهم أباه أو قال أبويه فيأخذ بناحية ثوبه أو يده كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا فلا يتناهى حتى يدخله الله وأباه الجنة وقال أحمد حدثنا وكيع حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه أن رجلا كان يأتي النبي ومعه ابن له فقال له النبي أتحبه فقال يا رسول الله أحبك الله كما أحبه ففقده النبي فقال ما فعل ابن فلان قالوا يا رسول الله مات فقال النبي لأبيه أما تحب أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك عليه فقال رجل أله خاصة يا رسول الله أو لكلنا قال بل لكلكم قال أحمد وحدثنا عبد الله حدثنا عبد ربه بن بارق الحنفي حدثنا أبو زميل الحنفي قال سمعت ابن عباس يقول سمعت رسول الله يقول من كان له فرطان من أمتي دخل الجنة فقالت عائشة رصي الله عنها بأبي أنت وأمي فمن كان له فرط فقال ومن كان له فرط يا موفقة قالت فمن لم يكن له فرط في أمتك قال فأنا فرط أمتي لم يصابوا بمثلي وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال للنساء ما منكن امرأة يموت لها ثلاثة من الولد إلا كانوا لها حجابا من النار فقالت امرأة واثنان فقال واثنان وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة نحوه ورواه عن النبي ابن مسعود وأبو بزرة الأسلمي وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث فتمسه النار إلا تحلة القسم وفي صحيح البخاري من حديث أنس قال قال رسول الله ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال أتت امرأة بصبي لها فقالت يا نبي الله أدع الله له فلقد دفنت ثلاثة فقال دفنت ثلاثة قالت نعم قال لقد احتظرت بحظار شديد من النار فالولد انه إن عاش بعد أبويه نفعهما وان مات قبلهما نفعهما وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له فان قيل ما تقولون في قوله عز و جل وان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا النساء 3 قال الشافعي إن لا تكثر عيالكم فدل على أن قلة العيال أولى قيل قد قال الشافعي رحمه الله ذلك وخالفه جمهور المفسرين من السلف والخلف وقالوا معنى الآية ذلك أدنى أن لا تجوروا ولا تميلوا فانه يقال عال الرجل يعول عولا إذا مال وجار ومنه عول الفرائض لأن سهامها إذا زادت دخلها النقص ويقال عال يعيل عيلة إذا احتاج قال تعالى وان خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء الله التوبة 28 وقال الشاعر وما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغني متى يعيل أي متى يحتاج ويفتقر وأما كثرة العيال فليس من هذا ولا من هذا ولكنه من أفعل يقال أعال الرجل يعيل إذا كثر عياله مثل ألبن وأتمر إذا صار ذا لبن وتمر هذا قول أهل اللغة قال الواحدي في بسيطه ومعنى تعولوا تميلوا وتجوروا عن جميع أهل التفسير واللغة وروي ذلك مرفوعا روت عائشة رضي الله عنها عن النبي في قوله ذلك أن لا تعولوا قال أن لا تجوروا وروي أن لا تميلوا قال وهذا قول ابن عباس والحسن وقتادة والربيع والسدي وأبي مالك وعكرمة والفراء والزجاج وابن قتيبة وابن الأنبا ري قلت ويدل على تعين هذا المعنى من الآية وان كان ما ذكره الشافعي رحمه الله لغة حكاها الفراء عن الكسائي أنه قال ومن الصحابة من يقول عال يعول إذا كثر عياله قال الكسائي وهو لغة فصيحة سمعتها من العرب لكن يتعين الأول لوجوه أحدها أنه المعروف في اللغة الذي لا يكاد يعرف سواه ولا يعرف عال يعول إذا كثر عياله إلا في حكاية الكسائي وسائر أهل اللغة على خلافه الثاني أن هذا مروي عن النبي ولو كان من الغرائب فانه يصلح للترجيح الثالث أنه مروي عن عائشة وابن عباس ولم يعلم لهما مخالف من المفسرين وقد قال الحاكم أبو عبد الله تفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع الرابع أن الأدلة التي ذكرناها على استحباب تزوج الولود وأخبار النبي أنه يكاثر بأمته الأمم يوم القيامة يرد هذا التفسير الخامس أن سياق الآية إنما هو في نقلهم مما يخافون الظلم والجور فيه إلى غيره فإنه قال في أولها وان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع النساء 4 فدلهم سبحانه على ما يتخلصون به من ظلم اليتامى وهو نكاح ما طاب لهم من النساء البوالغ وأباح لهم منه ثم دلهم على ما يتخلصون به من الجور والظلم في عدم التسوية بينهن فقال فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم النساء 4 ثم أخبر سبحانه أن الواحدة وملك اليمين أدنى إلى عدم الميل والجور وهذا صريح في المقصود السادس أنه لا يلتئم قوله فان خفتم ألا تعدلوا في الأربع فانكحوا واحدة أو تسروا ما شئتم بملك اليمين فان ذلك أقرب إلى أن لا تكثر عيالكم بل هذا أجنبي من الأول فتأمله السابع أنه من الممتنع أن يقال لهم إن خفتم أن ألا تعدلوا بين الأربع فلكم أن تتسروا بمائة سرية وأكثر فانه أدنى أن لا تكثر عيالكم الثامن أن قوله ذلك أدنى ألا تعولوا تعليل لكل واحد من الحكمين المتقدمين وهما نقلهم من نكاح اليتامى إلى نكاح النساء البوالغ ومن نكاح الأربع إلى نكاح الواحدة أو ملك اليمين ولا يليق تعليل ذلك بعلة العيال التاسع أنه سبحانه قال فان خفتم ألا تعدلوا ولم يقل وان خفتم أنا تفتقروا أو تحتاجوا ولو كان المراد قلة العيال لكان الأنسب أن يقول ذلك العاشر أنه سبحانه إذا ذكر حكما منهيا عنه وعلل النهي بعلة أو أباح شيئا وعلل عدمه بعلة فلا بد أن تكون العلة مصادفة لضد الحكم المعلل وقد علل سبحانه إباحة نكاح غير اليتامى والاقتصار على الواحدة أو ما ملك اليمين بأنه أقرب إلى عدم الجور ومعلوم أن كثرة العيال لا تضاد عدم الحكم المعلل فلا يحسن التعليل به
الباب الثاني
في كراهة تسخط البنات
قال الله تعالى لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما انه عليم قدير الشورى 49 50 فقسم سبحانه حال الزوجين إلى أربعة أقسام اشتمل عليها الوجود وأخبر أن ما قدره بينهما من الولد فقد وهبهما إياه وكفى بالعبد تعرضا لمقته أن يتسخط ما وهبه وبدأ سبحانه بذكر الإناث فقيل جبرا لهن لأجل استثقال الوالدين لمكانهن وقيل وهو أحسن إنما قدمهن لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء لا ما يشاء الأبوان فان الأبوين لا يريدان إلا الذكور غالبا وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء فبدأ بذكر الصنف الذي يشاء ولا يريده الأبوان وعندي وجه آخر وهو أنه سبحانه قدم ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدوهن أي هذا النوع المؤخر عندكم مقدم عندي في الذكر وتأمل كيف نكر سبحانه الإناث وعرف الذكور فجبر نقص الأنوثة بالتقديم وجبر نقص التأخير بالتعريف فإن التعريف تنويه كأنه قال ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم ثم لما ذكر الصنفين معا قدم الذكور إعطاء لكل من الجنسين حقه من التقديم والتأخير والله أعلم بما أراد من ذلك والمقصود أن التسخط بالإناث من أخلاق الجاهلية الذين ذمهم الله تعالى في قوله وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون النحل 58 59 وقال وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم الزخرف 17 ومن هاهنا عبر بعض المعبرين لرجل قال له رأيت كأن وجهي أسود فقال ألك امرأة حامل قال نعم قال تلد لك أنثى وفي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو هكذا وضم إصبعيه وروى عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت جاءت امرأة ومعها ابنتان لها تسألني فلم تجد عندي شيئا غير تمرة واحدة فأعطيتها إياها فأخذتها فشقتها بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئا ثم قامت فخرجت هي وابنتاها فدخل رسول الله على تفيئة ذلك فحدثته حديثها فقال رسول الله من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار رواه ابن المبارك عن معمر عن الزهري عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن عروة وهو في الصحيح والحديث في مسند أحمد وفيه أيضا من حديث أيوب بن بشير الأنصاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله لا يكون لأحد ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان فيتقي الله فيهن ويحسن إليهن إلا دخل الجنة ورواه الحميدي عن سفيان عن سهيل بن أبي صالح عن أيوب بن بشير عن سعيد الأعشى عن أبي سعيد عن النبي من كان له ثلاث بنات أو أخوات أو بنتان أو أختان فأحسن صحبتهن وصبر عليهن واتقى الله فيهن دخل الجنة وقال محمد بن عبد الله الأنصاري عن ابن جريج حدثني أبو الزبير عن عمر بن نبهان عن أبي هريرة أن رسول الله قال من كان له ثلاث بنات فصبر على لأوائهن وعلى ضرائهن دخل الجنة وفي رواية فقال رجل يا رسول الله واثنتين قال واثنتين قال يا رسول الله وواحدة قال وواحدة وقال البيهقي حدثنا أحمد بن الحسن حدثنا الأصم حدثنا الحسن بن مكرم حدثنا عثمان بن عمر أنبأ النهاس عن شداد أبي عمار عن عوف بن مالك أن رسول الله قال من كان له ثلاث بنات ينفق عليهن حتى بين أو يمتن كن له حجابا من النار وقال علي بن المديني حدثنا يزيد بن زريع حدثنا النهاس بن قهم حدثنا شداد أبو عمار عن عوف بن مالك الأشجعي قال قال رسول الله ما من عبد يكون له ثلاث بنات فينفق عليهن حتى يبن أو يمتن إلا كن له حجابا من النار فقالت امرأة يا رسول الله وابنتان قال وابنتان قال وقال أبو عمار عن عوف بن مالك قال قال رسول الله أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين في الجنة وروى فطر بن خليفة عن شرحبيل بن سعد عن ابن عباس قال قال رسول الله ما من مسلم يكون له ابنتان فيحسن إليهما ما صحبهما وصحبتاه إلا أدخلتاه الجنة وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ابن المنكدر أن النبي قال من كان له ثلاث بنات أو أخوات فكفهن وآواهن وزوجهن دخل الجنة قالوا وابنتان قال وابنتان حتى ظننا أنهم لو قالوا أو واحدة قال أو واحدة هذا مرسل وقال عبد الله بن المبارك عن حرملة بن عمران قال سمعت أبا عشانة قال سمعت عقبة بن عامر الجهني يقول سمعت رسول الله يقول من كانت له ثلاث بنات فصبر عليهن فأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته كن له حجابا من النار رواه الإمام أحمد في مسنده وقد قال تعالى في حق النساء فان كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا النساء 19 وهكذا البنات أيضا قد يكون للعبد فيهن خير في الدنيا والآخرة ويكفي في قبح كراهتهن أن يكره ما رضيه الله وأعطاه عبده وقال صالح بن أحمد كان أبي إذا ولد له ابنة يقول الأنبياء كانوا آباء بنات ويقول قد جاء في البنات ما قد علمت وقال يعقوب بن بختان ولد لي سبع بنات فكنت كلما ولد لي ابنة دخلت على أحمد بن حنبل فيقول لي يا أبا يوسف الأنبياء آباء بنات فكان يذهب قوله همي
الباب الثالث
في استحباب بشارة من ولد له ولد وتهنئته
قال الله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم أوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشر ناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب إلى قوله فلما ذهب عن إبراهيم الروع جاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط هود 69 74 وقال تعالى في سورة الصافات فبشرناه بغلام حليم الصافات 101 وقال في الذاريات وبشروه بغلام عليم الذاريات 28 وقال في سورة الحجر ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون الحجر 57 - 52 وقال تعالى يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا مريم 7 وقال فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا آل عمران 39 ولما كانت البشارة تسر العبد وتفرحه استحب للمسلم أن يبادر إلى مسرة أخيه وإعلامه بما يفرحه0 ولما ولد النبي بشرت به ثويبة عمه أبا لهب وكان مولاها وقالت قد ولد الليلة لعبد الله ابن فأعتقها أبو لهب سرورا به فلم يضيع الله ذلك له وسقاه بعد موته في النقرة التي في أصل إبهامه فان فاتته البشارة استحب له تهنئته والفرق بينهما إن البشارة إعلام له بما يسره والتهنئة دعاء له بالخير فيه بعد أن علم به ولهذا لما أنزل الله توبة كعب بن مالك وصاحبيه ذهب إليه البشير فبشره فلما دخل المسجد جاء الناس فهنؤوه وكانت الجاهلية يقولون في تهنئتهم بالنكاح بالرفاء والبنين والرفاء الالتحام والاتفاق أي تزوجت زواجا يحصل به الاتفاق والالتحام بينكما والبنون فيهنؤون بالبنين سلفا وتعجيلا ولا ينبغي للرجل أن يهنىء بالابن ولا يهنىء بالبنت بل يهنىء بهما أو يترك التهنئه ليتخلص من سنة الجاهلية فان كثيرا منهم كانوا يهنئون بالابن وبوفاة البنت دون ولادتها وقال أبو بكر بن المنذر في الأوسط روينا عن الحسن البصري أن رجلا جاء إليه وعنده رجل قد ولد له غلام فقال له يهنك الفارس فقال له الحسن ما يدريك فارس هو أو حمار قال فكيف نقول قال قل بورك لك في الموهوب وشكرت الواهب وبلغ رشده ورزقت بره والله اعلم
الباب الرابع
في استحباب التأذين في أذنه اليمنى والإقامة في أذنه اليسرى
وفي هذا الباب أحاديث أحدها ما رواه أبو عبد الله الحاكم حدثنا أبو جعفر محمد بن دحيم حدثنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة حدثنا عبيد الله بن موسى أنا سفيان بن سعيد الثوري عن عاصم بن عبيد الله أخبرني عبيد الله بن أبي رافع عن أبي رافع قال رأيت رسول الله أذن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة رواه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح الثاني ما رواه البيهقي في الشعب من حديث الحسن بن علي عن النبي قال من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى رفعت عنه أم الصبيان والثالث ما رواه أيضا من حديث أبي سعيد عن ابن عباس أن النبي أذن في أذن الحسن بن علي يوم ولد وأقام في أذنه اليسرى قال وفي إسنادهما ضعف وسر التأذين والله أعلم أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها وغير مستنكر وصول أثر التأذين إلى قلبه وتأثيره به وان لم يشعر مع ما في ذلك من فائدة أخرى وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان وهو كان يرصده حتى يولد فيقارنه للمحنة التي قدرها الله و شاءها فيسمع شيطانه ما يضعفه ويغيظه أول أوقات تعلقه به وفيه معنى آخر وهو أن تكون دعوته إلى الله وإلى دينه الإسلام وإلى عبادته سابقة على دعوة الشيطان كما كانت فطرة الله التي فطر عليها سابقة على تغيير الشيطان لها ونقله عنها ولغير ذلك من الحكم
الباب الخامس
في استحباب تحنيكه
وفي الصحيحين من حديث أبي بردة عن أبي موسى قال ولد لي غلام فأتيت به إلى النبي فسماه إبراهيم وحنكه بتمرة زاد البخاري ودعا له بالبركة ودفعه ألي وكان اكبر ولد أبي موسى وفي الصحيحين من حديث انس بن مالك قال كان ابن لأبي طلحة يشتكي فخرج أبو طلحة فقبض الصبي فلما رجع أبو طلحة قال ما فعل الصبي قالت أم سليم هو أسكن مما كان فقربت إليه العشاء فتعشى ثم أصاب منها فلما فرغ قالت واروا الصبي فلما أصبح أبو طلحة أتى رسول الله فأخبره فقال أعرستم الليلة قال نعم قال اللهم بارك لهما فولدت غلاما فقال لي أبو طلحة احمله حتى تأتي به النبي وبعثت به بتمرات فأخذه النبي فقال أمعه شيء قالوا نعم تمرات فأخذها النبي فمضغها ثم أخذها من فيه فجعلها في في الصبي ثم حنكه وسماه عبد الله وروى أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أسماء أنها حملت بعبد الله ابن الزبير بمكة قال فخرجت وأنا متم فأتيت المدينة فنزلت بقباء فولدته بقباء ثم أتيت رسول الله فوضعته في حجره فدعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله قالت ثم حنكه بالتمرة ثم دعا له وبرك عليه وكان أول مولود ولد في الإسلام للمهاجرين بالمدينة قالت ففرحوا به فرحا شديدا وذلك انهم قيل لهم إن اليهود قد سحرتكم فلا يولد لكم وقال الخلال أخبرني محمد بن علي قال سمعت أم ولد أحمد بن حنبل تقول لما أخذ بي الطلق كان مولاي نائما فقلت له يا مولاي هو ذا أموت فقال يفرج الله فما هو إلا أن قال يفرج الله حتى ولدت سعيدا فلما ولدته قال هاتوا ذلك التمر لتمر كان عندنا من تمر مكة فقلت لأم علي إمضغي هذا التمر وحنكيه ففعلت والله أعلم
الباب السادس
في العقيقة وأحكامها وفيه اثنان وعشرون فصلا
1 - الفصل الأول في بيان مشروعيتها 2 - الفصل الثاني قي ذكر حجة من ذكرها 3 - الفصل الثالث في أدلة الاستحباب 4 - الفصل الرابع في الجواب عما أحتجوا به 5 - الفصل الخامس في اشتقاق اسمها ومن أي شيء أخذ 6 - الفصل السادس هل تكره تسميتها عقيقة أم لا 7 - الفصل السابع في ذكر الخلاف في وجوبها واستحبابها وحجج الفريقين 8 - الفصل الثامن في الوقت الذي تستحب فيه العقيقة 9 - الفصل التاسع في أنها افضل من الصدقة 10 - الفصل العاشر في تفاضل الذكر والأنثى فيها 11 - الفصل الحادي عشر في ذكر الغرض من العقيقة وحكمها وفوائدها واحياء سنة رسول الله 12 - الفصل الثاني عشر في أن طبخ لحمها أفضل من التصدق به نيئا 13 - الفصل الثالث عشر في كراهة كسر عظمها 14 - الفصل الرابع عشر في السن المجزىء فيها 15 - الفصل الخامس عشر في أنه لا يجزىء عن الرأس إلا الرأس و لا يصح اشتراك السبعة فيها في البدنه والبقرة 16 - الفصل السادس عشر هل تجزىء العقيقة بغير النعم من الابل والبقر 17 - الفصل السابع عشر في بيان مصرفها وما يتصدق به منها ويهديه واستحباب الهدية منها للقابلة 18 - الفصل الثامن عشر في حكم اجتماع العقيقة والأضحية وهل يجزىء أحدهما عن الآخر أم لا 19 - الفصل التاسع عشر في حكم من لم يعق عنه أبواه هل يعق عن نفسه إذا بلغ 20 - الفصل العشرون في حكم جلدها وسواقطها هل يجوز بيعه أم حكمه حكم الأضحية 21 - الفصل الحادي والعشرون فيما يقال عن ذبح العقيقة 22 - الفصل الثاني والعشرون في حكمة اختصاصها باليوم السابع والرابع عشر والحادي والعشرين الفصل الأول - في بيان مشروعيتها قال مالك هذا الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا وقال يحيى بن سعيد الأنصاري أدركت الناس وما يدعون العقيقة عن الغلام والجارية قال ابن المنذر وذلك أمر معمول به بالحجاز قديما وحديثا يستعمله العلماء وذكر مالك أنه الأمر الذي لا اختلاف فيه عندهم قال وممن كان يرى العقيقة عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعائشة أم المؤمنين وروينا ذلك عن فاطمة بنت رسول الله وعن بريدة الأسلمي والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح والزهري وأبي الزناد وبه قال مالك وأهل المدينة والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وجماعة يكثر عددهم من أهل العلم متبعين في ذلك سنة رسول الله وإذا ثبتت السنة وجب القول بها ولم يضرها من عدل عنها قال وأنكر أصحاب الرأي أن تكون العقيقة سنة وخالفوا في ذلك الأخبار الكائنة عن رسول الله وعن أصحابه وعمن روي عنه ذلك من التابعين انتهى الفصل الثاني - في ذكر حجج من كرهها قالوا روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله سئل عن العقيقة فقال لا أحب العقوق قالوا ولأنها من فعل أهل الكتاب كما قال النبي إن اليهود تعق عن الغلام ولا تعق عن الجارية ذكره البيهقي قالوا وهي من الذبائح التي كانت الجاهلية تفعلها فأبطلها الإسلام كالعتيرة والفرع قالوا وقد روى الإمام أحمد من حديث أبي رافع رضي الله عنه أن الحسن بن علي لما ولد أرادت أمه فاطمة أن تعق عنه بكبشين فقال رسول الله لا تعقي ولكن احلقي شعر رأسه فتصدقي بوزنه من الورق ثم ولد حسين بعد ذلك فصنعت مثل ذلك
الفصل الثالث - في أدلة الاستحباب
فأما أهل الحديث قاطبة وفقهاؤهم وجمهور أهل العلم فقالوا هي من سنة رسول الله واحتجوا على ذلك بما رواه البخاري في صحيحه عن سلمان بن عمار الضبي قال قال رسول الله مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى وعن سمرة قال قال رسول الله كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه ويحلق رأسه رواه أهل السنن كلهم وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وعن عائشة قالت قال رسول الله عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة رواه الإمام أحمد والترمذي وقال حديث صحيح وفي لفظ أمرنا رسول الله أن نعق عن الجارية شاة وعن الغلام شاتين رواه الإمام أحمد في مسنده وعن أم كرز الكعبية أنها سألت الرسول عن العقيقة فقال عن الغلام شاتان وعن الأنثى واحدة ولا يضركم ذكرانا كن أو إناثا رواه أحمد والترمذي وقال هذا حديث صحيح وقال الضحاك بن مخلد أنبأ أبو حفص سالم بن تميم عن أبيه عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي قال إن اليهود تعق عن الغلام ولا تعق عن الجارية فعقوا عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة ذكره البيهقي وعن ابن عباس أن رسول الله عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا رواه أبو داود والنسائي ولفظ النسائي بكبشين كبشين وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول أمر بتسمية المولود يوم سابعه ووضع الأذى عنه والعق قال الترمذي هذا حديث حسن غريب وعن بريدة الأسلمي قال كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران رواه أبو داود وروى ابن المنكدر من حديث يحيى بن يحيى أنبأنا هشيم عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه أن أبا بكرة ولد له ابنه عبد الرحمن وكان أول مولود ولد بالبصرة فنحر عنه جزورا فأطعم أهل البصرة وأنكر بعضهم ذلك وقال أمر رسول الله بشاتين عن الغلام وعن الجارية بشاة وعن الحسن عن سمرة أن النبي قال في العقيقة كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويدمى قال أبو داود فكان قتادة إذا سئل عن الدم كيف يصنع به قال إذا ذبحت العقيقة أخذت منها صوفة واستقبلت بها أوداجها ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخيط ثم يغسل رأسه ويحلق قال أبو داود وهذا وهم من همام بن يحيى يعني ويدمى ثم ساقه من طريق أخرى قال كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى قال أبو داود ويسمى أصح وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وقال الترمذي حديث حسن صحيح وهذا الحديث قد سمعه الحسن من سمرة فذكره البخاري في صحيحه عن حبيب بن الشهيد قال قال لي ابن سيرين سئل الحسن ممن سمع حديث العقيقة فسألته فقال من سمرة بن جندب وقد ذكر البيهقي عن سلمان بن شرحبيل حدثنا يحيى بن حمزة قال قلت لعطاء الخرساني ما مرتهن بعقيقته قال يحرم شفاعة ولده وقال اسحق بن هانيء سألت أبا عبد الله عن حديث النبي الغلام مرتهن بعقيقته ما معناه قال نعم سنة النبي أن يعق عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة فإذا لم يعق عنه فهو محتبس بعقيقته حتى يعق عنه وقال الأثرم قال أبو عبد الله ما في هذه الأحاديث أوكد من هذا يعني في العقيقة كل غلام مرتهن بعقيقته وقال يعقوب بن بختان سئل أبو عبد الله عن العقيقة فقال ما أعلم فيه شيئا أشد من هذا الحديث الغلام مرتهن بعقيقته وقال حنبل قال أبو عبد الله ولا أحب لمن أمكنه وقدر أن لا يعق عن ولده ولا يدعه لأن النبي قال الغلام مرتهن بعقيقته وهو أشد ما روي فيه وإنما كره النبي من ذلك الاسم وأما الذبح فالنبي قد فعل ذلك وقال أحمد بن القاسم قيل لأبي عبد الله العقيقة واجبة هي فقال أما واجبة فلا أدري لا أقول واجبة ثم قال أشد شيء فيه أن الرجل مرتهن بعقيقته وقد قال أحمد في موضع آخر مرتهن عن الشفاعة لوالديه وأما قوله ويدمى فقد اختلف في هذه اللفظة فرواها همام عن يحيى عن قتادة فقال ويدمى وفسرها قتادة بما تقدم حكايته وخالفه في ذلك أكثر أهل العلم وقالوا هذا من فعل أهل الجاهلية وكرهه الزهري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق قال أحمد أكره أن يدمى رأس الصبي هذا من فعل الجاهلية وقال عبد الله بن أحمد سألت أبي عن العقيقة أيذبح ويدمى رأس الصبي أو الجارية فقال أبي ولا يدمى وقال الخلال أخبرني العباس بن أحمد أن أبا عبد الله سئل عن تلطيخ رأس الصبي بالدم فقال لا أحبه انه من فعل الجاهلية قيل له فان هماما كان يقول يدميه فذكر أبو عبد الله عن رجل قال كان يقول يسميه ولا أحب قول همام في هذا وأخبرنا أحمد بن هاشم الأنطاكي قال قال أحمد اختلف همام وسعيد في العقيقة قال أحدهما يدمى وقال الآخر يسمى وعن أحمد رواية أخرى أن التدمية سنة قال الخلال أخبرني عصمة بن عصام قال حدثنا حنبل قال سمعت أبا عبد الله في الصبي يدمى رأسه قال هذه سنة ومذهبه الذي رواه عنه كافة أصحابه الكراهية قال الخلال وأخبرني عصمة بن عصام في موضع آخر حدثنا حنبل قال سمعت أبا عبد الله يقول يحلق رأس الصبي وأخبرني محمد بن علي حدثنا صالح وأنبأ أحمد بن محمد ابن حازم حدثنا إسحاق كلهم يذكر عن أبي عبد الله قال الدم مكروه لم يرو إلا في حديث سمرة أخبرني محمد بن الحسين أن الفضل حدثهم أنه قال لأبي عبد الله فيحلق رأسه قال نعم قلت فيدمى قال لا هذا من فعل الجاهلية قلت فحديث قتادة عن الحسن كيف هو ويدمى فقال أما همام فيقول ويدمى وأما سعيد فيقول ويسمى وقال في رواية الأثرم قال ابن أبي عروبة يسمى وقال همام ويدمى وما أراه إلا خطأ وقد قال أبو عبد الله ابن ماجة في سننه حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب حدثنا عبد الله بن وهب حدثني عمرو بن الحارث عن أيوب بن موسى أنه حدثه عن يزيد بن عبد المزني أن النبي قال يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم وقد تقدم حديث بريدة كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها فلما جاء الإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران وقد روى البيهقي وغيره من حديث ابن جريج عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت كان أهل الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة ويجعلونه على رأس الصبي فأمر النبي أن يجعل مكان الدم خلوقا قال ابن المنذر ثبت أن النبي قال أهريقوا عليه دما وأميطوا عنه الأذى والدم أذى فإذا كان النبي قد أمرنا بإماطة الأذى عنه والدم أذى وهو من أكبر الأذى فغير جائز أن ينجس رأس الصبي بالدم
الفصل الرابع في الجواب عن حجج من كرهها
قال الإمام أحمد في رواية حنبل وقد حكي عن بعض من كرهها أنها من أمر الجاهلية قال هذا لقلة علمهم وعدم معرفتهم بالأخبار والنبي قد عق عن الحسن والحسين وفعله أصحابه وجعلها هؤلاء من أمر الجاهلية والعقيقة سنة عن رسول الله وقد قال الغلام مرتهن بعقيقته وهو - إسناد جيد - يرويه أبو هريرة عن النبي وقال في رواية الأثرم في العقيقة أحاديث عن النبي مسندة وعن أصحابه وعن التابعين وقال هؤلاء هي من عمل الجاهلية وتبسم كالمعجب وقال الميموني قلت لأبي عبد الله يثبت عن النبي في العقيقة شيء فقال أي والله غير حديث عن النبي عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة قلت له فتلك الأحاديث التي يعترض فيها فقال ليست بشيء لا يعبأ بها وأما أحاديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله قال لا أحب العقوق فسياق الحديث من أدلة الاستحباب فان لفظه هكذا سئل رسول الله عن العقيقة فقال لا أحب العقوق وكأنه كره الاسم فقالوا يا رسول الله إنما نسألك عن أحدنا يولد له ولد فقال من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة وأما حديث أبي رافع فلا يصح وقد قال الإمام أحمد في هذه الأحاديث المعارضة لأحاديث العقيقة ليست بشيء لا يعبأ بها وقد استفاضت الأحاديث بأن النبي عق عن الحسن والحسين فروى أبو أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا ذكره أبو داود وقد ذكر جرير بن حازم عن قتادة عن أنس أن النبي عق عن الحسن والحسين كبشين وذكر يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت عق رسول الله عن الحسن والحسين يوم السابع ولو صح قوله لا تعقي عنه لم يدل ذلك على كراهة العقيقة لأنه أحب أن يتحمل عنها العقيقة فقال لها لا تعقي عق هو وكفاها المؤنة وأما قولهم إنها من فعل أهل الكتاب فالذي من فعلهم تخصيص الذكر بالعقيقة دون الأنثى كما دل عليه لفظ الحديث فانه قال إن اليهود تعق عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة
الفصل الخامس في اشتقاقها ومن أي شيء أخذت
قال أبو عمرو فأما العقيقة في اللغة فذكر أبو عبيد عن الأصمعي وغيره أن أصلها الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد وإنما سميت الشاة التي تذبح عنه عقيقة لأنه يحلق عنه ذلك الشعر عند الذبح قال ولهذا قال أميطوا عنه الأذى يعني بذلك الشعر قال أبو عبيد وهذا مما قلت لك انهم ربما سموا الشيء باسم غيره إذا كان معه أو من سببه فسميت الشاة عقيقة لعقيقة الشعر وكذلك كل مولود من البهائم فإن الشعر الذي يكون عليه حين يولد عقيقة وعقة قال زهير يذكر حمار وحش أذلك أم أقب البطن جأب ... عليه من عقيقته عفاء قال يعني صغار الوبر وقال ابن الرقاع يصف حمارا تحسرت عقة عنه فأنسلها ... واجتاب أخرى جديدا بعدما ابتقلا قال يريد أنه لما فطم من الرضاع وأكل البقل ألقى عقيقته واجتاب أخرى قال أبو عبيدة العقيقة والعقة في الناس والحمر ولم يسمع في غير ذلك انتهى كلام أبي عبيد وقد أنكر الامام أحمد تفسير أبي عبيد هذا للعقيقة وما ذكره عن الأصمعي وغيره في ذلك وقال إنما العقيقة الذبح نفسه وقال ولا وجه لما قال أبو عبيد قال أبو عمرو واحتج بعض المتأخرين لأحمد بن حنبل في قوله هذا بأن ما قال أحمد من ذلك فمعروف في اللغة لأنه يقال عق إذا قطع ومنه عق والدية إذا قطعهما قال أبو عمرو ويشهد لقول أحمد بن حنبل قول الشاعر بلاد بها عق الشباب تمائمه ... وأول أرض مس جلدي ترابها يريد أنه لما شب قطعت عنه تمائه ومثل هذا قول ابن ميادة بلاد بها نيصت علي تمائمي ... وقطعن عني حين أدركني عقلي قال أبو عمرو وقول أحمد في معنى العقيقة في اللغة أولى من قول أبي عبيد وأقرب وأصوب والله أعلم انتهى كلام أبي عمرو وقال الجوهري عق عن ولده يعق عقا إذا ذبح يوم أسبوعه وكذلك إذا حلق عقيقته فجعل العقيقة لأمرين وهذا أولى والله أعلم وأما قوله في الحديث لا أحب العقوق فهو تنبيه على كراهة ما تنفر عنه القلوب من الأسماء وكان رسول الله شديد الكراهة لذلك جدا حتى كان يغير الاسم القبيح بالحسن ويترك النزول في الأرض القبيحة الاسم والمرور بين الجبلين القبيح اسمهما وكان يحب الاسم الحسن والفأل الحسن وفي الموطأ أن رسول الله قال للقحة من يحلب هذه فقام رجل فقال رسول الله ما اسمك فقال له الرجل مرة فقال له رسول الله اجلس ثم قال من يحلب هذه فقام رجل آخر فقال له رسول الله ما اسمك فقال حرب فقال له رسول الله اجلس ثم قال من يحلب هذه فقام رجل فقال له ما اسمك فقال يعيش فقال له النبي احلب رواه مرسلا في موطئه وأسنده ابن وهب في جامعه فقال حدثني ابن لهيعة عن الحارث ابن يزيد عن عبد الرحمن بن جبير عن يعيش الغفاري قال دعا النبي يوما بناقة فقال من يحلبها فقام رجل فقال ما اسمك قال مرة قال اقعد فقام آخر فقال ما اسمك قال جمرة قال اقعد ثم قام رجل فقال ما اسمك قال يعيش قال احلبها قال أبو عمر هذا من باب الفأل الحسن لا من باب الطيرة وعندي فيه وجه آخر وهو أن بين الاسم والمسمى علاقة ورابطة تناسبه وقلما يتخلف ذلك فالألفاظ قوالب للمعاني والأسماء أقوال المسميات وقل إن أبصرت عيناك ذا لقب ... إلا ومعناه إن فكرت في لقبه فقبح الاسم عنوان قبح المسمى كما أن قبح الوجه عنوان قبح الباطن ومن هاهنا والله أعلم أخذ عمرو بن الخطاب رضي الله عنه ما ذكره مالك أنه قال لرجل ما اسمك فقال جمرة فقال ابن من قال ابن شهاب قال ممن قال من الحرقة قال أين مسكنك قال بحرة النار قال بأيتها قال بذات لظى فقال عمر أدرك أهلك فقد احترقوا فكان كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد ذكر ابن أبي خيثمة من حديث بريدة كان رسول الله لا يتطير فركب بريدة في سبعين راكبا من أهل بيته من بني أسلم فلقي النبي ليلا فقال له النبي من أنت قال أنا بريدة فالتفت إلى أبي بكر وقال يا أبا بكر برد أمرنا وصلح ثم قال ممن قلت من أسلم قال لأبي بكر الآن سلمنا ثم قال ممن قال من سهم قال خرج سهمك ولما رأى سهيل بن عمرو مقبلا يوم صلح الحديبية قال سهل أمر كم وانتهى في مسيره إلى جبلين فسأل عن اسمهما فقال مخز وفاضح فعدل عنهما ولم يسلك بينهما وغير اسم عاصية بجميلة واسم أصرم بزرعة قال أبو داود في السنن وغير النبي اسم العاص وعزيز وعتلة وشيطان والحكم وغراب وشهاب فسماه هشاما وسمى حربا أسلم وسمى المضطجع المنبعث وأرض عفرة سماها خضرة وشعب الضلالة سماه شعب الهدى وبنو الزينة سماهم بني الرشدة وهذا باب عجيب من أبواب الدين وهو العدول عن الاسم الذي تستقبحه العقول وتنفر منه النفوس إلى الاسم الذي هو أحسن منه والنفوس إليه أميل وكان النبي شديد الاعتناء بذلك حتى قال لا يقل أحدكم خبثت نفسي ولكن ليقل لقست نفسي فلما كان اسم العقيقة بينه وبين العقوق تناسب وتشابه كرهه وقال إن الله لا يحب العقوق ثم قال من ولد له مولود فأحب إن ينسك عنه فليفعل الفصل السادس - هل تكره تسميتها عقيقة اختلفت فيه - فكرهت ذلك طائفة واحتجوا بأن رسول الله كره الاسم فلا ينبغي أن يطلق على هذه الذبيحة الاسم الذي كرهه قالوا فالواجب بظاهر هذا الحديث أن يقال لها نسيكة ولا يقال لها عقيقية وقالت طائفة أخرى لا يكره ذلك ورأوا إباحته واحتجوا بحديث سمرة الغلام مرتهن بعقيقته وبحديث سلمان بن عامر مع الغلام عقيقته ففي هذين الحديثين لفظ العقيقة فدل على الإباحة لا على الكراهة قال أبو عمر فدل ذلك على الكراهة في الاسم وعلى هذا كتب الفقهاء في كل الأمصار ليس فيها إلا العقيقة لا النسيكة قال على أن حديث مالك هذا ليس فيه التصريح بالكراهة وكذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إنما فيهما كأنه كره الاسم وقال من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل قلت ونظير هذا اختلافهم في تسمية العشاء بالعتمة وفيه روايتان عن الامام أحمد والتحقيق في الموضعين كراهة هجر الاسم المشروع من العشاء والنسيكة والاستبدال به اسم العقيقة والعتمة فأما إذا كان المستعمل هو الاسم الشرعي ولم يهجر وأطلق الاسم الآخر أحيانا فلا بأس بذلك وعلى هذا تتفق الأحاديث وبالله التوفيق الفصل السابع - في ذكر الخلاف في وجوبها واستحبابها وحجج الطائفتين قال ابن المنذر اختلفوا في وجوب العقيقة فقالت طائفة واجبة لأن النبي أمر بذلك وأمره على الفرض روينا عن الحسن البصري أنه قال في رجل لم يعق عنه قال يعق عن نفسه وكان لا يرى على الجارية عقيقة قال وروي عن بريدة أن الناس يعرضون على العقيقة يوم القيامة كما يعرضون على الصلوات الخمس قال اسحاق بن راهويه حدثنا يعلى بن عبيد قال حدثنا صالح بن حبان عن ابن بريدة عن أبيه أن الناس يعرضون يوم القيامة على العقيقة كما يعرضون على الصلوات الخمس فقلت لابن بريدة وما العقيقة قال المولود يولد في الاسلام ينبغي أن يعق عنه وقال أبو الزناد العقيقة من أمر المسلمين الذين كانوا يكرهون تركه قال وروينا عن الحسن البصري أنه قال العقيقة عن الغلام واجبة يوم سابعه وقال أبو عمر وأما اختلاف العلماء في وجوبها فذهب أهل الظاهر إلى أن العقيقة واجبة فرضا منهم داود وغيره قالوا إن رسول الله أمر وعمل بها قال الغلام مرتهن بعقيقته ومع الغلام عقيقته وقال عن الجارية شاة وعن الغلام شاتان ونحو هذا من الأحاديث وكان بريدة الأسلمي يوجبها ويشبهها بالصلاة وكان الحسن البصري يذهب إلى أنها واجبة عن الغلام يوم سابعه فإن لم يعق عنه عق عن نفسه وقال الليث بن سعد يعق عن المولود أيام سابعه في أيها شاؤوا فإن لم يتهيأ لهم العقيقة في سابعه فلا بأس أن يعق عنه بعد ذلك وليس بواجب أن يعق عنه بعد سبعة أيام فكان الليث بن سعد يذهب إلى أنها واجبة في السبعة الأيام وكان مالك يقول هي سنة واجبة يجب العمل بها وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي ثور والطبري هذا كلام أبي عمر قلت والسنة والواجبة هند أصحاب مالك ما تأكد استحبابه وكره تركه فيسمونه واجبا وجوب السنن ولهذا قالوا غسل الجمعة سنة واجبة والأضحية سنة واجبة والعقيقة سنة واجبة وقد حكى أصحاب أحمد عنه في وجوبها روايتين وليس عنه نص صريح في الوجوب ونحن نذكر نصوصه قال الخلال في الجامع ذكر استحباب العقيقة وأنها غير غير واجبة أخبرنا سليمان بن الأشعث قال سمعت أبا عبد الله سئل عن العقيقة ما هي قال الذبيحة وأنكر قول الذي يقول هي حلق الرأس أخبرني محمد بن الحسين أن الفضل حدثهم قال سألت أبا عبد الله عن العقيقة واجبة هي قال لا ولكن من أحب أن ينسك فلينسك قال وسألت أبا عبد الله عن العقيقة أتوجبها قال لا ثم ذكر عن أحمد بن القاسم أن أبا عبد الله قيل له في العقيقة واجبة هي قال أما واجبة فلا أدري ولا أقول واجبة ثم قال أشد شيء فيه أن الرجل مرتهن بعقيقته وقال الأثرم قلت لأبي عبد الله العقيقة واجبة قال لا وأشد شيء روي فيها حديث الغلام مرتهن بعقيقته هو أشدها وقال حنبل قال أبو عبد الله لا أحب لمن أمكنه وقدر أن لا يعق عن ولده ولا يدعه لأن النبي قال الغلام مرتهن بعقيقته فهو أشد ما روي في العقيقة وقال الحارث سألت أبا عبد الله عن العقيقة واجبة هي عن الغني والفقير إذا ولد له أن يعق عنه قال أبو عبد الله قال الحسن عن سمرة عن النبي كل غلام رهينة بعقيقته حتى يذبح عنه يوم سابعه ويحلق رأسه هذه سنة رسول الله وآني لأحب أن تحيى هذه السنة أرجو أن يخلف الله عليه وقال إسحاق بن إبراهيم سألت أبا عبد الله عن حديث النبي ما معناه الغلام مرتهن بعقيقته قال نعم سنة النبي أن يعق عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة فإذا لم يعق عنه فهو محتبس بعقيقته حتى يعق عنه وقال جعفر بن محمد قيل لأبي عبد الله في العقيقة فان لم تكن عنده قال ليس عليه شيء وقال الحارث قيل لأبي عبد الله في العقيقة فان لم يكن عنده يعني ما يعق قال إن استقرض رجوت أن يخلف الله عليه أحيا سنة وقال صالح قلت لأبي يولد للرجل وليس عنده ما يعق أحب إليك أن يستقرض ويعق عنه أم يؤخر ذلك حتى يوسر فقال أشد ما سمعت في العقيقة حديث الحسن عن سمرة عن النبي كل غلام رهينة بعقيقته وإني لأرجو إن استقرض أن يعجل الله له الخلف لأنه أحيا سنة من سنن رسول الله واتبع ما جاء به فهذه نصوصه كما ترى ولكن أصحابه فرعوا على القول بالوجوب ثلاثة فروع أحدها هل هي واجبة على الصبي في ماله أو على أبيه الثاني هل تجب الشاة على الذكر أو الشاتان الثالث إذا لم يعق عنه أبوه هل تسقط أو يجب أن يعق عن نفسه إذا بلغ فأما الفرع الأول فحكموا فيه وجهين أحدهما يجب على الأب وهو المنصوص عن أحمد قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي سألت أحمد عن الرجل يخبره والده أنه لم يعق عنه هل يعق عن نفسه قال ذلك على الأب والثاني في مال الصبي وحجة من أوجبها على الأب أنه هو المأمور بها كما تقدم واحتج من أوجبها على الصبي بقوله الغلام مرتهن بعقيقته وهذا الحديث يحتج به الطائفتان فان أوله الإخبار عن ارتهان الغلام بالعقيقة وآخره الأمر بأن يراق عنه الدم قال الموجبون ويدل على الوجوب قوله عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة وهذا يدل على الوجوب لأن المعنى يجزىء عن الجارية شاة وعن الغلام شاتان واحتجوا بحديث البخاري عن سلمان بن عامر عن النبي قال مع الغلام عقيقته فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى قالوا وهذا يدل على الوجوب من وجهين أحدهما قوله مع الغلام عقيقته وهذا ليس إخبارا عن الواقع بل عن الواجب ثم أمرهم أن يخرجوا عنه هذا الذي معه فقال أهريقوا عنه دما قالوا ويدل عليه أيضا حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله أمر بتسمية المولود يوم سابعه ووضع الأذى عنه والعق قالوا وروى الترمذي حدثنا يحيى ابن خلف حدثنا بشر بن المفضل حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن يوسف بن ماهك أنهم دخلوا على حفصة بنت عبد الرحمن فسألوها عن العقيقة فأخبرتهم أن عائشة رضي الله عنها أخبرتها أن رسول الله أمرهم عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة حدثنا عبد الله ابن عثمان بن خثيم عن يوسف بن ماهك عن حفصة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت أمرنا رسول الله أن نعق عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة قال أبو بكر حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب حدثنا عبد الله بن وهب قال حدثني عمرو بن الحارث عن أيوب بن موسى أنه حدثه أن يزيد بن عبد المزني حدثه أن النبي قال يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم قالوا وهذا خبر بمعنى الأمر قال أبو بكر وحدثنا ابن فضيل عن يحيى بن سعيد عن محمد بن ابراهيم قال كان يؤمر بالعقيقة ولو بعصفور
فصل
قال القائلون بالاستحباب لو كانت واجبة لكان وجوبها معلوما من الدين لأن ذلك مما تدعو الحاجة إليه وتعم به البلوى فكان رسول الله يبين وجوبها للأمة بيانا عاما كافيا تقوم به الحجة وينقطع معه العذر قالوا وقد علقها بمحبة فاعلها فقال من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فليفعل قالوا وفعله لها لا يدل على الوجوب وإنما يدل على الاستحباب قالوا وقد روى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب أن النبي سئل عن العقيقة فقال لا يحب الله العقوق كأنه كره الاسم وقال من ولد له ولد وأحب أن ينسك عنه فليفعل عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة وهذا مرسل وقد رواه مرة عن عمرو عن أبيه قال أراه عن جده وروى مالك عن زيد بن أسلم عن رجل من بني ضمرة عن أبيه أن رسول الله سئل عن العقيقة فقال لا أحب العقوق وكأنه إنما كره الاسم وقال من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل قال البيهقي وإذا انضم إلى الأول قويا قلت وحديث عمرو بن شعيب قد جوده عبد الرزاق فقال أخبرنا داود بن قيس قال سمعت عمرو بن شعيب يحدث عن أبيه عن جده قال سئل النبي عن العقيقة فذكر الحديث الفصل الثامن - في الوقت الذي تستحب فيه العقيقة قال أبو داود في كتاب المسائل سمعت أبا عبد الله يقول العقيقة تذبح يوم السابع وقال صالح بن أحمد قال أبي في العقيقة تذبح يوم السابع فإن لم يفعل ففي أربع عشرة فإن لم يفعل ففي إحدى وعشرين وقال الميموني قلت لأبي عبد الله متى يعق عنه قال أما عائشة فتقول سبعة أيام وأربعة عشرة ولأحد وعشرين وقال أبو طالب قال أحمد تذبح العقيقة لأحد وعشرين يوما انتهى والحجة على ذلك حديث سمرة المتقدم الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويسمى قال الترمذي حديث صحيح وقال عبد الله ابن وهب أخبرني محمد بن عمرو عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت عق رسول الله عن حسن وحسين يوم السابع وسماهما وأمر أن يماط عن رؤوسهما الأذى وقال أبو بكر بن المنذر حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ قال حدثني أبو جعفر الرازي حدثنا أبو زهير عبد الرحمن بن مغراء حدثنا محمد بن اسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال أمرنا رسول الله حين سابع المولود بتسمية وعقيقته ووضع الأذى عنه وهذا قول عامة أهل العلم ونحن نحكي ما بلغنا من أقوالهم وأرفع من روي عنه ذلك عائشة أم المؤمنين كما حكاه احمد عنها في رواية الميموني وكذلك قال الحسن البصري وقتادة يعق عنه يوم سابعه وقال أبو عمر وكان الحسن البصري يذهب إلى أنها واجبة عن الغلام يوم سابعه فإن لم يعق عنه عق عن نفسه وقال الليث بن سعد يعق عن المولود في أيام سابعه فان لم يتهيأ لهم العقيقة في سابعه فلا بأس أن يعق عنه بعد ذلك وليس بواجب أن يعق عنه بعد سبعة أيام قال أبو عمر وكان الليث يذهب إلى أنها واجبة في السبعة الأيام وقال عطاء إن اخطأ هم أمر العقيقة يوم السابع أحببت أن يؤخره إلى اليوم السابع الآخر وكذلك قال احمد وإسحاق والشافعي ولم يزد مالك على السابع الثاني وقال ابن وهب لا بأس أن يعق عنه في السابع الثالث وهو قول عائشة وعطاء واحمد وإسحاق قال مالك ولا يعد اليوم الذي ولد فيه إلا أن يولد قبل الفجر من ليلة ذلك اليوم والظاهر أن التقييد بذلك استحباب وإلا فلو ذبح عنه في الرابع أو الثامن أو العاشر أو ما بعده أجزأت والاعتبار بالذبح لا بيوم الطبخ والأكل
الفصل التاسع في بيان أن العقيقة افضل من التصدق بثمنها ولو زاد
قال الخلال باب ما يستحب من العقيقة وفضلها على الصدقة اخبرنا سليمان بن الأشعث قال سئل أبو عبد الله وأنا اسمع عن العقيقة أحب إليك أو يدفع ثمنها للمساكين قال العقيقة وقال في رواية الحارث وقد سئل عن العقيقة إن استقرض رجوت أن يخلف الله عليه أحيا سنة وقال له صالح ابنه الرجل يولد له وليس عنده ما يعق أحب إليك أن يستقرض ويعق عنه أم يؤخر ذلك حتى يوسر قال أشد ما سمعنا في العقيقة حديث الحسن عن سمرة عن النبي كل غلام رهينة بعقيقته وإني لأرجو إن استقرض أن يعجل الله الخلف لأنه أحيا سنة من سنن رسول الله واتبع ما جاء عنه انتهى وهذا لأنه سنة ونسيكة مشروعة بسبب تجدد نعمة الله على الوالدين وفيها سر بديع موروث عن فداء إسماعيل بالكبش الذي ذبح عنه وفداه الله به فصار سنة في أولاده بعده أن يفدي أحدهم عند ولادته بذبح ولا يستنكر أن يكون هذا حرزا له من الشيطان بعد ولادته كما كان ذكر اسم الله عند وضعه في الرحم حرزا له من ضرر الشيطان ولهذا قل من يترك أبواه العقيقة عنه إلا وهو في تخبيط من الشيطان وأسرار الشرع أعظم من هذا ولهذا كان الصواب أن الذكر والأنثى يشتركان في مشروعية العقيقة وإن تفاضلا في قدرها وأما أهل الكتاب فليست العقيقة عندهم للأنثى وإنما هي للذكر خاصة وقد ذهب إلى ذلك بعض السلف قال أبو بكر بن المنذر وفي هذا الباب قول ثالث قاله الحسن وقتادة كانا لا يريان عن الجارية عقيقة وهذا قول ضعيف لا يلتفت إليه والسنة تخالفه من وجوه كما سيأتي في الفصل الذي بعد هذا فكان الذبح في موضعه أفضل من الصدقة بثمنه ولو زاد كالهدايا والأضاحي فإن نفس الذبح وإراقة الدم مقصود فإنه عبادة مقرونة بالصلاة كما قال تعالى فصل لربك وانحر وقال قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين الأنعام 162 ففي كل ملة صلاة ونسيكة لا يقوم غيرهما مقامهما ولهذا لو تصدق عن دم المتعة والقران بأضعاف أضعاف القيمة لم يقم مقامه وكذلك الأضحية والله أعلم
الفصل العاشر في تفاضل الذكر والأنثى فيها واختلاف الناس في ذلك
وفيه مسألتان المسألة الأولى العقيقة سنة عن الجارية كما هي سنة عن الغلام هذا قول جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وقد تقدم ما حكاه ابن المنذر عن الحسن وقتادة أنهما كانا لا يريان عن الجارية عقيقة ولعلهما تمسكا بقوله مع الغلام عقيقته وهذا الحديث رواه الحسن وقتادة من حديث سمرة والغلام اسم الذكر دون الأنثى ويرد هذا القول حديث أم كرز أنها سألت رسول الله عن العقيقة فقال عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة لا يضر كم ذكرانا كن أم إناثا وهو حديث صحيح صححه الترمذي وغيره وحديث عائشة أمرنا أن نعق عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة رواه ابن أبي شيبة وقد تقدم إسناده وقال أبو عاصم حدثنا سالم بن تميم عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي قال إن اليهود تعق عن الغلام ولا تعق عن الجارية فعقوا عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة رواه البيهقي من هذا الطريق وقال مالك يذبح عن الغلام شاة واحدة وعن الجارية شاة والذكر والأنثى في ذلك سواء واحتج لهذا القول بما رواه أبو داود في سننه حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا كبشا قال أبو عمر وروى جعفر عن محمد عن أبيه أن فاطمة ذبحت عن الحسن والحسين كبشا كبشا قال وكان عبد الله بن عمر يعق عن الغلمان والجواري من ولده شاة شاة وبه قال أبو جعفر محمد بن علي بن حسين رضي الله عنهم أجمعين كقول مالك سواء قال أبو عمر وقال ابن عباس وعائشة وجماعة من أهل الحديث عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة ثم ذكر طرف حديث أم كرز وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يرفعه من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة و لا تعارض بين أحاديث التفضيل بين الذكر والأنثى وبين حديث ابن عباس في عقيقة الحسن والحسين فإن حديثه قد روي بلفظين أحدهما أنه عق عنهما كبشا كبشا والثاني أنه عق عنهما كبشين ولعل الراوي أراد كبشين عن كل واحد منهما فاقتصر على قوله كبشين ثم روي بالمعنى كبشا كبشا وذبحت أمهما عنهما كبشين والحديثان كذلك رويا فكان أحد الكبشين من النبي والثاني من فاطمة واتفقت جميع الأحاديث وهذه قاعدة الشريعة فإن الله سبحانه فاضل بين الذكر والأنثى وجعل الأنثى على النصف من الذكر في المواريث والديات والشهادات والعتق و العقيقة كما رواه الترمذي وصححه من حديث أبي أمامة عن النبي قال أيما امرىء مسلم أعتق مسلما كان فكاكه من النار يجزىء كل عضو منه عضوا منه وأيما امرىء مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار يجزىء كل عضو منهما عضوا منه وفي مسند الامام أحمد من حديث مرة بن كعب السلمي عن النبي أيما رجل أعتق رجلا مسلما كان فكاكه من النار يجزىء بكل عضو من أعضائه عضوا من أعضائه وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار يجزىء بكل عضو من أعضائها عضوا من أعضائها رواه أبو داود في السنن فجرت المفاضلة في العقيقة هذا المجرى لو لم يكن فيها سنة كيف والسنن الثابتة صريحة بالتفضيل
الفصل الحادي عشر في ذكر الغرض من العقيقة وحكمها وفوائدها
قال الخلال في جامعه باب ذكر الغرض في العقيقة وما يؤمل لإحياء السنة من الخلف ثم ذكر رواية الحارث أنه قال لأبي عبد الله في العقيقة فإن لم يكن عنده ما يعق قال إن استقرض رجوت أن يخلف الله عليه أحيا سنة ومن رواية صالح عن أبيه إني لأرجو إن استقرض أن يجعل الله له الخلف أحيا سنة من سنن رسول الله واتبع ما جاء عنه ومن فوائدها أنها قربان يقرب به عن المولود في أول أوقات خروجه إلى الدنيا والمولود ينتفع بذلك غاية الانتفاع كما ينتفع بالدعاء له وإحضاره مواضع المناسك والإحرام عنه وغير ذلك ومن فوائدها أنها تفك رهان المولود فإنه مرتهن بعقيقته قال الامام أحمد مرتهن عن الشفاعة لوالديه وقال عطاء بن أبي رباح مرتهن بعقيقته قال يحرم شفاعة ولده ومن فوائدها أنها فدية يفدى بها المولود كما فدى الله سبحانه إسماعيل الذبيح بالكبش وقد كان أهل الجاهلية يفعلونها ويسمونها عقيقة ويلطخون رأس الصبي بدمها فأقر رسول الله الذبح وأبطل اسم العقوق ولطخ رأس الصبي بدمها فقال لا أحب العقوق وقال لا يمس رأس المولود بدم وأخبر أن ما يذبح عن المولود إنما ينبغي أن يكون على سبيل النسك كالأضحية والهدي فقال من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل فجعلها على سبيل الأضحية التي جعلها الله نسكا وفداء لإسماعيل عليه السلام وقربه إلى الله عز و جل وغير مستبعد في حكمة الله في شرعه وقدره أن يكون سببا لحسن إنبات الولد ودوام سلامته وطول حياته في حفظه من ضرر الشيطان حتى يكون كل عضو منها فداء كل عضو منه ولهذا يستحب أن يقال عليها ما يقال على الأضحية قال أبو طالب سألت أبا عبد الله إذا أراد الرجل أن يعق كيف يقول قال يقول باسم الله ويذبح على النية كما يضحي بنيته يقول هذه عقيقة فلان بن فلان ولهذا يقول فيها اللهم منك ولك ويستحب فيها ما يستحب في الأضحية من الصدقة وتفريق اللحم فالذبيحة عن الولد فيها معنى القربان والشكران والفداء والصدقة وإطعام الطعام عند حوادث السرور العظام شكرا لله وإظهار لنعمته التي هي غاية المقصود من النكاح فإذا شرع الإطعام للنكاح الذي هو وسيلة إلى حصول هذه النعمة فلأن يشرع عند الغاية المطلوبة أولى وأحرى وشرع بوصف الذبح المتضمن لما ذكرناه من الحكم فلا أحسن ولا أحلى في القلوب من مثل هذه الشريعة في المولود وعلى نحو هذا جرت سنة الولائم في المناكح وغيرها فإنها إظهار للفرح والسرور بإقامة شرائع الإسلام وخروج نسمه مسلمة يكاثر بها رسول الله الأمم يوم القيامة تعبدا لله ويراغم عدوه ولما أقر رسول الله العقيقة في الإسلام وأكد أمرها وأخبر أن الغلام مرتهن بها نهاهم أن يجعلوا على رأس الصبي من الدم شيئا وسن لهم أن يجعلوا عليه شيئا من الزعفران لأنهم في الجاهلية إنما كانوا يلطخون رأس المولود بدم العقيقة تبركا به فإن دم الذبيحة كان مباركا عندهم حتى كانوا يلطخون منه آلهتهم تعظيما لها وإكراما فأمر بترك ذلك لما فيه من التشبه بالمشركين وعوضوا عنه بما هو أنفع للأبوين وللمولود وللمساكين وهو حلق رأس الطفل والتصدق بزنة شعره ذهبا أو فضة وسن لهم أن يلطخوا الرأس بالزعفران الطيب الرائحة الحسن اللون بدلا عن الدم الخبيث الرائحة النجس العين والزعفران من أطيب الطيب وألطفه وأحسنه لونا وكان حلق رأسه إماطة الأذى عنه وإزالة الشعر الضعيف ليخلفه شعر أقوى وأمكن منه وأنفع للرأس ومع ما فيه من التخفيف عن الصبي وفتح مسام الرأس ليخرج البخار منها بيسر وسهولة وفي ذلك تقوية بصره وشمه وسمعه وشرع في المذبوح عن الذكر أن يكون شاتين إظهار لشرفه وإباحة لمحله الذي فضله الله به على الأنثى كما فضله في الميراث والدية والشهادة وشرع أن تكون الشاتان مكافئتين قال أحمد في رواية أبي داود مستويتان أو متقاربتان وقال في رواية الميموني مثلان في رواية جعفر بن الحارث تشبه إحداهما الأخرى لأن كل شاة منهما كانت بدلا وفداء وجعلت الشاتان مكافئتين في الجنس والسن فجعلتا كالشاة الواحدة والمعنى أن الفداء لو وقع بالشاة الواحدة لكان ينبغي أن تكون فاضلة كاملة فلما وقع بالشاتين لم يؤمن أن يتجوز في إحداهما ويهون أمرها إذ كان قد حصل الفداء بالواحدة والأخرى كأنها تتمه غير مقصود فشرع أن تكونا متكافئتين دفعا لهذا التوهم وفي هذا تنبيه على تهذيب العقيقة من العيوب التي لا يصح بها القربان من الأضاحي وغيرها ومنها فك رهان المولود فإنه مرتهن بعقيقته كما قال النبي اختلف في معنى هذا الحبس والارتهان فقالت طائفة هو محبوس مرتهن عن الشفاعة لوالديه كما قال عطاء وتبعه عليه الامام أحمد وفيه نظر لا يخفى فإن شفاعة الولد في الوالد ليست بأولى من العكس وكونه والدا له ليس للشفاعة فيه وكذا سائر القرابات والارحام وقد قال تعالى يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا لقمان 33 وقال تعالى واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة البقرة 48 وقال تعالى من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة البقرة 254 فلا يشفع أحد لأحد يوم القيامة إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى فإذنه سبحانه في الشفاعة موقوف على عمل المشفوع له من توحيده وإخلاصه ومن الشافع من قربه عند الله ومنزلته ليست مستحقة بقرابة ولا بنوة ولا أبوة وقد قال سيد الشفعاء وأوجههم عند الله لعمه ولعمته وابنته لا أغني عنكم من الله شيئا وفي رواية لا أملك لكم من الله شيئا وقال في شفاعته العظمى لما يسجد بين يدي ربه ويشفع فيحد لي حدا فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة فشفاعته في حد محدود يحدهم الله سبحانه له لا يجاوزهم شفاعته فمن أين يقال إن الولد يشفع لوالده فإذا لم يعق عنه حبس عن الشفاعة له ولا يقال لمن لم يشفع لغيره إنه مرتهن ولا في اللفظ ما يدل على ذلك والله سبحانه يخبر عن ارتهان العبد بكسبه كما قال الله تعالى كل نفس بما كسبت رهينة المدثر 38 وقال تعالى أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا الأنعام 70 فالمرتهن هو المحبوس إما بفعل منه أو فعل من غيره وأما من لم يشفع لغيره فلا يقال له مرتهن على الإطلاق بل المرتهن هو المحبوس عن أمر كان بصدد نيله وحصوله ولا يلزم من ذلك أن يكون بسبب منه بل يحصل ذلك تارة بفعله وتارة بفعل غيره وقد جعل الله سبحانه النسيكة عن الولد سببا لفك رهانه من الشيطان الذي يعلق به من حين خروجه إلى الدنيا وطعن في خاصرته فكانت العقيقة فداء وتخليصا له من حبس الشيطان له وسجنه في أسره ومنعه له من سعيه في مصالح آخرته التي إليها معاده فكأنه محبوس لذبح الشيطان له بالسكين التي أعدها لأتباعه وأوليائه وأقسم لربه أنه ليستأصلن ذرية آدم إلا قليلا منهم فهو بالمرصاد للمولود من حين يخرج إلى الدنيا فحين يخرج يبتدره عدوه ويضمه إليه ويحرص على أن يجعله في قبضته وتحت أسره ومن جملة أوليائه وحزبه فهو أحرص شيء على هذا وأكثر المولودين من أقطاعه وجنده كما قال تعالى وشاركهم في الأموال والأولاد الإسراء 64 وقال ولقد صدق عليهم إبليس ظنه سبأ 20 فكان المولود بصدد هذا الارتهان فشرع الله سبحانه للوالدين أن يفكا رهانه بذبح يكون فداه فإذا لم يذبح عنه بقي مرتهنا به فلهذا قال النبي الغلام مرتهن بعقيقته فأريقوا عنه الدم وأميطوا عنه الأذى فأمر بإراقة الدم عنه الذي يخلص به من الارتهان ولو كان الارتهان يتعلق بالأبوين لقال فأريقوا عنكم الدم لتخلص إليكم شفاعة أولادكم فلما أمر بإزالة الأذى الظاهر عنه وإراقة الدم الذي يزيل الأذى الباطن بارتهانه علم أن ذلك تخليص للمولود من الأذى الباطن والظاهر والله أعلم بمراده ورسوله
الفصل الثاني عشر في استحباب طبخها دون إخراج لحمها نيئا
قال الخلال في جامعه باب ما يستحب من ذبح العقيقة أخبرني عبد الملك الميموني أنه قال لأبي عبد الله العقيقة تطبخ قال نعم وأخبرني محمد بن علي قال حدثنا الأثرم أن أبا عبد الله قال في العقيقة تطبخ جداول وأخبرني أبو داود أنه قال لأبي عبد الله تطبخ العقيقة قال نعم قيل له إنه يشتد عليهم طبخه قال يتحملون ذلك وأخبرني محمد بن الحسين أن الفضل بن زياد حدثهم أن أبا عبد الله قيل له في العقيقة تطبخ بماء وملح قال يستحب ذلك قيل له فإن طبخت بشيء آخر قال ما ضر ذلك وهذا لأنه إذا طبخها فقد كفى المساكين والجيران مؤنة الطبخ وهو زيادة في الإحسان وشكر هذه النعمة ويتمتع الجيران والأولاد والمساكين بها هنيئة مكفية المؤنة فإن من أهدي له لحم مطبوخ مهيأ للأكل مطيب كان فرحه وسروره به أتم من فرحه بلحم نيء يحتاج إلى كلفة وتعب فلهذا قال الإمام أحمد يتحملون ذلك وأيضا فإن الأطعمة المعتادة التي تجري مجرى الشكران كلها سبيلها الطبخ ولها أسماء متعددة 1 - فالقرى طعام الضيفان 2 - والمأدبة طعام الدعوة 3 - والتحفة طعام الزائر 4 - والوليمة طعام العرس 5 - والخرس طعام الولادة 6 - والعقيقة الذبح عنه يوم حلق رأسه في السابع 7 - والغديرة طعام الختان 8 - والوضيمة طعام المأتم 9 - والنقيعة طعام القادم من سفره 10 - والوكيرة طعام الفراغ من البناء فكان الإطعام عند هذه الأشياء أحسن من تفريق اللحم
الفصل الثالث عشر في كراهة كسر عظامها
قال الخلال في جامعه باب كراهة كسر عظم العقيقة وأن تقطع آرابا أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد أنه سمع أبا عبد الله يقول في العقيقة لا يكسر عظمها ولكن يقطع كل عظم من مفصله فلا تكسر العظام أخبرنا عبد الله بن أحمد قال قلت لأبي كيف يصنع بالعقيقة قال تفصل أعضاؤها ولا يكسر لها عظم ثم ذكر عن صالح وحنبل والفضل بن زياد وأبي الحارث وأبي طالب أن أبا عبد الله قال في العقيقة تفصل تفصيلا ولا يكسر لها عظم وتفصل جداول وقد ذكر أبو داود في كتاب المراسيل عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي قال في العقيقة التي عقتها فاطمة عن الحسن والحسين أن ابعثوا إلى القابلة منها برجل وكلوا وأطعموا ولا تكسروا منها عظما وذكر البيهقي من حديث عبد الوارث عن عامر الأحول عن عطاء عن أم كرز قالت قال رسول الله عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة وكان عطاء يقول تقطع جدولا ولا يكسر لها عظم أظنه قال وتطبخ ورواه ابن جريح عن عطاء وقال تقطع آرابا وتطبخ بماء وملح وتهدى في الجيران وروي في ذلك عن جابر بن عبد الله قوله وعن عائشة أم المؤمنين فروى ابن المنذر عن عطاء عن أبي كرز وأم كرز قالا قالت امرأة من أهل عبد الرحمن بن أبي بكر لما ولدت امرأة عبد الرحمن نحرنا جزورا فقالت عائشة لا بل السنة شاتان مكافئتان يتصدق بهما عن الغلام وشاة عن الجارية ولا يكسر لها عظم فتأكل وتطعم وتتصدق ويكون ذلك في السابع فإن لم يفعل ففي الرابع عشر فإن لم يفعل ففي إحدى وعشرين قال ابن المنذر وقال الشافعي العقيقة سنة واجبة ويتقى فيها من العيوب ما يتقى في الضحايا ولا يباع لحمها ولا إهابها ولا يكسر لها عظم ويأكل أهلها منها ويتصدقون ولا يمس الصبي بشيء من دمها قال أبو عمر وقول مالك مثل الشافعي إلا أنه قال يكسر عظامها ويطعم منها الجيران ولا يدعى الرجال كما يفعل بالوليمة قال وقال ابن شهاب لا بأس بكسر عظامها وهو قول مالك والذين رأوا تكسير عظامها قالوا لم يصح في المنع من ذلك ولا في كراهته سنة يجب المصير إليها وقد جرت العادة بكسر عظام اللحم وفي ذلك مصلحة أكله وتمام الانتفاع به ولا مصلحة تمنع من ذلك والذين كرهوا عظامها تمسكوا بالآثار التي ذكرناها عن الصحابة والتابعين وبالحديث المرسل الذي رواه أبو داود وذكروا في ذلك وجوها في الحكمة أحدها إظهار شرف هذا الإطعام وخطره إذا كان يقدم للآكلين ويهدى إلى الجيران ويطعم للمساكين فاستحب أن يكون قطعا كل قطعة تامة في نفسها لم يكسر من عظامها شيء ولا نقص العضو منها شيئا ولا ريب أن هذا أجل موقعا وأدخل في باب الجود من القطع الصغار المعنى الثاني أن الهدية إذا شرفت وخرجت عن حد الحقارة وقعت موقعا حسنا عند المهدى إليه ودلت على شرف نفس المهدي وكبر همته وكان في ذلك تفاؤلا بكبر نفس المولود وعلو همته وشرف نفسه المعنى الثالث أنها لما جرت مجرى الفداء استحب أن لا تكسر عظامها تفاؤلا بسلامة أعضاء المولود وصحتها وقوتها وبما زال من عظام فدائه من الكسر وجرى كسر عظامها عند من كرهه مجرى تسميتها عقيقة فهذه الكراهة في الكسر نظير تلك الكراهة في الاسم والله أعلم
الفصل الرابع عشر في السن المجزىء فيها
قال الخلال في الجامع باب ما يستحب من الأسنان في العقيقة ثم ذكر مسائل أبي طالب أنه سأل أبا عبد الله عن العقيقة تجزىء بنعجة أو حمل كبير قال فحل خير وقد روي ذكرانا وإناثا فإن كانت نعجة فلا بأس قلت فالحمل قال الأسن خير وفي قول النبي من ولد له مولود فأحب أن ينسك عنه فليفعل فالدليل على أنه إنما يجزىء في النسك سواء من الضحايا والهدايا ولأنه ذبح مسنون إما وجوبا وإما استحبابا يجري مجرى الهدي والأضحية في الصدقة والهدية والأكل والتقرب إلى الله فاعتبر فيها السن الذي يجزىء فيهما ولأنه شرع بوصف التمام والكمال ولهذا شرع في حق الغلام شاتان وشرع أن تكونا مكافئتين لا ينقص إحداهما عن الأخرى فاعتبر أن يكون سنهما سن الذبائح المأمور بها ولهذا جرت مجراها في عامة أحكامها قال أبو عمر بن عبد البر وقد أجمع العلماء أنه لا يجوز في العقيقة إلا ما يجوز في الضحايا من الأزواج الثمانية إلا من شذ ممن لا يعد قوله خلافا وأما ما رواه مالك في الموطأ عن ربيعة بن عبد الرحمن عن محمد بن إبراهيم التيمي أنه قال سمعت أبي يقول تستحب العقيقة ولو بعصفور فإنه كلام خرج على التقليل والمبالغة كقول رسول الله لعمر في الفرس لا تأخذه ولو أعطاكه بدرهم وكقوله في الجارية إذا زنت فبيعوها ولو بضفير وقال مالك العقيقة بمنزلة النسك والضحايا ولا يجوز فيها عوراء ولا عجفاء ولا مكسورة ولا مريضة ولا يباع من لحمها شيء ولا جلدها ويكسر عظامها ويأكل أهلها منها ويتصدقون
الفصل الخامس عشر أنه لا يصح الاشتراك فيها ولا يجزىء الرأس إلا عن رأس
هذا مما تخالف فيه العقيقة الهدي والأضحية قال الخلال في جامعه باب حكم الجزور عن سبعة اخبرني عبد الملك ابن عبد الحميد أنه قال لأبي عبد الله تعق جزورا فقال أليس قد عق بجزور قلت يعق بجزور عن سبعة قال لم أسمع في ذلك بشيء ورأيته لا ينشط بجزور عن سبعة في العقوق قلت لما كانت هذه الذبيحة جارية مجرى فداء المولود كان المشروع فيه دما كاملا لتكون نفس فداء نفس وأيضا فلو صح فيها الاشتراك لما حصل المقصود من إراقة الدم عن الولد فإن إراقة الدم تقع عن واحد ويحصل لباقي الأولاد إخراج اللحم فقط والمقصود نفس الإراقة عن الولد وهذا المعنى بعينه هو الذي لحظة من منع الاشتراك في الهدي والأضحية ولكن سنة رسول الله أحق وأولى أن تتبع وهو الذي شرع الاشتراك في الهدايا وشرع في العقيقة عن الغلام دمين مستقلين لا يقوم مقامهما جزور ولا بقرة والله أعلم
الفصل السادس عشر هل تشرع العقيقة بغير الغنم كالإبل والبقر أم لا
وقد اختلف الفقهاء هل يقوم غير الغنم مقامها في العقيقة قال ابن المنذر واختلفوا في العقيقة بغير الغنم فروينا عن أنس بن مالك أنه كان يعق عن ولده الجزور وعن أبي بكرة أنه نحر عن ابنه عبد الرحمن جزورا فأطعم أهل البصرة ثم ساق عن الحسن قال كان أنس بن مالك يعق عن ولده الجزور ثم ذكر من حديث يحيى بن يحيى أنبانا هشيم عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه أن أبا بكرة ولد له ابنه عبد الرحمن وكان أول مولود ولد في البصرة فنحر عنه جازورا فأطعم أهل البصرة وأنكر بعضهم ذلك وقال أمر رسول الله بشاتين عن الغلام وعن الجارية بشاة ولا يجوز أن يعق بغير ذلك روينا عن يوسف بن ماهك أنه دخل مع ابن أبي مليكة على حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر وولدت للمنذر بن الزبير غلاما فقلت هلا عقيت جزورا فقالت معاذ الله كانت عمتي تقول عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة وقال مالك الضأن في العقيقة أحب إلي من البقر والغنم أحب إلي من الإبل والبقر والإبل في الهدي أحب إلي من الغنم والإبل في الهدي أحب إلي من البقر قال ابن المنذر ولعل حجة من رأى أن العقيقة تجزىء بالإبل والبقر قول النبي مع الغلام عقيقته فأهريقوا عنه دما ولم يذكر دما دون دم فما ذبح عن المولود على ظاهر هذا الخبر يجزيء قال ويجوز أن يقول قائل إن هذا مجمل وقول النبي عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة مفسر والمفسر أولى من المجمل
الفصل السابع عشر في بيان مصرفها
قال الخلال في جامعه في باب ذكر ما يتصدق به من العقيقة ويهدى أخبرنا عبد الله بن أحمد أن أباه قال العقيقة تؤكل ويهدى منها أخبرنا عصمة بن عصام حدثنا حنبل قال سمعت أبا عبد الله يسأل عن العقيقة كيف يصنع بها قال كيف شئت قال وكان ابن سيرين يقول اصنع ما شئت قيل له يأكلها أهلها قال نعم ولا تؤكل كلها ولكن يأكل ويطعم وكذلك قال في رواية الأثرم وقال في رواية أبي الحارث وصالح ابنه يأكل ويطعم جيرانه وقال له ابنه عبد الله كم يقسم من العقيقة قال ما أحب وقال الميموني سألت أبا عبد الله أيؤكل من العقيقة قال نعم يؤكل منها قلت كم قال لا أدري أما الأضاحي فحديث ابن مسعود وابن عمر ثم قال لي ولكن العقيقة يؤكل منها قلت يشبهها في أكل الأضحية قال نعم يؤكل منها وقال الميموني قال أبو عبد الله يهدي ثلث الأضحية إلى الجيران قلت الفقراء من الجيران قال بلى فقراء الجيران قال تشبه العقيقه به قال نعم من شبه به فليس ببعيد قال الخلال وأخبرني محمد بن علي حدثنا الأثرم أن عبد الله قيل له في العقيقة يدخر منها مثل الأضاحي قال لا أدري أخبرني منصور أن جعفرا حدثهم قال سمعت أبا عبد الله يسأل عن العقيقة قيل يبعث منها إلى القابلة بشيء أراه قال نعم وأخبرني عبد الملك أنه سمع أبا عبد الله يقول ويهدى إلى القابلة منها يحكى أنه أهدى إلى القابلة حين عق عن الحسين يعني النبي قال الخلال أخبرنا محمد بن أحمد قال حدثني أبي حدثنا حفص بن غياث حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي أمرهم أن يبعثوا إلى القابلة برجل من العقيقة ورواه البيهقي من حديث حسين بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي أن رسول الله أمر فاطمة فقال زني شعر الحسين وتصدقي بوزنه فضة وأعطي القابلة رجل العقيقة رواه الحميدي عن حسين بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا أعطى القابلة رجل العقيقة واختلف هل يدعى إليها الناس كما يفعل بالوليمة أو يهدي ولا يدعو الناس إليها فقال أبو عمر بن عبد البر قول مالك إنه يكسر عظامها ويطعم منها الجيران ولا يدعى الرجال كما يفعل بالوليمة ولا أعرف غيره كره ذلك والله أعلم
الفصل الثامن عشر في حكم اجتماع العقيقة والأضحية
قال الخلال باب ما روي أن الأضحية تجزىء عن العقيقة أخبرنا عبد الملك الميموني أنه قال لأبي عبد الله يجوز أن يضحى عن الصبي مكان العقيقة قال لا أدري ثم قال غير واحد يقول به قلت من التابعين قال نعم وأخبرني عبد الملك في موضع آخر قال ذكر أبو عبد الله أن بعضهم قال فإن ضحى أجزأ عن العقيقة وأخبرنا عصمة ابن عصام حدثنا حنبل أن أبا عبد الله قال أرجو أن تجزىء الأضحية عن العقيقة إن شاء الله تعالى لمن لم يعق وأخبرني عصمة بن عصام في موضع آخر قال حدثنا حنبل أن أبا عبد الله قال فإن ضحى عنه أجزأت عنه الضحية من العقوق قال ورأيت أبا عبد الله اشترى أضحية ذبحها عنه وعن أهله وكان ابنه عبد الله ضغيرا فذبحها أراه أراد بذلك العقيقة والأضحية وقسم اللحم وأكل منها أخبرنا عبد الله بن أحمد قال سألت أبي عن العقيقة يوم الأضحى تجزىء أن تكون أضحية وعقيقة قال إما أضحية وإما عقيقة على ما سمى وهذا يقتضي ثلاث روايات عن أبي عبد الله إحداها إجزاؤها عنهما والثانية وقوعها عن أحدهما والثالثة التوقف ووجه عدم وقوعها عنهما أنهما ذبحان بسببين مختلفين فلا يقوم الذبح الواحد عنهما كدم المتعة ودم الفدية ووجه الإجزاء حصول المقصود منها بذبح واحد فإن الأضحية عن المولود مشروعة كالعقيقة عنه فإذا ضحى ونوى أن تكون عقيقة وأضحية وقع ذلك عنهما كما لو صلى ركعتين ينوي بهما تحية المسجد وسنة المكتوبة أو صلى بعد الطواف فرضا أو سنة مكتوبة وقع عنه وعن ركعتي الطواف وكذلك لو ذبح المتمتع والقارن شاة يوم النحر أجزأه عن دم المتعة وعن الأضحية والله أعلم
الفصل التاسع عشر في حكم من لم يعق عنه أبواه هل يعق عن نفسه إذا بلغ
قال الخلال باب ما يستحب لمن لم يعق عنه صغيرا أن يعق عن نفسه كبيرا ثم ذكر من مسائل إسماعيل بن سعيد الشالنجي قال سألت أحمد عن الرجل يخبره والده أنه لم يعق عنه هل يعق عن نفسه قال ذلك على الأب ومن مسائل الميموني قال قلت لأبي عبد الله إن لم يعق عنه صغيرا يعق عنه كبيرا فذكر شيئا يروى عن الكبير ضعفه ورأيته يستحسن إن لم يعق عنه صغيرا أن يعق عنه كبيرا وقال أن فعله إنسان لم أكرهه قال وأخبرني عبد الملك في موضع آخر أنه قال لأبي عبد الله فيعق عنه كبيرا قال لم أسمع في الكبير شيئا قلت أبوه كان معسرا ثم أيسر فأراد أن لا يدع ابنه حتى يعق عنه قال لا أدري ولم أسمع في الكبير شيئا ثم قال ومن فعله فحسن ومن الناس من يوجبه قال الخلال أخبرني أبو المثنى العنبري أن أبا داود حدثهم قال سمعت أحمد يحدث بحديث الهيثم بن جميل عن عبد الله بن المثنى عن ثمانة عن أنس أن النبي عق عن نفسه قال أحمد عبد الله بن المحرر عن قتادة عن أنس أن النبي عق عن نفسه منكر وضعف عبد الله بن محرر قال الخلال أنبأنا محمد بن عوف الحمصي حدثنا الهيثم بن جميل حدثنا عبد الله بن المثنى عن رجل من آل أنس أن النبي عق عن نفسه بعد ما جاءته النبوة في مصنف عبد الرزاق أنبأنا عبد الله بن محرر عن قتادة عن أنس أن النبي عق عن نفسه بعد النبوة قال عبد الرزاق إنما تركوا ابن محرر لهذا الحديث
الفصل العشرون في حكم جلدها وسواقطها
قال الخلال أخبرني عبد الملك الميموني أن أبا عبد الله قال له إنسان في العقيقة الجلد والرأس والسقط يباع ويتصدق به قال يتصدق به وقال عبد الله بن أحمد حدثنا أبي حدثنا يزيد حدثنا هشام عن الحسن أنه قال يكره أن يعطي جلد العقيقة والأضحية على يعمل به قلت معناه يكره أن يعطى في أجرة الجازر والطباخ وقد تقدم قوله في رواية حنبل اصنع بها ما شئت وقوله في رواية عبد الله يقسم منها ما أحب وقال أبو عبد الله بن حمدان في رعايته ويجوز بيع جلودها وسواقطها ورأسها والصدقة بثمن ذلك نص عليه وقيل يحرم البيع ولا يصح وقيل ينقل حكم الأضحية إلى العقيقة وعكسه فيكون فيهما روايتان بالنقل والتخريج والتفرقة أشهر وأظهر قلت النص الذي ذكره هو ما ذكرناه من مسائل الميموني وهو محتمل لما ذكره ومحتمل لعكسه أنه يتصدق به دون ثمنه فتأمله إلا أن يكون عنه نص آخر صريح بالبيع وقد قال في رواية جعفر بن محمد وقد سئل عن جلد البقرة في الأضحية فقال وقد روي عن ابن عمر أنه قال يبيعه ويتصدق به وهو مخالف لجلد الشاة يتخذ منه مصلى وهذا لا ينتفع به في البيت قال إن جلد البقرة يبلغ كذا قال الخلال وأخبرني عبد الملك بن عبد الحميد أن أبا عبد الله قال إن ابن عمر باع جلد بقرة وتصدق بثمنه قال وهكذا لا يباع لأن البعير والبقرة ليس ينتفع به أحد يتخذه في البيت يجلس عليه ولا يصلح هاهنا لشيء إنما يباع ويتصدق بثمنه وجلد الشاة يتخذ لضروب وقال الأثرم سمعت أبا عبد الله وذكر قول ابن عمر أنه كان يقول في جلد البقرة يباع ويتصدق به وكأنه يذهب إلى أن ثمنه كثير وقال أبو الحارث سئل أبو عبد الله عن جلد البقرة إذا ضحى بها فقال ابن عمر ويروى عنه يبيعه ويتصدق به وقال اسحاق بن منصور قلت لأبي عبد الله جلود الأضاحي ما يصنع بها قال ينتفع بها ويتصدق بثمنها قلت تباع ويتصدق بثمنها قال نعم حديث ابن عمر وقال المروزي مذهب أبي عبد الله أن لا تباع جلود الأضاحي وأن يتصدق بها واحتج بحديث النبي أنه أمر أن يتصدق بجلودها وأجلتها وقال في روية ؟ حنبل لا بأس أن يتخذ من جلود الأضحية وطاء يقعد عليه ولا يباع إلا أن يتصدق به فقال لا ينتفع بجلود الأضاحي قيل له يأخذه لنفسه ينتفع به قال ما كان واجبا أو كان عليه نذرا وما أشبه هذا فإنه يبيعه ويتصدق بثمنه وما كان تطوعا فإنه ينتفع به في منزله إن شاء قال وقال في رواية جعفر بن محمد يتصدق بجلد الأضحية ويتخذ منه في البت إهابا ولا يبيعه وفي رواية أبي الحارث يتصدق به ويتخذ منه إهابا أو مصلى في البيت وفي رواية ابن منصور يتصدق بجلودها وينتفع بها ولا يبيعها وفي رواية الميموني لا يباع ويتصدق به قالوا له فيبيعه ويتصدق بثمنه قال لا - يتصدق به كما هو وقال أحمد بن القاسم إن أبا عبد الله قال في جلد الأضحية يستحب أن يكون ثمنها في المنخل أو الشيء مما يستعمل في البيت ولا يعطى الجزار قال أبو طالب سألت أبا عبد الله عن جلود الأضاحي قال الشعبي وإبراهيم يقولان لا يبتاع به غربال أو منخل قال يقولون يبتاع بالجلد غربال أو منخل ولا يبيعه ويشتري به قلت يعاوض به قال نعم قلت يعجبك هذا قال إنما يجعله لله و لا يبيعه لأن النبي أمر عليا أن يتصدق بالجلال والجلود قلت فيعطي الذي يذبح قال لا قلت أبيعه وأتصدق به قال لا كان ابن عمر يدفعه إليهم فيبيعونه لأنفسهم قلت أبيعه بثلاثة دراهم وأعطيه ثلاثة مساكين قال اجمعهم وادفعه إليهم قال وكان مسروق وعلقمة يتخذونه مصلى أو شيئا في البيت هذا أرخص ما يكون فيه أن يتخذه في بيته وقال حرب قلت لأحمد رجل أخذ جلد أضحية فقومه وتصدق بثمنه وحبس الجلد قال لا بأس أن يبيع جلد الأضحية وقال الخلال باب استحبابه لبيع جلد البقرة ويتصدق بثمنه أخبرني منصور بن الوليد أن جعفر بن محمد حدثهم أن أبا عبد الله قيل له جلد البقرة قال قد روي عن ابن عمر أنه قال يبيعه ويتصدق به وهو مخالف لجلد الشاة يتخذ منه مصلى وهذا لا ينتفع به في البيت قال إن جلد البقرة يبلغ كذا وقال أبو الحارث إن أبا عبد الله سئل عن جلد البقرة إذا ضحى بها قال ابن عمر يروى عنه أنه قال يبيعه ويتصدق به وقال مهنا سألت أحمد عن الرجل يشتري البقرة يضحي بها يبيع جلدها بعشرين درهما وأكثر من عشرين فيشتري بثمن الجلد أضحية يضحي بها ما ترى في ذلك فقال يروى فيه عن ابن عمر مثل هذا وقال إسحاق بن منصور قلت لأبي عبد الله جلود الأضاحي ما يصنع بها قال ينتفع بها ويتصدق بها وتباع ويتصدق بثمنها قلت تباع ويتصدق بثمنها قال نعم حديث ابن عمر فهذه نصوصه في جلود العقيقة والأضحية وفي الواجب والمستحب كما ترى والله أعلم
الفصل الحادي والعشرون فيما يقال عند ذبحها
قال ابن المنذر ذكر تسمية من يعق عنه حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا أبي حدثنا هشام عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت قال النبي اذبحوا على اسمه فقولوا بسم الله اللهم لك وإليك هذه عقيقة فلان قال ابن المنذر وهذا حسن وإن نوى العقيقة ولم يتكلم به أجزأه إن شاء الله وقال الخلال باب ما يقال عند ذبح العقيقة حدثنا أحمد بن محمد بن مطر وزكريا بن يحيى أن أبا طالب حدثهم أنه سأل أبا عبد الله إذا أراد الرجل أن يعق كيف يقول قال يقول بسم الله ويذبح على النية كما يضحي بنيته يقول هذه عقيقة فلان بن فلان وظاهر هذا أنه اعتبر النية واللفظ جميعا كما يلي ويحرم عن غيره بالنية واللفظ فيقول لبيك اللهم عن فلان أو إحرامي عن فلان ويؤخذ من هذا أنه إذا أهدى له ثواب عمل أن ينويه عنه ويقول اللهم هذا عن فلان أو اجعل ثوابه لفلان وقد قال بعضهم ينبغي أن يعلقه بالشرط فيقول اللهم إن كنت قبلت مني هذا العمل فاجعل ثوابه لفلان لأنه لا يدري اقبل منه أم لا وهذا لا حاجة إليه والحديث يرده فإن النبي لم يقل لمن سمعه يلبي عن شبرمة قل اللهم إن كنت قبلت إحرامي فاجعله عن شبرمة ولا قال لأحد ممن سأله أن يحج عن قريبه ذلك ولا في حديث واحد ألبتة وهدية أولى ما اتبع ولا يحفظ عن أحد من السلف ألبتة أنه علق الإهداء والضحية والعقيقة عن الغير بالشرط بل المنقول عنهم اللهم هذا عن فلان بن فلان وهذا كاف فإن الله سبحانه إنما يوصل إليه ما قبله من العمل شرطه المهدي أو لم يشرطه والله أعلم
الفصل الثاني والعشرون في حكم اختصاصها بالأسابيع
ها هنا أربعة أمور تتعلق بالسابع عقيقته وحلق رأسه وتسميته وختانه فالأولان مستحبان في اليوم السابع اتفاقا وأما تسميته وختانه فيه فمختلف فيهما كما سنذكره إن شاء الله تعالى وقد تقدمت الآثار بذبح العقيقة يوم السابع وحكمة هذا والله اعلم أن الطفل حين يولد يكون أمره مترددا بين السلامة والعطب ولا يدري هل هو من أهل الحياة أم لا إلى أن تأتي عليه مدة يستدل بما يشاهد من أحواله فيها على سلامة بنيته وصحة خلقته وأنه قابل للحياة وجعل مقدار تلك المدة أيام الأسبوع فإنه دور يومي كما أن السنة دور شهري هذا هو الزمان الذي قدره الله يوم خلق السماوات والأرض وهو سبحانه خص أيام تخليق العالم بستة أيام وكنى كل يوم منها اسما يخصه به وخص كل يوم منها بصنف من الخليقة أو جده فيها وجعل يوم إكمال الخلق واجتماعه وهو يوم اجتماع الخليقة مجمعا وعيدا للمؤمنين يجتمعون فيه لعبادته وذكره والثناء عليه وتحميده وتمجيده والتفرغ من أشغال الدنيا لشكره والإقبال على خدمته وذكر ما كان في ذلك اليوم من المبدإ وما يكون فيه من المعاد وهو اليوم الذي استوى فيه الرب تبارك وتعالى على عرشه واليوم الذي خلق الله فيه أبانا آدم واليوم الذي أسكنه فيه الجنة واليوم الذي أخرجه فيه منها واليوم الذي ينقضي فيه أجل الدنيا وتقوم الساعة وفيه يجيء الله سبحانه وتعالى ويحاسب خلقه ويدخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم والمقصود أن هذه الأيام أول مراتب العمر فإذا استكملها المولود انتقل إلى المرتبة الثانية وهي الشهور فإذا استكملها انتقل إلى الثالثة وهي السنين فما نقص عن هذه الأيام فغير مستوف للخليقة وما زاد عليها فهو مكرر يعاد عند ذكره اسم ما تقدم من عدده فكانت الستة غاية لتمام الخلق وجمع في آخر اليوم السادس منها فجعلت تسمية المولود وإماطة الأذى عنه وفديته وفك رهانه في اليوم السابع كما جعل الله سبحانه اليوم السابع من الأسبوع عيدا لهم يجتمعون فيه مظهرين شكره وذكره فرحين بما آتاهم الله من فضله من تفضيله لهم على سائر الخلائق المخلوقة في الأيام قبله فإن الله سبحانه أجرى حكمته بتغير حال العبد في كل سبعة أيام وانتقاله من حال إلى حال فكان السبعة طورا من أطواره وطبقا من أطباقه ولهذا تجد المريض تتغير أحواله في اليوم السابع ولا بد إما إلى قوة وإما إلى انحطاط ولما اقتضت حكمته سبحانه ذلك شرع لعباده كل سبعة أيام يوما يرغبون فيه إليه يتضرعون إليه ويدعونه فيكون ذلك من أعظم الأسباب في صلاحهم وفي معاشهم ومعادهم ودفع كثير من الشرور عنهم فسبحان من بهرت حكمته العقول في شرعه وخلقه والله أعلم الباب
السابع
في حلق رأسه والتصدق بوزن شعره
قال أبو عمر بن عبد البر أما حلق رأس الصبي عند العقيقة فإن العلماء كانوا يستحبون ذلك وقد ثبت عن النبي أنه قال في حديث العقيقة ويحلق رأسه ويسمى وقال الخلال في الجامع ذكر رأس الصبي والصدقة بوزن شعره أخبرني محمد بن علي حدثنا صالح أن أباه قال يستحب أن يحلق يوم سابعه وروى الحسن عن سمرة عن النبي يحلق رأسه وروى سلمان بن عامر عن النبي أميطوا عنه الأذى قال وسئل الحسن عن قوله أميطوا عنه الأذى قال يحلق رأسه وقال حنبل سمعت أبا عبد الله يقول يحلق رأس الصبي وقال الفضل بن زياد قلت لأبي عبد الله يحلق رأس الصبي قال نعم قلت فيدمى قال لا هذا من فعل الجاهلية وقال صالح بن أحمد قال أبي إن فاطمة رضي الله عنها حلقت رأس الحسن والحسين وتصدقت بوزن شعرهما ورقا وقال حنبل سمعت أبا عبد الله قال لا بأس أن يتصدق بوزن شعر الصبي وقد روى مالك في موطئه عن جعفر بن محمد عن أبيه قال وزنت فاطمة شعر حسن وحسين وزينب وأم كلثوم فتصدقت بزنة ذلك فضة وفي الموطأ أيضا عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن محمد بن علي بن حسين أنه قال وزنت فاطمة بنت رسول الله شعر حسن وحسين فتصدقت بزنته فضة وقال يحيى بن بكير حدثنا ابن لهيعة عن عمارة ابن عزية عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أنس بن مالك أن رسول الله أمر برأس الحسن والحسين يوم سابعهما فحلقا وتصدق بوزنه فضة وقال عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال سمعت محمد بن علي يقول كانت فاطمة ابنة رسول الله لا يولد لها ولد إلا أمرت بحلق رأسه وتصدقت بوزن شعره ورقا قال أبو عمر قال عطاء يبدأ بالحلق قبل الذبح قلت وكأنه والله أعلم قصد بذلك تمييزه عن مناسك الحاج وأن لا يشبه به فإن السنة في حقه أن يقدم النحر على الحلق ولا أحفظ عن غير عطاء في ذلك شيئا وقد ذكر ابن اسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن محمد بن علي ابن الحسين عن علي قال عق رسول الله عن الحسن شاة وقال يا فاطمة احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضة فوزناه فكان وزنه درهما أو بعض درهم وقد ذكر البيهقي من حديث ابن عقيل عن ابن أبي الحسين عن أبي رافع أن حسنا حين ولدته أمه أرادت أن تعق عنه بكبش عظيم فأتت النبي فقال لا تعقي عنه بشيء ولكن احلقي شعر رأسه ثم تصدقي بوزنه من الورق في سبيل الله أو على ابن السبيل وولدت الحسين من العام المقبل فصنعت مثل ذلك قال البيهقي إن صح فكأنه أراد أن يتولى العقيقة عنها بنفسه كما روينا
فصل
ويتعلق بالحلق مسألة القزع وهي حلق بعض رأس الصبي وترك بعضه وقال أخرجاه في الصحيحين من حديث عبيد الله بن عمر عن عمر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال نهى رسول الله عن القزع والقزع أن يحلق بعض رأس الصبي ويدع بعضه قال شيخنا وهذا من كمال محبة الله ورسوله للعدل فإنه أمر به حتى في شأن الانسان مع نفسه فنهاه أن يحلق بعض رأسه ويترك بعضه لأنه ظلم للرأس حيث ترك بعضه كاسيا وبعضه عاريا ونظير هذا أنه نهى عن الجلوس بين الشمس والظل فإنه ظلم لبعض بدنه ونظيره نهى أن يمشي الرجل في نعل واحدة بل إما أن ينعلهما أو يحفيهما والقزع أربعة أنواع أحدها أن يحلق من رأسه مواضع من ها هنا وها هنا مأخوذ من تقزع السحاب وهو تقطعه الثاني أن يحلق وسطه ويترك جوانبه كما يفعله شمامسة النصارى الثالث أن يحلق جوانبه ويترك وسطه كما يفعله كثير من الأوباش والسفل الرابع أن يحلق مقدمه ويترك مؤخره وهذا كله من القزع والله أعلم
الباب الثامن
في ذكر تسميته وأحكامها ووقتها وفيه عشرة فصول
1 - الفصل الأول في وقت التسمية 2 - الفصل الثاني فيما يستحب من الأسماء وما يحرم منها وما يكره 3 - الفصل الثالث في استحباب تغير الاسم إلى غيره لمصلحة 4 - الفصل الرابع في جواز تكنية المولود بأبي فلان 5 - الفصل الخامس في أن التسمية حق للأب دون الأم 6 - الفصل السادس في الفرق بين الاسم والكنية واللقب 7 - الفصل السابع في حكم التسمية باسم نبينا والتكني بكنيته إفرادا وجمعا وذكر الأحاديث في ذلك 8 - الفصل الثامن في جواز التسمية بأكثر من اسم واحد 9 - الفصل التاسع في بيان ارتباط معنى الاسم بالمسمى والمناسبة التي بينهما 10 - الفصل العاشر في بيان أن الخلق يدعون يوم القيامة بآبائهم لا بأمهاتهم
الفصل الأول في وقت التسمية
قال الخلال في جامعه باب ذكر تسمية الصبي أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد قال تذاكرنا لكم يسمى الصبي فقال لنا أبو عبد الله أما ثابت فروى عن أنس أنه يسمى لثلاثة وأما سمرة فيسمى يوم السابع يعني حديث سمرة فيقتضي التسمية يوم السابع أخبرني جعفر بن محمد أن يعقوب بن بختان حدثهم أن أبا عبد الله قال حديث أنس يسمى لثلاثة وحديث سمرة قال يسمى يوم سابعه حدثنا محمد بن علي حدثنا صالح أن أباه قال كان يستحب أن يسمى يوم السابع وذكر حديث سمرة وقال ابن المنذر في الأسط ذكر تسمية المولود يوم سابعه جاء الحديث عن النبي أنه أمر أن يسمى المولود يوم سابعه وقد ذكرنا إسناده من حديث عبد الله بن عمرو قلت أراد حديث أبي إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أمر رسول الله حين سابع المولود بتسميته وعقيقته ووضع الأذى عنه وقد تقدم ذكره 000 وذكر حديث سمرة وقال البيهقي في سننه باب تسمية المولود حين يولد وهو أصح من السابع ثم روى من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة إلى رسول الله حين ولد ورسول الله يهنأ بعيرا له فقال له هل معك تمر قلت نعم فناولته تمرات فألقاهن في فيه فلا كهن ثم فغر فا الصبي فمجه في فيه فجعل الصبي يتلمظه فقال النبي حب الأنصار التمر أخرجاه في الصحيحين من حديث أنس بن سيرين عن أنس بن مالك وذكر حديث بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى قال ولد لي غلام فأتيت به النبي فسماه إبراهيم وحنكه بتمرة قلت وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد الساعدي قال أتي بالمنذر بن أبي أسيد إلى رسول الله حين ولد فوضعه النبي على فخذه وأبو أسيد جالس فلهى النبي بشيء بين يديه فأمر أبو أسيد بابنه فاحتمل من على فخذ النبي فقال رسول الله أين الصبي فقال أبو أسيد قلبناه يا رسول الله فقال ما أسمه قال فلان قال لا ولكن اسمه المنذر وفي صحيح مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال قال رسول الله ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم وذكر باقي الحديث في قصة موته وقال أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب ولدت له مارية القبطية سريته إبراهيم في ذي الحجة سنة ثمان وذكر الزبير عن أشياخه أن أم إبراهيم ولدت بالعالية وعق عنه بكبش يوم سابعه وحلق رأسه حلقه أبو هند فتصدق بزنة شعره فضة على المساكين وأمر بشعره فدفن في الأرض وسماه يومئذ هكذا قال الزبير وسماه يوم سابعه والحديث المرفوع أصح من قوله وأولى ثم ذكر حديث أنس وكانت قابلتها سلمى مولاة رسول الله فخرجت إلى زوجها أبي رافع فأخبرته أن مارية ولدت غلاما فجاء أبو رافع إلى رسول الله فبشره فوهب له عبدا قلت وفي قصة مارية وإبراهيم أنواع من السنن أحدها استحباب قبول الهدية الثاني قبول هدية أهل الكتاب الثالث قبول هدية الرقيق الرابع جواز التسري الخامس البشارة لمن ولد له مولود بولده السادس استحباب إعطاء البشير بشراه السابع العقيقة عن المولود الثامن كونها يوم سابعه التاسع حلق رأسه العاشر التصدق بزنة شعره ورقا الحادي عشر دفن الشعر في الأرض ولا يلقى تحت الأرجل الثاني عشر تسمية المولود يوم ولادته الثالث عشر جواز دفع الطفل إلى غير أمه ترضعه وتحضنه الرابع عشر عيادة الوالد ولده الطفل فإن النبي لما سمع بوجعه انطلق إليه يعوده في بيت أبي سيف القين فدعا به وضمه إليه وهو يكبد بنفسه فدمعت عيناه وقال تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضى الرب و إنا بك يا إبراهيم لمحزونون الخامس عشر جواز البكاء على الميت بالعين وقد ذكر في مناقب الفضيل ابن عياض أنه ضحك يوم مات ابنه علي فسئل عن ذلك فقال إن الله تعالى قضى بقضاء فأحببت أن أرضى بقضائه وهدي رسول الله أكمل وأفضل فإنه جمع بين الرضى بقضاء ربه تعالى وبين رحمة الطفل فإنه لما قال له سعد بي عبادة ما هذا يا رسول الله قال هذه رحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء والفضيل ضاق عن الجمع بين الأمرين فلم يتسع للرضا بقضاء الرب وبكاء الرحمة للولد هذا جواب شيخنا سمعته منه السادس عشر جواز الحزن على الميت وأنه لا ينقص الأجر ما لم يخرج إلى قول أو عمل لا يرضي الرب أو ترك قول أو عمل يرضيه السابع عشر تغسيل الطفل فإن أبا عمر وغيره ذكروا أن مرضعته أم بردة امرأة أبي سيف غسلته حملته من بيتها على سرير صغير إلى لحده الثامن عشر الصلاة على الطفل قال أبو عمر وصلى عليه رسول الله وكبر عليه أربعا هذا قول جمهور أهل العلم وهو الصحيح وكذلك قال الشعبي مات إبراهيم ابن النبي وهو ابن ستة عشر شهرا فصلى عليه النبي وروى ابن اسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عائشة أن رسول الله دفن ابنه إبراهيم ولم يصل عليه قال وهذا غير صحيح لأن الجمهور قد أجمعوا على الصلاة على الأطفال اذا استهلوا وراثة وعملا مستفيضا عن السلف والخلف ولا أعلم أحدا جاء عنه غير هذا إلا عن سمرة بن جندب قال وقد يحتمل أن يكون معنى حديث عائشة أنه لم يصل عليه في جماعة وأمر أصحابه فصلوا عليه ولم يحضرهم فلا يكون مخالفا لما عليه العلماء في ذلك وهو أولى ما حمل عليه انتهى وقد قال غيره إنه اشتغل عن الصلاة عليه بأمر الكسوف وصلاته فإن الشمس كسفت يوم موته فشغل بصلاة الكسوف فإن الناس قالوا كسفت الشمس لموت ابراهيم فخطب النبي خطبة الكسوف وقال فيها إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن يخوف الله بهما عباده وقد قال أبو داود في سننه باب الصلاة على الطفل ثم ساق حديث عائشة من طريق محمد بن إسحاق قال مات إبراهيم ابن النبي وهو ابن ثمانية عشر شهرا فلم يصل عليه النبي 000 ثم ساق في الباب عن البهي قال لما مات إبراهيم ابن النبي صلى عليه رسول الله في المقاعد وهذا مرسل والبهي هو أبو محمد عبد الله بن يسار مولى مصعب بن الزبير تابعي ثم ذكر بعده عن عطاء بن أبي رباح أن النبي صلى على ابنه إبراهيم وهو ابن سبعين ليلة وهذا مرسل أيضا وكأنه وهم والله أعلم في مقدار عمره وقال البيهقي هذه الآثار وإن كانت مراسيل فهي تشبه الموصول ويشد بعضها بعضا وقد أثبتوا صلاة رسول الله على ابنه إبراهيم وذلك أولى من رواية من روى أنه لم يصل عليه والموصول الذي أشار إليه هو حديث البراء بن عازب قال صلى رسول الله على ابنه إبراهيم ومات وهو ابن ستة عشر شهرا وقال إن في الجنة مرضعا تتم رضاعه وهو صديق وهذا حديث لا يثبت لأنه من رواية جابر الجعفي ولا يحتج بحديثه ولكن هذا الحديث مع مرسل البهي وعطاء والشعبي يقوي بعضها بعضا وكان بعض الناس يقول إنما ترك الصلاة عليه لاستغنائة عنها بأبوة رسول الله كما استغنى الشهداء عنها بشهادتهم وهذا من أفسد الأقوال وأبعدها عن العلم فإن الله سبحانه شرع الصلاة على الأنبياء والصديقين وقد صلى الصحابة على رسول الله والشهيد إنما تركت الصلاة عليه لأنها تكون بعد الغسل وهو لا يغسل التاسع عشر إن الشمس كسفت يوم موته فقال الناس كسفت لموت إبراهيم فخطب النبي خطبة الكسوف وقال إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته وفيه رد على من قال إنه مات يوم عاشر المحرم فإن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة التي أوجبتها حكمته بأن الشمس إنما تكسف ليالي السرار كما أن القمر إنما يكسف في الأبدار كما أجرى العادة بطلوع الهلال أول الشهر وإبداره في وسطه وامحاقه في آخره العشرون أن النبي أخبر أن له مرضعا تتم رضاعة في الجنة وهذا يدل على أن الله تعالى يكمل لأهل السعادة من عبادة بعد موتهم النقص الذي كان في الدنيا وفي ذلك آثار ليس هذا موضعها حتى قيل إن من مات وهو طالب للعلم كما له حصوله بعد موته وكذلك من مات وهو يتعلم القرآن والله أعلم الحادي والعشرون أن النبي أوصى بالقبط خيرا وقال إن لهم ذمة ورحما فإن سريتي الخليلين الكريمين إبراهيم ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه كانتا منهم وهما هاجر ومارية فأما هاجر فهي أم إسماعيل أبي العرب فهذا الرحم وأما الذمة فما حصل من تسري النبي بمارية و إيلادها إبراهيم وذلك ذمام يجب على المسلمين رعايته ما لم تضيعه القبط والله اعلم وقد روى البخاري في صحيحه عن السدي قال سالت انس بن مالك كم كان بلغ إبراهيم ابن النبي قال كان قد ملأ مهده ولو بقي لكان نبيا ولكن لم يكن ليبقى لأن نبيكم آخر الأنبياء وقد روى عيسى بن يونس عن ابن أبي خالد قال قلت لابن أبي أوفى أرأيت إبراهيم ابن النبي قال مات وهو صغير ولو قدر أن يكون بعد محمد نبي لعاش ولكنه لا نبي بعد محمد قال ابن عبد البر ولا أدري ما هذا وقد ولد نوح عليه السلام من ليس بنبي وكما يلد غير النبي نبيا فكذلك يجوز أن يلد النبي غير نبي ولو لم يلد النبي إلا نبيا لكان كل أحد نبيا لأنه من ولد نوح وآدم نبي مكلم ما أعلم في ولده لصلبه نبيا غير شيث والله أعلم وهذا فصل معترض يتعلق بوقت تسمية المولود ذكرناه استطرادا فلنرجع إلى مقصود الباب فنقول إن التسمية لما كانت حقيقتها تعريف الشيء المسمى لأنه إذا وجد وهو مجهول الاسم لم يكن له ما يقع تعريفه به فجاز تعريفه يوم وجوده وجاز تأخير التعريف إلى ثلاثة أيام وجاز إلى يوم العقيقة عنه ويجوز قبل ذلك وبعده والأمر فيه واسع
الفصل الثاني فيما يستحب من الأسماء وما يكره منها
عن أبي الدرداء قال قال رسول الله إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وبأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم رواه أبو داود بإسناد حسن وعن ابن عمر قال رسول الله إن أحب أسمائكم إلى الله عز و جل عبد الله وعبد الرحمن رواه مسلم في صحيحه وعن جابر قال ولد لرجل منا غلام فسماه القاسم فقلنا لا نكنيك أبا القاسم ولا كرامة فأخبر النبي فقال سم ابنك عبد الرحمن - متفق عليه وعن أبي وهب الجشمي قال قال رسول الله تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة قال أبو محمد بن حزم اتفقوا على استحسان الأسماء المضافة إلى الله كعبد الله وعب الرحمن وما أشبه ذلك فقد اختلف الفقهاء في أحب الأسماء إلى الله فقال الجمهور أحبها إليه عبد الله وعبد الرحمن قال سعيد بن المسيب أحب الأسماء إليه أسماء الأنبياء والحديث الصحيح يدل على أن أحب الأسماء إليه عبد الله وعبد الرحمن
فصل
وأما المكروه منها والمحرم فقال أبو محمد بن حزم اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد العزى وعبد هبل وعبد عمرو وعبد الكعبة وما أشبه ذلك حاشا عبد المطلب انتهى فلا تحل التسمية ب عبد علي ولا عبد الحسين ولا عبد الكعبة وقد روى ابن أبي شيبة حديث يزيد بن المقدام بن شريح عن المقدام بن شريح عن أبيه عن جده هانىء بن يزيد قال وفد على النبي قوم فسمعهم يسمون عبد الحجر فقال له ما اسمك فقال عبد الحجر فقال له رسول إنما أنت عبد الله فإن قيل كيف يتفقون على تحريم الاسم المعبد لغير الله وقد صح عنه أنه قال تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد القطيفة وصح أنه قال أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب ودخل عليه رجل وهو جالس بين أصحابه فقال أيكم ابن عبد المطلب فقالوا هذا وأشاروا إليه فالجواب أما قوله تعس عبد النار فلم يرد به الاسم وإنما أراد به الوصف والدعاء على من يعبد قلبه الدينار والدرهم فرضي بعبوديتها عن عبودية ربه تعالى وذكر الأثمان والملابس وهما جمال الباطن والظاهر أما قوله أنا ابن عبد المطلب فهذا ليس من باب إنشاء التسمية بذلك وإنما هو باب الإخبار بالاسم الذي عرف به المسمى دون غيره والأخبار بمثل ذلك على وجه تعريف المسمى لا يحرم ولا وجه لتخصيص أبي محمد بن حزم ذلك بعبد المطلب خاصة فقد كان الصحابة يسمون بني عبد شمس وبني عبد الدار بأسمائهم ولا ينكر عليهم النبي فباب الإخبار أوسع من باب الإنشاء فيجوز ما لا يجوز في الإنشاء فصل ومن المحرم التسمية بملك الملوك وسلطان السلاطين وشاهنشاه فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي قال إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك وفي رواية أخنى بدل أخنع وفي رواية لمسلم أغيظ رجل عند الله يوم القيامة وأخبثه رجل كان يسمى ملك الأملاك لا ملك إلا الله ومعنى أخنع وأخنى أوضع وقال بعض العلماء وفي معنى ذلك كراهية التسمية بقاضي القضاء وحاكم الحكام فان حاكم الحكام في الحقيقة هو الله وقد كان جماعة من أهل الدين والفضل يتورعون عن إطلاق لفظ قاضي القضاة وحاكم الحكام قياسا على ما يبغضه الله ورسوله من التسمية بملك الأملاك وهذا محض القياس وكذلك تحرم التسمية بسيد الناس وسيد الكل كما يحرم سيد ولد آدم فان هذا ليس لأحد إلا لرسول الله وحده فهو سيد ولد آدم فلا يحل لأحد أن يطلق على غيره ذلك
فصل
ومن الأسماء المكروهة ما رواه مسلم في صحيحه عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله لا تسمين غلامك يسارا ولا رباحا ولا نجاحا ولا أفلح فانك تقول أثم هو فلا يكون فيقول لا إنما هن أربع لا تزيدن علي وهذه الجملة الأخيرة ليست من كلام رسول الله وإنما هي من كلام الراوي وفي سنن أبي داود من حديث جابر بن عبد الله قال أراد النبي أن ينهى أن يسمى ب يعلى وبركة وأفلح ويسار ونافع وبنحو ذلك ثم رأيته سكت بعد عنها فلم يقل شيئا ثم قبض ولم ينه عن ذلك ثم أراد عمر أن ينهى عن ذلك ثم تركه وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن عبيد عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال رسول الله إن عشت إن شاء الله أنهى أمتي أن يسموا نافعا وأفلح وبركة قال الأعمش لا أدري أذكر نافعا أم لا وفي سنن ابن ماجة من حديث أبي الزبير عن جابر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله إن عشت إن شاء الله لأنهين أمتي أن يسموا رباحا ونجيحا وأفلح ويسارا قلت وفي معنى هذا مبارك ومفلح وخير وسرور ونعمة وما أشبه ذلك فإن المعنى الذي كره له النبي التسمية بتلك الأربع موجود فيها فانه يقال أعندك خير أعندك سرور أعندك نعمة فيقول لا فتشمئز القلوب من ذلك وتتطير به وتدخل في باب المنطق المكروه وفي الحديث أنه كره أن يقال خرج من عند برة مع أن فيه معنى آخر يقتضي النهي وهو تزكية النفس بأنه مبارك ومفلح وقد لا يكون كذلك كما روى أبو داود في سننه أن رسول الله نهى أن يسمى برة وقال لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم وفي سنن ابن ماجة عن أبي هريرة أن زينب كان اسمها برة فقيل تزكي نفسها فسماها النبي زينب فصل ومنها التسمية بأسماء الشياطين كخنزب والولهان والأعور والأجدع قال الشعبي عن مسروق لقيت عمر بن الخطاب فقال من أنت قلت مسروق بن الأجدع فقال عمر رضي الله عنه سمعت رسول الله يقول الأجدع شيطان وفي سنن ابن ماجة وزيادات عبد الله في مسند أبيه من حديث أبي بن ابن كعب عن النبي قال إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء وشكي إليه عثمان بن أبي العاص من وسواسه في الصلاة فقال ذلك شيطان يقال له خنزب وذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن هشام عن أبيه أن رجلا كان اسمه الحباب فسماه رسول الله عبد الله وقال الحباب شيطان
فصل
ومنها أسماء الفراعنة والجبابرة كفرعون وقارون وهامان والوليد قال عبد الرزاق في الجامع أخبرنا معمر عن الزهري قال أراد رجل أن يسمي ابنا له الوليد فنهاه رسول الله وقال انه سيكون رجل يقال له الوليد يعمل في أمتي بعمل فرعون في قومه فصل ومنها كأسماء الملائكة كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل فإنه يكره تسمية الآدميين بها قال أشهب سئل مالك عن التسمي بجبريل فكره ذلك ولم يعجبه وقال القاضي عياض قد استظهر بعض العلماء التسمي بأسماء الملائكة وهو قول الحارث بن مسكين قال وكره مالك التسمي بجبريل وياسين وأباح ذلك غيره قال عبد الرزاق في الجامع عن معمر قال قلت لحماد بن أبي سليمان كيف تقول في رجل تسمى بجبريل وميكائيل فقال لا بأس به قال البخاري في تاريخه قال أحمد بن الحارث حدثنا أبو قتادة الشامي ليس بالحراني مات سنة أربع وستين ومائة حدثنا عبد الله بن جراد قال صحبني رجل من مزينة فأتى النبي وأنا معه فقال يا رسول الله ولد لي مولود فما خير الأسماء قال إن خير الأسماء لكم الحارث وهمام ونعم الاسم عبد الله وعبد الرحمن وتسموا بأسماء الأنبياء ولا تسموا بأسماء الملائكة قال وباسمك قال وباسمي ولا تكنوا بكنيتي وقال البيهقي قال البخاري في غير هذه الرواية في إسناده نظر
فصل
ومنها الأسماء التي لها معان تكرهها النفوس ولا تلائمها كحرب ومرة وكلب وحية وأشبهاهها وقد تقدم الأثر الذي ذكره مالك في موطئه أن رسول الله قال للقحة من يحلب هذه فقام رجل فقال أنا فقال ما اسمك قال الرجل مرة فقال له اجلس ثم قال من يحلب هذه فقام رجل آخر فقال له ما اسمك قال حرب فقال له اجلس ثم قال من يحلب هذه فقام رجل فقال أنا قال ما اسمك قال يعيش فقال له رسول الله احلب فكره مباشرة المسمى بالاسم المكروه لحلب الشاة وقد كان النبي يشتد عليه الاسم القبيح ويكرهه جدا من الأشخاص والأماكن والقبائل والجبال حتى انه مر في مسيرله بين جبلين فسأل عن اسمهما فقيل له فاضح ومخز فعدل عنهما ولم يمر بينهما وكان شديد الاعتناء بذلك ومن تأمل السنة وجد معاني في الأسماء مرتبطة بها حتى كأن معانيها مأخوذة منها وكأن الأسماء مشتقة من معانيها فتأمل قوله أسلم سالمها الله وغفار غفر الله لها وعصية عصت الله وقوله لما جاء سهيل بن عمرو يوم الصلح سهل أمركم وقوله لبريدة لما سأله عن اسمه فقال بريدة قال يا أبا بكر برد أمرنا ثم قال ممن أنت قال من أسلم فقال لأبي بكر سلمنا ثم قال ممن قال من سهم قال خرج سهمك ذكره أبو عمر في استذكاره حتى انه كان يعتبر ذلك في التأويل فقال رأيت كأنا في دار عقبة بن رافع فأتينا برطب من رطب ابن طالب فأولت العاقبة لنا في الدنيا والرفعة وأن ديننا قد طاب وإذا أردت أن تعرف تأثير الأسماء في مسمياتها فتأمل حديث سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده قال أتيت إلى النبي فقال ما اسمك قلت حزن فقال أنت سهل قال لا أغير اسما سمانيه أبي قال ابن المسيب فما زالت تلك الحزونة فينا بعد رواه البخاري في صحيحه والحزونة الغلظة ومنه أرض حزنة وأرض سهلة وتأمل ما رواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرجل ما اسمك قال جمرة قال ابن من قال ابن شهاب قال ممن قال من الحرقة قال أين مسكنك قال بحرة النار قال بأيتها قال بذات لظى قال عمر أدرك أهلك فقد احترقوا فكان كما قال عمر هذه رواية مالك ورواه الشعبي فقال جاء رجل من جهينة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال ما اسمك قال شهاب قال ابن من قال ابن ضرام قال ممن قال من الحرقة منزلك قال قال أين بحرة النار قال ويحك أدرك منزلك وأهلك فقد أحرقتهم قال فأتاهم فألفاهم قد احترق عامتهم وقد استشكل هذا من لم يفهمه وليس بحمد الله مشكلا فإن مسبب الأسباب جعل هذه المناسبات مقتضيات لهذا الأثر وجعل اجتماعها على هذا الوجه الخاص موجبا له وأخر اقتضاءها لأثرها إلى أن تكلم به من ضرب الحق على لسانه ومن كان الملك ينطق على لسانه فحينئذ كمل اجتماعها وتمت فرتب عليها الأثر ومن كان له في هذا الباب فقه نفس انتفع به غاية الانتفاع فإن البلاء موكل بالمنطق قال أبو عمر وقد قال النبي البلاء موكل بالقول ومن البلاء الحاصل بالقول قول الشيخ البائس الذي عاده النبي فرأى عليه حمى فقال لا بأس طهور إن شاء الله فقال بل حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور فقال رسول الله فنعم إذا وقد رأينا من هذا عبرا فينا وفي غيرنا والذي رأيناه كقطرة في بحر وقد قال المؤمل الشاعر شف المؤمل يوم النقلة النظر ... ليت المؤمل لم يخلق له البصر فلم يلبث أن عمي وفي جامع ابن وهب أن رسول الله أتي بغلام فقال ما سميتم هذا قالوا السائب فقال لا تسموه السائب ولكن عبد الله قال فغلبوا على اسمه فلم يمت حتى ذهب عقله فحفظ المنطق وتحيز الأسماء من توفيق الله للعبد وقد أمر النبي من تمنى أن يحسن أمنيته وقال إن أحدكم لا يدري ما يكتب له من أمنيته أي ما يقدر له منها وتكون أمنيته سبب حصول ما تمنهاه أو بعضه وقد بلغك أو رأيت أخبار كثير من المتمنين أصابتهم أمانيهم أو بعضها وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يتمثل بهذا البيت احذر لسانك أن يقول فتبتلى ... إن البلاء موكل بالمنطق ولما نزل الحسين وأصحابه بكربلاء سأل عن أسمها فقيل كربلاء فقال كرب وبلاء ولما وقفت حليمة السعدية على عبد المطلب تسأله رضاع رسول الله قال لها من أنت قال امرأة من بني سعد قال فما اسمك قالت حليمة فقال بخ بخ سعد وحلم هاتان خلتان فيهما غناء الدهر وذكر سليمان بن أرقم عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال بعث ملك الروم إلى النبي رسولا وقال انظر أين تراه جالسا ومن إلى جنبه وانظر إلى ما بين كتفيه قال فلما قدم رأى رسول الله جالسا على نشز واضعا قدميه في الماء عن يمينه أبو بكر فلما رآه النبي قال تحول فانظر ما أمرت به فنظر إلى الخاتم ثم رجع إلى صاحبه فأخبره الخبر فقال ليعلمون أمره وليملكن ما تحت قدمي فينال بالنشز العلو وبالماء الحياة وقال عوانة بن الحكم لما دعا ابن الزبير إلى نفسه قام عبد الله بن مطيع ليبايع فقبض عبد الله بن الزبير يده وقال لعبيد الله علي بن أبي طالب قم فبايع فقال عبيد الله قم يا مصعب فبايع فقام فبايع فقال الناس أبى أن يبايع ابن مطيع وبايع مصعبا ليجدن في أمره صعوبة وقال سلمة ابن محارب نزل الحجاج دير قرة ونزل عبد الرحمن بن الأشعث دير الجماجم فقال الحجاج استقر الأمر في يدي وتجمجم به أمره والله لأقتلنه وهذا باب طويل عظيم النفع نبهنا عليه أدنى تنبيه والمقصود ذكر الأسماء المكروهة والمحبوبة فصل ومما يمنع تسمية الإنسان به أسماء الرب تبارك وتعالى فلا يجوز التسمية بالأحد والصمد ولا بالخالق ولا بالرازق وكذلك سائر الأسماء المختصة بالرب تبارك وتعالى ولا تجوز تسمية الملوك بالقاهر والظاهر كما لا يجوز تسميتهم بالجبار والمتكبر والأول والآخر والباطن وعلام الغيوب وقد قال أبو داود في سننه حدثنا الربيع بن نافع عن يزيد بن المقدام ابن شريح عن أبيه عن جده شريح عن أبيه هانىء أنه لما وفد إلى رسول الله إلى المدينة مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم فدعاه فقال إن الله هو الحكم وإليه الحكم فلم تكنى أبا الحكم فقال إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين فقال رسول الله ما أحسن هذا فما لك من الولد قال لي شريح ومسلمة وعبد الله قال فمن أكبرهم قلت شريح قال فأنت أبو شريح وقد تقدم ذكر الحديث الصحيح أغيظ رجل على الله رجل تسمى بملك الأملاك وقال أبو داود حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا أبو سلمة سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال قال أبي انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله فقلنا أنت سيدنا فقال السيد الله قلنا وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا فقال قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان ولا ينافي هذا قوله أنا سيد ولد آدم فإن هذا إخبار منه عما أعطاه الله من سيادة النوع الإنساني وفضله وشرفه عليهم وأما وصف الرب تعالى بأنه السيد فذلك وصف لربه على الإطلاق فإن سيد الخلق هو مالك أمرهم الذي إليه يرجعون وبأمره يعلمون وعن قوله يصدرون فإذا كانت الملائكة والإنس والجن خلقا له سبحانه وتعالى وملكا له ليس لهم غنى عنه طرفة عين وكل رغباتهم إليه وكل حوائجهم اليه كان هو سبحانه وتعالى السيد على الحقيقة قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير قول الله الصمد قال السيد الذي كمل سؤدده والمقصود أنه لا يجوز لأحد أن يتسمى بأسماء الله المختصة به وأما الأسماء التي تطلق عليه وعلى غيره كالسميع والبصير والرؤوف والرحيم فيجوز أن يخبر بمعانيها عن المخلوق ولا يجوز أن يتسمى بها على الإطلاق بحيث يطلق عليه كما يطلق على الرب تعالى
فصل
ومما يمنع منه التسمية بأسماء القرآن وسوره مثل طه ويس وحم وقد نص مالك على كراهة التسمية ب يس ذكره السهلي وأما يذكره العوام أن يس وطه من أسماء النبي فغير صحيح ليس ذلك في حديث صحيح ولا حسن ولا مرسل ولا أثر عن صاحب وإنما هذه الحروف مثل الم وحم والر ونحوها فصل واختلف في كراهة التسمي بأسماء الأنبياء على قولين أحدهما أنه لا يكره وهذا قول الأكثرين وهو الصواب والثاني يكره قال أبو بكر بن أبي شيبة في باب ما يكره من الأسماء حدثنا الفضل بن دكين عن أبي جلدة عن أبي العالية تفعلون شرا من ذلك تسمون أولادكم أسماء الأنبياء ثم تلعنونهم وأصرح من ذلك ما حكاه أبو القاسم السهيلي في الروض فقال وكان من مذهب عمر بن الخطاب كراهة التسمي بأسماء الأنبياء قلت وصاحب هذا القول قصد صيانة أسمائهم عن الابتذال وما يعرض لها من سوء الخطاب عند الغضب وغيره وقد قال سعيد بن المسيب أحب الأسماء إلى الله أسماء الأنبياء وفي تاريخ ابن أبي خيثمة أن طلحة كان له عشرة من الولد كل منهم اسم نبي وكان للزبير عشرة كلهم تسمى باسم شهيد فقال له طلحة أنا أسميهم بأسماء الأنبياء وأنت تسمي بأسماء الشهداء فقال له الزبير فإني أطمع أن يكون بني شهداء ولا تطمع أن يكون بنوك أنبياء وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى قال ولد لي غلام فأتيت به النبي فسماه إبراهيم وحنكه بتمرة وقال البخاري في صحيحه باب من تسمى بأسماء الأنبياء حدثنا ابن أيمن حدثنا ابن بشر حدثنا اسماعيل قال قلت لابن أبي أوفى رأيت إبراهيم ابن النبي مات صغيرا ولو قضي أن يكون بعد محمد نبي عاش ابنه ولكن لا نبي بعده ثم ذكر حديث البراء لما مات إبراهيم قال النبي إن له مرضعا في الجنة وفي صحيح مسلم باب التسمي بأسماء الأنبياء والصالحين ثم ذكر حديث المغيرة بن شعبة قال لما قدمت نجران سألوني فقالوا إنكم تقرؤون يا أختا هارون وموسى قبل عيسى بكذا وكذا فلما قدمت على رسول الله سألته عن ذلك فقال إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم
الفصل الثالث في تغيير الاسم باسم آخر لمصلحة تقتضيه
عن ابن عمر أن النبي غير اسم عاصية وقال أنت جميلة وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة أن زينب كان اسمها برة فقيل تزكي نفسها فسماها رسول الله زينب وفي سنن أبي داود من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده أن النبي قال ما اسمك قال حزن قال أنت سهل قال لا السهل يوطأ ويمتهن قال سعيد فظننت أنه سيصيبنا بعده حزونة وفي الصحيحين أن رسول الله أتي بالمنذر بن أبي أسيد حين ولد فوضعه على فخذه فأقاموه فقال أين الصبي فقال أبو أسيد أقلبناه يا رسول الله قال ما اسمه قال فلان قال ولكن اسمه المنذر وروى أبو داود في سننه عن أسامة بن أخدري أن رجلا كان يقال له أصرم كان في النفر الذين أتوا رسول الله فقال رسول الله ما اسمك قال أصرم قال بل أنت زرعة قال أبو داود وغير رسول الله اسم العاص وعزيز وعتلة وشيطان والحكم وغراب وشهاب وحباب فسماه هاشما وسمى حربا سلما وسمى المضطجع المنبعث وأرضا يقال لها عفرة خضرة وشعب الضلالة سماه شعب الهدى وبنو الزينة سماهم بني الرشدة وسمي بني مغوية بني رشدة قال أبو داود تركت أسانيدها للاختصار وفي سنن البيهقي من حديث الليث بن سعيد عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي قال توفي صاحب لي غريبا فكنا على قبره أنا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وكان اسمي العاص واسم ابن عمر العاص واسم ابن عمرو العاص فقال لنا رسول الله انزلوا فاقبروه وأنتم عبيد الله قال فنزلنا فقبرنا أخانا وصعدنا من القبر وقد أبدلت أسماؤنا - وإسناده جيد إلى الليث ولا أدري ما هذا فإنه لا يعرف تسمية عبد الله بن عمر ولا ابن عمرو بالعاص وقد قال ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا محمد بن بشر حدثنا زكريا عن الشعبي قال لم يدرك الإسلام من عصاة قريش غير مطيع وكان اسمه العاصي فسماه رسول الله مطيعا وقال أبو بكر بن المنذر حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا أبو نعيم حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن هانيء بن هانيء عن علي رضي الله عنه قال لما ولد الحسن سميته حربا قال فجاء النبي فقال أروني ابني ما سميتموه قلنا حربا قال بل هو حسن فلما ولد الحسين سميته حربا فجاء النبي فقال أروني ابني ما سميتموه قلنا حربا قال بل هو حسين قال فلما ولد الثالث سميته حربا فجاء النبي فقال أروني ابني ما سميتموه قلنا حربا قال بل هو محسن ثم قال إني سميتهم بأسماء ولد هارون شبر وشبير ومشبر وفي مصنف ابن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن العلاء بن المسيب عن خيثمة قال كان اسم أبي في الجاهلية عزيزا فسماه رسول الله عبد الرحمن وقال البخاري في كتاب الأدب حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا زيد بن الحباب قال حدثني ابن عبد الرحمن بن سعيد المخزومي وكان اسمه الصرم فسماه رسول الله سعيدا حدثنا محمد بن سنان حدثنا عبد الله بن الحارث بن أبزى قال حدثتني رائطة بنت مسلم عن أبيها قال شهدت مع رسول الله حنينا فقال لي ما اسمك قلت غراب قال لا بل أنت مسلم
فصل
وكما أن تغيير الاسم يكون لقبحه وكراهته فقد يكون لمصلحة أخرى مع حسنه كما غير اسم برة بزينب كراهة التزكيه وأن يقال خرج من عند برة أو يقال كنت عند برة فيقول لا كما ذكر في الحديث فصل وغير النبي اسم المدينة وكان يثرب فسماها طابة كما في الصحيحين عن أبي حميد قال أقبلنا مع رسول الله من تبوك حتى أشرفنا على المدينة فقال هذه طابة وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال سمعت رسول الله يقول إن الله سمى المدينة طابة ويكره تسميتها يثرب كراهة شديدة وإنما حكى الله تسميتها يثرب عن المنافقين فقال وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله ألا غرورا وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا الأحزاب 12 - 13 وفي سنن النسائي من حديث مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال سمعت أبا الحباب سعيد بن يسار يقول سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله يقول أمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب وهي المدينة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد
الفصل الرابع في جواز تكنية المولود بأبي فلان
في الصحيحين من حديث أنس قال كان النبي أحسن الناس خلقا وكان لي أخ يقال له أبو عمير وكان النبي إذا جاء يقول له يا أبا عمير ما فعل النغير نغير كان يلعب به قال الراوي أظنه كان فطيما وكان أنس يكنى قبل أن يولد له يأبي حمزة وأبو هريرة كان يكنى بذلك ولم يكن له ولد إذ ذاك وأذن النبي لعائشة أن تكنى بأم عبد الله وهو عبد الله بن الزبير وهو ابن أختها أسماء بنت أبي بكر هذا هو الصحيح لا الحديث الذي روي أنها أسقطت من النبي سقطا فسماه عبد الله وكناها به فإنه حديث لا يصح ويجوز تكنية الرجل الذي له أولاد بغير أولاده ولم يكن لأبي بكر ابن اسمه بكر ولا لعمر ابن اسمه حفص ولا لأبي ذر ابن المنذر ابن اسمه ذر ولا لخالد ابن اسمه سليمان وكان يكنى أبا سليمان وكذلك أبو سلمة وهو أكثر من أن يحصى فلا يلزم من جواز التكنية أن يكون له ولد ولا أن يكنى باسم ذلك الولد والله أعلم والتكنية نوع تكثير وتفخيم للمكنى وإكرام له كما قال أكنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقبه والسوأة اللقب
الفصل الخامس في أن التسمية حق للأب لا للأم
هذا مما لا نزاع فيه بين الناس وأن الأبوين إذا تنازعا في تسمية الولد فهي للأب والأحاديث المتقدمة كلها تدل على هذا وهذا كما أنه يدعى لأبيه لا لأمه فيقال فلان ابن فلان قال تعالى أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله الأحزاب 5 والولد يتبع أمه في الحرية والرق ويتبع أباه في النسب والتسمية تعريف النسب والمنسوب ويتبع في الدين خير أبويه دينا فالتعريف كالتعليم والعقيقة وذلك إلى الأب لا إلى الأم وقد قال النبي ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم وتسمية الرجل ابنه كتسمية غلامه
الفصل السادس في الفرق بين الاسم والكنية واللقب
هذه الثلاثة وإن اشتركت في تعريف المدعو بها فأنها تفترق في أمر آخر وهو أن الاسم إما أن يفهم مدحا أو ذما أو لا يفهم واحد منهما فإن أفهم ذلك فهو اللقب وغالب استعماله في الذم ولهذا قال الله تعالى ولا تنابزوا بالألقاب الحجرات 11 ولا خلاف في تحريم تلقيب الإنسان بما يكرهه سواء كان فيه أو لم يكن وأما إذا عرف بذلك واشتهر به كالأعمش والأشتر والأصم والأعرج فقد اضطرد استعماله على ألسنة أهل العلم قديما وحديثا وسهل فيه الإمام أحمد قال أبو داود في مسائله سمعت أحمد بن حنبل سئل عن الرجل يكون له اللقب لا يعرف إلا به ولا يكرهه قال أليس يقال سليمان الأعمش وحميد الطويل كأنه لا يرى به بأسا قال أبو داود سألت أحمد عنه مرة أخرى فرخص فيه قلت كان أحمد يكره أن يقول الأعمش قال الفضيل يزعمون كان يقول سليمان وإما أن لا يفهم مدحا ولا ذما فإن صدر بأب وأم فهو الكنية كأبي فلان وأم فلان وإن لم يصدر بذلك فهو الاسم كزيد وعمرو وهذا هو الذي كانت تعرفه العرب وعليه مدار مخاطباتهم وأما فلان الدين وعز الدين وعز الدولة وبهاء الدولة فإنهم لم يكونوا يعرفون ذلك وإنما أتى هذا من قبل العجم
الفصل السابع في حكم التسمية باسم نبينا والتكني بكنيته إفرادا وجمعا
ثبت في الصحيحين من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال قال أبو القاسم تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي وقال البخاري في صحيحه باب قول النبي تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي قاله أنس عن النبي حدثنا مسدد حدثنا خالد عن حصين عن جابر قال ولد لرجل منا غلام فسماه القاسم فقالوا لا تكنه حتى تسأل النبي فقال تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان سمعت بن المنكدر سمعت جابر بن عبد الله يقول ولد لرجل منا غلام فسماه القاسم فقلنا لا نكنيك بأبي القاسم ولا ننعمك عينا فأتى النبي فذكر له ذلك فقال اسم ابنك عبد الرحمن وفي صحيح مسلم من حديث إسحاق بن راهويه أخبرنا جرير عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن جابر قال ولد لرجل منا غلام فسماه محمدا فقال له قومه لا ندعك تسمي باسم رسول الله فانطلق بابنه حامله على ظهره فقال يا رسول الله ولد لي غلام فسميته محمدا فقال لي قومي لا ندعك تسمي باسم رسول الله فقال رسول الله تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي فإنما أنا قاسم أقسم بينكم وفي صحيحه من حديث أبي كريب عن مروان الفزاري عن حميد عن أنس قال نادى رجل رجلا بالبقيع يا أبا القاسم فالتفت إليه رسول الله فقال يا رسول الله إني لم أعنك إنما دعوت فلانا فقال رسول الله تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي فاختلف أهل العلم في هذا الباب بعد أجماعهم على جواز التسمي به فعن أحمد روايتان إحداهما يكره الجمع بين اسمه وكنيته فإن أفرد أحدهما لم يكره والثانية يكره التكني بكنيته سواء جمعها إلى الاسم أو أفرادها قال البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب يقول سمعت الربيع بن سليمان يقول سمعت الشافعي يقول لا يحل لأحد أن يتكنى بأبي القاسم كان اسمه محمدا أو غيره وروي معنى قوله هذا عن طاوس قال السهيلي وكان ابن سيرين يكره أن يكني أحدا أبا القاسم كان اسمه محمدا أو لم يكن وقالت طائفة هذا النهي على الكراهة لا على التحريم قال وكيع عن ابن عون قلت لمحمد أكان يكره أن يكنى الرجل بأبي القاسم وإن لم يكن اسمه محمدا قال نعم وقال ابن عون عن ابن سيرين كانوا يكرهون أن يكنى الرجل أبا القاسم وأن لم يكن اسمه محمدا قال نعم وسفيان حمل النهي على الكراهة جمعا بينه وبين أحاديث الإذن في ذلك وقالت طائفة أخرى بل ذلك مباح وأحاديث النهي منسوخة واحتجوا بما رواه أبو داود في سننه حدثنا النفيلي حدثنا محمد بن عمران الحجبي عن جدته صفية بنت شيبة عن عائشة رضي الله عنها قالت جاءت امرأة إلى النبي فقالت يا رسول الله إني قد ولدت غلاما فسميته محمدا وكنيته أبا القاسم فذكر لي أنك تكره ذلك فقال ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي أو ما الذي حرم كنيتي وأحل اسمي وقال ابن أبي شيبة حدثنا محمد بن الحسن حدثنا أبو عوانة عن مغيرة عن إبراهيم قال كان محمد بن الأشعث ابن أخت عائشة وكان يكنى أبا القاسم وقال ابن أبي خيثمة حدثنا الزبير بن بكار حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأودي قال حدثني أسامة بن حفص مولى لآل هشام ابن زهرة عن راشد بن حفص قال أدركت أربعة من أبناء أصحاب رسول الله كل منهم يسمى محمدا ويكنى أبا القاسم محمد بن طلحة ابن عبيد الله ومحمد بن أبي بكر ومحمد بن علي بن أبي طالب ومحمد ابن سعد بن أبي وقاص قال وحدثنا أبي حدثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال كان محمد ابن علي يكنى أبا القاسم وكان محمد بن الأشعث يكنى بها ويدخل على عائشة فلا تنكر ذلك قال السهيلي وسئل مالك عمن اسمه محمد ويكنى بأبي القاسم فلم ير به بأسا فقيل له أكنيت ابنك أبا القاسم واسمه محمد فقال ما كنيته بها ولكن أهله يكنونه بها ولم أسمع في ذلك نهيا ولا أرى بذلك بأسا وقالت طائفة أخرى لا يجوز الجمع بين الكنية والاسم ويجوز إفراد كل واحد منهما واحتجت هذه الفرقة بما رواه أبو داود في سننه حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن أبي الزبير عن جابر أن النبي قال من تسمى باسمي فلا يتكنى بكنيتي ومن تكنى بكنيتي فلا يتسمى باسمي وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الكريم الجزري عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن عمه قال قال رسول الله لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي وقال ابن أبي خيثمة وقيل إن محمد بن طلحة لما ولد أتى طلحة النبي فقال اسمه محمد أكنيه أبا القاسم فقال لا تجمعهما له هو أبو سليمان وقالت طائفة أخرى النهي عن ذلك مخصوص بحياته لأجل السبب الذي ورد النهي لأجله وهو دعاء غيره بذلك فيظن أنه يدعوه واحتجت هذه الفرقة بما رواه أبو داود في سننه حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة قالا حدثنا أبو أسامة عن فطر عن منذر عن محمد بن الحنفية قال قال علي رضي الله عنه يا رسول الله إن ولد لي بعدك ولد أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك قال نعم وقال حميد بن زنجوية في كتاب الأدب سألت ابن أبي أويس ما كان مالك يقول في رجل يجمع بين كنية النبي واسمه فأشار إلى شيخ جالس معنا فقال هذا محمد بن مالك سماه محمدا وكناه أبا القاسم وكان يقول إنما نهى عن ذلك في حياة النبي كراهية أن يدعى أحد باسمه وكنيته فيلتفت النبي فأما اليوم فلا بأس بذلك قال حميد بن زنجوية إنما كره أن يدعى أحد بكنيته في حياته ولم يكره أن يدعى باسمه لأنه لا يكاد أحد يدعوه باسمه فلما قبض ذهب ذلك ألا ترى أنه أذن لعلي إن ولد له ولد بعده أن يجمع له الاسم والكنية وإن نفرا من أبناء وجوه الصحابة جمعوا بينهما منهم محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر بن أبي طالب ومحمد بن سعد بن أبي وقاص ومحمد بن حاطب ومحمد بن المنذر وقال ابن أبي خيثمة في تاريخه حدثنا ابن الأصبهاني حدثنا علي ابن هاشم عن فطر عن منذر عن ابن الحنفية قال قال رسول الله إنه سيولد لك بعدي ولد فسمه باسمي وكنه بكنيتي فكانت رخصة من رسول الله لعلي وللكراهة ثلاثة مآخذ أحدها إعطاء معنى الاسم لغير من يصلح له وقد أشار النبي إلى هذه العلة بقوله إنما أنا قاسم أقسم بينكم فهو يقسم بينهم ما أمر ربه تعالى بقسمته لم يكن يقسم كقسمة الملوك الذين يعطون من شاؤوا ويحرمون من شاؤوا والثاني خشية الالتباس وقت المخاطبة والدعوة وقد أشار إلى هذه العلة في حديث أنس المتقدم حيث قال الداعي لم أعنك فقال تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي والثالث أن في الاشتراك الواقع في الاسم والكنية معا زوال مصلحة الاختصاص والتمييز بالاسم والكنية كما نهى أن ينقش أحد على خاتمه كنقشه فعلى المأخذ الأول يمنع الرجل من في حياته وبعد موته وعلى المأخذ الثاني يختص المنع بحال حياته وعلى المأخذ الثالث يختص المنع بالجمع بين الكنية والاسم دون إفراد أحدهما والأحاديث في هذا الباب تدور على هذه المعاني الثلاثة والله أعلم
الفصل الثامن في جواز التسمية بأكثر من اسم واحد
لما كان المقصود بالاسم التعريف والتمييز وكان الاسم الواحد كافيا في ذلك كان الاقتصار عليه أولى ويجوز التسمية بأكثر من اسم واحد كما يوضع له اسم وكنية ولقب وأما أسماء الرب تعالى وأسماء كتابه وأسماء رسوله فلما كانت نعوتا دالة على المدح والثناء لم تكن من هذا الباب بك من باب تكثير الاسماء لجلالة المسمى وعظمته وفضله قال الله تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وفي الصحيحين من حديث جبير بن مطعم قال قال رسول الله لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي وقال الامام أحمد حدثنا أسود بن عامر حدثنا أبو بكر عن عاصم ابن بهدلة عن أبي وائل عن حذيفة قال سمعت رسول الله يقول أنا محمد وأحمد ونبي الرحمة ونبي التوبة والحاشر والمقفي ونبي الملاحم قال أحمد وحدثنا يزيد بن هارون حدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى قال سمى لنا رسول الله نفسه أسماء منها ما حفظناه ومنها ما لم نحفظه قال أنا محمد وأحمد والمقفي والحاشر ونبي التوبة ونبي الملاحم رواه مسلم في صحيحه وذكر أبو الحسن بن فارس لرسول الله ثلاثة وعشرين اسما محمد وأحمد والماحي والعاقب والمقفي ونبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملاحم والشاهد والمبشر والنذير والضحوك والقتال والمتوكل والفاتح والأمين والخاتم والمصطفى والرسول والنبي والأمي والقاسم والحاشر
الفصل التاسع في بيان ارتباط معنى الاسم بالمسمى
وقد تقدم ما يدل على ذلك من وجوه أحدهما قول سعيد بن المسيب ما زالت فينا تلك الحزونة وهي التي حصلت من تسمية الجد بحزن وقد تقدم قول عمر لجمرة بن شهاب أدرك أهلك فقد احترقوا ومنع النبي من كان اسمه حربا أو مرة أن يحلب الشاة تلك التي أراد حلبها وشواهد ذلك كثيرة جدا فقل أن ترى اسما قبيحا إلا وهو على مسمى قبيح كما قيل وقل ما أبصرت عيناك ذا لقب ... إلا ومعناه إن فكرت في لقبه والله سبحانه بحكمته في قضائه وقدره يلهم النفوس أن تضع الأسماء على حسب مسمياتها لتناسب حكمته تعالى بين اللفظ ومعناه كما تناسبت بين الأسباب ومسبباتها قال أبو الفتح ابن جني ولقد مر بي دهر وأنا أسمع الاسم لا أدري معناه فآخذ معناه من لفظه ثم أكشفه فإذا هو ذلك بعينه أو قريب منه فذكرت ذلك لشيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله فقال وأنا يقع لي ذلك كثيرا وقد تقدم قوله أسلم سالمها الله وغفار غفر الله لها وعصية عصت الله ورسوله ولما أسلم وحشي قاتل حمزة وقف بين يدي النبي فكره اسمه وفعله وقال غيب وجهك عني وبالجملة فألاخلاق والأعمال والأفعال القبيحة تستدعي أسماء تناسبها وأضدادها تستدعي أسماء تناسبها وكما أن ذلك ثابت في أسماء الأوصاف فهو كذلك في أسماء الأعلام وما سمي رسول الله محمدا وأحمد إلا لكثرة خصال الحمد فيه ولهذا كان لواء الحمد بيده وأمته الحمادون وهو أعظم الخلق حمدا لربه تعالى ولهذا أمر رسول الله بتحسين الأسماء فقال حسنوا أسماءكم فإن صاحب الاسم الحسن قد يستحي من اسمه وقد يحمله اسمه على فعل ما يناسبه وترك ما يضاده ولهذى ترى أكثر السفل أسماؤهم تناسبهم وأكثر العلية أسماؤهم تناسبهم وبالله التوفيق
الفصل العاشر في بيان أن الخلق يدعون يوم القيامة بآبائهم لا بأمهاتهم
هذا الصواب الذي دلت عليه السنة الصحيحة الصريحة ونص عليه الأئمة كالبخاري وغيره فقال في صحيحه باب يدعى الناس يوم القيامة بآبائهم لا بأمهاتهم ثم ساق في الباب حديث ابن عمر قال قال رسول الله إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع الله لكل غادر لواء يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان بن فلان وفي سنن أبي داود بإسناد جيد عن أبي الدرداء قال قال رسول الله إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم فزعم بعض الناس أنهم يدعون بأمهاتهم واحتجوا في ذلك بحديث لا يصح وهو في معجم الطبراني من حديث أبي أمامة عن النبي إذا مات أحد ما إخوانكم فسو يتم التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل يا فلان بن فلانة فإنه يسمعه ولا يجيبه ثم يقول يا فلان بن فلانة فإنه يقول أرشدنا يرحمك الله الحديث وفيه فقال رجل يا رسول الله فإن لم يعرف اسم أمه قال فلينسبه إلى أمه حواء يا فلان ابن حواء قالوا وأيضا فالرجل قد لا يكون نسبه ثابتا من أبيه كالمنفي باللعان وولد الزنى فكيف يدعى بأبيه والجواب أما الحديث فضعيف باتفاق أهل العلم بالحديث واما من انقطع نسبه من جهة أبيه فإنه يدعى بما يدعى به في الدنيا فالعبد يدعى في الآخرة بما يدعى به في الدنيا من أب أو أم والله أعلم
الباب التاسع
في ختان المولود وأحكامه وفيه أربعة عشر فصلا 1 - الفصل الأول في معنى الختان واشتقاقه ومسماه 2 - الفصل الثاني في ختان ابراهيم الخليل والأنبياء من بعده 3 - الفصل الثالث في مشروعيته وأنه من أصل الفطرة 4 - الفصل الرابع في اختلاف أهل العلم في وجوبه 5 - الفصل الخامس في وقت الوجوب 6 - الفصل السادس في اختلافهم في الختان في السابع من الولادة هل هو مكروه أم لا وحجة الفريقين 7 - الفصل السابع في أحكام الختان وفوائده 8 - الفصل الثامن في بيان القدر الذي يؤخذ في الختان 9 - الفصل التاسع في أن حكمه يعم الذكر والأنثى 10 - الفصل العاشر في حكم جناية الخاتن وسراية الجناية 11 - الفصل الحادي عشر في أحكام الأقلف في طهارته وصلاته وإمامته وذبيمته وشهادته 12 - الفصل الثاني عشر في المسقطات لوجوبه 13 - الفصل الثالث عشر في ختان نبينا محمد والاختلاف فيه هل ولد مختونا أو ختن بعد الولادة ومتى ختن 14 - الفصل الرابع عشر في حكمه التي لأجلها يبعث الناس يوم القيامة غرلا غير مختونين
الفصل الأول في بيان معناه واشتقاقه
الختان اسم لفعل الخاتن وهو مصدر كالنزال والقتال ويسمى به موضع الختن أيضا ومنه الحديث إذا التقى الختانان وجب الغسل ويسمى في حق الأنثى خفضا يقال ختنت الغلام ختنا وخفضت الجارية خفضا ويسمى في الذكر إعذارا أيضا وغير المعذور يسمى أغلف وأقلف وقد يقال الإعذار لهما أيضا قال في الصحاح قال أبو عبيدة عذرت الجارية والغلام أعذرهما عذرا ختنتهما وكذلك أعذرتهما قال والأكثر حفضت الجارية والقلفة والغرلة هي الجلدة التي تقطع قال وتزعم العرب أن الغلام إذا ولد في القمر فسنمت قلفته فصار كالمختون فختان الرجل هو الحرف المستدير على أسفل الحشفة وهو الذي ترتبت الأحكام على تغييبه في الفرج فيترتب عليه أكثر من ثلاثمائة حكم وقد جمعها بعضهم فبلغت أربعمائة إلا ثمانية أحكام وأما ختان المرأة فهي جلدة كعرف الديك فوق الفرج فإذا غابت الحشفة في الفرج حاذى ختانه ختانها فإذا تحاذيا فقد التقيا كما يقال التقى الفارسان إذا تحاذيا وإن لم يتضاما والمقصود أن الختان اسم للمحل وهي الجلدة التي تبقى بعد القطع واسم للفعل وهو فعل الخاتن ونظير هذا السواك فإنه اسم للآلة التي يستاك بها وقد يطلق الختان على الدعوة إلى وليمته كما تطلق العقيقة على ذلك أيضا
الفصل الثاني في ذكر ختان إبراهيم الخليل والأنبياء بعده صلى الله عليهم
أجميعن في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم قال البخاري القدوم مخففة وهو اسم موضع وقال المروزي سئل أبو عبد الله هل ختن إبراهيم عليه السلام نفسه بقدوم قال بطرف القدوم وقال أبو داود وعبد الله بن أحمد وحرب إنهم سألوا أحمد عن قوله اختتن بالقدوم قال هو موضع وقال غيره هو اسم للآلة واحتج بقول الشاعر فقلت أعيروني القدوم لعلني ... أخط به قبرا لأبيض ماجد وقالت طائفة من رواه مخففا فهو اسم الموضع ومن رواه مثقلا فهو اسم الآلة وقد رويت قصة ختان الخليل بألفاظ يوهم بعضها التعارض ولا تعارض فيها بحمد الله ونحن نذكرها ففي صحيح البخاري من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم وفي لفظ اختتن إبراهيم بعد ثمانين سنة بالقدوم مخففة وفي حديث يحيى بن سعيد عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة مثله وقال يحيى والقدوم الفأس وقال النضر بن شميل قطعه بالقدوم فقيل له يقولون قدوم قرية بالشام فلم يعرفه وثبت على قوله قال الجوهري القدوم الذي ينحت به مخفف قال ابن السكيت ولا تقل قدوم بالتشديد قال والقدوم أيضا اسم موضع مخفف والصحيح أن القدوم في الحديث الآلة لما رواه البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا أبو عبد الرحمن المقري حدثنا موسى بن علي قال سمعت أبي يقول إن إبراهيم الخليل أمر أن يختن وهو ابن ثمانين سنة فعجل فاختتن بقدوم فاشتد عليه الوجع فدعا ربه فأوحى الله إليه إنك عجلت قبل أن نأمرك بالآلة قال يا رب كرهت أن أؤخر أمرك قال وختن إسماعيل وهو ابن ثلاث عشرة سنة وختن إسحاق وهو ابن سبعة أيام وقال حنبل حدثنا عاصم حدثنا أبو أويس قال حدثني أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي قال إبراهيم أول من اختتن وهو ابن مائة وعشرين سنة اختتن بالقدوم ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة ولكن هذا حديث معلول رواه يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قوله ومع هذا فهو من رواية أبي أويس عبد الله ابن عبد الله المدني وقد روى له مسلم في صحيحه محتجا به وروى له أهل السنن الأربعة وقال أبو داود وهو صالح الحديث واختلفت الرواية فيه عن ابن معين فروى عنه الدوري في حديثه ضعف وروى عنه توثيقه ولكن المغيرة بن عبد الرحمن وشعيب بن أبي حمزة وغيرهما رووا عن أبي الزناد خلاف ما رواه أبو أويس وهو ما رواه أصحاب الصحيح أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة وهذا أولى بالصواب وهو يدل على ضعف المرفوع والموقوف وقد أجاب بعضهم بأن قال الروايتان صحيحتان ووجه الجمع بين الحديثين يعرف من مدة حياة الخليل فإنه عاش مائتي سنة منها ثمانون غير مختون ومنها عشرون ومائة سنة مختونا فقوله اختتن لثمانين سنة مضت من عمره والحديث الثاني اختتن لمائة وعشرين سنة بقيت من عمره في هذا الجمع نظر لا يخفى فإنه قال أول من اختتن إبراهيم وهو ابن مائة وعشرين سنة ولم يقل اختتن لمائة وعشرين سنة وقد ذكرنا رواية يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة موقوفا عليه أنه اختتن وهو ابن مائة وعشرين سنة والرواية الصحيحة المرفوعة عن أبي هريرة تخالف هذا على أن الوليد بن مسلم قد قال أخبرني الأوزاعي عن يحيى ابن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة يرفعه قال اختتن إبراهيم وهو ابن عشرين ومائة سنة ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة وهذا حديث معلول فقد رواه جعفر بن عون وعكرمة بن إبراهيم عن يحيى بن سعيد عن أبي هريرة قوله والمرفوع الصحيح أولى منه والوليد بن مسلم معروف بالتدليس قال هيثم بن خارجة قلت للوليد بن مسلم قد أفسدت حديث الأوزاعي قال كيف قلت تروي عن الأوزاعي عن نافع وعن الأوزاعي عن الزهري وعن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد وغيرك يدخل بين الأوزاعي وبين نافع عبد الله بن عامر الأسلمي وبينه وبين الزهري إبراهيم بن ميسرة وقرة وغيرهما فما يحملك على هذا قال أنبل الأوزاعي أن يروي عن مثل هؤلاء قلت فإذا روى الأوزاعي عن هؤلاء وهؤلاء ضعاف أصحاب أحاديث مناكير فأسقطتهم أنت وصيرتها من رواية الأوزاعي عن الثقات ضعفت الأوزاعي فلم يلتفت إلى قولي وقال أبو مسهر كان الوليد بن مسلم يحدث بأحاديث الأوزاعي عن الكذابين ثم يدلسها عنهم وقال الدارقطني الوليد بن مسلم يروي عن الأوزاعي أحاديث هي عند الأوزاعي عن شيوخ ضعفاء عن شيوخ قد أدركهم الأوزاعي مثل نافع وعطاء والزهري فيسقط أسماء الضعفاء ويجعلها عن الأوزاعي عن عطاء وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله كان الوليد رفاعا وفي رواية المروزي هو كثير الخطأ وقد روى هذا الحديث من غير هذا الطريق من نسخة نبيط بن شريط عن النبي أول من أضاف الضيف إبراهيم وأول من لبس السراويل إبراهيم وأول من اختتن إبراهيم بالقدوم وهو ابن عشرين ومائة سنة وهذه النسخة ضعفها أئمة الحديث وبالجملة فهذا الحديث ضعيف معلول لا يعارض ما ثبت في الصحيح ولا يصح تأويله بما ذكره هذا القائل لوجوه أحدها أن لفظه لا يصلح له فإنه قال اختتن وهو ابن عشرين ومائه سنة الثاني أنه قال ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة الثالث أن الذي يحتمله على تفسير واستكراه قوله اختتن لمائة وعشرين سنة ويكون المراد بقيت من عمره لا مضت والمعروف في مثل هذا الاستعمال إنما هو إذا كان الباقي أقل من الماضي فإن المشهور من استعمال العرب في خلت وبقيت أنه من أول الشهر إلى نصفه يقال خلت وخلون ومن نصفه إلى آخره بقيت وبقين فقوله لمائة وعشرين بقيت من عمره مثل أن يقال لاثنتين وعشرين ليلة بقيت من الشهر وهذا لا يسوغ وبالله التوفيق والختان كان من الخصال التي ابتلى الله سبحانه بها إبراهيم خليله فأتمهن وأكملهن فجعله إماما للناس وقد روى أنه أول من اختتن كما تقدم والذي في الصحيح اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة واستمر الختان بعده في الرسل وأتباعهم حتى في المسيح فأنه اختتن والنصارى تقر بذلك ولا تجحده كما تقر بأنه حرم لحم الخنزير وحرم كسب السبت وصلى إلى الصخرة ولم يصم خمسين يوما وهو الصيام الذي يسمونه الصوم الكبير وفي جامع الترمذي ومسند الإمام أحمد من حديث أبي أيوب قال قال رسول الله أربع من سنن المرسلين الحياء والتعطر والسواك والنكاح قال الترمذي هذا حديث حسن غريب واختلف في ضبطه فقال بعضهم الحياء بالياء والمد وقال بعضهم الحناء بالنون وسمعت شيخنا أبا الحجاج الحافظ المزي يقول وكلاهما غلط وإنما هو الختان فوقعت النون في الهامش فذهبت فاختلف في اللفظة قال وكذلك رواه المحاملي عن الشيخ الذي روى عنه الترمذي بعينه فقال الختان قال وهذا أولى من الحياء والحناء فإن الحياء خلق والحناء ليس من السنن ولا ذكره النبي في خصال الفطرة ولا ندب أليه بخلاف الختان
فصل في ختان الرجل نفسه بيده
قال المروزي سئل أبو عبد الله عن الرجل يختن نفسه فقال إن قوي وقال الخلال أخبرني عبد الكريم بن الهيثم قال سمعت أبا عبد الله وسئل عن الرجل يختن نفسه قال إن قوي على ذلك قال وأخبرني محمد بن هارون أن إسحاق حدثهم أن أبا عبد الله سئل عن المرأة يدخل عليها زوجها لم تختتن يجب عليها الختان فقال الختان سنة حسنة وذكر نحو مسألة المروزي في ختان نفسها قيل له فإن قويت على ذلك قال ما أحسنه وسئل عن الرجل يختن نفسه قال إذا قوي عليه فهو حسن وهي سنة حسنة
الفصل الثالث في مشروعيته وأنه من خصال الفطرة
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله الفطرة خمس الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط فجعل الختان رأس خصال الفطرة وإنما كانت هذه الخصال من الفطرة لأن الفطرة هي الحنيفية ملة إبراهيم وهذه الخصال أمر بها إبراهيم وهي من الكلمات التي ابتلاه ربه بهن كما ذكر عبد الرزاق عن معمر عن طاوس عن أبيه عن ابن عباس في هذه الآية قال ابتلاه بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد خمس في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس وفي الجسد تقليم الأظافر وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء والفطرة فطرتان فطرة تتعلق بالقلب وهي معرفة الله ومحبته وإيثاره على ما سواه وفطرة عملية وهي هذه الخصال فالأولى تزكي الروح وتطهر القلب والثانية تطهر البدن وكل منهما تمد الأخرى وتقويها وكان رأس فطرة البدن الختان لما سنذكره في الفصل السابع إن شاء الله وفي مسند الإمام أحمد من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه قال قال رسول الله من الفطرة أو الفطرة المضمضة والاستنشاق وقص الشارب والسواك وتقليم الأظافر وغسل البراجم ونتف الإبط والاستحداد والاختتان والانتضاح وقد اشتركت خصال الفطرة في الطهارة والنظافة وأخذ الفضلات المستقذرة التي يألفها الشيطان ويجاورها من بني آدم وله بالغرلة اتصال واختصاص ستقف عليه في الفصل السابع إن شاء الله وقال غير واحد من السلف من صلى وحج واختتن فهو حنيف فالحج والختان شعار الحنيفة وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها قال الراعي يخاطب أبا بكر رضي الله عنه أخليفة الرحمن إنا معشر ... حنفاء نسجد بكرة وأصيلا عرب نرى لله في أموالنا ... حق الزكاة منزلا تنزيلا
الفصل الرابع في الاختلاف في وجوبه واستحبابه
اختلف الفقهاء فقال الشعبي وربيعة والأوزاعي ويحيى بن سعيد الأنصاري ومالك والشافعي وأحمد هو واجب وشدد فيه مالك حتى قال من لم يختتن لم تجز إمامته ولم تقبل شهادته ونقل كثير من الفقهاء عن مالك أنه سنة حتى قال القاضي عياض الاختتان عند مالك وعامة العلماء سنة ولكن السنة عندهم يأثم بتركها فهم يطلقونها على مرتبة بين الفرض الفرض وبين الندب وإلا فقد صرح مالك بأنه لا تقبل شهادة الأقلف ولا تجوز إمامته وقال الحسن البصري وأبو حنيفة لا يجب بل هو سنة وكذلك قال ابن أبي موسى من أصحاب أحمد هو سنة مؤكدة ونص أحمد في رواية أنه لا يحب على النساء واحتج الموجبون له بوجوه أحدها قوله تعالى ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا النحل 123 والختان من ملته لما تقدم الوجه الثاني ما رواه الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج قال أخبرت عن عثيم بن كليب عن أبيه عن جده أنه جاء إلى النبي فقال قد أسلمت قال ألق عنك شعر الكفر يقول احلق وأخبرني آخر معه أن النبي قال لآخر الق عنه شعر الكفر واختتن ورواه أبو داود عن مخلد بن خالد عن عبد الرزاق وحمله على الندب في إلقاء الشعر لا يلزم منه حمله عليه في الآخر الوجه الثالث قال حرب في مسائلة عن الزهري قال قال رسول الله من أسلم فليختتن وإن كان كبيرا وهذا وإن كان مرسلا فهو يصلح للاعتضاد الوجه الرابع ما رواه البيهقي عن موسى بن إسماعيل بن جعفر بن محمد ابن علي بن حسين بن علي عن آبائه واحدا بعد واحد عن علي رضي الله عنه قال وجدنا في قائم سيف رسول الله في الصحيفة أن الأقلف لا يترك في الاسلام حتى يختتن ولو بلغ ثمانين سنة قال البيهقي هذا حديث ينفرد به أهل البيت بهذا الاسناد الوجه الخامس ما رواه ابن المنذر من حديث أبي برزة عن النبي في الأغلف لا يحج بيت الله حتى يختتن وفي لفظ سألنا رسول الله عن رجل أقلف يحج بيت الله قال لا حتى يختتن ثم قال لا يثبت لأن إسناده مجهول الوجه السادس ما رواه وكيع عن سالم أبي العلاء المرادي عن عمرو ابن هرم عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال الأقلف لا تقبل له صلاة ولا تؤكل ذبيحته وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن عبيد عن سالم المرادي عن عمرو ابن هرم عن جابر بن زيد عن ابن عباس لا تؤكل ذبيحة الأقلف وقال حنبل في مسائلة حدثنا أبو عمر الحوضي حدثنا همام عن قتادة عن عكرمة قال لا تؤكل ذبيحة الأقلف قال وكان الحسن لا يرى ما قال عكرمة قال وقيل لعكرمة أله حج قال لا قال حنبل قال أبو عبد الله لا تؤكل ذبيحته ولا صلاة له ولا حج حتى يطهر وهو من تمام الإسلام قال حنبل وقال أبو عبد الله الأقلف لا يذبح ولا تؤكل ذبيحته ولا صلاة له وقال عبد الله بن أحمد حدثني أبي حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال الأقلف لا تحل له صلاة ولا تؤكل له ذبيحة و لا يجوز له الشهادة قال قتادة وكان الحسن لا يرى ذلك الوجه السابع أن الختان من أظهر الشعائر التي يفرق بها بين المسلم والنصراني فوجوبه أظهر من وجوب الوتر وزكاة الخيل ووجوب الوضوء على من قهقه في صلاته ووجوب الوضوء على من احتجم أو تقيأ أو رعف ووجوب التيمم إلى المرفقين ووجوب الضربتين على الأرض وغير ذلك مما وجوب الختان أظهر من وجوبه وأقوى حتى إن المسلمين لا يكادون يعدون الأقلف منهم ولهذا ذهب طائفة من الفقهاء إلى أن تكبير يجب عليه أن يختتن ولو أدى الى تلفة كما سنذكره في الفصل الثاني عشر إن شاء الله تعالى الوجه الثامن أنه قطع شرع الله لا تؤمن من سرايته فكان واجبا كقطع يد السارق الوجه التاسع أنه لا يجوز كشف العورة له لغير ضرورة ولا مداواة فلو لم يجب لما جاز لأن الحرام لا يلتزم للمحافظة على المسنون الوجه العاشر أنه لا يستغنى فيه عن ترك واجبين وارتكاب محظورين أحدهما كشف العورة في جانب المختون والنظر الى عورة الأجنبي في جانب الخاتن فلو لم يكن واجبا لما كان قد ترك له واجبان وارتكب محظوران الوجه الحادي عشر ما احتج به الخطابي قال أما الختان فإنه وإن كان مذكورا في جملة السنن فإنه عند كثير من العلماء على الوجوب وذلك أنه شعار الدين وبه يعرف المسلم من الكافر وإذا وجد المختون بين جماعة قتلى غير مختونين صلى عليه ودفن في مقابر المسلمين الوجه الثاني عشر أن الولي يؤلم فيه الصبي ويعرضه للتلف بالسراية ويخرج من ماله أجرة الخاتن وثمن الدواء ولا يضمن سرايته بالتلف ولو لم يكن واجبا لما جاز ذلك فإنه لا يجوز إضاعة ماله وإيلامه الألم البالغ وتعريضه للتلف بفعل ما لا يجب فعله بل غايته أن يكون مستحبا وهذا ظاهر بحمد الله الوجه الثالث عشر أنه لو لم يكن واجبا لما جاز للخاتن الإقدام عليه وإن أذن فيه المختون أو وليه فإنه لا يجوز له الإقدام على قطع عضو لم يأمر الله ورسوله بقطعه ولا أوجب قطعه كما لو أذن له في قطع أذنه أو إصبعه فإنه لا يجوز له ذلك ولا يسقط الإثم عنه بالإذن وفي سقوط الضمان عنه نزاع الوجه الرابع عشر أن الأقلف معرض لفساد طهارته وصلاته فإن القلفة تستر الذكر كله فيصيبها البول ولا يمكن الاستجمار لها فصحة الطهارة والصلاة موقوفة على الختان ولهذا منع كثير من السلف والخلف إمامته وإن كان معذورا في نفسه فإنه بمنزلة من به سلس البول ونحوه فالمقصود بالختان التحرز من احتباس البول في القلفة فتفسد الطهارة والصلاة ولهذا قال ابن عباس فيما رواه الإمام أحمد وغيره لا تقبل له صلاة ولهذا يسقط بالموت لزوال التكليف بالطهارة والصلاة الوجه الخامس عشر أنه شعار عباد الصليب وعباد النار الذين تميزوا به عن الحنفاء والختان شعار الحنفاء في الأصل ولهذا أول من اختتن إمام الحنفاء وصار للختان شعار الحنيفية وهو مما توارثه بنو إسماعيل وبنو إسرائيل عن إبراهيم الخليل فلا يجوز موافقة عباد الصليب القلف في شعار كفرهم وتثليثهم
فصل
قال المسقطون لوجوبه قد صرحت السنة بأنه سنة كما في حديث شداد ابن أوس عن النبي أنه قال الختان سنة للرجال مكرمة للنساء رواه الإمام أحمد قالوا وقد قرنه بالمسنونات دون الواجبات وهي الاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط قالوا وقال الحسن البصري قد أسلم مع رسول الله الناس الأسود والأبيض والرومي والفارسي والحبشي فما فتش أحدا منهم أو ما بلغني أنه فتش أحدا منهم وقال الإمام أحمد حدثنا المعتمر عن سلم ابن أبي الذيال قال سمعت الحسن يقول يا عجبا لهذا الرجل يعني أمير البصرة لقي أشياخا من أهل كيكر فقال ما دينكم قالوا مسلمين فأمر بهم ففتشوا فوجدوا غير مختونين فختنوا في هذا الشتاء وقد بلغني أن بعضهم مات وقد أسلم مع النبي الرومي والفارسي والحبشي فما فتش أحدا منهم قالوا وأما استدلالكم بقوله تعالى ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا النحل 123 فالملة هي الحنيفية وهي التوحيد ولهذا بينها بقوله حنيفا وما كان من المشركين وقال يوسف الصديق أني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء يوسف 37 و 38 وقال تعالى قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين آل عمران 95 فالملة في هذا كله هي أصل الايمان من التوحيد والإنابة إلى الله وإخلاص الدين له وكان رسول الله يعلم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين قالوا ولو دخلت الأفعال في الملة فمتابعته فيها أن تفعل على الوجه الذي فعله فإن كان فعلها على سبيل الوجوب فاتباعه أن يفعلها كذلك وان كان فعلها على وجه الندب فاتباعه أن يفعلها على وجه الندب فليس معكم حينئذ إلا مجرد فعل إبراهيم والفعل هل هو على الوجوب أو الندب فيه النزاع المعروف والأقوى أنه إنما يدل على الندب إذا لم يكن بيانا لواجب فمتى فعلناه على وجه الندب كنا قد اتبعناه قالوا وأما حديث عثيم ابن كليب عن أبيه عن جده ألق عنك شعر الكفر واختتن فابن جريج قال فيه أخبرت عن عثيم بن كليب قال أبو أحمد بن عدي هذا الذي قال ابن جريج في هذا الإسناد أخبرت عن عثيم بن كليب أنما حدثه ابراهيم بن أبي يحيى فكنى عن اسمه وإبراهيم هذا متفق على ضعفه بين أهل الحديث ما خلا الشافعي وحده قالوا وأما مرسل الزهري عن النبي من أسلم فليختتن وأن كان كبيرا فمرسيل الزهري عندهم من أضعف المراسيل لا تصلح للاحتجاج قال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان قال مكان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئا ويقول هو بمنزلة الريح وقرىء على عباس الدوري عن يحيى بن معين قال مراسيل الزهري ليست بشيء قالوا وأما حديث موسى بن إسماعيل بن جعفر عن آبائه فحديث لا يعرف ولم يروه أهل الحديث ومخرجه من هذا الوجه وحده تفرد به موسى بن إسماعيل عن آبائه بهذا السند فهو نظير أمثاله من الأحاديث التي تفرد بها غير الحفاظ المعروفين بحمل الحديث قالوا وأما حديث أبي برزة فقال ابن المنذر حدثنا يحيى بن محمد حدثنا أحمد بن يونس حدثتنا أم الأسود عن منية عن جدها أبي برزة فذكره قال ابن المنذر هذا إسناد مجهول لا يثبت قالوا وأما استدلالكم بقول ابن عباس الأقلف لا تؤكل ذبيحته و لا تقبل له صلاة فقول صحابي تفرد به قال أحمد وكان يشدد فيه وقد خالفه الحسن البصري وغيره وأما قولكم إنه من الشعائر صحيح لا نزاع فيه ولكن ليس كل ما كان من الشعائر يكون واجبا فالشعائر منقسمة إلى واجب كالصلوات الخمس والحج والصيام والوضوء وإلى مستحب كالتلبية وسوق الهدي وتقليده وإلى مختلف فيه كالأذان والعيدين والأضحية و الختان فمن أين لكم أن هذا من قسم الشعائر الواجبة وأما قولكم أنه قطع شرع الله لا تؤمن سرايته فكان واجبا كقطع يد السارق من أبرد الأقيسة فأين الختان من قطع يد اللص فيا بعد ما بينهما ولقد أبعد النجعة من قاس أحدهما على الآخر فالختان إكرام المختون وقطع يد السارق عقوبة له وأين باب العقوبات من أبواب الطهارات والتنظيف وأما قولكم يجوز كشف العورة له لغير ضرورة ولا مداواة فكان واجبا لا يلزم من جواز كشف العورة وجوبه فإنه يجوز كشفها لغير الواجب إجماعا كما يكشف لنظر الطبيب ومعالجته وإن جاز ترك المعالجة وأيضا فوجه المرأة عورة في النظر ويجوز لها كشفه في المعاملة التي لا يجب ولتحمل الشهادة عليها حيث لا تجب وأيضا فإنهم جوزوا لغاسل الميت حلق عانته وذلك يستلزم كشف العورة أو لمسها لغير واجب وأما قولكم إن به يعرف المسلم من الكافر حتى إذا وجد المختون بين جماعة قتلى غير مختونين صلي عليه دونهم ليس كذلك فإن بعض الكفار يختتنون وهم اليهود فالختان لا يميز بين المسلم والكافر إلا إذا كان في محل لا يختتن فيه إلا المسلمون وحينئذ فيكون فرقا بين المسلم والكافر ولا يلزم من ذلك وجوبه كما لا يلزم وجوب سائر ما يفرق بين المسلم والكافر وأما قولكم إن الولي يؤلم فيه الصبي ويعرضه للتلف بالسراية ويخرج من ماله أجرة الخاتن وثمن الدواء فهذا لا يدل على وجوبه كما يؤلمه بضرب التأديب لمصلحته ويخرج من ماله أجرة المؤدب والمعلم وكما يضحى عنه قال الخلال باب الأضحية عن اليتيم أخبرني حرب بن اسماعيل قال قلت لأحمد يضحى عن اليتيم قال نعم إذا كان له مال وكذلك قال سفيان الثوري قال جعفر بن محمد النيسابوري سمعت أبا عبد الله يسئل عن وصي يتيمة يشتري لها أضحية قال لها مال قال نعم قال يشتري لها قوله لو لم يكن واجبا لما جاز للخاتن الإقدام عليه إلى آخره ينتقض بإقدامه على قطع السلعة والعضو التالف وقلع السن وقطع العروق وشق الجلد للحجامة والتشريط فيجوز الإقدام على ما يباح للرجل قطعه فضلا عما يستحب له ويسن وفيه مصلحة ظاهرة وقولكم إن الأقلف معرض لفساد طهارته وصلاته فهذا إنما يلام عليه إذا كان باختياره وما خرج عن اختياره وقدرته ولم يلم عليه ولم تفسد طهارته كسلس البول والرعاف وسلس المذي فإذا فعل ما يقدر عليه من الاستجمار والاستنجاء لم يؤاخذ بما عجز عنه قولكم إنه من شعار عباد الصلبان وعباد النيران فموافقتهم فيه موافقة في شعار دينهم جوابه أنهم لم يتميزوا عن الحنفاء بمجرد ترك الختان وإنما امتازوا بمجموع ما هم عليه من الدين الباطل وموافقة المسلم في ترك الختان لا يستلزم موافقتهم في شعار دينهم الذي امتازوا به عن الحنفاء قال الموجبون الختان علم الحنيفية وشعار الإسلام ورأس الفطرة وعنوان الملة وإذا كان النبي قد قال من لم يأخذ شار به فليس منا فكيف من عطل الختان ورضي بشعار القلف عباد الصلبان ومن أظهر ما يفرق بين عباد الصلبان وعباد الرحمن الختان وعليه استمر عمل الحنفاء من عهد إمامهم إبراهيم إلى عهد خاتم الأنبياء فبعث بتكميل الحنيفية وتقريرها لا بتحويلها وتغيرها ولما أمر الله به خليله وعلم أن أمره المطاع وإنه لا يجوز أن يعطل ويضاع بادر إلى امتثال ما أمر به الحي القيوم وختن نفسه بالقدوم مبادرة إلى الامتثال وطاعة لذي العزة والجلال وجعله فطرة باقية في عقبة إلى أن يرث الأرض ومن عليها ولذلك دعا جميع الأنبياء من ذريته أممهم إليها حتى عبد الله ورسوله وكلمته ابن العذراء البتول فإنه اختتن متابعة لإبراهيم الخليل والنصارى تقر بذلك وتعترف أنه من أحكام الإنجيل ولكن اتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل حتى لقد أذن عالم أهل بيت رسول الله عبد الله بن عباس أذانا سمعه الخاص والعام أن من لم يختتن فلا صلاة له ولا تؤكل ذبيحته فأخرجه من جملة أهل الإسلام ومثل هذا لا يقال لتارك أمر هو بين تركه وفعله بالخيار وإنما يقال لما علم وجوبه علما يقرب من الاضطرار ويكفي في وجوبه أنه رأس خصال الحنيفية التي فطر الله عباده عليها ودعت جميع الرسل إليها فتاركه خارج عن الفطرة التي بعث الله رسله بتكميلها وموضع في تعطيلها مؤخر لما استحق التقديم راغب في ملة أبيه إبراهيم ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين البقرة 131 - 132 فكما أن الإسلام رأس الملة الحنيفية وقوامها فالاستسلام لأمره كمالها وتمامها فصل وأما قوله في الحديث الختان سنة للرجال مكرمة للنساء فهذا حديث يروى عن ابن عباس بإسناد ضعيف والمحفوظ أنه موقوف عليه ويروى أيضا عن الحجاج بن أرطاة وهو ممن لا يحتج به عن أبي المليح ابن أسامة عن أبيه عنه وعن مكحول عن أبي أيوب عن النبي فذكره ذكر ذلك كله البيهقي ثم ساق عن ابن عباس أنه لا تؤكل ذبيحة الأقلف ولا تقبل صلاته ولا تجوز شهادته ثم قال وهذا يدل على أنه كان يوجبه وأن قوله الختان سنة أراد به سنة النبي وأن رسول الله سنة وأمر به فيكون واجبا انتهى والسنة هي الطريقة يقال سننت له كذا أي شرعت فقوله الختان سنة للرجال أي مشروع لهم لا أنه ندب غير واجب فالسنة هي الطريقة المتبعة وجوبا واستحبابا لقوله من رغب عن سنتي فليس مني وقوله عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وقال ابن عباس من خالف السنة كفر وتخصيص السنة بما يجوز تركه اصطلاح حادث و إلا فالسنة ما سنه رسول الله لأمته من واجب ومستحب فالسنة هي الطريقة وهي الشريعة والمنهاج والسبيل وأما قولكم إن رسول الله قرنه بالمسنونات فدلالة الاقتران لا تقوى على معارضة أدلة الوجوب ثم إن الخصال المذكورة في الحديث منها ما هو واجب كالمضمضة والاستنشاق والاستنجاء ومنها ما هو مستحب كالسواك وأما تقليم الأظفار فإن الظفر إذا طال جدا بحيث يجتمع تحته الوسخ وجب تقليمه لصحة الطهارة وأما قص الشارب فالدليل يقتضى وجوبه إذا طال وهذا الذي يتعين القول به لأمر رسول الله به ولقوله من لم يأخذ شاربه فليس منا وأما قول الحسن البصري قد أسلم مع رسول الله الناس فما فتش أحدا منهم فجوابه أنهم استغنوا عن التفتيش بما كانوا عليه من الختان فإن العرب قاطبة كلهم كانوا يختتنون واليهود قاطبة تختتن ولم يبق إلا النصارى وهم فرقتان فرقة تختتن وفرقة لا تختتن وقد علم كل من دخل في الإسلام منهم ومن غيرهم أن شعار الإسلام الختان فكانوا يبادرون اليه بعد الإسلام كما يبادرون إلى الغسل ومن كان منهم كبيرا يشق عليه ويخاف التلف سقط عنه وقد سئل الإمام أحمد عن ذبيحة الأقلف وذكر له حديث ابن عباس لا تؤكل فقال ذلك عندي إذا ولد بين أبوين مسلمين فكبر ولم يختتن وأما الكبير إذا أسلم وخاف على نفسه الختان فله عندي رخصة وأما قولكم إن الملة هي التوحيد فالملة هي الدين وهي مجموعة أقوال وأفعال واعتقاد ودخول الأعمال في الملة كدخول الإيمان فالملة هي الفطرة وهي الدين ومحال أن يأمر الله سبحانه باتباع إبراهيم في مجرد الكلمة دون الأعمال وخصال الفطرة وإنما أمر بمتابعه في توحيده وأقواله وأفعاله وهو اختتن امتثالا لأمر ربه الذي أمره به وابتلاه به فوفاه كما أمر فإن لم نفعل كما فعل لم نكن متبعين له وأما قولكم في حديث عثيم بن كليب عن أبيه عن جده بأنه من رواية إبراهيم بن أبي يحيى فالشافعي كان حسن الظن به وغيره يضعفه فحديثه يصلح للاعتضاد بحيث يتقوى به وإن لم يحتج به وحده وكذلك الكلام في مرسل الزهري فإذا لم يحتج به وحده فإن هذه المرفوعات والموقوفات والمراسيل يشد بعضها بعضا وكذلك الكلام في حديث موسى بن إسماعيل وشبهه وأما قولكم إن ابن عباس تفرد بقوله في الأقلف لا تؤكل ذبيحته ولا صلاة له فهذا قول صحابي وقد احتج الأئمة الأربعة وغيرهم بأقوال الصحابة وصرحوا بأنها حجة وبالغ الشافعي في ذلك وجعل مخالفتها بدعة كيف ولم يحفظ عن صحابي خلاف ابن عباس ومثل هذا التشديد والتغليظ لا يقوله عالم مثل ابن عباس في ترك مندوب يخير الرجل بين فعله وتركه وأما قولكم إن الشعائر تنقسم إلى مستحب وواجب فالأمر كذلك ولكن مثل هذا الشعار العظيم الفارق بين عباد الصليب وعباد الرحمن الذي لا تتم الطهارة إلا به وتركه شعار عباد الصليب لا يكون إلا من أعظم الواجبات وأما قولكم أين باب العقوبات من باب الختان فنحن لم نجعل ذلك أصلا في وجوب الختان بل اعتبرنا وجوب أحدهما بوجوب الآخر فإن أعضاء المسلم وظهره ودمه حمى إلا من حد أو حق وكلاهما يتعين إقامته ولا يجوز تعطيله وأما كشف العورة له فلو لم تكن مصلحته أرجح من مفسدة كشفها والنظر إليها ولمسها لم يجز ارتكاب ثلاث مفاسد عظيمة لأمر مندوب يجوز فعله وتركه وأما المداواة فتلك من تمام الحياة وأسبابها التي لا بد للبنية منها فلو كان الختان من باب المندوبات لكان بمنزلة كشفها لما لا تدعو الحاجة إليه وهذا لا يجوز وأما قولكم إن الولي يخرج من مال الصبي أجرة المعلم والمؤدب فلا ريب أن تعليمه وتأديبه حق واجب على الولي فما أخرج ما له إلا فيما لا بد له من صلاحه في دنياه وآخرته منه فلو كان الختان مندوبا محصنا لكان إخراجه بمنزلة الصدقة التطوع عنده وبذله لمن يحج عنه حجة التطوع ونحو ذلك وأما الأضحية عنه فهي مختلف في وجوبها فمن أوجبها لم يخرج ماله إلا في واجب ومن رآها سنة قال ما يحصل بها من جبر قلبه والإحسان إليه وتفريحه أعظم من بقاء ثمنها في ملكه
الفصل الخامس في وقت وجوبه
ووقته عند البلوغ لأنه وقت وجوب العبادات عليه ولا يجب قبل ذلك وفي صحيح البخاري من حديث سعيد بن جبير قال سئل ابن عباس رضي الله عنهما مثل من أنت حين قبض رسول الله قال أنا يومئذ مختون وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك وقد اختلف في سن ابن عباس عند وفاة النبي فقال الزبير والواقدي ولد في الشعب قبل خروج بني هاشم منه قبل الهجرة بثلاث سنين وتوفي رسول الله وله ثلاث عشرة سنة وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس توفي رسول الله وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم يعني المفصل قال أبو عمر روينا ذلك عنه من وجوه قال وقد روي عن ابن إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قبض رسول الله وأنا ختين أو مختون ولا يصح قلت بل هو أصح شيء في الباب وهو الذي رواه البخاري في صحيحه كما تقدم لفظه وقال عبد الله ابن الإمام أحمد حدثنا أبي حدثنا سليمان بن داود حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس قال توفي رسول الله وأنا ابن خمس عشرة سنة قال عبد الله قال أبي وهذا هو الصواب قلت وفي الصحيحين عنه قال أقبلت راكبا على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار فمررت بين يدي بعض الصف 0000 الحديث والذي عليه أكثر أهل السير والأخبار أن سنه كان يوم وفاة النبي ثلاث عشرة سنة فإنه ولد في الشعب وكان قبل الهجرة بثلاث سنين وأقام رسول الله بالمدينة عشرا وقد أخبر أنه كان يومئذ مختونا قالوا ولا يجب الختان قبل البلوغ لأن الصبي ليس أهلا لوجوب العبادات المتعلقة بالأبدان فما الظن بالجرح الذي ورد التعبد به ولا ينتقض هذا بالعدة التي تجب على الصغيرة فإنها لا مؤونة عليها فيها إنما هي مضي الزمان قالوا فإذا بلغ الصبي وهو أقلف أو المرأة غير مختونة ولا عذر لهما ألزمهما السلطان به وعندي أنه يجب على الولي أن يختن الصبي قبل البلوغ بحيث يبلغ مختونا فإن ذلك لا يتم الواجب إلا به وأما قول ابن عباس كانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك أي حتى يقارب البلوغ كقوله تعالى فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف البقرة 65 وبعد بلوغ الأجل لا يتأتى الإمساك وقد صرح ابن عباس أنه كان يوم موت النبي مختونا وأخبر في حجة الوداع التي عاش بعدها رسول الله بضعة وثمانين يوما أنه كان قد ناهز الاحتلام وقد أمر النبي الآباء أن يأمروا أولادهم بالصلاة لسبع وأن يضربوهم على تركها لعشر فكيف يسوغ لهم ترك ختانهم حتى يجاوزوا البلوغ والله أعلم
الفصل السادس في الاختلاف في كراهية يوم السابع
وقد اختلف في ذلك على قولين هما روايتان عن الإمام أحمد قال الخلال باب ذكر ختان الصبي أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد أنه ذاكر أبا عبد الله ختاننه الصبي لكم يختتن قال لا أدري لم أسمع فيه شيئا فقلت إنه يشق على الصغير ابن عشر يغلظ عليه وذكرت له ابني محمدا أنه في خمس سنين فأشتهي أن أختنه فيها ورأيته كأنه يشتهي ذلك ورأيته يكره العشرة لغلظه عليه وشدته فقال لي ما ظننت أن الصغير يشتد عليه هذا ولم أره يكره للصغير للشهر أو السنة ولم يقل في ذلك شيئا إلا أني رأيته يعجب من أن يكون هذا يؤذي الصغير قال عبد الملك وسمعته يقول كان الحسن يكره أن يختتن الصبي يوم سابعه أخبرنا محمد بن علي السمسار قال حدثنا مهنا قال سألت أبا عبد الله عن الرجل يختن ابنه لسبعة أيام فكرهه وقال هذا فعل اليهود وقال لي أحمد بن حنبل كان الحسن يكره أن يختن الرجل ابنه لسبعة أيام فقلت من ذكره عن الحسن قال بعض البصريين وقال لي أحمد بلغني أن سفيان الثوري سأل سفيان بن عيينة في كم يختن الصبي فقال سفيان لو قلت له في كم ختن ابن عمر بنيه فقال لي أحمد ما كان أكيس سفيان بن عيينة يعني حين قال لو قلت له في كم ختن ابن عمر بنيه أخبرني عصمة بن عصام حدثنا حنبل أن أبا عبد الله قال وإن ختن يوم السابع فلا بأس وإنما كرهه الحسن كيلا يتشبه باليهود وليس في هذا شيء أخبرني محمد بن علي حدثنا صالح أنه قال لأبيه يختن الصبي لسبعة أيام قال يروى عن الحسن أنه قال فعل اليهود قال وسئل وهب بن منبه عن ذلك فقال إنما يستحب ذلك في اليوم السابع لخفته على الصبيان فإن المولود يولد وهو خدر الجسد كله لا يجد ألم ما أصابه سبعا وإذا لم يختتن لذلك فدعوه حتى يقوى وقال ابن المنذر في ذكر وقت الختان وقد اختلفوا في وقت الختان فكرهت طائفة أن يختن الصبي يوم سابعه كره ذلك الحسن البصري ومالك بن أنس خلافا على اليهود وقال الثوري هو خطر قال مالك والصواب في خلاف اليهود قال وعامة ما رأيت الختان ببلدان إذا أثغر وقال أحمد بن حنبل لم أسمع في ذلك شيئا وقال الليث بن سعد الختان للغلام ما بين السبع سنين إلى العشرة قال وقد حكي عن مكحول أو غيره أن إبراهيم خليل الرحمن ختن ابنه إسحاق لسبعة أيام وختن ابنه إسماعيل لثلاث عشرة سنة وروي عن أبي جعفر أن فاطمة كانت تختن ولدها يوم السابع قال ابن المنذر ليس في هذا الباب نهي يثبت وليس لوقوع الختان خبر يرجع إليه ولا سنة تستعمل فالأشياء على الإباحة ولا يجوز حظر شيء منها إلا بحجة ولا نعلم مع من منع أن يختن الصبي لسبعة أيام حجة وفي سنن البيهقي من حديث زهير بن محمد عن محمد بن المنكدر عن جابر قال عق رسول الله النبي عن الحسن والحسين وختنهما لسبعة أيام وفيها من حديث موسى بن علي بن رباح عن أبيه أن إبراهيم ختن إسحاق وهو ابن سبعة أيام قال شيخنا ختن إبراهيم إسحاق لسبعة أيام وختن إسماعيل عند بلوغه فصار ختان إسحاق سنة في بنيه وختان إسماعيل سنة في بنيه والله أعلم
الفصل السابع في حكمة الختان وفوائده
الختان من محاسن الشرائع التي شرعها الله سبحانه لعباده ويجمل بها محاسنهم الظاهرة والباطنة فهو مكمل للفطرة التي فطرهم عليها ولهذا كان من تمام الحنيفبة ملة إبراهيم وأصل مشروعية الختان لتكميل الحنيفية فإن الله عز و جل لما عاهد إبراهيم وعده أن يجعله للناس إماما ووعده أن يكون أبا لشعوب كثيرة وأن يكون الأنبياء والملوك من صلبه وأن يكثر نسله وأخبره أنه جاعل بينه وبين نسله علامة العهد أن يختنوا كل مولود منهم ويكون عهدي هذا ميسما في أجسادهم فالختان علم للدخول في ملة إبراهيم وهذا موافق لتأويل من تأول قوله تعالى صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة البقرة 138 على الختان فالختان للحنفاء بمنزلة الصبغ والتعميد لعباد الصليب فهم يطهرون أولادهم بزعمهم حين يصبغونهم في المعمودية ويقولون الآن صار نصرانيا فشرع الله سبحانه للحنفاء صبغة الحنيفية وجعل ميسمها الختان فقال صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة البقرة 138 وقد جعل الله سبحانه السمات علامة لمن يضاف منها إليه المعلم بها ولهذا الناس يسمون دوابهم ومواشيهم بأنواع السمات حتى يكون ما يضاف منها إلى كل إنسان معروفا بسمته ثم قد تكون هذه السمة متوارثة في أمة بعد أمة فجعل الله سبحانه الختان علما لمن يضاف اليه وإلى دينه وملته وينسب اليه بنسبة العبودية والحنيفية حتى إذا جهلت حال إنسان في دينه عرف بسمة الختان ورنكه وكانت العرب تدعى بأمة الختان ولهذا جاء في حديث هرقل إني أجد ملك الختان قد ظهر فقال له أصحابه لا يهمنك هذا فإنما تختتن اليهود فاقتلهم فبينما هم على ذلك وإذا برسول رسول الله قد جاء بكتابه فأمر به أن يكشف وينظر هل هو مختون فوجد مختونا فلما أخبره أن العرب تختتن قال هذا ملك هذه الأمة ولما كانت وقعة أجنادين بين المسلمين والروم جعل هشام بن العاص يقول يا معشر المسلمين إن هؤلاء القلف لا صبر لهم على السيف فذكرهم بشعار عباد الصليب ورنكهم وجعله مما يوجب إقرام الحنفاء عليهم وتطهير الأرض منهم والمقصود أن صبغة الله هي الحنيفية التي صبغت القلوب بمعرفته ومحبته والإخلاص له وعبادته وحده لا شريك له وصبغت الأبدان بخصال الفطرة من الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط والمضمضة والاستنشاق والسواك والاستنجاء فظهرت فطرة الله على قلوب الحنفاء وأبدانهم قال محمد بن جرير قي قوله تعالى صبغة الله يعني بالصبغة صبغة الإسلام وذلك أن النصارى إذا أرادت أن تنصر أطفالهم جعلتهم في ماء لهم تزعم أن ذلك لها تقديس بمنزلة غسل الجنابة لأهل الإسلام وأنه صبغة لهم في النصرانية فقال الله جل ثناؤه لنبيه لما قال اليهود والنصارى كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين إلى قوله صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة البقرة 135 - 138 قال قتادة إن اليهود تصبغ أبناءها يهودا والنصارى تصبغ أبناءها نصارى وإن صبغة الله الإسلام فلا صبغة أحسن من الإسلام و لا أطهر وقال مجاهد صبغة الله فطرة الله وقال غيره دين الله هذا مع ما في الختان من الطهارة والنظافة والتزيين وتحسين الخلقة وتعديل الشهوة التي إذا أفرطت ألحقت الإنسان بالحيوانات وإن عدمت بالكلية ألحقته بالجمادات فالختان يعدلها ولهذا تجد الأقلف من الرجال والقلفاء من النساء لا يشبع من الجماع ولهذا يذم الرجل ويشتم ويعير بأنه ابن القلفاء إشارة الى غلمتها وأي زينة أحسن من أخذ ما طال وجاوز الحد من جلدة القلفة وشعر العانة وشعر الإبط وشعر الشارب وما طال من الظفر فإن الشيطان يختبىء تحت ذلك كله ويألفه ويقطن فيه حتى إنه ينفخ في إحليل الأقلف وفرج القلفاء ما لاينفخ في المختون ويختبىء في شعر العانة وتحت الأظفار فالغرلة أقبح في موضعها من الظفر الطويل والشارب الطويل والعانة الفاحشة الطول ولا يخفى على ذي الحس السليم قبح الغرلة وما في إزالتها من التحسين والتنظيف والتزيين ولهذا لما ابتلى الله خليله إبراهيم بإزالة هذه الأمور فأتمهن جعله إماما للناس هذا مع ما فيه من بهاء الوجه وضيائه وفي تركه من الكسفة التي ترى عليه وقد ذكر حرب في مسائله عن ميمونة زوج النبي أنها قالت للخاتنة إذا خفضت فأشمي ولا تنهكي فإنه أسرى للوجه وأحظى لها عند زوجها وروى أبو داود عن أم عطية أن رسول الله أمر ختانه تختن فقال إذا ختنت فلا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب للبعل ومعنى هذا أن الخافضة إذا استأصلت جلدة الختان ضعفت شهوة المرأة فقلت حظوتها عند زوجها كما أنها إذا تركتها كما هي لم تأخذ منها شيئا ازدادت غلمتها فإذا أخذت منها وأبقت كان في ذلك تعديلا للخلقة والشهوة هذا مع أنه لا ينكر أن يكون قطع هذه الجلدة علما على العبودية فإنك تجد قطع طرف الأذن وكي الجبهة ونحو ذلك في كثير من الرقيق علامة لرقهم وعبوديتهم حتى إذا أبق رد إلى مالكه بتلك العلامة فما ينكر أن يكون قطع هذا الطرف علما على عبودية صاحبه لله سبحانه حتى يعرف الناس أن من كان كذلك فهو من عبيد الله الحنفاء فيكون الختان علما لهذه السنة التي لا أشرف منها مع ما فيه من الطهارة والنظافة والزينة وتعديل الشهوة وقد ذكر في حكمة خفض النساء أن سارة لما وهبت هاجر لإبراهيم أصابها فحملت منه فغارت سارة فحلفت لتقطعن منها ثلاثة أعضاء فخاف إبراهيم أن تجدع أنفها وتقطع أذنها فأمرها بثقب أذنيها وختانها وصار ذلك سنة في النساء بعد ولا ينكر هذا كما كان مبدأ السعي سعي هاجر بين جبلين تبتغي لابنها القوت وكما كان مبدأ الجمار حصب إسماعيل للشيطان لما ذهب مع أبيه فشرع الله سبحانه لعباده تذكرة وإحياء لسنة خليله وإقامة لذكره وإعظاما لعبوديته والله أعلم
الفصل الثامن في بيان القدر الذي يؤخذ من الختان
قال أبو البركات في كتابه الغاية ويؤخذ في ختان الرجل جلدة الحشفة وإن اقتصر على أخذ أكثرها جاز ويستحب لخافضة الجارية أن لا تحيف نص عليه وحكي عن عمر أنه قال للخاتنة أبقي منه إذا خفضت وقال الخلال في جامعه ذكر ما يقطع في الختان أخبرني محمد بن الحسين أن الفضل بن زياد حدثهم قال سئل أحمد كم يقطع في الختانة قال حتى تبدو الحشفة وأخبرني عبد الملك الميموني قال قلت يا أبا عبد الله مسألة سئلت عنها ختان ختن صبيا فلم يستقص فقال إذا كان الختان قد جاز نصف الحشفة إلى فوق فلا يعتد به لأن الحشفة تغلظ وكلما غلظت هي ارتفعت الختانة ثم قال لي إذا كانت دون النصف أخاف قلت له فإن الإعادة عليه شديدة جدا ولعله قد يخاف عليه الإعادة قال لي إيش يخاف عليه ورأيت سهولة الإعادة إذا كانت الختانة في أقل من نصف الحشفة إلى أسفل وسمعته يقول هذا شيء لا بد أن تتيسر فيه الختانة وقال ابن الصباغ في الشامل الواجب على الرجل أن يقطع الجلدة التي على الحشفة حتى تنكشف جميعها وأما المرأة فلها عذرتان إحداهما بكارتها والأخرى هي التي يجب قطعها وهي كعرف الديك في أعلى الفرج بين الشفرين وإذا قطعت يبقى أصلها كالنواة وقال الجويني في نهايته المستحق في الرجال قطع القلفة وهي الجلدة التي تغشى الحشفة والغرض أن تبرز ولو فرض مقدار منه على الكمرة لا ينبسط على سطح الحشفة فيجب قطعه حتى لا تبقى الجلدة متدلية وقال ابن كج عندي يكفي قطع شيء من القلفة وإن قل بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها وقال الجويني القدر المستحق من النساء ما ينطلق عليه الاسم قال في الحديث ما يدل على الأمر بالإقلال قال أشمي ولا تنكهي أي اتركي الموضع أشم والأشم المرتفع وقال الماوردي والسنة أن يستوعب القلفة التي تغشى الحشفة بالقطع من أصلها وأقل ما يجزئ فيه أن لا يتغشى بها شيء من الحشفة وأما خفض المرأة فهو قطع جلدة في الفرج فوق مدخل الذكر ومخرج البول على أصل كالنواة ويؤخذ منه الجلدة المستعلية دون أصلها وقد بان بهذا أن القطع في الختان ثلاثة أقسام سنة وواجب وغير مجزئ على ما تقدم والله أعلم
الفصل التاسع في أن حكمه يعم الذكر والأنثى
قال صالح بن أحمد إذا جامع الرجل امرأته ولم ينزل قال إذا التقى الختانان وجب الغسل قال أحمد وفي هذا أن النساء كن يختتن وسئل عن الرجل تدخل عليه امرأته فلم يجدها مختونة أيجب عليها الختان قال الختان سنة قال الخلال وأخبرني أبو بكر المروزي وعبد الكريم الهيثم ويوسف بن موسى دخل كلام بعضهم في بعض أن أبا عبد الله سئل عن المرأة تدخل على زوجها ولم تختتن أيجب عليها الختان فسكت والتفت إلى أبي حفص فقال تعرف في هذا شيئا قال لا فقيل له إنها أتى عليها ثلاثون أو أربعون سنة فسكت قيل له فإن قدرت على أن تختتن قال حسن قال وأخبرني محمد بن يحيى الكحال قال سألت أبا عبد الله عن المرأة تختتن فقال قد خرجت فيه أشياء ثم قال فنظرت فإذا خبر النبي حين يلتقي الختانان ولا يكون واحدا إنما هو اثنان قلت لأبي عبد الله فلا بد منه قال الرجل أشد وذلك أن الرجل إذا لم يختتن فتلك الجلدة مدلاة على الكمرة فلا يبقى مأثم والنساء أهون قلت لا خلاف في استحبابه للأنثى واختلف في وجوبه وعن أحمد في ذلك روايتان إحداهما يجب على الرجال والنساء والثانية يختص وجوبه بالذكور وحجة هذه الرواية حديث شداد بن أوس الختان سنة للرجال مكرمة للنساء ففرق فيه بين الذكور والإناث ويحتج لهذا القول بأن الأمر به إنما جاء للرجال كما أمر الله سبحانه به خليله عليه السلام ففعله امتثالا لأمره وأما ختان المرأة فكان سببه يمين سارة كما تقدم قال الإمام أحمد لا تحيف خافضة المرأة لأن عمر قال لختانه ابقي منه شيئا إذا خفضت وذكر الإمام أحمد عن أم عطية أن رسول الله أمر ختانه تختن فقال إذا ختنت فلا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب للبعل والحكمة التي ذكرناها في الختان تعم الذكر والأنثى وإن كانت في الذكر أبين والله أعلم
الفصل العاشر في حكم جناية الخاتن وسراية الختان
قال الله تعالى ما على المحسنين من سبيل التوبة 91 وفي السنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي أنه قال من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن أما جناية يد الخاتن فمضمونه عليه أو على عاقلته كجناية غيره فإن زادت على ثلث الدية كانت على العاقلة وإن نقصت عن الثلث فهي في ماله وأما ما تلف بالسراية فإن لم يكن من أهل العلم بصناعته ولم يعرف بالحذق فيها فإنه يضمنها لأنها سراية جرح لم يجز الإقدام عليه فهي كسراية الجناية مضمونة واختلفوا فيما عداها فقال أحمد ومالك لا تضمن سراية مأذون فيه حدا كان أو تأديبا مقدرا كان أو غير مقدر لأنها سراية مأذون فيه فلم يضمن كسراية استيفاء منفعة النكاح وإزالة البكارة وسراية الفصد والحجامة والختان وبط الدمل وقطع السلعة المأذون فيه لحاذق لم يتعد وقال الشافعي لا يضمن سراية المقدر حدا كان أو قصاصا ويضمن سراية غير المقدر كالتعزيز والتأديب لأن التلف به دليل على التجاوز والعدوان وقال أبو حنيفة لا يضمن سراية الواجب خاصة ويضمن سراية القود لأنه إنما أبيح له استيفاؤه بشرط السلامة والسنة الصحيحة تخالف هذا القول وإن كان الخاتن عارفا بالصناعة وختن المولود في الزمن الذي يختتن في مثله وأعطى الصناعة حقها لم يضمن سراية الجرح اتفاقا كما لو مرض المختون من ذلك ومات فإن أذن له أن يختنه في زمن حر مفرط أو برد مفرط أو حال ضعف يخاف عليه منه فإن كان بالغا عاقلا لم يضمنه لأنه أسقط حقه بالإذن فيه وإن كان صغيرا ضمنه لأنه لا يعتبر إذنه شرعا وإن أذن فيه وليه فهو موضع نظر هل يجب الضمان على الولي أو على الخاتن ولا ريب أن الولي المتسبب والخاتن مباشر فالقاعدة تقتضي تضمين المباشر لأنه يمكن الإحالة عليه بخلاف ما إذا تعذر تضمينه فهذا تفصيل القول في جناية الخاتن وسراية ختانه والله أعلم
الفصل الحادي عشر في أحكام الأقلف من طهارته وصلاته وذبيحته وشهادته وغير
ذلك قال الخلال أخبرني محمد بن إسماعيل حدثنا وكيع عن سالم بن العلاء المرادي عن عمرو بن هرم عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال الأقلف لا تقبل له صلاة ولا تؤكل ذبيحته قال وكيع الأقلف إذا بلغ فلم يختتن لم تجز شهادته أخبرني عصمة بن عصام حدثنا حنبل قال حدثني أبو عبد الله حدثنا محمد بن عبيد عن سالم المرادي عن عمرو بن هرم عن جابر بن زيد عن ابن عباس لا تؤكل ذبيحة الأقلف قال حنبل سمعت أبا عبد الله قال لا يعجبني أن يذبح الأقلف وقال حنبل في موضع آخر حدثنا أبو عمرو الحوضي حدثنا همام عن قتادة عن عكرمة قال لا تؤكل ذبيحة الأقلف قال وكان الحسن لا يرى ما قاله عكرمة قال قيل لعكرمة أله حج قال لا قال حنبل قال أبو عبد الله لا تؤكل ذبيحته ولا صلاة له ولا حج له حتى يتطهر هو من تمام الإسلام وقال حنبل في موضع آخر قال أبو عبد الله الأقلف لا يذبح ولا تؤكل ذبيحته ولا صلاة له وقال عبد الله بن أحمد حدثني أبي حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال الأقلف لا تحل له صلاة ولا تؤكل ذبيحته ولا تجوز له شهادة قال قتادة وكان الحسن لا يرى ذلك وقال إسحاق بن منصور قلت لأبي عبد الله ذبيحة الأقلف قال لا بأس بها وقال أبو طالب سألت أبا عبد الله عن ذبيحة الأقلف فقال ابن عباس شدد في ذبيحته جدا وقال الفضل بن زياد سألت أبا عبد الله عن ذبيحة الأقلف فقال يروى عن إبراهيم والحسن وغيرهما أنهم كانوا لا يرون بها بأسا إلا شيئا يروى عن جابر بن زيد عن ابن عباس أنه كرهه قال أبو عبد الله وهذا يشتد على الناس فلو أن رجلا أسلم وهو كبير فخافوا عليه الختان أفلا تؤكل ذبيحته وذكر الخلال عن أبي السمح أحمد بن عبد الله بن ثابت قال سمعت أحمد بن حنبل وسئل عن ذبيحة الأقلف وذكر له حديث ابن عباس لا تؤكل ذبيحته فقال أحمد ذاك عندي إذا كان الرجل يولد بين أبوين مسلمين فكيف لا يختتن فأما الكبير إذا أسلم وخاف على نفسه الختان فله عندي رخصة ثم ذكر قصة الحسن مع أمير البصرة الذي ختن الرجال في الشتاء فمات بعضهم قال فكان أحمد يقول إذا أسلم الكبير وخاف على نفسه فله عندي عذر
الفصل الثاني عشر في المسقطات لوجوبه
وهي أمور أحدها أن يولد الرجل ولا قلفة له فهذا مستغن عن الختان إذا لم يخلق له ما يجب ختانه وهذا متفق عليه لكن قال بعض المتأخرين يستحب إمرار الموسى على موضع الختان لأنه ما يقدر عليه من المأمور به وقد قال النبي إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وقد كان الواجب أمرين مباشرة الحديدة والقطع فإذا سقط القطع فلا أقل من استحباب مباشرة الحديدة والصواب أن هذا مكروه لا يتقرب إلى الله به ولا يتعبد بمثله وتنزه عنه الشريعة فإنه عبث لا فائدة فيه وإمرار الموسى غير مقصود بل هو وسيلة إلى فعل المقصود فإذا سقط المقصود لم يبق للوسيلة معنى ونظير هذا ما قال بعضهم إن الذي يخلق على رأسه شعر يستحب له في النسك أن يمر الموسى على رأسه ونظير قول بعض المتأخرين من أصحاب أحمد وغيرهم أن الذي لا يحسن القراءة بالكلية ولا الذكر أو أخرس يحرك لسانه حركة مجردة قال شيخنا ولو قيل إن الصلاة تبطل بذلك كان أقرب لأنه عبث ينافي الخشوع وزيادة عمل غير مشروع والمقصود أن هذا الذي ولد ولا قلفة له كانت العرب تزعم أنه إذا ولد في القمر تقلصت قلفته وتجمعت ولهذا يقولون ختنه القمر وهذا غير مطرد ولا هو أمر مستمر فلم يزل الناس يولدون في القمر والذي يولد بلا قلفة نادر جدا ومع هذا فلا يكون زوال القلفة تاما بل يظهر رأس الحشفة بحيث يبين مخرج البول ولهذا لا بد من ختانه ليظهر تمام الحشفة وأما الذي يسقط ختانه فأن تكون الحشفة كلها ظاهرة وأخبرني صاحبنا محمد بن عثمان الخليلي المحدث ببيت المقدس أنه ممن ولد كذلك والله أعلم
فصل
الثاني من مسقطاته ضعف المولود عن احتماله بحيث يخاف عليه من التلف ويستمر به الضعف كذلك فهذا يعذر في تركه إذ غايته أنه واجب فيسقط بالعجز عنه كسائر الواجبات
فصل
الثالث أن يسلم الرجل كبيرا ويخاف على نفسه منه فهذا يسقط عنه عند الجمهور ونص عليه الإمام أحمد في رواية جماعة من أصحابه وذكر قول الحسن أنه قد أسلم في زمن رسول الله الرومي والحبشي والفارسي فما فتش أحدا منهم وخالف سحنون بن سعيد الجمهور فلم يسقطه عن الكبير الخائف على نفسه وهو قول في مذهب أحمد حكاه ابن تميم وغيره فصل وظاهر كلام أصحابنا أنه يسقط وجوبه فقط عند خوف التلف والذي ينبغي أن يمنع من فعله ولا يجوز له وصرح به في شرح الهداية فقال يمنع منه ولهذا نظائر كثيرة منها الاغتسال بالماء البارد في حال قوة البرد والمرض وصوم المريض الذي يخشى تلفه بصومه وإقامة الحد على المريض والحامل وغير ذلك فإن هذه الأعذار كلها تمنع إباحة الفعل كما تسقط وجوبه فصل الرابع الموت فلا يجب ختان الميت باتفاق الأمة وهل يستحب فجمهور أهل العلم على أنه لا يستحب وهو قول الأئمة الأربعة وذكر بعض الأئمة المتأخرين أنه مستحب وقاسه على أخذ شاربه وحلق عانته ونتف إبطه وهذا مخالف لما عليه عمل الأمة وهو قياس فاسد فإن أخذ الشارب وتقليم الظفر وحلق العانة من تمام طهارته وإزالة وسخه ودرنه وأما الختان فهو قطع عضو من أعضائه والمعنى الذي لأجله شرع في الحياة قد زال بالموت فلا مصلحة في ختانه وقد أخبر النبي أنه يبعث يوم القيامة بغرلته غير مختون فما الفائدة أن يقطع منه عند الموت عضو يبعث به يوم القيامة وهو من تمام خلقه في النشأة الأخرى
فصل
ولا يمنع الإحرام من الختان نص عليه الإمام أحمد وقد سئل عن المحرم يختتن فقال نعم فلم يجعله من باب إزالة الشعر وتقليم الظفر لا في الحياة ولا بعد الموت
الفصل الثالث عشر في ختان النبي
وقد اختلف فيه على أقوال أحدها أنه ولد مختونا والثاني أن جبريل ختنه حين شق صدره الثالث أن جده عبد المطلب ختنه على عادة العرب في ختان أولادهم ونحن نذكر قائلي هذه الأقوال وحججهم فأما من قال ولد مختونا فاحتجوا بأحاديث أحدها ما رواه أبو عمر بن عبد البر فقال وقد روي أن النبي ولد مختونا من حديث عبد الله بن عباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب قال ولد رسول الله مختونا مسرورا يعني مقطوع السرة فأعجب ذلك جده عبد المطلب وقال ليكونن لابني هذا شأن عظيم ثم قال ابن عبد البر ليس إسناد حديث العباس هذا بالقائم قال وقد روي موقوفا على ابن عمر ولا يثبت أيضا قلت حديث ابن عمر رويناه من طريق أبي نعيم حدثنا أبو الحسن أحمد ابن محمد بن خالد الخطيب حدثنا محمد بن محمد بن سليمان حدثنا عبد الرحمن ابن أيوب الحمصي حدثنا موسى بن أبي موسى المقدسي حدثنا خالد بن سلمة عن نافع عن ابن عمر قال ولد النبي مسرورا مختونا ولكن محمد بن سليمان هذا هو الباغندي وقد ضعفوه وقال الدارقطني كان كثير التدليس يحدث بما لم يسمع وربما سرق الحديث ومنها ما رواه الخطيب بإسناده من حديث سفيان بن محمد المصيصي حدثنا هشيم عن يونس بن عبيد عن الحسن عن أنس بن مالك قال قال رسول الله من كرامتي على الله أني ولدت مختونا ولم ير سوءتي أحد قال الخطيب لم يروه فيما يقال غير يونس عن هشيم وتفرد به سفيان بن محمد المصيصي وهو منكر الحديث قال الخطيب أخبرني الأزهري قال سئل الدارقطني عن سفيان ابن محمد المصيصي وأخبرني أبو الطيب الطبري قال قال لنا الدارقطني شيخ لأهل المصيصة يقال له سفيان بن محمد الفزاري كان ضعيفا سيء الحال وقال صالح بن محمد الحافظ سفيان بن محمد المصيصي لا شيء وقد رواه أبو القاسم بن عساكر من طريق الحسن بن عرفة حدثنا هشيم عن يونس عن الحسن عن أنس قال قال رسول الله من كرامتي على ربي عز و جل أني ولدت مختونا لم ير أحد سوءتي وفي إسناده إلى الحسن بن عرفة عدة مجاهيل قال أبو القاسم بن عساكر وقد سرقه ابن الجارود وهو كذاب فرواه عن الحسن بن عرفة ومما احتج به أرباب هذا القول ما ذكره محمد ابن علي الترمذي في معجزات النبي فقال ومنها أن صفية بنت عبد المطلب قالت أردت أن أعرف أذكر هو أم أنثى فرأيته مختونا وهذا الحديث لا يثبت وليس له إسناد يعرف به وقد قال أبو القاسم عمر بن أبي الحسن بن هبة الله بن أبي جرادة في كتاب صنفه في ختان الرسول يرد به على محمد بن طلحة في تصنيف صنفه وقرر فيه أن رسول الله ولد مختونا وهذا محمد بن علي الترمذي الحكيم لم يكن من أهل الحديث ولا علم له بطرقه وصناعته وإنما كان فيه الكلام على إشارات الصوفية والطرائق ودعوى الكشف على الأمور الغامضة والحقائق حتى خرج في الكلام على ذلك عن قاعدة الفقهاء واستحق الطعن عليه بذلك والإزراء وطعن عليه أئمة الفقهاء والصوفية وأخرجوه بذلك عن السيرة المرضية وقالوا إنه أدخل في علم الشريعة ما فارق به الجماعة فاستوجب بذلك القدح والشناعة وملأ كتبه بالأحاديث الموضوعة وحشاها بالأخبار التي ليست بمروية ولا مسموعة وعلل فيها خفي الأمور الشرعية التي لا يعقل معناها بعلل ما أضعفها وما أوهاها ومما ذكره في كتاب له وسمه بالاحتياط أن يسجد عقب كل صلاة يصليها سجدتي السهو وإن لم يكن سها فيها وهذا مما لا يجوز فعله بالإجماع وفاعله منسوب إلى الغلو والابتداع وما حكاه عن صفية بقولها فرأيته مختونا يناقض الأحاديث الأخر وهو قوله لم ير سوءتي أحد فكل حديث في هذا الباب يناقض الآخر ولا يثبت واحد منها ولو ولد مختونا فليس من خصائصه فإن كثيرا من الناس يولد غير محتاج إلى الختان قال وذكر أبو الغنائم النسابة الزيدي أن أباه القاضي أبا محمد الحسن ابن محمد بن الحسن الزيدي ولد غير محتاج إلى الختان قال ولهذا لقب بالمطهر قال وقال فيما قرأته بخطه خلق أبو محمد الحسن مطهرا لم يختن وتوفي كما خلق وقد ذكر الفقهاء في كتبهم أن من ولد كذلك لا يختن واستحسن بعضهم أن يمر الموسى على موضع الختان ختان القمر يشيرون في ذلك إلى أن النمو في خلقة الإنسان يحصل في زيادة القمر ويحصل النقصان في الخلقة عند نقصانه كما يوجد في ذلك الجزر والمد فينسبون النقصان الذي حصل في القلفة إلى نقصان القمر قال وقد ورد في حديث رواه سيف بن محمد ابن أخت سفيان الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي قال ابن صياد ولد مسرورا مختونا وسيف مطعون في حديثه وقيل إن قيصر ملك الروم الذي ورد عليه امرؤ القيس ولد كذلك ودخل عليه امرؤ القيس الحمام فرآه كذلك فقال يهجوه إني حلفت يمينا غير كاذبة ... لأنت أغلف إلا ما جنى القمر يعيره أنه لم يختتن وجعل ولادته كذلك نقصا وقيل إن هذا البيت أحد الأسباب الباعثة لقيصر على أن سم امرء القيس فمات وأنشد ابن الأعرابي فيمن ولد بلا قلفة فداك نكس لا يبض حجره ... مخرق العرض حديد ممصره في ليل كانون شديد خصره ... عض بأطراف الزبانى قمره يقول هو أقلف ليس بمختون إلا ما قلص منه القمر وشبه قلفته بالزبانى وهي قرنا العقرب وكانت العرب لا تعتد بصورة الختان من غير ختان وترى الفضيلة في الختان نفسه وتفخر به قال وقد بعث الله نبينا من صميم العرب وخصه بصفات الكمال من الخلق والنسب فكيف يجوز أن يكون ما ذكره من كونه مختونا مما يميز به النبي ويخصص وقيل إن الختان من الكلمات التي ابتلى الله بها خليله فأتمهن وأكملهن وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل وقد عد النبي الختان من الفطرة ومن المعلوم أن الابتلاء به مع الصبر مما يضاعف ثواب المبتلى به وأجره والأليق بحال النبي أن لا يسلب هذه الفضيلة وأن يكرمه الله بها كما أكرم خليله فإن خصائصه أعظم من خصائص غيره من النبيين وأعلى وختن الملك إياه كما رويناه أجدر من أن يكون من خصائصه وأولى هذا كله كلام ابن العديم ويريد بختن الملك ما رواه من طريق الخطيب عن أبي بكرة أن جبريل ختن النبي حين طهر قلبه وهو مع كونه موقوفا على أبي بكرة لا يصح إسناده فإن الخطيب قال فيه أنبأنا أبو القاسم عبد الواحد بن عثمان بن محمد البجلي أنبأنا جعفر بن محمد بن نصير حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان حدثنا عبد الرحمن بن عيينة البصري حدثنا علي بن محمد المدائني حدثنا مسلمة بن محارب بن سليم بن زياد عن أبيه عن أبي بكرة وليس هذا الإسناد مما يحتج به وحديث شق الملك قلبه قد روي من وجوه متعددة مرفوعا إلى النبي وليس في شيء منها أن جبريل ختنه إلا في هذا الحديث فهو شاذ غريب قال ابن العديم وقد جاء في بعض الروايات أن جده عبد المطلب ختنه في اليوم السابع قال وهو على ما فيه أشبه بالصواب وأقرب إلى الواقع ثم ساق من طريق ابن عبد البر حدثنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن أحمد قراءة مني عليه أن محمد بن عيسى حدثه قال حدثنا يحيى بن أيوب بن زياد العلاف حدثنا محمد بن أبي السري العسقلاني حدثنا الوليد بن مسلم عن شعيب بن أبي حمزة عن عطاء الخراساني عن عكرمة عن ابن عباس أن عبد المطلب ختن النبي يوم سابعه وجعل له مأدبة وسماه محمدا قال يحيى بن أيوب ما وجدنا هذا الحديث عند أحد إلا عند ابن أبي السري وهو محمد بن المتوكل بن أبي السري والله أعلم
الفصل الرابع عشر في الحكمة التي لأجلها يعاد بنو آدم غرلا
لما وعد الله سبحانه وهو صادق الوعد الذي لا يخلف وعده أنه يعيد الخلق كما بدأهم أول مرة كان من صدق وعده أن يعيده على الحالة التي بدأه عليها من تمام أعضائه وكمالها قال الله تعالى يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين الأنبياء 104 وقال تعالى كما بدأكم تعودون الأعراف 29 وأيضا فإن الختان إنما شرع في الدنيا لتكميل الطهارة والتنزه من البول وأهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون فليس هناك نجاسة تصيب الغرلة فيحتاج إلى التحرز منها والقلفة لا تمنع لذة الجماع ولا تعوقه هذا إن قدر استمرارهم على تلك الحالة التي بعثوا عليها وإلا فلا يلزم من كونهم يبعثون كذلك أن يستمروا على تلك الحالة التي بعثوا عليها فإنهم يبعثون حفاة عراة بهما ثم يكسون ويمد خلقهم ويزاد فيه بعد ذلك يزاد في خلق أهل الجنة والنار وإلا فوقت قيامهم من القبور يكونون على صورتهم التي كانوا عليها في الدنيا وعلى صفاتهم وهيئاتهم وأحوالهم فيبعث كل عبد على ما مات عليه ثم ينشئهم الله سبحانه كما يشاء وهل تبقى تلك الغرلة التي كملت خلقهم في القبور أو تزول يمكن هذا وهذا ولا يعلم إلا بخبر يجب المصير إليه والله سبحانه وتعالى أعلم
الباب العاشر في ثقب أذن الصبي والبنت
أما أذن البنت فيجوز ثقبها للزينة نص عليه الإمام أحمد ونص على كراهته في حق الصبي والفرق بينهما أن الأنثى محتاجة للحلية فثقب الأذن مصلحة في حقها بخلاف الصبي وقد قال النبي لعائشة في حديث أم زرع كنت لك كأبي زرع لأم زرع مع قولها أناس من حلي أذني أي ملأها من الحلي حتى صار ينوس فيها أي يتحرك ويجول وفي الصحيحين لما حرض النبي النساء على الصدقة جعلت المرأة تلفي خرصها الحديث والخرص هو الحلقة الموضوعة في الأذن ويكفي في جوازه علم الله ورسوله بفعل الناس له وإقرارهم على ذلك فلو كان مما ينهى عنه لنهى القرآن أو السنة فإن قيل فقد أخبر الله سبحانه عن عدوه إبليس أنه قال ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام النساء 119 أي يقطعونها وهذا يدل على أن قطع الأذن وشقها وثقبها من أمر الشيطان فإن البتك هو القطع وثقب الأذن قطع لها فهذا ملحق بقطع أذن الأنعام قيل هذا من أفسد القياس فإن الذي أمرهم به الشيطان أنهم كانوا إذا ولدت لهم الناقة خمسة أبطن فكان البطن السادس ذكرا شقوا أذن الناقة وحرموا ركوبها والانتفاع بها ولم تطرد عن ماء ولا عن مرعى وقالوا هذه بحيرة فشرع لهم الشيطان في ذلك شريعة من عنده فأين هذا من نخس أذن الصبية ليوضع فيها الحلية التي أباح الله لها أن تتحلى بها وأما ثقب الصبي فلا مصلحة له فيه وهو قطع عضو من أعضائه لا مصلحة دينية ولا دنيوية فلا يجوز ومن أعجب ما في هذا الباب ما قال الخطيب في تاريخه أنا الحسن بن علي الجوهري ثنا محمد بن العباس الخزاز حدثنا أبو عمرو عثمان بن جعفر المعروف بابن اللبان ثنا أبو الحسن علي بن إسحاق بن راهويه قال ولد أبي من بطن أمه مثقوب الأذنين قال فمضى جدي راهويه إلى الفضل بن موسى السيناني فسأله عن ذلك وقال ولد لي ولد خرج من بطن أمه مثقوب الأذنين فقال يكون ابنك رأسا إما في الخير وإما في الشر فكأن الفضل بن موسى والله أعلم تفرس فيه أنه لما تفرد عن المولودين كلهم بهذه الخاصة أن ينفرد عنهم بالرياسة في الدين أو الدنيا وقد كان رحمه الله رأس أهل زمانه في العلم والحديث والتفسير والسنة والجلالة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكسر الجهمية وأهل البدع ببلاد خراسان وهو الذي نشر السنة في بلاد خراسان وعنه انتشرت هناك وقد كان له مقامات محمودة عند السلطان يظفره الله فيها بأعدائه ويخزيهم على يديه حتى تعجب منه السلطان والحاضرون حتى قال محمد بن أسلم الطوسي لو كان الثوري حيا لاحتاج إلى إسحاق فأخبر بذلك أحمد بن سعيد الرباطي فقال والله لو كان الثوري وابن عيينة والحمادان في الحياة لاحتاجوا إلى إسحاق فأخبر بذلك محمد بن يحيى الصفار فقال والله لو كان الحسن البصري حيا لاحتاج إلى إسحاق في أشياء كثيرة وكان الإمام أحمد يسميه أمير المؤمنين وسنذكر هذا وأمثاله في كتاب نفرده لمناقبه إن شاء الله تعالى ونذكر حكاية عجيبة يستدل بها على أنه كان رأس أهل زمانه قال الحاكم أبو عبد الله في تاريخ نيسابور أخبرني أبو محمد بن زياد قال سمعت أبا العباس الأزهري قال سمعت علي بن سلمة يقول كان إسحاق عند عبد الله ابن طاهر وعنده إبراهيم بن صالح فسأل عبد الله بن طاهر إسحاق عن مسألة فقال إسحاق السنة فيها كذا وكذا وأما النعمان وأصحابه فيقولون بخلاف هذا فقال إبراهيم لم يقل النعمان بخلاف هذا فقال إسحاق حفظته من كتاب جدك وأنا وهو في كتاب واحد فقال إبراهيم للأمير أصلحك الله كذب إسحاق على جدي فقال إسحاق ليبعث الأمير إلى جزء كذا وكذا من الجامع فليحضره فأتى بالكتاب فجعل الأمير يقلب الكتاب فقال إسحاق عد من أول الكتاب إحدى وعشرين ورقة ثم عد تسعة أسطر ففعل فإذا المسألة على ما قال إسحاق فقال عبد الله بن طاهر ليس العجب من حفظك إنما العجب بمثل هذه المشاهدة فقال إسحاق ليوم مثل هذا لكي يخزي الله على يدي عدوا للسنة مثل هذا وقال له عبد الله بن طاهر قيل لي إنك تحفظ مائة ألف حديث فقال له مائة ألف لا أدري ما هو ولكني ما سمعت شيئا قط إلا حفظته ولا حفظت شيئا قط فنسيته والمقصود صحة فراسة الفضل بن موسى فيه وأنه يكون رأسا في الخير والله أعلم
الباب الحادي عشر في حكم بول الغلام والجارية قبل أن يأكلا الطعام
ثبت في الصحيحين والسنن والمسانيد عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه عليه ولم يغسله وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي قال بول الغلام الرضيع ينضح وبول الجارية يغسل قال قتادة هذا ما لم يطعما فإذا طعما غسلا جميعا رواه الإمام أحمد والترمذي وقال حديث حسن وصححه الحاكم وقال هو على شرط الشيخين وعن عائشة رضي الله عنها قالت أ تي رسول الله بصبي يحنكه فبال عليه فأتبعه الماء رواه البخاري ومسلم وزاد مسلم ولم يغسله وعن أم كرز الخزاعية قالت أتي النبي بغلام فبال عليه فأمر به فنضح وأتي بجارية فبالت عليه فأمر به فغسل رواه الإمام أحمد وفي سنن ابن ماجة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن أم كرز أن النبي قال بول الغلام ينضح وبول الجارية يغسل وعن أم الفضل لبابة بنت الحارث قالت بال الحسين بن علي في حجر النبي فقلت يا رسول الله أعطني ثوبك والبس ثوبا غيره حتى أغسله فقال إنما ينضح من بول الذكر وبغسل من بول الأنثى رواه الإمام أحمد وأبو داود وقال الحاكم هو صحيح وفي صحيح الحاكم من حديث عبد الرحمن بن مهدي حدثنا يحيى بن الوليد حدثني محل بن خليفة حدثني أبو السمح قال كنت خادم النبي فجيء بالحسن والحسين فبالا على صدره فأرادوا أن يغسلوه فقال رشوه رشا فإنه يغسل بول الجارية ويرش بول الغلام قال الحاكم هو صحيح ورواه أهل السنن وذهب إلى القول بهذه الأحاديث جمهور أهل العلم من أهل الحديث والفقه حتى ذهب داود إلى طهارة بول الغلام قال لأن النص إنما ورد بنضحه ورشه دون غسله والنضح والرش لا يزيله وقال فقهاء العراق لا يجزئ فيه إلا الغسل فيهما جميعا هذا قول النخعي والثوري وأبي حنيفة وأصحابه لعموم الأحاديث الواردة بغسل البول وقياسا على سائر النجاسات وقياسا لبول الغلام على بول الجارية والسنة قد فرقت بين البولين صريحا فلا يجوز التسوية بين ما صرحت به السنة بالفرق بينهما وقالت طائفة منهم الأوزاعي ومالك في رواية الوليد بن مسلم عنه ينضح بول الغلام والجارية دفعا للمشقة لعموم الابتلاء بالتربية والحمل لهما وهذا القول يقابل من قال يغسلان والتفريق هو الصواب الذي دلت عليه السنة الصحيحة الصريحة قال أبو البركات ابن تيمية والتفريق بين البولين إجماع الصحابة رواه أبو داود عن علي بن أبي طالب ورواه سعيد بن منصور عن أم سلمة وقال إسحاق بن راهويه مضت السنة من رسول الله بأن يرش بول الصبي الذي لم يطعم الطعام ويغسل بول الجارية طعمت أو لم تطعم قال وعلى ذلك كان أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم قال ولم يسمع عن النبي ولا عمن بعده إلى زمان التابعين أن أحدا سوى الغلام والجارية انتهى كلامه والقياس في مقابلة السنة مردود وقد فرق بين الغلام والجارية في المعنى بعدة فروق أحدها أن بول الغلام يتطاير وينشر هاهنا وهاهنا فيشق غسله وبول الجارية يقع في موضع واحد فلا يشق غسله الثاني أن بول الجارية أنتن من بول الغلام لأن حرارة الذكر أقوى وهي تؤثر في إنضاج البول وتخفيف رائحته الثالث أن حمل الغلام أكثر من حمل الجارية لتعلق القلوب به كما تدل عليه المشاهدة فإن صحت هذه الفروق وإلا فالمعول على تفريق السنة قال الأصحاب وغيرهم النضح أن يغرقه بالماء وإن لم يزل عنه وليس هذا بشرط بل النضح الرش كما صرح به في اللفظ الآخر بحيث يكاثر البول بالماء ولا يبطل حكم النضح بتعليق الغسل والشراب والتحنيك ونحوه لئلا تتعطل الرخصة فإنه لا يخلو من ذلك مولود غالبا ولأن النبي كان من عادته تحنيك الأطفال بالتمر عند ولادتهم وإنما يزول حكم النضح إذا أكل الطعام وأراده واشتهاه تغذيا به والله أعلم
الباب الثاني عشر في حكم ريقه ولعابه
هذه المسألة مما تعم به البلوى وقد علم الشارع أن الطفل يقيء كثيرا ولا يمكن غسل فمه ولا يزال ريقه ولعابه يسيل على من يربيه ويحمله ولم يأمر الشارع بغسل الثياب من ذلك ولا منع من الصلاة فيها ولا أمر بالتحرز من ريق الطفل فقالت طائفة من الفقهاء هذا من النجاسة التي يعفى عنها للمشقة والحاجة كطين الشوارع والنجاسة بعد الاستجمار ونجاسة أسفل الخف والحذاء بعد دلكهما بالأرض وقال شيخنا وغيره من الأصحاب بل ريق الطفل يطهر فمه للحاجة كما كان ريق الهرة مطهرا لفمها وقد أخبر النبي أنها ليست بنجس مع علمه بأكلها الفأر وغيره وقد فهم من ذلك أبو قتادة طهارة فمها وريقها وكذلك أصغى لها الإناء حتى شربت وأخبرت عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يصغي إلى الهرة ماء حتى تشرب ثم يتوضأ بفضلها واحتمال ورودها على ماء كثير فوق القلتين في المدينة في غاية البعد حتى ولو كانت بين مياه كثيرة لم يكن هذا الاحتمال مزيلا لما علم من نجاسة فمها لولا تطهير الريق له فالريق مطهر فم الهرة وفم الطفل للحاجة وهو أولى بالتطهير من الحجر في محل الاستجمار ومن التراب لأسفل الخف والحذاء والرجل الحافية على أحد القولين في مذهب مالك وأحمد وأولى بالتطهير من الشمس والريح وأولى بالتطهير من الخل وغيره من المائعات عند من يقول بذلك وأولى بالتطهير من مسح السيف والمرآة والسكين ونحوها من الأجسام الصقيلة بالخرقة ونحوها كما كان الصحابة يمسحون سيوفهم ولا يغسلونها بالماء ويصلون فيها ولو غسلت السيوف لصدئت وذهب نفعها وقد نظر النبي في سيفي ابني عفراء فاستدل بالأثر الذي فيهما على اشتراكهما في قتل أبي جهل لعنه الله تعالى ولم يأمرهما بغسل سيفيهما وقد علم أنهما يصليان فيهما والله أعلم
الباب الثالث عشر في جواز حمل الأطفال في الصلاة وإن لم يعلم حال ثيابهم
ثبت في الصحيحين عن أبي قتادة أن رسول الله كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله وهي لأبي العاص بن الربيع فإذا قام حملها وإذا سجد وضعها ولمسلم حملها على عنقه ولأبي داود بينما نحن ننتظر رسول الله في الظهر أو العصر وقد دعاه بلال إلى الصلاة إذ خرج إلينا وأمامة بنت أبي العاص بنت زينب على عنقه فقام رسول الله في مصلاه وقمنا خلفه وهي في مكانها الذي هي فيه فكبرنا حتى إذا أراد رسول الله أن يركع أخذها فوضعها ثم ركع وسجد حتى إذا فرغ من سجوده ثم قام أخذها فردها في مكانها فما زال رسول الله يصنع بها ذلك في كل ركعة حتى فرغ من صلاته وهذا صريح أنه كان في الفريضة وفيه رد على أهل الوسواس وفيه أن العمل المتفرق في الصلاة لا يبطلها إذا كان للحاجة وفيه الرحمة بالأطفال وفيه تعليم التواضع ومكارم الأخلاق وفيه أن مس الصغير لا ينقض الوضوء
الباب الرابع عشر في استحباب تقبيل الأطفال
في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال قبل رسول الله الحسن ابن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالس فقال الأقرع إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحدا منهم فنظر إليه رسول الله فقال من لا يرحم لا يرحم وفي الصحيحين أيضا من حديث عائشة رضي الله عنها قالت قدم ناس من الأعراب على رسول الله فقالوا تقبلون صبيانكم فقالوا نعم فقالوا والله لكنا ما نقبل فقال أو أملك إن كان الله نزع من قلوبكم الرحمة وفي المسند من حديث أم سلمة قالت بينما رسول الله في بيتي يوما إذ قالت الخادم إن فاطمة وعليا رضي الله عنهما بالسدة قالت فقال لي قومي فتنحي عن أهل بيتي قالت فقمت فتنحيت في البيت قريبا فدخل علي وفاطمة ومعهم الحسن والحسين وهما صبيان صغيران فأخذ الصبيين فوضعهما في حجره فقبلهما واعتنق عليا بإحدى يديه وفاطمة باليد الأخرى فقبل فاطمة وقبل عليا وأغدف عليهما خميصة سوداء وقال اللهم إليك لا إلى النار أنا وأهل بيتي قالت فقلت وأنا يا رسول الله فقال وأنت وفي طريق أخرى نحوه وقال إنك إلى حين
الباب الخامس عشر في وجوب تأديب الأولاد وتعليمهم والعدل بينهم
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة التحريم 6 قال علي رضي الله عنه علموهم وأدبوهم وقال الحسن مروهم بطاعة الله وعلموهم الخير وفي المسند وسنن أبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ففي هذا الحديث ثلاثة آداب أمرهم بها وضربهم عليها والتفريق بينهم في المضاجع وقد روى الحاكم عن أبي النضر الفقيه ثنا محمد بن حموية ثنا أبي ثنا النضر بن محمد عن الثوري عن إبراهيم بن مهاجر عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي قال افتحوا على صبيانكم أول كلمة بلا إله إلا الله ولقنوهم عند الموت لا إله إلا الله وفي تاريخ البخاري من رواية بشر بن يوسف عن عامر بن أبي عامر سمع أيوب بن موسى القرشي عن أبيه عن جده عن النبي قال ما نحل والد ولدا أفضل من أدب حسن قال البخاري ولم يصح سماع جده من النبي وفي معجم الطبراني من حديث سماك عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله لأن يؤدب أحدكم ولده خير له من أم يتصدق كل يوم بنصف صاع على المساكين وذكر البيهقي من حديث محمد بن الفضل بن عطية وهو ضعيف عن أبيه عن عطاء عن ابن عباس قال قالوا يا رسول الله قد علمنا ما حق الوالد فما حق الولد قال أن يحسن اسمه ويحسن أدبه قال سفيان الثوري ينبغي للرجل أن يكره ولده على طلب الحديث فإنه مسؤول عنه وقال إن هذا الحديث عز من أراد به الدنيا وجدها ومن أراد به الآخرة وجدها وقال عبد الله بن عمر أدب ابنك فإنك مسؤول عنه ما ذا أدبته وما ذا علمته وهو مسؤول عن برك وطواعيته لك وذكر البيهقي من حديث مسلم بن إبراهيم حدثنا شداد بن سعيد عن الجريري عن أبي سعيد وابن عباس قالا قال رسول الله من ولد له ولد فليحسن اسمه وأدبه فإذا بلغ فليزوجه فإن بلغ ولم يزوجه فأصاب إثما فإنما إثمه على أبيه وقال سعيد بن منصور حدثنا حزم قال سمعت الحسن وسأله كثير ابن زياد عن قوله تعالى ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياينا قرة أعين الفرقان 74 فقال يا أبا سعيد ما هذه القرة الأعين أفي الدنيا أم في الآخرة قال لا بل والله في الدنيا قال وما هي قال والله أن يري الله العبد من زوجته من أخيه من حميمه طاعة الله لا والله ما شيء أحب إلى المرء المسلم من أن يرى ولدا أو والدا أو حميما أو أخا مطيعا لله عز و جل وقد روى البخاري في صحيحه من حديث نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالأمير راع على الناس وهو مسؤول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وامرأة الرجل راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته
فصل
ومن حقوق الأولاد العدل بينهم في العطاء والمنع ففي السنن ومسند أحمد وصحيح ابن حبان من حديث النعمان بن بشير قال قال رسول الله اعدلوا بين أبنائكم اعدلوا بين أبنائكم وفي صحيح مسلم أن امرأة بشير قالت له انحل ابني غلاما وأشهد لي رسول الله فأتى رسول الله فقال إن ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلامي قال له إخوة قال نعم قال أفكلهم أعطيت مثل ما أعطيته قال لا قال فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق ورواه الإمام أحمد وقال فيه لا تشهدني على جور إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير أن أباه أتى به النبي فقال إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي فقال رسول أكل ولدك نحلت مثل هذا فقال لا فقال أرجعه وفي رواية لمسلم فقال افعلت هذا بولدك كلهم قال لا قال اتقوا الله واعدلوا في أولادكم فرجع أبي في تلك الصدقة وفي الصحيح أشهد على هذا غيري وهذا أمر تهديد لا إباحة فإن تلك العطية كانت جورا بنص الحديث ورسول الله لا يأذن لأحد أن يشهد على صحة الجور ومن ذا الذي كان يشهد على تلك العطية وقد أبى رسول الله أن يشهد عليها وأخبر أنها لا تصلح وأنها جور وأنها خلاف العدل ومن العجب أن يحمل قوله اعدلوا بين أولادكم على غير الوجوب وهو أمر مطلق مؤكد ثلاث مرات وقد أخبر الآمر به أن خلافه جور وأنه لا يصلح وأنه ليس بحق وما بعد الحق إلا الباطل هذا والعدل واحب في كل حال فلو كان الأمر به مطلقا لوجب حمله على الوجوب فكيف وقد اقترن به عشرة أشياء تؤكد وجوبه فتأملها في ألفاظ القصة وقد ذكر البيهقي من حديث أبي أحمد بن عدي حدثنا القاسم بن مهدي حدثنا يعقوب بن كاسب حدثنا عبد الله بن معاذ عن معمر عن الزهري عن أنس أن رجلا كان جالسا مع النبي فجاء بني له فقبله وأجلسه في حجره ثم جاءت بنية فأخذها فأجلسها إلى جنبه فقال النبي فما عدلت بينهما وكان السلف يستحبون أن يعدلوا بين الأولاد في القبلة وقال بعض أهل العلم إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده فانه كما أن للأب على أبنه حقا فللابن على أبيه حق فكما قال تعالى ووصينا الإنسان بوالديه حسنا العنكبوت 8 قال تعالى قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة التحريم 6 قال علي بن أبي طالب علموهم وأدبوهم وقال تعالى واعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى النساء 36 وقال النبي اعدلوا بين أولادكم فوصية الله للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم قال الله تعالى و لا تقتلوا أولادكم خشية إملاق الاسراء 31 فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء إليه غاية الإساءة وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه فأضاعوهم صغارا فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارا كما عاتب بعضهم ولده على العقوق فقال يا أبت إنك عققتني صغيرا فعققتك كبيرا وأضعتني وليدا فأضعتك شيخا
الباب السادس عشر
في فصول نافعة في تربية الأطفال تحمد عواقبها عند الكبر
فصل
ينبغي أن يكون رضاع المولود من غير أمه بعد وضعه يومين أو ثلاثة وهو الأجود لما في لبنها ذلك الوقت من الغلظ والأخلاط بخلاف لبن من قد استقلت على الرضاع وكل العرب تعتني بذلك حتى تسترضع أولادها عند نساء البوادي كما استرضع النبي في بني سعد
فصل
وينبغي أن يمنع حملهم والطواف بهم حتى يأتي عليهم ثلاثة أشهر فصاعدا لقرب عهدهم ببطون الأمهات وضعف أبدانهم فصل وينبغي أن يقتصر بهم على اللبن وحده إلى نبات أسنانهم لضعف معدتهم وقوتهم الهاضمة عن الطعام فإذا نبتت أسنانه قويت معدته وتغذى بالطعام فإن الله سبحانه أخر إنباتها إلى وقت حاجته إلى الطعام لحكمته ولطفه ورحمة منه بالأم وحلمة ثديها فلا يعضه الولد بأسنانه
فصل
وينبغي تدريجهم في الغذاء فأول ما يطعمونهم الغذاء اللين فيطعمونهم الخبز المنقوع في الماء الحار واللبن والحليب ثم بعد ذلك الطبيخ والأمراق الخالية من اللحم ثم بعد ذلك ما لطف جدا من اللحم بعد إحكام مضغه أو رضه رضا ناعما فصل فإذا قربوا من وقت التكلم وأريد تسهيل الكلام عليهم فليدلك ألسنتهم بالعسل والملح الاندراني لما فيهما من الجلاء للرطوبات الثقيلة المانعة من الكلام فإذا كان وقت نطقهم فليلقنوا لا إله إلا الله محمد رسول الله وليكن أول ما يقرع مسامعهم معرفة الله سبحانه وتوحيده وأنه سبحانه فوق عرشه ينظر إليهم ويسمع كلامهم وهو معهم أينما كانوا وكان بنو إسرائيل كثيرا ما يسمون أولادهم ب عمانويل ومعنى هذه الكلمة إلهنا معنا ولهذا كان أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن بحيث إذا وعى الطفل وعقل علم أنه عبد الله وأن الله هو سيده ومولاه
فصل
فإذا حضر وقت نبات الأسنان فينبغي أن يدلك لثاهم كل يوم بالزبد والسمن ويمرخ خرز العنق تمريخا كثيرا ويحذر عليهم كل الحذر وقت نباتها إلى حين تكاملها وقوتها من الأشياء الصلبة ويمنعون منها كل المنع لما في التمكن منها من تعريض الأسنان لفسادها وتعويجها وخللها فصل ولا ينبغي أن يشق على الأبوين بكاء الطفل وصراخه ولا سيما لشربه اللبن إذا جاع فإنه ينتفع بذلك البكاء انتفاعا عظيما فإنه يروض أعضاءه ويوسع أمعاءه ويفسح صدره ويسخن دماغه ويحمي مزاجه ويثير حرارته الغريزية ويحرك الطبيعة لدفع ما فيها من الفضول ويدفع فضلات الدماغ من المخاط وغيره فصل وينبغي أن لا يهمل أمر قماطه ورباطه ولو شق عليه إلى أن يصلب بدنه وتقوى أعضاؤه ويجلس على الأرض فحينئذ يمرن ويدرب على الحركة والقيام قليلا قليلا إلى أن يصير له ملكة وقوة يفعل ذلك بنفسه
فصل
وينبغي أن يوقى الطفل كل أمر يفزعه من الأصوات الشديدة الشنيعة والمناظر الفظيعة والحركات المزعجة فإن ذلك ربما أدى إلى فساد قوته العاقلة لضعفها فلا ينتفع بها بعد كبره فإذا عرض له عارض من ذلك فينبغي المبادرة إلى تلافيه بضده وإيناسه بما ينسيه إياه وأن يلقم ثديه في الحال ويسارع إلى رضاعه ليزول عنه ذلك المزعج له ولا يرتسم في قوته الحافظة فيعسر زواله ويستعمل تمهيده بالحركة اللطيفة إلى أن ينام فينسى ذلك ولا يهمل هذا الأمر فإن في إهماله إسكان الفزع والروع في قلبه فينشأ على ذلك ويعسر زواله ويتعذر فصل ويتغير حال المولود عند نبات أسنانه ويهيج به التقيء والحميات وسوء الأخلاق ولا سيما إذا كان نباتها في وقت الشتاء والبرد أو في وقت الصيف وشدة الحر وأحمد أوقات نباتها الربيع والخريف ووقت نباتها لسبعة أشهر وقد تنبت في الخامس وقد تتأخر إلى العاشر فينبغي التلطف في تدبيره وقت نباتها وأن يكرر عليه دخول الحمام وأن يغذى غذاء يسيرا فلا يملأ بطنه من الطعام وقد يعرض له انطلاق البطن فيعصب بما يكفيه مثل عصابة صوف عليها كمون ناعم وكرفس وأنيسون وتدلك لثته بما تقدم ذكره ومع هذا فانطلاق بطنه في ذلك الوقت خير له من اعتقاله فإن كان بطنه معتقلا عند نبات أسنانه فينبغي أن يبادر إلى تليين طبيعته فلا شيء أضر على الطفل عند نبات أسنانه من اعتقال طبيعته ولا شيء أنفع له من سهولتها باعتدال وأحمد ما تلين به عسل مطبوخ يتخذ منه فتائل ويحمل بها أو حبق مسحوق معجون بعسل يتخذ منه فتائل كذلك وينبغي للمرضع في ذلك الوقت تلطيف طعامها وشرابها وتجتنب الأغذية المضرة
فصل في وقت الفطام
قال الله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف البقرة 233 فدلت الآية على عدة أحكام أحدها أن تمام الرضاع حولين وذلك حق للولد إذا احتاج إليه ولم يستغن عنه وأكدهما بكاملين لئلا يحمل اللفظ على حول وأكثر وثانيها أن الأبوين إذا أرادا فطامه قبل ذلك بتراضيهما وتشاورهما مع عدم مضرة الطفل فلهما ذلك وثالثها أن الأب إذا أراد أن يسترضع لولده مرضعة أخرى غير أمه فله ذلك وإن كرهت الأم إلا أن يكون مضارا بها أو بولدها فلا يجاب إلى ذلك ويجوز أن تستمر الأم على رضاعه بعد الحولين إلى نصف الثالث أو أكثر وأحمد أوقات العظام إذا كان الوقت معتدلا في الحر والبرد وقد تكامل نبات أسنانه وأضراسه وقويت على تقطيع الغذاء وطحنه ففطامه عند ذلك الوقت أجود له ووقت الاعتدال الخريفي أنفع في الطعام من وقت الاعتدال الربيعي لأنه في الخريف يستقبل الشتاء والهواء يبرد فيه والحرارة الغريزية تنشأ فيه وتنمو والهضم يزداد قوة وكذلك الشهوة
فصل
وينبغي للمرضع إذا أرادت فطامه أن تفطمه على التدريج ولا تفاجئه بالفطام وهلة واحدة بل تعوده إياه وتمرنه عليه لمضرة الانتقال عن الإلف والعادة مرة واحدة كما قال بقراط في فصوله استعمال الكبير بغتة مما يملأ البدن أو يستفرغه أو يسخنه أو يبرده أو يحركه بنوع آخر من الحركة أي نوع كان فهو خطر وكلما كان كثيرا فهو معاد للطبيعة وكلما كان قليلا فهو مأمون فصل ومن سوء التدبير للاطفال أن يمكنوا من الامتلاء من الطعام وكثرة الأكل والشرب ومن أنفع التدبير لهم أن يعطوا دون شبعهم ليجود هضمهم وتعتدل أخلاطهم وتقل الفضول في أبدانهم وتصح أجسادهم وتقل أمراضهم لقلة الفضلات في المواد الغذائية قال بعض الأطباء وأنا أمدح قوما ذكرهم حيث لا يطعمون الصبيان إلا دون شبعهم ولذلك ترتفع قاماتهم وتعتدل أجسامهم ويقل فيهم ما يعرض لغيرهم من الكزاز ووجع القلب وغير ذلك قال فإن أحببت أن يكون الصبي حسن الجسد مستقيم القامة غير منحدب فقه كثيرة الشبع فإن الصبي إذا امتلأ وشبع فإنه يكثر النوم من ساعته ويسترخي ويعرض له نفخة في بطنه ورياح غليظة فصل وقال جالينوس ولست أمنع هؤلاء الصبيان من شرب الماء البارد أصلا لكني أطلق لهم شربة تعقب الطعام في أكثر الأمر وفي الأوقات الحارة في زمن الصيف إذا تاقت أنفسهم إليه قلت وهذا لقوة وجود الحار الغريزي فيهم ولا يضرهم شرب الماء البارد في هذه الأوقات ولا سيما عقيب الطعام فإنه يتعين تمكينهم منه بقدر لضعفهم عن احتمال العطش باستيلاء الحرارة
فصل
ومما ينبغي أن يحذر أن يحمل الطفل على المشي قبل وقته لما يعرض في أرجلهم بسبب ذلك من الانفتال والاعوجاج بسبب ضعفها وقبولها لذلك واحذر كل الحذر أن تحبس عنه ما يحتاج إليه في قيء أو نوم أو طعام أو شراب أو عطاس أو بول أو إخراج دم فإن لحبس ذلك عواقب رديئه في حق الطفل والكبير
فصل في وطء المرضع وهو الغيل
عن جذامة بنت وهب الأسدية قالت حضرت رسول الله في أناس وهو يقول لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئا ثم سألوه عن العزل فقال ذلك الوأد الخفي 000 وهي وإذا الموؤدة سئلت التكوير 6 رواه مسلم في الصحيح وروى في صحيحه أيضا عن أسامة بن زيد أن رجلا جاء إلى رسول الله فقال إني أعزل عن امرأتي فقال له رسول الله لم تفعل ذلك فقال الرجل أشفق على ولدها أو على أولادها فقال رسول الله لو كان ذلك ضارا ضر فارس والروم وعن أسماء بنت يزيد قالت سمعت رسول الله يقول لا تقتلوا أولادكم سرا فو الذي نفسي بيده ليدرك الفارس فيدعثره قالت قلت ما يعني قالت الغيلة يأتي الرجل امرأته وهي ترضع رواه الإمام أحمد أبو داود وقد أشكل الجمع بين هذه الأحاديث على غير واحد من أهل العلم فقالت طائفة قوله لقد هممت أن أنهى عن الغيل أي أحرمه وأمنع منه فلاتنافي بين هذا وبين قوله في الحديث الآخر ولا تقتلوا أولادكم سرا فإن هذا النهي كالمشورة عليهم والإرشاد لهم إلى ترك ما يضعف الولد ويقتله قالوا والدليل عليه أن المرأة المرضع إذا باشرها الرجل حرك منها دم الطمث وأهاجه للخروج فلا يبقى اللبن حينئذ على اعتداله وطيب رائحته وربما حبلت الموطوءة فكان ذلك من شر الأمور وأضرها على الرضيع المغتذي بلبنها وذلك أن جيد الدم حينئذ ينصرف في تغذية الجنين الذي في الرحم فينفذ في غذائه فإن الجنين لما كان ما يناله ويجتذبه مما لا يحتاج إليه ملائما له لأنه متصل بأمه أتصال الغرس بالأرض وهو غير مفارق لها ليلا ولا نهارا وكذلك ينقص دم الحامل ويصير رديئا فيصير اللبن المجتمع في ثديها يسيرا رديئا فمتى حملت المرضع فمن تمام تدبير الطفل أن يمنع منها فإنه متى شرب من ذلك اللبن الرديء قتله أو أثر في ضعفه تأثيرا يجده في كبره فيدعثره عن فرسه فهذا وجه المشورة عليهم والإرشاد إلى تركه ولم يحرمه عليهم فإن هذا لا يقع دائما لكل مولود وإن عرض لبعض الأطفال فأكثر الناس يجامعون نساءهم وهن يرضعن ولو كان هذا الضرر لازما لكل مولود لاشترك فيه أكثر الناس وهاتان الأمتان الكبيرتان فارس والروم تفعله ولا يعم ضرره أولادهم وعلى كل حال فالأحوط إذا حبلت المرضع أن يمنع منها الطفل ويلتمس مرضعا غيرها والله أعلم
فصل
ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج الاعتناء بأمر خلقه فإنه ينشأ على ما عوده المربي في صغره من حرد وغضب ولجاج وعجلة وخفة مع هواه وطيش وحدة وجشع فيصعب عليه في كبره تلافي ذلك وتصير هذه الأخلاق صفات وهيئات راسخة له فلو تحرز منها غاية التحرز فضحته ولا بد يوما ما ولهذا تجد أكثر الناس منحرفة أخلاقهم وذلك من قبل التربية التي نشأ عليها وكذلك يجب أن يتجنب الصبي إذا عقل مجالس اللهو والباطل والغناء وسماع الفحش والبدع ومنطق السوء فإنه إذا علق بسمعه عسر عليه مفارقته في الكبر وعز على وليه استنقاذه منه فتغيير العوائد من أصعب الأمور يحتاج صاحبه إلى استجداد طبيعة ثانية والخروج عن حكم الطبيعة عسر جدا وينبغي لوليه أن يجنبه الأخذ من غيره غاية التجنب فإنه متى اعتاد الأخذ صار له طبيعة ونشأ بأن يأخذ لا بأن يعطي ويعوده البذل والإعطاء وإذا أراد الولي أن يعطي شيئا أعطاه إياه على يده ليذوق حلاوة الإعطاء ويجنبه الكذب والخيانة أعظم مما يجنبه السم الناقع فإنه متى سهل له سبيل الكذب والخيانة أفسد عليه سعادة الدنيا والآخرة وحرمه كل خير ويجنبه الكسل والبطالة والدعة والراحة بل يأخذه بأضدادها ولا يريحه إلا بما يجم نفسه وبدنه للشغل فإن الكسل والبطالة عواقب سوء ومغبة ندم وللجد والتعب عواقب حميدة إما في الدنيا وإما في العقبى وإما فيهما فأروح الناس أتعب الناس وأتعب الناس أروح الناس فالسيادة في الدنيا والسعادة في العقبى لا يوصل إليها إلا على جسر من التعب قال يحيى بن أبي كثير لا ينال العلم براحة الجسم ويعوده الانتباه آخر الليل فإنه وقت قسم الغنائم وتفريق الجوائز فمستقل ومستكثر ومحروم فمتى اعتاد ذلك صغيرا سهل عليه كبيرا فصل ويجنبه فضول الطعام والكلام والمنام ومخالطة الأنام فإن الخسارة في هذه الفضلات وهي تفوت على العبد خير دنياه وآخرته ويجنبه مضار الشهوات المتعلقة بالبطن والفرج غاية التجنب فإن تمكينه من أسبابها والفسح له فيها يفسده فسادا يعز عليه بعده صلاحه وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه وإعانته له على شهواته ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه وأنه يرحمه وقد ظلمه وحرمه ففاته انتفاعه بولده وفوت عليه حظه في الدنيا والآخرة وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء
فصل
والحذر كل الحذر من تمكينه من تناول ما يزيل عقله من مسكر وغيره أو عشرة من يخشى فساده أو كلامه له أو الأخذ في يده فإن ذلك الهلاك كله ومتى سهل عليه ذلك فقد استسهل الدياثة ولا يدخل الجنة ديوث فما أفسد الأبناء مثل تغفل الآباء وإهمالهم واستسهالهم شرر النار بين الثياب فأكثر الآباء يعتمدون مع أولادهم أعظم ما يعتمد العدو الشديد العداوة مع عدوه وهم لا يشعرون فكم من والد حرم والده خير الدنيا والآخرة وعرضه لهلاك الدنيا والآخرة وكل هذا عواقب تفريط الآباء في حقوق الله وإضاعتهم لها وإعراضهم عما أوجب الله عليهم من العلم النافع والعمل الصالح حرمهم الانتفاع بأولادهم وحرم الأولاد خيرهم ونفعهم لهم هو من عقوبة الآباء
فصل
ويجنبه لبس الحرير فإنه مفسد له ومخنث لطبيعته كما يخنثه اللواط وشرب الخمر والسرقة والكذب وقد قال النبي يحرم الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم والصبي وإن لم يكن مكلفا فوليه مكلف لا يحل له تمكينه من المحرم فإنه يعتاده ويعسر فطامه عنه وهذا أصح قولي العلماء واحتج من لم يره حراما عليه بأنه غير مكلف فلم يحرم لبسه للحرير كالدابة وهذا من أفسد القياس فإن الصبي وإن لم يكن مكلفا فإنه مستعد للتكليف ولهذا لا يمكن من الصلاة بغير وضوء ولا من الصلاة عريانا ونجسا ولا من شرب الخمر والقمار واللواط فصل ومما ينبغي أن يعتمد حال الصبي وما هو مستعد له من الأعمال ومهيأ له منها فيعلم أنه مخلوق له فلا يحمله على غيره ما كان مأذونا فيه شرعا فإنه إن حمله على غير ما هو مستعد له لم يفلح فيه وفاته ما هو مهيأ له فإذا رآه حسن الفهم صحيح الإدراك جيد الحفظ واعيا فهذه من علامات قبوله وتهيئه للعلم لينقشه في لوح قلبه ما دام خاليا فإنه يتمكن فيه ويستقر ويزكو معه وإن رآه بخلاف ذلك من كل وجه وهو مستعد للفروسية وأسبابها من الركوب والرمي واللعب بالرمح وأنه لا نفاذ له في العلم ولم يخلق له مكنه من أسباب الفروسية والتمرن عليها فإنه أنفع له وللمسلمين وإن رآه بخلاف ذلك وأنه لم يخلق لذلك ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع مستعدا لها قابلا لها وهي صناعة مباحة نافعة للناس فليمكنه منها هذا كله بعد تعليمه له ما يحتاج إليه في دينه فإن ذلك ميسر على كل أحد لتقوم حجة الله على العبد فإن له على عباد الحجة البالغة كما له عليهم النعمة السابغة والله أعلم
الباب السابع عشر
في أطوار ابن آدم من وقت كونه نطفة إلى استقراره في الجنة أو النار قال الله تعالى ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون المؤمنون 12 - 16 فاستوعب سبحانه ذكر أحوال ابن آدم قبل كونه نطفة بل ترابا وماء إلى حين بعثه يوم القيامة فأول مراتب خلقه أنه سلالة من طين ثم بعد ذلك سلالة من ماء مهين وهي النطفة التي استلت من جميع البدن فتمكث كذلك أربعين يوما ثم يقلب الله سبحانه تلك النطفة علقة وهي قطعة سوداء من دم فتمكث كذلك أربعين يوما أخرى ثم يصيرها سبحانه مضغة وهي قطعة لحم أربعين يوما وفي هذا الطور تقدر أعضاؤه وصورته وشكله وهيئته واختلف في أول ما يتشكل ويخلق من أعضائه قال قائلون هو القلب وقال آخرون إنه الدماغ وقال آخرون هو الكبد وقال آخرون فقار الظهر فاحتج أرباب القول الأول بأن القلب هو العضو والأساس الذي هو معدن الحرارة الغريزية الذي هو مركب الحياة فوجب أن يكون هو المقدم في الخلق قالوا وقد أخبر المشرحون أنهم وجدوا في النطفة عند كمال انعقادها نقطة سوداء واحتج من قال إنه الدماغ بأن الدماغ من الحيوان هو العضو الرئيسي من الإنسان وهو مجمع الحواس وأن الأمر المختص بالحيوان هو الحس والحركة الإرادية وأصل ذلك من الدماغ ومنه ينبعث وإذا كان الخاص بالحيوان هو الحس والحركة الإرادية وكانا عن هذا العضو كان هو المقدم في الإيجاد والتكوين واحتج من قال إنه الكبد بأنه العضو الذي منه النمو والاغتذاء الذي به قوام الحيوان قالوا فالنظام الطبيعي يقتضي أن يكون أول متكون الكبد ثم القلب ثم الدماغ لأن أول فصل الحيوان هو النمو وليس به في هذا الوقت حاجة إلى حس ولا إلى حركة إرادية لأنه يعد بمنزلة النبات فلا حاجة به حينئذ إلى غير النمو ولهذا إنما تصير له قوة الحس والإرادة عند تعلق النفس به وذلك في الطور الرابع من أطوار تخليقه فكان أول الأعضاء خلقا فيه هو آلة النمو وذلك الكبد والذي شاهده أرباب التشريح حتى إنهم متفوقون عليه أنه أول ما يتبين في خلق جثة الحيوان ثلاث نقط متقاربة بعضها من بعض يتوهم أنها رسم الكبد والقلب والدماغ ثم يزداد بعضها من بعض بعدا على امتداد أيام الحمل فهذا القدر هو الذي عند المشرحين فأما أن هذه النقط أقدم وأسبق فليس عندهم عليه دليل إلا الأخلق والأولى والقياس والله أعلم
فصل
ثم تقدر مفاصل أعضائه وعظامه وعروقه وعصبه ويشق له السمع والبصر والفم ويفتق حلقه بعد أن كان رتقا فيركب فيه اللسان ويخطط شكله وصورته وتكسى عظامه لحما ويربط بعضها إلى بعض أحكم ربط وأقواه وهو الأسر الذي قال فيه نحن خلقناهم وشددنا أسرهم الإنسان : 28 ومنه الإسار الذي يربط به ومنه الأسير قال الإمام أحمد حدثنا روح بن عبادة حدثنا أبو هلال حدثنا ثابت عن صفوان بن محرز قال كان نبي الله داود عليه السلام إذا ذكر عذاب الله تخلعت أوصاله ما يمسكها إلا الأسر فإذا ذكر رحمة الله رجعت فصل قال بقراط في المقالة الثالثة من كتاب الأجنة أنا أحدثك رأيت المني ينشأ كانت لامرأة من الأهل جارية نفيسة ولم تكن تحب أن تحبل لئلا ينقص ثمنها فسمعت الجارية النساء يقلن إن المرأة إذا أرادت أن تحمل لم يخرج منها مني الرجل بل يبقى محتبسا ففهمت ذلك وجعلت ترصده من نفسها فأحست في بعض الأوقات أنه لم يخرج منها فبلغني الخبر فأمرتها أن تطفر إلى خلفها فطفرت سبع طفرات فسقط منها المني بوجبة شبيها بالبيضة غير مطبوخة قد قشر عنها القشر الخارج وبقيت رطوبتها في جوف الغشاء قال وأنا أقول أيضا إنه يجري من الأم فضول الرحم ليتغذى بها الجنين وقال إن الذي تظهر هي الأعصاب الدقاق البيض وهي التي رأيت في وسط السرة وليست في موضع آخر غير السرة لأن الروح إنما يشق طريقا للنفس هناك ثم قال وأقول شيئا آخر ظاهرا يعرفه كل من يرغب في العلم وأوضحه بقياسات وأقول إن المني هو في الحجاب وإنه يغتذي من الدم الذي يجتمع من المرأة وينزل إلى الرحم وقال إن المني يجتذب الهواء فيتنفس فيه في هذه الحجب في الأسباب التي ذكرنا ويربو من الدم الذي ينحدر من المرأة وقال إن الطمث لا ينحدر ما دامت المرأة حاملا إن كان طفلها صحيحا وذلك منذ أول شهر من حبلها إلى الشهر التاسع ولكن جميع ما ينزل من الدم من البدن كله يجتمع حول الجنين على الحجاب الأعلى مع اجتذاب النفس والسرة طريق وصوله إلى الجنين فيدخل الغذاء إليه فيغذيه ويزيد في تربيته وقال إذا أقام المني حينا خلقت له حجب أخر فتمتد داخلا من الحجاب الأول وتكون مختلفة الأنواع كثيرة وأما كونها فمثل الحجاب الأول وقال إن الحجب منها ما يخلق أولا ومنها ما يخلق من بعد الشهر الثاني ومنها ما يخلق في الشهر الثالث وكلها لا تظهر منافعها أول ما يخلق ولكن بعضها يمتد على المني فتظهر منافعها أولا وبعضها لا يظهر إلا أخيرا فلذلك يخلق بعضها في الشهر الأول وبعضها في الشهر الثاني وبعضها في الثالث وهي السرة كأنها مربوط بعضها ببعض في وسط الحجب تكون السرة التي يتنفس منها ويتربى وإذا نزل الدم واغتذى الجنين منه حالت الحجب بينه وبين الجنين ولهذا يقول تعالى يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث الزمر 6 فإن كل حجاب من هذه الحجب له ظلمة تخصه فذكر سبحانه أطوار خلقه ونقله فيها من حال إلى حال وذكر ظلمات الحجب التي على الجنين فقال أكثر المفسرين هي ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة فإن كل واحد من هذه حجاب على الجنين وقال آخرون هي ظلمة أصلاب الآباء وظلمة بطون الأمهات وظلمة المشيمة وأضعف من هذا القول قول من قال ظلمة الليل وظلمة البطن وظلمة الرحم فإن الليل والنهار بالنسبة إلى الجنين سواء وقال بقراط إن المرأة إذا حبلت لم تألم من اجتماع الدم الذي ينزل ويجتمع حول رحمها ولا تحس بضعف كما تحس إذا انحدر الطمث لأنها لا يثور دمها في كل شهر لكنه ينزل إلى الرحم في كل يوم قليلا قليلا نزولا ساكنا من غير وجع فإذا أتى إلى الرحم اغتذى منه الجنين ونما ثم قال وعلى غير بعيد من ذلك إذا خلق للجنين لحم وجسد تكون الحجب وإذا كبر كبرت الحجب أيضا وصار لها تجويف خارج من الجنين فإذا نزل الدم من الأم جذبه الجنين واغتذى به فيزيد في لحمه والرديء من الدم الذي لا يصلح للغذاء ينزل إلى مجاري الحجب وكذلك تسمى الحجب التي إذا صار لها تجويف يقبل الدم المشيمة وقال إذا تم الجنين وكملت صورته واجتذب الدم لغذائه بالمقدار اتسعت الحجب وظهرت المشيمة التي تكون من الآلات التي ذكرنا فإن اتسع داخلها اتسع خارجها لأنه أولى بذلك لأن له موضعا يمتد إليه قلت ومن ها هنا لم تحض الحامل بل ما تراه من الدم يكون دم فساد ليس دم الحيض المعتاد هذه إحدى الروايتين عن عائشة رضي الله عنها وهو المشهور من مذهب أحمد الذي لا يعرف أصحابه سواه وهو مذهب أبي حنيفة وذهب الشافعي في رواية عن عائشة والإمام أحمد في رواية عنه اختارها شيخنا إلى أن ما تراه من الدم في وقت عادتها يكون حيضا وحجة هذا القول ظاهرة وهي عموم الأدلة الدالة على ترك المرأة الصوم والصلاة إذا رأت الدم المعتاد في وقت الحيض ولم يستثن الله ورسوله حالة دون حالة وأما كون الدم ينصرف إلى غذاء الولد فمن المعلوم أن ذلك لا يمنع أن يبقى منه بقية يخرج في وقت الحيض تفضل عن غذاء الولد فلا تنافي بين غذاء الولد وبين حيض الأم وأصحاب القول الآخر يحتجون بقوله لا توطأ حامل حتى تضع و لا حائل حتى تستبرأ بحيضة فجعل الحيضة دليلا على عدم الحمل فلو حاضت الحامل لم تكن الحيضة علما على براءة حملها والآخرون يحبيبون عن هذا بأن الحيضة علم ظاهر فإذا ظهر بها الحمل تبينا أنه لم يكن دليلا ولهذا يحكم بانقضاء العدة بالحيض ظاهرا ثم تبين المرأة حاملا والنبي قسم النساء إلى قسمين امرأة معلومة الحمل وامرأة مظنون أنها حامل فجعل استبراء الأولى بوضع الحمل والثانية بالحيضة وهذا هو الذي دل عليه الحديث لم يدل على أن ما تراه الحامل من الدم في وقت عادتها تصوم معه وتصلي
فصل
قال بقراط إن العظام تصلب من الحرارة لأن الحرارة تصلب العظام وتربط بعضها ببعض مثل الشجرة التي ترتبط بعضها ببعض وقال إن العصب جعل داخلا وخارجا وجعل الرأس بين العاتقين والعضدان والساعدان في الجانبين وفرج ما بين الرجلين أيضا وجعل في كل مفصل من المفاصل عصب بوثقه ويشده قلت وهو الأسر الذي شد به الإنسان قال وجعل الفم ينفتح من تلقاء نفسه وركب الأنف والأذنان من اللحم وثقبت الأذنان ثم العينان بعد ذلك وملئتا رطوبة صافية وكان النبي يقول في سجوده سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره والواو وإن لم تقتض ترتيبا فتقديم السمع في اللفظ يناسب تقدمه في الوجود ثم تتسع الأمعاء بعد ذلك ويصير لها تجويف وترتبط المفاصل ويرتفع النفس إلى الفم والأنف ويدخل الاستنشاق في الفم والأنف وينفتح البطن والأمعاء ويخرج النفس إلى الفم بدل السرة فإذا تم ما ذكرنا حضر وقت خروج الجنين ونزلت فضول من معدته وأمعائه إلى المثانة ويكون لها طريق من المعدة والأمعاء إلى المثانة ومنها إلى مجرى البول وإنما تنفتح هذه كلها ويتسع تجويفها بالاستنشاق وبه ينفصل بعضها عن بعض على قدر أشكالها وقال اذا اتسع البطن وتبين تجويف الأمعاء صار فيها طريق الى المثانة والإحليل اضطرارا قال والمني اذا تركب يجتمع كل شيء منه الى صاحبه العظام الى العظام والعصب الى العصب وكذلك جميع الأعضاء ثم يركب الجنين ثم قال إنا قد رأينا كثيرا من النساء قد فسدت الأجنة فيهن ثم خرجت بعد ثلاثين يوما ثم قال ألا ترى أنه اذا سقط الجنين بعد ثلاثين يوما رأيت مفاصله مركبة وقال يدرك هذا بالنظر الى السقط لأنه اذا سقط ليس يسقط من حيلنا بل من قبل نفسه ثم قال اذا تركب الجنين وأتلفت مفاصله وكبرت أعضاؤه وصلبت عظامه وتحركت جذبت من البدن دما دسما ويحتبس ذلك ويتحرك في رؤوس العظام مثل تحرك رؤوس الشجر قال وكذلك الجنين ويتقلب فصل وقال في المقالة الثانية من كتابه هذا ثم يتركب الجنين ويتم الذكر الى اثنين وثلاثين يوما والانثى إلى اثنين وأربعين يوما وربما زاد على هذه الأيام قليلا وربما نقص قليلا وقال إن الجنين يتم ويتصور إن كان ذكرا في اثنين وثلاثين يوما وان كان أنثى ففي اثنين وأربعين يوما وقال إنا نرى ذلك من نقاء المرأة لأنها إن ولدت أنثى فإنها تنفى في اثنين وأربعين يوما وهو أكثر ما تحتبس المرأة الى أن تنقى في اثنين وأربعين يوما عند ولادة الأنثى وربما كان في الفرد وتنقى في خمسة وثلاثين يوما فإذا ولدت ذكرا فإنها تنقى في اثنين ووثلاثين يوما اذا احتبست كثيرا وربما بقيت في الفرد في خمسة وعشرين يوما وقال إن دم الطمث يخرج من حيث يخرج الجنين وكما أن الذكر يتصور في اثنين وثلاثين يوما كذلك يكون نقاء أمه من بعد ولاده في اثنين وثلاثين يوما وتنقى المرأة اذا ولدت أنثى في اثنين وأربعين يوما بعدد الأيام التي تركيبها فيها ثم قال انما يجري الدم من النفساء بعد ولادها أياما كثيرة لأنها اذا حملت لم يحتج الجنين أول ما يخلق الى غذاء كثير حتى يتم فإذا تم له اثنان وأربعون يوما اغتذى كما ينبغي وما اجتمع في الأيام الأربعين من الدم الذي ينزل الى الجنين بقي إلى ولاد المرأة فإذا ولدت نزل أربعين يوما قلت في هذا الفصل حديثان صحيحان عن رسول الله نذكرهما ونذكر تصديق أحدهما للآخر ثم نتعقب كلام بقراط ونبين ما فيه بحول الله وقوته وتوفيقه وتعليمه وإرشاده ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود قال حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها وفي طريق أخرى أن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين وفي أخرى أربعين ليلة وقال البخاري أربعين يوما وأربعين ليلة وفي بعض طرقه ثم يبعث الله ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح 000 الحديث وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي قال يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أو سعيد فيكتبان فيقول إي رب أذكر أم أنثى فيكتبان ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزداد فيها ولا ينقص وقال الإمام أحمد حدثني سفيان عن عمرو عن أبي الطفيل عن حذيفة ابن أسيد الغفاري قال سمعت رسول الله يقول يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أم سعيد فيقول الله عز و جل فيكتبان فيقولان أذكر أم أنثى فيقول الله عز و جل فيكتبان فيكتب عمله وأثره ومصيبته ورزقه ثم تطوى الصحيفة فلا يزداد على ما فيها ولا ينقص وفي صحيح مسلم عن عامر بن واثلة أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره فأتى رجلا من أصحاب رسول الله يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري فحدثه بذلك من قول ابن مسعود فقال وكيف يشقى رجل بغير عمل فقال له الرجل أتعجب من ذلك فإني سمعت رسول الله يقول إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يا رب أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب أجله فيقضي ربك ما شاء فيكتب الملك ثم يقول يا رب رزقه فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص وفي لفظ آخر سمعت رسول الله بأذني هاتين يقول إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتسور عليها الملك قال زهير حسبته قال الذي يخلقها فيقول يا رب أذكر أم أنثى فيجعله الله ذكرا أو أنثى فيقول يا رب أسوي أم غير سوي فيجعله الله سويا أو غير سوي ثم يقول يا رب ما رزقه وما أجله وما خلقه ثم يجعله الله شقيا أو سعيدا وفي لفظ آخر أن ملكا موكلا بالرحم إذا أراد الله عز و جل أن يخلق شيئا بإذن الله لبضع وأربعين ليلة ثم ذكر الحديث فاتفق حديث ابن مسعود وحديث حذيفة بن أسيد على حدوث شأن وحال النطفة بعد الأربعين وحديث حذيفة مفسر صريح بأن ذلك يكتب بعد الأربعين قبل نفخ الروح كما تقدم في رواية البخاري وأما حديث ابن مسعود فأحد ألفاظه موافق لحديث حذيفة وإن كان ذلك التقدير والكتابة بعد الأربعين قبل نفخ الروح فيه كما تقدم من رواية البخاري ولفظه ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح فهذا صريح أن الكتابة وسؤال الملك قبل نفخ الروح فيه وهو موافق لحديث حذيفة في ذلك وأما لفظه الآخر فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات فليس بصريح إذ الكلمات المأمور بها بعد نفخ الروح فإن هذه الجملة معطوفة بالواو ويجوز أن تكون معطوفة على الجملة التي تليها ويجوز أن تكون معطوفة على جملة الكلام المتقدم أي يجمع خلقه في هذه الأطوار ويؤمر الملك بكتب رزقه وأجله وعمله ووسط بين الجمل قوله ثم ينفخ فيه الروح بيانا لتأخر نفخ الروح عن طور النطفة والعلقة والمضغة وتأمل كيف أتى ب ثم في فصل نفخ الروح وبالواو في قوله ويؤمر بأربع كلمات فاتفقت سائر الأحاديث بحمد الله وبقي أن يقال فحديث حذيفة يدل على أن ابتداء التخليق عقيب الأربعين الأولى وحديث ابن مسعود يدل على أنه عقيب الأربعين الثالثة فيكيف يجمع بينهما قيل أما حديث حذيفة فصريح في كون ذلك بعد الأربعين و أما حديث ابن مسعود فليس فيه تعرض لوقت التصوير والتخليق وإنما فيه بيان أطوار النطفة وتنقلها بعد كل أربعين وأنه بعد الأربعين الثالثة ينفخ فيه الروح وهذا لم يتعرض له حديث حذيفة بل اختص به حدثنا بن مسعود فاشترك الحديثان في حدوث أمر بعد الأربعين الأولى واختص حديث حذيفة بأن ابتداء تصويرها وخلقها بعد الأربعين الأولى واختص حديث ابن مسعود بأن نفخ الروح فيه بعد الأربعين الثالثة واشترك الحديثان في استئذان الملك ربه سبحانه في تقدير شأن المولود في خلال ذلك فتصادقت كلمات رسول الله وصدق بعضها بعضا وحديث ابن مسعود فيه أمران أمر النطفة وتنقلها وأمر كتابة الملك ما يقدر الله فيها والنبي أخبر بالأمرين في الحديث قال الإمام أحمد حدثنا هشيم أنبأنا علي بن زيد قال سمعت أبا عتبة بن عبد الله يحدث قال قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما على حالها لا تتغير فإذا مضت له أربعون صارت علقة ثم مضغة كذلك ثم عظاما كذلك فإذا أراد أن يسوي خلقه بعث الله اليه الملك فيقول الملك الذي يليه أي رب أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد أقصير أم طويل أناقص أم زائد قوته وأجله أصحيح أم سقيم قال فيكتب ذلك كله فهذا الحديث فيه الشفاء وإن الحادث بعد الأربعين الثالثة تسوية الخلق عند نفخ الروح فيه ولا ريب أنه عند نفخ الروح فيه وتعلقها به يحدث له في خلقه أمور زائدة على التخليق الذي كان بعد الأربعين الأولى فالأول كان مبدأ التخليق وهذا تسويته وكمال ما قدر له كما أنه سبحانه خلق الأرض قبل السماء ثم خلق السماء ثم سوى الأرض بعد ذلك ومهدها وبسطها وأكمل خلقها فذلك فعله في السكن وهذا فعله في الساكن على أن التخليق والتصوير ينشأ في النطفة بعد الأربعين على التدريج شيئا فشيئا كما ينشأ النبات فهذا مشاهد في الحيوان والنبات كما إذا تأملت حال الفروج في البيضة فإنما يقع الإشكال من عدم فهم كلام الله تعالى ورسوله فالإشكال في أفهامنا لا في بيان المعصوم والله المستعان وقد أغناك هذا بحمد الله عن تكلف الشارحين فتأمله ووازن بينه وبين هذا الجمع وبالله التوفيق
فصل
وقد قال بقراط في كتاب الغذاء تصوير الجنين يكون في خمسة وثلاثين يوما وحركته في سبعين صباحا وكماله في مائة وعشرة أيام ويتصور أجنة أخر في خمسين صباحا ويتحركون التحرك الأول في مائة صباح ويكملون في ثلاثمائة ويتصور أجنة أخر في أربعين صباحا ويتحركون في ثمانين صباحا ويولدون في مائتين وأربعين صباحا ويتصور أجنة أخر في خمسة وأربعين صباحا ويتحركون في تسعين صباحا ويولدون في مائتين وسبعين صباحا قال فأما الولادة فتكون في الشهر السابع والثامن والتاسع والعاشر قلت الحركة حركتان حركة طبيعية غير أرادية فهذه تكون قبل تعلق الروح به وأما الحركة الإرادية فلا تكون إلا بعد نفخ الروح ولهذا فرق بقراط بين التحرك الأول والثاني قلت الذي دل عليه الوحي الصادق عن خلاق البشر أن الخلق ينتقل في كل أربعين يوما إلى طور آخر فيكون أولا نطفة أربعين يوما ثم علقة كذلك ثم مضغة كذلك ثم ينفخ فيه الروح بعد مائة وعشرين يوما فهذا كأنك تشاهده عيانا وما خالفه فليس مع المخبر به عيان وغاية ما معه قياس فاسد وتشريح لا يحيط علما بمبدإ ما شاهده منه أو تقليد لواحد غير معصوم وكل ما جاء به مشى خلفه فيه فيعتقد فيه المعتقد أن هذا أمر متفق عليه بين الطبائعيين وأصله كله واحد أخطأ فيه ثم قلده من بعده والقوم لم يشاهدوا ما أخبروا به من ذلك وغاية ما معهم أنهم شرحوا الحاكين أحياء وأمواتا فوجدوا الجنين في الرحم على الصفة التي أخبروا بها ولكن لاعلم لهم بما وراء ذلك من مبدإ الحمل وتغير أحوال النطفة فإن ضيق مقلدهم الفرض وقال نفرض أنهم اعتبروا بكرا من حيث وطئت ثم جعلوا يعدون أيامها إلى أن بلغت ما ذكروه ثم شرحوها فوجدوا الأمر على الصفة التي أخبروا بها فهذا غاية الكذب والبهت فإن القوم لم يدعوا ذلك وكيف يمكنهم دعواهم وهم يخبرون أن بعد ذلك بكذا وكذا يوما يصير شأن الحمل كذا وكذا وإنما مع القوم كليات وأقيسة وينبغي أن يكون كذا وكذا والنظام الطبيعي يقتضي كذا وكذا وكثير منهم يأخذ ذلك من حركات القمر وزيادته ونقصانه ومن حركات الشمس ومن التثليث والتربيع والتسديس والمقابلة ورد عليهم آخرون منهم وأبطلوا ذلك عليهم من وجوه وأحال به على الأخلق والأولى والأنسب وأحال به آخرون على أيام البحارين وتغير الطبيعة فيها ورد بعض هؤلاء على بعض وأبطل قوله بما تركناه مخافة التطويل وأصح ما بأيديهم التشريح والاستقراء التام الذي لا يخرم ونحن لا ننكر ذلك ولكن ليس فيه ما يخالف الوحي عن خلاف الأجنة أبدا ومما يدل على أن القوم لم يخبروا في ذلك عن مشاهدة قولهم إن الجنين الذي يولد في الشهر السابع يصير ديديا في تسعة أيام ودمويا في ثمانية أيام أخر ولحميا في تسعة أيام أخر ويقبل الصورة في أثنى عشر يوما أخر فإذا اجتمعت هذه الأيام صارت خمسة وثلاثين يوما فجعلوه مضغة في الأربعين الأولى وهذا كذب ظاهر قطعا وإنما يصير لحميا بعد الثمانين ومثل هذا لا يدرك إلا بوحي أو مشاهدة وكلاهما مفقود عندهم وإنما بأيديهم قياس اعتبروا به أحوال الأجنة من شهور ولادها فحكموا على كل جنين ولد في شهر من شهور الولادة على أنه ينبغي أن يكون ديديا أي نطفة كذا وكذا ودمويا أي علقة كذا وكذا يوما ولحميا أي مضغة كذا وكذا يوما ثم أضعفوا ذلك العدد وجعلوه وقت تحرك الجنين وكذبوا في ذلك على الخلاق العليم في خلقه كما كذبوا عليه في صفاته وأسمائه فإن القوم لم يكن لهم نصيب من العلم الذي جاءت به الرسل بل كانوا كما قال اله تعالى فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم النساء 83 وما غاية مل يناله المنكر المعرض عما جاءت به الرسل وغاية ما نالوا به علما بأمور طبيعية فيها الحق والباطل وأمور رياضية كثيرة التعب قليلة الجدوى وأمور الهيئة باطلها أضعاف أضعاف حقها فأين العلم المتلقى من الوحي النازل إلى الظن المأخوذ عن الرأي الزائل وأين العلم المأخوذ عن رسول الله عن جبريل عن الله عز و جل إلى الظن المأخوذ عن رأي رجل لم يستنر قلبه بنور الوحي طرفة عين وإنما معه حدسه وتخمينه ونسبه ما يدركه العقلاء قاطبة بعقولهم إلى ما جاءت به الرسل كنسبة سراج ضعيف إلى ضوء الشمس و لا تجدو ولو عمرت عمر نوح مسألة واحدة أصلا اتفق فيها العقلاء كلهم على خلاف ما جاءت به الرسل في أمر من الأمور البتة فالأنبياء لم تأت بما يخالف صريح العقل البتة وإنما جاءت بما لا يدركه العقل فما جاءت به الرسل مع العقل ثلاثة أقسام لا رابع لها البتة قسم شهد به العقل والفطرة وقسم يشهد بجملته ولا يهتدى لتفصيله وقسم ليس في العقل قوة إدراكه وأما القسم الرابع وهو ما يحيله العقل الصريح ويشهد ببطلانه فالرسل بريئون منه وإن ظن كثير من الجهال المدعين للعلم والمعرفة أن بعض ما جاءت به الرسل يكون من هذا القسم فهذا إما لجهله بما جاءت به وإما لجهله بحكم العقل أو لهما فصل
في مقدار زمان الحمل واختلاف الأجنة في ذلك
قال الله تعالى ووحينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا الأحقاف 15 فأخبر تعالى أن مدة الحمل والفطام ثلاثون شهرا وأخبر في آية البقرة أن مدة تمام الرضاع حولين كاملين فعلم أن الباقي يصلح مدة للحمل وهو ستة أشهر فاتفق الفقهاء كلهم على أن المرأة لا تلد لدون ستة أشهر إلا أن يكون سقطا وهذا أمر تلقاه الفقهاء عن الصحابة رضي الله عنهم فذكر البيهقي وغيره عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي أن عمر أتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر فهم عمر برجمها فبلغ ذلك عليا رضي الله عنه فقال ليس عليها رجم فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه فسأله فقال والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة البقرة 233 وقال وحمله وفصاله ثلاثون شهرا الأحقاف 15 فستة أشهر حمله وحولان تمام الرضاعة لا حد عليهما فخلى عنها وفي موطأ مالك أنه بلغه أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أتي بامرأة قد ولدت في ستة أشهر فأمر بها أن ترجم فقال علي ليس ذلك عليها قال الله تعالى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا وقال وفصاله في عامين فأمر بها عثمان أن ترد فوجدها قد رجمت وذكر داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقول إذا ولدت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرضاع أحد وعشرون شهرا وإذا وضعت لسبعة أشهر كفاها من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا وإذا وضعت لستة أشهر كفاها من الرضاع أربعة وعشرون شهرا كما قال تعالى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا انتهى كلامه وقال الله تعالى الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد الرعد 8 قال ابن عباس وما تغيض الأرحام ما تنقص عن تسعة أشهر وما تزداد وما تزيد عليها ووافقه على هذا أصحابه كمجاهد وسعيد ابن جبير وقال مجاهد أيضا إذا حاضت المرأة على ولدها كان ذلك نقصانا من الولد وما تزداد قال إذا زادت على تسعة أشهر كان ذلك تماما لما نقص من ولدها وقال أيضا الغيض ما رأت الحامل من الدم في حملها وهو نقصان من الولد والزيادة ما زاد على التسمة أشهر وهو تمام النقصان وقال الحسن ما تغيض الأرحام ما كان من سقط وما تزداد المرأة تلد لعشرة أشهر وقال عكرمة تغيض الأرحام الحيض بعد الحمل فكل يوم رأت فيه الدم حاملا ازداد به في الأيام طاهرا فما حاضت يوما إلا ازدادت في الحمل يوما وقال قتادة الغيض السقط وما تزداد فوق التسعة أشهر وقال سعيد بن جبير إذا رأت المرأة الدم على الحمل فهو الغيض للولد فهو نقصان في غذاء الولد وزيادة في الحمل تغيض وتزداد فعلان متعديان مفعولهما محذوف وهو العائد على ما الموصولة والغيض النقصان ومنه وغيض الماء هود 44 وضده الزياده والتحقيق في معنى الآية أنه يعلم مدة الحمل وما يعرض فيها من الزيادة والنقصان فهو العالم بذلك دونكم كما هو العالم بما تحمل كل أنثى هل هو ذكر أو أنثى وهذا أحد أنواع الغيب التي لا يعلمها إلا الله كما في الصحيح عنه مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله لا يعلم متى تجيء الساعة إلا الله ولا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم متى يجيء الغيث إلا الله ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله فهو سبحانه المنفرد بعلم ما في الرحم وعلم وقت إقامته فيه وما يزيد من بدنه وما ينقص وما عدا هذا القول فهو من توابعه ولوازمه كالسقط والتام ورؤية الدم وانقطاعه والمقصود ذكر مدة إقامة الحمل في البطن وما يتصل بها من زيادة ونقصان
فصل
وأما أقصاها فقال ابن المنذر اختلف أهل العلم في ذلك فقالت طائفة أقصى مدته سنتان وروي هذا القول عن عائشة وروي عن الضحاك وهرم بن حيان أن كل واحد منهما أقام في بطن أمه سنتين وهذا قول سفيان الثوري وفيه قول ثان وهو أن مدة الحمل قد تكون ثلاث سنين روينا عن الليث بن سعد أنه قال حملت مولاة لعمر بن عبد الله ثلاث سنين وفيه قول ثالث أن أقصى مدته أربع سنين هكذا قال الشافعي رحمه الله قلت وعن الإمام أحمد رحمه الله روايتان أنه أربع سنين والثانية سنتان قال واختلف فيه عن مالك فالمشهور عنه عند أصحابه مثل ما قال الشافعي وحكى ابن الماجشون عنه ذلك ثم رجع لما بلغه قصة المرأة التي وضعت لخمس سنين وفيه قول آخر أن مدة الحمل قد تكون خمس سنين حكي عن عباد بن العوام أنه قال ولدت امرأة معنا في الدار لخمس سنين قال فولدته وشعره يضرب إلى ها هنا وأشار إلى العنق قال ومر به طير فقال هش وقد حكي عن ابن عجلان أن امرأته كانت تحمل خمس سنين وفيه قول خامس قال الزهري أن المرأة تحمل ست سنين وسبع سنين فيكون ولدها مخشوشا في بطنها قال وقد أتى سعيد بن مالك بامرأة حملت سبع سنين وقالت فرقة لا يجوز في هذا الباب التحديد والتوقيت بالرأي لأنا وجدنا لأدنى الحمل أصلا في تأويل الكتاب وهو الأشهر الستة فنحن نقول بهذا ونتبعه ولم نجد لآخره وقتا وهذا قول أبي عبيد ودفع بهذا حديث عائشة وقال المرأة التي روته عنها مجهولة وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن المرأة إذا جاءت بولد لأقل من ستة أشهر من يوم تزوجها الرجل أن الولد غير لا حق به فان جاءت به لستة أشهر من يوم نكحها فالولد له وهذا وأمثاله يدل على أن الطبيعة التي هي منتهى سير الطبائعيين لها رب قاهر قادر يتصرف فيها بمشيئته وينوع فيها خلقه كما يشاء ليدل من له عقل على وجوده ووحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله وإلا فمن أين في الطبيعة المجردة هذا الاختلاف العظيم والتباين الشديد ومن أين في الطبيعة خلق هذا النوع الإنساني على أربعة أضرب أحدهما لا من ذكر ولا من أنثى كآدم الثاني من ذكر بلا أنثى كحواء صلوات الله عليها الثالث من أنثى بلا ذكر كالمسيح الرابع من ذكر وأنثى كسائر النوع ومن أين في الطبيعة والقوة هذا التركيب والتقدير والتشكيل وهذه الأعضاء والرباطات والقوى والمنافذ والعجائب التي ركبت في هذه النطفة المهينة لو لا بدائع صنع الله ما وجدت تلك العجائب في مستقذر الماء يا أيها الأنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك الانفطار 6 - 8 إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم آل عمران 5 و 6 لقد دل سبحانه على نفسه أوضح دلالة بما أشهده كل عبد على نفسه من حاله وحدوثه وإتقان صنعه وعجائب خلقه وآيات قدرته وشواهد حكمته فيه ولقد دعا سبحانه الإنسان إلى النظر في مبدإ خلقه وتمامه فقال تعالى فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب الطارق 6 - 7 وقال يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا الحج 5 وقال تعالى وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون الذاريات 20 - 21 وهذا في القرآن كثير لمن تدبره وعقله وهو شاهد منك عليك فمن أين للطبيعة والقوة المحصورة هذا الخلق والإتقان والإبداع وتفصيل تلك العظام وشد بعضها ببعض على اختلاف أشكالها ومقاديرها ومنافعها وصفاتها ومن جعل في النطفة تلك العروق واللحم والعصب ومن فتح لها تلك الأبواب والمنافذ ومن شق سمعها وبصرها ومن ركب فيها لسانا تنطق به وعينين تبصر بهما وأذنين تسمع بهما وشفتين ومن أودع فيها الصدر وما حواه من المنافع والآلات التي لو شاهدتها لرأيت العجائب ومن جعل هناك حوضا وخزانة يجتمع فيها الطعام والشراب وساق إليه مجاري وطرقا ينفذ فيها فيسقي جميع أجزاء البدن كل جزء يشرب من مجراه الذي يختص به لا يتعداه قد علم كل أناس مشربهم البقرة 60 ومن أخذ منها تلك القوى التي بها تمت مصالحها ومنافعها ومن أودع فيها العلوم الدقيقة والصنائع العجيبة وعلمها ما لم تكن تعلم وألهمها فجورها وتقواها ونقلها في أطوار التخليق طورا بعد طور وطبقا بعد طبق إلى أن صارت شخصا حيا ناطقا سميعا بصيرا عالما متكلما آمرا ناهيا مسلطا على طير السماء وحيتان الماء ووحوش الفلوات عالما بما لا يعلمه غيره من المخلوقات قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره عبس 22 - 15 فصل وقد زعم طائفة ممن تكلم في خلق الإنسان أنه إنما يعطى السمع والبصر بعد ولادته وخروجه من بطن أمه واحتج بقوله تعالى والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون النحل 77 واحتج أنه في بطن الأم لا يرى شيئا ولا يسمع صوتا فلم يكن لإعطائه السمع والبصر هناك فائدة وليس ما قاله صحيحا ولا حجة له في الآية لأن الواو لا ترتيب فيها بل الآية حجة عليه فإن فؤاده مخلوق وهو في بطن أمه وقد تقدم حديث حذيفة بن أسيد والصحيح إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وهذا وإن كان المراد به العين والأذن فالقوة السامعة والباصرة مودوعة فيها وأما الإدراك بالفعل فهو موقوف على زوال الحجاب المانع منه فلما زال بالخروج من البطن عمل المقتضى عمله والله أعلم
فصل
في ذكر أحوال الجنين بعد تحريكه وانقلابه عند تمام نصف السنة يعرض للجنين في هذا الوقت أن يهتك غشاؤه والحجب التي عليه وأن ينتقل عن مكانه نحو فم الرحم فإن كان الجنين قويا وكانت أغشيته التي تغشيه وسرته أضعف تم الولاد وإن كان الجنين ضعيفا وأغشيته وسرته أقوى فإما أن يهتكها بعض الهتك ولا يولد فيبقى مريضا أربعين يوما إلى تمام آخر الشهر الثامن فإن ولد في هذه الأربعين يوما مات ولم يمكن تربيته ولا بقاؤه وإن هو هتك أغشيته كل الهتك حتى يمكن تلافي ذلك ولم يولد مات فإن لم يسقط والا قتل الحامل به وإن تهتك أغشيته هتكا يمكن تلافيه بقي ولم يمت ومكث في موضعه الذي تحرك نحوه وانقلب إليه عند فم الفرج وإنما يعرض لهم المرض في هذه الأربعين يوما إذا لم يولدوا بعد تحركهم لأنهم ينقلبون عن مكانهم الذي نشؤوا فيه وتتغير مواضعهم وانخلاع السرة بانتقاله ولأن أمهاتهم يعرض لهن أن يمرضن عند ذلك لتمدد الأغشية وانخلاع السرة المتصلة بالرحم منهن ولأن الجنين إذا انحل رباطه ثقل على أمه فصل
في سبب الشبه للأبوين أو أحدهما وسبب الإذكار والإيناث وهل لهما علامة
وقت الحمل أم لا تقدم ذكر قوله تعالى هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء آل عمران 6 وثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أم سليم سألت النبي عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل فقال إذا رأت المرأة ذلك فلتغتسل فقال أم سليم واستحيت من ذلك وهل يكون هذا فقال النبي نعم فمن أين يكون الشبه ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه وفي صحيح مسلم عن عائشة أن المرأة قالت لرسول الله هل تغتسل المرأة إذا حملت فأبصرت الماء فقال نعم فقالت لها عائشة تربت يداك فقال رسول الله دعيها وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه وفي صحيح مسلم عن ثوبان قال كنت قائما عند رسول الله فجاء حبر من أحبار اليهود فقال السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال لم تدفعني فقلت ألا تقول يا رسول الله فقال اليهودي إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله فقال رسول الله اسمي محمد الذي سماني به أهلي فقال اليهودي جئت أسألك فقال رسول الله أينفعك شبى إن حدثتك فقال أسمع بأذني فنكت رسول الله بعود معه فقال سل فقال اليهودي أين يكون الناس حين تبدل الأرض غير الأرض والسماوات فقال رسول الله هم في الظلمة دون الجسر فقال فمن أول الناس إجازة يوم القيامة قال فقراء المهاجرين قال اليهودي فما تحفتهم حين يدخلون الجنة قال زيادة كبد النون قال فما غذاؤهم على إثرها قال ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها قال فما شرابهم عليه قال عينا فيها تسمى سلسبيلا قال صدقت قال أردت أن أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان قال ينفعك إن حدثتك قال أسمع بأذني قال جئت أسألك عن الولد قال ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكر بإذن الله وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله تعالى فقال اليهودي لقد صدقت وإنك لنبي ثم انصرف فذهب فقال رسول الله لقد سألني عن الذي سألني عنه ومالي علم بشيء منه حتى أتاني الله عز و جل به وفي مسند الإمام أحمد من حديث القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله هو ابن مسعود قال مر يهودي برسول الله وهو يحدث أصحابه فقال رجل من قريش يا يهودي إن هذا يزعم أنه نبي فقال لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي فجاء حتى جلس ثم قال يا محمد ممم يخلق الإنسان قال يا يهودي من كل يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعصب وأما نطفة المرأة نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم فقام اليهودي فقال هكذا كان يقول من قبلك فتضمنت هذه الأحاديث أمورا أحدها أن الجنين يخلق من ماء الرجل وماء المرأة خلافا لمن يزعم من الطبائعيين أنه إنما يخلق من ماء الرجل وحده وقد قال تعالى فلينظر الإنسان مم خلق ; خلق من ماء من ماء دافق ; يخرج من بين الصلب والترائب الطارق 7 - 5 قال الزجاج قال أهل اللغة التربية موضع القلادة من الصدر والجمع ترائب وقال أبو عبيدة الترائب معلق الحلي من الصدر وهو قول جميع أهل اللغة وقال عطاء عن ابن عباس يريد صلب الرجل وترائب المرأة وهو موضع قلادتها وهذا قول الكلبي ومقاتل وسفيان وجمهور أهل التفسير وهو المطابق لهذه الأحاديث وبذلك أجرى الله العادة في أيجاد ما يوجده من بين أصلين كالحيوان والنبات وغيرهما من المخلوقات فالحيوان ينعقد من ماء الذكر وماء الأنثى كما ينعقد النبات من الماء والتراب والهواء ولهذا قال الله تعالى بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة الأنعام 1 : 1 فإن الولد لا يتكون إلا من بين الذكر وصاحبته و لا ينتقض هذا بآدم وحواء أبوينا ولا بالمسيح فإن الله سبحانه مزج تراب آدم بالماء حتى صار طينا ثم أرسل عليه الهواء والشمس حتى صار كالفخار ثم نفخ فيه الروح وكانت حواء مستلة منه وجزءا من أجزائه والمسيح خلق من ماء مريم ونفخة الملك وكانت النفخة له كالأب لغيره
فصل
الأمر الثاني إن سبق أحد المائين سبب لشبه السابق ماؤه وعلو أحدهما سبب لمجانسة الولد للعالي ماؤه فها هنا أمران سبق وعلو وقد يتفقان وقد يفترقان فإن سبق ماء الرجل ماء المرأة وعلاه كان الولد ذكرا والشبه للرجل وإن سبق ماء المرأة وعلا ماء الرجل كانت أنثى والشبه للأم وإن سبق أحدهما وعلا الآخر كان الشبه للسابق ماؤه والإذكار والإيناث لمن علا ماؤه ويشكل على هذا أمران أحدهما أن الإذكار والإيناث ليس له سبب طبيعي وإنما هو مستند إلى مشيئة الخالق سبحانه ولهذا قال في الحديث الصحيح فيقول الملك يا رب أذكر أم أنثى فما الرزق فما الأجل شقي أم سعيد فيقضي الله ما يشاء ويكتب الملك فكون الولد ذكر أو أنثى مستند إلى تقدير الخلاق العليم كالشقاوة والسعادة والرزق والأجل وأما حديث ثوبان فانفرد به مسلم وحده والذي في صحيح البخاري إنما هو الشبه وسببه علو ماء أحدهما أو سبقه ولهذا قال فمن أيهما علاأو سبق يكون الشبه له الأمر الثاني أن القافة مبناها على شبه الواطئ لا على شبه الأم ولهذا قال النبي في ولد الملاعنة انظروها فإن جاءت به على نعت كذا وكذا فهو لشريك بن السمحاء يعني الذي رميت به وإن جاءت به على نعت كذا وكذا فهو لهلال بن أمية فاعتبر شبه الواطئ ولم يعتبر شبه الأم ويجاب عن هذين الإشكالين أما الأول فإن الله سبحانه قدر ما قدره من أمر النطفة من حين وضعها في الرحم إلى آخر أحوالها بأسباب قدرها حتى الشقاوة والسعادة والرزق والأجل والمصيبة كل ذلك بأسباب قدرها ولا ينكر أن يكون للإذكار والإيناث أسباب كما للشبه أسباب لكون السبب غير موجب لمسببه بل إذا شاء الله جعل فيه اقتضاءه وإذا شاء سلبه اقتضاءه وإذا شاء رتب عليه ضد ما هو سبب له وهو سبحانه يفعل هذا تارة وهذا تارة وهذا تارة فالموجب مشيئة الله وحده فالسبب متصرف فيه لا متصرف محكوم عليه لا حاكم مدبر ولا مدبر فلا تضاد بين قيام سبب الإذكار والإيناث وسؤال الملك ربه تعالى أي الأمرين يحدثه في الجنين ولهذا أخبر سبحانه أن الإذكار والإيناث وجمعهما هبة محضه منه سبحانه راجع إلى مشيئه وعلمه وقدرته فإن قيل فقول الملك يا رب أذكر أم أنثى مثل قوله ما الرزق وما الأجل وهذا لا يستند إلى سبب من الواطئ وإن كان يحصل بأسباب غير ذلك قيل نعم لا يستند الإذكار والإيناث إلى سبب موجب من الوطء وغاية ما هناك أن ينعقد جزء من أجزاء السبب تمام السبب من أمور خارجة عن الزوجين ويكفي في ذلك أنه إن لم يأذن الله باقتضاء السبب لمسببه لم يترتب عليه فاستناد الإذكار والإيناث إلى مشيئته سبحانه لا ينافي حصول السبب وكونهما بسبب لا ينافي استنادهما إلى المشيئة ولا يوجب الاكتفاء بالسبب وحده وأما تفرد مسلم بحديث ثوبان فهو كذلك والحديث صحيح لا مطعن فيه ولكن في القلب من ذكر الإيناث والإذكار فيه شيء هل حفظت هذه اللفظة أو هي غير محفوظة والمذكور إنما هو الشبه كما ذكر في سائر الأحاديث المتفق على صحتها فهذا موضع نظر كما ترى والله أعلم فصل وأما الأمر الثالث وهو اعتبار القائف لشبه الأب دون الأم فذلك لأن كون الولد من الأم أمر محقق لا يعرض فيه اشتباه سواء أشبهها أو لم يشبهها وإنما يحتاج إلى القافة في دعوى الآباء ولهذا يلحق بأبوين عند أصحاب رسول الله وأكثر فقهاء الحديث ولا يلحق بأمين فإذا ادعاه أبوان أري القافة فألحق بمن كان الشبه له إذا لم يكن ثم فراش فإن كان هناك فراش لم يلتفت إلى مخالفة الشبه له فالشبه دليل عند عدم معارضة ما هو أقوى منه من الفراش والبينة نعم لو ادعاه امرأتان أري القافة فألحق بمن كان أشبه بها منهما فعملنا بالشبه في الموضعين ونص الأمام أحمد على اعتبار القافة في حق المرأتين فسئل عن يهودية ومسلمة ولدتا فادعت اليهودية ولد المسلمة فقيل له يكون في هذه القافة قال ما أحسنه وهذا أصح الوجهين للشافعية وقالوا في الوجه الآخر لا تعتبر القافة ها هنا لإمكان معرفة الأم يقينا بخلاف الاب والصحيح اعتبار القافة في حق المرأتين لأنه اعتبار لشبه الأم والولد يأخذ الشبه من الأم تارة ومن الأب تارة بدليل ما ذكرنا من حديث عائشة وأم سلمة وعبد الله بن سلام وأنس بن مالك وثوبان رضي الله عنهم وإمكان معرفة الأم يقينا لا يمنع اعتبار القافة عند عدم اليقين كما نتعبرها بالشبه إلى الرجلين عند عدم الفراش وقد روى سليمان بن حرب عن حماد عن هشام بن حسان عن محمد ابن سيرين قال حج بنا الوليد ونحن سبعة ولد سيرين فمر بنا إلى المدينة فلما دخلنا على زيد بن ثابت رضي الله عنه قيل له هؤلاء بنو سيرين قال فقال زيد هذان لأم وهذان لأم وهذان لأم فما أخطأ وقد قال بقراط في كتاب الأجنة وإذا كان مني الرجل أكثر من مني المرأة أشبه الطفل أباه وإذا كان مني المرأة أكثر من مني الرجل أشبه الطفل أمه وقال المني ينزل من أعضاء البدن كلها ويجري من الصحيحة صحيحا ومن السقيمة سقيما وقال إن الصلع يلدون صلعا والشهل يلدون شهلا والحول حولا وقال أما اللحم فإنه يربو ويزداد مع اللحم ويخلق فيه مفاصل ويكون كل شيء من الجنين شبيها بما يخرج منه وقال قد يتولد مرارا كثيرة من العميان ومن به شامة أو أثر ومن به علامات أخر ممن به علامة مثلها وكثيرا ما يولد أبناء يشبهون أجدادهم أو يشبهون آباءهم وقال الذكور في الأكثر يشبهون آباءهم والإناث يشبهن أمهاتهن
فصل
وقد يكون قبح المولود وحسنه من أسباب أخر منها أن أفكار الوالدين وخاصة الوالدة إذا جالت عند المباضعة وبعدها إلى وقت خلق الجنين في الأشخاص التي تشاهدها وتعاينها وتتذكرها وتشتاقها لأنها تحبها و تودها فإذا دامت الفكرة فيه والأشتياق إليه أشبه الجنين وتصور بصورته فإن الطبيعة نقالة واستعدادها وقبولها أمر يعرفه كل أحد وحدثني رئيس الأطباء بالقاهرة قال أجلست ابن أخي يكحل الناس فما مكث إلا يسيرا حتى جاء وبه رمد فلما برأ منه عاد فعاوده الرمد فعلمت أنه من فتح عينيه في أعين الرمد والطبيعة نقالة وقد ذكر الأطباء أن إدمان الحامل على أكل السفرجل والتفاح مما يحسن وجه المولود ويصفي لونه وكرهوا للحامل رؤية الصور الشنيعة والألوان الكمدة والبيوت الوحشة الضيقة وأن ذلك كله يؤثر في الجنين فصل وقال بقراط في كتاب الأجنة إذا حصل مني الرجل داخل الرحم عند الجماع ولم يسل إلى خارج ولكنه مكث في فم الرحم وانضم فمه علقت المرأة وإذا انضم فم الرحم اختلط المنيان في جوفه وتم الحبل فإذا توافق إنزال الرجل وإنزال المرأة في وقت واحد واختلط الماءان وثبتا في الرحم واشتمل عليهما وانضم علقت المرأة وتدبير ذلك يكون في ثلاثة أوقات قبل المباضعة ومعها وبعدها بإعداد الرحم لقبول النطفة ومعها بإيصال النطفة إلى مستقرها في الرحم واتفاق الإنزالين وبعدها بثبات النطفة في الرحم وإمساكه عليها وحفظها من الخروج والفساد قلت السبب المذكور غير موجب وإنما الموجب مشيئة الله وحده كما بينا والله أعلم
فصل
وإذا تكون الجنين وصوره الخالق البارىء المصور خلق ورأسه إلى فوق ورجلاه إلى أسفل فعندما يأذن الله بخروجه ينقلب ويصير رأسه إلى أسفل فيتقدم رأسه سائر بدنه هذا باتفاق من الأطباء والمشرحين وهذا من تمام العناية الإلهية بالجنين وأمه لأن رأسه إذا خرج أولا كان خروج سائر بدنه أسهل من غير أن يحتاج شيء منها إلى أن ينثني فإن الجنين لو خرجت رجلاه أولا لم يؤمن أن ينشب في الرحم عند يديه وإن خرجت رجله الواحدة لم يؤمن أن يعلق وينشب في الرحم عند إدراكه وإن خرجت اليدان لم يؤمن أن ينشب عند رأسه إما أنه يلتوي إلى خلف وإما لأن السرة تلتوي إلى عنقه أو كتفه لأن الجنين إذا انحدر فصار إلى موضع فيه السرة ممتدة التوت هناك على عنقه وكتفه فيعرض من ذلك إما أن يجاذب السرة فتألم الأم غاية الألم ثم إن الجنين إما أن يموت وإما أن يصعب خروجه ويخرج وهو عليل متورم فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن ينقلب في البطن فيخرج رأسه أولا ثم يتبع الرأس باقي البدن فصل
في السبب الذي لأجله لا يعيش الولد إذا ولد لثمانية أشهر ويعيش إذا ولد
لسبعة أشهر وتسعة وعشرة إذا أتم الجنين سبعة أشهر عرض له حركة قوية يتحركها بالطبع للانقلاب والخروج فإن كان الجنين قويا من الأطفال الذين لهم بالطبع قوة شديدة في تركيبهم وجبلتهم حتى يقدر بحركته على أن يهتك ما يحيط به من الأغشية المحيطة به المتصلة بالرحم حتى ينفذ ويخرج منها خرج في الشهر السابع وهو قوي صحيح سليم لم تؤلمه الحركة ولم يمرضه الانقلاب وإن كان ضعيقا عن ذلك فهو إما أن يعطب بسب ما يناله من الضرر والألم بالحركة للانقلاب فيخرج ميتا وإما أن يبقى في البطن فيمرض ويلبث في مرضه نحوا من أربعين يوما حتى يبرأ وينتعش ويقوى فإذا ولد في حدود الشهر الثامن ولد وهو مريض لم يتخلص من ألمه فيعطب ولا يسلم ولا يتربى وإن لبث في الرحم حتى يجوز هذه الأربعين يوما إلى الشهر التاسع وقوي وصح وانتعش وبعد عهده بالمرض كان حريا أن يسلم وأولاهم بأن يسلم أطولهم بعد الانقلاب لبثا في الرحم وهم المولودون في الشهر العاشر وأما من ولد بين العاشر والتاسع فحالهم في ذلك بحسب القرب والبعد وقال غيره العلة في أنه لا يمكن أن يعيش المولود لثمانية أشهر أنه يتوالى عليه ضربان من الضرر أحدهما انقلابه في الشهر السابع في جوف الرحم للولادة والثاني تغير الحال عليه بين مكانه في الرحم وبين مكانه في الهواء وإن كان قد يعرض ذلك التغيير لجميع الأجنة لكن المولود لسبعة أشهر ينجو من الرحم قبل أن يناله الضرر الذي من داخل بعقب الانقلاب والأمراض التي تعرض في جوف الرحم فالمولود لسبعة أشهر وعشرة أشهر يلبث في الرحم حتى يبرأ وينجو من تلك الأمراض فليس يتوالى عليه الضرران معا والمولود لثمانية أشهر يتوالى عليه الضرران معا وكذلك لا يمكن أن يعيش وجميع الأجنة في الشهر الثامن يعرض لهم المرض ويدلك على ذلك أنك تجد جميع الحوامل والحبالى في الشهر الثامن أسوأ حالا وأثقل منهن في مدة الشهور التي قبل هذا الشهر وبعده وأحوال الأمهات متصلة بأحوال الأجنة
فصل
وبكاء الطفل ساعة ولادته يدل على صحته وقوته وشدته وإذا وضع الطفل يده أو إبهامه أو إصبعه على عضو من أعضائه فهو دليل على ألم ذلك العضو وكل الحيوان بالطبع يشير إلى ما يؤلمه من بدنه إما بيده أو بفمه أو برأسه أو بذنبه فلما كان الطفل عادما للنطق أشار بأصبعه أو يده إلى موضع ألمه كالحيوان البهيم فصل في أن الأطفال وهم حمل في الرحم أقوى منهم بعد ولادهم وأصبر وأشد احتمالا لما يعرض لهم وكذلك تكون العناية بهم بعد ولادهم آكد والحذر عليهم أشد فإن أغصان الشجرة وفروعها ما دامت لاصقة بالشجرة ومتصلة بها لا تكاد الرياح العواصف تزعزعها ولا تقتلعها فإذا فصلت عنها وغرست في مواضع أخر نالتها الآفة ووصلت إليها بأدنى ريح تهب حتى تقتلعها وكذلك الجنين ما دام في الرحم فهو يقوى ويصبر على ما يعرض له ويناله من سوء التدبير والأذى على ما لا يصبر على اليسير منه بعد ولادته وانفصاله عن الرحم وكذلك الثمرة على الشجرة أقوى منها وأثبت بعد قطعها منها ولما كان مفارقة كل معتاد ومألوف بالانتقال عنه شديدا على من رامه ولا سيما إذا كان الانتقال دفعة واحدة فالجنين عند مفارقته للرحم ينتقل عما قد ألفه واعتاده في جميع أحواله دفعة واحدة وشدة ذلك الانتقال عليه أكثر من شدة الانتقال بالتدريج ولذلك قال بقراط قد يعلم بأهون سعي وأيسره أن التدبير الرديء من المطعم والمشرب إذا كان يجري مع رداءته على أمر واحد يشبه بعضه بعضا دائما فهو أوثق وأحرز وأبعد عن الخطر في التماس الصحة للأبدان من أن ينقل الرجل تدبيره دفعة واحدة إلى غذاء أفضل منه فالجنين ينتقل عما ألفه واعتاده في غذائه وتنفسه ومداخله وما يكتنفه وهلة واحدة وهذه أول شدة يلقاها في الدنيا ثم تتوافر عليها الشدائد حتى يكون آخرها الشدة العظمى التي لا شدة فوقها أو الراحة العظمى التي لا تعب دونها ولذلك لا يبكي عند ورود هذه الشدة عليه مع ما يلقاه من وكز الشيطان وطعنه في خاصرته
فصل
والجنين في الرحم كان يغتذي بما يلائمه وكان يجتذب بالطبع المقدار الذي يلائمه من دم أمه وبعد خروجه يجتذب من اللبن ما يلائمه أيضا لكنه يجتذب بشهوته وإرادته فيزيد على مقدار ما يحتاج إليه مع كون اللبن يكون رديئا ومعلولا كما يكون صحيحا وكذلك يعرض له القيء والغثيان ويجتذب أخلاط بدنه وتعرض له الآلام والأوجاع والآفات التي لم تعرض له في البطن وقد كان عليه من الأغشية والحجب ما يمنع وصول الأذى اليه فلما ولد هيىء له أغشية وحجب أخر لم يكن يألفها ويعتادها وربما صحى للحر والبرد والهواء وكان يجتذبه من سرته وهو ألطف شيء معتدل صحيح قد يصح قلب الأم وعروقها الضوارب فهو شبيه بما يجتذبه من هو داخل الحمام من الهواء اللطيف المعتدل ثم يخرج منه وهلة واحدة عريانا إلى الهواء العاصف المؤذي وبالجملة فقد انتقل عن مألوفه وما اعتاده وهلة واحدة إلى ما هو أشد عليه منه وأصعب وهذا من تمام حكمة الخلاق العليم ليمرن عبده على مفارقة عوائده ومألوفاته إلى ما هو أفضل منها وأنفع وأوفق له وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله لتر كبن طبقا عن طبق الانشقاق 19 أي حالا بعد حال فأول أطباقة كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم جنينا ثم مولودا ثم رضيعا ثم فطميا ثم صحيحا أو مريضا غنيا أو فقيرا معافى أو مبتلى إلى جميع أحوال الإنسان المختلفة عليه إلى أن يموت ثم يبعث ثم يوقف بين يدي الله تعالى ثم يصير إلى الجنة أو النار فالمعنى لتركبن حالا بعد حال ومنزلا بعد منزل وأمرا بعد أمر قال سعيد بن جبير وابن زيد لتكونن في الآخرة بعد الأولى ولتصيرن أغنياء بعد الفقر وفقراء بعد الغنى وقال عطاء شدة بعد شدة والطبق والطبقة الحال ولهذا يقال كان فلان على طبقات شتى قال عمرو بن العاص لقد كنت على طبقات ثلاث أي أحوال ثلاث قال ابن الأعرابي الطبق الحال على اختلافها وقد ذكرنا بعض أطباق الجنين في البطن من حين كونه نطفة إلى وقت ولاده ثم نذكر أطباقه بعد ولادته إلى آخرها فنقول الجنين في الرحم بمنزلة الثمرة على الشجرة في اتصالها بمحلها اتصالا قويا فإذا بلغت الغاية لم يبق إلا انفصالها لثقلها وكمالها وانقطاع العروق الممسكة لها فكذا الجنين تنهك عنه تلك الأغشية وتنفصل العروق التي تمسكه بين المشيمة والرحم وتصير تلك الرطوبات المزلفة فتعينه بإزلاقها وثقله وانتهاك الحجب وانفصال العروق على الخروج فينفتح الرحم انفتاحا عظيما جدا ولا بد من انفصال بعض المفاصل العظيمة ثم تلتئم في أسرع زمان وقد اعترف بذلك حذاق الأطباق والمشرحين وقالوا لا يتم ذلك إلا بعناية إلهية وتدبير يعجز عقول الناس عن إدراك كيفيته فتبارك الله أحسن الخالقين فإذا انفصل الجنين بكى ساعة انفصاله لسبب طبيعي وهو مفارقة إلفه ومكانه الذي كان فيه وسبب منفصل عنه وهو طعن الشيطان في خاصرته فإذا انفصل وتم انفصاله مد يده إلى فيه فإذا تم له أربعون يوما تجد له أمر آخر على نحو ما كان يتجدد له وهو في الرحم فيضحك عند الأربعين وذلك أول ما يعقل نفسه فإذا تم له شهران رأى المنامات ثم ينشأ معه التمييز والعقل على التدريج شيئا فشيئا إلى سن التمييز وليس له سن معين بل من الناس ما يميز لخمس كما قال محمود بن الربيع عقلت من النبي مجة مجها في وجهي من دلو في بئرهم وأنا ابن خمس سنين ولذلك جعلت الخمس سنين حدا لحدة سماع الصبي وبعضهم يميز لأقل منها ويذكر أمورا جرت له وهو دون الخمس سنين وقد ذكرنا عن إياس بن معاوية أنه قال اذكر يوم ولدتني أمي فإني خرجت من ظلمة إلى ضوء ثم صرت إلى ظلمة فسئلت أمه عن ذلك فقالت صدق لما انفصل مني لم يكن عندي ما ألفه به فوضعت عليه قصعة وهذا من أعجب الإشياء وأندرها فإذا صار له سبع سنين دخل في سن التمييز وأمر بالصلاة كما في المسند والسنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين وأضربوهم عليها لعشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع وقد خير النبي ابنة فطيما بين أبويها كما روى أبو داود في سننه من حديث عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن رافع بن سنان الأنصاري قال أخبرني أبي عن جدي رافع بن سنان أنه أسلم فأبت امرأته أن تسلم فأتت النبي فقالت ابنتي وهي فطيم أو شبهه وقال نافع ابنتي فقال رسول الله اقعد ناحية وقال لها اقعدي ناحية فأقعد الصبية بينهما ثم قال ادعواها فمالت إلى أمها فقال النبي اللهم اهدها فمالت إلى أبيها فأخذها و لا أحسن من هذا الحكم ولا أقرب إلى النظر والعدل وعند النسائي في رواية عن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري عن أبيه أن جده أسلم وأبت امرأته أن تسلم فجاء بابن له صغير ولم يبلغ فأجلس النبي الأب هاهنا والأم ها هنا ثم خيره وقال اللهم اهده فذهب إلى أبيه وفي المسند من حديث أبي هريرة أن رسول الله خير غلاما بين أبيه وأمه وأما تقيد وقت التخيير بسبع فليس في الأحاديث المرفوعة اعتباره وإنما ذكر فيه أثر عن علي وأبي هريرة قال عمارة الجرمي خيرني علي بين أمي وعمي وكنت ابن سبع سنين أو ثمان سنين وهذا لا يدل على أن من دون ذلك لا يخير بل اتفق أن ذلك الغلام المخير كان سنه ذلك وفي السنن من حديث أبي هريرة جاءت امرأة إلى النبي فقالت يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة وقد نفعني فقال له النبي هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيدأيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به ولم يسأل عن سنه وظاهر أمره أن غاية ما وصل إليه أنه سقاها من البئر فليس في أحاديث التخيير مرفوعها وموقوفها تقييد بالسبع والذي دلت عليه أنه متى ميز بين أبيه وأمه خير بينهما والله أعلم وكذلك صحة إسلامه لا تتوقف على السبع بل متى عقل الإسلام ووصفه صح إسلامه واشترط الخرقي أن يكون ابن عشر سنين وقد نص أحمد على ذلك في الوصية فإنه قال في رواية ابنيه صالح وعبد الله وعمه أبي طالب وإسحاق بن ابراهيم وأبي داود وابن منصور على اشتراط العشر سنين لصحة وصيته وقال له أبو طالب فإن كان دون العشرة قال لا واحتج في رواية إسحاق بن ابراهيم بأنه يضرب على الصلاة لعشر وأما إسلامه فقال في المغنى أكثر المصححين لإسلامه لم يشترطوا العشر ولم يحدوا له حدا وحكاه ابن المنذر عن أحمد لأن المقصود حصل لا حاجة الى زيادة عليه وروي عن أحمد إذا كان ابن سبع سنين فإسلامه إسلام لأن النبي قال مروهم بالصلاة لسبع فدل على أن ذلك حد لأمرهم وصحة عباداتهم فيكون حدا لصحة إسلامهم وقال ابن أبي شيبة إذا أسلم وهو ابن خمس سنين جعل إسلامه إسلاما لأن عليا أسلم وهو ابن خمس سنين وقال أبو أيوب أجيز إسلام ابن ثلاث سنين من أصاب الحق من صغيرأو كبير أجزناه وهذا لايكاد يعقل الإسلام ولا يدري ما يقول ولا يثبت لقوله حكم فإن وجد ذلك منه ودلت أقواله وأفعاله على معرفة الإسلام وعقاله إياه صح منه كغيره انتهى كلامه فقد صرح الشيخ بصحة إسلام ابن ثلاث سنين إذا عقل الإسلام وقد قال الميموني قلت لأبي عبد الله الغلام يسلم وهو ابن عشر سنين ولم يبلغ الحنث قال أقبل إسلامه قلت بأي شيء تحتج فيه قال أنا أضربه على الصلاة ابن عشر وأفرق بينهم في المضاجع وقال الفضل بن زيادة سألت أحمد عن الصبي النصراني يسلم كيف تصنع به قال إذا بلغ عشرا أجبرته على الإسلام لأن النبي قال علموا أولادكم الصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر فهذه رواية وعنه رواية أخرى يصح إسلام ابن سبع سنين قال أبو الحارث قيل لأبي عبد الله إن غلاما صغيرا أقر بالإسلام وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وصلى وهو صغير لم يدرك ثم رجع عن الإسلام يجوز إسلامه وهو صغير قال نعم إذا أتى له سبع سنين ثم أسلم أجبر على الإسلام لأن النبي قال علموهم الصلاة لسبع فكان حكم الصلاة قد وجب إذ أمر أن يعلموهم الصلاة لسبع وقال صالح قال أبي إذا بلغ اليهودي والنصراني سبع سنين ثم أسلم أجبر على الإسلام لأنه إذا بلغ سبعا أمر بالصلاة قلت وإن كان ابن ست قال لا فصل فإذا صار ابن عشر ازداد قوة وعقلا واحتمالا للعبادات فيضرب على ترك الصلاة كما أمر به النبي وهذا ضرب تأديب وتمرين وعند بلوغ العشر يتجدد له حال أخرى يقوى فيها تمييزه ومعرفته ولذلك ذهب كثير من الفقهاء إلى وجوب الإيمان عليه في هذا الحال وأنه يعاقب على تركه وهذا اختيار أبي الخطاب وغيره وهو قول قوي جدا وإن رفع عنه قلم التكليف بالفروع فإنه قد أعطي آلة معرفة الصانع والإقرار بتوحيده وصدق رسله وتمكن من نظر مثله واستدلاله كما هو متمكن من فهم العلوم والصنائع ومصالح دنياه فلا عذر له في الكفر بالله ورسوله مع أن أدلة الإيمان بالله ورسوله أظهر من كل علم وصناعة يتعلمها وقد قال تعالى وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ الأنعام 19 أي ومن بلغه القرآن فكل من بلغه القرآن وتمكن من فهمه فهو منذر به والأحاديث التي رويت في امتحان الأطفال والمعتوهين والهالك في الفترة إنما تدل على امتحان من لم يعقل الإسلام فهؤلاء يدلون بحجتهم أنهم لم تبلغهم الدعوة ولم يعقلوا الاسلام ومن فهم دقائق الصناعات والعلوم لا يمكنه أن يدلي على الله بهذه الحجة وعدم ترتيب الأحكام عليهم في الدنيا قبل البلوغ لا يدل على عدم ترتيبها عليهم في الآخرة وهذا القول هو المحكي عن أبي حنيفة وأصحابه وهو في غاية القوة
فصل
ثم بعد العشر إلى سن البلوغ يسمى مراهقا ومناهزا للاحتلام فإذا بلغ خمس عشرة سنة عرض له حال آخر يحصل معه الاحتلام ونبات الشعر الخشن حول القبل وغلظ الصوت وانفراق أرنبة أنفه والذي اعتبره الشارع من ذلك أمران الاحتلام والإنبات أما الاحتلام فقال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات ثم قال وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذان الذين من قبلهم النور 59 وقال النبي رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ وقال لمعاذ خذ من كل حالم دينارا رواهما أحمد وأبو داود وليس لوقت الاحتلام سن معتاد بل من الصبيان من يحتلم لاثنتي عشرة سنة ومنهم من يأتي عليه خمس عشرة وست عشرة سنة وأكثر من ذلك ولا يحتلم واختلف الفقهاء في السن الذي يبلغ به مثل هذا فقال الأوزاعي وأحمد والشافعي وأبو يوسف ومحمد متى كمل خمس عشرة سنة حكم ببلوغه ولأصحاب مالك ثلاثة أقوال أحدها سبع عشرة والثاني ثماني عشرة والثالث خمس عشرة وهو المحكي عن مالك وعن أبي حنيفة روايتان إحداهما سبع عشرة والأخرى ثماني عشرة والجارية عند سبع عشرة وقال داود وأصحابه لا حد له بالسن إنما هو الاحتلام وهذا قول قوي وليس عن رسول الله في السن حد البتة وغاية ما احتج به من قيده بخمس عشرة سنة بحديث ابن عمر حيث عرض على النبي في القتال وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه ثم عرض عليه وهو ابن خمس عشرة فأجازه وهذا الحديث وإن كان متفقا على صحته فلا دليل فيه على أنه أجازه لبلوغه بل لعله استصغره أولا ولم يره مطيقا للقتال فلما كان له خمس عشرة سنة رآه مطيقا للقتال فأجازه ولهذا لم يسأله هل احتملت أو لم تحتلم والله سبحانه إنما علق الأحكام بالاحتلام وكذلك رسول الله ولم يأت عنه في السن حديث واحد سوى ما حكاه ابن عمر من إجازته ورده ولهذا اضطربت أقوال الفقهاء في السن الذي يحكم ببلوغ الصبي له وقد نص الإمام أحمد أن الصبي لا يكون محرما للمرأة حتى يحتلم فاشترط الاحتلام فصل وأما الإنبات فهو نبات الشعر الخشن حول قبل الصبي والبنت ولا اعتبار بالزغب الضعيف وهذا مذهب أحمد ومالك وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر هو علم في حق الكفار دون المسلمين لأن أولاد المسلمين يمكن معرفة بلوغهم بالبينة وقبول قول البالغ منهم بخلاف الكافر وقال أبو حنيفة لا اعتبار به بحال كما لا يعتبر غلظ الصوت وانفراق الأنف واحتج من جعله بلوغا بما في الصحيحين أن النبي لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم بأن تقتل مقاتلهتم وتسبى ذراريهم وأمر بأن يكشف عن مؤتزرهم فمن أنبت فهو من المقاتلة ومن لم ينبت ألحق بالذرية قال عطية فشكوا في فأمر النبي أن ينظروا الي هل أنبت بعد فنظروا في فلم يجدوني أنبت فالحقوني بالذرية واستمر على هذا عمل الصحابة رضي الله عنهم بعد النبي فكتب عمر الى عامله أن لا تأخذ الجزية الا ممن جرت عليه الموسى وذكر البيهقي من حديث ابن علية عن اسماعيل بن أمية عن محمد بن يحيى بن حبان أن عمر رفع اليه غلام ابتهر جارية في شعره فقال انظروا اليه فلم يوجد أنبت فدرأ عنه الحد قال أبو عبيد والابتهار أن يقذفها بنفسه ويقول فعلت بها كاذبا وذكر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه أتي بغلام قد سرق فقال انظروا الى مؤتزره فنظروا فلم يجدوه أنبت الشعر فلم يقطعه وذكر عن ابن عمر اذا أصاب الغلام الحد فارتيب فيه هل احتلم أم لا فانظر الى عانته وفي هذا بيان أن الإنبات علم على البلوغ وعلى أنه علم في حق أولاد المسلمين والكفار وعلى أنه يجوز النظر الى عورة الأجنبي للحاجة من معرفة البلوغ وغيره وأما ما ذكره بعض المتأخرين أنه يكشف ويستدبره الناظر ويستقبلان جميعا المرآة وينظر اليها الناظر فيرى الإنبات فشيء قاله من تلقاء نفسه لم يفعله رسول الله ولا أحد من الصحابة ولا اعتبره أحد من الأئمة قبله
فصل
فإذا تيقن بلوغه جرى عليه قلم التكليف وثبت له جميع أحكام الرجل ثم يأخذ في بلوغ الأشد قال الزجاج الأشد من نحو سبع عشرة سنة الى نحو الأربعين وقال ابن عباس في رواية عطاء عنه الأشد الحلم وهو اختيار يحيى بن يعمر والسدي وروى مجاهد عنه ستا وثلاثين سنة وروى عنه أيضا ثلاثين وقال الضحاك عشرين سنة وقال مقاتل ثمان عشرة وقد أحكم الزهري تحكيم اللفظة فقال بلوغ الأشد يكون من وقت بلوغ الإنسان مبلغ الرجال الى أربعين سنة قال فبلوغ الأشد محصور الأول محصور النهاية غير محصور ما بين ذلك فبلوغ الأشد مرتبة بين البلوغ وبين الأربعين ومعنى اللفظة من الشدة وهي القوة والجلادة والشديد الرجل القوي فالأشد القوي قال الفراء واحدها شدة في القياس ولم أسمع لها بواحد وقال أبو الهيثم واحدها شدة كنعمة وأنعم وقال بعض أهل اللغة واحدها شدة بضم الشين وقال آخرون منهم هو اسم مفرد كالآنك وليس بجمع حكاهما ابن الأنباري فصل ثم بعد الأربعين يأخذ في النقصان وضعف القوى على التدريج كما أخذ في زيادتها على التدريج قال الله تعالى الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة الروم 54 فقوته بين ضعفين وحياته بين موتين فهو أولا نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم جنينا ما دام في البطن فإذا خرج فهو وليد فما لم يستتم سبعة أيام فهو صديغ بالغين المعجمة لأنه لم يشتد صدغه ثم ما دام يرضع فهو رضيع فإذا قطع عنه اللبن فهو فطيم فإذا دب ودرج فهو دارج قال الراجز يا ليتني قد زرت غير خارج ... أم صبي قد حبا ودارج فإذا بلغ طوله خمسة أشبار فهو خماسي فإذا سقطت أسنانه فهو مثغور وقد ثفر فإذا نبتت بعد سقوطها فهو مثغر بوزن مدكر بالتاء والثاء معا فإذا بلغ السبع وما قاربها فهو مميز فإذا بلغ العشر فهو مترعرع وناشئ فإذا قارب الحلم فهو يافع ومراهق ومناهز للحلم فإذا بلغ فهو بالغ فإذا اجتمعت قوته فهو حزور واسمه في جميع ذلك غلام ما لم يخضر شاربه فإذا اخضر شاربه وأخذ عذاره في الطلوع فهو باقل وقد بقل وجهه بالتخفيف ثم هو ما بين ذلك وبين تكامل لحيته فتى وشارخ بحصول شرخ الشباب له قال الجوهري الفتى الشاب والفتاة الشابة ويطلق الفتى على المملوك وإن كان شيخا كبيرا ومنه الحديث لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي ويقال الفتى على السخي الكريم فإذا اجتمعت لحيته فهو شاب إلى الأربعين ثم يأخذ في الكهولة إلى الستين ثم يأخذ في الشيخوخة فإذا أخذ شعره في البياض قيل شاب فإذا ازداد قيل وخطه الشيب فإذا زاد قيل شمط فإذا غلب شيبه فهو أغثم فإذا اشتعل رأسه ولحيته شيبا فهو متقعوس فإذا انحط قواه فهو هرم فإذا تغيرت أحواله وظهر نقصه فقد رد إلى أرذل العمر فالموت أقرب إليه من اليد إلى الفم
فصل
فإذا بلغ الأجل الذي قدر له واستوفاه جاءته رسل ربه عز و جل ينقلونه من دار الفناء إلى دار البقاء فجلسوا منه مد البصر ثم دنا منه الملك الموكل بقبض الأرواح فاستدعى بالروح فإن كانت روحا طيبة قال اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان فتخرج من بدنه كما تخرج القطرة من في السقاء فإذا أخذها لم يدعها الرسل في يديه طرفة عين فيحنطونها ويكفنونها بحنوط وكفن من الجنة ثم يصلون عليها ويوجد لها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض ثم يصعد بها للعرض الأول على أسرع الحاسبين فينتهي بها إلى سماء الدنيا فيستأذن لها فيفتح لها أبواب السماء ويصلي عليها ملائكتها ويشيعها مقربوها إلى السماء الثانية فيفعل بها كذلك ثم الثالثة ثم الرابعة إلى أن ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عز و جل فتحيي ربها تبارك وتعالى بتحية الربوبية اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام فإن شاء الله أذن لها بالسجود ثم يخرج لها التوقيع بالجنة فيقول الرب جل جلاله اكتبوا كتاب عبدي في عليين ثم أعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى ثم ترجع روحه إلى الأرض فتشهد غسله وتكفينه وحمله وتجهيزه ويقول قدموني قدموني فإذا وضع في لحده وتولى عنه أصحابه دخلت الروح معه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم على الأرض فأتاه حينئذ فتانا القبر فيجلسانه ويسألانه من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد فيصدقانه ويبشرانه بأن هذا الذي عاش عليه ومات عليه وعليه يبعث ثم يفسح له في قبره مد بصره ويفرش له خضر ويقيض له شاب حسن الوجه طيب الرائحة فيقول أبشر بالذي يسرك فيقول من أنت فوجهك الوجه يجيء بالخير فيقول أنا عملك الصالح ثم يفتح له طاقة إلى النار يقال أنظر ما صرف الله عنك ثم يفتح له طاقة إلى الجنة ويقال انظر ما أعد الله لك فيراهما جميعا وأما النفس الفاجرة فبالضد من ذلك كله إذا أذنت بالرحيل نزل عليها ملائكة سود الوجوه معهم حنوط من نار وكفن من نار فجلسوا منه مد البصر ثم دنا الملك الموكل بقبض النفوس فاستدعى بها وقال اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث أبشر بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فيتطاير في بدنه فيجتذبها من أعماق البدن فتنقطع معها العروق والعصب كما ينتزع الشوك من الصوف المبلول فإذا أخذها لم يدعها في يده طرفة عين ويوجد لها كأنتن رائحة جيفة على وجه الأرض فتحنط بذلك الحنوط وتلف في ذلك الكفن ويلعنها كل ملك بين السماء والأرض ثم يصعد بها إلى السماء فيستفتح لها فلا يفتح لها أبواب السماء ثم يجيء النداء من رب العالمين اكتبوا كتابه في سجين وأعيدوه إلى الأرض فتطرح روحه طرحا فتشهد بتجيهزه وتكفينه وحمله وتقول وهي على السرير يا ويلها إلى أين تذهبون بها فإذا وضع في اللحد أعيدت إليه وجاءه الملكان فسألاه عن ربه ودينه ونبيه فيتلجلج ويقول لا أدري فيقولان له دريت ولا تليت ثم يضربانه ضربة يصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين ثم يضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ثم يفرش له نار ويفتح له طاقة إلى الجنة فيقال انظر إلى ما صرف الله عنك ثم يفتح له طاقة الى النار فيقال انظر الى مقعدك من النار فيراهما جميعا ثم يقيض له أعمى أصم أبكم فيقول من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر فيقول أنا عملك السيء ثم ينعم المؤمن في البرزخ على حسب أعماله ويعذب الفاجر فيه على حسب أعماله ويختص كل عضو بعذاب يليق بجناية ذلك العضو فتقرض شفاه المغتابين الذين يمزقون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم بمقاريض من نار وتسجر بطون أكلة أموال اليتامى بالنار ويلقم أكلة الربا بالحجارة ويسبحون في أنهار الدم كما سبحوا في الكسب الخبيث وترض رؤوس النائمين عن الصلاة المكتوبة بالحجر العظيم ويشق شدق الكذاب الكذبة العظيمة بكلاليب الحديد قفاه ومنخره الى قفاه وعينه الى قفاه كما شقت كذبته النواحي وتعلق النساء الزوانى بثديهن وتحبس الزناة والزواني في التنور المحمى عليه فيعذب محل المعصية منهم وهو الأسافل وتسلط الهموم والغموم والأحزان والآلام النفسانيه على النفوس البطالة التي كانت مشغونة باللهو واللعب والبطالة فتصنع الآلام في نفوسهم كما يصنع الهوام والديدان في لحومهم حتى يأذن الله سبحانه بانقضاء أجل العالم وطي الدنيا فتمطر الأرض مطرا غليظا أبيض كمني الرجال أربعين صباحا فينبتون من قبورهم كما تنبت الشجرة والعشب فإذا تكاملت الأجنة وأقربت الأم وكان وقت الولادة أمر الله سبحانه إسرافيل فنفخ في الصور نفخة البعث وهي الثالثة وقبلها نفخة الموت وقبلها نفخة الفزع فتشققت الأرض عنهم فإذا هم قيام ينظرون يقول المؤمن الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا واليه النشور ويقول الكافر يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون يس 53 فيساقون الى المحشر حفاة عراة غرلا بهما مع كل نفس سائق يسوقها وشهيد يشهد عليها وهم بين مسرور ومثبور وضاحك وباك وباك وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة حتى إذا تكاملت عدتهم وصاروا جميعا على وجه الأرض تشققت السماء وانتثرت الكواكب ونزلت ملائكة السماء فأحاطت بهم ثم نزلت ملائكة السماء الثانية فأحاطت بملائكة السماء الدنيا ثم كل سماء كذلك فبينما هم كذلك إذ جاء رب العالمين سبحانه لفصل القضاء فأشرقت الأرض بنوره وتميز المجرمون من المؤمنين ونصب الميزان وأحضر الديوان واستدعي بالشهود وشهدت يومئذ الأيدي والألسن والأرجل والجلود ولا تزال الخصومة بين يدي الله سبحانه حتى يختصم الروح والجسد فيقول الجسد إنما كنت ميتا لا اعقل ولا أسمع ولا أبصر وأنت كنت السميعة المبصرة العاقلة وكنت تصرفينني حيث أردت فتقول فتقول الروح وأنت الذي فعلت وباشرت المعصية وبطشت فيرسل الله سبحانه اليهما ملكا يحكم بينهما فيقول مثلكما مثل بصير مقعد وأعمى صحيح دخلا بستانا فقال المقعد أنا أرى الثمار ولا أستطيع أن أقوم اليها وقال الأعمى أنا أستطيع القيام ولكن لا أرى شيئا فقال له المقعد احملني حتى أصل الى ذلك ففعلا فعلى من تكون العقوبة فيقولان عليهما فيقول فكذلك أنتما فيحكم الله سبحانه بين عباده بحكمة الذي يحمده عليه جميع أهل السماوات والأرض وكل بر وفاجر ومؤمن وكافر وتوفى كل نفس ما عملت فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره : ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ثم ينادي مناد لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فيذهب أهل الأوثان مع أوثانهم وأهل الصليب مع صليبهم وكل مشرك مع إلهه الذي كان يعبد لا يستطيع التخلف عنه فيتساقطون في النار ويبقى الموحدون فيقال لهم ألا تنطلقون حيث انطلق الناس فيقولون فارقنا الناس أحوج ما كنا اليهم وإن لنا ربا ننتظره فيقال وهل بينكم وبينه علامة تعرفونه بها فيقولون نعم إنه لا مثل له فيتجلى لهم سبحانه في غير الصورة التي يعرفونه فبقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيتجلى لهم في صورته التى رأوه فيها أول مرة ضاحكا فيقول أنا ربكم فيقولون نعم أنت ربنا ويخرون له سجدا إلا من كان لا يصلي في الدنيا أو يصلي رياء فإنه يحال بينه وبين السجود ثم ينطلق سبحانه ويتبعونه ويضرب الجسر ويساق الخلق اليه وهو دحض مزلة مظلم لا يمكن عبوره إلا بنور فإذا انتهوا اليه قسمت بينهم الأنوار على حسب نور إيمانهم وإخلاصهم وأعمالهم في الدنيا فنور كالشمس ونور كالنجم ونور كالسراج في قوته وضعفه وترسل الأمانة والرحم على جنبتي الصراط فلا يجوزه خائن ولا قاطع رحم ويختلف مرورهم عليه بحسب اختلاف استقامتهم على الصراط المستقيم في الدنيا فمار كالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل وساع وماش وزاحف وحاب حبوا وينصب على جنبتيه كلاليب لا يعلم قدر عظمها إلا الله عز و جل تعوق من علقت به عن العبور على حسب ما كانت تعوقه الدنيا عن طاعة الله ومرضاته وعبوديته فناج مسلم ومخدوش مسلم ومقطع بتلك الكلاليب ومكدوس في النار وقد طفىء نور المنافقين على الجسر أحوج ما كانوا اليه كما طفىء في الدنيا من قلوبهم وأعطوا دون الكفار نورا في الظاهر كما كان إسلامهم في الظاهر دون الباطن فيقولون للمؤمنين قفوا لنا نقتبس من نوركم وما نجوز به فيقول المؤمنون والملائكة ارجعوا وراء كم فالتمسوا نورا قيل المعنى ارجعوا إلى الدنيا فخذوا من الإيمان نورا تجوزون به كما فعل المؤمنون وقيل ارجعوا وراءكم حيث قسمت الأنوار فالتمسوا هناك نورا تجوزن به ثم ضرب بينهم وبين أهل الإيمان بسور له باب باطنه الذي يلي المؤمنين فيه الرحمة وظاهرة الذي يليهم من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار وهي مولاكم وبئس المصير الحديد 15 - 13 فإذا جاوز المؤمنون الصراط ولا يجوزه إلا مؤمن أمنوا من دخول النار فيحبسون هناك على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في دار الدنيا حتى إذا هذبوا أذن لهم في دخول الجنة فإذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار أني بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ثم يقال يا أهل الجنة فيطلعون وجلين ثم يقال يا أهل النار فيطلعون مستبشرين فيقال هل تعرفون هذا فيقولون نعم وكلهم قد عرفه فيقال هذا الموت فيذبح بين الجنة والنار ثم يقال يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود ولا موت فهذا آخر أحوال هذه النطفة التي هي مبدأ الإنسان وما بين هذا المبدإ وهذه الغاية أحوال وأطباق قدر العزيز العليم تنقل الإنسان فيها وركوبة لها طبقا بعد طبق حتى يصل إلى غايته من السعادة والشقاوة قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره كلا لما يقض ما أمره عبس 23 - 17 فنسأل الله العظيم أن يجعلنا من الذين سبقت لهم منه الحسنى ولا يجعلنا من الذين غلبت عليهم الشقاوة فخسروا في الدنيا والآخرة إنه سميع الدعاء وهو حسبنا ونعم الوكيل آمين آمين آمين والحمد لله رب العالمين وصلواته على خير خلقه محمد خاتم النبين وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم