الكتاب : شرح تشريح القانون لابن سينا
المؤلف : ابن النفيس


المقدمة
وبعد حمد الله والصلاة على أنبيائه ورسله فإن قصدنا الآن إيراد ما تيسر لنا من المباحث على كلام الشيخ الرئيس أبي علي الحسين علي ابن عبد الله بن سينا البخاري رحمه الله، في التشريح من جملة كتاب القانون، وذلك بأن جمعنا ما قاله في الكتاب الأول من كتب القانون إلى ما قاله في الكتاب الثالث من هذه الكتب، وذلك ليكون الكلام في التشريح جميعه منظوماً.
وقد صدنا عن مباشرة التشريح وازع الشريعة، وما في أخلاقنا من الرحمة فلذلك رأينا أن نعتمد في تعرف صور الأعضاء الباطنة على كلام ما تقدمنا من المباشرين لهذا الأمر، خاصةً الفضائل جالينوس إذ كانت كتبه أجود الكتب التي وصلت إلينا في هذا الفن، مع أنه اطلع على كثير من العضلات التي لم يسبق إلى مشاهدتها، فلذلك جعلنا أكثر اعتمادنا في تعرف صور الأعضاء وأوضاعها ونحو ذلك على قوله. إلا في أشياء يسيرة ظنناً أنها من أغاليط النساخ أو إخباره عنها لم يكن من بعد.
وأما منافع كل واحد من الأعضاء، فإنا نعتمد في تعرفها على ما يقتضيه النظر المحقق، والبحث المستقيم، ولا علينا وافق ذلك رأى من تقدمنا أو خالفه.
ثم رأينا أن نبتدئ قبل الكلام في التشريح بتحرير مقدمة تعين على إتقان العلم بهذا الفن.
وهذه المقدمة تشتمل على خمس مباحث.
البحث الأول
اختلاف الحيوانات في الأعضاء
إنك قد عرفت مما قلناه في شرحنا للكتاب الأول من كتب القانون، وهو المعروف بالكليات، ماهيات الأعضاء جملةً وتفصيلاً، وجواهرها وقد علمت أن الأعضاء منها ما هي مفردة، وقد تشترك ما هي مؤلفة ليس يشارك جزؤها لكلها في الاسم والحد كاليد والرجل فإن جزء اليد ليس بيد وكذلك جزء الرجل اللهم إلا باشتراك الاسم كاليد، فإنها يقال على ما يدخل فيه الأصابع والساعد والعضد والكتف ويقال على ما يدخل فيه الأصابع والكف فقط إلى الرسغ.
وذلك بالاشتراك اللفظي لا بالاشتراك المعنوي كما سمي جزء العظم وهو القطعة التي تعرض منه عظماً، والقطعة من اللحم لحماً، ومن العصب عصباً ونحو ذلك.
والحيوانات تختلف في الأعضاء اختلافاً كبيراً، وذلك لأن الأعضاء هي آلات للنفس الحيوانية، وهذه الآلات تختلف لا محالة باختلاف هذه النفوس، إذ لكل نفس أعضاء تليق بها. كالأسد فإنه لما كان اغتذاؤه من اللحم، وإنما يتمكن من ذلك بأن يكون قوياً على المصيد، وقهر غيره من الحيوان، ليتمكن من أكله وإنما يمكن ذلك بأن يكون شجاعاً، شهماً، جريئاً، مقداماً، قوياً على قهر غيره من الحيوان.
وإنما يمكن ذلك بأن تكون أعضاؤه شديدة القوة، وإنما يكون ذلك بأن تكون عظامه قوية، مستحكمة، مصمتة، خفية المفاصل، حتى كأنها من عظم واحد. ولا كذلك كثير من الحيوانات، فإن بعضها ضعيف البطش، واهي التركيب كالدود، وكثير من حيوان البحر، وأكثر الحيوانات مشتركة في أن كل واحد منها على عظام، ولحم، وعصب، وأربطة، ونحو ذلك.
واختلاف الحيوانات في الأعضاء قد تكون فيها أنفسها وقد تكون في أحوالها.
أما الاختلاف في العضو البسيط فمثل أن السمك له فلوس، والقنفذ له شوك، والطائر له ريش، والغنم له قرون، والسلحفاة لها صدف، وليس شيء من ذلك للإنسان وإن كان له.
وأما الاختلاف في العضو المركب، فمثل أن الفرس له ذنب، والجمل له سنام، والطائر له جناح، وليس شيء من ذلك للإنسان وإن كان له أجزاء غير هذه كالعصب، والعظم، واللحم، والرباط ونحو ذلك.
وأما اختلاف الحيوانات باختلاف الأعضاء، فذلك بأمور أحدها مقادير الأعضاء، فإن رأس الإنسان إذا قيس إلى سائر بدنه كان عظيماً جداً، ولا كذلك غيره من الحيوانات وثانيها: أعداد الأعضاء. فإن أعضاء الإنسان كثيرة جداً بالقياس إلى أعضاء الدود.
وللإنسان ثديان فقط، وللكلب ثمانية أثداء. وكذلك للإنسان رجلان فقط ولبعض العناكب سنة أرجل، ولبعضها ثمانية أرجل، ولبعضها عشرة ولبعض الحيوان أرجل كثيرة جداً، كما للحيوان المعروف بأربعة وأربعين.
وثالثها: كيفيات الأعضاء مثل أن عظام رأس الأسد والفيل شديدة الصلابة، وعظام رأس الإنسان رخوة جداً، ولا كذلك غيره.
وكذلك لون عين الإنسان يخالف جداً لون عين الهرة.
ورابعها: أوضاع الأعضاء، فإن ثدي الإنسان في صدره، وثدي الفيل قربت من صدره، وثدي الفرس ونحوه قربت من سرته.

وخامسها: أفعال الأعضاء من أن يدي الإنسان يبطش بهما، ويتناول بهما الأشياء. ولا كذلك وأنف الفيل يقوم له مقام اليدين من الإنسان في تناول ما يتناوله.
وسادسها: انفعالات الأعضاء. فإن عين الخفاش تنفعل جداً عن الضوء الشديد والحرباء بالضد من ذلك. وقد خلق الإنسان صناعي المأكل والملبس فاقد السلاح، فكرى الصنائع، وإنما خلق كذلك ليكون كثير الفكر فيتهيأ له لأجل كثرة فكره بكثرة الارتياض أن يتوصل إلى معرفة الله تعالى ومعرفة مخلوقاته. ولا كذلك غير الإنسان، فلذلك جعل ذلك كله لغير الإنسان بالطبع.
والأعضاء العالية تكون أولاً في الإنسان عظيمة، ثم تعظم أسافله، فتتشابه أجزاؤه وتنحني أعاليه عند الكبر، والأعضاء المتيامنة في جميع الحيوانات شبيهة جداً للمتياسرة.
وأما الأعضاء العالية فتشبه السافلة شبهاً أقل كاليدين ربما في الإنسان للرجلين. وأما الأعضاء الخلفية، والقدامية فالشبه فيها أقل.
والله ولي التوفيق

البحث الثاني
فوائد علم التشريح
انتفاع الطبيب بهذا العلم بعضه في العلم، وبعضه في العمل، وبعضه في الاستدلال.
وأما انتفاعه في العلم والنظر، فذلك لأجل تكميله معرفة بدن الإنسان، ليكون بحثه عن أحواله وعوارضه سهلاً.
وأما انتفاع بالعمل فمن وجوه: أحدها أنه يعرف به مواضع الأعضاء فيتمكن بذلك من وضع الأضمده ونحوها حيث يسهل نفوذ قواها إلى الأعضاء المتضررة.
وثانيها: أنه يعرف به مبادئ شعب الأعضاء ونحوها، ومواضع تلك المبادئ فيتمكن من عرض لها خروج عن ذلك بخلع أو نحوه.
ورابعها: أنه يعرف به أوضاع الأعضاء بعضها من بعض فلا يحدث عند البط ونحوه قطع شريان، أو عصب، ونحو ذلك.
وكذلك لا يقطع ليف بعض العضلات في البط ونحوه. وذلك لأجل تعرفه مذاهب ألياف العضل.
وأما انتفاع الطبيب بهذا الفن في الاستدلال، فذلك قد يكون لأجل سابق النظر، وقد يكون لغير ذلك.
أما الأول: فكما إذا احتاج الطبيب إلى قطع عضو، فإنه إن كان عالماً بالتشريح تمكن حينئذ من معرفة ما يلزم ذلك القطع من الضرر الواقع في أفعال الشخص فينذر بذلك. فلا يكون عليه بعد وقوع ذلك الضرر لائمة.
وأما الثاني: فكما إذ كان يستدل به على أحوال الأمراض.
أما أمراض الأعضاء الظاهرة، فكما يستدل على أن ابتداء الرمد هو من السمة وذلك إذا شاهد الانتفاخ يبتدئ أولاً من الجفن.
وأما أمراض الأعضاء الباطنة، فإن الطبيب ينتفع به في الاستدلال عليها سواء كان ذلك الاستدلال من جواهر الأعضاء أو من أعراضها، أو منهما جميعاً.
أما الاستدلال من جوهر الأعضاء فإما أن يكون مما يبرز من البدن أو لا يكون كذلك.
والثاني: كما يستدل حين الآفة في هضم المعدة على أن الآفة في طبقاتها الخارجة، وأسافلها، وحين هي في الشهوة على أن الآفة في أعلى طبقتها الداخلة، وذلك لأن خارج المعدة وأسافلها لحمى، وهضمها باللحم وأعلى باطنها عصبي، والحس بالعصب.
والأول إما أن يكون بروز ذلك البارز من مخرج طبيعي أو لا يكون كذلك.
والثاني: كما يستدل بالقشور الخارجة مع القيء على قروح في المعدة أو المريء.
والأول: إما أن يكون ذلك المخرج هو مخرج الثفل كما يستدل بالقطع اللحمية الخارجة في اختلاف الدم على أنها أجزاء من الكبد أو هو مخرج البول، وذلك كما يستدل بالقشور النخالية الخارجة مع وجع المثانة على حرث فيها.
وأما الاستدلال من أعراض الأعضاء، فإما أن يكون بالأعراض التي هي للأعضاء في نفسها، أو التي لها بالقياس إلى غيرها أو بهما معاً.
أما الاستدلال بالأعراض التي هي للأعضاء في أنفسها، فكما يستدل بشكل العضو أو بلونه أو بمقداره. وأما بشكله فكما يستدل على أن الورم الذي يكون تحت الشراسيف اليمنى كبدي، بأنه معترض كرى الشكل أو هلالي وعلى أنه في العضلة التي فوقها بأنه متطاول أو معترض أو مؤرب وأما أن يكون بلون العضو فكما يستدل على أن الرمل الخارج ليس من المثانة بأنه أحمر، وعلى أنه ليس بأحمر، وذلك لأن تولد كل عضو إنما يكون من فضل غذائه، فيكون شبيهاً بلونه، وأما غلظ العضو، فكما يستدل على أن القشرة الخارجة مع البراز من الأمعاء الغلاظ بأنها كبيرة غليظة، وعلى أنها من الأمعاء الدقاق، بأنها صغيرة رقيقة.

وأما الاستدلال بالأعراض التي هي للأعضاء بالقياس إلى غيرها فكما يستدل بموضع العضو أو بوضعه أو اتصاله بغيره، أو بكونه منفصلاً أو بكونه مشاركاً لأجزاء، وليس بمشارك له.
أما الاستدلال بموضع العضو فكما يستدل على أن المغص في الأمعاء الدقاق بأنه في قرب السرة أو فوقها وعلى أنه في الأمعاء الغلاظ بأنه أسفل من السرة.
وأما الاستدلال بوضع العضو، فكما يستدل على أن المحتبس في إيلاوس ليس في المعاء الصائم بأن صفة هذا المعاء وضعه في طول البدن على الأسفل.
وأما الاستدلال باتصال العضو بغيره، فكما يستدل على أن هذا المحتبس ليس في الصائم لأنه يتصل به عروق كثيرة لامتصاص الغذاء ولدفع البراز.
وأما الاستدلال بكون العضو منفذاً، فكما يستدل بكون القضيب منفذا للبول ولما يخرج معه، على أن الخارج منه من الدم لا يلزم أن يكون من القضيب نفسه.
وأما الاستدلال بكون العضو مشاركاً أو ليس مشاركاً فإن الاستدلال بعدم المشاركة فكما يستدل بأن القطع اللحمة الخارجة مع البراز ليست من الكلى لعدم المشاركة بينها وبين الأمعاء، والاستدلال بالمشاركة فهو كما يستدل بحمرة العين وسخونتها على حرارة مزاج الرأس لمشاركة العين للرأس.
وأما الاستدلال بالأعراض التي هي الأعضاء نفسها وبقياسها إلى غيرها. فكما يستدل على أن فعل المعدة هضم الغذاء بتصغير أجزائه جداً بأن المريء يتصل فيها من فوق، والأمعاء والماساريقا من سفل تجويف واسع. ولولا أن تصغر الغذاء فيها لاستحال نفوذه في الماساريقا، ولا يمكن ذلك بالمريء، لأن الغذاء لا يدوم فيه مدة في مثلها يتصغر، ولا بالمعاء وإلا كانت زيادة تجويف المعدة عبثاً ولما كان يتصل بها شيء من الماساريقا وإذا ثبت أنه في المعدة فمتى لم يتم هذا الفعل علمنا أن فيها آفة.
وأما الاستدلال من جواهر الأعضاء، وأعراضها معاً. فكما يستدل على أن الرسوب اللحمي في البول من الكبد بأنه لحمى وحمرته إلى سواد، وعلى أنه من الكلى، بأنه مع لحميته إلى صفرة.
والله ولي التوفيق.
؟

البحث الثالث
إثبات منافع الأعضاء
قد منع قوم من الأولين منافع الأعضاء، وقالوا إنها لم تخلق لمنفعة بعينها وأنها هي وغيرها إنما وجدت بالاتفاق، وذلك لأن الفضاء عند هؤلاء فيه أجزاء لحمية، وأجزاء عظمية، وأجزاء أرضية، وأجزاء سماوية وغير ذلك. وإن هذه الأجزاء دائمة الحركة، فإذا اتفق منها أجزاء اجتمعت فصارت مثلاً أرضاً أو سماءً أو فرسا ونحو ذلك. فإن صلح ذلك للبقاء بقي، فإن صلح مع ذلك للنسل نسل، واستمر نوعه بالتواليد وما لم يصلح لذلك فتي وفسد.
ولا امتنع عند هؤلاء في أن يوجد ما نصفه إنسان ونصفه سمكة أو بغل ونحو ذلك، وليس شيء من ذلك مقصوداً بحكمة أو غرض ولعل في ذلك الفضاء عوالم لا نهاية لها، ونباتات، وحيوانات على هيئات غير معهودة عندنا.
والحق أن هذا باطل، وأن الله تعالى، وإن كان لا يفعل لغرض، فأفعاله لا تخلو عن الحكم، ولولا ذلك لكان هذا الوجود عبثاً وهو محال، وتحقيق هذا إلى علم آخر.
والذي ينبغي أن نقوله الآن: أن الخالق تعالى وحده لعنايته بهذا العالم يعطي كل متكون ما هو له أفضل من الجوهر والكم والكيف وغير ذلك. فأي شيء من ذلك علم وجوده لعضو علم كذلك ظن أنها هي الغاية، وإن كان يجوز أن تكون خلقته لذلك لسبب آخر خفي عنا لا لما ظنناه منفعة.
فقولنا مثلاً: إن الرأس خلق مستديراً ليكون بعيداً عن قبول الآفات معناه أن هذا يصلح لأن يكون غاية، لا أنا نجزم أنه إنما خلق مستديراً لذلك فقط.
ولذلك فإنا نذكر للشيء الواحد منافع كثيرة، ويجوز أن تكون المنفعة الخفية هي مجموع تلك المنافع لا واحدة منها. ويجوز أن تكون غير المجموعة وغير كل واحد مما ذكر.
والله أعلم بغيبه
البحث الرابع
مبادئ العلم بمنافع الأعضاء
إنه ليس يكفي في تعرف منافع الأعضاء مشاهدة تلك الأعضاء بل لا بد مع ذلك من نظر واستدلال، وذلك الاستدلال إما أن يكون بأمر عدمي أو بأمر وجودي.

أما الاستدلال بالأمر العدمي، فإما أن يكون عدمه طبيعياً أو لا يكون كذلك. والأول كما يستدل بعدم نبات الشعر في باطن الكف على أن فائدة ذلك أن يكون إحساس الكف قوياً، لأن الشعر لا بد وأن يحول بين الحس والمحسوس فيضعف إدراكه له، وكما يستدل بعدم اللحمي المائي لموضع الأخمص على فائدة ذلك، أن تكون للقدم إحاطة بالموطئ، فيكون المشي على المحدبات متأنياً.
والثاني: كما يستدل على فائدة العرق الآتي من الطحال إلى فم المعدة هي أن السوداء تنصب منه إلى هناك منبهة على شهوة الطعام بأن ذلك الانصباب إذا فقد بطلت الشهوة.
وأما الاستدلال بالأمر الوجودي. فإما أن يكون ذلك الأمر جوهراً أو عرضاً أو مجتمعاً منهما. وكل واحدة من هذه إما أن تكون عضوياً أو لا يكون كذلك.
فهذه ستة أقسام: الأول: أن يكون المستدل به جوهراً عضوياً. وذلك كما يستدل بخلقة الكلى لحمية على أن ذلك ليشتد جذبها للمائية، لأن الجوهر اللحمي أشد سخونة من غيره. والجذب يشتد بالحرارة.
الثاني: أن يكون جوهراً غير عضوي، وذلك كما يستدل بالرطوبات اللزجة التي على السطح الداخل من الأمعاء على ن فائدتها أن يكون جرم الأمعاء قوياً على ملاقاة الثفل.
الثالث: أن يكون عرضاً عضوياً، أي قائماً بعضو وأقسامه تسعة أحدها: كميات الأعضاء، أما الكمية المتصلة، وهي المقدار، فكما يستدل بكبر عظم الفخذ على أن فائدة ذلك أن يكون قوياً على حمل ما فوقه ونقل ما تحته.
وأما المنفصلة: أعني العدد. فكما يستدل بكثرة عدد الأصابع والأنامل وعظام المشط والرسغ، على أن فائدة ذلك أن يكون الاشتمال على المقبوض جيداً.
وثانيها: كيفيات الأعضاء، أما الكيفيات الملموسة، فكما يستدل بشدة حرارة القلب على أن منافعه إحالة الدم إلى الجوهر الروحي، وببرودة الدماغ على أن فائدته تعديل الروح الآتي إليه من القلب حتى يصلح لأن يصدر عنها أفعال الحس والحركة الإرادية.
وأما الألوان، فكما يستدل بلون طبقة العنبية على أن فائدتها جمع الروح الذي في العين وتقويته.
وأما الصلابة واللي، فكما يستدل بشدة صلابة العظم الوتدي على أن فائدته أن يكون حشواً بين الفرج التي للأعضاء ووطأً للبدن.
وأما الأشكال فكما يستدل باستدارة الرأس على أن فائدة ذلك أن يقل قبوله للآفات، وأن يكون تجويفه أوسع. وتفرطح مؤخرة المعدة، على أن فائدة ذلك تبعيدها عن الصلب لئلا يتضرر بملاقاته.
وثالثها: إضافات الأعضاء كما يستدل بمجاورة الثرب والكبد للمعدة على أنهما نافعان في إسخانها ليكون هضمها أتم.
ورابعها: وضع الأعضاء كما يستدل بميل رأس القلب إلى الجانب الأيسر على أن ذلك ليكون الجانبان متعادلين فن الجانب الأيمن يشتد تسخنه بحرارة الكبد.
وخامسها: كون العضو في مكان ما، كما يستدل بخلقه الحجاب بين آلات الغذاء، وآلات التنفس على أن ذلك ليمنع نفوذ قذارات هضم الغذاء في المعدة إلى القلب ونواحيه. وبخلقة الأضلاع في الصدر على أن ذلك ليكون وقاية للقلب من كل جانب.
وسادسها: كون العضو في زمان، كما يستدل بنبات النواجذ في وسط سن النمو على أن فائدة ذلك الاستظهار في تكثير آلات الغذاء.
وسابعها: كون العضو في محيط يلزمه. كما يستدل بكون الكبد والطحال في غشاء على أن فائدة ذلك إفادتهما حساً بالعرض.
وثامنها: كون العضو مؤثراً. كما يستدل بتصغير الأسنان للمأكولات على أن فائدتها إعانة المعدة على فعلها، وهو هضم الغذاء.
وتاسعها: كون العضو منفعلاً كما يستدل بتأثير الأمعاء عن لذع المرار على أن فائدة ذلك تنبيه القوة الدافعة على دفع الثفل.
الرابع: أن يكون المستدل به عرضاً غير عضوي. كما يستدل بلون الرطوبة الزجاجية على أن فائدتها أن تكون غذاء الجليدية. لدلالة لونها على أنها استحال إلى مشابهة الجليدية بعض الاستحالة.
الخامس: أن يكون المستدل به مركباً من جوهر وعرض، وهو عضو وذلك كما يستدل بالشحم الكثير الذي على القلب أن فائدته ترطيب القلب بالدهنية فلا تجف لقوة حرارته مع دوام حركته.
السادس: أن يكون المستدل به مركباً من جوهر وعرض، وهو غير عضوي، وذلك كما يستدل بالروح المحوى في باطن العينين على أن فائدته تأدية ما يصل إلى العينين من أشباح المرئيات إلى أمام القوة الباصرة.
والله ولي التوفيق

البحث الخامس
هيئة التشريح وآلاته
أما تشريح العظام والمفاصل ونحوهما فيسهل في الميت من أي سبب كان موته. وأسهل ذلك إذا مضى على موته مدة فني فيها ما عليه من اللحم وبقيت العظام متصلة بالأربطة ظاهرة. فإن هذا لا يفتقر فيه إلى عمل كبير حتى يوقف على هيئة عظام، ومفاصله.
وأما تشريح القلب والشرايين، والحجاب والرئة، ونحو ذلك، يتوقف على كيفية حركتها. وهل حركة الشرايين مصاحبة لحركة القلب، أو مخالفة وكذلك حركة الرئة مع حركة الحجاب.
ومعلوم أنه إنما يوقف عليه في تشريح الأحياء، ولكن يعسر ذلك بسبب اضطراب الحي لتألمه.
وأما تشريح العروق الصغار التي في الجلد، وما يقرب منه فيعسر في الأحياء لما قلناه، وكذلك في الموتى الذين ماتوا بمرض ونحوه. وخصوصاً إذا كان من الأمراض يلزمه قلة الدم والرطوبات فتختفي تلك العروق، كما في الإسهال والدق والنزف.
وأسهل تشريح هذه ما يكون في ميت مات بالخنق، لأن الخنق يحرك الدم والروح إلى خارج فتمتلئ هذه العروق وتنتفخ. ويلزم أن يكون ذلك عقيب الموت، لأن الزمان إذا طال جمد ما يكون في هذه العروق من الدم فيقل حجمه، ويلزم ذلك نقصان انتفاخ تلك العروق.
قال جالينوس: إن عادتي أن أخنق الذي أريد تشريحه بالماء كيلا يرتض أو يتفسخ شيء من أجزاء العنق لو خنق بحبل ونحوه.
والله ولي التوفيق
القسم الأول
صور الأعضاء الباطنة
الجملة الاولى
العظام
الفصل الأول
قول كُليّ في العظام
الشرح العظم عضو تبلغ صلابته إلى حد لا يمكن ثنيه، وهذا التعريف تدخل فيه الأسنان فإن أردنا خروجها زدنا في التعريف قولنا: منوي أو فاقد الحس لقولنا عضو منوي تبلغ صلابته إلى حد لا يمكن ثنيه أو نقول: عضو فاقد للحس تبلغ صلابته إلى حد لا يمكن ثنيه. والمفصل في اللغة موضع الانفصال وقد نقل جالينوس عن بقراط ما يقرب من ذلك إذ قال: إنه يسمى رأس العظم المستدير الذي يدخل في العظم الآخر مفصلاً.
وأقول: إنما هذا لأنه موضع الانفصال.
وأما المشهور والمستعمل فإن معنى المفصل عند الِأطباء، هو موضع التقاء عضوين التقاء طبيعياً وإنما قلنا التقاء طبيعياً ليخرج التقاء العظام وإنما سمي ذلك مفصلاً، لأن هناك ينفصل جرم كل واحد من العظمين من الآخر.
قال جالينوس: المفصل تأليف طبيعي للعظام، وفي بعض النسخ عوض التأليف تركيب. والتأليف أولى لأنه ضم شيء إلى شيء بينهما تأليف أي تناسب.
وتركيب المفصل لا بد وأن يكون كذلك؛ لأن الجزأين لا بد وأن يكون بينهما تناسب في المقدار والشكل ونحوهما.
لكن جالينوس قال بعد ذلك: ومعنى قولي تركيب وتأليف ومجاورة وملاقاة معنى واحد واعلم أن هذا الحد مشكل من وجهين: أحدهما: أن المفصل ليس بتأليف ولا تركيب بل هو متألف، فإن التأليف هو ما يفعله المؤلف وذلك يرتفع عند ارتفاع فعله.
وثانيهما: أن العظام الملتحمة بالطبع يصدق على لحامها أنه تأليف طبيعي وهو عند جالينوس ليس بمفصل لأنه قال: إن تركيب العظام على قسمين أحدهما على جهة والمفصل على جهة الالتحام.
قال: والالتحام اتحاد طبيعي للعظام. بقي ها هنا بحث، وهو لزوم أن يشترط في المفصل أن يكون من عظمين كما هو ظاهر كلام جالينوس حيث يشترط ذلك.
فإن كان الأول لم يشترط التقاؤهما، إذ أكثر المفاصل لا بد وأن يكون بين عظمها إما غضروف واحد كما في عظام القص وإما غضروفان كما في المفاصل المتحاكة كمفاصل اليدين والرجلين. فإن كل عظم منها على رأسه غضروف فيكون الالتقاء بين الغضروفين لا بين العظمين.
فإن كان الثاني فلا يكون المفصل فالالتقاء شرط.
وأما أي هذين أولى، فلقائل أن يقول إن الأول أولى لأنه الظاهر من كلام الأطباء لأنهم يقولون مفاصل عظام القص ومفاصل عظام اليدين والرجلين.
ولقائل أن يقول: بل الثاني أولى: لأنه المفهوم في العرف الظاهر العام من اصطلاح الأطباء لذلك. وأنه أقرب إلى المفهوم اللغوي.
والذي يظهر لي والله أعلم، أن هذا الثاني أولى.
وقول جالينوس: تأليف طبيعي للعظام، وقول الأطباء عظام القص، أو مفاصل عظام اليدين والرجلين، يريدون بالعظام ها هنا ما يدخل فيه الغضاريف التي بين العظام، فإن الناس من عادتهم أن يعدوا هذه من العظام.

وعلى هذا فالمفاصل منها ما يكون من عظمين كعظام الرأس ومنها ما يكون من غضروفين كالمفاصل التي بها الحركة في العظام الكبار التي في اليدين والرجلين. ومنها ما يكون بين عظم وغضروف كمفاصل القص وكتلك التي في اليدين والرجلين التي بين العظام والغضاريف في أطرافها هي وإنما ابتداء الأطباء في التشريح بالعظام لأمرين: أحدهما: أنها في مباشرة التشريح تظهر أو لاً لأجل تميزها في الحس لأجل كبرها، ومتابعة أشكال الأعضاء كلها بشكلها.
وثانيهما: أن الابتداء ينبغي أن يكون بالأعضاء البسيطة لتقدم العضو البسيط على المركب في الطبع، وأولى البسائط بالتقدم هو، العظام، فإن كل عضو ذي عظم، فإن تكون عظمه متقدم على تكون جميع أجزائه كما أن شكله تابع لشكل عظمه.
وإنما يكون ذلك إذا كان تكون العظم أو لاً.
فإن قيل: كان ينبغي أن نبتدئ أو لاً بتشريح العضو الذي يتكون أو لاً وهو القلب أو الكبد أو الدماغ أو السرة، على اختلاف الآراء.
قلنا: معنى قولهم إن هذه الأعضاء إنما تتكون أو لاً لا بمعنى خلقتها تتم قبل تتمة خلق العظام، فإن من جملة أجزاء الرأس عظام القحف. فكيف يكون تكونه قبلها؟ بل معنى ذلك أن ابتداء فعل المصورة هو في هذه الأعضاء. ولكن تخلقها يتأخر والجسم الصلب من كل حيوان منزلته بمنزلة العظام من الحيوان الذي له عظم، وتختلف الحيوانات بحسب ذلك.
فمن الحيوانات ما لا يوجد ذلك فيه البتة كالدود، وبعض السمك وهذا الحيوان يكون واهي الخلقة لا محالة، ومنها ما يوجد ذلك فيه فإما في ظاهره فقط، أو في باطنه فقط. أو يكون متفرقاً بينهما في بدنه.
والأول إما أن يكون ذلك غليظاً جداً كما في السلحفاة، رقيقاً جداً كما في المحرزات أو متوسطاً بين هذين كما في السرطان والثاني: وهو أن يكون الصلب في الباطن فقط، وذلك كما في مالاقيا والثالث: إما أن تكون تلك العظام كلها شديدة الصلابة، مصمتة وذلك كما في الأسد. أو لا تكون كذلك، وذلك كما يكون في الإنسان والفرس وعظام الإنسان تنقسم بوجوه من القسمة.
أحدها: بحسب قوامها. فإن منها ما هو شديد الصلابة كالعظم الوتدي، ومنها ما هو شديد اللين بالنسبة إلى باقي العظام كعظام اليافوخ خاصة مقدمه. ومنها ما هو متوسط بين هذين القسمين كعظام اليدين والرجلين.
وثانيها: بحسب العدد. فإن من العظام ما إنما يوجد في البدن من نوعه عظم واحد فقط، كالعظم الوتدي والعظم اللامي. ومنها ما يوجد منه عظمان كعظمي الكتف وعظمي العضدين وعظمي الفخذين ومنها ما يوجد منه أربعة فقط كعظام الساعدين وعظام الساقين. ومنها ما يوجد منه أكثر من ذلك كعظام الأنامل، وعظام الكفين والقدمين، وعظام الأضلاع والفقرات.
ثالثها: بحسب المقدار. فإن منها ما هو عظيم جداً كعظمي الفخذين، ومنها ما هو صغير جداً كالعظام السمسمانية. ومنها ما هو بين هذين إلى الصغر كعظام الأنامل، وعظام المشط والرسغ، أو إلى العظم كعظام الساقين والزندين، والعضدين.
وقد قسم الشيخ العظام في هذا الفصل بحسب أمور ثلاثة، نحن نضع كل واحد منها في بحث يخصه. والله ولي التوفيق البحث الأول تقسيم العظام بحسب منفعتها في البدن قال السيخ الرئيس رحمة الله عليه نقول: إن من العظام ما قياسه من البدن قياس الأساس وعليه مبناه يعتمد مثل فقار الصلب، فإنه أساس البدن، عليه يبنى كما تبنى السفينة على الخشبة التي تنصب فيها أو لاً... إلى قوله: وجملة العظام دعامة، وقوام البدن.
الشرح قد قسم الشيخ العظام ها هنا بحسب منفعتها إلى خمسة أقسام:

أحدها: أن من العظام ما قياسه من البدن قياس الأساس عليه يبني البدن كما تبنى السفينة على الخشبة التي تنصب فيها أو لاً وهي الخشبة التي توضع أو لاً في وسط أسفل السفينة ممتدة في طولها من الطرف إلى الطرف، ثم توصل بها أضلاع السفينة، وتوصل بتلك الأضلاع باقي خشبها، كذلك هذا القسم من العظام. وهو عظم الصلب. فإن المستلقي من الناس يكون هذا العظم فيه على هيئة تلك الخشبة في تلك السفينة. واتصال أضلاع الإنسان بهذا العظم كاتصال أضلاع السفينة بتلك الخشبة، لكنهما مختلفان في شيء واحد، وهو أن تلك الخشبة تجعل قطعة واحدة أو يحكم اتصال بعضها ببعض حتى تكون كالقطعة الواحدة وعظام الصلب ليست كذلك إذ لبعضها مفاصل سلسلة، وسبب ذلك أن الإنسان احتيج أن تكون له حركة انثناء وانعطاف إلى قدام، وخلف، وإلى جانبين.
وإنما يمكن ذلك بأن تكون بعض مفاصل هذا العظم سهلة المواتاة للحركة وإنما يكون كذلك إذا كانت سلسلة، ولا كذلك السفينة فإن وضع هذه الخشبة فيها أريد به القوة، والثبات. وإنما يتم ذلك إذا كانت قطعة واحدة أو محكمة كالقطعة الواحدة، وأيضاً فإن هذا العظم للبدن كالأساس للبناء لان الأساس يبنى أو لاً ثم يبنى عليه باقي أجزاء البناء، وكذلك هذا العظم في البدن.
ولقائل أن يقول: إنكم قد بينتم أن العظام كلها كالأساس والدعامة، فلم جعلتم ذلك ها هنا خاصاً بهذا الصنف منها؟ قلنا: الذي اختص به هذا الصنف أنه كالأساس والدعامة لجميع البدن، وأما سائر العظام، فإنما هي كذلك للأعضاء التي تكون فيها.
وثانيها: أن من العظام ما قياسه من البدن قياس المجن والوقاية كعظام اليافوخ، وسبب ذلك أن الدماغ احتيج أن يكون موضعه في أعلى البدن لما نذكره بعد. وجوهره شديد اللين، فيكون شديد القبول للتضرر بما يلاقيه، ولو بأدنى ضغط فاحتيج أن يكون مصوناً عن ملاقاة ما يصل إليه من جميع الجهات، وإنما يمكن ذلك بأن يحوط من جميع النواحي. ولا يمكن أن يكون ذلك بعضو لين، وإلا لم يكن له غنى فلا بد وأن يكون بعضو صلب يشتمل عليه من كل جهة، وذلك هو عظام الرأس. فيكون الغرض الأقصى في خلقه هذه العظام هو أن تكون كالجنة للدماغ. وهذه المنفعة ليست بالذات للبدن كله، ولا كذلك منفعة الصلب إذ هي منفعة بالذات للبدن كله كما بان عن أنها أساس للبدن بجملته وهذه العظام للدماغ كالأضلاع للقلب.
ولقائل أن يقول: ما السبب في خلقه هذه العظام متصلة لا فرج بينها بخلاف الأضلاع مع أن القلب أشرف، فكان ينبغي أن تكون جنته أشد صوناً قلنا: السبب في ذلك أمران: أحدهما أن الأضلاع موضوعة حيث ينالها الحس، ولا كذلك الرأس فإنه غائب عن حراسة الحواس، فاحتيج أن يكون الاحتياط في توقيته أكثر.
وثانيهما: أن الصدر احتيج فيه إلى حركة انبساط وانقباض بإرادة ليست طبيعية كما بيناه. وإنما يتم ذلك بخلقة العضل. ويحتاج أن تكون هذه العضلات كبيرة جداً وكثيرة لأن هذه الحركة عسرة، فلو جعلت عظام الصدر متصلة ببعضها البعض لاحتيج إلى خلقة تلك العضلات فوقها، وكان يلزم ذلك زيادة الثقل والثخن، فاحتيج أن يكون بين عظامه فرج يتخللها العضل.
واعلم أن لتخلل العضلات بين الأضلاع منفعة أخرى وهي تحلل البخارات وثالث الأقسام المذكورة: أن من العظام ما قياسه من البدن قياس السلاح الذي يدفع به المؤذي كالسناسن. وهي عظام موضوعة على ظهور الفقرات لتمنع وصول المؤذي بعقب الملاقاة إلى الفقرات. واحتيج إليها لأن ظهور الفقرات هو إلى خلف البدن فيكون حيث لا تشعر به الحواس. فاحتيج أن تكون صيانتها من هناك شديدة، فخلقت له هذه العظام، وهي بمنزلة الزوائد التي هي على حجارة جدران القلاع وأسوار المدن إذ الغرض بتلك الزوائد منع وصول صدمة ما يلاقي من تلك الحجارة المنجنيق ونحوها، وكذلك هذه العظام للفقرات.
ورابعها: أن من العظام ما هو حشو بين المقاصل لتملأ الفرج كالعظام السمسمانية. وهي عظام صغيرة جداً توجد بين السلاميات فائدتها: منع الانجراد الذي توجبه ملاقاة أحد العظمين المتحركين للآخر إذ لم يمكن أن يكون بينهما غضاريف لئلا يثقل. وأيضاً ليمنع ميل السلاميات إلى الجهات، فتكون الأصابع مستقيمة.
هذا على ما قالوه وأما أنا فيظهر لي، والله أعلم، أن هذه العظام لا وجود لها.

وخامسها: أن من العظام ما الحاجة إليه أن يكون علاقة لبعض الأعضاء كالعظم اللامي. فإن الفائدة فيه أن تتعلق به عضلات الخد واللسان لأن فعل العضل إنما يتم بالتقلص الجاذب للعضو والانبساط المرخي للوتر حتى ينبسط العضو المتحرك وإنما يكون هذا التقلص جيداً إذا كانت العضلة متشبثة بجسم يلبث عندها. وإلا كان ثقل المراد تحريكه ربما غلب تشبث العضلة فنحاها عن موضعها ولم يتحرك هو ولا بد وأن يموت هذا العضو الذي تتشبث به العضلة صلباً وإلا كان ربما يمتد عند غلبة ثقل العضو الذي يراد تحريكه.
فلا بد وأن يكون عظماً أو شبيهاً به كالغضاريف ولو جعل ها هنا غضروفياً لاحتيج أن يكون له ثخن يعتد به. وإلا كان ربما ينعطف عند قوة التقلص أو ينقطع. ولو جعل ثخيناً لم يحتمله هذا الموضع فاحتيج أن يكون عظماً ليمكن أن يكون رقيقاً.
فهذه هي الأقسام المذكورة في الكتاب.
وللعظام أقسام أخر بحسب المنفعة. فمنها ما هو بمنزلة الخشبة التي تدفع بها ما يميل من البناء ونحوه ليمنعه من إتمام الميل، وذلك كالعظم الوتدي لعظام الفك الأعلى فإنه يمنعها عن الميل إلى الداخل، وكذلك عظم العقب فإنه يمنعه ميل البدن كله عند القيام إلى خلف ومنها ما هو ممر كا الممر ينقذ من داخل إلى خارج ومن خارج إلى داخل ويكون بمنزلة الدهليز كعظام الأنف فإنها ممر لفضول الدماغ، المندفعة إلى خارج، والهواء المنجذب عند الاستنشاق إلى داخل، ومنها ما هو لتحسين الخلقة كعظام الزوج فإنها تمنع حصول الثلم التي في مواضعها ليكون سطح ما عليها مستوياً. والله أعلم بغيبه.
البحث الثاني تقسيم العظام بحسب تجاويفها ما تحتوي عليه من التجاويف قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وجملة العظام دعامة وقوام للبدن، وما كان من هذه العظام إنما يحتاج إليه للدعامة فقط أو للوقاية ولا يحتاج إليه لتحريك الأعضاء، فإنه خلق مصمتاً، وإن كان فيه المسام والفرج التي لا بد منها.... إلى قوله: والعظام كلها متجاورة متلاقية.
الشرح كل عضو ولا بد أن يكون في جرمه خلل ينفذ فيه الغذاء إلى عمقه وهذا الخلل إن لم يكن محسوساً سمي مساماً ويسمى ما كان خلله من العظام كذلك مصمتاً، لأنه مصمت في الحس، وإن كان ذلك الخلل محسوساً فإما أن يكون متفرقاً في جرم العضو كما في عظم الفك الأسفل فيسمى ما كان من العظم كذلك هشاً متخلخلاً، أو لا يكون متفرقاً في جرمه بل مجتمعاً في موضع واحد فيسمى ما كان من العظام كذلك مجوفاً. وكل عظم فإما أن يكون صغيراً جداً كالأنملة بل كالعظام السمسمانية فلا يحتاج فيه إلى تجويف محسوس لأن هذا لصغره يتمكن الغذاء من النفوذ إلى قعره بسهولة لقصر المسافة، أو لا يكون صغيراً. فإما أن يكون المقصود منه الحركة، أو آلة الدعامة والوقاية أو مجموع الأمرين.
والحركة تحوج إلى الخفة وذلك يقتضي التجويف.
والدعامة والوقاية يحوجان إلى قوة الجرم، وذلك يحوج إلى عدم التجويف وإذا اجتمع الأمران روعي كل واحد منهما وتكون أكثر العناية مصروفة إلى الأهم منها وهو الذي الحاجة إليه من ذلك العظم أشد، فلذلك خلق عظم الفك الأسفل كثير التجويف متخلخلاً لتكون خفته كبيرة إذ معظم الحاجة إليه إنما هو الحركة. وخلق العظم الوتدي مصمتاً لشدة الحاجة فيه إلى الدعامة والوقاية والوثاقة مع عدم الحاجة إلى الحركة. وخلق كل واحد من عظمي الساق والساعد ذا تجويف واحد لاجتماع الغرضين فيه. لأن عظم الساق مجوفاً يحتاج إلى قوة الجرم ليكون قوياً على حمل البدن ويحتاج إلى الخفة لأجل سهولة الحركة، ففائدة تجويفه أن يكون أخف، وفائدة توحيد التجزيف أن يبقى جرمه قوياً فتجتمع الخفة من القوة، وهذا كما في القنا والقصب.
قوله: وجعل تجويفه في الوسط واحداً ليكون جرمه غير محتاج إلى مواقف الغذاء المتفرقة. أما أن هذا التجويف يكون في الوسط فلأمرين: أحدهما: أن تكون قسمة الغذاء عادلة.

وثانيهما: أن التجويف لو مال إلى جهة لضعف جرم العظم من تلك الجهة فكان يتهيأ للانكسار منها، وذلك لأن الجوانب إذا كانت كلها متساوية في القوة لم يمكن الانكسار من جهة منه أولى منن غيرها فيكون حصوله أعسر ولو كان كل واحد من الجوانب أضعف من الجانب الذي ضعف لو حده، وكذلك فإن الصفارين ونحوهم يحزون الموضع الذي يريدون الانكسار منه حزاً يسيراً فينكسر المنحز من ذلك الموضع أسهل مما لو كان جرمه من كل جانب بتلك القوة، وما ذلك إلا لتعيين موضع يكون أولى بالانكسار.
وأما أن هذا التجويف يكون واحداً فلأنه لو كان كثيراً لضعف جرم العظم لأجل تخلخله.
وأما قوله: ليكون جرمه غير محتاج إلى مواقف الغذاء المتفرقة منه فهو مشكل. وذلك لأن اللازم لكون التجويف غير واحد. وهو أن يكون كثيراً متفرقاً في جرم العظم، ويلزم ذلك أن يكون جرمه ضعيفاً.
وأما أن مواقف الغذاء تكون كثيرة متفرقة، فإنما يلزم لو كان التجويف صغيراً حتى لا يبقى الواحد بأن يكون كافياً في التغذي، فيحتاج أن يكون كثيراً فيكون ذلك تقليلاً لفائدة خلقه ذلك التجويف عظيماً لكونه واحداً، وقد ذكر الشيخ للمخ ثلاث فوائد. إحداها أن يغذ العظم وقد تكلمنا في ذلك فيما سلف.
وثانيتها: أن يرطبه حتى لا يجف بالحركة حركة، وإنما ذكر فائدة الترطيب، ولم يذكر فائدة التغذية. لأن فائدة التغذية معلومة. بل هي فائدة مستقلة بنفسها فيكون السكوت عنها غير مستقبح، ولا كذلك فائدة الترطيب. فإنه قد يظن أنه ضار بالعظم وخصوصاً الذي يراد أن يكون جرمه قوياً لأن قوة العظم تتبع صلابته، والترطيب يمنع الصلابة.
وثالثها: أن يكون العظم كالمصمت مع كونه مجوفاً.
ولقائل أن يقول: إن هذا مما لا أثر له في زيادة القوة فلا يصلح أن تكون فائدة فيها.
قوله: والتجويف يقل إذا كانت الحاجة إلى الوقاية أكثر ويكثر إذا كانت الحاجة إلى الخفة أكثر. هذا يعتبر بحسب أمور: أحدها: اختلاف نوع عظام البدن الواحد. فإن عظم الساق يحتاج إلى الخفة أكثر من عظم الفخذ لأن حاجته إلى الحركة أكثر من حاجة عظم الفخذ.
وثانيها: اختلاف الأبدان في القوة، فإن البدن الذي عضله ضعيف الخلقة يحتاج أن تكون عظامه أخف. لتمكن القوة الضعيفة إقلالها، ولا كذلك البدن القوي العضل.
وثالثها: اختلاف الأبدان في السن، فإن الشيخ تضعف قوته عن تحريك الثقل فتحتاج أن تكون عظامه أخف. وذلك يحصل بسبب تخلخل أعضائه لقلة اغتذائها.
ورابعها: اختلاف نوع الحيوان. فإن الحيوان الشديد البطش كالأسد يحتاج أن تكون عظامه شديدة القوة، إنما يكون كذلك إذا لم يكن تجويفها كبيراً.
قوله: والعظام المشاشية خلقت كذلك، هذه العظام هي الموضوعة حذاء ثقبي الأنف. وهي شديدة التخلخل، وخلقت كذلك لأمرين: أحدهما: لتتمكن أجزاؤها من سهولة استعمال الغذاء مع شدة حاجتها إلى الخفة، لئلا تثقل مقدم الدماغ.
وثانيهما: ليتمكن ما يحتاج أن ينفذ فيها من النسيم، وفضول الدماغ المدفوعة من جهة الأنف من سهولة النفوذ، وليمكن أن ينفذ فيها من الهواء قدر صالح ليفي بترويح الدماغ، وليكون ما يتصعد معه من الأجزاء الحاملة للرائحة قدر يجوز معه إدراكها، وحاجة إدراك الرائحة إلى تخلخل هذه العظام أكثر من حاجة ترويح الدماغ. لأن هذا الترويح قد يتم إذا كانت المنافذ في هذه العظام ضيقة بأن يكون نفوذ الهواء فيها قليلاً قليلاً في زمان طويل بحيث يقل زمان الفترة بين كل تنفسين، ولا كذلك إدراك الرائحة، فإن الحاسة إنما تدرك المحسوس إذا ورد منه في وقت واحد قدر يعتد به.
وأما إذا ورد بالتدريج؛ فإن الوارد في كل وقت يكون قليلاً جداً، فكان لا تقوى الحاسة على إدراكه، فلذلك لم يتعرض الشيخ ها هنا لأمر الترويح واقتصر على ذكر الرائحة. والله أعلم بغيبه.
البحث الثالث المفاصل وتقسيم العظام بحسبها قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه والعظام كلها متجاورة متلاقية، وليس بين شيء من العظام وبين العظم الذي يليه مسافة كبيرة بل في بعضها مسافة يسيرة تملؤها لواحق غضروفية أو شبيهة بالغضروفية خلقت للمنفعة التي للغضاريف... إلى آخر الفصل.
الشرح

السبب في احتياج البدن إلى المفاصل أنه لو خلق البدن خالياً عن العظام البتة لكان شديد الضعف، واهي القوة كالدود، فلا بد وأن يكون مشتملاً على عظم، ولا بد وأن يكون البدن كله من عظم واحد، وإلا كان ما فيه ذلك العظم، لا يمكن انثناؤه وانعطافه، وما هو بغير عظم ضعيف البنية واهي الحركة فلا بد و أن يكون مشتملاً على عظام كثيرة. فإما أن تكون متباعدة غير متصلة بعضها ببعض فيكون التركيب واهياً جداً، وأضعف كثيراً من أبدان الدود، أو يكون بعضها متصلاً ببعض، فيلزم ذلك حوث المفاصل، وكل مفصل، فإما أن يكون لأحد عظميه أن يتحرك وحده حركة سهلة ظاهرة، وهو المفصل السلس كمفصل المرفق والركبة والرسغ والساعد، أو لا يكون كذلك، فإما أن تمتنع حركة أحد عظميه وحده ولو حركة خفية. وهو المفصل الموثق أو لا يكون كذلك وهو المفصل العسر الذي ليس بموثق كمفصل الرسغ مع المشط وكمفاصل عظام المشط. هكذا قال الشيخ.
وأما جالينوس، فقد قسم المفاصل إلى قسمين فقط: أحدهما: السلس وهو الذي لأحد عظميه أن يتحرك وحده حركة ظاهرة سهلة كما قال الشيخ.
وثانيهما: الموثق. وهو الذي تكون حركة أحد عظميه يسيرة غير ظاهرة وهو الذي سماه الشيخ: العسر الذي ليس بموثق فيكون المفصل الموثق باصطلاح الشيخ خارجاً عن القسمين.
ولو كان قال: إن الموثق ما ليس لأحد عظميه أن يتحرك وحده حركة ظاهرة لدخل الموثق فيه باصطلاح الشيخ. وكان هذا أولى.
وقد قسم الشيخ المفصل الموثق إلى ثلاثة أقسام: وذلك لأن كل مفصل موثق: فإما أن لا تكون فيه مداخلة من عظم في عظم وهو الملزق. أو تكون فيه مداخلة: فإما من كل واحد من العظمين في الآخر. وهو : الشأن أو الدرز.
أو من أحدهما فقط. وهو : المركوز.
والملزق: إما أن يكون في العرض. وهو كمفصل عظمي الفك الأسفل عند الذقن.
أو في الطول. وهو عنده كما في عظمي الساعد. وعندنا لا يصح. فإن عظمي الساعد بينهما خلل ظاهر.
وأما المفصلان الآخران، فلا يمكن أن يكون تأليفهما تأليف إلزاق، ولا تأليف شأن، وإلا لم يمكن حركة أحد العظمين وحده. فيكون المفصل موثقاً، فلا بد إذن وأن يكون تأليفهما تأليف الركز، ولكن لا يكون ذلك الركز بحيث يمنع حركة أحد العظمين دون الآخر، فلذلك لا بد وأن يكون اشتمال الحفرة في هذين المفصلين على الزائدة غير شديد. والزائدة في هذين المفصلين: إما أن تكون واحدة أو أكثر. فإذا كانت كثيرة، فلا بد وأن تكون الحفرة كبيرة أيضاً بعدد الزيادات.
ويسمى هذا المفصل: المداخل. سواءً كانت الزيادات كلها في عظم واحد والحفر كلها في آخر كمفاصل الأضلاع. أو كان كل في واحد من العظمين زائدة وحفرة كما في مفصل المرفق.
وإذا كانت الزائدة واحدة فالحفرة أيضاً لا بد أن تكون واحدة. ولا بد أيضاً وأن يكون عمقها على قدر ما تقتضيه الزائدة، وهذه الزائدة إما أن تكون للطرف الذي تنتهي إليه محدداً فيسمى: منقاراً. أو لا يكون محدداً بل غليظاً مستديراً فيسمى ذلك الطرف رأساً. والزائدة التي تنتهي إليه: عنقاً. وهذا العنق إما أن يكون طويلاً أو قصيراً. فإن كان طويلاً فالحفرة التي يدخل فيها لا بد وأن تكون عميقة، وتسمى تلك الحفرة: حقاً كحق الفخذ. ويسمى ذلك المفصل: المفصل المغرق. لأن الزائدة تكون مغرقة في حفرته. وإن كان العنق قصيراً، فالحفرة لا بد وأن تكون أيضاً غير عميقة وتسمى هذه الحفرة. عيناً كعين الكتف. ويسمى هذا المفصل: المفصل المطرف: لأن الزائدة لما لم تكن كثيرة المداخلة صارت كأنها في طرف.
قوله: والعظام كلها متجاورة متلاقية. لو كانت عظام البدن متباعدة لكان تركيبه واهياً جداً كما بيناه أو لاً.
وقال جالينوس: إن تركيب عظام البدن كله يقال له: جثة. ويريد بقوله: تركيب العظام، العظام المركبة إذ نفس تركيبها لا يقال له جثة، إذ التركيب هو فعل المركب كما قلناه أو لاً.
ونقول: العظام: منها ما هي صغار فلا تتصل بها لاحقة. ومنها ما هي كبار. وهذه منها ما ليس له لاحقة كعظمى الفك الأسفل، فإن أسفلهما يلتقي بلجام بينهما من غير لاحقة، وأعلاهما أيضاً ليس فيه لاحقة. وإن كان لكل واحد منهما هناك زائدتان.
والفرق بين الزائدة واللاحقة، أن الزائدة تكون من نفس العظم الذي هي له زائدة. واللاحقة عظم آخر يتصل به بلجام.

ومن العظام الكبار ما له لاحقة، وذلك إما في طرفيه كما في عظم الساق، وعظم الفخذ، وعظم الزند الأعلى. وإما في طرف واحد، فإما في الطرف الأعلى، كما في عظم العضد، أو في الطرف الأسفل كما في الزند الأسفل.
وسنتكلم في هيئة هذه اللواحق ومنافعها في المواضع اللائقة بذلك.
قوله: بل في بعضها مسافة يسيرة تملؤها لواحق غضروفية أو شبيهة بالريان غضروفية، ليس يريد بهذه اللواحق، اللواحق التي ذكرناها بل ما يكون عند أطراف العظام ليمنع حك أحد العظمين للآخر، وهذه تارة تكون غضاريف كما في عظام اليدين والرجلين الكبار. وتارة تكون غير غضاريف كالعظام السمسمانية التي من االسلاميات، فإنها خلقت هناك للمنفعة التي للغضاريف وهي تمنع الاحتكاك، وقد علمت أنا متوقفون في ثبوت هذه العظام. والله ولي التوفيق.

الفصل الثاني
تشريح عظام القحف
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه الشرح عظام القحف تطلق تارةً، وبراد بها عظام الرأس كلها واختلف لأطباء فيها. فمنهم من يعد من جملتها العظم الوتدي، وهو الرأي المشهور. ومنهم من يخرج عنها هذا العظم ويعده من عظام اللحى الأعلى.
وأيضاً: منهم من يعد من جملة عظام القحف عظمي اليافوخ. ومنهم من يخرجها عنها والنزاع في ذلك مما ليس له فائدة يعتد بها.
وتارةً يطلق عظام القحف. وبراد بها عظام اليافوخ فقط، وهو الذي أراده الشيخ ها هنا. لأنه في هذا الفصل يقتصر على تشريح عظمي اليافوخ. وفي الفصل الذي بعد هذا، وهو الذي جعله في تشريح ما دون القحف. إنما ذكر فيه تشريح ما سوى عظمي اليافوخ من عظام الرأس. لكنه في هذا الفصل عند ذكره منافع تكثير العظام إنما أراد بعظام القحف جملة عظام الرأس، لأن المنافع التي ذكرها لا تصلح أن تكون منافع بتكثير عظمي اليافوخ فقط، كما ستعرفه في شرحنا لكلامه هناك. ولا شك أن ذلك مستقبح في التصنيف. والكلام في هذا الفصل يشتمل على أربعة مباحث: البحث الأول بيان منافع عظام القحف أعني عظام الرأس كلها قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه أما منفعة جملة عظام القحف فهي أنها جنة للدماغ، ساترة له، وواقية من الآفات. وأما المنفعة في خلقها قبائل كثيرة، وعظاماً فوق واحدة.... إلى قوله: والشكل الطبيعي لهذا العظم.
الشرح قد ذكر الشيخ ها هنا لتكثير هذه العظام ستة منافع: المنفعة الأولى: أن الآفة العارضة لا تعم. وبيان هذا أن العظم الواحد لا مانع فيه من سريان ما يعرض له من الآفات كالشق والعفونة، ونحو ذلك من الفساد. ولا كذلك العظام الكثيرة. لأن الصدع مثلاً: إذا انتهى في عظم إلى موضع الوصل بينه وبين غيره، لم يتمكن من السريان في العظم الذي يليه، ويكون المفصل الواقع بينهما مانعاً من زلك السريان. ولا شك أن ذلك منفعة.
ولقائل أن يقول: كما أن هذه المفاصل نافعة بهذا الوجه كذلك هي أيضاً ضارة بوجه آخر. وذلك لأن الرأس إذا كان من عظام كثيرة وعرض لو احد منها صدع انتهى إلى طرفيه، فإنه حينئذ ينفتح لبطلان الاتصال، ولا كذلك إذا كان عظماً واحداً، فإنه حينئذٍ إذا عرض صدع بذلك القدر أو أكثر منه قليلاً، بقي العظم متصلاً بما سوى موضع الصدع فلا تنفتح.
وجوابه: أن هذا التضرر منتف في عظام الرأس، لأن مفاصلها مدروزة فإذا انصدع منها عظم بقي كل جزء منه محفوظاً في موضعه لتشبثه بالعظام المجاورة له.
والمنفعة الثانية: أن بعض عظام الرأس يجب أن يكون شديد التخلخل كعظمي اليافوخ وبعضها أن يكون شديد الصلابة كالعظم الوتدي. وبعضها يجب أن يكون جرمه متوسطاً بين هذين كعظام الجدران. والجدار المقدم يجب أن يكون ألين، والمؤخر أصلب، واللذين يمنة ويسرة بينهما في الصلابة. وسنذكر منافع ذلك كله، وإذا كان كذلك لم يحسن، ولا يجوز أن يكون الجميع عظماً واحداً، وذلك لأمرين: أحدهما: أنه لو كان عظماً واحداً لكان الجزء اللين منه مهيئاً لقبول الآفات وذلك لأن اللين بنفسه سهل القبول، فإذا عرضت له آفة، وكان العظم واحداً تهيأ الباقي للانفعال.

وثانيهما: أنه لو كان اتحاد العظم حينئذٍ محموداً لم يخلق لعظام الزندين والساقين ونحوهما لواحق. بل كان يخلق كل واحد من تلك العظام قطعة واحدة لأن هذه العظام تحتاج أن تكون قوية فلو جاز أن يكون عظماً واحداً لما كثرت أجزاؤها، لأن ذلك مما يضعف له جرمها، وحيث لم يخلق قطعة واحدة علم أن ذلك مع اختلاف الأجزاء في الصلابة واللين مما لا يجوز.
وإذا كان كذلك وجب تكثير عظام الرأس بعدد ما يجب أن يكون فيها من الاختلاف المذكور.
ولقائل أن يقول: إن كلا هذين الأمرين مما لا يصح.
أما الأول: فلا بد وأن يكون من هذا العظم متخلخلاً، فلا بد وأن يكون إما بحذاء الحس كعظم الجبهة، أو مستوراً باللباس عادة كعظمي اليافوخ وذلك مما يقلل قبوله للآفات، فلا يكون ما يعرض له منها أكثر من العارضة للذي يجب أن يكون من هذا العظم صلباً.
وليس لكم أن تقولوا: إن الصلب تعرض له الآفة حينئذٍ تارة بنفسه، وتارةً لسريان ما يعرض للتخلخل، وذلك موجب لتكثير آفاته لأنا نقول: إن هذا إذا سلم كان هو بعينه المنفعة الأولى.
وأما الثاني: فمن وجوه: أحدها: أن الفاضل أرسطوطاليس حكى أن رجلاً لم يكن لرأسه شؤون بل كان من عظم واحد. فلو كان في ذلك مفسدة لما وجد.
وثانيها: أن كل واحد من عظمي اليافوخ والجدارين اللذين يمنة ويسرة. فإن أجزاءه يجب أن تكون مختلفة في الصلابة واللين.
وأما عظما اليافوخ فإن مقدمهما شديد اللين، فلذلك ينغمز في سن الطفولة بأدنى مس، وأما الجدران فلأن كل واحد منهما يجب أن يكون ما عند ثقب الأذن الذي فيه شديد الصلابة بالنسبة إلى باقي أجزائه. ولو كان وجوب هذا الاختلاف يوجب تكثير العظام لكان كل واحد من هذه العظام متكثراً. والواقع بخلاف ذلك.
وثالثها: أن تكثر العظام وإن نفع بالوجه الذي قلتم فهو يضر من جهة أنه يضعف جرم الرأس، فلم قلتم إن هذا النفع راجح على هذه المضرة حتى تراعى في الخلقة دون هذا الضرر؟.
ورابعها: أن عظام الساقين والفخذين ونحوهما إنما كثرت أجزاؤها ليكون هذا العظم الذي هو المخ مسلك ينفذ فيه، وهو موضع الالتحام فلا يدل تكثرها على أن اختلاف الأجزاء يوجب تكثير العظام.
الجواب: أما ما قيل على الأمر الأول، فإنا وإن سلمنا أن الأجزاء التي يجب تخلخلها من عظم الرأس، يقل قبولها للآفات الخارجية بما قلتم لكنها لا محالة شديدة القبول لمثل العفونة ونحوها.
فلو كان الجميع عظماً واحداً لكان الصلب منه مستعداً لذلك أيضاً بسبب السريان، وأما ما قيل على الأمر الآخر.
فالجواب: على الأول، أنا لا نمانع إمكان اتحاد هذا العظم لكنا نمنع أن تكون البنية حينئذٍ فاصلة. ولعل هذا الذي كان رأسه من عظم واحد قد كان فاسد الذهن رديء الأخلاق، لأجل احتباس الأبخرة الكثيرة في دماغه.
وعن الثاني: أن الاختلاف الواجب في هذه العظام ليس بكثير بحيث يوجب لتكثير القطع، ولا كذلك جملة عظام الرأس.
وعن الثالث: أن المؤلف من عظام كثيرة إنما يلزم أن يكون ضعفه كبيراً، إذا كانت مفاصله غير موثقة كإيثاق شؤون الناس، وأما إذا كانت بهذا الإيثاق، فإن ما يحدثه ذلك من الضعف لا يكون له قدر يعتد به.
وعن الرابع: أن تكثير أجزاء عظام الساق والساعد ونحوها. لو كان لنفوذ الغذاء لكان العظم الأكبر المحتاج إلى غذاء أكثر أجزاؤه أكثر. ولو كان كذلك لما كان الزند الأعلى ذا لاحقتين والزند الأسفل أعظم منه بكثير وهو ذو لاحقة واحدة.
والمنفعة الثالثة من منافع تكثير عظام الرأس أن يكون لما غلظ من الأبخرة التي لا يمكن نفوذها في مسام العظام طريق إلى التحلل من الخلل الواقع بين القطاع وذلك مما لا يتأتى لو كان عظماً واحداً، وذلك لأن الدماغ تكثر فيه الأبخرة، وأبخرته غليظة، وأما كثرتها، فلأنه موضوع في أعلى البدن فيكون تصعد البخار إليه بالطبع.
وأما غلظها فلأجل برودة الدماغ ورطوبته.
وهذه الأبخرة لو بقيت في داخل الرأس لأفسدت الذهن، وآلمت وصدعت، وإخراجها إنما يكون من منافذ متسعة فلو كان الرأس من عظم واحد لاحتاج أن يكون فيه ثقوب كثيرة جداً، وذلك موهن له، معد له للانكسار.
والمنفعة الرابعة: أن يكون لما يخرج من الدماغ من العصب الذي يحتاج إلى تفريقه في أعضاء الرأس طريق إلى النفوذ، وذلك في فرج المفاصل، ولو كان العظم واحداً لكانت الثقوب تضعفه.

والمنفعة الخامسة: أن يكون لما يجب أن يدخل إلى داخل الرأس من الأوردة والشرايين طريق، ومسلك في خلل المفاصل.
والمنفعة السادسة: أن يكون لما يبرز من أجزاء الأم الغليظة إلى خارج القحف طريق ليثبت في ظاهره، فتستقل تلك الأم عن الدماغ فلا يثقله طريق في مسلك.
والمنفعة الأولى والثانية ظاهر أنهما لأجل العظام نفسها.
وأما الثالثة: فهي للدماغ، وتتم بالمفاصل.
وأما الرابعة: فلأجل الحس الذي في ظاهر الرأس، وتتم أيضاً بالمفاصل.
وأما الخامسة ثم السادسة: فمشتركة بين الدماغ وبين ما يدخل ويخرج ويتم أيضاً بالمفاصل.
قوله: ومنفعتان مشتركتان بين الدماغ، وبين شيئين آخرين. في كثير من النسخ بين القطاع.
والنسخة الأولى هي الصحيحة. لأن القطاع هي العظام. وما يدخل من الأوردة والشاربين، وما يخرج من الأعصاب لا نفع له في العظام البتة. والله ولي التوفيق.
البحث الثاني الشكل الطبيعي للرأس قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما الشكل الطبيعي لهذا العظم هو الاستدارة لأمرين، ومنفعتين.... إلى قوله: ولمثل هذا الشكل دروز ثلاثة حقيقية.
الشرح إن للرأس في الطول شكلاً طبيعياً، وأشكالاً غير طبيعية أما شكله الطبيعي فهو أن يكون مستديراً إلى طول كالكرة المغمورة من الجانبين فيكون له نتوءان. أحدهما: إلى قدام، وه و أعظم. والآخر إلى خلف، هو أصغر.
أما استدارته: فقد ذكر الشيخ لها منفعتين: إحداهما: لتكون مساحته أعظم فيكون ما يسعه من الدماغ وغيره أكثر، وذلك لأن كل جسمين تساوى محيطهما، فإن الكرى منهما أعظم مساحة من غيره. ولا يليق بهذا الكتاب إقامة البرهان على أمثال هذا.
والذي يقربه إلى الذهن. أن الجسم المخروط الشكل الكرى أقل مساحة من المكعب والمكعب أقل مساحة من الذي تحيط به قواعد مخمسة، وذلك أقل مساحة من الذي قواعده مسدسة. وكذلك كل ما قرب شكله من الشكل الكرى كانت مساحته أعظم لا محالة. فالكرى لا محالة أكبر من جميع الأجسام أعني بذلك إذا تساوت الإحاطة. ويمكنك امتحان هذا بالسطوح فإن المثلث أصغر من المربع، وهو أصغر من المخمس وكذلك كلما قرب من الدائرة كان أعظم مما هو أبعد عنها. فتكون الدائرة أو سع المسطحات. وهذه الفائدة تعود إلى ما يحويه العظم، لا إلى العظم نفسه.
وثانيتهما: لتكون أبعد عن قبول الآفات الخارجية مما له زاوية. إذ الزاوية ليس لها من ورائها ما يقويها على مقاومة المصادم. ولذلك ما كان من الأجسام ذا زوايا فإن ما يعرض له من التكسر يكون أو لاً في زواياه. والجسم الكرى جوانبه كلها متساوية، فليس عروض الفساد له من جهة أولى من عروضه من جهة أخرى وهذه المنفعة تعود إلى نفس العظم. وذكر لطول هذا العظم منفعة واحدة، وهي أن الأعصاب الدماغية موضوعة في الطول. أعني مرتبة كل زوج بعد آخر إلى خلف.
وهذه الأعصاب سبعة أزواج. فإذا عددنا ما يقع منها في الطول وجدنا سبعة. وإذا عددنا ما يقع في العرض وجدنا ذلك عصبتين فقط. فتكون الحاجة إلى الطول لأجل الأعصاب أكثر.
أقول: وها هنا سبب آخر لأجله صار شكل الرأس هكذا. وذلك لأن معظم الغرض بعظام الرأس إنما هي وقاية للدماغ. وذلك بأن يكون له كالجنة. وإنما يتم ذلك بأن يكون محيطاً به من كل جهة وشكل الدماغ مستدير إلى طول، فيجب أن يكون شكل ما يحيط به كذلك وإلا كان فيه زيادة غير محتاج إليها في الوقاية، أو نقصان تؤدي إلى انضغاط الدماغ وإنما كان شكل الدماغ مستديراً إلى طول. أما استدارته فكما قلنا في العظام وأما طوله، فلأنه محتاج أن يكون فيه ثلاثة بطون. وأن تكون هذه البطون موضوعة في طوله، وذلك يحوج إلى زيادة في طوله. وإذا كان هذا العظم مستديراً إلى طول فصوله ما بين مقدمه ومؤخره وجب أن يكون له نتوءان أحدهما إلى قدام والآخر إلى خلف، وخلق نتوءه المقدم أعظم لأن ما يحيط به من الدماغ أكبر وإنما كان كذلك لأن مقدم الدماغ للحس ومؤخره يحفظ المعاني، والمحسوس إنما ينتفش في شيء له مساحة. ولا كذلك المعاني.
وأما الأشكال الخارجة عن الأمر الطبيعي فسنذكرها بعد.

قوله: وله نتوءان إلى قدام، وإلى خلف ليقيا الأعصاب المنحدرة من الجانبين، وفائدة هذين النتوءين أنهما ساتران ولا شك أن الساتر إذا كان محدباً كانت وقايته أتم لأن ملاقاة ما يصادمه يكون بجزء أقل، فيكون انفعاله عنه أضعف. والله أعلم.
البحث الثالث عدد دروز الرأس الطبيعي الذي شكله طبيعي وهيأتها قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه ولمثل هذا الشكل دروز. ثلاثة حقيقية، ودرزان كاذبان... إلى قوله: وأما أشكال الرأس غير الطبيعية فهي ثلاثة.
الشرح قد بينا أن الشيخ في هذا الفصل إنما يتكلم في تشريح عظمي اليافوخ. فلذلك إنما نذكرها ها هنا.
دروز الرأس خمسة دروز: ثلاثة منها حقيقية، أعني بذلك أنها دروز حقيقية وذلك أن الدروز إنما تحدث من مداخلة كل واحد من العظمين في الآخر في مواضع كثيرة حتى تكون كمنشارين أدخلت زوائد كل واحد منهما في حفر الآخر وكأنها أصابع قصار أدخلت كل إصبع بين إصبعين مما يقابلها. وهذه الدروز كذلك. وسميت دروزاً تشبيهاً لها بدرز الخياطة. لكنها تخالف تركيب المنشارين والأصابع، بأن المنشارين زوائدهما تأخذ من عرض كبير إلى دقة، والأصابع عرضها كلها متساوية، وزوائد هذه الدروز ليست كذلك، بل أطرافها أكثر عرضاً من قواعدها. وذلك ليكون التركيب أقوى وأحكم، ولتكون مسافة الخلل أطول فتكون منافس البخار الذي يحتاج أن يتحلل منه أكثر.
واثنان من هذه الدروز الخمسة ليسا في الحقيقة بدروز بل هما لزاق ولهذا يسميها بعضهم لزاقاً.
ولا يطلق عليها اسم الدروز. والذين يسمونها دروزاً، فيسمونها دروزاً كاذبة، وغير حقيقية، وقشرية وهيأتهما أن كل واحد من العظمين يبتدئ عند قرب طرفه في الترقق، ويتم ترققه عند انتهاء طرفه ثم يركب انتهاء ترقق هذا على ابتداء ترقق ذاك حتى تكون ثخانة العظمين عظم واحد، وفائدة خلقتهما كذلك أن يسهل تنحي أحد العظمين عن الآخر من غير انكشاف يعرض للدماغ، مع أن كل واحد من العظمين شديد الثبات على الآخر، وفائدة ذلك أن يجد البخار والرياح الكثيرة التي قد تجتمع في داخل القحف طريقاً متسعاً للانفصال، ولا يلزمها فساد الدماغ، وشدة الألم.
وأطن أن هذين الدرزين من خواص الإنسان، وذلك لأن رأسه في سمت صعود البخار والدخان من البدن كله، ويحتاج أن يكون رأسه أكثر نقاء من جميع الحيوان ليكون فكره جيداً فيحتاج أن يكون منافس تحلل ذلك منه أكثر وأوسع.
وأما أشكال هذه الدروز الخمسة: فالأول من الحقيقية يحيط أعلاه بأعلى الجهة مشترك بين عظمها وعظمي اليافوخ. وهو قوسي هكذا ويسمى الإكليلي لأنه عند منتهى الإكليل الذي يوضع على الرأس. وسنذكر في الفصل الآخر غاية امتداد طرفيه، ومنه تتحلل البخارات التي في البطن المقدم. ولذلك وضع حيث يسهل تحلل الأبخرة لأنه يمر على محيط ذلك البطن. وإنما كان شكله كذلك لأن هذا النتوء كبير، فيكون مع باقي الرأس كالكرة، وأكثر تحدباً وانفراجاً. وإذا قطعت الكرة بسطح مستو كان الانفصال على هيئة دائرة فيكون هذا الدرز على هيئة محيط قطعة دائرة والدرز الثاني يمر مستقيماً تحت العرق، ومنه تتحلل أكثر أبخرة الرأس، خاصة ما يكون في وسطه. وخلق مستقيماً ليعم جميع الجزء الأعلى من الرأس فيكون تحلل تلك الأبخرة أسهل وأكثر مع كون التركيب أحكم وأقوى. أما أن التحلل يكون أكثر فلأن هذا الدرز لو انحرف على الجزء الأعلى من الرأس إلى جانبه لبقي ذلك القدر من الجزء الأعلى مانعاً من التحلل.

وأما أن التركيب أقوى فلأن الخط المستقيم أقصر الخطوط فيكون الانفصال أقل، ولا كذلك لو كان منحرفاً لأنه حينئذٍ يطول، وكذلك لو خلق مستقيماً ولو لم يكن تحت الفرق لكان ما يتحلل منه من الأبخرة أقل لأنه حينئذٍ لا يكون في أعلى الرأس حيث ينتهي إليه البخار. وإذا كان هذا الدرز يقطع الرأس من أعلاه فلا بد وأن يمر طرفه المقدم بغاية ارتفاع الدرز الإكليلي ضرورة، أن كل سطح مستو أو خط مستقيم قطع كرة بنصفين فلا بد وأن يقطع كل دائرة يقاطعها على زوايا قائمة بنصفين نصفين، ويكون محيط الدائرة الحادثة بالقطع مقاطعاً لمحيطات تلك الدوائر على أنصافها. وأما الدرز الثالث من الحقيقية فأعلاه مشترك بين عظمي اليافوخ وبين الجدار الرابع. ولما كان النتوء المؤخر صغيراً لم يكن على هيئة تحدب الكرة بل أقل انفراجاً؛ وأقل انفراجه في أعلاه، لأن أسفله يحتاج إلى سعة لأجل نفوذ النخاع منه. فلذلك يكون شكله كشكل قطعة من مخروط قطع بسطح مستو من أعلاه إلى قاعدته. فلذلك يكون هذا القطع على هيئة مثلث فيكون هذا الدرز على هيئة ضلعي مثلث متساوي الضلعين، ضرورة أن أعلى أسفله الرأس لا ميل له إلى أحد الجانبين. وأن هذا القطع يبتدئ من أعلى الرأس إلى أسفله فلا بد وأن يكون التقاء هذين الضلعين على نقطة هي الطرف المؤخر من الدرز المستقيم، ولكون ضلعي هذا الدرز مستقيمين فائدة وأمان: أما الفائدة: فليكون الخلل اقل فيكون التركيب أقوى. وأما الأمان: فلأن البطن المؤخر يقل احتباس الأبخرة فيه لأنه آخذ إلى الأسفل. ومن شأن البخار التصعد فيرتفع إلى جهة مقدم الرأس لأنه أرفع. ويسمى هذا الدرز اللامي لأنه يشبه اللام في كتابه اليونان. وأما الدرزان الكاذبان فهما موضوعان في جانبي الرأس يمنة ويسرة كل واحد منهما مشترك بين عظمي القحف الذي في جهته، وبين الجدار الذي في ذلك الجانب. وإنما خلقا هناك لأن فائدتهما كما قلنا أن ينفتحا عند كثرة الرياح والأبخرة لينقى الدماغ منهما مع بقاء الاستتار. والموجب لهذا الانفتاح في أكثر الأمر إنما هوا لريح الممددة إلى الجوانب، وأكثر تمديدها إنما هو من جهتي اليمين والشمال، لأن الرأس ما بين القدام والخلف متسع فلا يضيق على الريح كما يضيق ما بين الجانبين. وتعين هذه الريح على الفتح حركة الأبخرة إلى فوق مشيلة لعظمي القحف فيسهل الانفتاح، ولا كذلك لو جعلا في غير هذين الموضعين. قوله: مستقيم يقال له وحده سهمي، فإذا اعتبر من جهة اتصاله النقصان إما أن يكون في المقدار، وكذلك كما إذا كان أحد النتوءين أو كلاهما أصغر من المقدار المعتدل أو في العدد وكذلك كما إذا نقص للرأس أحد النتوءين أو كلاهما. وأما الخروج عن الطبيعي بالزيادة والنقصان معاً، فكما إذا نقص أحد النتوءين، وعظم الآخر. أو نقص النتوءان كلاهما، وازداد النتوء في جانب الرأس. وأما الخروج عن الأمر الطبيعي برداءة وضع الأجزاء فكما إذا كان أحد النتوءين أو كلاهما مائلاً إلى جهة اليمين أو اليسار. أو أحدهما إلى اليمين والآخر إلى اليسار وليس في هذه الأشكال ما يقع كثيراً سوى أن يكون بنقصان أحد النتوءين أو كليهما. وهي أشكال الرأس المسفط. فقوله: ولا يمكن أن يكون للرأس شكل رابع غير طبيعي، يريد بذلك أن هذا لا يمكن من جهة النقصان، أي لا يمكن أن تكون رداءة شكل الرأس الحادثة بسبب النقصان أكثر من هذه الثلاثة، ولذلك علل بأن ذلك يلزمه نقصان في بطون الدماغ أو جرمه، ودروز الرأس منها ما لا يتغير بتغير شكله. وهي ثلاثة: المستقيم، والقشريان. ومنهما ما يتغير بحسب ذلك وهي درزان: الإكليلي واللامي. وسبب ذلك أن الرأس لو كان كرة حقيقية لم يكن جانب منه أولى من غيره بزيادة أو نقصان في الدروز بل كان إما أن لا يكون في اليافوخ درز البتة، أو إن كان فيه درز فليكن من جهة الطول والعرض على السواء وذلك بأن يكون في العرض درز كما في الطول درز، ويكون درز العرض في وسط العرض. كما أن درز الطول كذلك في وسط الطول لكن عدم الدروز بقطعة مخروط غير مواز لسهم ذلك المخروط المتوهم بل مقاطعاً لسهمه إلى قدام من أسفل، فلذلك يمر طرفا الجدار الرابع إلى قدام حتى يلاقيا عظم الفك الأعلى عند غاية انقطاع العظمين الحجريين، وإذا كان كذلك كان كل واحد من هذين القشريين أقصر كثيراً من الدرز السهمي، ونفوذ هذين القشريين

هو فوق الأذنين.هو فوق الأذنين.
قوله: وليسا بغائصين في العظم تمام الغوص، وربما توهم من هذا أن لهما غوصاً ما في العظم، وليس كذلك وإنما لم يكن لهما غوص ما لئلا يمنع انفتاحهما. وذلك مبطل لفائدتهما التي ذكرناها. وليس يوجد في البدن مفصل آخر مثلهما. والله أعلم.
البحث الرابع أشكال الرأس الغير طبيعية التي ليست بطبيعية وما تستحقه من الدروز قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما أشكال الرأس غير الطبيعية فهي ثلاثة... إلى آخر الفصل. الشرح: الخروج عن الأمر الطبيعي في شكل الرأس وغيره قد يكون بالزيادة، وقد يكون بالنقصان، وقد يكون بهما معاً، وقد يكون برداءة وضع الأجزاء. أما الخروج عن الأمر الطبيعي بالزيادة فتلك الزيادة إما أن يكون أصلها طبيعياً، وذلك كما إذا كان أحد النتوءين أو كلاهما أزيد من المقدار المعتدل أو لا يكون أصلها طبيعياً، وذلك كما إذا ازداد الرأس في جانبه نتوء.
وأما الخروج عن الطبيعي بالنقصان فذلك بالإكليلي كان أشبه بالسهم، لأن كونه مستقيماً وسط قوس من خواص السهم، ولا كذلك إذا اعتبر وحده فإنه، وإن أشبه السهم في استقامته إلا أن ذلك الشبه ليس خاصاً بالسهم وإنما الخاص به إذا اعتبر متصلاً بالإكليلي.
قوله: والدرز الثالث هو المشترك بين الرأس وقاعدته. المراد من هذا الدرز إنما هو أسافله وأواخره كما نبينه بعد. ومعنى كلام الشيخ هو مشترك بين الرأس وبين قاعدته من خلف أي إن هذا الاشتراك يبتدئ من خلف وهو في الحقيقة من قدام.
وأما أعلى هذا الدرز فمشترك بين عظمي القحف، والجدار الرابع، وهو المثلث ووسطه مشترك بين ذلك الجدار، وبين الجدارين اللذين يمنة ويسرة ويسميان الحجرين. قوله: وأما الدرزان الكاذبان فهما آخذان في طول الرأس على موازاة السهمي الخطان المتوازيان هما اللذان في سطح واحد، وإذا أخرجا في كلتا الجهتين بغير نهاية لم يلتقيا. وكل واحد من هذين القشريين فهو مواز للسهمي فيكونان متوازيين، ويفصلان من قدام قوسين متساويين من الإكليلي عن جنبي طرف السهمي من قدام، وأما من خلف فيفصلان خطين مستقيمين عن جنبي طرف السهمي من خلف هما الجزء الأعلى من ضلعي اللامي، وسطح هذين الخطين غير مواز لسطح الدرز الإكليلي بل هما يتقاربان في تشكلهما وكذلك الأضلاع المتقابلة من أضلاع كل واحد من عظمي اليافوخ غير متساوية، وذلك لأن السطح الذي توهمناه قاطعاً للجدار الرابع حين شبهناه في اليافوخ مضر بالرأس لأجل ما يلزمه من احتباس الأبخرة كما قلناه. فلا يمكن أن يكون استواؤهما بعدم الدروز. ولا يمكن أيضاً أن يكون في كل واحد من الطول والعرض أكثر من درز واحد وإلا كان ذلك سبباً لضعف التركيب فينبغي أن يكون في كل جههة درز واحد هذا إذا كان الرأس كرة حقيقية. وأما إذا كان طوله أزيد من عرضه فلا شك أن القطر الزائد يستحق زيادة في الدروز فخلق لذلك للطول درزان وللعرض درز واحد كما لو لم يزد الطول لأن العرض لم يحصل فيه ما يغير ما يستحقه من الدروز فلم يمكن أن يخلق الدرزان اللذان للطول في موضع واحد فلا بد وأن يتباعدا تباعداً لا يلزمه ضعف التركيب، وذلك بأن كون أحدهما في المقدم، والآخر في المؤخر، فإن هذين الدرزين وهما الإكليلي واللامي إنما خلقا لأجل زيادة الطول فإذا انتفت هذه الزيادة، وجب أن يفقدا أو أحدهما، ولا كذلك الدروز الأخر. أما المستقيم فلأنه ضروري في تحلل الأبخرة والرياح المتصعدة. وأما القشريان فليمكن انتفاخهما عند الإفراط في كثرة الرياح والأبخرة فكأن الحاجة إلى هذه الدروز ليست لزيادة بطن أو نقصانه بخلاف الإكليلي واللامي. وإذا فقد الدرز الإكليلي كان اليافوخ منتهياً إلى عظم الفك الأعلى وإذا فقد الدرز اللامي، كان اليافوخ منتهياً إلى حيث ينتهي الآن بالجدار الرابع. وإذا فقدا معاً كان كل واحد من العظمين اللذين يكون أحدهما حينئذٍ إلى قدام، والآخر إلى خلف كل واحد منهما منتهياً إلى حيث ينتهي الآن الجدار الذي هو في تلك الجهة، وتكون عظام اليافوخ عندئذٍ أربعة:

واعلم أن المداخلات التي في الشؤون تختلف في الناس، فمن الناس من تكون فيه قليلة جداً حتى تكون شؤونه شبيهة باللزاق. ومن الناس من تكون فيه كثيرة جداً حتى يكون الانفصال ماراً على مواضع كثيرة. وينبغي أن تكون كثرتها سبباً لصفاء الذهن والحواس، ونقاء الأرواح التي في الدماغ لأجل كثرة احلال أبخرته وأدخنته لكثرة سيل ذلك. وكيف كانت هذه المداخلات. فإنها تكون في باطن العظم أكثر منها في ظاهره، وسبب ذلك أن الأبخرة إذا تمكنت أو لاً من النفوذ في العظام أمكنها بعد ذلك الانحلال من مسامها ولا كذلك إذا احتبست أو لاً لقلة الخلل. ولو كانت المداخلات من خارج أكثر لكانت الزيادة تكون معطلة. لأن القدر الذي ينفذ من الأبخرة في المداخلات الداخلة يتمكن من النفوذ في مثلها بل في أقل منها من الخارجة وكان يكون مع ذلك التركيب واهياً. وشؤون مفاصل النساء أميل إلى الاستدارة مما للرجال. وذلك ليكون تحلل أبخرة رؤوسهن أكثر لأن هذه الأبخرة والأدخنة في رؤوسهن أزيد. ولذلك شعور رؤوسهن أطول. والله أعلم.

الفصل الثالث
تشريح ما دون القحف
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وللرأس بعد هذا خمسة عظام... إلى آخر الفصل.
الشرح إن الأطباء مختلفون في عدد هذه العظام، وذلك أن منهم من يعد العظم الوتدي من عظام الفك الأعلى لا من عظام الرأس. وهم الأكثر ون وبعضهم يجعله عظماً واحداً وهو المشهور. وبعضهم يجعله عظمين لأنه أيضاً عند هؤلاء مقسوم بنصفين بدرز يقطعه في الطول على موازاة الدرز السهمي وهؤلاء يجعلون عظم الجبهة، والجدار الرابع مقسومين أيضاً بنصفين نصفين إذ يجعلون بدن الإنسان كله مقسوماً بنصفين على محاذاة الدرز السهمي وبإزاء هؤلاء من منع ذلك، وجعل عظم الفك الأسفل غير مقسوم إلى عظمين بل جعلهما عظماً واحداً، ومنع اللحام الذي بين جانبيه البتة وأيضاً من الأطباء من يعد عظام الزوج من جملة عظام الرأس، ثم اختلفوا في أنها أربعة عظام أو عظمان فقط من كل جانب عظم، فلذلك أكثر ما قيل في هذه العظام أنها اثنا عشر عظماً، أعني بذلك ما سوى عظمي اليافوخ من عظام الرأس اثنان، وهما العظمان الحجريان واثنان هما عظما الجبهة واثنان هما الجدار الرابع واثنان هما العظم الوتدي وأربعة هن عظام الصدغين وتسمى عظام الزوج. وأقل ما قيل فيها إنها أربعة هي: الجدران وقيل إنها خمسة: هي الجداران والوتدي.
وقيل إنها ستة: هي الجداران وعظام الزوج، وهن اثنان.
وقيل إنها سبعة: الجدران والوتدي، وعظما الزوج.
وقيل إنها ثمانية: الجداران الأربعة، وعظام الزوج وهن أربعة.
وقيل إنها تسعة: الجدران الأربعة، والوتدي، وعظام الزوج وهي أربعة.
وقيل إنها عشرة: الحجريان، وعظما الجبهة، وعظما الجدار الرابع، وعظما العظم الوتدي، وعظما الزوج.
ولم يقل أحد إنها أحد عشر.
فلنشرع الآن في تحديد هذه العظام.
ولنحدد أو لاً عظمي اليافوخ فنقول: إن كل واحد من عظما اليافوخ يحده من فوق الدرز السهمي، ومن تحت الدرز القشري الذي من جهته، ومن قدام القوس من الإكليلي الذي هو يفصله ذلك الدرز القشري من تحت، والسهمي من فوق. ويحده من خلف خط مستقيم هو قطعة من الضلع الذي في تلك الجهة من ضلعي الدرز اللامي، يفصله من تحت الدرز القشري، ومن فوق الدرز السهمي. وأما الجدار المقدم، وهو عظم الجبهة وقد ذكرنا ما فيه من الخلاف في أنه عظم واحد أو عظمان يفصل بينهما مفصل درز آخذ من طرفي السهمي إلى ما بين الحاجبين. وكيف كان، فإن حد هذا العظم من فوق الدرز الإكليلي، ومن تحت درز يمر تحت الحاجبين، وينتهي طرفاه عند الدرز الإكليلي من الجانبين، وذلك عند حفرتي الصدغين، وهذا هو الدرز المشترك بين الرأس والفك الأعلى ومداخلاته قليلة، فلذلك يشبه اللزاق.
وأما الجدار الرابع وهو عظم مؤخر الرأسين. وقد ذكرنا أيضاً ما فيه من الخلاف بأنه عظم واحد أو عظمان يفصل بينهما درز آخذ من طرف السهمي إلى منتصف وتر الزاوية التي يحيط بها ضلعا اللامي. وكيف كان فيحده من فوق الدرز اللامي، ومن تحت مفصل الرأس مع الفقرة الأولى، وأسفله مثقب وفيه الثقب الذي هو أعظم ثقب في عظام الرأس، وهو الذي يخرج منه النخاع.

وقدام هذا الجدار مؤخر العظم الوتدي، وهو عظم اسطوا ني الشكل، وطرفاه مؤخرهما يتصل بهذا الجدار الرابع بدرز ينتهي من الجانبين إلى الدرز اللامي، ومقدمهما يتصل بالفك الأعلى بدرز وسنذكره. وفائدة هذا العظم أمور: أحدها: أن يكون حاملاً لعظام الرأس كلها لأنها كلها تتصل به كالمبنية عليه.
وثانيها: أن تسد الخلل الواقع بين أطراف العظام، فلا يعرض لشيء منها تقلقل.
وثالثها: أن تكون كالخشبة التي يدعم بها الجدران التي خيف عليها السقوط إلى جانب فتعمل مستندة إلى الجدار من ذلك الجانب ليمنع سقوطه إليه. وكذلك يفعل بالأشجار ونحوها، وتسمى هذه الخشبة في العرف العامي: بالداقور.
وهذا العظم هو كذلك للفك الأعلى لأنه يحفظه عن الميل إلى خلف وخصوصاً عند ضربة تتفق عليه، أو سقطة، ونحوهما.
ورابعها: أن يتصل به الفك الأعلى، وعظام القحف بمفاصل موثقة، فيكون بذلك اتصال الفك بتلك العظام اتصالاً محكماً. ولهذه المنافع، ولأجل أن هذا العظم موضوع حيث تكثر الفضول الرطبة نازلة من الرأس، وصاعدة من البدن بخاراً جعل هذا العظم شديد الصلابة.
قال جالينوس: وفي هذا العظم زائدتان شبيهتان بالحاجبين وعن جنبيهما حفرتان. وأما الجداران اللذان يمنة ويسرة فيتخذ كل واحد منهما من فوق الدرز القشري الذي في ذلك الجانب، وأما من خلف فاعلم أن الدرز اللامي بعد اعتراض الدرز الذي بين الجدار الرابع، وبين مؤخر الوتدي، وهو الذي تقدم ذكره، يأخذ منحدراً من الجانبين ويمر بمفصل الرأس من الفقرة الأولى، فإذا انتهى إلى الزاوية التي يوترها الدرز القشري من العظم الحجري صعد مشتركاً بين مقدم العظم الحجري وبين العظم الوتدي. فإذا اتصل بطرف الإكليلي، وذلك عند الموضعين العميقين اللذين في الصدغين رجع منحدراً إلى أسفل وسنذكر بعد هذا إلى ماذا ينتهي، والقدر من هذا الدرز الذي بين هذين الموضعين، أعني من التقاطع الواقع بين الإكليلي، والدرز المشترك بين الرأس وعظم الجبهة إلى التقاطع الواقع بين اللامي والدرز المعترض. وهو المشترك بين الجدار الرابع والوتدي لك أن تجعله جزءاً من الدرز اللامي كما قال جالينوس حين عرف هيئة الدرز اللامي. ولك أن تجعله درزاً آخر متصلاً بطرفي اللامي من خلف وبطرفي الإكليلي من قدام كما هو ظاهر كلام الشيخ ها هنا. ولك أن تجعله جزءاً من الإكليلي بأن يكون الإكليلي يمتد إلى طرفي اللامي من خلف، ولا تختلف في ذلك إلا الأسماء فقط. وكل واحد من العظمين الحجريين فإنه يحده من خلف الجزء الخلفي من هذا الدرز ويكون مشتركاً بينه وبين العظم الوتدي آخذاً في طول الوتدي.
ويحده من قدام تمام هذا الدرز، وهو القدر الذي يصعد منه إلى طرف الإكليلي مشتركاً بين هذا الجدار وبين هذا العظم الوتدي في طول ذلك العظم الحجري، وهيئة العظم الحجري هيئة مثلث قاعدته الدرز القشري. وزاويته عند العظم الوتدي، والضلعان المحيطان بهذه الزاوية هما قسما ذلك الدرز الذي تقدم ذكره، وكل واحد من هذين العظمين أعني الحجريين قد قسمه المشرحون إلى ثلاثة أجزاء: أحدها: الجزء الذي فيه ثقب الأذن وهو شديد الصلابة يشبه الحجر ولذلك يسمى العظم الحجري وتسمى جملة هذا الجدار بذلك لأن فيه هذا الجزء وإنما زيد في صلابة هذا الجزء ليتدارك بها ما يوجبه ثقب السمع من ضعف الجرم.
فإن قيل: كان ينبغي أن يسمى الجدار الرابع بالحجري أيضاً بل هو أولى بهذا الاسم لأنه أشد صلابة من هذا الجدار، قلنا: ليس كذلك لأنه أكثر صلابة من جملة هذا الجدار أعني: الأيمن والأيسر. وليس أزيد صلابة من هذا الجزء منه فيما أظن. وفي هذا الجزء الزائد الذي يسمى بالميل ويسميها جالينوس بالإبرة.
وقال جالينوس: إن هذا الجزء تحده زائدة الدرز اللامي، ويريد بذلك أن هذه الزائدة تحده من قدام وخلف.
وثانيها: الجزء الذي يلي هذا الجزء، وهو عند الزائدتين الشبيهة إحداهما بحلمة الثدي، والأخرى زائدة العظم الذي يسمى الزوج. وفائدة الزائدة الحلمية أن تمنع مفصل الفك الأسفل من الانخلاع وهي غير موضوعة خلف ذلك المفصل.

وثالثها: الجزء الذي يتلو هذا وهو في موضع الصدغ. وهو ألين هذا الجدار والجزء الأوسط بين هذا وبين الجزء الحجري في الصلابة هذا، وأما عظام الزوج فهي موضوعة فوق عضل الصدغين وهي من كل جانب عظمان، ويفصل بينهما دروز ومنه وقعت التسمية بالزوج وقد خفى هذا الدرز على بعضهم حتى ظن أن في كل جانب عظماً واحداً. وهذا الدرز في وسط الصدغ. وأحد عظميه يلي مؤخر الرأس ويلتحم طرفه بالعظم الحجري، والآخر يلي مقدم الرأس ويتصل طرفه بطرف الحاجب عند اللحاظ. وهذه العظام دقيقة سهلة التجزؤ مما هي ملتصقة به بحيث تنثني بأدنى ضغط يضغطها من أسفل بمثل طرف السكين ونحو ذلك، ولها فائدتان: إحداهما: ستر عضل الصدغين. وإنما اختصت هذه العضل بذلك لأنها قريبة جداً من الدماغ. ويلزم ذلك شدة استعدادها للتضرر بما يلاقيها بعنف.
والأمر الثاني: أن تضررها كثيراً يتأدى إلى ضرر الدماغ.
والمنفعة الثانية: أنها تستر الحفرتين اللتين عند الصدغين فلا يعرض في سطح موضعها ثلمة يكون شكل الوجه منها قبيحاً.
قوله: ويحد كل واحد منهما من فوق الدرز القشري، ومن أسفل درز يأتي من طرف الدرز اللامي، ويمر به منتهياً إلى الدرز الإكليلي.
هذا الدرز هوا لذي ذكرناه أو لاً، وقد جعله مغايراً لكل واحد من الإكليلي واللامي.
وأما جالينوس فقد عرفت قوله فيه. وليس يريد بكونه يحد هذا الجدار من أسفل أن يكون موازياً للدرز القشري كما رأينا جماعة يتوهمون ذلك، بل إنه يكون كضلعي مثلث يحيطان بزاوية وترها الدرز القشري، لأن هذا الجدار شكله كما علمت شكل مثلث.
قوله: ومن قدام جزء من الإكليلي، ومن خلف جزء من اللامي. هذا إنما يصح إذا لم يكن الدرز القشري والدرز المشترك بين عظم الجبهة والفك الأعلى كلاهما في سطح واحد. بل كان أعلى منه حتى يبقى من الدرز الإكليلي جزء تحت موضع ابتداء الدرز القشري، فيكون ذلك الجزء محدداً للعظم الحجري من قدام. أعني بذلك أن يكون تمام حده القدامي إذ قد بينا أن حده القدامي هو الدرز المشترك بين ضلعه المقدم وبين العظم الوتدي. وأما عدد الثقوب التي في عظم الرأس فستعرفه في كلامنا في مخارج العصب الدماغي، ومداخل الأوردة والشرايين إليه لأن تلك الثقوب هي هذه المداخل والمخارج. والله ولي التوفيق.

الفصل الرابع
تشريح عظام الفكين والأنف
والكلام في هذا الفصل يشتمل على ثلاثة مباحث: البحث الأول تشريح عظام الفك الأعلى قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه أما عظام الفك الأعلى.... إلى قوله: وأما الأنف فمنافعه ظاهرة.
الشرح السبب في تكثير عظام الفك الأعلى أمور: أحدها ليكون آمناً من سريان ما يعرض من الآفات بجزء منه كما قلنا في عظام القحف.
وثانيها: أن بعض أجزائه يجب أن يكون رقيقاً جداً متخلخلاً كالعظام التي تحت الأنف. وسبب ذلك أن فضول الدماغ كثيرة الانحدار إلى هناك فيجب أن يكون ذلك الجزء دقيقاً متخلخلاً ليسهل تحللها منه، وبعض أجزائه يجب أن يكون غليظاً جداً صلباً كعظم الوجنة، وسبب ذلك أن هذا العظم ترتكز فيه الأضراس فيحتاج أن يكون شديد القوة لئلا تعرض له آفة بسبب كثرة عملها وقوته. ولأن كبر أصولها يحوج إلى حفرة عظيمة لا يليق بمثلها عظم رقيق خاصة واندفاع فضول الدماغ إلى جهتها قليل جداً، فلا تضر بها زيادة الغلظ والصلابة. وإذا كان كذلك وجب أن تكون عظام هذا الفك كثيرة كما قلنا في عظم الرأس.
وثالثها: أن هذا العضو بحذاء الدماغ، وهو بارد رطب، فتكون الفضول عنده كثيرة، وخصوصاً الفضول البخارية مما يتصعد إلى الرأس، وما يتولد فيه وذلك يحوج إلى خلل يسهل تحللها منه، فيجب أن تكون فيه المفاصل كثيرة لذلك ويلزم ذلك تكثير العظام. والسبب في أن عظام هذا الفك أكبر عدداً من عظام الفك الأسفل أمور: أحدها: أن تعرض الفك الأعلى بحصول الآفات عن العفونة ونحوها أكثر، وذلك لأجل اتصاله بالدماغ الكثير الرطوبة. وإذا كان كذلك كانت حاجته إلى منع سريان الآفات أكثر. وإنما يكون ذلك بتكثير المفاصل الذي يلزمه تكثير العظام.
وثانيها: أن حاجة الفك الأسفل إلى اختلاف الأجزاء في الصلابة واللين أقل لانتفاء السبب الذي ذكرناه عنه.

وثالثها: أن الفك الأسفل ليس وراءه من الفضول المحوجة إلى خلل ما يتحلل منه كما في الفك الأعلى فتكون حاجته إلى المفاصل أقل.
ورابعها: أن الفك الأسفل احتيج فيه إلى زيادة الخفة لأجل دوام حركته، وإنما يكون كذلك إذا كان جرمه رقيقاً جداً متخلخلاً فلو كثرت مفاصله لتهيأ للانكسار بسهولة.
قوله: ماراً تحت الحاجب. يريد أن هذا الدرز يكون تحته إذا كان الإنسان مضطجعاً ومنفعة هذا الدرز وصل عظام الفك الأعلى بعظم الجبهة وإنما لم يجعلا عظماً واحداً للمنافع المذكورة، وجعل مستقيماً ليكون أقصر فيكون ما يوهنه من التركيب أقل، والأبخرة الدخانية تنحل من هذا الدرز كثيراً لأنه في مقدم الدماغ حيث تكثر الفضول وأبخرتها. ولذلك يتكون عليه شعر الحاجب. وكلما كان خلله أو سع كان هذا الشعر أكثر. ولذلك إذا يبست العظام في سن الشيخوخة اتسع هذا الدرز فطال هذا الشعر.
قوله: ومن الجانبين درز يأتي من ناحية الأذن مشتركاً بينه وبين العظم الوتدي الذي هو وراء الأضراس.
قد ذكرنا أو لاً أن الدرز الآتي من الدرز اللامي إذا انتهى إلى طرف الإكليلي وذلك عند الموضعين العميقين اللذين في الصدغين رجع منحدراً، وإذا انحدر ذلك كان من ذلك درز مشترك بين العظم الوتدي وبين الفك الأعلى.
وهو هذا الدرز الذي ذكره الآن، وجعله محدداً للفك الأعلى من الجانبين.
قال جالينوس: ويبلغ هذا الدرز في انحداره إلى قاصي الأسنان وينتهي إلى باطن الحنك، ويلتقي طرفاه هناك.
قوله: ثم الطرف الأخير وهو منتهاه، يريد ثم الطرف الآخر، من الفك الأعلى، وهو الطرف الذي من داخل، وهو منتهى هذا الفك الداخل من جانب الداخل.
قوله: أعني أنه يميل ثانياً إلى الأنسي معناه أن هذا الطرف الباطن يميل إلى الأنسي فيكون الدرز المشترك بين ذلك المنتهى وبين العظم الوتدي مائلاً أيضاً إلى الأنسي.
قوله: فيكون درز يفرق بين هذا وبين الدرز الذي نذكره، وهو الذي يقطع أعلى الحنك طولاً معناه أنه يتحقق حينئذٍ درز يفرق بين الدرز الذي تقدم ذكره، وهو المنحدر إلى وراء الأضراس، وبين الدرز الذي يقطع أعلى الحنك طولاً.
ومعنى كونه يفرق بين هذين الدرزين أنه يقع بينهما فيكون كالفرق بينهما. ويريد أن ابتداءه كذلك، وأما آخره فينتهي عند ذلك الدرز أعني الذي يقطع أعلى الحنك طولاً لأنه يلاقي الطرف الآخر هناك. والفائدة في هذين الدرزين شدة اتصال عظام الفك الأعلى بالعظم الوتدي ز هو شديد الاتصال بالجدران بسبب الدروز التي تقدم ذكرها ويلزم ذلك أن يكون هذا التركيب محكماً ولأجل ذلك لم يقتصر على أحد هذين الدرزين وذلك ليكون ارتباط عظم الفك الأعلى بالعظم الوتدي بسطحه الظاهر والباطن معاً، فلو فسد أحدهما قام الآخر مقامه.
قوله: فمن ذلك درز يقطع أعلى الحنك طولاً، ودرز يبتدئ ما بين الحاجبين إلى محاذاة ما بين الثنيتين وربما قيل: إن هذين درز واحد. لأن الذي يقطع أعلى الحنك طولاً هوا لذي في وسط عرض أعلى الحنك ويلزم ذلك أن يكون هو الدرز الآخر.
وجوابه: أنه ليس كذلك لأن القاطع لأعلى الحنك هو في السطح الباطن والآخر في السطح الظاهر. وفائدة هذين الدرزين وباقي الدروز التي تحت الأنف هو تكثير طرق تحلل الفضول لأن تكثر في هذا الموضع إذ هو مصب فضول الدماغ من الأنف والحنك. وإنما كانت بهذه الصفة لأنها يجب أن تكون عند أعلى الأنف مجتمعة، إذ هناك يكثر اندفاع الفضول. ويجب أن تكون فيما هو أسفل من ذلك متفرقة لتعم المواضع التي يمكن وصول ما سال من فوق إليها. ويجب أن تزداد تفرقاً كلما ازدادت بعداً. وإنما يكون كذلك إذا كانت بالصفة المذكورة في الكتاب.
وفائدة الدرز المعترض عند قاعدة المنخرين أن تخل منه ما سال من تلك الفضول إلى ما بين ضلعي المنكبين أعني الضلعين الجنبيين ولنقل الآن على وجوب أن تكون الزوايا التي في المثلثين والتي في العظم الوتدي الذي تحتهما على ما في الكتاب.
أما المثلثان فكل واحد منهما فيه زاوية قائمة وهي التي يوترها الضلع الجنبي منه. وذلك لأن قاعدتي المثلثين متساويان فكل واحد منهما مع الضلع الوسطى كنظيرتها مع ذلك الضلع.

والضلعان الجنبيان متساويان. فالزاويتان متساويتان وهما على خط مستقيم فيكونان قائمتين، والخط عمود على القاعدتين. ويلزم ذلك أن تكون الزاويتان الباقيتان من كل مثلث. كل واحدة منهما حادة. ومجموعهما مساوية للزاوية القائمة. ويلزمه أيضاً أن تكون الزاويتان اللتان تحت القائمتين متساويتين أيضاً وقائمتين.
وأما الزاويتان اللتان عند الثنيتين فيجب أيضاً أن تكونا قائمتين بغير ما قلناه في زاويتي المثلثين. ويلزم ذلك أن تكون قاعدتا المثلثين موازيتين لمنابت الأسنان فتكون الزاوية التي عند الناب من كل عظم مساوية للتي للمثلث عند طرف المنخر في تلك الجهة وتلك حادة، وكذلك هذه . فتكون التي في ذلك العظم عند طرف المنخر منفرجة لأنها مع السفلية مثل قائمتين. والله ولي التوفيق. وهذه صورة الدروز والزوايا هكذا: قوله: ومن دروز الفك الأعلى درز ينزل من الدرز المشترك الأعلى آخذاً إلى ناحية العين هذا الدرز ينزل من دون منشأ عظم الزوج. وكما ينزل ينقسم إلى قسمين؛ أحدهما: وهو الصغير يمر إلى خلف وينتهي إلى الحفرة التي تحت عظم الزوج. وذلك هو طرف هذا الفك من الجانب فيلتقي مع الدرز المحدد له من ذلك الجانب وهو الدرز المشترك بين الفك والعظم الوتدي.
وثانيهما: وهو العظم الذي يأخذ إلى جهة العين ماراً بين القائم والمنحرف فإذا وصل وسط شفير موضع العين الأسفل، وهو تحت الموق الوحشي انقسم هناك ثلاثة أقسام وارتقى أعلاه إلى المآق الوحشي من خارج المآق. وهو فيما بين الدرز المشترك بين اللحي والجبهة وبين نقرة العين حتى يبلغ إلى وسط ما بين الحاجبين.
فأما القسم الثاني: فيمر في نقرة العين من دون المآق الوحشي أو من أسفل منه قليلاً. وينفذ في النقرة أسفل من الثقب العظيم الذي هو في هذا الموضع. وهو الثقب الذي يخرج منه العصب الذي يتكون منه وبما يحيط به من طبقات العين، ثم يصعد حتى ينتهي إلى الدرز المشترك مع الجبهة وذلك بين الحاجبين فيتحدر بين هذا القسم، وبين القسم الأول عظم يحوي بعضٍ نقرة العين، وفي هذا العظم الثقب العظيم، وموضع المآق الوحشي، وهذا العظم صغير جداً بالنسبة إلى العظم الذي يحيط به الدرز المشترك مع الجبهة من فوق، ويحيط به من أسفل الدرز الآتي من دون منشأ الزوج وهو الذي ذكرناه قبل من شعبته الأولى.
وأما القسم الثالث: وهو الشعبة الثالثة. فإنما يجاوز شفره موضع نقر العين الأسفل، ثم يغيب في العمق على الاستقامة إلى داخل ويرتفع حتى يبلغ الدرز المشترك مع الجبهة بين الحاجبين فيتحدد بين هذين القسمين عظم هو أصغر من الذي فوقه بقليل. فهذه عظام ثلاثة. أعظمها الأول. وهو يأخذ بعض الصدغ وبعض الحاجب، وبعض موضع العين، وبعده في العظم الثاني، وهو يحوي الأعصاب التي تأتي اللحى الأعلى، والعظم الأول طويل يكاد يكون في طول العظمين الآخرين. وطرفه الأول، وهو الذي عند الصدغ يتصل من أسفل بعظم الوجنة ومثل هذه الدروز في الجانب الآخر من اللحى، فيكون من كل جانب ثلاثة عظام متشابهة في القد والهيئة إذا عرفت هذا، فقول الشيخ: في الشعبة الثانية إنها تتصل كاتصال الأولى من غير أن تدخل النقرة مشكل. ولو كان قال: لكان العظم الذي تحيط به الشعبة الأولى والثانية صغيراً جداً دقيقاً في الغاية فكان يكون أصغر من العظم الثالث، وهو الذي تحيط به الشعبة الثانية والثالثة.
ومن المشرحين من جعل هذه العظام التي هي ثلاثة من كل جانب عظماً واحداً من كل جانب فلعله لم يدرك هذه الدروز أو أدركها ولكن لأجل صغرها جعلها كعظم واحد. وفائدة تكثير هذه العظام أمران: أحدهما : المنفعة العامة. وهو أن لا تعم آفة إن عرضت.

وثانيهما: أن تتحلل الفضول من الخلل الواقع بينهما بالدروز، وهاتان المنفعتان هما أيضاً منفعتا الدروز، وإنما خلقت كذلك لأن هذه الفضول تكثر جداً عند موضع العين لأجل رطوبتها. وإنما جعل بعضها إلى أسفل من العين ليتحلل منه ما ينزل من تلك الفضول حتى ما يأتي من ناحية الصدغين، ولأجل كثرة ما يحصل هناك من الفضول الرطبة تحدث الدموع، وسبب حدوثها عند البكاء أن الألم الموجب للبكاء لتسخينه القلب يرتفع منه، ومن نواحيه الأبخرة فإذا صعدت تلك الأبخرة إلى الرأس غلظت ولم تنفذ في الأمين لغلظها ولكونها كثيرة متصعدة دفعةً. فإن الأميّن بصفاقها إنما يتحلل منهما ما يتحلل في زمان طويل. وإذا لم ينفذ في الأمين دفعها إلى الدماغ إلى جهة العينين لاتصال الأمين بهما فيخرج من تلك الشؤون مائية وتكون حارة لبقية الحرارة الحادثة لها بالغليان الذي حصل في القلب. وكلما كان الموجب للبكاء أقوى كانت الدموع أكثر.
وأما الدموع التي قد تخرج في حال الضحك فلا تكون حرارتها قوية وذلك لأن محدثها هو تسخين القلب بالفرح وهو لا يحدث في القلب سخونة يعتد بها.
قوله: وكل ما هو منها أسفل بالقياس إلى الدرز الذي تحت الحاجب فهو أبعد من الموضع الذي يماسه الأعلى. إن هذا الكلام لم يظهر لي الآن له فائدة. ولعل غيري يفهم منه معنىً مفيداً. وتحت هذه الدروز والعظام التي ذكرناها، وهي الثلاثة من كل جانب عظم في كل جانب يقال له عظم الوجنة. وهو عظم ثخين له قدر صالح وجرمه صلب. وقد ذكرنا فائدة ذلك كله. وهذا العظم يحده من فوق الدرز الآتي من دون منشأ عظم الزوج مع شعبته الثالثة. وتحده من تحت منابت الأضراس ويحده من جهة الأذن القدر المشترك بين اللحي الأعلى والعظم الوتدي وهو المنحدر إلى ما وراء الأضراس. وهو الذي ذكرنا في تحديد هذا اللحى ويحده من جهة الأنف الدرز الطرفي الذي من تلك الجهة. وهو الذي يوتر الزاوية القائمة من المثلث الذي في تلك الجهة.
وأما جالينوس فقد قال في تحديد هذا العظم: أنه يحده من أسفل الدرز المستقيم الذي يقطع أعلى الفم ويريد بذلك الدرز الذي يقطع أعلى الحنك طولاً. ويريد بكون هذا الدرز يحده من أسفل أنه يكون كذلك، إذا كان الإنسان مضطجعاً وأما إذا كان قاعداً أو منتصباً فإنما يحد هذا العظم من تحت منابت الأضراس فقط لأن ذلك هوا لذي يكون حينئذٍ تحت هذا العظم والشيخ لم يتعرض لتعريف هذا العظم، ولا لعدد عظام هذا الفك وقد اختلف المشرحون في عددها. وذلك لأن منهم من يعد العظام الستة التي عند العينين التي ذكرناها عظمين فقط، كما قلناه أو لاً، وبعضهم يجعل العظمين المنحرفين اللذين ينبت فيهما الثنايا والرباعيات عظماً واحداً وكذلك العظمين المثلثين اللذين فوق هذين العظمين. وفيهما ثقبتا الأنف اللذان يفضيان إلى الحنك يجعلونهما عظماً واحداً. وبإزاء هؤلاء قوم يجعلون العظم الوتدي من عظام هذا الفك فلذلك أكثر ما قيل في هذه العظام أنها ثلاثة عشرة عظماً وأقل ما قيل فيها أنها ستة عظام.
أما من جعلها ثلاثة عشر فيقول: أنها ستة عند العينين وعظما الوجنتين وعظمان مثلثان، وعظمان منحرفان، والعظم الوتدي ومن يقول إنها ستة يقول: إنها عظمان عند العينين وعظما الوجنتين، وعظم مثلث وآخر منحرف ومن يقول إنها سبعة يعد مع هذه العظم الوتدي.
ومن يقول إنها اثنا عشر يخرج العظم الوتدي من العدد الأولى وهذا هو الأجود والمشهور.
بقي لقائل أن يقول: إن الدرز الذي ذكره جالينوس وهو القسم الصغير من قسمي الدرز الذي ينزل من درز منشأ الصدغ الذي يمر من هناك إلى خلف حتى ينتهي إلى طرف الأسفل أنه يفصل هناك عظماً صغيراً من الجانب الأيمن، والآخر مثله من الجانب الأيسر فيزداد في عدد عظام هذا الفك اثنان.
وها هنا مسألة: وإن لم تكن من التشريح فإنها متفرعة عليه وهي أنه ما السبب في أن الآلام العارضة للأسنان أو لأصولها أكثرها إنما يعرض للأضراس مع أنها صلبة، قوية، بعيدة عن قبول المؤلمات.
وأما الآفات العارضة للحم الذي في موضع الثنايا والرباعيات مع أن هذا اللحم مكشوف للهواء في أكثر الأحوال بخلاف لحم الأضراس فإنه محجوب عن الهواء موضوع حيث الرطوبات تلاقيه دوماً فكان الأولى أن يكون عروض الآفات له أكثر؟ الجواب: أن السبب في هذا من جهة الأسنان ومن جهة الدروز معاً.

أما الذي من جهة الأسنان فإنه الأضراس عراضن، ذوات أصول. فإذا تحركت إليها مادة احتبست بين أصولها، ولم تتمكن لأجل ذلك ولأجل زيادة جرمها من الانزلاق عنها. فإما أن ينفذ في جرمها فيكون ألمها في السن نفسه أو لا ينفذ فيه فيكون ألمها عند أصول الأضراس وأما بقية الأسنان فقليلة الثخن، ولكل واحد منها أصل واحد، فيكون رأسه دقيقاً. فإذا تحركت المادة إليها لم يكن وقوعها عند أصول رؤوس أصولها بل ينحدر عنها، فإذا انتهت إلى قاعدة الأصل لم يكن هناك مانع من نفوذها بين السن، وجدار مغرسه فيخرج ويحصل في اللحم فيفسده من غير أن يؤلم السن ألماً يعتد به، اللهم إلا أن تكون غليظة جداً حتى لا يتمكن من النفوذ في الخلل الواقع بين السن ومغرسها فتحدث الآلام في موضع السن وأصله لا في جرمه.
وأما الذي من جهة الدروز فإن الأضراس مركوزة في عظمي الوجنة وهما غليظان جداً كبيران، عديما الدروز فإذا حصل في هذين العظمين مادة لم يسهل تحللها وخروجها إلى الظاهر فلا تزال تنفذ إلى أن ينتهي إلى السن، فتحدث فيه الألم، ولا كذلك بقية الأسنان فإنها مركوزة في العظمين المنحرفين، والمادة إنما تتحرك إلى هناك نازلة من العظمين المثلثين فإذا وصلت إلى الدرز الذي بينهما وبين العظمين المنحرفين تحللت من ذلك الدروز وحصلت بين ذلك العظم وبين اللحم وسالت نازلة إلى اللحم الذي على الأسنان وإنما قلنا إن السبب في هذا هو الأمران معاً أعني حال الأسنان وحال الدروز لأنه لو كان السبب أحدهما. فإن كان هو حال الأسنان كان الحال في النواجذ كالحال في باقي الأضراس في كثرة عروض الآلام بل كان ينبغي أن تكون عروض الآلام لها أكثر لزيادة عظمها وإن كان هو حال الدروز كان الحال في الأضراس التي في الفك الأسفل كالحال في الأسنان الأخر التي فيه. وكان حال اللحم الذي على أسنان الفك الأسفل كالحال في لحم الأضراس التي في الفك الأعلى وليس الأمر كذلك. وذلك لأن السبب لما كان هو مجموع الأمرين والنواجذ في طرف العظم، وعندها درز فلا جرم يقل آلامها بالنسبة إلى بقية الأضراس ولكنها أكثر ما تعرض لبقية الأسنان وذلك لأجل كبرها والأسنان السفلية لأجل فقدان الدروز عندها يقل فساد لحمها بالنسبة إلى الأسنان العلوية ولأجل كبر الأضراس السفلية تخالف الأسنان الأجزاء السفلية في كثرة عروض الآلام.
ولكن هذا المخالفة أقل مما في العلوية لاجتماع الأمرين في العلوية: وهما الكبر في الأضراس، ووجود الدروز لبقية الأسنان. والله أعلم بغيبه.
البحث الثاني تشريح عظام الأنف ومنافعه قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما الأنف فمنافعه ظاهرة... إلى قوله: وأما الفك الأسفل فصورة عظامه ومنفعته معلومة.
الشرح الأنف هو الآلة الأولى للاستنشاق ولدفع فضول الدماغ بالعطاس وغيره. والفم وإن أعان في الاستنشاق فهو كدخلة في العمل، وأكثر الحيوانات تتنفس مضمومة الأفواه. وقد فتح بيطار فم فرس بآلة سدت منخريه فمات في الوقت. وأنف الفيل له في تناول ما يتناوله أو يناوله سائسة، وبه ينقل الماء إلى فمه بأن يملأ منه منخريه ثم ينفخه في حلقه.
وقد ذكر الشيخ للأنف ها هنا ثلاث منافع: المنفعة الأولى: أن يعين في الاستنشاق بتجويفه وذلك بأن يأخذ الهواء من الجوانب ويجمعه إلى أمام الثقب النافذ إلى الحنك وإلى الدماغ فيكون فعله في ذلك فعل الباذهنج في جمع الرياح ولهذه المنفعة ثلاث منافع: إحداها: أن يكون الهواء الذي يجمعه كثيراً. وثانيتها: أن الهواء الذي يجتمع فيه يتعدل فيه بعض التعديل ويتنقى من الفضول كالغبار ونحوه بعض التنقية. ولو لم يكن أنف، لكان الهواء ينفذ أو لاً إلى الدماغ، وإلى آلات التنفس، بدون هذه التنقية. وثالثتها: أن الهواء إذا اجتمع فيه نفذ به إلى آلة الشم وهي الزائدتان الشبيهتان بحلمتي الثدي وهو كثير دفعة فكان إدراك ما يكون معه من الرائحة أسهل ولا كذلك لو كان ينفذ من الثقب قليلاً قليلاً، فإن الإدراك حينئذٍ لا يكون قوياً، فهذه ثلاث منافع في هذه المنفعة أي أن اجتماع الهواء في الأنف يلزمه هذه المنافع الثلاث.
المنفعة الثانية: أن يخرج منه بعض الهواء الفاعل للصوت، ويلزم ذلك أمران:

أحدهما: الإعانة على تقطيع الحروف، وذلك أن من الحروف ما إنما يتم على ما ينبغي بأن يخرج بعض الهواء الذي به الصوت من الأنف كالنون. وثانيهما: الإعانة على سهولة خروج الحروف مقطعة ويدل على ذلك ما يحصل من الخلل في الكلام عند انسداد الأنف في الزكام. وأما عبارة الكتاب فليست بجيدة فإنه لم يذكر المنفعة التي تلزمها المنفعتان بل ذكر المنفعتين فقط. قوله: عند الموضع الذي يحاول فيه تقطيع الحروف بمقدار ما يعني بمقدار من الهواء. قوله: المثقوب مطلقاً إلى خلف كالمزمار فلا يتعرض له بالسد، يريد بالمثقوب مطلقاً المثقوب في كل وقت أي الذي لا يسد وقتاً ويفتح وقتاً بل الذي هو مثقوب دائماً. وقوله: فلا يتعرض له بالسد . معناه، الذي يجب فيه أن لا يتعرض له بالسد، والمنفعة الثالثة: يمكن أن نفعل فيها كما فعلنا فيما قبلها، فيلزمها المنفعتان المذكورتان، وذلك بأن يجعل هذه المنفعة هي الاحتواء على موضع مخرج الفضول ويلزم ذلك أمران: أحدهما: أنها تكون مستورة فلا يصير الإنسان عند خروج المخاط بحال يتقزز منه، وذلك لأنه لو لا الأنف لكان المخاط عند خروجه سائلاً على الوجه.
وثانيهما: أن خروجهما يكون سهلاً بسبب الهواء الذي يدفعها بالمزاحمة عندما يخرج بقوة النفخ، واحتيج في تركيب الأنف إلى عظام لأنه لو كان من عضولين كاللحم لكان يعرض للانسداد لو قوع أعلاه على أسفله، ولو كان من عضو متوسط اللين كالغضروف وجعل جرمه رقيقاً تهيأ للارتضاض بسهولة وإن جعل جرمه غليظاً أثقل وأما العظام فلصلابتها يكون الرقيق منها في قوة الغليظ من الغضاريف مع الخفة. وخلق من عظمين لأنه لو كان عظماً واحداً كان متهيئاً لسريان الفساد العارض لجزء منه. ولو كان من عظام كثيرة لكان تركيبه ضعيفاً جداً لأجل رقة جرمه، وخلق من عظمين مثلثين لأن شكله يجب أن يكون بحيث يأخذ الهواء من سعة وينتهي إلى ضيق كما في الباذهنج وذلك ليكون نفوذ الهواء في الثقبين النافذين منه نفوذاً قوياً لأجل ضيق المكان عليه عندهما. وإنما يكون كذلك إذا كان العظمان مثلثين.
وخلق الجزء الرقيق منه في أعلاه. والواسع في أسفله إذ لو عكس ذلك لكان يؤذي في الأبصار. والعظمان يركب كل واحد منهما أحد الدرزين الطرفيين ليكون لجرمهما مداخلة لعظام الفك الأعلى في ذلك الدروز فيكون اتصالهما بهما أقوى. وعلى طرفي عظميه غضروفان.
وقد ذكر الشيخ لذلك منافع أحدها أن لا يكون الجلد ملاقياً أطراف العظام فيتضرر بصلابتها.
وثانيها: ليمكن أن تنفرجا وتتوسعا عند الحاجة إلى فضل استنشاق كما يعرض في الحميات المحرقة، خصوصاً عند ضعف القوة على استيفاء قدر الحاجة من الهواء بحركة الصدر.

وثالثها: ليعينا على سهولة نقص الفضول والبخار الرديئة الكريهة الرائحة بارتعادهما، وانتفاضهما. ولأجل هذه المنافع خلقاً لينين ليكونا أطوع في حركة الانقباض وأسرع وانسب إلى جرم الجلد. وألينها أطرافهما لأن أعلاهما يتصل بالعظام. وهي صلبة. وحركة الارتعاد هناك قليلة ولا كذلك أسفلهما. وقسم الأنف بقسمين. وقد جعل الشيخ ذلك ليبقى أحدهما مفتوحاً عند ميل ما ينزل من المخاط إلى الآخر وهذا لا يصح لأنه لو كان ثقباً واحداً متسعاً لكان انسداده أقل لا محالة إذ الذي يقسمه بنصفين يهيئه للانسداد إذ يصير كل قسم منهما ضيقاً فيكون مستعداً للانسداد بالمخاط لغلظه ولزوجته بل إنما خلق كذلك لأنه لو بقي واحداً لكان واسعاً فيكون متهيئاً لنفوذ ما ينفذ فيه من الذباب ونحوه فاحتيج إلى تضييقه وحينئذٍ لو جعل واحداً لم يف بما يحتاج إليه من الهواء فحينئذٍ جعل اثنين، وقسم بغضروف لأن هذا القاسم يحتاج أن يكون رقيقاً جداً لئلا يزاحم ويضيق فلو خلق من عظم واحد لتهيأ للانكسار لإفراط رقته، ولو خلق من غشاء ونحوه لم يفد في دعامة عظم الأنف حتى لا يزولان عن وضعيهما عند الضربة عليهما ونحو ذلك. وجعل هذا الغضروف أصلب من الغضروفين الطرفيين للحاجة في هذا إلى الدعامة مع قلة الحاجة إلى الحركة وجعل أعلاه أصلب، وأسفله ألين. لأن الحاجة إلى الدعامة أكثرها في أعلاه، والحاجة. إلى مطاوعته على حركة الغضروفين الطرفيين، إنما يكون في أسفله، فلأن أعلاه حيث تحتبس الفضول لضيق المكان فيحتاج أن تكون أبعد عن قبول التضرر بها، وإنما يكون كذلك إذا كان أصلب. وجعل هذا الغضروف على طول الدرز الوسطاني ليكون القسمان متساويين، فلا يكون أحدهما ضيقاً جداً متهيئاً للانسداد. وأيضاً ليكون لجرم هذا الغضروف مداخل لعظام الفك من خلل الدرز الوسط فيكون التحامه بها أو ثق وأما لم خلق الأنف في هذا الموضع المخصوص، فسنذكر ذلك حيث نتكلم في الأعضاء الآلية. والله أعلم.
البحث الثالث تشريح الفك الأسفل قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما الفك الأسفل وصورة عظامه... إلى آخر الفصل.
الشرح أما منفعة هذا الفك فهو أن يتم به مضغ الطعام والكلام ونحو ذلك مما نذكر بعضه عند كلامنا في الفصل الآتي والباقي عند كلامنا في الأعضاء المركبة. وقد خلق له عظمان إذا لو كان من لحم فقط لم يكن المضغ ولو كان من غضاريف لم يكن قوياً، وعظامه لا بد وأن تكون خفيفة جداً لتكون حركته أسهل. وإنما يكون كذلك إذا كانت رقيقة متخلخلة فلو جعل من عظام كثيرة جداً لكان تركيبه واهياً، ولو جعل من عظم واحد لكان إذا عرض لبعضه آفة، لم يؤمن سريانها. وجعل المفصل بين عظميه عند الذقن، ليكون العظمان متساويين إذ ليس أحدهما بزيادة العظم أولى من الآخر، وجعل هذا المفصل موثقاً لعدم الحاجة إلى حركة أحد العظمين دون الآخر وليكون تركيبه قوياً، وجعل لزاقاً لئلا يزداد جرم العظمين ضعفاً بزيادة الخلل الذي يحدثه الدرز وإنما لم يراع هذا في عظام الرأس لأن تلك العظام قوية غليظة ويحتاج فيها إلى زيادة التخلخل ليمكن نفوذ الأبخرة في التخلخل ونحوها مما ذكرناه هناك ولا كذلك ها هنا. ومن الناس من ينكر هذا المفصل وذلك لزيادة خفائه وهذان العظمان كلما ارتفعا ازدادا قوة ورقة أما الرقة فلأن عظمهما في أسفل، إنما كان لأجل الأسنان وذلك منتف في أعلاها. وأما القوة فليتدارك ذلك ما توهنه الرقة فلذلك هما هناك أصلب. وأقل تخلخلاً وعلى طرف كل واحد منهما زائدتان إحداهما رقيقة معقفة ترتبط بزائدة من الفك الأعلى وثانيتهما: غليظة في طرفها كرة مستديرة تتهندم في حفرة من العظم الحجري تحت الزائدة الشبيهة بحلمة الثدي وإنما احتيج إلى هاتين الزائدتين ليكون تشبث هذا العظم بما يتصل به قوياً لأنه معلق وكثير الحركة وتحتاج حركة المضغ إلى قوة ولو كانت الزائدة واحدة لكان سريع الانخلاع جداً ولم يجعل هذا المفصل موثقاً، وإلا كانت تفوت منفعة هذا الفك وهي المضغ ونحوه. والله أعلم بغيبه.

الفصل الخامس
تشريح الأسنان
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما الأسنان فهي... إلى آخر الفصل.
الشرح

أما أسنان الناس ففائدتها أمور أحدها تصغير أجزاء الغذاء ليسهل نفوذه وانهضامه في المعدة. وثانيها: حبس الريق حتى لا ينفصل منه شيء عند قعر الفم وعند الكلام.
وثالثها: الإعانة على جودة الكلام. ولذلك يعرض عند سقوطها خلل في الكلام.
ورابعها: أن تكون له كالسلاح في العض.
وخامسها: الاستعانة على كسر ما يعسر باليدين كالجوز واللوز، وحل ما يعسر حله بالأصابع من العقد الصغار لقوته.
وسادسها: الجمال وحسن الفم عند التبسم. وأما أسنان غير الإنسان فقد تكون لهذه المنافع كلها، إلا الإعانة على الكلام ثم قد يكون مع ذلك سلاحاً للصيد كما في السباع. وقد لا يكون كذلك كما في الحيوانات ما ليس له أسنان البتة كالطيور والسمك الذي لا يأكل اللحم ومنه ما له أسنان وهذا إما أن تكون أسنانه كلها نافعة. في تصغير الغذاء أو لا تكون كذلك. والثاني. كالفيل والخنزير فإن لكل واحد منهما أنياباً للسلاح فقط، أعني ليس لها معونة في تصغير الغذاء وإن كان قد يكون لها نفع آخر في غير السلاح كما في الفيل فإنه يستعين بأنيابه على السفاد بأن يضعها على ظهر الأنثى معتمداً عليها في ارتفاعه للسفاد. والذي جمع أسنانه نافعة للغذاء إما أن تكون في كلا الفكين بالسواء، وذلك كما في الإنسان، أو لا تكون كذلك فإما أن تكون في الأسفل فقط، أو تكون في الفكين جميعاً ولكنها في أحدهما أكثر، وأيضاً الأسنان إما أن تختلف في الذكر والأنثى أو لا يكون كذلك والثاني كما في الإنسان والأول إما أن يكون ذلك الاختلاف بأن يكون للأنثى أكثر وذلك كما في الأفاعي فإن للذكر نابين وللأنثى أربعة وذلك لأن الأنثى لضعفها افتقرت إلى تكثير السلاح، أو بأن يكون في الذكور أكثر وذلك كما في الخنازير، فإن للذكور منها نابان للقتال، دون الإناث أو لا تكون كذلك. وذلك كما في الجمال فإن أسنان الإناث منها أضعف من أسنان الذكور وأيضاً ما له أسنان فإما أن يكون مما لا يأكل اللحم البتة. وذلك كالغنم والبقر فهذا يجب أن تكون أسنانه المقدمة عراض مجتمعة مصطفة لتكون أجود في قطع العشب كالقدوم، ومثل هذا الحيوان لا تخلق له أنياب للقتال، أو يكون مما يأكل اللحم، فإما أن يكون ذلك كله على سبيل الصيد. أو لا يكون كذلك.
والثاني كما في الإنسان فهذا يجب أن تكون أسنانه متوسطة في العرض وفي التفرق.
والأول يجب أن تكون أسنانه متفرقة حادة ليكون تشبثها بالمصيد قوياً وهذا إما أن تكون أسنانه متراكبة. تنزل العالية في خلل السافلة أو لا تكون كذلك. والثاني كما في الكلاب وأكثر السباع والكلاب.
والأول: كبعض السمك الذي يأكل اللحم. فإن أسنانه متراكبة والعليا منها تنزل في خلل السفلي، وإنما كان كذلك لأنه يأكل في الماء فيحتاج إلى سرعة البلع لئلا يدخل إلى باطنه من الماء أكثر مما يحتاج إليه، فإذا كان كذلك افتقر إلى سرعة تقطيع المأكول، وحيوان بحري يقال له: كلب البحر لأسنانه ثلاثة صفوف وهي حادة جداً كالشوك. وقد قيل إن سبعاً بالهند لأسنانه أيضاً ثلاثة صفوف. فلنتكلم الآن فيما يليق بالطب وهو الكلام في أسنان الناس فنقول: للأسنان دون باقي الأعضاء خواص: إحداها: أن جميعها تخلق بعد الولادة. إلا في النادر فقد يولد بعض الأطفال وله سنان أو ثلاثة، وقد قيل إن صبياً طال به الحمل أربع سنين، وولد وله أسنان كاملة. وبهذه الخاصية يخالف جميع الأعضاء وما يشابهها وذلك لأن الأعضاء الباقية كلها تتخلق قبل الولادة والأشياء الشبيهة بالأعضاء أما الأظفار فكلها تخلق بعد الولادة إلا نادراً كما قالوا إن الحامل إذا أكثرت من أكل الملح خرج الولد بغير أظفار. قالوا: لأن الملح بحدته يمنع تكونها، وأما الشعر فبعضه يتخلق قبل الولادة مثل شعر الأهداب والحواجب وشعر الرأس، وبعضه يتأخر عن ذلك كشعر الساقين والزندين وبعضه يتأخر أزيد من ذلك كشعر العانة والإبطين وبعضه يتأخر جداً كشعر اللحية.

وثانيها: أنها تسقط بالطبع ثم تعود وسبب ذلك أن النابت منها أو لاً. يكون شبيهاً بباقي الأعضاء في ذلك الوقت وهي حينئذٍ شديدة اللين وخصوصاً والحاجة حينئذٍ إلى تصلبها يسيرة جداً لأن غذاء الصبي في ذلك الوقت إنما يكون من الأشياء اللينة جداً ليكون شبيهاً بمزاجه وبأعضائه في ذلك الوقت، ولذلك ما كان من الأسنان ينبت في أو ل بأنه صلباً كالنواجذ فإنه لا يسقط بالطبع البتة.
وثالثها: أنها تعود بعد الفقد في الأسنان دون بعض ولا كذلك غيرها فإنه إما أن لا تعود البتة كالعظام والشرايين أو أنه يعود في كل سن كاللحم والشحم.
ورابعها: أن المادة التي تتكون منها لا يتكون منها عضو آخر، وذلك لأنها تتكون من دم على مزاج المني لأنها لو تكونت من الدم كيف كان لو جب أن يعود بعد الفقد دائماً كما كان في اللحم والشحم، ولو تكونت من المني لما كانت تعود إليه البتة كما في العروق والعظام.
وخامسها: أنها مع شدة صلابتها تحس وتتخدر وتتألم ولا كذلك غيرها. وسنذكر سبب ذلك.
وسادسها: أنها مع كونها عظيمة فهي مكشوفة من كل جانب ولا كذلك غيرها من الأعضاء وأما الأظفار فليست مكشوفة من كل جانب ومع ذلك فهي في الحقيقة ليست من الأعضاء ولو كانت من الأعضاء لما كانت عظيمة أعني ليست في صلابة العظام.
وسابعها: أنها مع أنها أعضاء فهي تنمو دائماً ولذلك تطول السن المحاذية للسن المقلوعة. وسبب ذلك تعرضها للانسحاق الدائم. وأما الأظفار والشعر فإنهما وأن شاركاها في ذلك فليسا من الأعضاء.
وثامنها: أنها عند الكبر تقصر في الحقيقة وتطول في الحس أما سبب ذلك قصرها الحقيقي فلأجل دوام الانجراد بالمضغ مع ضعف النمو عند الكبر، وأما طولها الحسي، فلأن اللحم الذي عند أصولها يقل فترة طويلة.
وتاسعها: أنها مع أن مفاصلها بدخول زائدة منها في حفرة من عظم آخر هي أيضاً موثقة وهذا لا يوجد لغيرها.
وعاشرها: أنها يعرض لها التقلقل كثيراً مع أن مفاصلها موثقة. وذلك بخلاف غيرها، فهذه عشر خواص للأسنان.
قوله: ثنيتان ورباعيتان من فوق ومثلها من أسفل للقطع هذا ظاهر، فإن الإنسان بالطبع، إنما يقطع ما يقطعه من المأكول بمقدم أسنانه ولذلك خلقت هذه الأسنان مستعرضة حادة الأطراف لتكون كالقدوم ونحوه مما يقطع به.
قوله: ونابان من فوق، ونابان من أسفل للكسر ربما قيل إن عادة الإنسان إنما يحاول كسر ما يريد كسره بأضراسه لا بأنيابه. وجوابه: أن ما كان من الأشياء الصلبة مثل الجوز واللوز فلا شك أن الأسنان التي يحاول كسرها بها هي الأضراس وأما ما كان من الأطعمة له طول لا يتمكن من كسره بالأضراس، فإنما يحاول كسره بالأنياب فكأنها مخلوقة للكسر نيابة عن الأضراس. وقد خلقت محددة لتنفذ فيما يراد كسره فتهيئه للانكسار وأما الأضراس فأكثر فائدتها سحق المأكول وطحنه، ولذلك خلقت عظاماً غلاظاً كباراً لأن السحق إنما يتم بمثل ذلك، وقد تسمى الأسنان بأسماء مشتقة من أفعالها كما تسمى الأضراس الطواحين والأسنان القدامية القاطعة وأما الأنياب فلما لم يكن الكسر لها أصلياً لم يشتق لها منه منها أسماء بل سميت باسم مشابهها. فيقال لها أسنان الكلاب لشبهها بأسنانها، والنواجذ تنبت في وسط سن النمو وذلك في قريب من عشرين سنة، لأن الطبيعة حينئذٍ تستظهر في آلات الغذاء عند إشراف زيادة الوارد على المتحلل على البطلان، وهذا من خواص الإنسان وتسمى أسنان الحلم بكسر الحاء أي أسنان العقل وهذا السن هو ابتداء كمال العقل وقد يسمى أسنان الحلم بضم الحاء لأنها تتكون بعد الاحتلام. وعبارة الكتاب في الأسنان ظاهرة.
وقد قال جالينوس: إن قوة الحس تأتيها في عصب لين، وهذا عجيب فكيف جعل ليناً وهو مخالط للعظام؟ وينبغي أن يكون شبيهاً بجرمها فيكون صلباً لئلا يتضرر بمماستها.
بقي ها هنا بحث، وهو أن الأسنان عظام أو ليس؟

وقد شنع جالينوس على من لا يجعلها عظاماً وجعلهم سوفسطائية، واستدل هو على أنها عظام بما هو عين السفسطة وذلك لأنه قال ما هذا معناه: إنها لو لم تكن عظاماً لكانت عروقاً أو شرايين أو لكماً أو عصباً ونحو ذلك. ومعلوم أنها ليست كذلك. وهذا غير لازم. فإن القائلين بأنها ليست بعظام يجعلونها من الأعضاء المؤلفة لا من هذه المفردة، ويستدلون على تركيبها بما يشاهد فيها من الشظايا، وتلك رباطية وعصبية، قالوا: وهذا يوجد في أسنان الحيوانات الكبار ظاهراً. والله ولي التوفيق.

الفصل السادس
منفعة الصلب
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه الصلب مخلوق لمنافع.... إلى آخر الفصل.
الشرح الصلب عضو مؤلف من فقرات ترتبط بعضها ببعض يحيط بأكثر جرمها لحم، وابتداء هذا العضو من منتهى عظام القحف، وانتهاؤه عند آخر العصعص، وله تجويف ممتد في طوله يحوي فيه النخاع. وله منافع غير الأربعة المذكورة.
أحدها: أن ترتبط به عظام البدن فيكون كالأساس لها.
وثانيها: أن الأحشاء تتعلق بها فتبقى أو ضاعها محفوظة.
وثالثها: أن ما ينزل من فضول مؤخر الدماغ يسلك فيه، ولا يحتبس فيفسد الدماغ.
ورابعها: أن المني ينزل فيه من الدماغ على ما تعرفه في موضعه وعبارة الكتاب في هذا الفصل ظاهرة.
لكن ها هنا بحثان: أحدهما أن جرم الدماغ شديد اللين، مستعد جداً للتضرر فكان ينبغي أن يكون مسلكه من قدام العظم العظيم الذي في الفقرات ليكون محروزاً عن التضرر بالمصادمات لكن جعل من وراء ذلك العظم. وثانيهما : أن الدماغ، لا شك أنه أشرف من النخاع؛ فكان ينبغي أن يكون الاحتياط به في وقاياته أكثر. ولم يجعل كذلك فإنه لم يخلق لو قايته شوك وأجنحة، ونحو ذلك مما يزيد في الاحتياط عليه كما فعل في النخاع.
الجواب: أما الأول فلأن النخاع لو جعل من داخل لكان يتسخن جداً بقربه من القلب، وذلك يخرجه عن المزاج الذي يحتاج إليه في أن تنفذ فيه قوة الحس والحركة الإرادية وأن يكون نائباً عن الدماغ في إيصال هذه القوى إلى الأعصاب ونفوذها فيه إلى الأعضاء الأخر فلذلك احتيج أن يجعل النخاع من خلف ليكون أبعد عن التسخين الشديد بحرارة القلب، ومع ذلك جعل من ورائه عظام ثلاثة وتستره عن ملاقاة المؤذيات فحصل بذلك الغرضان جميعاً وهما: بعد النخاع عن القلب مع انستاره بالعظام وانحراسته بها عن المؤذيات.
وأما الثاني: فإن هذه العظام الزوائد في الفقار وهي التي ذكرناها ليست مخلوقة لو قاية النخاع فقط، بل والقلب والرئة وغيرهما من الأعضاء الكريمة كالشرايين والحجاب ونحو ذلك. ولأن توقى أجرام الفقرات أيضاً خاصةً وعظام القحف تحيط بالدماغ من كل جانب وهي متصلة كالعظم الواحد، فلذلك لا يكون الحذر عليه من المصادمات ونحوها كالحذر على النخاع لأن مسلك النخاع تتخلله أفضية تسهل نفوذ المؤذيات فيها. والله ولي التوفيق.
الفصل السابع
تشريح الفقرات
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه الفقرة عظم في وسطه ثقب ينفذ فيه النخاع... إلى آخره.
الشرح قوله الفقرة عظم في وسطه ثقب ينفذ فيه النخاع لقائل أن يقول: إن هذا التعريف لا يصح وذلك لأن الجدار الرابع من جدران القحف يصدق عليه أنه عظم في وسطه ثقب ينفذ فيه النخاع وذلك لأن النخاع ينفذ في ثقب في وسط أسفل هذا العظم مع أنه ليس بفقرة وكذلك العظم العريض الذي يسمى عظم العجز هو عند كثير من المشرحين ليس من الفقار مع أن النخاع ينفد فيه في ثقب في وسطه، وأيضاً فإن نفوذ النخاع في جميع الفقرات ليس في الوسط بل في مؤخر كل واحد منها.
والجواب: أما عن الأول، فإن قول الشيخ عظم ليس المراد به أنه عظم مطلقاً، بل عظم من جملة عظام الصلب. لأن كلامه ها هنا إنما هو في عظام الصلب فكأنه يقول: الفقرة عظم من عظام الصلب ينفذ فيه النخاع.
وأما الثاني: فإن عظم العجز عند الشيخ مؤلف من الفقار وإن خالف في ذلك جميع المشرحين.

وأما الثالث: فإن المراد بالوسط ها هنا ليس الوسط الحقيقي حتى يكون البعد في جميع الجوانب على السواء، بل ما هو بين الأطراف وإن كان مائلاً إلى بعضها، ومقدم كل فقرة عظم طويل غليظ وسطه أقل غلظاً من طرفيه وهو مستعرض وفي مؤخرة النخاع. وهو مستور في وسط كل فقرة بالعظم الذي في وسطه الزائدة التي خلف وهي التي تسمى السنسنة، ومكشوف في طرفي الفقرة بين العظمين الزائدتين من عند كل واحد من طرفي الفقرة، أحدهما يمنة والآخر يسرة. ويبتدئان من ضيق وينفرجان بتدريج فلذلك ينتهيان إلى سعة يعتد بها.
قوله: ولم يجعل إلى قدام، وإلا لو وقعت في المواضع التي عليها ميل البدن بثقله الطبيعي وبحركاته الإرادية جعل مخرج العصب من قدام الفقار مما لا ضرر فيه بالوجه المذكور. وذلك لأن الثقب الذي يخرج منه العصب إن كان بتمامه في فقرة واحدة لم يكن لميل البدن تأثير في ضغطه ولا في مزاحمته، ونحو ذلك. وإن كان بين فقرتين كان ذلك الثقب لا محالة على قدر ثخن العصب فإذا مال البدن إلى قدام، وانحنى بسبب ذلك الفقار لم يكن ذلك محدثاً لضيق ذلك المخرج فلا يلزم ذلك انضغاط ذلك العصب ولا ضعفه.
قوله: ولم يكن أن تكون متقنة الربط والتعقيب ينبغي أن يكون مراده بذلك الفقرات أي إن العصب لو كان يخرج من قدامها لم يكن أن تكون الفقرات من قدامها متقنة الربط والتعقيب. لأن الأعصاب كانت تضيق مكان ذلك، وهذا أيضاً لا يصح فإن ثخانة العصب لا تبلغ في التضيق إلى هذا الحد.
قوله: وكان الميل أيضاً على مخرج تلك الأعصاب بضغطها وتوهنها هذا أيضاً لا يصح فإن المخرج إن كان في فقرة واحدة فظاهر أنه لا يلزم ذلك أيضاً لأن إحدى الفقرتين إذا لاقت بطرفيها طرف الفقرة المجاورة لها بقي الثقب ها هنا بينهما على قدر ثخن العصب فلم يكن من ذلك ضغط.
أقول: بل السبب في أن مخارج الأعصاب لم تجعل إلى قدام الفقرات هو أن الأعصاب لو خرجت من قدام لم يتمكن من الانتشار في الجانبين إلا بأن ينعطف إلى الجانبين وذلك مع تضيقه من قدام الفقرات تحوج إلى زيادة في طول الأعصاب لا حاجة إليها.
وتنقسم الفقرات إلى خمسة أقسام: أحدها: فقار العنق وهي سبع.
ثانيها: فقار الظهر وهي اثنتا عشرة فقرة.
وثالثها: فقار القطن وهي خمس فقرات.
ورابعها: فقار العجز وهي ثلاث فقرات.
وخامسها: فقار العصعص وهي أيضاً ثلاث. والله ولي التوفيق.

الفصل الثامن
منفعة العنق وتشريح عظامه
الكلام في هذا الفصل يشتمل على مباحث: البحث الأول قول كُليّ في فقار العنق قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه العنق مخلوقة لأجل قصبة الرئة... إلى قوله: لكن للخرزة الأولى والثانية خواص.
الشرح

تختلف الحيوانات في العنق فبعض الحيوانات لا عنق له كالسمك والفيل، ونحو ذلك من الحيوانات التي لا تصويت لها بفمها، فإن هذه الحيوانات لا حاجة فيها إلى آلة يتم بها هذا الصوت، فلا حاجة بها إلى الحنجرة ولا إلى قصبة الرئة. وبعض الحيوان له عنق، وكل حيوان يحتاج أن يصوت بفمه لأن هذا الحيوان يحتاج إلى خزانة يتجمع فيها هواء كثير ثم يخرج منها جملة بقوة في منفذ طويل صلب ضيق في آخره ثم يفضي إلى فضاء يحيط به جرم صلب وذلك الفضاء ضيق الآخر، ثم ينفصل منه الهواء إلى فضاء الفم، فيحدث من ذلك الصوت فالخزانة هي الرئة وهي إذا انقبضت بتحريك الصدر لها، انفصل منها الهواء بقوة، ونفذ في قصبة الرئة، وهي جرم صلب حتى إذا قرعها الهواء الخارج بقوة حدث من ذلك صوت، ثم يحتبس ذلك الهواء في هذه القصبة لأجل ضيق فمها، ويخرج منها بقوة لأجل ضيق ذلك الفم، فينتشر في فضاء الحنجرة وهي أيضاً من جرم صلب فيتم بذلك تكون الصوت، ثم ينفصل عن الحنجرة بقوة لأجل ضيق فمها أيضاً، فيحصل في فضاء الفم، وبذلك يكمل ويحسن وهناك ينفصل إلى مقاطع محدودة، ومقصورة تتألف منها الحركات والحروف ومن ذلك تتألف الكلمات للإنسان فلذلك تكون القصبة مع الحنجرة بمنزلة البوق في التصويت، وهذه القصبة مع الحنجرة لا يمكن أن يقوم بها فقط العنق وإلا لم يمكن إقلالها للرأس، فلا بد مع القصبة من عظام أخر يكون المجموع ذلك العنق. فلا بد وأن تكون هذه العظام هي التي ينفذ فيها النخاع فإنه لو كان في العنق عظام أخر لغلظ جداً وثقل، والعظام التي ينفذ فيها النخاع هي عظام الفقار. فإذاً العنق إنما يتقوم بهذه العظام وهذه العظام سبعة لأن الإنسان يحتاج كثيراً أن يطأطىء رأسه وبعض عنقه إلى قدام في حال إرادته النظر إلى أمام رجليه ونحو ذلك، وإنما يمكن ذلك بأن يكون بميل وسط العنق إلى خلف، وإنما يمكن ذلك إذا كان هذا الميل بتدريج فلو مالت حينئذٍ إلى خلف فقرة واحدة دون ما يجاورها لزم ذلك انقطاع النخاع هناك وخروج تلك الفقرة عن وضعها الطبيعي، وكان ذلك لها كالخلع فلا بد وأن يكون هذا الميل بتدريج وإنما يمكن ذلك بأن تكون مع الفقرة المائلة كثيراً فقرتان مائلتان معها قليلاً وإحداهما فوقها والأخرى تحتها فلا بد وأن يكون المائل إذاً إلى قدام غير هذه الثلاثة ولا بد وأن يكون من كل جهة أعني فوق وأسفل أكثر من واحدة فإن ميل الواحدة لا يمكن أن يكون أزيد من ميل الثلاثة إلى خلف فلا بد وأن تكون اثنتان من فوق واثنتان من أسفل، فلذلك لا بد وأن تكون فقرات العنق سبعاً، وتحتاج أن يكون للعنق حركات متفننة إلى جهات كثيرة ليسهل للإنسان تحريك رأسه إلى الإشراف على أكثر بدنه وإنما يمكن ذلك بأن يكون في العنق عضلات كثيرة وأوتار وأعصاب، وتحتاج هذه إلى عروق وشرايين كثيرة فلذلك لا بد في العنق من ذلك كله، ولا بد وأن تكون زوائد فقار العنق غير معاوقة عن كثرة هذه الأعضاء وإنما يمكن ذلك بأن تكون سناسنها صغاراً وأجنحتها منقسمة إلى قسمين ليمكن دخول هذه الأعضاء بينها. وكذلك ينبغي أن تكون في أجنحتها ثقوب وتنفذ فيها هذه الأعصاب حتى لا تضيق.
قوله: ولما صغرت سناسنها جعلت أجنحتها كباراً ذوات رأسين مضاعفة العرض بانقسام الأجنحة إلى قسمين ليس تضعيف الجناح، فإن ذلك يزيد في الثقل، وهو غير مطلوب ها هنا بل الغرض حدوث الفرج فيها، حتى لا يعاوق نفوذ ما تحتاج أن ينفذ هناك من العروق والأعصاب ونحوهما، وأيضاً فإن عظم السنسنة إذا كان مؤدياً إلى انكسار الفقرات الرقاق فعظم الأجنحة كذلك أيضاً، وأيضاً صغر السنسنة لا يلزمه كبر الجناح. والله ولي التوفيق.
البحث الثاني أحكام الفقرة الأولى من فقار العنق قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه لكن للخرزة الأولى والثانية خواص ليست... إلى قوله: وأما الخرزة الثانية فلما لم يمكن.
الشرح خرزات العنق تحتاج جميعها أن تكون مفاصلها إلى سلاسة ما لتكون حركة الرأس إلى الجهات جميعاً سهلة وأولاها بذلك الخرزة الثانية والثالثة، فإن حركة أعلى العنق إلى الجهات أكثر، والحاجة إلى ذلك أشد من حركة أسافل العنق، لأن الغرض من حركة العنق إنما هو تحريك الرأس، وذلك يتم بحركة ما هو إليه اقرب.

وأما الخرزة الأولى فإن حركتها متعذرة لما نقوله بعد وحركة الرأس وحده يمنة ويسرة يتم بمفصل بينه وبين الفقرة الأولى، وذلك لأن هذا المفصل لو كان مع فقرة أخرى لكانت تكون حركة الرأس هذه غير خاصة به بل مع العظام التي تكون فوق تلك الفقرة فلذلك وجب أن تكون حركة الرأس من قدام إلى خلف تتم بمفصل بينه وبين الفقرة الثانية وتكون حركة الرأس وحده بمفصل بينه وبين هذه الفقرة أعني الأولى لأن مفصل حركته يميناً وشمالاً هو بأسفل الجدار الرابع، وذلك مائل إلى مؤخر الرأس وذلك يلزمه أن يكون أكثر جرم الرأس إلى قدام هذا المفصل والفكان موضوعان أمام الرأس وإلى أسفل فلذلك يكون ثقل الرأس إلى قدام كثيراً جداً، وذلك يحوج أن يكون العظم الذي عليه هذا المفصل مائلاً جداً عن الفقرة الأولى إلى قدام وإذا كان كذلك لم يمكن أن يكون ذلك العظم تبرز منها إلى قدام، لأن ذلك العظم كان يكون حينئذٍ معرض للانكسار فلا يقوى على حمل الرأس، إلا أن يكون غليظاً قوياً، وذلك مما لا يقوى على إقلاله الفقرة الأولى، فلذلك احتيج أن يكون هذا المفصل بين الرأس وبين فقرة أخرى ولا يمكن أن يكون ذلك بالفقرة الثالثة وما هو أسفل منها لأن ذلك يحوج أن يكون العظم الذي يرتفع من تلك الفقرة إلى الرأس طويلاً جداً. وذلك يلزمه ضعفه عن إقلاله الرأس، فلذلك جعل هذا المفصل بين الرأس والفقرة الثانية، وذلك بأن أبرز من الفقرة الثانية عظم طويل جداً يسمى السن، والنواة لأنه يشبه كلاً من هاتين وجعل ارتفاعه ولا يزال كذلك يرتفع حتى ينتهي إلى عظام الرأس حيث يكون على اعتداله في الميل إلى خلف وقدام وحينئذٍ يدخل رأسه بعد تمليته في فقرة من عظام الرأس مملسة فتكون حركة الرأس وحده إلى قدام وخلف وهو على ذلك العظم وبذلك العظم يتعادل ميل الرأس بنقله إلى خلف، وإلى قدام، فلذلك حركة الرأس وحده إلى قدام وخلف، وهو بمفصل بينه، وبين الفقرة الثانية على الوجه الذي قلناه.
قوله: زائدة طويلة صلبة يجوز وتنفذ في الثقبة الأولى إلى قدام النخاع هذه الزائدة لا يمكن أن تنفذ في ثقبة الفقرة الأولى وإلا احتيج أن يكون هذا الثقب عند أعلاه شديد السعة إلى قدام، لأن هذه الزائدة أعلاها إما مائل جداً إلى قدام لأنه ينتهي إلى حيث يكون ثقل الرأس مع الفكين من قدامها مساوياً لثقله من خلفها، وإنما يكون كذلك لبقي بين النخاع وبين هذه الزائدة من فوق فضاء كثير، وكان ذلك التركيب واهياً، والذي قاله جالينوس: وفي الفقرة الأولى لهذه الزائدة موضع قد هيئ ليتمكن فيه ويعتمد عليه اعتماداً حريزاً وهذا الكلام لا يلزمه أن تكون هذه الزائدة تدخل في ثقب الفقرة الأولى، وفي الجوامع.
وأما الفقرة الثانية فيصل بينها وبين الرأس، ويربطها به زائدة شبيهة بالسن تشخص من الفقرة الثانية مصعدة وهي جزء من الفقرة الأولى.
أقول: إن هذه الزائدة تشبه أن تكون دعامة للزائدة التي هي السن من ورائها ليكون وضعها محفوظاً موثوقاً.
قوله: ولهذه المعاني غربت عن الأجنحة.
الذي قاله جالينوس: إن هذه الفقرة الأولى لا سنسنة لها، ولا جناحان لكن هذان الجناحان، وجناحا الفقرة الثانية غير مشقوقة.
قوله: وكذلك لو كانت حيث يلتق الثانية لزائدتيها اللتين تدخلان منها في نقرتي الثانية.
الذي قاله جالينوس: وفي الفقرة الأولى حفرتان أخريان قليلتا العمق في أسفلهما شبيهتان بالنقرتين اللتين في أعلاها إلا أن تكون النقرتان اللتان في أعلاها أكبر، ولذلك كان ينبغي لمكان اتصال الرأس بهما، والنقرتان اللتان في أسفلهما أصغر.
قوله: بمفصل سلس متحرك إلى قدام وخلف.
والذي يظهر لي، والله أعلم، أن الفقرة الأولى ليست تتحرك لمفصل بينها وبين الفقرة الثانية لا إلى خلف وقدام، ولا إلى اليمين واليسار.
أما على ما قاله الشيخ في السن الصاعدة في ثقب الفقرة الأولى فظاهر لأن هذا السن لأجل أنه جزء من الفقرة الثانية فليس بينهما مفصل يمنع لا محالة من حركة الفقرة الأولى بدون الثانية لأنه داخل فيها، وأما على ما هو الحق وهو أن هذا السن يصعد أمام الفقرة الأولى في أسفلها جزء تدخل فيه هذا السن أيضاً فظاهر أيضاً لأن حصول هذا السن في ذلك الجزء يمنع من حركة الفقرة الأولى يمنة ويسرة. وكونه أمامها، وملاقياً لأسفلها يمنع من حركة هذه الفقرة إلى قدام فذلك الحق.

واعلم أن هذه الفقرة لا حركة لها بدون الفقرة الثانية. والله أعلم.
البحث الثالث أحكام الفقرة الثانية من فقار العنق قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما الخرزة الثانية فلما لم يكن... إلى آخر الفصل.
الشرح قوله: فلما لم يكن أن يكون مخرج العصب فيها من فوق حيث أمكن لهذه إذا كان يخاف عليها لو كان مخرج عصبها كما للأولى أن ينشدخ ويترضض بحركة الفقرة الأولى.
الذي يظهر من هذا الكلام أن مخرج العصب في الفقرة الأولى من فوق وهذا قد أبطله في كلامه في الفقرة الأولى وهو ظاهر البطلان بما قاله في كلامه في الفقرة الأولى.
قوله: ولا أمكن من الجانبين وإلا كان ذلك بشركة مع الأولى ولكان الثابت دقيقاً.
هذا الكلام أيضاَ لا يصح لأنه بين أو لاً أن ثقبي الفقرة الأولى ليستا عن جانبيها ولو فرضنا أنهما على جانبيها لم يمكن أن يكون ثقبا الثانية بشركة الأولى.
قوله: وإذا تحرك الرأس مع مفصل إحدى الفقرتين صارت الفقرة الثانية ملازمة لمفصلها الآخر كالمتوحد حتى إن تحرك الرأس إلى قدام وخلف صار مع الفقرة الأولى كعظم واحد هذا بناءً على ما قاله أو لاً.
وهو أن حركة الرأس إلى قدام، وخلف هو بالمفصل الذي بين الفقرة الأولى والثانية. وقد أبطلنا ذلك. والله ولي التوفيق.

الفصل التاسع
تشريح فقار الظهر ومنافعها
قال الشيخ الرئيس رمة الله عليه فقار الظهر هي التي تتعلق بها الأضلاع.... إلى آخره.
الشرح قوله: فلما ذهبت جسومها في ذلك جعلت زوائدها المفصلية قصاراً. السبب في قصر هذه الزوائد ليس لإذهاب الجسوم في الأجنحة والسناسن بل أن تكون مفاصل هذه الخرزة إلى سلاسة ما فإن الحاجة إلى حركة أعلى الظهر أكثر كثيراً من الحاجة، إلى حركة أسافله.
قوله: فذهب الشيء الذي كان لأن يصرف إلى الجناح في تلك الزوائد هذا الكلام أيضاً عجيب. فإن المقدار المعد لكل فقرة من المادة، ليس يجب أن تكون على قدر معين حتى إذا صرف بعضه في شيء بقي الباقي عارياً عن شيء آخر والسبب في أن الفقرة الثانية عشرة بلا جناح هو أن يكون الإنسان خصر فهذا محسن للصورة ولأن تقليل الآلات إذا أمكن كان أولى وهذه الفقرة غير مضطرة إلى جناح لأن الضلع الذي يتصل بها صغير جداً والله أعلم بغيبه.
الفصل العاشر
تشريح فقرات القطن
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وعلى فقر القطن... إلى آخره.
الشرح قد قال جالينوس: إن فقرات القطن يوجد فيها ثقوب ظاهرة تنفذ فيها العروق، وهذه الثقوب تقل جداً أن توجد في غير هذه الفقرات وإذا وجدت في غيرها كانت خفية، وهي في هذه ظاهرة. وفي هذه الفقار أيضاً زوائد عند مخارج الأعصاب، وهذه الزوائد إلى أسفل. وتوجد في الفقرات الثلاث العلوية من فقرات القطن. وأما الفقرتان الأخريان فقد لا توجد فيهما هذه الزوائد وقد توجد فيها صغيرة. والله ولي التوفيق.
الفصل الحادي عشر
تشريح عظام العجز
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه عظام العجز ثلاثة... إلى آخره.
الشرح عظام العجز كأنها عظم واحد من ثلاثة أجزاء وعلى جانبيه زائدتان هما عظمان عريضان وفيهما من خارج حفرتان ليستا بالغائرتين، يتصل بهما عظما الخاصرتين. والله ولي التوفيق.
الفصل الثاني عشر
تشريح عظم العصعص
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه العصعص مؤلف... إلى آخره.
الشرح إن عبارة الكتاب في هذا ظاهرة بينة غنية عن الشرح. والله ولي التوفيق.
الفصل الثالث عشر
كلام كالخاتمة
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه في منفعة الصلب. قد قلنا... إلى آخره.
الشرح وعبارة الكتاب في هذا أيضاً ظاهرة غنية عن الشرح. والله ولي التوفيق.
الفصل الرابع عشر
تشريح الأضلاع
والكلام في هذا الفصل يشتمل على مباحث ثلاثة: البحث الأول منفعة الأضلاع جملة قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه الأضلاع وقاية لما يحيط به.... إلى قوله: ولما كان الصدر يحيط بالرئة والقلب.
الشرح

قد ذكرنا هنا من المنافع ما يتعلق بالأضلاع نفسها وما يتعلق بعددها. أما المتعلق بنفس الأضلاع فمنفعة واحدة: وهي أنها وقاية لما تحيط به من آلات التنفس، وأعالي آلات الغذاء. وهذه الوقاية لا شك فيها فإنها لصلابتها تمنع نفوذ المؤذي إلى هذه الآلات كالضربة والسقطة ونحو ذلك.
أقول: إن لها منافع أخر: أحدها: أنها ثخانة تنور البدن كالصلب لطوله، فكما أن الصلب أصل في الطول بحيث يكون طول تنور البدن مقدراً بطوله وكذلك الأضلاع بثخانة هذا التنور.
وثانيها: أن الصدر وما تحته لو خلى من الأضلاع أعني العظام التي فيه لكان ينطبق بعضه على بعض. وتتغير وضع أجزائه وتزاحم آلات التنفس والغذاء.
وثالثها: أن بعض الأحشاء، يتعلق بها بتوسط تعلقه بالغشاء المستبطن للصدر والبطن المتشبث بها، فتبقى مواضع تلك الأحشاء وأوضاعها محفوظتين.
ورابعها: أنه لو لا الاضلاع لكان تركيب تنور البدن غير قوي فيكون الصدر وما دونه سريع الانضغاط والانفعال عن المصادمات ونحوها.
وأما المنافع المتعلقة بعدد الأضلاع فقد ذكر منها ها هنا أربع منافع: المنفعة الأولى: أن الوقاية المحيطة بآلات التنفس وأعالي آلات الغذاء لو جعلت عظماً واحداً لانقلب، وذلك لأنها لو كانت عظماً واحداً لم يمكن أن يكون رقيقاً جداً، وإلا كان متهيأً للانكسار بأدنى سبب فلا بد، وأن يكون غليظاً، ويلزم ذلك أن يكون ثقيلاً.
ولقائل أن يقول: إن هذا الثقل يلزم سواء كانت عظماً واحداً أو عظاماً كثيرة متصلاً بعضها ببعض. فلو كان ذلك محذوراً لو جب أن لا يخلق الرأس من عظام متصلة بل من عظام كالأضلاع منفرج بعضها من بعض بل فعل ذلك في الرأس أولى لأن جعل الثقيل في الأعالي أسوأ من جعله فيما دون ذلك غاية ما في الباب أن يقال له: لو لم تجعل عظام الرأس متصلة لكانت الوقاية تقل.
فنقول: وفي الصدر كذلك أيضاً بل وجوب زيادة الوقاية ها هنا أولى لأن القلب أشرف كثيراً من الدماغ فيكون بوجوب الاعتناء به أكثر.
المنفعة الثانية: إن هذه الوقاية لو كانت عظماً واحداً لكان يكون مستعداً لسريان ما يعرض لجزء منه من الآفات كالكسر والصدع والعفونة، وذلك لا محالة رديء فجعلت من عظام كثيرة.
ولقائل أن يقول: إن سريان الآفات من جزء العظم الواحد إلى باقي أجزائه أهون كثيراً من وصول الآفات كالرماح والنشاب وغيرها من الأشياء الحادة النفاذة إلى القلب والرئة من الخلل الذي بين الأضلاع وإذا كان كذلك كانت خلقة الصدر من عظم واحد أقل مضرة من خلقته من أضلاع على هذه الهيئة.
المنفعة الثالثة: إن هذه الوقاية لو خلقت عظماً واحداً لما أمكن أن تتسع تارة وتضيق تارة أخرى، والصدر يحتاج إليه في ذلك فإنه يحتاج إلى أن ينبسط عند ازدياد الحاجة إلى الترويح على ما في الطبع وكذلك عند امتلاء المعدة وغيرها من الأحشاء غذاءً أو نفخاًً، فإن ذلك يزاحم الحجاب وغيره من آلات التنفس فيحتاج لذلك إلى اتساع الصدر ليتسع لمقدار الهواء الكافي.
المنفعة الرابعة: إنها لو خلقت عظماً واحداً لم يكن فيه فرج يتخللها عضل الصدر المعينة في آلات التنفس وما يتصل به كالصوت وبيان ذلك أن التنفس قد دللنا فيما سلف على وجه الاضطرار إليه وهو إنما يتم بحركة الرئة، والحجاب انبساطاً وانقباضاً لينجذب الهواء عند الانبساط لاستحالة الخلاء، ويندفع فضول الروح، وما يسخن من ذلك الهواء. فبطلت فائدته عند الانقباض وحركة الانقباض والانبساط.

قد بينا أنها لا تكون طبيعية بل ولا بد وأن تكون إرادية وكل حركة إرادية، فقد بينا فيما سلف من شرحنا للكتاب الأول أنها إما أن تكون عن إرادة طبيعية أو عن إرادة خفية. أو عن إرادة مطلقة وقد بينا أن حركة التنفس هي عن إرادة خفية. وكلما كان كذلك فإنما يكون بالعضل وكذلك كل ما يكون عن إرادة مطلقة فإذاً لا بد وأن تكون هذه الحركة بعضل ولأن هذا العضو الذي هو الصدر، وما يتصل به عضو عظيم جداً لا يمكن تحريكه بعضل قليل المقدار، قليل العدد فلا بد من عضلات كثيرة فلو جعل الصدر من عظم واحد أو من عظام يتصل بعضها ببعض كالحال في عظام الرأس لكانت هذه العضلات إما أن تكون من داخله فتضيق على القلب والرئة إلا أن يكون ذلك العظم أو العظام كثيرة جداً فيكون الصدر عظيماً جداً ثقيلاً أو يكون من خارجه فيلزم أن يكون الصدر أعظم مما هو عليه الآن بكثير فلم يبق إلا أن يكون من عظام كثيرة متفرقة لتكون هذه العضلات أماكن ينخلق فيها من غير أن يلزم ذلك زيادة في عضل الصدر ولا كذلك الحال في الرأس، فإنه لم يحتج فيه إلى هذه العضلات فلذلك خلق جميع محيط من العظام، وخاصة وهو عضو شديد اللين، شديد التضرر بما يلاقيه. فلو جعل في محيطه خلل وهو غائب عن حراسة الحواس لأمكن أن ينفذ فيه ما يفسد الدماغ، ويؤدي إلى الهلاك البتة.
وأقول: إنه لا يمكن أن يكون لتكثير هذه العظام وخلقها متباعدة منفعة أخرى، وهي أن الصدر بالقرب من مطبخ الغذاء، وفوقه وذلك مما يلزمه ارتفاع كثير من الأبخرة والأدخنة اللازمة للطبخ إليه، والحجاب، وإن خلق حاجزاً بينهما فهولا محالة ذو مسام فلا بد وأن ينفذ في تلك المسام قدر كبير من ذلك. فلو جعل الصدر من عظم واحد أو عظام، لكانت هذه الأبخرة والأدخنة تكثر فيه جداً وذلك مؤد إلى مزاحمة القلب والرئة، وإلى الإضرار به فلا بد وأن يكون بين عظامه فرج متسعة ليسهل تحلل تلك الأبخرة والأدخنة منها ولا كذلك الدماغ. فإن هذه الأبخرة والأدخنة إنما ينفذان إليه بعد مرورها بالصدر فإذا كان الصدر كثير الفرج لم يصل منها إلى الدماغ إلا اليسير جداً خصوصاً وأكثرها يتحلل أيضاً عند الترقوتين والكتفين فيكون مستغنياً عن زيادة الفرج بين عظامه. والله ولي التوفيق.
البحث الثاني هيئة الأضلاع والمنفعة في خلقتها كذلك قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه ولما كان الصدر يحيط بالرئة والقلب... إلى قوله: والأضلاع السبعة العليا تسمى أضلاع الصدر.
الشرح كل واحدة من آلات التنفس وآلات الغذاء، تفتقر إلى وقاية تحيط بها لكن هذه الوقاية، لو جعلت الآلات الغذاء محيطة من كل جهة، عرض من ذلك مضار: أحدها: أن هذه الآلات موضوعة في أسافل التنور فلو أحاطت الأضلاع بها من كل جهة تعذر على الإنسان الانثناء والانعطاف إلى قدام وإلى الجانبين، وفي ذلك من الضرر ما لا يخفى.
وثانيها: أن تناول الإنسان وغيره من الحيوان الغذاء إرادي وعن شهوة تدعو إلى ذلك فهو ما يعرض أن يكون ما يتناوله أزيد من المقدار الذي يحتمله تجويف هذه الأعضاء وحينئذٍ لا بد وأن يتمدد وأن يتسع بقدر تلك الزيادة فلو كانت الأضلاع محيطة من كل جانب لكانت: إما أن تكون أكثر من القدر الذي تملؤه تلك الأعضاء بقدر ما يكون تزيدها بالتمدد فيكون البطن كبيراً جداً مثقلاً أو لا يكون كذلك فيعرض لهذه الآلات تضرر شديد بالانضغاط وامتناع الاتساع لما يكون في داخلها.
وثالثها: أن تناول الغذاء لما كان إرادياً لم يلزم أن يكون المتناول منه هوا لذي يجود هضمه واستمراؤه بسرعة بل كثيراً ما يكون غليظاً منفخاً ويلزم ذلك حدوث الرياح والنفخ في داخل هذه الآلات وخصوصاً إذا كان قد عرض لها ضعف ويلزم ذلك أن يتمدد ويكثر تجويفها فلو كانت الأضلاع تحيطها من كل جهة لعرض من ذلك ما قلناه فلا بد إذن من تخلي بعض الجهات عن إحاطة الأضلاع بها فإما أن تكون تلك الجهة هي جهة قدام أو لا تكون كذلك.

والثاني: يلزمه أن تكون تلك الجهة غائبة عن حراسة الحواس فتكون هذه الآلات معرضة لحصول الآفات من تلك الجهة كثيراً فلا بد وأن تكون تلك الجهة هي قدام البدن. فاضطر إلى أن تكون الأضلاع المحيطة بآلات الغذاء منقطعة من قدام، وينبغي أن يكون انقطاعها ذلك بتدريج ليكون على الهيئة التي لا بد منها في التمكن من الانثناء والانعطاف واتساع الموضع ليزيد هذه الآلات لتكون في ذلك مراعاة هذه المنفعة أمر الاحتياط والوقاية ولا كذلك الأضلاع المحيطة بآلات التنفس فإنها موضوعة في أعالي تنور البدن حيث لا يمنع حركة الانثناء والانعطاف ولأن تلك الآلات لا تفتقر إلى تزيد مقدارها كما تحتاج إليه آلات الغذاء فإن أخذ الهواء بالاستنشاق وإن كان إرادياً إلا أن الازدياد منه ليس مما يلتذ به بزيادة الغذاء، فلا يكون هناك ما يدعو إلى التزيد من الاستنشاق كما من جذب الغذاء فلا تفتقر تلك الآلات إلى أن يزداد عظمها بزيادة كثيرة فلذلك جعلت الأضلاع الواقية لها محيطة بها من كل جهة خصوصاً وزيادة شرف هذه الآلات تحوج إلى زيادة الاحتياط عليها فلذلك لم تخلق أضلاعها منقطعة.
قوله: فخلقت الأضلاع السبعة العليا مشتملة على ما فيها ملتقية عند القص محيطة بالعضو الرئيسي من كل جانب الأضلاع عددها أربعة وعشرون ضلعاً من كل جانب اثنا عشر، وليس كما يقال إن النساء نقصن ضلعاً أو أزيد، فإن ذلك من الخرافات وعشرة منها محيطة بآلات الغذاء من كل جانب خمسة، وأربعة عشر محيطة بآلات التنفس، وإنما كانت هذه أكثر مع كون آلات الغذاء وأكبر وذلك لأن هذه الأضلاع ليست تحيط بجميع آلات الغذاء لأن ذلك مما يمنع الانثناء والانعطاف بل إنما يحيط بأعاليها فقط، وذلك المكان يحتوي على أقل من آلات التنفس وأصغر، وأما لم البرهان جعل كل واحد من هذين النوعين بهذا العدد المخصوص فلم يظهر لي إلى الآن، وكأنه مما لا يمكن البرهان عليه وإنما احتيج أن تكون أضلاع الصدر ملتقية عند القص. وكان يمكن أن يتصل كل واحد منهما بنظيره من الجانب الآخر فتتم الإحاطة مع الخفة.
السبب في ذلك أن هذه الأضلاع يحصل لها بعظام القص اتحاد واعتضاد فيشتد بعضها ببعض.
قوله: فكأن أعلاها أقرب مسافة ما بين أطرافها البارزة يعني أن التفاوت في أطوال العالية من أضلاع آلات الغذاء أقل من التفاوت في أطوال السافلة منها وسبب ذلك أن يكون انعطافها على هيئة قطعة من دائرة فإن ذلك أكثره ليناً لسهولة حركة الانثناء والانعطاف إلى قدام، وأبعد عن منال الآفات. والله ولي التوفيق.
البحث الثالث هيئة أضلاع الصدر والبطن

جملة وتفصيلا
ً
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه والأضلاع السبعة العليا تسمى أضلاع الصدر... إلى آخر الفصل.
الشرح إن الحيوانات تختلف بحسب هذه العظام فمنها ما ليس له في هذه المواضع عظم البتة

كالدود والمحززات ونحوها. ومنها ما يكون له هناك عظام كثيرة كالأضلاع، وهذه إما أن تكون بجملتها على هيئة الاستدارة فيكون الصدر عريضاً، وذلك هو للإنسان خاصة والفيل يقرب من الإنسان في ذلك، أو لا يكون كذلك، وذلك كجميع الماشية، وإنما خلق الإنسان كذلك لأن هذا الشكل أو سع وأقل قبولاً للآفات، وإنما حرم ذلك باقي الحيوانات لأنها تحتاج إلى دقة الصدر، إما ليكون البعد بين أيديها قريباً فتتمكن من قوة الثبات عليها والمشي وذلك كذوات الأربع الماشية عليها. وإما لتستعين بذلك على جودة الطيران كما في الطيور، فإن دقة صدورها وهو الجؤجؤ يسهل عليها خرق الهواء عند الطيران، وإما لتستعين بذلك على جودة السباحة كما في السمك ولذلك جعل مقدم السفينة دقيق الأسفل جداً ليكون خرقه للماء في الحركة أسهل. وأضلاع الصدر بجملتها على شكل قريب من الكرى لما عرفته من المنافع فلذلك يكون الوسطان منها أطول من كل جانب فوق وأسفل ثلاثة متطاولة أي يبتدئ من قصر إلى طول فيكون الذي على الضلعين الطويلين أطول مما بعده، وكذلك حتى تنتهي إلى الأقصر إذ بهذه الهيئة تقرب من الكرة. ومع ذلك فمساحة الصدر ما بين قدام وخلف أقل ما بين الجانبين، وسبب ذلك أن له فيما بين الجانب من خلف عظام الصدر، ومن قدام عظام القص والأضلاع من كل واحد منها على هيئة نصف دائرة فيتسع ما بين الجانبين لا محالة لو جود الفاصلة بين رؤوس الأضلاع وهي الفقرات من خلف والقص من قدام وحكمة ذلك أن يكون ما بين الثديين كثير السعة لتكون جهات الحركات لهما متسقة، وكل واحد من الأضلاع مع كونه محدباً إلى الوحشي، مقعراً إلى الأنسي ففيه أيضاً تحديب إلى أسفل، وتقعير إلى فوق، ويأخذ في التحديب إلى أسفل من حين يفارق المفصل الذي عند الصلب ويرجع طرفه الآخر إلى فوق عند قريب مفصله مع القص، وإنما كان كذلك لأمرين: أحدهما: ليكون أطول فإن المستقيم أقصر الأبعاد، وما هو أبعد عن الاستقامة يكون لا محالة أطول، والحكمة في زيادة طوله التمكن من زيادة اتساع المكان.
وثانيهما: لتكون وقاية كل ضلع أكبر لأنه يمر في مواضع مختلفة ويوقي ما هو داخل لكل موضع منها، وثخانة كل ضلع أقل من عرضه لأن ثخانته إنما يقصد بها القوة، وما هي عليه من الثخانة كافٍ في ذلك، وأما زيادة العرض لأجل زيادة الوقاية، وذلك هو المقصود من الأضلاع، فيجب أن يكون بأعظم مقدار يمكن أن تكون عليه الأضلاع.
قوله: ويدخل في كل واحد منها زائدتان في نقرتين غائرتين في كل جناح من الفقرات تشبه أن يكون هذا غلطاً من النساخ. والصواب: أن يقال: في نقرتين غائرتين وذلك لأن الزائدتين غير طويلتين، اللهم إلا أن يكون المراد بقوله غائرتين مطلق الغور لاما هو المفهوم في عادة الأطباء. وإنما جعل هذا المفصل بزائدتين لأن الأضلاع تحتاج أن تكون لها حركة يسيرة ليتمكن اتساع الصدر والبطن عند الحاجة إلى ذلك وضيقهما عند فقدان الحاجة إلى الاتساع، فلم يمكن أن يكون هذا على هيئة اللزاق أو الدرز فإذاً: إنما يمكن أن تكون على هيئة الركز تكفي فيه زائدة واحدة، ونقرة واحدة، وإلا كان الضلع متهيئاً لأن يدور في مفصله ضرورة أن هذا المفصل غير موثق، وذلك عند ضربة تتفق على جرمه ونحو ذلك، ويلزم ذلك تضرر اللحم والعضل المحيط به، ولا بد وأن تكون زوائده، ونقره كثيرة، والاثنتان من ذلك يكفي في العرض فيجب أن لا يزاد عليهما، ولا بد وأن تكون الزائدتان غير طويلتين والنقرتين غير غائرتين، وإلا كانت حركة الضلع تتعذر، ويكون المفصل موثقاً، وهيئة هذا المفصل له من كل ضلع، ففي طرفه من فوق زائدة لها غلظ ما، وهي مستديرة غير طويلة تدخل في نقرة من جناح الفقرة غير غائرة على سعة تلك الزائدة، فيركب الضلع على ذلك الجناح فإذا انتهى إلى طرفه برزت منه زائدة أخرى أدق وأصغر من التي فوقها تدخل في نقرة في طرف الجناح على سعتها فيحدث من ذلك لكل ضلع مع الجناح الذي يركب عليه مفصل مضاعف.

قوله: وكذلك السبعة العاليا مع عظام القص معناه أن الأضلاع العالية التي هي سبعة من كل جانب لكل واحد منها عظم من عظام القص مفصل هو كذلك أي هو مضاعف أي من زائدتين تدخلان في نقرتين وفي كلام جالينوس ما يدل على أن هذا المفصل هو برأس واحد يدخل في نقرة غير غائرة أي قليلة الغور، وأما الأضلاع الخمسة القصار، فأطرافها غضاريف تتصل بالحجاب اتصال التحام، وأطراف الأربعة العليا منها متصلة بعضها ببعض والله ولي التوفيق.

الفصل الخامس عشر
تشريح عظام القص
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه القص مؤلف... إلى آخره الشرح قد علمت أن الغرض بعظام القص هو تقوية تركيب الأضلاع بعضها مع بعض حتى تكون متصلة من خلف ومن قدام، والأضلاع التي تتصل به سبعة أزواج، فينبغي أن يكون هذا العضو من سبعة عظام ليتصل بكل زوج أعظم، ولم يجعل الكل عظماً واحداً طويلاً، وذلك لأمرين: أحدهما: أن لا تعم الآفة العارضة.
وثانيهما: ليكون له أن يتحرك شبيه حركة الأضلاع في انبساط الصدر وانقباضه.
فإن قيل: إن حركة هذه العظام محال.
أما أو لاً: فإن مفاصلها موثقة، فتكون حركة أحد عظميها دون الآخر محالاً.
وأما ثانياً: فلأن هذه العظام إنما يتصل بعضها ببعض بغضاريف يتوسط بينهما يلتزق كل عظمين منها بغضروف بينهما، ومعلوم أن ذلك مما لا يمكن معه حركة أحد العظمين بدون الآخر. وجوابه: إن هذه الحركة ليست كحركة أحد عضوي مفصل بل بأن ينعطف الغضروف الذي بين العظمين تارةً، ويستقيم أخرى، وذلك لأن الغضاريف بينها لا يمتنع عليها الانعواج اليسير فبهذا الوجه يمكن حركة عظام القص ولا ينافي ذلك أن تكون عظامه ملتصقة بالغضاريف، ولا أن تكون مفاصله موثقة، وشكل هذا العضو بجملته شبيه بشكل السيف. فلذلك يسميه بعضهم سيفاً، وبعضهم إنما يسمي بذلك الغضروف الذي في أسفله الذي يسمى في المشهور: خنجراً. وفائدة هذا الغضروف أمران: أحدهما: أن يحجب الجلد عن ملاقاة آخر عظام القص يتألم بصلابتها.
وثانيهما: أن يكون وقاية لفم المعدة فإنه موضوع هناك. ووصول الصدمات والضربات ونحوها إليه شديد الإضرار به فخلق هذا الغضروف وقاية له، كالحال في عظمي الزوج لعضلات الصدغين. والله ولي التوفيق.
الفصل السادس عشر
تشريح الترقوة
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه الترقوة عظم موضوع... إلى آخر الفصل.
الشرح قال جالينوس: إن اتصال هذا العظم بالقص هو بمفصل سلس. وهذا مشكل فإن المفصل إنما يخلق سلساً إذا احتيج أن يكون لأحد عظميه وحده حركة ظاهرة وحده وذلك مما لا يحتاج إليه ها هنا ولا نشاهد له هذه الحركة فوجب أن يكون مفصلاه، وهما اللذان عند طرفيه موثقين ليكون التركيب أقوى وأحكم.
وأما هيئة هذا العظم فهو أنه كأنه قوس صغير من دائرة عظيمة، ويكون في أو له عند القص مستديراً، وإذا قرب الكتف أخذ في الاستعراض، وهناك يكثر تحدبه إلى الخارج والظاهر أن اتصاله بالقص بلزاق، إذ لم أجد فيه زائدة من شأنها أن تدخل في نقرة. وأما اتصاله بالكتف فسنذكره في تشريح الكتف قوله: يخلي عند النحر بتحديبه وفي بعض النسخ بتقعيره والكل جائز لأنه هناك يتحدب إلى خارج ويتقعر إلى داخل. والله ولي التوفيق.
الفصل السابع عشر
تشريح الكتف
والكلام فيه يشتمل على ثلاثة مباحث: البحث الأول منفعة عظم الكتف قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه الكتف خلق لمنفعتين... إلى قوله: والكتف يستدق من الجانب الوحشي.
الشرح قد ذكر الشيخ لهذا العظم منفعتين: إحداهما: أن يتعلق به العضد، فإنه لو علق بالصدر بغير هذا العظم وما يقوم مقامه، فقدت اليد سلالة الحركات، وضاق ما بين اليدين فلم تجد حركاتها إلى جميع الجهات.

وثانيتهما: لتكون وقاية حريزة للأعضاء المحصورة في الصدر، وبيان هذا أن الأضلاع تستدير حول الصدر فوقايتها هي بتلك الإحاطة. وأما ما هو أعلى منها فلا مدخل لها في توقيته لكن خرزات العنق وأعلى القص والرأس يوقى وسط أعلى الصدر وقاية ما. وأما جانباه، فلا يحصل لهما بذلك وقاية يعتد بها، فاحتيج إلى عظم الكتف ليكون كالستارة لمؤخر ذلك الموضع، فيقوم في ذلك مقام الفقرات من خلف، وأما مقدم ذلك الموضع فيتستر بعظم الترقوة، وإنما جعل كذلك لأن جهة المؤخر غائبة عن حراسة الحواس، فاحتيج أن تكون وقايتها أتم، فلذلك جعل هذا الساتر من خلف أعظم، واكتفى من جهة المقدم بالترقوة، ومع صغرها وخصوصاً ورأس عظم الكتف يميل إلى قدام فيعين عظم الترقوة على التوقية.
وأقول: أن لهذا العظم منفعة أخرى، وهي تحسين الخلقة، إذ لو لاه لبقي موضعه غائراً جداً فكان يكون سطح الظهر مستهجناً. والله ولي التوفيق.
البحث الثاني صورة هذا العظم قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه الشرح إن هذا العظم في صورته كأنه مثلث مركب من مثلثين أحدهما: وحشي، والآخر: أنسي ويسمى جملة هذا العظم المثلث العظيم، ويسمى جزؤه الوحشي المثلث الوحشي، وجزؤه الأنسي المثلث الأنسي والمثلث العظيم ليس سطحه بمستوٍ، بل وكأنه مركب من المثلثين على زاوية ومنفرجة جداً.
والخط المتوهم بينهما ما بين رأس المثلث العظيم، وبين طرفي قاعدتي المثلثين اللذين هما جزءاه. وحدبة هذا المثلث العظيم إلى خارج. وتقعيره إلى داخل، أعني داخل البدن. والمثلث الأنسي كبير جداً بالنسبة إلى الوحشي وضلع المثلث العظيم الأنسي وقاعدته طويل جداً بالنسبة إلى ضلعه الوحشي وقاعدته ليست خطاً مستقيماً، بل كأنها ضلعاً مثلث منفرج الزاوية جداً.
وأحدهما وهو الأنسي قاعدة المثلث الأنسي، وهو طويل بالنسبة إلى الآخر الذي هو قاعدة المثلث الوحشي، والمثلث الأنسي قائم الزاوية التي يوترها الضلع الأنسي من المثلث العظيم، والمثلث الوحشي حاد الزاوية التي يوترها الضلع الوحشي من المثلث العظيم، وضلعا المثلث العظيم ليسا يلتقيان على نقطة بل إذا قربا من الالتقاء امتدا على هيئة خطين متوازيين، ويقطعان بذلك قريباً من عرض إصبعين ثم ينفرجان فيكون العظم موضع توازيهما أدق، وأعلاه أغلظ وفي أعلاه الحفرة التي يدخل فيها رأس العضد، وعلى الخط المتوهم وهو المشترك، وبين المثلثين أعني الوحشي والأنسي عظم يشبه المثلث قاعدته عند رأس المثلث العظيم وزاويته عند ملتقى قاعدة المثلث الوحشي بقاعدة المثلث الأنسي.
وأجزاء عظم الكتف مختلفة جداً في الرقة والغلظ، وما سوى مواضع الأضلاع فهو رقيق جداً، وفي المثلث الأنسي نتوءان يمران كالضلعين أحدهما يتصل بالضلع الذي يوتر الزاوية القائمة، والآخر لا يتصل به بل ينقطع دونه بقدر عرض إصبعين، وبعد الأول منهما على الزاوية القائمة قدر عرض إصبعين وبين الضلعين قدر عرض إصبعين أيضاً. وأما المثلث الذي على ظهر المثلث العظيم فأرقه أو سطه وعند أعلى الضلع الوحشي جزء يضيق عن طرف الخنصر قليلاً، ويغور قدر عرض إصبع ونصف، وأسفله مستدير وأعلاه ضيق والضلع الأعلى من المثلث الذي على ظهر المثلث العظيم يميل إلى الجانب الأنسي، ويغلظ عند قاعدته، ويخرج من الجانب الوحشي من رأس الكتف على حافة الحفرة زائدة إلى جانبه الوحشي وإلى فوق قليلاً، وينتؤ لها عنق دقيق عند أو ل خروجها فإذا بعدت قدر ثخن إصبع غلظت وصعد لها رأس على طرف أنملة يتحدب إلى الوحشي ويتقعر إلى الأنسي ويخرج أيضاً من الجانب الوحشي عند قاعدة المثلث الذي على ظهر المثلث العظيم من الضلع الأعلى من ذلك المثلث زائدة تطول حتى تحاذي رأس الكتف أو تتعداه بقدر ثخانة إصبعين ثم يميل إلى الجانب الوحشي، فيخرج إليه قدر ثخانة إصبعين أيضاً وعرض هذه الزائدة قدر عرض إصبع ونصف أعني بذلك من أصابع الإنسان.
قوله: والكتف يستدق من الجانب الوحشي، ويغلظ. أما دقته فلأن الموضع المحتاج فيه هناك إلى الوقاية صغير، ولا كذلك موضع باقي أجزائه وأما غلظه فليكون قوياً ليمكن أن يخلق فيه مفصل اليد، وأما زيادة ثخانة طرفيه فلأجل النقرة التي فيه ليكون مكانها متسعاً.

قوله: ولها زائدتان إحداهما من فوق وخلف وتسمى الأخرم ومنقار الغراب أما الزائدة التي ذكرنا أنها تبرز من رأس الكتف فهي التي يسميها قوم: الأخرم. وقوم: منقار الغراب.
وأما التي تبرز من الضلع الأعلى من المثلث الذي على ظهر الكتف فقوم يسمونها: قلة الكتف، وقوم يجعلون قلة الكتف اسماً لتركيب هذا العظم مع عظم الترقوة وقوم آخرون يقولون: قلة الكتف اسم لعظم لا يوجد إلا في الإنسان.
قوله: ثم لا يزال يستعرض كلما أمعنت في الجهة الأنسية ليكون اشتمالها الوافي أكبر لا شك أن ما قرب من العنق فإن الفضاء الذي يكون بين الأضلاع أكبر وأوسع، فيكون محتاجاً إلى وقاية أكثر عند راس الكتف فإن هناك يكون ذلك الفضاء ضيقاً جداً، وأخذ هذا الموضع من السعة إلى الضيق بتدريج. فلذلك يجب أن تكون هذه الوقاية على هيئة مثلث، وإنما جذب من أعلاه ليكون أقوى لأنه يكون كالسقف الكرى وهو ولا شك أقوى من المسطح. وأما المثلث الذي على ظهر هذا العظم فليكون له كالسنسنة حتى لا يصل إليه أذى المصادم والصاك. وعلى الكتف غضروف يغشيه في مواضع كثيرة، وأكثره في طرف قاعدته، ولهذا العظم اتصال بعظام كثيرة بأربطة تصل بينها وبين هذه العظام، وهي الجدار الرابع من عظام الرأس، وشوك الصلب والأضلاع والعظم الذي عند أعلى الحنجرة. والله ولي التوفيق.
البحث الثالث هيئة ارتباط الكتف بالترقوة إن الترقوة كما قلنا تستعرض كلما أمعنت في الجهة الوحشية، ثم يدخل طرفها بين الزائدتين اللتين ذكرناهما: وهما قلة الكتف، والأخرم.
ويرتبط بروابط قوية، ونحن نذكر هيئة هذه الروابط في ذكرنا تشريح العضد والجزء الذي ذكرناه في الكتف، وهو الذي في أعلى ضلعه الوحشي، فائدته أن تدخل فيه بعض الأربطة الشادة. وهذا المفصل موثق من جملة اللزاق.

الفصل الثامن عشر
تشريح العضد
والكلام فيه يشتمل على ثلاثة مباحث: البحث الأول تشريح العضد مع الكتف قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه عظم العضد خلق مستديراً... إلى قوله والعضد مقعر إلى الأنسى محدب الشرح إن عظم العضد له مفصلان أحدهما من أعلاه، وهو مفصل مع الكتف، والآخر من أسفله، وهو مفصل مع الساعد. ومفصله الكتف برأس غليظ يدخل منه في حفرة الكتف، وعنق هذا الرأس قصير. لأن حفرة الكتف ليست بغائرة كثيراً، وأعلى هذا الرأس مستدير ليتهندم في تلك الحفرة، وخلق عظيماً غليظاً ليمكن أن يحيط به أربطة كثيرة فإن الرقيق لا يتسع كما يتسع له الغليظ وإنما احتيج إلى تكثير أربطة هذا المفصل لأن اليد معلقة وثقلها وثقل ما تحمله يجعل ميلها إلى ضد جهة اتصالها بالكتف. وخصوصاً وحفرة الكتف غير غائرة فيكون خروجه منها سهلاً فاحتيج إلى أن يقوى ذلك بكثرة الأربطة، وإنما كانت هذه الحفرة غير غائرة لئلا تمنع حركة اليد إلى فوق، وإلى أسفل، وإلى الجانبين بسهولة.
قال جالينوس: وفي هذا الرأس حفر عظيم عريض كالجزء في مقدمه يقسم ذلك الرأس إلى قسمين كالرمانتين.
أقول: إن فائدة الرمانة التي تبقى خارجة من الحفرة أن يتمكن بها من شدة الربط. وهذا المفصل مع كثرة روابطه وشدتها رخو أي ليس يضم رأس العضد إلى داخل الحفرة شديداً. أما كثرة أربطته فليكون تعلق اليد قوياً كما قلنا. وأما الرخاوة فقد جعل الشيخ سبب ذلك حاجة وأماناً. أما الحاجة فلشدة حاجة هذا المفصل إلى سلاسة الحركة، وإنما كان كذلك لشدة حاجة يد الإنسان إلى التحرك إلى جهات مختلفة متباعدة جداً. وذلك ليتمكن من جميع الأعمال والصنائع بسهولة. وأما الأمان فلأن حركة هذا المفصل ليست دائمة أو في أكثر الأحوال تكون حركة اليد بمفاصل أخر إذ تكون أجزاؤها متحركة كالساعد والكتف. ويكون العضد ساكناً، ولهذا المفصل أربعة أربطة: أحدها: غشائي يحيط بالمفصل وفائدة خلقه كذلك أن يكون تشبثه بجميع أجزاء رأس العضد وحفرة الكتف، فيكون أشد هذه الأربطة منعاً من الانخلاع.
وثانيها: مستعرض الطرف، ويشتمل أيضاً على طرف العضد.

وثالثها: أعظم من الأول وأصلب، أما أنه أعظم فلأن الأول لو خلق عظيماً لكان يحول بين رأس العضد وبين جرم الكتف بقدر كبير فكان يوجب خروج ذلك الرأس من الحفرة لأن غورها قليل جداً، وأما أنه أصلب فلأن الأول احتيج فيه إلى اللين ليطاوع على سلاسة الحركة. لأنه لو كان مع تشبثه بجميع أجزاء هذا الرأس الحفرة صلباً لم يمكن تمدد أجزاؤه بحسب ما تقتضيه الحركات تمدداً سهلاً. وإنما وجب تطويل هذا الرباط لأنه لصلابته لا يسهل تمدده بحسب حاجة الحركات، فاحتيج أن يكون طويلاً ليكون التمدد اليسير جداً من كل جزء كافياً في الغرض بسبب كثرة تلك الأجزاء، فلذلك أصعد هذا الرباط من الزيادة المتقاربة إلى ذلك الجزء ليطول، وليكون التشبيث بعظم الكتف أكثر فيكون تعلق اليد به أقوى.
رابعها: ينزل مع هذا الثالث من ذلك الجزء، وهذه الأربطة الثلاثة تنزل إلى عظم العضد من الزيادة التي ذكرناها في عظم الكتف، وسبب ذلك أن جرم هذه الزيادة أغلظ من الكتف فيكون أقوى فلا يهن بحمل اليد وثقلها. والله ولي التوفيق البحث الثاني هيئة عظم العضد قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه والعضد مقعر إلى الأنسى محدب... إلى قوله: وأما طرف العضد السافل فإنه قد ركب.
الشرح هذا العظم هو أكبر عظام البدن بعد عظم الفخذ، وخلق مستديراً أي اسطوا نياً ليكون أبعد عن قبول الآفات، ولأنه ليس حصول زاوية فيه في جهة أولى من غيرها. وله تجويف واحد يحوي المخ فائدته ما ذكرناه في كلامنا الكلي في العظام، وهذا التجويف كما أنه في الوسط من طوله لأن هذا العظم يفقد التجويف من الجانبين لتجمع أجزائه من الجهتين فيشتد ويقوى، وأدق أجزائه أو سطه وهو موضع التجويف. لأن الطرفين احتيج إلى زيادة على غلظهما ليمكن فيهما حدوث المفصلين اللذين لهما العظم، ولذلك جعل وسطه شديد الصلابة ليتدارك بذلك ما توجبه الدقة والتجويف من الضعف. وأما طرفاه فمتخلخلان للاكتفاء بقوتهما في الغلظ وليسهل نفوذ الغذاء إلى عمق كل واحد منهما وإلى موضع المخ الذي في تجويف الوسط. ولهذا العظم تقعير إلى الجهة الأنسية، وتحديب إلى الجهة الوحشية، وقد ذكر الشيخ لذلك ثلاث منافع: إحداها: أن يكون تحديبه مسكناً لما يوضع عليه من العضل والعصب والعروق. ومعنى ذلك أن هذه الأعضاء تكون كالمدفونة في التقعير فلو كان مستقيماً لكانت هذه الأعضاء تصير باردة ثابتة، فتكون معرضة لو صول الآفات إليها.
وثانيتها: أن يجود تأبط الإنسان لما يتأبطه. ومعنى ذلك أن العضو يكون حينئذ عند حمل الشيء تحت الإبط كالمشتمل على ذلك المحمول.
وثالثتها: أن يجود إقبال إحدى اليدين على الأخرى، ومعنى ذلك أن تكون اليدان عند اشتمالهما على الشيء الكثير جداً كالمشتملتين عليه من كل جهة لأن العضدين يكونان حينئذ كأنهما قوساً دائرة عظيمة. ولا كذلك لو كانا مستقيمين، وهذا مشكل فإن التقعير الذي يكون به العضدان حينئذ كذلك غير التقعيرين اللذين بهما يجود التأبط فلا تكون هذه المنافع لشيء واحد، وذلك لأن العضد مع تقعيره من جهة أنسى البدن هو أيضاً مقعر من الجهة الأنسية له، وهي الجهة لتي بها تواجه الإبط. والله أعلم بغيبه.
البحث الثالث هيئة الطرف السافل من العضد قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما طرف العضد السافل فإنه ركب... إلى آخر الفصل.
الشرح

إن في هذا الطرف من العضد زائدتين كالرمانتين، وليستا بمتلاصقتين كما قال الشيخ بل بينهما جزء مستعرض كجزء البكرة إلا أنه غير عميق والأنسية منهما أعظم يسيراً من الوحشية، وهي في الرؤية أعظم منها كثيراً. لأن هذه لا مفصل لها مع شئ إذ الزند الأسفل ركب على الجزء الذي بين الزائدتين والزند الأعلى يدخل رأسه في حفرة في رأس الزائدة الوحشية فتبقى هذه الزائدة الأنسية خارجة عن العظمين فتظهر كبيرة. وفائدتها توقية العصب والعروق التي تمر هناك، وليتم بها تكون الجزء لأنه إنما يتكون بين جسمين مرتفعين عليه. وهاتان الزائدتان ليستا على استقامة العضد بل مائلتان جداً إلى جهة مقدم العضد حتى لو قطع مقدمه في طوله بسطح لم يمر ذلك السطح بشيء من تلك الزائدتين بل كان يقع تحتهما. وفي طرف الجزء الذي بينهما حفرتان يدخل فيهما طرفا تقعير الزند الأسفل المحددان وهاتان الحفرتان تبتدئان من سعة إلى ضيق بالتدريج، فلا تكونان على هيئة تقعير كرى بل على هيئة مخروط، وأعظم هاتين الحفرتين هي الحفرة التي على ظهر العضد وليس حفرها بتمام الاستدارة بل مؤخرها، وهو الأبعد عن الجزء مستقيم كالجدار فيكون شكلها كمخروط قطع منه قطعة من مؤخره بسطح مستوٍ، وفائدة ذلك أن يمنع حركة الساعد إلى خلف العضد حتى لا تختل استقامة اليد فلا تضعف وذلك عند الحاجة إلى استقامتها.
وأما الحفرة التي في باطن العضد فمسواة مملسة قاعدتها وهي حيث ابتداء الحفرة أكثر استدارة من التي للأخرى.
قوله: من فوق إلى قدام، ومن تحت إلى خلف يريد أن اليد إذا كانت منبطحة حتى يكون الكف متوجهاً إلى فوق كانت الحفرة التي هي حينئذ من فوق هي قدام الجزء والتي هي حينئذ من تحت هي خلف الجزء على هذه الهيئة تكون الزائدتان والجزء الذي بينهما مائلان إلى فوق كثيراً، وفائدة زيادة هذا الميل أن يتمكن من مقاربة الساعد للعضد عند حركة اليد إلى الالتقاء أعني ملاقاة الساعد للعضد. والله ولي التوفيق.

الفصل التاسع عشر
تشريح الساعد
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه الساعد مؤلف من عظمين... إلى آخر الفصل الشرح إن الساعد، وهو ما بين العضد والرسغ، يحتاج فيه إلى حركتين إحداهما: انقباض اليد وانبساطها.
والأخرى التواؤها وانبطاحها.
وليس يمكن أن تكون الحركتان بمفصل واحد لاختلاف جهتهما فلا بد من مفصلين. وهذان المفصلان لا يمكن أن يكونا في عظم واحد وإلا افتقر أن يكون غليظاً جداً، فيكون مثقلاً لليد، وذلك معسر للحركة، فاحتيج أن يكون ذلك من عظمين، فلذلك كان الساعد مركباً من عظمين: أحدهما عظيم وهو الأسفل، ويسمى الزند، والآخر صغير وهو الأعلى ويسمى الزند الأعلى، والأسفل هو بالحقيقة المقدم للساعد، وأما الأعلى فإنما احتيج إليه ليتم مفصل الالتواء والانبطاح كما عرفته، وقد جعل الشيخ السبب في أن الزند الأسفل أعظم هو أنه حامل، والحامل يجب أن يكون أعظم من المحمول.
وأقول: إن لذلك سبباً آخر، وهو أن الحركة التي تحتاج فيها اليد إلى قوة قوية إنما هي حركة الانبساط والانقباض، إذ بهذه الحركة يتم جر الأثقال ونحو ذلك، وإذا كان كذلك احتيج أن يكون عظمها أقوى، وإنما يكون كذلك إذا كان أعظم وكل واحد من الزندين فإنه غليظ في طرفيه ودقيق في وسطه لما قلناه في العضد، وهو أن الطرف يحتاج فيه إلى زيادة الغلظ ليمكن حدوث المفاصل، ولتكثر مواضع الربط، ولا كذلك الوسط، فيكون على القدر الذي يحتاج إليه العظم من القوة.
وإذا كان كذلك فلا بد وأن يبقى بين الزندين عند وسطهما خلو تنفذ فيه العروق والأعصاب من جانب إلى مقابله. وأما طرفاها فمشدودان برباطات تشد أحد العظمين بالآخر، وخلق الزند الأسفل مستقيماً لأنه ذلك أولى في حركة الانبساط والانقباض. وأما الزند الأعلى فخلق مكبوباً على الأسفل يأخذ من الجهة الأنسية إلى الوحشية لأن هذه الجهة أعون على حركة الالتواء والانبطاح.
قوله: ودقيق الوسط من كل واحد منهما لاستغنائه بما يخف من العضل الغليظة عن الغلظ المثقل هذا إنما يصح إذا كان الغرض من مقدار عن العظم أن يكون العضو الذي فيه على مقدار من الغلظ حتى يكون ذلك المقدار إذا حصل بغير العظم استغنى العظم بذلك الغير عن أن يكون في نفسه غليظاً.

ومعلوم أن الغرض ليس هو كذلك بل أن يكون العظم على مقدار من القوة التي يحتاج إليها في ذلك، بل السبب في ذلك ما قلناه، وهو أن غلظ الطرفين احتيج إليه ليمكن حدوث المفصل فيهما وغير ذلك من الأغراض، وأما غظ الوسط فلا يحتاج إليه لأن هو متنف في الوسط، وقد جعل الشيخ السبب في غلظ طرفي هذين الزندين أموراً: أحدها: حاجتها أي حاجة الأطراف إلى كثرة نبات الروابط منها، وذلك لأن الموضع الغليظ أو سع لنبات ما ينبت منه من الدقيق.
ثانيها: كثرة ما يلحق الأطراف من المصاكات والمصادمات العنيفة عند حركات المفاصل، وخصوصاً عند الحركات القوية كما عند اللكم ونحوه.
وثالثها: تعري الأطراف من اللحم والعضل فلو جعلت مع ذلك دقيقة لاختلف ثخن العضو فكان وسطه غليظاً لأجل ما عليه من اللحم والعضل. وطرفاه رقيقين لتعريه منهما. ولكن هاهنا سؤال: وهو أنه لقائل أن يقول : إن تعري الأطراف عن اللحم إنما كان لأجل غلظ عظامها حتى لا يكون طرفا العضو غليظين، ووسطه دقيقاً، وحتى لا يكون الأطراف مع غلظ عظامها ملبسة باللحم كثيراً والعضل، فيعرض من ذلك ثقل الطرفين جداً. وإذا كان كذلك فلم قلتم إن العظام إذا كانت عند الأطراف مساوية في الثخن كما عند الوسط أن يكون اللحم والعضل يكون فيها على ما هو الآن؟ وذلك لأن المانع من تلبيس الأطراف حينئذ باللحم والعضل يكون قد ارتفع، وذلك يمنع من اختصاص اللحم والعضل بموضع الوسط. والله أعلم.

الفصل العشرون
تشريح المرفق
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما مفصل المرفق فإنه يلتئم من مفصل ... إلى أخره الشرح مفصل المرفق تتم به حركتان: إحداهما حركة انبساط اليد وانقباضها.
والأخرى حركة التوائها وانبطاحها.
وهاتان الحركتان محال أن تكونا بمفصل واحد غير مركب من مفصلين أحدهما يتم به انبساط اليد وانقباضها وثانيهما: تتم به حركة اليد في التوائها وانبطاحها وذلك لأن حركة الانبساط والانقباض تتم بمفصل الزند الأسفل مع العضد وذلك بأن يجعل طرفه مقعراً ما بين قدام الزند وخلفه، ومع ذلك فيدقق هذا الطرف من جانبه الوحشي ومن جانبه الأنسي حتى يصير لهذا الطرف زائدتان من خلف وقدام تبتدئان من غلظ إلى رقة وتنتهيان عند رأسين دقيقين جداً، وذلك ليكونا على هيئة النقرتين التين على طرفي الجزء الذي بين زائدتي عظم العضد اللتين في طرفه الأسفل، وقد علمت أن ذلك الجزء محدب على هيئة البكرة إلا أنه متسع قليل العمق، وهذا التقعير الذي في طرف الزند الأسفل يركب على ذلك الجزء الذي في طرف العضد فتبقى الزائدتان اللتان على طرف هذا الزند مواجهتين للنقرتين التين في طرف العضد إلا أنهما لا يدخلان فيهما بل إنما يدخل منهما هناك واحدة دون الأخرى عند حركة الساعد إلى جهة تلك النقرة. فإذا انبسطت اليد دخلت الزائدة التي خلف الزند في النقرة التي قدام العضد. وأما في غير هاتين الحركتين فتكون الزائدتان خارجتين عن الحفرتين لا تصلان إليهما. وأما حركة التواء اليد وانبطاحها فيتم بالمفصل الذي بين الزند الأعلى وبين العضد، وذلك لأن الزند الأعلى طرفه الأسفل كبيراً ويحدث في آخره حفرة غير غائرة مستديرة تدخل في تلك الحفرة الزائدة الوحشية المستديرة التي ذكرناها في طرف العضد أعني الطرف السافل. وهذه الحفرة واسعة بالنسبة إلى تلك الزائدة حتى يكون بينهما انفراج وكذلك الجزء يدخل فيه تقعير الزند الأسفل وهو أو سع من ذلك الطرف المقعر حتى يبقى ذلك الطرف غير مماس للزائدتين اللتين عن جنبي ذلك الجزء والغرض بهذا تأتي الحركتين كل واحدة منهما مع إمكان الأخرى وذلك مما لا يمكن إذ كانت كل واحدة من الحفرة والجزء على قدر الوالج فيهما فقط، فهكذا يجب أن يفهم الحال في مفصل المرفق.
وأما المفصل الذي في الطرف السافل من الزندين فإنه يتصل بكل واحد منهما لاحقة محدبة إلى الوحشي، مقعرة إلى الأنسى، ولاحقة الزند الأعلى نحو الإبهام، ولاحقة الزند الأسفل نحو الخنصر، ورأسهما يتحدان كشيء واحد، ويحدث في طرف ذلك حفرة واسعة أكبرها في الزند الأسفل، وما يفصل عن الانحناء يبقى محدباً مملساً. وهذه الحفرة يدخل فيها طرف عظام الرسغ فيكون من ذلك مفصل الرسغ كما نبينه، وللزند الأسفل زائدة تسمى المسلة تخرج من وراء الحفرة.

قوله: وهذا الجزء محدب السطح الذي في تقعيره ليس يريد أن هذا السطح فيه حدبة بل: إن تقعيره كتقعير كرة ذات سطحين متوازيين أي يمكن إلقامه كرة فلا تكون فيه زائدة.
قوله: ليتهندم في الجزء الذي على طرف العضد الذي هو مقعر لا يريد التقعير هذا أن يكون كما قلناه في تقعر رأس الزند الأسفل بل إنه منخفض عن كل واحدة من الزائدتين اللتين عن جنبيه. وبالجملة فعبارته رديئة إذ جعل السطح المقعر محدباً، والمحدب مقعراً، ولأجل ذلك يشكل فهم هذا الموضع من كلامه على كثير من المشتغلين. والله أعلم.

الفصل الحادي والعشرون
تشريح الرسغ
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه الرسغ مؤلف من عظام كثيرة... إلى آخر الفصل الشرح قد خلق مشط الكف من عظام كثيرة المنافع هناك: إحداهما: أن لا يعم ما يعرض من الآفات.
وثانيتها: ليمكن أن يتقعر تارة، ويتسطح أخرى. وذلك بحسب الحاجة إلى التشكل بشكل المقبوض وهذه الحركة خفية جداً لأن مفاصلها موثقة.
وثالثتها: ليكون لما ينفذ من ظاهر الكف إلى باطنه، وبالعكس من العصب والعروق منفذ. وخلق من عظام صلاب عديمة المخ. أما صلابتها فلقلة الحاجة فيها إلى الحركة وأما فقدانها المخ فلأنها لإفراط صغرا لا تحتمل التجويف وأشكالها مختلفة، وذلك لأن فيها مواضع محدبة، ومواضع مقعرة، ومواضع مستديرة، ومواضع مستقيمة، وكلها محدبة الخارج مقعرة الداخل للسبب الذي نذكره في الأنامل.
وهي مشدودة برباطات قوية بين الغضروفية والعصبية، وتحدث بينها مفاصل موثقة وبعضهم ظن أنها ملتحمة بعضها ببعض. وعددها ثمانية، ثلاثة منها في الصف الذي يلي الساعد تجتمع أطرافها لتكون كالعظم الواحد، ويدخل المجتمع منها في الحفرة التي في رأس الزندين بحيث يكون الأعظم منها، وهو الوسط في الحد المشترك الذي بين الزندين، والثالث منها: يحتوي عليه الزند الأعلى، ويحدث هناك مفصل سلسل بحركة الكف انقباضاً وانبساطاً. وأربعة في الصف الذي يلي مشط الكف، وإنما زيد هذا لأنه يلقى عظاماً أربعة منفرجة انفراجاً ما. فاحتيج أن يكون بعددها وقريباً من انفراجها. وأما الصف الأول: فإنه يلقى طرف الزندين وهو دقيق بالنسبة إلى عظام المشط فخلق لذلك ثلاثة عظام منضمة. والأعلى من كل صف أكثر انفراجاً مما هو منه أسفل.
وأما العظم الثامن فليس يدخل في أحد الصفين بل هو في الحقيقة للرسغ كالزائد وهو موضوع نحو الخنصر، وفي طرف الأسفل نقرة يدخل فيها رأس العظم المسمى مسلة وميلاً. وهو الخارج من وراء الحفرة التي في طرف الزندين. وبالمفصل الحادث بينهما حر تتم حركة الكتف في الانقلاب والانبطاح وهذا العظم يوقي عصبه باقي الكف لئلا تنالها آفة، ومعظم المقصود به إنما حدوث مفصل الانقلاب والانبطاح الذي ذكرناه. والله ولي التوفيق.
الفصل الثاني والعشرون
تشريح مشط الكف
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه ومشط الكف أيضاً مؤلف... إلى آخر الفصل الشرح وقد كثرت عظام المشط للمنافع التي ذكرناها في عظام الرسغ ولكن هذا صف واحد وذاك صفان وإنما لم يخلق هذا صفين لئلا يطول الكف جداً فيكون قبضه واهياً ويبعد عن الهيئة الكرية عند القبض ومفاصل هذه العظام عسرة غير موثقة. وقوله: هاهنا وهذه العظام موثقة المفاصل، يعني بهذا الإيثاق بالمفهوم اللغوي لا المعنى المصطلح عليه الذي تقدم ذكره. لأنه قال في أو ل كلامه في العظام: والمفصل العسر غير الموثق هو أن تكون حركة أحد العظمين وحده صعبة وقليلة المقدار مثل المفصل الذي بين الرسغ والمشط أو مفصل ما بين عظمين من عظام المشط فلذلك حركة هذه العظام أظهر كثيراً من حركة عظام الرسغ. وأما قول جالينوس: إن مفاصل ما بين الرسغ والمشط موثقة، فإن اصطلاحه أن المفصل الموثق هوا لذي تكون حركة أحد عظميه خفية. والله ولي التوفيق.
الفصل الثالث والعشرون
تشريح الأصابع
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه الأصابع آلات تعين... إلى آخر الفصل.
الشرح

إنما سنذكر بعد فراغنا من شرح تشريح العظام بحثاً مفرداً في اختلاف الحيوانات في الأعضاء الطرفية. والذي نقوله الآن: إن الإنسان إنما احتيج أن تكون يداه على ما نصفه من إحكام التركيب، وكثرة جهات الحركات لأن ملبسه، ومأكله، وسلاحه كل ذلك صناعي فيحتاج أن يكون له تمكن من مباشرةً أعمال الصناعات أكثر من غيره وعمله بذلك أكثره باليدين فيجب أن تكون يداه أكثر إحكاماً وتفنناً في الحركات من سائر أنواع الحيوان وأصابع الإنسان إن لم تكن ذوات عظام لم تكن قوية على الأعمال. وإن كانت ذوات عظام فإما أن تكون كل واحدة من عظم واحد فلا يكون لها تفنن كثير في جهات الحركات، أو من عظام كثيرة فأما أكثر من ثلاثة فيكون تركيبها واهياً بقدر الزيادة على الثلاثة أو أقل من ثلاثة فتكون جهات الحركات وتفننها أقل بقدر ما نقص عن الثلاثة. ولذلك كان الأولى أن تكون كل واحدة منها من ثلاثة عظام، لأن هذا التركيب كفى في القوة، وجهات الحركات وتفننها وتسمى هذه العظام سلاميات، ولما كان الحامل يجب أن يكون أقوى من المحمول، وجب أن تكون هذه العظام كل سلامية أنملة أصغر مما دونها، ورأس كل سلامية أصغر من قاعدتها، ويجب أن تكون صغاراً جداً لئلا تثقل الأصابع وتغلظ فيعسر دوام حركتها ويجب أن يكون صلباً لتكون قوية فلا تنكسر عند مباشرة الأشياء الصلبة والحركات القوية، ويجب أن تكون قاعدة التجويف والمخ لأجل إفراط صغرها، ويجب أن تكون مستديرة لتبعد عن منال الآفات. ولم يمكن أن تكون محدبة من داخل لئلا تفوت جودة القبض على الأشياء لأن المقعر أعون على جودة القبض بسبب جودة اشتماله وكذلك هو أجود فيما يحتاج إليه من الحركات الدلك والغمز ونحو ذلك فخلقت مقعرة من داخل محدبة من خارج لفقدان الحاجة إلى هذه الأغراض من خارج مع أن المحدب مما تقل معه عروض الآفات وأصبر على ملاقاة المصادمات، وخلقت مستقيمة لأن ذلك أمكن في الأعمال إذ لو كانت معقفة لم يمكن اشتمالها لجميع أجزائها على ذوات الأحجام الكبار ولم يجعل لبعضها عند بعض تحديب لئلا يعرض بينهما خلل يمنع من ضبط السيالات والأشياء المفرطة الصغر، وخلق للخنصر والإبهام تحديب من غير جهة الأصابع لتكون اليد عند القبض مستديرة فيكون أو سع وأبعد عن قبول الآفات، وفائدة اللحم الذي عليها أن يدعمها فلا يكون تركيبها واهياً وأكثر ذلك من داخل السطح ليكون لذلك السطح أن يتشكل بشكل المقبوض فيكون اشتماله عليه أتم وأقله من خارج لفقدان هذا الغرض هناك، وليكون الضرر بخارجها أكثر إيلاماً عند اللكم ونحوه. ولئلا يزداد ثقلها فتضعف حركاتها وأما في جانبي الأصابع فإن اللحم بقدر وسط أما نقصانه عن الباطن فلفقدان الغرض منه وأما زيادته على ما في الظاهر فليسد الخلل الذي قد يقع بين الأصابع فيجود قبض الأشياء الصغيرة جداً، والسيالة ولهذا وفي لحم الأنامل ليجود سده لما يحدث من الخلل عند رؤوسها حالة القبض وليجود إمساك الأشياء الصغيرة جداً لأن اللحم يتشكل بشكل ذلك الممسوك ويحفظه عن السقوط ولذلك لا يجود إمساك ما صغر برؤوس الأظفار، ولما وجب أن تكون جملة اليد عند القبض على هيئة مستديرة وجب أن تكون الوسطى منها أعظم وكذلك ما يليها من الجانبين، وصغرت الأطراف، لأن هذه الهيئة تلزمها الاستدارة حال القبض ولو خلقت على طول واحد لزم ذلك أن يكون عند القبض غير متساوية وضع الأطراف فتبقى عند طرف الوسطى خلل كبير، ودونه عند أطراف ما يليها من الجانبين، ولما وجب أن تكون الوسطى أطول وجب أن تكون عظامها أطول. وأما ما يجب أن يكون قصيراً فإن كان وضعه على صف الطويل كما في الخنصر وجب أن تكون عظامه أصغر وأما ما لا يكون كذلك كالإبهام جاز أن يكون في نفسها طويلة وعظامها طوالاً لكن بخروج موضع أصلها عن الصف إلى أسفل تكون في حكم القصيرة، والقصيرة الأجزاء، وخلقت البنصر أطول من السبابة لأن السبابة يكون طرفها عند القبض على اللحم الناتئ بقرب أصل الإبهام والسبابة يكون طرفها حينئذ بين اللحمين النابتين وإنما كان كذلك لأن هذه المواضع بحذاء هذه الأصابع، ولم يجعل لبعض الأصابع عند بعض فرجة كبيرة إلا الإبهام. فإنه أبعد ما بينه وبين الأصابع الأربع. وذلك لأنه كان ينبغي أن تكون الأصابع من كل جهة حتى تكون مشتملة على المقبوض من كل جهة. ولكن كان يلزم ذلك ثقل الكف، وأن

تكون استدارة اليد بجملتها على المستديرات ونحوها غير جيدة فخلفت الإبهام قائمة مقام أصابع مقابلة لهذه الأربع ومع أنه لا يلزمها ذلك، وذلك لأن هذه الأصابع الأربع إذا اشتملت على المقبوض من جهة قاومها الإبهام من الجهة المقابلة لها فقام مقام أصابع موضوعة في الجهة المقابلة لهذه الأصابع وإنما يمكن ذلك بأن يكون ما بينها متباعداً ليكون في جهة كالمقابلة لهذه الأربع ولذلك خلقت في هذا الموضع المخصوص ولم تربط بالمشط، وإلا لم تكن في ذلك الموضع بل كانت تكون قريبة من موضع الأربع فلا يتم ذلك الغرض ولها في هذا الموضع فائدة أخرى، وهي أنها تكون كالصمام، وهو الذي يغطى به الآنية وذلك لأن الأصابع الأخرى إذا قبضت على شيء بقي أعلاها وهو عند جانب السبابة مفتوحاً فيكون الإبهام إذا جعلت على ذلك الموضع كالغطاء والساتر للمقبوض وفائدة الرطوبة التي في مفاصل الأصابع وغيرها أن تمنع جفاف عظامها، وفائدة كون تلك الرطوبة لزجة أن لا تكون بآلة مرخية ولئلا تتحلل لو كانت مائية. وفائدة الأغشية الغضروفية أن تمنع احتكاك العظام بسبب دوام حركتها وفائدة العظام السمسمانية أن تحفظ وضع كل سلامية لئلا تميل إلى جهة، وإنما اختصت مفاصل السلاميات بذلك لأنها أريد أن تكون سلسلة فلم يمكن أن تكون زوائدها شديدة الغوص في نقرها فلا بد وأن تبقى بين أطرافها خلل كثير يخشى ميل العظام إلى الجهات فيكون التركيب واهياً، ولا يمكن ملء أكثر ذلك الخلل بالغضاريف كما في سائر المفاصل السلسلة وذلك لئلا يثقل الأصابع فاحتيج أن تكون بهذه العظام لأن هذه مع حفظها لو ضع السلاميات خفيفة لأنها تكون منفرجة وينبغي أن يكون في كل مفصل أربعة لتمنع الميل إلى الجهات كلها وهذا تقرير ما قالوه وعندي أن هذه العظام لا وجود لها. والله ولي التوفيق.ن استدارة اليد بجملتها على المستديرات ونحوها غير جيدة فخلفت الإبهام قائمة مقام أصابع مقابلة لهذه الأربع ومع أنه لا يلزمها ذلك، وذلك لأن هذه الأصابع الأربع إذا اشتملت على المقبوض من جهة قاومها الإبهام من الجهة المقابلة لها فقام مقام أصابع موضوعة في الجهة المقابلة لهذه الأصابع وإنما يمكن ذلك بأن يكون ما بينها متباعداً ليكون في جهة كالمقابلة لهذه الأربع ولذلك خلقت في هذا الموضع المخصوص ولم تربط بالمشط، وإلا لم تكن في ذلك الموضع بل كانت تكون قريبة من موضع الأربع فلا يتم ذلك الغرض ولها في هذا الموضع فائدة أخرى، وهي أنها تكون كالصمام، وهو الذي يغطى به الآنية وذلك لأن الأصابع الأخرى إذا قبضت على شيء بقي أعلاها وهو عند جانب السبابة مفتوحاً فيكون الإبهام إذا جعلت على ذلك الموضع كالغطاء والساتر للمقبوض وفائدة الرطوبة التي في مفاصل الأصابع وغيرها أن تمنع جفاف عظامها، وفائدة كون تلك الرطوبة لزجة أن لا تكون بآلة مرخية ولئلا تتحلل لو كانت مائية. وفائدة الأغشية الغضروفية أن تمنع احتكاك العظام بسبب دوام حركتها وفائدة العظام السمسمانية أن تحفظ وضع كل سلامية لئلا تميل إلى جهة، وإنما اختصت مفاصل السلاميات بذلك لأنها أريد أن تكون سلسلة فلم يمكن أن تكون زوائدها شديدة الغوص في نقرها فلا بد وأن تبقى بين أطرافها خلل كثير يخشى ميل العظام إلى الجهات فيكون التركيب واهياً، ولا يمكن ملء أكثر ذلك الخلل بالغضاريف كما في سائر المفاصل السلسلة وذلك لئلا يثقل الأصابع فاحتيج أن تكون بهذه العظام لأن هذه مع حفظها لو ضع السلاميات خفيفة لأنها تكون منفرجة وينبغي أن يكون في كل مفصل أربعة لتمنع الميل إلى الجهات كلها وهذا تقرير ما قالوه وعندي أن هذه العظام لا وجود لها. والله ولي التوفيق.

الفصل الرابع والعشرون
منفعة الظفر
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه الظفر خلق لمنافع... إلى آخر الفصل.
الشرح قد ذكر هاهنا للظفر أربع منافع: إحداها: أن تكون سنداً للأنملة وبيان ذلك أنه لو لا الظفر لكان طرف الأنملة عند الشد على الشيء ينضغط ويميل إلى خارج فيهن الشد لا محالة.
وثانيتها: التمكن من لقط الأشياء الصغيرة، وذلك لأن لحم الأنامل اللينة لا تقوى على ضبطها بخلاف الظفر.

وثالثتها التمكن من الحك والتنقية. أما الحك فلأنه يحتاج فيه إلى صلابة وأما التنقية فلأنها إنما تتم بأخذ الأشياء الصغيرة عن الجلد ونحوه وقد بينا أن ذلك إنما يكون بشيء صلب.
ورابعتها أن يكون سلاحاً، وذلك بالخدش ونحوه.
وأقول إن له منافع أخرى: إحداها: التمكن من حل العقد القوية.
وثانيتها: أن يشق به بعض الأشياء، ويقطع به ما يهون قطعه، ولا يمكن ذلك بلحم الأنامل.
وثالثتها: أن تكون زينة لأنه محسن شكل الأصابع إذ لو لاه لكان شكلها مستقبحاً، والأظفار دائمة النشوء ونشوؤها ليس في جميع الأقطار بل في طولها فقط. وذلك لأن تكونها من الفضول الأرضية التي تدفع إلى الأطراف وما يتكون منها يدفع ما أمامه حتى يمتد ويطول، فلذلك ترتفع الآثار التي تكون فيها كالبياض ونحوه إلى أن تزول بالقطع، ولو كان ذلك النشوء على سبيل الازدياد بالغذاء لما كان كذلك، ولما كان تكونها هو من هذه الفضول وهذه الفضول توجد في جميع الأسنان لا جرم كانت تعود بعد الائتلام في جميع الأسنان. والله ولي التوفيق.

الفصل الخامس والعشرون
تشريح عظم العانة
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه إن عند العجز عظمين... إلى آخر الفصل.
الشرح إن هذا العظم ليس له اسم موضوع له أعني بجملته وأما عظم العانة فهو اسم لجزء هذا العظم، وهو الذي من قدام. وإنما يسمى هذا عظم العانة على سبيل تسمية الكل باسم الجزء، وهذا العظم مؤلف من عظمين يتصلان من قدام بمفصل موثق، وهما هناك رقيقان مثقوبان ويتصلان من خلف بعظم العجز، وهو العظم العريض فرغنا من تعريفه. وفي هذا العظم زائدتان عظميتان قائمتان يتصل بكل واحد منهما واحد من هذين العظمين ولكل واحد من أجزاء هذين العظمين اسم يخصه. فالجزء العريض منه المسمى بالحرقفة وعظم الخاصرة. وهو الذي في الجانب الوحشي، وهو الموضع العريض منه المرتفع، وحق الفخذ فيه التقعير الذي يدخل فيه رأس الفخذ، وهو عظيم ليتسع لذلك الرأس، ولجملة هذا العظم فوائد: أحدها: أن يكون كالأساس لما فوقه، والحامل الناقل لما تحته.
وثانيها أن توضع عليها أعضاء كريمة، وهي الرحم، والمثانة، وأوعية المنى والمعاء المستقيم، وطرفه فتكون مستندة إليه مربوطة به.
وثالثها: أن يكون مقلاً لما في البطن من الأمعاء والثرب لئلا ينزل شيء من ذلك عن موضعه.
ورابعها: أن يوقي الأعضاء الموضوعة في داخله من وصول ضرر الصدمات ونحوها إليها.
وخامسها: أن يكون مفصل الفخذ.
وسادسها: أن يحسن بسببه شكل خصر الإنسان ويكون قوامه مستحسناً وذلك بأن ينتقل البدن من ضيق الخصر إلى ثخانة العجز، وما يتصل بها بعد سعة ما بين عظمي الخاصرة. والله ولي التوفيق.
الفصل السادس والعشرون
كلام كلي في منفعة الرجل
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه جملة الكلام في منفعة الرجل... إلى آخر الفصل الشرح إن عبارة الكتاب في هذا ظاهرة بينة غنية عن الشرح. والله ولي التوفيق.
الفصل السابع والعشرون
تشريح عظم الفخذ
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأول عظام الرجل .... إلى آخر الفصل.
الشرح
إن الإنسان في أو ل ولادته تكون أسافله صغيرة ضعيفة فلذلك لا يقوى على الحركة عليها، فإذا كبر قويت أسافله، وعظم وركه جداً وذلك من خواص الإنسان. وسببه أن الإنسان منتصب القامة، ويقوم على رجليه فقط فاحتاج أن تكون ساقاه وقدماه عظيمتين جداً بالنسبة إلى بدنه بجملته فيحتاج أن يكون العضو الحامل لهما قوياً عظيماً.
وأما ذوات الأربع فوركها صغير جداً بالنسبة إلى أبدانها لأن قيامها على أربع ولا تحتاج أن تنتصب.
وأما الطير فشابه الإنسان من جهة قيامه على رجلين فقط. وشابه ذوات الأربع من جهة قيامه غير منتصب إذ هو كالراكع، فلذلك خلق وركه في عظمه وذوات الأربع. وعظم الفخذ مختلف الأجزاء وذلك لأنه محدب من قدام ومن الجانب الوحشي، مقعر من خلف ومن الجانب الأنسي. وفي أسفله استعراض وله هناك جوزتان وفي أعلاه رمانة شديدة الاستدارة على عنق طويل مائل إلى الجانب الأنسي. وهذه الرمانة تدخل في حق الورك ودون عنقه بقليل زائدتان الوحشية منهما أعظم. والله ولي التوفيق.
الفصل الثامن والعشرون
تشريح عظم الساق
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه

الساق كالساعد... إلى آخر الفصل.
الشرح الساق يحتاج إلى خفة لأجل الحركة، وإلى قوة لأنه حامل لما فوقه، وأما الفخذ فحاجته إلى القوة أكثر لأنه حامل لما فوقه ناقل للساق، وما دونه وحركته قليلة وحركة الساق كبيرة، فلذلك روعي في الفخذ جانب القوة أكثر فخلق عظيماً جداً، وروعي في الآخران يخلق متوسط العظم. وكان ينبغي أن يكون عظماً واحداً ليكون أخف وأقوى ولكن مفصل القدم لا يتأتى أن يكون بعظم واحد إلا أن يكون ثخيناً جداً كما نبينه بعد. وذلك مما لا يحتمله الساق فاحتيج أن يكون طرفه السافل من عظمين وأعلاه مستغن عن ذلك فخلق من عظم واحد، واحتيج أن يكون أحد عظميه منقطعاً.
وهذان العظمان يتصلان عند طرفي المنقطع بمفصل موثق وينفرجان عند الوسط فيدخل فيما بينهما عصب وعروق. والأنسي من هذين العظمين عظيم هو الساق بالحقيقة ويسمى: القصبة الكبرى، والزند الأنسي والوحشي منهما صغير غليظ الأسفل ليجود معه مفصل الساق مع القدم، وأعلاه دقيق جداً لا يصل إلى الركبة، وتسمى القصبة الصغرى. والزند الوحشي، والموضع الدقيق من الساق في مقدمه العاري من اللحم يسمى: ظهر الساق، والموضعان اللذان من جانبه في أسفله، وهما طرفا القصبتين يسميان الكوع والكرسوع تشبيهاً لهما بمفصل الرسغ من اليد، ولذلك أيضاً تسمى القصبتان بالزندين.
والعظمان الناتئان في هذين الموضعين العاريين من اللحم يسميهما الناس في العرف بالكعبين.
وقال جالينوس: غلط من سماها بذلك كل الغلط.
وقال: إن الكعب هو عظم داخل هذين الموضعين يحيطان به وهو مغطى من جميع النواحي.
وأما هذان الموضعان فهما طرفي القصبتين محدبتان من خارج وهذه التخطئة لا أصل لها، فإن لكل أحد أن يسمي بلفظه ما شاء.
على أن الكعب في اللغة هو النتوء والارتفاع، وهذان العظمان كذلك ولذلك سمي العقب في العرف كعباً وأيضاً ولا مشاحة في ذلك. والله ولي التوفيق.

الفصل التاسع والعشرون
مفصل الركبة
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه ويحدث مفصل الركبة... إلى آخر الفصل.
الشرح إن في الطرف العالي من القصبة الكبرى لاحقة فيها نقرتان تدخل فيهما الجوزتان اللتان في الطرف الأسفل من عظم الفخذ وينتؤ ما بين نقرتي هذه القصبة زائدة جرمها بين الغضروف والعصب تدخل فيما بين الجوزتين في موضع غائر شبيه بالجزء وعلى هذا المفصل من قدام الرضفة وهي عظم غضروفي مستدير ذو نقر تدخل فيه الحدبات التي من العظام التي تحته فلذلك تكون هذه النقر على أشكال تلك الحدبات وتنتو من زائدة قصيرة تدخل الخلل التي تلتقي بين عظم الفخذ وعظم الساق، وخلق هذا العظم غضروفياً ليكون بلينه صبوراً على ملاقاة الصدمات فلا يعرض له انصداع لأجل رقته فإن الرقيق إذا كان صلباً كان متهيئاً بسرعة للانشقاق. وخلق مستديراً ليكون ما يستره أكثر. ولأجل استدارته يسمى الفلكة، وخلق ذا نقرة وزائدة لتكون مداخلته للعظام التي تحته كبيرة فلا يزول عن موضعه مع دفع تلك العظام له عند الجثو ونوحه. وخلق إلى ما يلي من قدام لأن أكثر ما يلحق هذا المفصل من العنف هو من قدام. وإنما كان كذلك لأن مؤخر الإنسان ثقيل فيكون عند الجثو ونحوه مائلاً إلى قدام بخلاف الطيور، فإن ثقلها كله من قدام فلذلك جعلت حدبات ركبها إلى خلف وتثني أرجلها إلى قدام.
واختص الإنسان بأنه ذو رجلين. ويثنيهما إلى خلف. والله ولي التوفيق.
الفصل الثلاثون
تشريح عظام القدم
والكلام في هذا الفصل يشتمل على بحثين البحث الأول هيئة جملة القدم قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما القدم فقد خلق .... إلى قوله: وعظام القدم ستة وعشرون كعب به.
الشرح

لما كان الإنسان بخلاف باقي الحيوانات منتصب القامة، وكان انتصابه على رجلين وأعالي بدنه ثقيل لم يكن له بد من أن يكون قدمه طويلاً ليشتمل على جزء كبير من الموطؤ فيكون يمكن القيام عليه أكثر، ويجب أن لا يكون طويلاً جداً، وإلا كان يثقل الرجل ويعاوق عن الحركة بل جعل طوله قريباً من سبع القامة ليجمع بين جودة الثبات والخفة، ولا بد وأن يكون هذا القدم إلى قدام لأن ذلك هو جهة ميل البدن بثقله إذ مقدم البدن أثقل من مؤخره لأن الأعضاء الثقيلة كالرأس وما دونه مائلة إلى قدام لأن ذلك هو جهة ميل وخصوصاً عند الهرم، وخلق له الأخمص لفوائد: إحداها: أن يخف فلا يثقل على الرجل.
وثانيتها: ليجود الوطىء على المحدبات.
وثالثتها: أن المشي إنما يتم برفع إحدى الرجلين حيث يراد الانتقال ولا بد من ثبات الرجل الأخرى ليمكن بقاء البدن منتصباً وعند رفع إحدى الرجلين لا بد وأن يميل البدن إلى ضد جهتها كما إذا رفعنا أحد جانبي جسم ثقيل فإنا نجد ذلك الجسم يميل لا محالة إلى ضد جهة ذلك الجانب وتقعير الأخمص يوجب ميل البدن حينئذٍ إلى جهته وهي جهة الرجل المرفوعة فيقاوم الميلان لا محالة ويبقى البدن على انتصابه، ولذلك من يفقد له هذا الأخمص فإن بدنه يميل في حال مشيه عند رفع كل رجل إلى ضد جهتها.
ولقائل أن يقول: إنما يلزم الميل إلى ضد جهة المشيل إذا كان ذلك المشيل بحيث لا تكون حركته بانفراده كطرف الخشبة مثلاً.
وأما إذا لم يكن كذلك بل كان المشيل له انفصال عن الباقي حتى تمكن حركته بانفراده، كما في الرجل فإنه إنما يلزم من رفعه ميل الباقي إلى تلك الجهة بعينها كما لو أزلنا إحدى الدعامتين، فإن الجسم المدعوم إنما: يميل حينئذٍ إلى جهة المزيلة. ولكن في حال إزالتها إنما يكون الميل إلى ضد تلك الجهة لأن هذه الإزالة إنما تكون بعد رفع جزء من الباقي حتى يزول الثقل عن الدعامة فيزول. ويلزم ذلك ميل الجسم إلى ضد جهتها وليس لكم أن تقولوا إن الدعامة قد يمكن إزالتها بدون ذلك بأن تجر مثلاً لأنا نقول: إن الحال في رفع الرجل عند المشي ليس كذلك، لأن الرجل إنما ترفع بتقلص العضل الرافعة لها تقلصاً إلى فوق ويلزم ذلك رفع بعض أجزاء البدن وذلك يلزمه كما قلنا ميله إلى ضد جهة تلك الرجل.
ورابعتها: أن الإنسان قد يحتاج إلى الانتصاب على رجل واحدة مدة ما، ولولا الأخمص لكان البدن حينئذٍ قد يميل إلى ضد تلك الجهة، وأما إذا مال إليها لم يجد هناك رجلا يضعها ليمنع السقوط فيسقط، ولا كذلك الحال مع وجود الأخمص فإن الميل حينئذٍ إنما يكون إلى جهته، لا أعني بذلك حال رفع الرجل بل بعد الفراغ من تلك الحركة، وبقاء البدن على الرجل الواحدة. وإذا كان كذلك فإن للإنسان حينئذٍ أن يضع الرجل المشيلة فتمنع السقوط فيكون في خلقه الأخمص تمكناً من وقوف الإنسان مدة على رجل واحدة من غير ضرر من السقوط. والله ولي التوفيق.
البحث الثاني هيئة كل واحد من عظام القدم

ووصفه ومنفعته
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وعظام القدم ستة وعشرون... إلى آخر الفصل.
الشرح إن أجزام القدم مقسومة إلى ستة أقسام وهي: الكعب، والعقب، والعظم الزورقي، وعظام الرسغ، وعظام المشط، وعظام الأصابع.

ونحن الآن نتكلم في كل واحد منها. فنقول: أما الكعب فالإنساني منه أشد تكعيباً، وأشد تهندماً مما في سائر الحيوان. وذلك لأن لرجليه قدماً، وأصابع تحتاج في تحريك قدمه انبساطاً وانقباضاً وذلك بحركة سهلة ليسهل عليه الوطىء على الأرض المائلة إلى الارتفاع أو الانخفاض وعلى المستوية. فلذلك تحتاج أن يكون مفصل ساقه مع قدمه مع قوته وإحكامه سلساً سهل الحركة، وهذا المفصل لا يمكن أن يكون بزائدة واحدة مستديرة تدخل في حفرة مستديرة وإلا كان يسهل دوران تلك الزائدة في حفرتها فكان يحدث للقدم كذلك أن يتحرك مقدمه إلى جهة جانبه بل إلى جهة مؤخره وكان يلزم ذلك فساد التركيب ومصاكة إحدى القدمين للأخرى. ولا بد وأن يكون بزائدتين حتى تكون كل واحدة منهما مانعة من حركة الأخرى على الاستدارة ولا يمكن أن تكون إحدى الزائدتين خلفاً. والأخرى قداماً لأن ذلك مما تعسر معه حركة الانبساط والانقباض اللتين بمقدم القدم. فلا بد وأن تكون هاتان الزائدتان إحداهما يميناً والأخرى شمالاً ولا بد وأن يكون بينهما تباعد له قدر يعتد به ليكون امتناع تحرك كل واحدة منهما على الاستدارة أكثر وأشد فلذلك فلا يمكن أن يكون مع ذلك قصبة واحدة. فلا بد من أن تكون مع قصبتين ولو كان بقدر مجموعهما عظم واحد لكان يجب أن يكون ذلك العظم ثخيناً جداً وكان يلزم ذلك ثقل الرأس الساق فلذلك لا بد وأن يكون اسفل الساق عند هذا المفصل قصبتين وأما أعلى الساق وذلك حيث مفصل الركبة فإنه يكتفي فيه بقصبة واحدة. فلذلك احتيج أن تكون إحدى قصبتي الساق منقطعة عند أعلى الساق. ويجب أن تكون الحفرتان في هاتين القصبتين والزائدتان في العظم الذي في القدم لأن هاتين القصبتين يراد منهما الخفة. وذلك ينافي أن تكون الزوائد فيهما لأن ذلك تلزمه زيادة الثقل والحفرة تلزمها زيادة الخفة فلذلك كان هذا المفصل بحفرتين في طرفي القصبتين وزائدتين في العظم الذي في القدم. وهذا العظم لا يمكن أن يكون هو العقب لأن العقب يحتاج فيه إلى شدة الثبات على الأرض وذلك ينافي أن يكون به هذا المفصل لأن هذا المفصل يحتاج أن يكون سلساً جداً لئلا يكون ارتفاع مقدم القدم وانخفاضه عسرين، وغير العقب من باقي عظام القدم بعيد أن يكون له هذا المفصل إلا الكعب فلذلك يجب أن يكون له هذا المفصل جاذباً من طرف القصبتين والعظم الذي هو الكعب وأن تكون النقرتان في طرفي القصبتين والزائدتين في الكعب ويجب أن يكون الكعب مشدوداً مشدوداً جداً بما يليه من عظام القدم حتى تكون حركته يلزمها حركة القدم فلذلك طرفاه يرتكزان في العقب في نقرتين يمنه ويسره وذلك من جهة خلفه، وأما من قدام فيرتبط بالعظم الزورقي، وأما من الجانبين فيرتبط بقصبتي الساق. وهاتان القصبتان محيطتان بطرفيهما من الجانبين. وذلك بالعظمين النابتين اللذين يسميان بالكعبين وقد ذكرناهما.
وأما العظم الزورقي فهو عظم يمتد من قدام الكعب ويرتبط به هناك ويمتد فوق القدم في الجانب الأنسي فوق الأخمص. وبذلك يرتفع ذلك الموضع فيكون هذا العظم كالدعامة للقصبة الكبرى التي هي بالحقيقة الساق. وإنما جعلت هذه الدعامة في الجانب الأنسي من القدم ليكون في منتصف ثقل البدن كله. ولهذا العظم فوائد: إحداها: أن يكون دعامة للساق مانعة من سهولة سقوط البدن بثقله إلى قدام.
وثانيتها: أن يتم به تحرك القدم إلى الالتواء والانبطاح ونحو الوحشي والأنسي. وذلك لأن هذا العظم هو نظير الزند الأعلى في الساعد إذ بذلك الزند تتم حركة للساعد حركة الالتواء والانبطاح وكذلك هذا العظم به تتم للقدم حركة الدوران نحو الجانبين. فإن الإنسان قد يحتاج إلى ذلك عند حاجته إلى الثبات قائماً على حرف قدمه. وذلك كما إذا كان عند أخمصه جراحة ونحو ذلك.

وثالثتها: أن يجود به شكل القدم فلا يكون عند الأخمص رقيقاً جداً ضعيفاً ثم إن هذا العظم الزورقي يرتبط من خلف وأسفل بعظم العقب ومن قدام بعظام الرسغ، وبذلك يستحكم رباطه. حتى يلزم من تحركه تحرك القدم إلى الجانبين والإبهام في الرجل بخلاف الإبهام في اليد فإن المقصود بها في اليد أن تكون كالمقاومة للأصابع الأربع عند القبض فلذلك احتيج أن يكون بينهما وبين تلك الأصابع فرجة كبيرة. وأما في الرجل فالمقصود بها قوة الثبات على الموطؤ عليه. فلذلك خلقت في صف بقية الأصابع إذا كان المقصود في الكل متشابهاً وإنما نقصت سلامية لتكون أقوى على الثبات فإن كثرة المفاصل يهن القوة لا محالة، ولذلك خلقت غليظة.
وأما تفصيل عدد العظام فإن الرأس فيه أحد عشر عظماً: اثنان: هما عظما اليافوخ.
وأربعة: كالجدران.
وأربعة: في الصدغين.
وواحد: كالقاعدة يسمى العظم الوتدي.
والأسنان اثنان وثلاثون سناً، واللحى الأعلى من أربع عشرة عظمة ستة في العينين وعظمان تحت الأنف منحرفان، وعظمان مثلثان يتركب الأنف عليهما، وعظما الأنف، وعظما الوجنة. واللحى الأسفل من عظمين.
وفقار الصلب ثلاثون فقرة: سبع في العنق. واثنتا عشرة في الظهر، وخمس في القطن وثلاث في العجز، وثلاث في العصعص والأضلاع أربعة وعشرون ضلعاً: سبعة من كل جانب من فوق ملتقية عند القص، وخمسة قصار هن أضلاع الخلف.
وعظام القص سبعة.
والكتفان عظمان. والترقوتان عظمان وعظم العانة عظمان.
وفي كل يد ثلاثون عظماً: عضد وزندان واثنا عشر في الكف، وخمسة عشر في الأصابع.
وكذلك في كل رجل ثلاثون عظماً: فخذ، وقصبتان ورضفة، وكعب، وعقب، والعظم الزورقي، وأربعة في الرسغ، وخمسة في المشط، وأربعة عشر في الأصابع.
وزاد جالينوس عظمين وهما رأسا الكتفين.
فلذلك يكون عدد العظام على هذا، مائتين وثمانية وأربعين عظماً.
قال جالينوس: وهذا سوى العظم اللامي الذي في الحنجرة، والعظم الذي في القلب. والله أعلم بغيبه.تم تشريح العظام

الجملة الثانية
العضل
وهي تسعة وعشرون فصلاً
الفصل الأول
كلام كُلّي في العصب
والعضل والوتر والرّباط
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه لما كانت الحركة الإرادية... إلى آخر الفصل.
الشرح غرضه الآن بيان فائدة كل واحد من هذه الأعضاء.
قوله: إذ كانت العظام صلبة، والعصب لطيفاً. يريد باللطيف ها هنا الرقيق الدقيق الصغير الحجم، و كان كذلك لا يحسن اتصاله بالصلب لأن الصلب يلزمه أن يكون ثقيلاً، والثقيل لا يقوي اللطيف على إقلاله، ويريد بهذا أن العظام مع كونها صلبة كبيرة المقدار، إذ لو كانت صغيرة جداً لم يكن إيصال العصب بها ضاراً لكن الصغير وإن كان صلباً فهو خفيف لقلة جرمه.
قوله: ولما كان الجرم الملتئم من العصب والرباط على كل حال رقيقاً إنما كان كذلك لأن هذا الرباط لا يجوز أن يكون غالباً على العصب جداً وإلا كان ثقيلاً وكان العصب فهولا محالة يحمله عند تحريكه فيعود المحذور المذكور.

والعصب لا بد وأن يكون دقيقاً لما ذكره بعد هذا. ويلزم ذلك أن لا يكون المجتمع منهما غليظاً جداً. والأولى أنه كان يقول: والقوة المحركة إنما هي في العصب. فلو لم يحدث العضل لكان العصب إذا حمل حركة العضو احتاج إلى حمل ما معه من الرباط وجذبه إلى جهة مبدئه فيكون ذلك زيادة ثقل على العضو المتحرك فلا بد من حدوث العضل حتى يكون جذب العصب إلى موضعها فتكون المسافة قريبة فيكون في ذلك أمن من انقطاعها الذي أو جبه بعد المسافة وزيادة الثقل حينئذٍ محتملة لأنها حينئذٍ يسيرة جداً بالنسبة إلى الوهن الذي كان يوجبه بعد المسافة. وفائدة حشو العضلة باللحم أن يبقى وضع أليافها محفوظاً وإنما جعل من اللحم لأنه لو جعل من عضو صلب لم يمكن تقلص تلك الليف عند إرادة تحريك العضو. ولو جعل من الشحم ونحوه لكان يزيد تلك الألياف برداً فجعل من اللحم لأنه مع لينه يسخن تسخيناً معتدلاً لبرد العصب والرباط، وإنما جعل في وسط العضلة كالمحور من جوهر العصب ليكون جوهر العصب ليس بكثير الانتعاش فيضعف وإنما جللت العضلة بالغشاء ليكون لها حس من خارج ولا بد وأن يكون الرباط الذي يحدث منه، ومن العصب العضلة رباطاً متصلاً بعظم قريب منها حتى تكون مرتبطة بها فلا يزول عن مكانها عند جذب الوتر ذلك العضو المتحرك. والله ولي التوفيق.

الفصل الثاني
تشريح عضل الجبهة
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه من المعلوم أن عضل الوجه.... إلى آخر الفصل.
الشرح قوله من المعلوم أن عضل الوجه على عدد الأعضاء المتحركة في الوجه يريد أن أنواعها على عدد الأعضاء المتحركة، أعني المتحركة بذاتها بعضل يخصها، وأما ما يتحرك بالغرض كحركة عضو تبعاً لحركة آخر أو بالذات ولكن بشركة عضو آخر، فإنه لا يلزم أن يكون له نوع من العضل على حدة، ولا يلزم أيضاً أن يكون عدد أشخاص العضل على عدد الأعضاء المتحركة بذواتها وبانفرادها إذ قد يكون لعضو واحد عضلتان. وثلاثة تحركه حركة واحدة، وذلك بأن تكون حركته تلك بفعل الكل جملة، أو بفعل بعضها بدلاً من البعض، وإنما يلزم ذلك أن تكون الأنواع على عدد تلك الأعضاء وأعني بهذه الأنواع التي تكون نوعيتها بالإضافة إلى الأنواع المختلفة كقولنا عضل حركة الخد، وعضل حركة الصدر ونحو ذلك.
وإن كان الكل من حيث هو عضل نوعاً واحداً، وإنما كانت عضلة الجبهة رقيقة لِأن العضو المتحرك بها، وهو الجلد خفيف فلا تكون محتاجة إلى كثير من جرم الرباط والعصب، وإنما كانت مستعرضة ليمكن أن تعم جميع أجزاء الجلد لأن هذه العضلة نحرك العضو المتحرك بها بغير وتر بل بذاتها، وإنما كان كذلك لأن تحريكها له لو كان بوتر لكان ذلك الوتر إما أن ينبسط طرفه حتى يلاقي جميع أجزاء الجلد أو لا يكون كذلك. فإن كان الثاني لم يلزم من تحريكها إلا تحريك الجزء الذي يتصل به ذلك الوتر إذ الجلد شديد القبول للتمدد فإذا انجذب منه جزء لم يلزم ذلك انجذاب باقيه. وإن كان الأول لم تكن حاجة إلى ذلك الوتر إذ هذا الاتصال يمكن حصوله من ألياف العضلة من غير حاجة إلى وتر يزيد في ثخنها فيزيد في نتوء الجبهة ويكون ذلك منكراً في الخلق وإنما كانت هذه العضلة غشائية لأنها لرقتها وقلة اللحم فيها تكون كالغشاء. وإنما كانت شديدة المخالطة للجلد لأنها تحتاج أن تكون ملاقية لجميع أجزائه حتى يكون تحريكها لجميع الأجزاء جملةً واحدةً. والله ولي التوفيق.
الفصل الثالث
تشريح عضل المقلة
وأما العضل المحركة للمقلة.... إلى آخر الفصل.
الشرح

إنما يتم الإبصار كما بيناه في موضعه بأن يصير الثقب العيني مواجهاً للمرئي. وعلى سمته حتى يتأدى شبحه إلى هناك. وهذه المواجهة قد تتحقق بحركة المرئي، وذلك قد لا يتأتى في كل وقت. أو يكون عسراً. وقد يتحقق بحركة الرائي، وهو أسهل وأسهل ذلك أن يكون المتحرك هو المقل نفسها مع بقاء البدن على وضعه. فلذلك ينبغي أن يكون للمقلة تمكن من جميع الحركات التي تتحقق معها مواجهة المرئيات. وهذه الحركة إما أن تكون مستقيمة أو مستديرة. فإن كانت مستقيمة فلا بد وأن تكون إلى جهة لكن الجهات ست: اثنان منها لا يحتاج إليهما وهما: الخلف والقدام. لأن المواجهة تتحقق بدونهما لأنها إنما تتوقف على المسامتة. وهي لا تختلف مع القرب والبعد، فتبقى الجهات التي تحتاج المقلة أن تتحرك بالاستقامة إلى واحدة منها أو إلى أكثر من واحدة أربعاً وهي: الفوق، والأسفل، واليمين، واليسار.
فلذلك حركة المقلة بالاستقامة إما إلى جهة واحدة فتكون إلى إحدى هذه الجهات، وكل واحدة منها إنما تكون بعضلة تحركها إلى تلك الجهة فتحتاج لذلك إلى أربع عضلات أو إلى أكثر من جهة واحدة. ولا يمكن أن يكون ذلك إلى أكثر من جهتين وإلا لزم أن تكون الحركة في حال واحدة إلى جهتين متضادتين ولا شك أن ذلك محال فينبغي أن تكون جهتين فقط. فالمحركة إلى فوق، إما أن تكون مع ذلك إلى اليمين أو إلى الشمال وكذلك المحركة الأسفل فيكون من ذلك أربع حركات ولكن هذه الحركات لا يحتاج فيها إلى عضلات غير تلك الأربع. وذلك لأن الحركة إلى اليمين والفوق تحصل بفعل العضلتين المحركتين إلى هاتين الجهتين.
وكذلك الباقي، فلذلك تتم حركات المقلة المستقيمة كلها بأربع عضلات وأما حركاتها على الاستدارة. فإنما يمكن على وجهين فقط، فلذلك تتم بإحدى عضلتين. فلذلك كانت العضلات المحركة للمقلة ستاً.
وقد قيل إنها خمس، وهو ظاهر الفساد.
وأما العضل التي تدعم العصبة المجوفة من وراء المقلة من الجحوظ المفرط عند التحديق القوي، كما عند تكلف رؤية الأشياء الصغيرة جداً من بعد فقط قيل إنها عضلة واحدة بسيطة. وهو المشهور والحق.
وقيل بل واحدة مركبة من عضلتين. وقيل بل ثلاث عضلات، وقيل إنها ليست واحدة بل اثنتان وقيل ثلاث. والله أعلم بغيبه.

الفصل الرابع
تشريح عضلات الجفن
والكلام يشتمل فيه على بحثين البحث الأول السبب في أن الجفن المتحرك هو الأعلى في الإنسان ونحوه هو الجفن الأعلى قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما الجفن فلما كان... إلى قوله: ولما كان الجفن الأعلى يحتاج إلى حركتي الارتفاع.
الشرح كل حيوان فإما أن لا يكون له عين ظاهرة كالخلد. فهذا ظاهر أنه لا يحتاج إلى جفن البتة فضلاً عن حركة الجفن، أو تكون له عين ظاهرة، فإما أن يكون جلده صلباً كما في السمك، فهذا لا يمكن أن يكون له جفن يتحرك، فلا يكون له تغميض، فلا بد وأن تكون عينه صلبة لتكون بعيدة عن قبول الآفات أكثر أو لا يكون جلده صلباً. فإما أن يكون من الطيور أو لا يكون كذلك، فإن كان من الطيور كان الجفن المتحرك منه هو الجفن الأسفل، وهذا إما أن يكون من الجوارح فيكون مع ذلك بعينه غشاء صفاقي يتحرك من تحت الجفن يغطي به الحدقة تارة، ويكشفها أخرى، أو لا يكون من الجوارح فلا يكون له ذلك. فإن كان الحيوان الذي جلده لين ليس من الطيور، فلا بد وأن يكون جفنه المتحرك هو الجفن الأعلى. وذلك لأن المتحرك لو كان هو السافل لكانت العضل المشيل له إلى فوق، إما أن يتصل بطرفيه أو بأحدهما فلا يلزم من رفع ذلك رفع وسط الجفن فلا يتم تغميض العين بل يبقى الموضع الذي الحاجة إلى ستره أشد، وهو موضع الباصر مكشوفاً أو يكون اتصال ذلك العضل بوسط الجفن فيلزم ذلك ستر موضع الباصرة بالوتر النازل دائماً. وذلك مبطل لفائدة العين.
فلذلك كانت حركة الجفن الأسفل في هذا الحيوان مما لا يجوز البتة فوجب أن يكون المتحرك هو الجفن الأعلى.

قوله: لكن عناية الصانع مصروفة إلى تقريب الأفعال من مبادئها، وإلى توجيه الأسباب إلى غاياتها، على أعدل طريق وأقوم منهج إن عني ها هنا بالأقوم ما هو أكثر استقامة فذلك ممنوع فإن التعريج قد يكون أو فق وخصوصاً الأعصاب الدماغية المحركة. فإنها بكونها محركة تحتاج أن تكون صلبة، وكونها دماغية يوجب لها أن تكون لينة فتحتاج إلى تعريج مسلكها لتطول المسافة فتصلب، ولو سلم له ذلك لم يفده لأن المتحرك سواء كان الجفن العالي أو السافل فلا بد من عضل نحو الأسفل يحيط الجفن، وعضل من فوق يرفعه. والله ولي التوفيق.
البحث الثاني العضل المحرك للجفن الأعلى وموضعه قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه ولما كان الجفن الأعلى يحتاج إلى حركتي... إلى آخر الفصل.
الشرح إذا جذب طرف الجفن الأعلى إلى أسفل لزم ذلك تغميض العين. ولا كذلك لو جذب طرف الجفن الأسفل إلى فوق. وذلك لأن الثقل الطبيعي الذي للجفن الأعلى يعاون على تلك الحركة، ويمانع منها ثقل الجفن الأسفل. والله ولي التوفيق.

الفصل الخامس
تشريح عضل الخد
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه الخد له حركتان... إلى آخر الفصل.
الشرح إن حركة الخد غير مقصودة لذاتها، إذ لا يتبعها فعل من الأفعال الإنسانية، ولكنها تقع إما ضرورية كما في حركته تبعاً لحركة الفك الأسفل وإما للإعانة على حركة عضو آخر كما في حركته بشركة حركة الشفّة. والحاجة إلى تحريك الشفتين هو التمكن من جودة إخراج الحروف والحركات كالضم والفتح والكسر.
ولما كان ذلك يحوج إلى تفنن هذه الحركات بحسب تفنن أنواع الحروف وما يكون منها من الحركات، وجب أن يكون للشفتين حركات متفننة. وكان ينبغي أن يكون لكل واحد منها عضلة لكن كان يعرض من ذلك انتفاخ الخد جداً، فجعل ذلك لعضلة واحدة. ويختلف ما يوجبه من الحركات باختلاف أجزائها، وأعان على ذلك خفة العضو المتحرك وصغره. والله ولي التوفيق.
الفصل السادس
تشريح عضل الشفة
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه أما الشفة فمن عضلها ... إلى آخر الفصل.
الشرح لما كانت الحركات المذكورة أو لاً للشفة حركات سهلة أمكن أن يكون بعضل مشترك بينها وبين الخد وأن تكون بعضلة واحدة حركات كثيرة. وأما هذه الحركات فلعسرها احتيج أن تكون بعضل خاص، وأن يكون لكل حركة عضلة، وبيان عسرها أن الجسم الواحد إذا اتصل طرفه بجسم آخر كان تحريكه بدون تحريك ذلك الآخر عسراً لا محالة. والله ولي التوفيق.
الفصل السابع
تشريح عضل المنخر
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما طرفا الأرنبة فقد... إلى آخر الفصل.
الشرح الحاجة إلى تحريك المنخر هو عند إرادة دفع الفضول بالارتعاد والانتفاض، وعند إرادة زيادة في جذب الهواء، ودفعه كما في التنفس، وذلك بالانبساط والانقباض، ولما كان الاحتياج إلى ذلك نادراً لا جرم كانت الحاجة إلى تحريك الشفتين. أكثر ولما لم يكن بد من تصغير عضل أحد هذين النوعين لئلا يزداد نتوء الوجنة كان تصغير عضل الحركة التي يحتاج فيها في أو قات أقل أولى.
وأما وجوب أن تكون هذه العضلات قوية فلأجل صغرها، ولأجل عسر هذه الحركة، لأن العضو المتحرك بها صلب، فلا يكون شديد القبول للتمدد ونحوها مما توجبه الحركات قبولاً سهلاً بسهولة لقبول الشفتين. والله ولي التوفيق.
الفصل الثامن
تشريح عضل الفك الأسفل
والكلام في هذا يشتمل على أربعة مباحث: البحث الأول السبب في اختصاص الفك الأسفل بالحركة قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه قد خص الفك الأسفل... إلى قوله: ثم حركات الفك الأسفل لم يحتج فيها أن تكون.
الشرح كل حيوان فإن الفك المتحرك منه هو الفك الأسفل إلا التمساح فإنه إنما يحرك فكه الأعلى.
أما الأول فقد ذكر الشيخ أسباباً: أحدها: أن الفك الأسفل أخف، وتحريك الأخف أحسن لأن ذلك، أسهل. وإنما كان أخف لأن الأعلى احتيج فيه إلى أن يكون ساتراً واقياً لما وراءه من الدماغ. ولأنه تكون فيه أعضاء كريمة فاحتيج أن يكون عظيماً صلباً. ويلزم ذلك أن يكون ثقيلاً ولا كذلك ها هنا.

وثانيها: أن المتحرك لو كان هو الأعلى وهو مشتمل على أعضاء كريمة لينة لكانت الحركة تضر بتلك الأعضاء لما يلزمها من تمديد بعض جرمها وانقباضه. وخصوصاً الأعصاب. وإنما اختصت هذه الأعضاء بالفك الأعلى لأن أفعالها إنما تتم إذا كانت قريبة جداً من الدماغ كما نبينه في موضعه. والفك الأسفل أبعد من الدماغ.
وثالثها: أن المتحرك لو كان هو الفك الأعلى لاحتيج أن يكون مفصله مع الرأس سلساً، ولو كان كذلك لما أمكن أن يكون على سبيل الشأن أو الفراق كما بيناه أو لاً بل لا بد وأن تكون على هيئة الركز. ولو خلق كذلك لتهيأ للانخلاع بسبب ثقله، وكان انخلاعه شديد الإضرار بالأعضاء التي فيه. وها هنا أمران: آخران يوجبان اختصاص الحركة بالفك الأسفل: أحدهما: أنه لو كان المتحرك هو الأعلى والأسفل يكون ساكناً لكان مفصل الأسفل يحتاج أن يكون موثقاً، وإنما يلزم أن يكون كذلك إذا كان شديد الاتصال بعظام الرأس والعنق وإنما يكون كذلك إذ كان عظيماً جداً، ويلزم ذلك أن يكون ثقيلاً، ويلزم ذلك زيادة ثقل الوجه.
وثانيهما: لو كان المتحرك هو الفك الأعلى لكان الفغر إنما يتأتى مع تحريك طرفه إلى قدام الوجه لأنه لم يمكن متمكناً من الارتفاع كثيراً بمنع عظام الرأس له عن ذلك، ولو كان كذلك لاحتاج أن يكون هذا التحريك كثيراً جداً عند إرادة أن يكون الفغر واسعاً. ويلزم ذلك أن ينتو مواضع أو تار العضل المحركة تلك الحركة لأنها إنما تكون آتية إليه من فوق، وعند حركته إلى قدام يخرج طرفه عن سمت مواضع تلك العضل، ويلزم ذلك نتوء مواضع الأوتار، وذلك يلزمه قبح صورة الوجه جداً. ولا كذلك إذا كان المتحرك هو الفك الأسفل.
وأما الثاني وهو اختصاص التمساح بحركة الفك الأعلى فلأنه حيوان غذاؤه بالصيد ويداه خفيتان لا يتمكن من الثبات عليها حالة الصيد كما في الأسد ونحوه، فيحتاج أن يكون نهشه قوياً جداً ليتدارك بذلك ما فاته بضعف اليدين. وإنما يكون قوياً إذا كان العضو لمتحرك بالإرادة متحركاً بالطبع أيضاً. ولو كان المتحرك هو الفك الأسفل لكان الأمر بضد ذلك لأن الفك الأسفل تكون حركته عند العض والنهش الصادرة عن الإرادة مضادة لحركته بالطبع لأن تلك الحركة إلى فوق، وحركته بالطبع إلى أسفل، فلأجل احتياج التمساح إلى قوة العض جعلت أسنانه العالية موضع السافلة كمنشارين، تدخل زوائد كل واحد منهما في حفر الآخر. والله ولي التوفيق.
البحث الثاني عضل إطباق الفم قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه ثم حركات الفك الأسفل لم يحتج فيها... إلى قوله وأما عضل الفغر وإنزال الفك.
الشرح إنما يحتاج هذا الفك إلى الحركة في أحوال: أحدها: عند الكلام، وذلك يتم بفغر الفم وإطباقه بقدر يصلح لإخراج الحروف.
وثانيها: عند إيراد النفس من الفم إما لسدة في الأنف أو لأن التنفس به لا يكفي وذلك يتم بحركة الفغر.
وثالثها: عند العض والكلام، وذلك يتم بحركة الفغر والإطباق.
ورابعها: عند المضغ وذلك يحوج فيه إلى هاتين الحركتين مع حركة سحق المأكول وهي إنما تتم بإدارة الفك.

أما الاحتياج حينئذٍ إلى الإطباق فظاهر. وأما الاحتياج إلى الفغر فليمكن إدخال اللقمة، وليتسع بها ما بين الأسنان وليمكن الإطباق. فإنه إنما يكون بعد الغفر. فإذا الحركات التي يحتاج إليها هذا الفك لا تزيد على هذه الثلاثة وإنما احتيج أن يكون العضل المطبق عند الصدغين، لأن أو تار هذا العضل يحتاج أن يتصل بأطراف هذا الفك ليتمكن من رفعه. فلو وضعت في غير موضع الصدغ لافتقرت عند هذه الإشالة إلى رفع جلدة الوجنة عند مواضع الأوتار. وذلك لأجل بعد حافة الفك حينئذٍ. ويلزم ذلك قبح صورته، فاحتيج أن يكون عند الصدغين وتكون الأوتار متصلة بهذا الفك عند الزائدة المتقاربة، وذلك الموضع قريب جداً من مقدم الدماغ، وهو شديد الرطوبة، فيكون العصب الآتي إلى ذلك ليناً جداً، وعصب الحركة تحتاج أن يكون صلباً فاحتيج إلى تعريج مسلك هذا العصب لتطول المسافة طولاً يستفيد به صلابة ما، ولكنه على كل حال لا بد وأن يكون إلى لين فيكون مستعداً للتضرر بما يرد من خارج من صدمة أو ضربة، وتضرره مؤد إلى تضرر الدماغ بالمشاركة لشدة قربه منه. فاحتيج إلى ساتر يستر هذه العضلات ليكون في كون المؤدي فخلقت لذلك عظام الزوج. وابتداء تكون أو تارها عند طرف هذه العظام.
واختص الإنسان بصغر هذا النوع من العضل لأن حاجته إلى القتال بالعض قليلة جداً، ومأكله صناعي فلا يكون شديد الصلابة، ولا عسر القطع، وفكه صغير جداً بالنسبة إلى باقي الحيوان وذلك بالقياس إلى بدنه، ولذلك كانت حاجته إلى قوة هذا النوع من العضل أقل مما في باقي الحيوان، ولأجل أن هاتين العضلتين صغيرتان وعسر رفع الشيء الثقيل، وخصوصاً من طرفه خلق لهذه الحركة عضلتان من داخل الفم ينبسطان على المواضع العريضة الغائرة من هذا الفك، وتمتدان شاخصتين إلى الحنك، ويلتحمان بالعظام المقعرة التي هناك التي تطييف بها الزوائد الشبيهة بالأجنحة، ويوجد لهما هناك وتر قوي. ومنشأ هاتين العضلتين متصلان بعضلتي الصدغين فلذلك قيل أنهما جزء من عضلتي الصدغين، وقوم منعوا وجودهما البتة. والله ولي التوفيق.
البحث الثالث عضل فغر الفم قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما عضل الفغر وإنزال الفك... إلى قوله وأما عضل المضغ فهما عضلتان.
الشرح

هذه العضلة تكون أو لاً عضلتين دقيقتين مستطيلتين تبتدئان من خلف الأذنين ومن دونهما فإذا بلغتا أعلى مقدم العنق اتحدتا وصارتا عضلة واحدة. ثم يخرج لتلك العضلة وتر فإذا قرب من طرف اللحى عند الذقن انتفش كرة أخرى وصارت منه عضلة والتحمت هناك باللحى وإنما خلقت كذلك لأن جذبها لا بد وأن يكون إما إلى جهة المؤخر ويلزم ذلك أن يتسفل اللحى وإما إلى أسفل وإنما يمكن ذلك أن يكون جذبها إلى أسفل إذا كان ليفها متصلاً بعظام القص لأن مقدم العنق من غضاريف لا تقوى لحركة هذه العضلة، ولو خلقت كذلك لكان ليفها إذا جذب اللحى يلزمه رفع ما فوقه من الجلد مقداراً كبيراً ولا شك أن ذلك موحش للخلقة فلا بد إذاً وأن يكون جذبها إلى خلف. وحينئذ لا بد وأن يكون ليفها متصلاً بما يحاذي طرف هذا الفك من العظام التي خلفه وذلك هو الموضع المذكور. ولا يمكن أن يكون ابتداء ذلك الليف من جانب واحد وإلا كان الفك يميل عند الفغر إلى ذلك الجانب فلا بد وأن يكون من الجانبين فيكون من ذلك عضلتان لأن هذا الليف لا بد وأن يحتشي لحماً وإلا كان يبرد ويضعف ويتغير وضعه وحينئذٍ يصير عضلاً ويجب أن تكون كل واحدة منهما دقيقة لأن المقصود منهما ليس الانتشار والانبساط عرضاً، بل أن يمران إلى الموضع الذي يتحدان فيه فينبغي أن تكون الألياف على خطوط مستقيمة أو قريبة من المستقيمة ويلزم ذلك أن تكونا دقيقتين ويجب أن يتحدا عند الحد المشترك بين العنق الأسفل وإلا كان الوتر الخارج من كل واحدة منها يرفع بعض الجلد إذا تقلص ثم بعد اتحادهما يحتاج أن يخرج الوتر من ذلك المتحد إلى الطرف السافل من هذا الفك. وهو عند الذقن ليكون جذبه إلى أسفل غير مائل إلى جانب وينبغي أن ينتفش عند اتصاله به ليكون اتصاله به في مواضع كثيرة، ويلزم ذلك الانتفاش أن يحتشي المنتفش لحماً فيصير عضلة وكلام جالينوس يشير إلى أن هذه العضلة مع العضلة المتخذة من العضلتين أعني التي في أعلى مقدم العنق كلاهما عضلة واحدة، وطرفاهما لحمي ووسطها وتري ولا مشاحة في العبارة.
قوله: ويتخلص وتراً ليزداد وثاقة ثم ينتفش كرة أخرى.
لا شك أن تكرر الانتفاش تلزمه زيادة في القوة. ولكن الغرض به ها هنا زيادة القوة وإلا كان فعل ذلك في العضلة المطبقة للفم أولى، لأن المصعد للثقيل يحتاج إلى قوة أقوى من المحرك له أسفل وخصوصاً، وتلك العضلة لينة فكانت حاجتها إلى القوة أكثر بل الغرض ما ذكرناه. وهو أن يكون الجذب على حالة لا يلزمها رفع الجلد الذي فوق الوتر عن وضعه. والله ولي التوفيق.
البحث الرابع عضل المضغ قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما عضل المضغ فهما عضلتان... إلى آخر الفصل.
الشرح هذا الذي ذكره الشيخ هو أحد الآراء المنقولة في هذا الفصل.
وقيل إن في كل جانب عضلتين. وقيل إن في كل جانب ثلاث عضلات.
قال جالينوس: إن عضلتي المضغ تلبسان من خارج على الفك الأسفل في طوله، وتمران معه وتتصلان برأسيهما وترتقيان إلى الوجنة وإلى العظم الذي يقال له الزوج. وهما في الحقيقة من كل واحد من الجانبين اثنتان لا واحدة والواحدة تميل الفك إلى قدام، والأخرى إلى خلف. وهاتان العضلتان تتصلان أيضاً بعضلتي الصدغ من دون العظم الذي يقال له الزوج داخل الزائدة التي تشبه المنقار. والله ولي التوفيق.

الفصل التاسع
تشريح عضل الرأس
والكلام في هذا الفصل يشتمل على ستة مباحث: البحث الأول تعديد حركات الرأس قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه إن للرأس حركات... إلى قوله: أما العضل المنكسة للرأس خاصة.
الشرح

لما كانت الحاسة المخلوقة لحراسة البدن. وهي العينان موضوعة في الرأس. فينبغي أن يكون للرأس أن تتحرك إلى جميع الجهات حركة تتمكن بها الحاسة من الإشراف على جميع الأعضاء لكن ما سوى الحية من الحيوانات، فإن رؤوسها لا يمكن أن تتحرك إلى خلف حركة تكون بها العينان مشرفة على جميع الأعضاء الخلفية. لأن ذلك لا يمكن أن يكون بأن تتحرك الرأس بالاستدارة حتى تصير العينان من خلف البدن إذ كان يلزمه انقطاع النخاع، وفساد تركيب العنق، ولا يمكن أيضاً تحركة الرأس منقلباً إلى خلف لأن ذلك يلزمه أن تكون العينان نظرهما إلى فوق لا إلى جهة الأعضاء فلذلك أكثر الأعضاء الخلفية لا يمكن أن تكون محروسة بالعينين فيما سوى الحية.
وأما الحية فلو لم تكن هذه الحركة ممكنة فيها لم يكن لعينها إشراف على شيء من أعضائها لأن وضع العين في الحية هو إلى قدام جميع أعضائها. فلذلك احتيج أن يكون وضع عينيها بحيث إذا تحرك رأسها هذه الحركة يكون لأعينها إشراف على مؤخر بدنها ثم إن حركة الرأس قد تكون له بذاته، وقد تكون بمشاركة أعضاء أخرى كخرزات العنق ولا يمكن الاكتفاء بإحدى هاتين إذ لو اقتصرت على حركته بالمشاركة، لكان إذا عرضت لتلك الأعضاء آفة تمنع حركتها بطلت حركة الرأس وفائدتها، ولو اقتصر على حركته بانفراده لم تف بالمقصود. إذ حركته بانفراده لا يمكن أن تكون كبيرة تامة وإلا كان مفصله مع العنق رخواً سلساً جداً. ويلزم ذلك أن يكون التركيب واهياً، فلا بد، وأن يكون له مع هذه الحركة حركة بشركة خرزات العنق حتى تتمكن بتلك الحركة من حركات تامة إلى أكثر الجهات. فتكون للعينين اطلاع على أكثر الأعضاء وإذا كان كذلك فلا بد من عضلات لحركاته الخاصة، وعضلات لحركاته التي بالمشاركة.
فلنتكلم في كل واحد من هذه الأصناف في بحث يخصه. والله ولي التوفيق.
البحث الثاني العضل المنكسة للرأس خاصة قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما العضل المنكسة للرأس خاصة... إلى قوله: وأما العضل المنكسة للرأس والرقبة معاً إلى قدام.
الشرح لما كان التنكيس يتم بالتحريك إلى قدام وإلى أسفل جعل العضل المنكس للرأس وحده يتصل ليفه بما يلزم تقلصه التحريك إلى الجهتين جميعاً فخلق هذا العضل متصلاً بما خلف الأذنين، ومن أسفل بالقص والترقوة. وإنما جعل ذلك لأن هذا العضو لكبره يحتاج أن يكون محركه قوياً، وذلك يحوج إلى معاضدة أحد الجزئين بالآخر، وإنما لم يخلق لكل تحريك عضلة واحدة على حدة لأن التنكيس الثقيل لا يحتاج إلى آلة شديدة القوة. ولما كان هذا العضل متصلاً بهذين الموضعين فلا بد وأن يكون من كل جانب ماراً بالعنق إلى قدام على تأريب، ولا بد وأن يكون العضل من الجانبين حتى إذا أريد تنكيس الرأس من أحد جانبيه حركه العضل الذي في ذلك الجانب. وإن أريد تنكيسه بجملته حرك العضل معاً وكفى من كل عضلة واحدة في كل جانب، ولأن التنكيس كلما قلنا أسهل ولما كان طرفا هاتين العضلتين، ومن أسفل، في موضع ضيق لم يتصل ذلك الموضع بأن يكون طرف كل واحد منهما منفصلاً عن طرف الأخرى، فاحتيج أن يتحد الطرفان هناك، وهذا الاتحاد يبتدئ من العنق ويكون أكثره عند القص لأن هذا الموضع يضيق بتدريج، وإنما يوسع هذا المكان بأن يجعل أكثر ليفها الذي من أسفل البدن متصلاً بعظم الترقوة لأن ذلك يلزمه جذب كثير للترقوة في أو قات التخلص، وهو موهن لاتصالها بعظم القص وإحدى هاتين العضلتين لحمية، والأخرى تبتدئ من خلف الأذنين رباطية.
وآخرها عند القص من جوهر الوتر وهذه يصير لها رأسان أحدهما عند القص ولكن جوهره عصبي والآخر عند الترقوة وأكثر جوهره لحمي، ولأجل هذين الرأسين يظن أنها ليست عضلة واحدة وإنها عضلتان: إحداهما فوق الأخرى، ولذلك قيل أن العضل المنكسة للرأس وحده ثلاث عضلات. والحق أنه عضلتان فقط. إذ لم يوجد للتي لها رأسان مبدآن وهاتان العضلتان عظيمتان لكبر العضو المتحرك بهما، وهما في ميلان الذين يكثرون حركة رؤوسهم أو يقوونها أعظم، وذلك كالمصارعين ونحوهم. والله ولي التوفيق.
البحث الثالث العضل المنكسة للرأس مع الرقبة قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما العضل المنكسة للرأس والرقبة... إلى قوله: وأما العضل المقلبة للرأس وحده إلى خلف.
الشرح

هذا العضل لا يمكن أن يكون متصلاً بعظام القص لأنه يحتاج أن يمتد إلى أسفل، فلو اتصل بعظام القص لكان ليفه ينعطف عند الترقوة إلى جهة عظام الرقبة فلا يكون ذاهباً على الاستقامة، ولذلك جعل متصلاً بعظام الصلب، ويمتد من أسفل إلى الفقرة الخامسة من فقار الصدر، فلذلك هو كبير الطول، ويمتد على جميع فقار الرقبة من قدام وهو تحت المريء أي تحته إذا كان الإنسان مستلقياً وإنما خلق ذلك عظيماً لأن تنكيس الرأس مع الرقبة إنما يتم بقوة قوية لأن مفاصل الفقرات ليست شديدة السلاسة.
وهذا العضل ينتهي من فوق إلى أسافل الرأس ، ويحوي الموضع الذي بين مفصل الرأس، والطرف الأسفل من الدرز اللامي وهو عضلتان كل عضلة من جانب وهما لحميتان لئلا يتأذى المريء بمماسة جرمه إلى الصلابة. وإذا تحركتا بجميع أجزائهما مال الرأس والرقبة معاً إلى قدام وتنكسا وإذا تحرك أعلاهما فقط وهو المتصل بأسافل الرأس إلى الفقرة الأولى والثانية من فقرات العنق مال الرأس وحده إلى قدام وتنكس إلى أسفل، وإنما لم يحتج في هاتين العضلتين إلى انبثاق شيء من ليفهما إلى خلف كما في المنكسة للرأس وحده لأن تلك أجزاؤها السفلية مائلة كثيراً إلى قدام، ولا كذلك هذه. فإن جميع أجزائها كأنها إلى خلف لأن مقدم العنق تسامت أكثر من منتصف الرأس ما بين قدام وخلف وعبارة الكتاب غير فصيحة لأنها توهم أن هذا الزوج ينتهي أسفله إلى الفقرة الأولى من فقار العنق، وأنه إذا تشنج بسطحه الذي يلي المريء، وهو السطح الظاهر نكس الرأس وحده. وإذا تشنج سطحه الباطن، وهو الذي يلي الفقرتين نكس الرقبة وهذا مما لا يصح البتة، فإن المتصل بالفقرة الأولى والثانية إذا لم يتصل بها دون ذلك من العظام لم يمكن البتة أن ينكس الرقبة إذ المنكس لا بد وأن يجتذب إلى أسفل والحق في هذا هو ما قلناه. والله ولي التوفيق.
البحث الرابع العضل المقلبة للرأس وحده إلى خلف قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما العضلة المقلبة للرأس وحده إلى خلف... إلى قوله: وأما العضل المقلبة للرأس مع العنق فثلاثة.
الشرح قال المشرحون إن هذه العضلات ثمان من كل جانب منها أربع: فالزوج الأول منها ينشأ من فوق مفصل الرأس مع الرقبة بقليل، وذلك هو آخر عظم مؤخر الرأس، وليس منشؤه من وسط ذلك الموضع أعني ليس في وسط ما بين جانبي مؤخر الرأس بل أحد فرديه مائل. إلى الجانب الأيمن من الرأس والآخر إلى الجانب الأيسر، وينزل كل فرد منها مؤرباً حتى يلتقي عصبهما عند سنسنة الفقرة الثانية من فقار العنق بأن يضيق ما بينهما قليلاً قليلاً إلى هناك.
والزوج الثاني ينشأ من طرف عظم مؤخر الرأس أيضاً، ولكن يكون ما بينهما من وسط ذلك الموضع أي وسط ما بين جنبيه فيكون ابتداء منشأ هذا وابتداء منشأ الزوج الأولى على خط مستقيم فوق مفصل الرأس مع الرقبة بقليل، وهذان الزوجان يماسان ذلك المفصل.
وهذا الزوج ينزل أيضاً مؤرباً، ولكن إلى الجهة الوحشية فلا يزال يتسع ما بين فرديه، حتى يبلغ منتهاه، وذلك عند الزائدتين اللتين عند جنبي الفقرة الأولى، وهما اللتان سماهما جالينوس في تشريح العظام أجنحة لهذه الفقرة، فيكون شكل هذا الزوج مع الأول هكذا: والزوج الثالث ينشأ من هاتين الزائدتين اللتين في جنبي الفقرة الأولى كل فرد منه من زائدة فيكون مؤرباً إلى الأنسي حتى ينتهي عند سنسنة الفقرة الثانية فيكون هذا الزوج واصلاً بين طرفي الزوجين الأولين.
والزوج الرابع صغير تحت الثالث. ينشأ من عظم مؤخر الرأس، وينتهي عند الفقرة الأولى، وهو على ما في الكتاب ينزل مؤرباً وينتهي عند جناحي الفقرة الأولى أعني الزائدتين اللتين على جنبيها، وذلك عند مبدأ منشأ الزوج الثالث، فيكون شكل هذه الأزواج الأربعة هكذا:

قوله: فأربعة أزواج مدسوسة تحت الأزواج التي ذكرناها ينبغي أن يقول: تحت الأزواج التي نذكرها. وذلك لأن الأزواج التي هي مدسوسة تحتها هي الأزواج التي تقلب الرأس والعنق إلى خلف وهي المذكورة بعد هذه الأزواج وسنذكر حكمة اندساس هذه تحت تلك قوله: ومنبت هذه الأزواج هو فوق المفصل يعني مفصل الرأس مع الرقبة وذلك هو الحد المشترك بينه وبين الفقرة الأولى من فقار العنق يعني يكون ذلك فوقه لا أنه كذلك إذا كان الإنسان مستلقياً على بطنه أو ظهره بل إذا كان قاعداً أو منتصباً وينبغي أن يقول: ومنبت أكثر هذه الأزواج هو هناك وذلك لأن الزوج الثالث منها منبته ليس من ها هنا بل من زائدتي الفقرة الأولى اللتين عند جنبيها.
قوله: زوج يأتي جناحي الفقرة الأولى فوق زوج يأتي سنسنة الثانية يريد ها هنا بالفوق ما يكون فوقاً إذا كان الإنسان مستلقياً على بطنه وإنما خلق هذا الزوج فوق تلك ليسد السافل بعض الجهة التي عند مفصل الرأس، وذلك عند قرب وسط ما بين جانبيها، فلا يكون هذا الزوج الآتي فوقه إلى جناحي الفقرة الأولى آتياً إلى هناك مع انعطاف في وسطه إلى أسفل وإنما لم يعكس ذلك فيجعل الآتي إلى سنسنة الفقرة الثانية من فوق وذلك لأن هذا الزوج ينشأ من جانبي أسفل مؤخر عظم الرأس فيكون طريقه إلى سنسنة الفقرة الثانية متدرجة في التسافل فلا يلزمه انعطاف في وسطه إلى أسفل ولا كذلك الزوج الآتي إلى جناحي الفقرة الأولى فإنه في ابتداء طريقه انخسافاً كثيراً فيحتاج إلى شد ذلك الإنخساف لئلا يلزم انعطافه إلى أسفل، وحينئذٍ كان يلزم تشنجة لجذب الرأس أن يرتفع الجلد هناك.
قوله: وخاصيته أن يقيم ميل الرأس عند الانقلاب إلى الحال الطبيعية الذي يظهر لي والله أعلم أن هذا الزوج لا مدخل له في تحريك الرأس البتة. بل ولا في تحريك غيره، وذلك لأن هذا الزوج لا يتصل بالرأس. وقد بينا أن الفقرة الأولى والثانية ليس لو احدة منهما حركة بدون الأخرى وهذا الزوج لا اتصال له بغير هاتين الفقرتين، بل فائدته والله أعلم. أنه يقاوم ما يوجبه الرأس عند انقلابه من حفظ الفقرة الأولى إلى داخل ويلزم ذلك تزعزع مفصلها مع الثانية وإضرار السن الناشبة من الثانية بالنخاع لأن الفقرة الأولى لو مالت إلى داخل مال النخاع معها لا محالة. ولا يلزم ذلك ميل السن لأن يكون ثابتاً بثبات الثانية، ويلزم ذلك انشداخ النخاع به فخلق هذا الزوج من العضل ليقاوم ضغط الرأس حين انقلابه للفقرة الأولى بثقله وتمييله لها إلى داخل بأن يجذبها حينئذٍ إلى خارج معتمداً على ظهر الفقرة الثانية فيبطل تأثير ضغط الرأس إذا ثبت هذا يلزم أن تكون العضلات المحركة للرأس وحده إلى خلف ثلاثة أزواج فقط. قوله: وينفذ تحت الثالث.
لقائل أن يقول: إن هذا الزوج الرابع لا يتعدى موضع ابتداء الزوج الثالث فكيف يكون تحته؟ وجوابه: أن مراده ها هنا يكون تحت ذلك لأن السطح الذي هذا فيه لو فرضنا موافاته إلى آخر العنق مثلاً كان حينئذٍ تحت السطح الذي فيه ذلك الزوج أعني تحته إذا كان الإنسان على بطنه، وإنما خلق كذلك، لأن ظاهر الفقرة الأولى أسفل حينئذٍ من ظاهر الفقرة الثانية، وذلك لصغر الأولى ورقتها ومنشأ الزوج الثالث هو من قريب مفصلها مع الرأس فلا يبلغ ارتفاعها إلى سطح ظاهر الفقرة الثانية البتة.
قوله: والرابع يقلب إلى خلف مع تأريب ظاهر، الذي يظهر لي والله أعلم أن هذا الزوج لا يخالف الزوج الثاني، وأن كل واحد منهما إنما يلزم حركته توريب إذا كان المحرك هو أحد فرديه، وأما إذا تحرك الفردان معاً فإن انقلاب الرأس يكون مستوياً.
قوله: والثالث والرابع أيهما مال وحده ميل الرأس إلى جهته وإذا تشنجاً جميعاً تحرك الرأس إلى خلف منقلباً من غير ميل الزوج.
والثالث فقد بينا أنه لا مدخل له في التحريك.
وأما الرابع فقد بينا أن ميل الرأس به إلى جانب إنما يكون إذا كان المحرك أحد فرديه.
بقي ها هنا مسألة وهي: أن لم خلقت هذه الأزواج مؤربة مع أن ذلك يلزمه تطويل مسافتها لا لفائدة إذ أعصابها تنشأ من النخاع فتكون مستغنية عن استفادة الصلابة بطول المسافة؟ والجواب: أنها لو لا تأربها لكان يلزمها انعطاف في أو ساطها ويلزم ذلك أن تكون عند تشنجها رافعة لجلدة الفقار رفعاً مؤلماً فيكون ميلها للرأس إلى خلف مؤلماً.

ولا كذلك إذا جعلت على هذه الهيئة. والله ولي التوفيق.
البحث الخامس العضل المقلبة للرأس والرقبة معاً إلى خلف قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما العضل المقلبة للرأس مع العنق فثلاثة... إلى قوله: وأما العضل المملية للرأس إلى الجانبين فهي زوجان.
الشرح هذه العضلات المقلبة للرأس مع الرقبة إلى خلف موضوعة فوق تلك العضلات المقلبة له وحده أعني أنها فوقها إذا كان الإنسان على بطنه. وإنما كان كذلك لأن هذه العضلات تحتاج أن تكون ممتدة من الرأس إلى فقرات الظهر، فلو لم يكن تحتها تلك العضلات لكانت هذه يلزمها أن تنعطف إلى أسفل في المواضع التي تملؤها تلك العضلات فكانت إذا تشنجت لقلب الرأس يلزمها رفع الجلد الذي فوقها، وذلك مؤلم موحش للصورة فاحتيج أن تكون تلك العضلات تحتها لتسند المواضع الغائرة التي في طريقها وما كان من هذه العضلات أعظم وجب أن يكون وضعه فوق ما هو أصغر منه للعلة المذكورة، فلذلك كان أعظم هذه هو الزوج المجلل.
قوله: فثلاثة أزواج غائرة، معنى أن هذه غائرة، أنها موضوعة في غور، وهو ما يبقى بعد شد العضلات المقلبة للرأس وحده وذلك لأن هذا الغور كبير فلا تفي تلك العضلات بملئه وإنما خلقت هناك مواضع غائرة، لأن كل واحدة من فقرات العنق فإنها يجب أن تكون أصغر مما تحتها ضرورة أن المحمول ينبغي أن يكون أصغر من الحامل فلذلك تكون الفقرة التي عند الرأس أصغر فقار العنق ولا بد وأن يكون عظم الرأس خارجاً عنها إلى خلف كثيراً ليكون له من خلف ثقل يقاوم ثقله من قدام أو يقرب منه، فلا يكون الرأس شديد الميل بطبعه إلا قدام فلذلك يكون عظم الرأس هناك شديد النتوء وما دون ذلك من الفقار له نتوء وتدرج فيبقى عند الفقرة الأولى غور كثير لا محالة، ولا يزال هذا الغور يقل كلما بعد عن الرأس بقدر كير الفقرات.
قوله: كل فرد منه مثلث قاعدته عظم مؤخر الرأس هذه القاعدة هي قاعدة جملة الزوج لا قاعدة كل فرد منه، وذلك لأن هذا الزوج بجملته مثلث حاد الزوايا وفيه ضلعان متساويان وهما اللذان يصل بطرف كل واحد منهما طرف من هذه القاعدة فتكون الزاويتان اللتان تواترانهما متساويتين وهما اللتان على هذه القاعدة والزاوية التي يحيط بها الضلعان أصغر من كل واحدة من هاتين الزاويتين إذ كل واحد من هذين الضلعين يجب أن يكون أطول من القاعدة، وذلك لأن هذا المثلث يجب أن يكون هو والأزواج الثلاثة الأخر، الكل متصلاً بفقرات الظهر حتى يلزم من تشنج هذه العضلات انقلاب الرقبة مع الرأس. ولولا ذلك لكان المنقلب حينئذٍ هو الرأس وحده، وإذا كان كذلك لزم أن يكون ضلعاً كل واحد منهما أطول من القاعدة لأن ما بين الرأس، وفقار الظهر أطول مما بين جانبي مؤخر الرأس هذا إذا كان ما بين الرأس وفقار الظهر كالعمود على هذه القاعدة فكيف ضلع المثلث الذي على هذه الصورة؟ فلذلك يكون كل واحدة من الزاويتين اللتين على القاعدة أكثر من ثلثي القائمة، والزاوية التي يحيط بها الضلعان أقل من ثلثي قائمة. وهذا المثلث ينقسم إلى مثلثين متساويين هما فردا هذا الزوج ويفصل أحدهما عن الآخر خط مستقيم آخذ من منتصف هذه القاعدة إلى ملتقى الضلعين فيكون لا محالة عموداً على هذه القاعدة. فيكون في كل واحد من هذين المثلثين زاوية قائمة وهي التي يوترها أحد الضلعين اللذين في جهة ذلك المثلث والزاوية الأخرى التي عند طرف القاعدة أكبر من ثلثي قائمة والتي عند الطرف الآخر من الضلع توترها الذي يوتر القائمة أقل من ثلث قائمة، وتكون قاعدة كل واحد من هذين المثلثين هو النصف الأيمن أو الأيسر من قاعدة المثلث المجتمع من المثلثين وهي عظم مؤخر الرأس.
قال جالينوس: وهذه العضلات عراض بعضها فوق بعض فإذا شيلت المجللة عنها يظهر للرؤية في بعض المرار ثلاثة أزواج وفي أكثرها زوجان فقط، أحد الزوجين عضلة عريضة إلى تأريب يسير يبتدئ من خلف الرأس ويبلغ جنبي عظم الصلب وظاهر أنه يريد بذلك ما دون فقار العنق.

قال: والزوج الآخر مدور العضل وليفه مضاد في الوضع لليف العضل الأول لأنه يبتدئ من جنبي الرأس وهو موضع منتهاه، ويبلغ إلى الشوكة ويعني بالشوكة السنسنة. هذا إذا كان الظاهر زوجين فقط أما إذا كانت ثلاثة فإنا نجد الواحد منها يمتد بجنب عظم الصلب والآخر تحت الزوائد التي عن جنبي الفقار ويريد بهذه الزوائد الأجنحة.
والثالث: يوجد في الوسط بينهما، وربما رأينا مراراً كثير الليف بجميع مبادئها تنشأ من خلف، على تأريب، ويصير إلى قدام حتى يبلغ الفقار إلى المواضع منها التي قيل: قد عرفت أن الأجنحة موضوعة في جنبي الفقار فكيف جعل جنبي الفقار ها هنا مغايراً لموضع الأجنحة؟ قلنا: الأجنحة وإن كانت إلى جنبي الفقار ولكنها ليست على الوسط فيما بين خلف وقدام والمراد ها هنا بالجنبين ما هو كذلك، وها هنا مسألتان: إحداهما: ما السبب في وضع العضلات المقلبة للرأس إلى خارج؟ وهلا وضعت كلها إلى داخل الفقار مبتدئه من خلف الرأس فإن ذلك الموضع أحرز لها؟ وثانيتهما: ما السبب في تكثير أعداد هذه العضلات مع صغر جرم أكثرها؟ وهلا جعلت مثل المنكسة للرأس إلى قدام قليلة العدد؟ والجواب: أما الأول فلأن تحريك الثقيل من جهة حركته أسهل كثيراً من تحريكه من الجهة المقابلة فإن الانعطاف مما يضعف قوة الجذب.
وأما الثانية: فلأن حركة الرأس إلى خلف لما كانت عسرة لأجل ميل اكثر ثقله إلى قدام كان إذا حرك إلى خلف بمعرض التزعزع لكلال قوة الجذب فاحتيج أن تكون تلك الآلات كثيرة العدد لتكون متشبثة به من جوانب كثيرة كالأطناب فيكون ثباته عند هذه الحركة في الموضع الذي يحرك إليه محكماً. وأما حركته إلى قدام فإنها على وفق ثقله وميله الطبيعي المثقل فلا تفتقر فيها إلى ذلك . والله ولي التوفيق.
البحث السادس العضل المميلة إلى الجانبين قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما العضل المميلة للرأس إلى الجانبين... إلى آخر الفصل.
الشرح قد جعلت العضلات المحركة للرأس إلى الجانبين أصغر مقداراً أو أقل عدداً وذلك لأن مفصل حركة الرأس يميناً وشمالاً سلس وسبب ذلك أنه يحدث من زائدتين من عظام الرأس تدخل في نقرتين من الفقرة الأولى، ولا كذلك مفصل حركته قداماً وخلفاً، فإنه يحدث بدخول طرف السن في نقرة الأولى ولا كذلك مفصل فلو لم يكن أكثر إيثاقاً لعرض له الخلع كثيراً وإذا كان المفصل سلساً كانت حركته سهلة فيقوم بها العضل القليل العدد والمقدار مقام الكثير العدد والمقدار ولا كذلك ما كان من المفاصل إلى الوثاقة وجعل عدد هذه العضلات أربعاً لأنها لو كانت اثنتين فقط، لكان يجب أن يكون موضعها ما بين مقدم العنق ومؤخره على السواء، ولو كان كذلك لكان الرأس إذا حرك إلى أحد الجانبين يبقى حينئذٍ قلقاً ربما مال إلى قدام وخلف وأكثر ميله حينئذٍ هو إلى قدام لزيادة ثقل مقدم الرأس فاحتيج أن يخلق من كل جانب عضلتان.
إحداهما: في طرف ذلك الجانب من قدام والأخرى في طرفه من خلف حتى إذا تحرك الرأس بهما إلى ذلك الجانب بقيت كل واحدة منهما مانعة من حركته حينئذٍ إلى ضد جهتها فتكون التي إلى خلف مانعة من حركته نحو قدام والتي إلى قدام مانعة من حركته إلى خلف. وجعلت التي في الطرف الذي إلى خلف أصغر لأنها تصل بين الرأس والفقرة الأولى فقط والتي في الطرف الذي يلي إلى قدام أعظم لأنها تصل بين الرأس والفقرة الأولى والثانية. وذلك لأن المحرك ينبغي أن يكون على نسبة قدر المتحرك، ومؤخر الرأس أصغر كثيراً من مقدمه، والمتحرك من جهة ينبغي أن يكون أصغر من المتحرك من جهة المقدم. والله أعلم بغيبه.

الفصل العاشر
تشريح عضل الحنجرة
والكلام في هذا الفصل يشتمل على ثلاثة مباحث: البحث الأول تشريح الحنجرة قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه الحنجرة عضو غضروفي... إلى قوله: وعند الحنجرة وقدامها عظم مثلث.
الشرح

لما كان الصوت من الإنسان ونحوه إنما يتم بخروج النفس بهيئة مخصوصة وجب أن تكون آلته وهي الحنجرة متصلة بأعلى مجرى النفس ليتم هناك تكون الصوت كما نبينه في كلامنا في الصوت. ويحتاج أن تكون هذه الآلة ليست شديدة اللين فلا يكون لقرعها في بالهواء الخارج صوت يعتد به، ولا شديدة الصلابة، فيكون ما يحدث فيها من الصوت غير مستطاب، وأيضاً لو خلقت من أجسام صلبة جداً كالعظام فإما أن تكون دقيقة فتتهيأ للانكسار بسهولة، أو لا تكون كذلك فتوجب زيادة في الثقل وغلظ في جرم العنق لا لضرورة فلذلك وجب أن تكون مخلوقة من غضاريف لتكون.. متوسطة الصلابة فيكون ما يحدث فيها من الصوت لذيذاً وتكون بما فيها من اللين آمنة من الانكسار عند المصادمات التي ليست شديدة القوة، وبما فيها من الصلابة معينة على قوة الصوت فلذلك: الحنجرة عضو غضروفي خلق آلة للصوت.
وينبغي أن يزاد هذا الحد فيقال: موضوع فوق القصبة الرئة ليخرج بذلك قصبة الرئة وأجزاؤها فإن كل واحد من ذلك يصدق عليه أنه غضروفي خلق آلة للصوت لأن قصبة الرئة وأجزاؤها، وإن كان المقصود الأول بخلقها إنما هو أن تكون آلة للتنفس فإنها أيضاً مع ذلك آلة للصوت.
لأن الصوت وإن كان يتم بالحنجرة، ولكن بشرط أن يكون الهواء الذي يجتذب به نافذاً إليها من القصبة حتى يكون آخذاً من مضيق ينحصر فيه إلى فضاء يحدث فيه بقرع الهواء لجدرانه كالطنين، والحال في البوق ونحوه من الآلات الصناعية للصوت الصناعي. ولم تجعل هذه الآلة من غضروف واحد ليمكن أن ينفرج عند إرادة تعظيم الصوت، وأن يضيق عند إرادة تحديده، وأيضاً لئلا تعم الآفة التي قد تحدث في بعض أجزائه وأقل ما يمكن أن يكون من غضروفين ليمكن أن ينفرج أحدهما عن الآخر فيتسع وأن ينضم أحدهما إلى الآخر فيضيق فلا بد وأن يكون بينهما مفصل ليمكن تحرك أحدهما إلى الآخر عند الانضمام وتباعده عنه عند الانفراج فلا يمكن أن يكون وضعهما بأن يكون أحدهما يميناً والآخر شمالاً، وإلا كان المفصل إلى قدام وخلف فيكون ما يظهر منهما إلى قدام ضعيفاً بسبب المفصل فيكون مهيئاً للتضرر عند الملاقاة فلا بد وأن يكون هذا المفصل ما بين اليمين والشمال حتى يكون أحد الغضروفين من قدام والآخر من خلف فيكون كل واحد منهما في جهته وينبغي أن يكون القدامي مقبباً ليكون شكله كرياً فيكون أبعد عن قبول الآفات ومشتملاً على فضاء أو سع.

وأن يكون الخلفي منهما مستوى السطح لأنه لا يمكن أن يكون محدباً إلى داخل فضاء الحنجرة وإلا كان يضيقها ولا إلى خارج وإلا كان يزاحم أعلى المريء ويمنع نفوذ الطعام فيه ثم لما وجب أن وجب أن يكون منفذ الطعام والشراب من وراء هذا المنفذ فلا بد وأن يمر أعلى هذا المنفذ إلى منفذهما فلو كان هذا منفجرجاً حينئذٍ لسقط فيه أكثر الطعام وسال فيه كل الماء، أو أكثره. فلابد أن يكون هذا المنفذ بحيث ينسد عند نفوذ المأكول والمشروب. وأن ينفتح في غير ذلك الوقت ليمكن خروج الهواء ودخوله. ولا يمكن أن يكون ذلك بأن ينضم أحدهما إلى الآخر تارة لأن الغضاريف لصلابتها لا تطاوع لمثل هذا الانضمام فلا بد إذاً من جسم آخر ليكون في أعلاهما بحيث ينطبق على فم الحنجرة إذا أريد نفوذ الطعام أو الشراب ونحوهما وأن ترتفع عنه فيمكن نفوذ الهواء ولا بد وأن يكون هذا الجسم صلباً وإلا أمكن أن ينثني بثقل الطعام وينعطف إلى أسفل فيحصل هناك خلل ينفذ فيه الماء عليه ولا يمكن أن يكون بغاية الصلابة كالعظم وإلا لم يكن سده تاماً لأن شدة الصلابة تمنع من انثناء الأطراف انثناء يكون معه السد محكماً فلا بد وأن يكون غضروفياً ولا بد وأن يكون له مع أحد الغضروفين مفصل حتى يمكن أن يتحرك تارة إلى الإطباق وأخرى إلى الفتح ولا بد وأن يكون هذا المفصل سلساً جداً وإلا كان تحركه لذلك ببطء فيسبقه نفوذ الطعام والشراب إلى هذا المجرى ولا بد وأن يكون مفصله مع الغضروف الخلفي إذا لو كان مع القدامى لكان عند فتح الحنجرة يبقى أمام هذا المجرى فيضيق منفذ الهواء إلى خارج أو يسده ولا كذلك إذا كان مع الخلفي لأنه يكون حينئذٍ عند الفتح وراء هذا المجرى وحينئذٍ لا يعرض من ذلك أيضاً ضرر في مجرى الطعام والشراب، لأن ذلك المجرى إنما ينفذ إليه الطعام إذ كان هذا المجرى مطبوقاً ولا بد وأن يكون مفصله مع ذلك الغضروف مضاعفاً، إذ لو كان بزائدة واحدة تدخل في نقرة واحدة لكان قابلاً لحركة الاستدارة فلم يؤمن من ارتفاع أحد جانبيه عند الانطباق بحبس النفس وذلك بقوة دفع الهواء المحتبس له، وإذا ارتفع ذلك خرج منه الهواء فلا يكون الإطباق محكماً ولا بد وأن تكون الزوائد في هذا المفصل ناشبة من الغضروف الذي لا اسم له، والنقر من المكبي ليكون عند الإطباق تامة الدخول في النقر فيكون الإطباق قوياً، ولو كانت الزوائد من المكبي ليكون عند الإطباق تامة الدخول في النقر فيكون الإطباق قوياً، وإذا كانت الزوائد من المكبي لكانت عند الإطباق قليلة الدخول في نقرها فيضعف اتصال أحد الغضروفين بالآخر، ويكون الإطباق واهياً ولا بد من ارتباط هذه الغضاريف بعضها ببعض ارتباطاً محكماً، لتكون قوية على مقاومة عضلات الصدر كلها عند الإطباق بحصر النفس. وكذلك الإطباق لا بد وأن يكون شديد القوة. والله أعلم بغيبه.
البحث الثاني تشريح العظم اللامي قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وعند الحنجرة وقدامها عظم مثلث... إلى قوله: والحنجرة محتاجة إلى عظم يضم الدرقي إلى الذي.
الشرح قد عرفت أن الحنجرة لا بد لها من إطباق وفتح وتوسيع وتضييق وستعرف أن اللسان لا بد وأن تكون له حركة لأجل الكلام ومضغ الطعام. وهذه الحركات لا بد وأن تكون من الحركات الإرادية التي إنما تتم بالعضل، والعضل لا بد وأن يكون في تحريكها مستندة إلى عظم أو ما يقوم مقامه وعظام العنق واللحيين بعيدة وغير موافقة في وضعها لأن تستند إليها جميع العضلات التي تحتاج إليها في هذه الحركات كما نبينه عليه عند تفصيلنا الكلام في تلك الحركات فلا بد من عظم يكون بالقرب من هذه الأعضاء تستند إليه تلك العضلات ولا بد وأن تكون لهذه الحركات عضلات تجذب إلى فوق وإلى أسفل وإلى قدام وإلى خلف فلا بد وأن يكون لها مستند في هذه الجهات كلها، فلا بد وأن تكون لهذا العظم أجزاء في جميع هذه الجهات وأقل ما تتم به ذلك إذا كان له خمس أضلع: أحدها: منتصب على الاستقامة في طول العنق وراء المرئ هو كالأصل لجميع أضلاعه.

وضلعان من فوق يأخذان منه يمنة ويسرة، وضلعان من أسفل كذلك ها هنا هكذا: وسنحقق من كلامنا في تلك العضلات وجوب أن يكون على هذه الهيئة والضلع المنتصب منه قليل العرض، والضلعان العاليان دقيقان كالمسال، والسافلان أعرض منهما قليلاً، وذلك على قدر العضل الذي يحتاج أن يتشبث بكب واحد من هذه الأجزاء.
وقوم يسمون هذا العظم: العظم اللامي وهم الأكثر، لأنه يوجد فيه ما يشبه اللام في كتابة اليونان. وقوم يسمونه العظم الواوي لأنه لا يوجد فيه ما يشبه الواو في كتابتهم، وخاصة أنه غير متصل بعظم آخر، فلذلك يحتاج إلى أشياء يرتبط بها بعظام أخرى ليبقى وضعه محفوظاً عند تحريك عضلات الحنجرة وقصبة الرئة واللسان، وغير ذلك. فلذلك ربط من فوق بأربطة دقية مدورة تتصل بضلعيه العاليين وبالزوائد الإبرية التي عند الأذنين، ومن الأسفل بأربطة أغلظ وأقوى وأطول، تتصل بضلعيه السافلين وينتهي إلى الغضروف الحنجري، وتحت القص، وإنما كانت هذه أغلظ وأقوى لأن إمكان خروج هذا العظم عن وضعه إلى فوق أكثر لأن خروجه عن ذلك إلى أسفل يمنع منه جميع أضلاعه العالية والسافلة منعاً قوياً. ولا كذلك خروجه عنه إلى فوق، فإن الأضلاع العالية قليلة المنع من ذلك، ولهذا جعلت أضلاعه السافلة أغلظ ليكون أقوى، وخلق له ثلاثة أزواج من العضل: أحدها: عريض متصل بجانبي العظم المنتصب، وينتهي إلى جانبي الفك الأسفل.
وثانيها: يتصل بالطرف العالي من العظم المنتصب وينتهي إلى رأس الفلك الأسفل الزوج الثاني قد تركه معظم النساخ وهو زوج ينشأ من تحت الذقن ثم تحت اللسان إلى أن ينتهي إلى الطرف الأعلى من العظم اللامي، وهذا الزوج أيضاً يحدث هذا العظم إلى جانب أسفل اللحى.
وثالثها: يتصل بالطرف الأسفل من العظم المنتصب وينتهي إلى الزوائد الإبرية عند الأذنين، وأظن أن فائدة هذه العضلات أن يكون لها تحريك هذا العظم إلى جهات العظام المتصلة بها فتقوم بذلك مقام العضلات أن يكون لها تحريك هذا العظم إلى جهات العظام المتصلة بها فتقوم بذلك مقام العضلات المتصلة به لتحريك أعضاء أخرى كقصبة الرئة والحنجرة. فلا يلزم بطلان التنفس والصوت إذا عرض لعضلات تلك الأعضاء آفة. وذلك لأن هذا العظم إذا حرك إلى جهة لزم ذلك انجذاب العضلة المتصلة به إلى تلك الجهة فيحصل المقصود منها، وإن لم يكن يتحرك بنفسها وإنما لم تفعل كذلك في أضلاعها العلوية والسفلية لأن العضل المتصل بذلك جعل في نفسه مضاعفاً وذلك لأن توسيع الحنجرة يجذب الغضروف الدرقي تكفي فيه عضلة واحدة تتصل بوسطه فخلقت اثنين لتقوم الواحدة مقام الأخرى إذا عرض لها آفة، فاستغني بذلك عن عضلة تقوم مقامها بتحريك هذا العظم مع أن تحريكه من هناك موهن لثباته على وضعه. والله أعلم بغيبه.
البحث الثالث تشريح عضل الحنجرة نفسه قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه والحنجرة محتاجة إلى عضل يضم... إلى آخر الفصل.
الشرح إن الحنجرة تحتاج إلى عضل يضم الدرقي إلى الذي لا اسم له فتضيق الحنجرة وإلى عضل يمد الدرقي جاذبة له عن الذي لا اسم له فتتوسع الحنجرة. وهذا لم يذكره الشيخ ها هنا، ولكنه ذكره عند تعديد العضل، وإلى عضل تضم الطرجهال وتطبقه فتنطبق الحنجرة، وإلى عضل يوسع الطرجهال عن الدرقي فتنتفخ الحنجرة، وإنما احتاجت إلى هذه الأنواع من العضل لاحتياجها إلى كل واحدة من هذه الحركات كما بيناه أو لاً.
قوله: وعضل يبعد الطرجهال عن الآخرين.
العبارة غير جيدة لأن الطرجهال إذا ارتفع عند فتح الحنجرة لا يلزم ذلك بعده عن الذي لا اسم له.
فلنتكلم الآن في كل واحد من هذه الأنواع: والنوع الأول الموسع للحنجرة: وهو زوجان: أحدهما يجذب إلى فوق وقدام ويتصل من أسفل بالدرقي، ومن فوق الضلعين العاليين من العظم اللامي كل فرد منه بضلع، ويأخذ من جانبي الدرقي، ويصعد مستقيماً فإذا تشنج جذب الغضروف الدرقي إلى قدام وفوق، فاتسعت الحنجرة.
وثانيتهما: تجذب إلى قدام وتحت، ويتصل من فوق الدرقي. ومن أسفل بعظام القص حتى يبلغ الغضروف الحنجري، ويمر إلى هناك من داخل القص. فإذا تشنج جذب الدرقي إلى قدام وتحت، فاتسعت الحنجرة.

وقد كان يمكن حصول كل واحدة من هاتين الحركتين بعضلة واحدة تتصل بوسط الدرقي. وإنما خلق لكل واحدة منها زوج ليكون إذا عرض لإحداهما ما يبطل حركتها قامت الأخرى مقامها.
والنوع الثاني المضيق للحنجرة، وهو زوجان أيضاً: أحدهما: يأتي من العظم المنتصب من عظام اللامي، ويتصل بالدرقي من قدام ثم يستعرض ويلتف على الذي لا اسم له حتى يتحد طرفا فرديه وراء الذي لا اسم له، فإذا تشنج ضم الدرقي إلى الذي لا اسم له فتضيق الحنجرة.
وثانيهما: زوج كل فرد منه مضاعف فلك أن تجعله زوجاً واحداً ولك أن تجعله زوجين ويصل ما بين الدرقي، والذي لا اسم له. فإذا تشنج ضيق لا محالة، ومن يجعل هذا زوجين ربما ظن بعضهم أن أحدهما يستبطن الحنجرة، والآخر يظهر عليها، وإنما احتيج إلى هذين الزوجين ليتعاضدا على قوة هذه الحركة. وإنما ضعف أحدهما دون الموسع لأن الحاجة إلى قوة هذه الحركة أكثر منها في الموسعة، لأن المضيقة فعلها مقاوم لفعل عضلات الصدر مقاومة ما، لأن تلك تحاول إخراج الهواء وإدخاله بسرعة وذلك إنما يكون في منفذ واسع، وهذه تمنع ذلك بتضييق الحنجرة.
والنوع الثالث: المفتح للحنجرة. وهو زوجان: أحدهما: تأتى عضلتاه إلى الطرجهال من خلفه فيلتحمان بطرفه اللامي الذي لا اسم له يمنة ويسرة. فإذا تشنجتا رفعتا الطرجهال فتبرأ عن ملاقاة الدرقي.
وثانيهما: يأتي الطرجهال من جانبيه فيتصل كل فرد منه بجانبه من أسفل فإذا تشنجا رفعاه مادين له إلى الجانبين، وإنما احتيج إلى هذين الزوجين ليتعاضدا على رفع الطرجهال بسرعة، فإن رفع المبطوح بجذب طرفه فقط أو بجذبه من الجانبين فقط عسر، والجذب من الجانبين ظاهر أنه إنما يمكن بعضلتين.
فأما الجذب من الطرف فإنه وإن أمكن بعضلة واحدة في وسطه لكنه بعضلتين أولى. وكلا الزوجين يلتحمان بالذي لا اسم له، كل واحدة من الجهة التي يأتي منها الطرجهال.
والنوع الرابع: المطبق للحنجرة. وهذا ليس يمكن أن يكون من خارج الحنجرة لأن أطباقها إنما يمكن أن يجذب الطرجهال إلى ملاقاة الدرقي.
فلو كان هذا الجاذب من خارج الحنجرة لكان ليفه إنما يصعد إلى الطرجهال من قدام فم الحنجرة أو من جانبيه إلى قدام، فكان عند انفتاحها ورفع هذا الطرجهال فإنما يبقى ذلك الليف مضيقاً لمنفذ الهواء إلى الحنجرة، وموجباً لخلل في الكلام فلا بد وأن يكون من داخل الحنجرة، فلو كان كبيراً لضيقها فلا بد وأن يكون صغيراً، ولكن هذا الإطباق لا بد وأن يكون قوياً جداً حتى يكون مقاوماً لجميع العضلات الصدر والحجاب عند إرادة حبس النفس. وإنما يمكن ذلك مع صغر هذا العضل بأن يكون ذلك العضل قوياً جداً. ولم يمكن أيضاً أن يكون عدده كبيراً لئلا يلزم ذلك ضيق الحنجرة فجعل هذا العضل زوجاً واحداً. وكل واحد من فرديه صغير جداً قوي غاية القوة، ويبتدئ الفردان من داخل الدرقي يمنة ويسرة. ويصعدان آخذين إلى خلف ليتصلا بالطرجهال مثبتين فيه من جانبي طرفه الملاقي للذي لا اسم له، ولا بد وأن يلتحما في ممرهما بالذي لا اسم له. وفائدة ابتدائهما من أصل الدرقي أن يكون تشنجهما مع كونه محدثاً للانطباق موجباً لانضمام الدرقي إلى الذي لا اسم له انضماماً ما، فيكون السد محكماً، وقد يوجد في بعض الناس زوج صغير موضوع في أعلى الذي لا اسم له من داخل يتصل بالدرقي من طرفه يعين الزوج المذكور في الانطباق.
قوله: والعضل المفتحة للحنجرة منها زوج ينشأ من العظم اللامي فيأتي مقدم الدرقي هذا الزوج ليس من العضل المفتحة بل من الموسعة.
قوله: فإذا تشنج أبرز الطرجهال يشبه أن يكون ذلك غلطاً من النساخ، لأنه حينئذٍ إنما يبرز الدرقي.
قوله: يعد في عضل الحلق الجاذبة. هذا أيضاً كأنه قد وقع على سبيل الغلط من النساخ.
والحق أن يقال: من عضل الحلقوم لا الحلق.
قوله: فأعان في انبساط الحنجرة.
ينبغي أن يقال: فأعان في انفتاح الحنجرة لأن التمدد الحادث عن هذا الزوج إنما هو تمدد الطرجهال لا تمدد الحنجرة.
قوله: فإذا تشنج ضيق أسفل الحنجرة ليس المراد هنا أنه يضيق أسفلها فقط، بل أنه يضيق جميع أجزائها حتى أسفلها، ولا كذلك الزوج الأول. فإن أكثر تضيقه إنما هو لو سط الحنجرة، لأن التفافه عليها لا على الذي لا اسم له. والله ولي التوفيق.

الفصل الحادي عشر
تشريح عضل الحلقوم الحلق

قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه فأما الحلقوم جملة... إلى آخر الفصل.
الشرح لفظ الحلقوم يقال عند الأطباء على قصبة الرئة، وليس ذلك المراد ها هنا، فإن العضل المذكور ها هنا ليس هو عضل قصبة الرئة. وقد يقال على المجتمع من قصبة الرئة والحنجرة إذ الحنجرة هي طرف الحلقوم ورأسه فتكون من جملته، وهذا هو المراد ها هنا. والعضل المذكور له ها هنا هو في الحقيقة عضل الحنجرة، وهو الزوجان اللذان ذكرناهما في تشريح عضل الحنجرة.
والثاني منهما: هوا لذي ذكر أنه يصحب الزوج الأول في كثير من الحيوان.
وأما لفظ الحلق فالمراد به العضو المشتمل على الفضاء الذي فيه مجرى الطعام والنفس وفائدة النغانغ منع تسخين ذلك المكان، وإدفائه حتى لا يتضرر ببرد الماء والهواء الواردين، هو أن يكون المكان هناك ضيقاً ولذلك فائدة الصوت والازدراد.
أما الصوت فليكون الهواء الخارج من فضاء الحنجرة خارجاً إلى مكان ضيق فيكون ما يحدث عنه من القرع أكبر، ونظير ذلك من المزمار الطرف الضيق الذي في أعلاه الذي ينتهي إليه الفضاء الواسع الذي دونه. وأما فائدة ذلك للازدراد فلأنه يعين على سهولة نزول الطعام إلى فضاء المريء لأن المكان هناك لو كان متسعاً لكان الطعام قد يقع على حافات فم المريء فيعسر نزوله فيه.
وقد حذف الشيخ ها هنا عضلات قصبة الرئة فينبغي أن نشير إليها إشارة حقيقية فنقول: لما كانت قصبة الرئة مخلوقة لأجل التنفس، ولأجل الصوت وكان الصوت يختلف في ثقله وحدته باختلاف منفذ الهواء الفاعل له في سعته وضيقه وجب أن يكون بهذه القصبة تمكن من التضييق، وذلك إذا أريد تحديد الصوت كما قد يستعمل لذلك حينئذٍ في الآلات الصناعية واليراع المعروف بالزير ومن الاتساع وذلك إذا أريد تثقيل الصوت أو تعظيمه جداً كما قد يستعمل لذلك حينئذٍ من الآلات الصناعية اليراع المعروف بالبم وإنما يمكن ذلك كما قلنا مراراً بأن يكون هناك عضل تحركها هذه الحركات لكنها قد خلقت على السعة التي قلما يحتاج الإنسان لذلك إذا أزيد منها فلهذا خلق لها عضل التضييق فقط، وهي عضلات أربع: اثنتان منها تأتيان من الطرف الأسفل من العظم المنتصب الذي في العظم اللامي وينزلان على طول القصبة ملتحمين بالقص من داخل. وقد يتوهم أنها أربع عضلات والاثنتان الأخريان أصغر من هاتين، وتأتيان من الأجزاء السفلية من الغضروف الدرقي، وتنتهيان أيضاً عند القص محتويتين على القصبة من الجانبين.
وهذه العضلات إذا تشنجت جمعت أجزاء القصبة وضمتها وانجذب لذلك ما يتصل بكل زوج منها.
أما الزوج الأول فضلع العظم اللامي.
وأما الزوج الثاني فالغضروف الدرقي.
وكلاهما ينجذبان حينئذٍ إلى أسفل. وإنما احتيج إلى تكثير هذه العضلات لأن جرم القصبة لصلابته إنما يمكن انضمامها عن قوة قوية تفتقر إلى عضلات كثيرة. وإنما احتيج أن تكون هذه العضلات متشبثاً بعضها بالعظم اللامي وبعضها بالغضروف الدرقي، لأن الحاجة إلى تضييق الحنجرة إنما يكون في الأكثر إذا أريد تحديد الصوت وذلك محوج إلى تقصير المنفخ فجعلت هذه العضلات مع أنها مضيقة للقصبة هي أيضاً مقصرة لها تجذب الغضروف الدرقي والعظم اللامي إلى أسفل. والله ولي التوفيق.

الفصل الثاني عشر
تشريح عضل العظم اللامي
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما العظم اللامي... إلى آخر الفصل.
الشرح إنا قد تكلمنا في هذه العضلات عند تشريحنا لهذا العظم. إذ وقع ذلك بسبب أننا تكلمنا هناك في الأشياء التي ترتبط بها، ومن جملتها هذه العضلات. والله ولي التوفيق.
الفصل الثالث عشر
تشريح عضل اللسان
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه أما العضل المحرك للسان... إلى آخر الفصل.
الشرح إن لسان الإنسان ونحوه يحتاج إلى حركات متفننة. أما الإنسان فلأجل الكلام ومضغ الطعام. وأما غير الإنسان فإنما يحتاج إلى ذلك لأجل الطعام فقط. ولذلك وجب أن يكون للسان الإنسان عضلات تحركه الحركات التي يفتقر إليها في ذلك. ويجب أن يكون منشأ كل واحدة منها من الموضع الذي هو أجود لها.
فالزوج الذي ينشأ من الزوائد السهمية ينشأ من قواعد تلك الزوائد، وهو دقيق طويل يتصل به كل فرد منه بجانب من اللسان، ويحركه حركة مؤربة فيعرضه بذلك.

أما دقته فلأن للسان للحميته يسهل تحركه عرضاً، فيكفي في ذلك أدنى قوة.
وأما طوله، فلبعد المسافة بين هذه الزوائد وبين اللسان.
وإنما كان زوجاً لأنه لو كانت واحدة لكانت إذا جذبت اللسان من جانب مال إلى ذلك الجانب من غير أن يستعرض لأن اللسان لخفته يسهل جداً تحركه إلى الجوانب. وأما الاستعراض فإنما يتم بتمدد جرمه. فتكون حركة الميل أسهل وإنما أنشئ هذا الزوج من هذه الزوائد لأنه لو كان من جانبي الفك لكان ليفه يأخذ من الفك إلى اللسان فيصير الجرم المركب من اللسان ومن ذلك الليف مالئاً لفضاء الفم عرضاً ومانعاً من باقي حركات اللسان لأجل اتصاله بالفك، ولو أنشئ من العظم اللامي لكان أخذه على اللسان على الاستقامة فلا يمكن جذبه له إلى كل واحد من الجانبين، ولأجل أن هذه الزوائد وراء اللسان ومائلة عنه إلى الجانبين. لا جرم صار جذب هاتين العضلتين للسان جذباً مؤرباً.
وأما باقي هذه العضلات فلما جاز أن تكون آخذة إلى اللسان على سمت مستقيم من غير توريب لا جرم كان الأولى أن يكون منشؤها من العظم اللامي.
وإنما أنشئ الزوج المطول من أعالي هذا العظم ليكون على محاذاة اللسان في السمك، إذ لو كان في مكان أعلى من اللسان لكان يرفعه عند التطويل إلى فوق، ولو كان من مكان واحد أسفل منه لكان يحطه حينئذٍ إلى أسفل، وإنما جعل اتصاله باللسان في وسطه ليكون إذا تمدد ضغط كل واحد من طرفيه فيبعده عن الآخر ويلزم ذلك طوله، وإنما احتيج في اللسان إلى هذه الحركة لأن من الأشياء ما يحتاج الإنسان ونحوه إلى ذوقها من غير إدخالها في الفم، وإنما يتم ذلك بإبراز اللسان إليها.
والحية تخرج لسانها مسافة طويلة، وبعض الحيات يخرج لسانها مقسوماً باثنين، وأما الزوج المحرك على الوراب قلما احتيج فيه أن يكون وضعه مع ميل يسير إلى جانبي اللسان ليكون بين المعرض والمطول احتيج أن يكون منشؤه من ضلعي العظم اللامي اللذين من فوق أحد فرديه من الضلع الأيمن والآخر من الأيسر.
قوله: من الضلع المنخفض من أضلاع العظم اللامي لا يريد بالمنخفض ها هنا السافل لأن الضلعين السافلين اللذين لهذا العظم لا يجاذبان اللسان بل ينزلان عنه فلا يجوز اتصال المحرك على الوراب بهما، وأما الزوج الباطح للسان فمنشؤه من الطرف الأعلى من العظم المنتصب من جملة العظم اللامي.
وإنما أنشئ من هناك لأن التحريك المعتد به لهذا الزوج إنما هو لهذا العظم فقط وذلك بأن يجذبه إلى فوق فيكون في مقابلة العضل الجاذبة له إلى أسفل وهي التي من عند القص. وأما تحريكه للسان فيبلغ من قلته إلى حد فلا يظهر للحس. وهذا الزوج يمتد تحت اللسان في طوله إلى موضع الذقن. وجالينوس جعل هذا الزوج عضلة واحدة مضاعفة. والله ولي التوفيق.

الفصل الرابع عشر
تشريح عضل العنق
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه العضل المحركة للرقبة... إلى آخر الفصل.
الشرح إن عبارة الكتاب في هذا ظاهرة بينة غنية عن الشرح. والله أعلم.
الفصل الخامس عشر
تشريح عضل الصدر
والكلام في هذا الفصل يشتمل على ثلاثة مباحث: البحث الأول العضلات التي تبسط الصدر قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه العضل المحركة للصدر منها ما.... إلى قوله: وأما العضل القابضة للصدر فمن ذلك ما تقبض.
الشرح لما كان التنفس إنما يتم بانبساط يجذب معه الهواء لاستحالة الخلاء وانقباض تندفع معه فضول الروح وما يسخن من الهواء الوارد لأجل ضيق المكان واستحالة تداخل الأجسام فلا بد من عضلات تفعل ذلك ولما كان الغرض بالصدر أن يكون وقاية لما يحويه من القلب والرئة ونحوهما من الأعضاء الكريمة لم يمكن أن تكون عظامه بحيث تزول عن مواضعها عند هذه الحركات، وإلا كان يكون تركيبه واهياً فلا بد وأن تكون هذه الحركات عسرة فلذلك لا بد وأن تكون بعضلات كثيرة جداً، وخصوصاً وهذا المتحرك وهو الصدر عضو عظيم وهذه العضلات منها ما ينبسط فقط، ومنها ما ينقبض فقط، ومنها ما يفعل الأمرين. أما التي تنبسط فقط، فمنها ما هي بتحريك الصدر خاصة، ومنها ما ليس كذلك.

والثانية: زوج: كل فرد منه مضاعف يتصل أعلاه بالرقبة من قدامها ومنشؤه من أجنحة فقار الرقبة خاصة الثانية منها، وتبلغ إلى الإبط، وتصير إلى الضلع الخامس، وربما ما بين السادس، وملتحم بجزء من الخامس بالضلع الأول الذي هو عند الترقوة وهو إلى الاستدارة مع طول، وله فعل بجزئه المتصل بالرقبة، وهو جذبها إلى قدام، وفعل بالأجزاء المتصلة بالصدر وهو بسطه. وبسط هذا الزوج للصدر ظاهر بين، ولا كذلك تحريكه للرقبة فقط. فلذلك يعد في عضلات الصدر دون عضلات الرقبة وسبب ذلك أنه لما أريد منه بسط الضلع الأول بسطاً ظاهراً احتيج أن يكون متصلاً بالرقبة حتى إذا تشنج جذب ذلك الضلع إلى فوق وقدام فبسطه، وإنما يتم ذلك بقوة قوية فاحتيج أن يكون هذا الزوج عظيماً متصلاً بالرقبة كلها من قدامها، فلزم ذلك أن يكون تشنجه موجباً لانجذابها إلى أسفل. ولم يكن ذلك مقصوداً منه أو لاً، فلذلك لا يكون لها ظاهراً.
قال جالينوس: وهو يحني الرقبة مع تأريب.
أقول: إن ذلك إنما يكون إذا كان المتحرك أحد فردي هذا الزوج، وأما إذا تحركا معاً فإن جذبه للرقبة يكون على الاستقامة، وسبب ذلك أن ليفه يتصل من جانبي الفقرات بالأجنحة وينحدر إلى الإبطين، فإذا تشنج أحد فرديه كان جاذباً للرقبة إلى أسفل وإلى ناحية الإبط. ويلزم ذلك أن يكون جذبه لها مؤرباً. وأما إذا تشنج الفردان جميعاً فإن انجذاب الرقبة إلى أحد الجانبين يبطله انجذابها إلى الجانب الآخر، وإنما لم يمتد هذا الليف من سناسن الفقرات لئلا يلزم عند تشنج أحد الفردين ميل العنق إلى جهة ذلك الفرد ويلزم ذلك ضيق قصبة الرئة، وهو مضاد للغرض من بسط الصدر المقصود بحركة هذا العضل. إذا الغرض من بسط الصدر هو جذب الهواء إلى داخله وضيق قصبة الرئة معسر لذلك والأولى وهي العضلات التي تحرك الصدر وتبسطه وهذه فيها ما فعلها كذلك متفق عليه عند المشرحين. ومنها ما ليست كذلك.
والثانية: هي التي تسمى عضل الترقوة وهي زوج تحت كل ترقوة عضلة خفية إنما تدرك إذا شيلت تلك الترقوة وهي لحمية تتصل بالترقوة وبالضلع الأول.
واتصالها بالترقوة بالجزء الأصغر المتصل منها بالقص وبالجزء الذي يصعد إلى رأس الكتف، وقد وقع في فعل هذا الزوج خلاف بين المشرحين.
والذي ذهب إليه جالينوس، وهو الحق، أنه ليسط الصدر يجذب الضلع الأول الصغير إلى قرب حد الذي أكبر منه والأولي وهي التي بسطها للصدر متفق عليه فمنا زوج.
قال جالينوس فيه: من شاء أن يجعله عاماً للصدر والكتف فله ذلك، ومن شاء أن يجعله خاصاً بالصدر فله ذلك، وذلك لأن هذا الجزء الزوج ينشأ كل فرد منه من قاعدة الكتف، ويمتد على الصدر حتى يبلغ إلى ضلعين من أضلاع الخلف عند قرب منشأ الأجزاء الغضروفية منها، والجزء من هذا العضل الذي عند قاعدة الكتف متوار حتى إنما يرى بعد شيل الكتف وأجزاؤه التي على الصدر غير ملتحمة بل كأنها تنقسم عند كل ضلع إلى عضلة. وهذا الزوج يبسط الصدر بسطاً عظيماً، وذلك بسبب اتصاله بأضلاع كثيرة منه وجذبه لها إلى قدام، وإلى الجانب الوحشي، ومن هذه العضل ما ليس كذلك، فمن ذلك ما يسمى باسم آخر غير العضل وهو الحجاب، وسنذكره في موضعه. ومنها ما ليس كذلك، وهي الزوج الذي ينشأ من الفقرة السابعة من فقار العنق. ومن الفقرة الأولى والثانية من فقار الصدر، ويتصل بأضلاع القص، وللصدر زوجان آخران يبسطانه، أحدهما يبتدئ من الفقرة الثانية من فقار الرقبة ويمتد إلى أضلاع الخلف، ويمر بالموضع المقعر من الكتف. وثانيهما: أصغر من هذا يبتدئ من الفقرة الأولى من فقرات العنق، وتمتد إلى الضلع الخامس، ويمر إلى قدام الكتف. والله أعلم.
البحث الثاني العضلات التي تقبض الصدر قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما العضل القابضة للصدر فمن ذلك...إلى قوله: وأما العضل التي تقبض وتبسط معاً فهي العضل.
الشرح العضل التي تقبض الصدر ولا تبسطه منها ما تنسب إلى البطن وهي الأجزاء العالية من العضلات الشاخصة من عضلات البطن وستعرفها. ومنها ما ليس كذلك فمنها ما هو ممتد مع عضلات الصلب عند أصول الأضلاع وهذه إذا تشنجت جمعت هذه الأصول بعضها إلى مقاربة بعض وشدتها، ومنها ما هو ممتد في جنبي عظام القص من داخل من أو له إلى آخره.

فإذا تشنجت ضمت أطراف الأضلاع المتصلة به بعضها إلى مقاربة بعض، ومنها العضل الذي يجذب الأضلاع الأخيرة إلى أسفل. وإنما كانت العضلات القابضة أقل من الباسطة لأن البسط يفتقر فيه إلى تمديد العظام ومفاصلها وذلك لا محالة عسر فلذلك إنما يتم بقوة أخرى، وأما القبض فيتم بضم العظام إلى مفاصلها، وذلك أسهل من تمديدها إلى خارج لأنه على وفق فعل الأربطة والتمديد على ضد فعلها. ولما كان القبض يتم بضم العظام إلى مفاصلها لا جرم كان وضع عضله بقرب تلك المفاصل.
قوله: فمن ذلك ما يقبض بالعرض، وهو الحجاب إذا سكن القابض حينئذٍ ليس هو الحجاب بل الصدر هو بطبيعته لأن القاسر له على الانبساط إذا بطل فعله عاد هو بنفسه إلى طبيعته. وأما سكون الحجاب فهو شرط لا سبب ولو صح أن يقال إنه يقبض بالعرض لصح أن يقال ذلك في العضلات الباسطة أيضاً فإن سكون كل واحد منهما شرط في انقباض الصدر بالطبع. والله ولي التوفيق.
البحث الثالث العضلات التي تبسط الصدر وتقبضه قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما العضل التي تقبض وتبسط معاً... إلى آخر الفصل.
الشرح كل ضلعين فلا بد وأن يكون بينهما عضل يسد الخلل بينهما ويشد كل واحد منهما بالآخر حتى يكون وضعهما محفوظاً موثقاً. وهذا وإن أمكن أن يكون بغير العضل إلا أن العضل أولى لأن لها مع ذلك نفع في فعل الصدر. وهو الانبساط والانقباض وينبغي أن يكون هذا العضل آتياً من فقار الصلب واصلاً إلى عظام القص ليكون ساداً لجميع ما يقع بين الضلعين، ولكن وضع هذا الليف يجب أن يكون في وضعه مخالفاً لو ضع العضل لأن هذا العضل آخذ من خلف إلى قدام. وأما الليف فيجب أن يكون آخذاً من فوق إلى أسفل ليكون واصلاً بين الضلعين.
وينبغي أن يكون سلوكه كذلك بتوريب. فإنه لو كان منتصباً لم يكن قابلاً للتمدد الذي يوجبه بسط الصدر قبولاً سهلاً ضرورة أن يكون حينئذٍ على أقصر الطرق الواصلة بين الضلعين وينبغي أن يكون سلوكه كذلك بتوريب فإنه لو كان منتصباً لم يكن قابلاً للتمدد الذي يوجبه بسط الصدر قبولاً سهلاً ضرورة أنه يكون حينئذٍ على أقصر الطرق الواصلة بين الضلعين وينبغي أن لا يكون كله على وضع واحد بل على وجه مقاطع بعضه بعضاً ليكون بعضه مرتبطاً ببعض فيكون تأليفه قوياً فلذلك تكون هيئته على صورة كتابة السين في كتابة اليونان.
قال جالينوس: وعدد هذه العضلات اثنتان وعشرون عضلة إذ بين كل ضلعين عضلة واحدة، وليس بين الطرفين، وبين غيرها هذا النوع من العضل، وعدد الأضلاع أربعة وعشرون ضلعاً فلذلك تكون هذه العضلات اثنتين وعشرين عضلة.
وأما صاحب الكتاب فقد جعل كل واحدة من هذه العضلات أربع عضلات فيكون عددها ثمانياً وثمانين عضلة. واحتج على ذلك بأن هيئات الليف في كل واحدة منها على أربعة أحوال وذلك لأن كل واحد من هذه كلها أجزاء تلي الصلب. وهو حيث الأضلاع منحدرة من فوق إلى أسفل وجزء يلي القص وهو حيث الرؤوس الغضروفية. والليف في كل واحد من الجزأين ما كان منه إلى خارج الصدر فهو على خلاف هيئة ما هو فيه إلى داخله، فلذلك تكون ألياف ما بين كل ضلعين على أربعة أو جه. فيكون ذلك أربع عضلات.
ونحن نقول: إن الأمر كذلك لا لأن هذه الألياف مختلفة الوضع فقط بل لأن فعلها مختلف أيضاً. وذلك لأن الألياف التي من جهة الصلب ما كان منها إلى خارج الصدر فهو باسط، وما كان منها إلى داخله فهو قابض، والألياف التي من جهة القبض بالعكس، أعني ما كان منها إلى خارج الصدر فهو قابض. وما كان منها إلى داخله فهو باسط، واختلاف الأفعال لا شك في دلالته على اختلاف العضل.
وقال جالينوس: إن مع هذه العضلات زوج صغير يجذب الضلع الأول إلى فوق كما تجذب عضلتان أخريان الضلع العاشر والحادي عشر إلى أسفل، وأما الضلع الثاني عشر فهو خارج من الحجاب ويلتحم بالعضلة الصغيرة من العضل المؤرب الذي على البطن.
وربما رأينا مراراً كثيرة عضلة خاصة صغيرة تجذبها إلى أسفل. والله ولي التوفيق.

الفصل السادس عشر
تشريح عضل حركة العضد
والكلام في هذا الفصل يشتمل على ثلاثة مباحث: البحث الأول العضلات الثلاث الآتية إلى الكتف من الصدر قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه

عضل العضد هي المحركة... إلى قوله: وعضلتان تأتيان من ناحية الخاصرة وتتصلان أدخل.
الشرح لما كان مفصل العضد مع الكتف محتاجاً إلى أنواع كثيرة من الحركات الإرادية التي إنما آلام بالعضل. وكان تحريك المستطيل من طرفه رفعاً وإلى الجانبين ونحو ذلك مما يحوج إلى قوة قوية جداً، وجب أن تكون العضل المحركة لهذا المفصل كبيرة عظيمة وإنما وجب أن يكون اتصال هذه العضلات بطرف العضد لأنها لو اتصلت بغير ذلك الموضع لزمها عند التحريك رفع ما فوق أو تارها من الجلد وذلك عسر مؤلم وأول هذه العضلات المذكورة في الكتاب ثلاث عضلات تأتي من الصدر: الأولى: تبتدئ من تحت الثدي وهو الموضع المنخفض الخارج عنه وتلتحم أكثر أجزائها بالعضلة الثالثة التي نذكرها، وتنتهي إلى وتر غشائي ويلتحم في مقدم العضو في الجزء المعروف بزيق النقرة خاصة الذي من قدام، وإنما جعل هذا الوتر غشائياً ليتسع له ولعظم العضد الزيق فإذا تشنجت هذه العضلات جذبت العضد مقربة له من الصدر لأن ابتداء ليفها من هناك، وتقريبها له من الصدر مع اشتراك، لأن موضع اتصالها بالعضد أعلى من موضع اتصالها بالصدر وهذا الاشتراك ليستتبع الكتف لارتباطه بالعضد بالأربطة التي عرفتها عند كلامنا في العظام.
والعضل الثانية: تبتدئ من العظم الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس من عظام القص، ويصعد إلى الجزء العالي من رأس العضد وهو الذي يلي الترقوة وهناك يلتحم برباط غشائي حول هذا المفصل. ووتر هذه العضلة أقوى من وتر التي قبلها وذلك لأمرين: أحدهما أن وتر تلك احتيج أن يكون غشائياً لما ذكرناه، ويلزم ذلك أن يكون ضعيفاً لأجل رقته.
وثانيهما: أن تحريك تلك العضلة هو تقريب العضد من الصدر مع اشتراك وذلك أسهل من تحريك هذه، وهو تقريب العضد من الصدر مع استرفاع. وسبب ذلك أن وترها يأتي طرف العضد من فوق والعضلة الثالثة هي أعظم هذه العضلات وتبتدئ ليفها من جميع عظام القص ويمر الجزء الأعلى من ليفها عرضاً إلى موضع الكتف لأن منشأه على محاذاته أو بالقرب من ذلك، ويمر الجزء الأسفل منه إلى هناك صاعداً على توريب لأن منشأه هذا الجزء من أسافل القص فيكون طريقه إلى الكتف، لذلك قال جالينوس: أن للأول أن يضع أن هذه عضلتان لا عضلة واحدة وذلك لأجل اختلاف المذكور في ليفها أو ليف جزئها السافل شديد المخالفة لليف جزئها العالي وكلا الجزأين كبيران لكن العالي أكبر كثيراً إذ الثدي موضوع على هذه العضلة لأنه في طريق سلوكها. والجزء اللحمي من الإبط الذي في مقدم الصدر من هذه العضلة إلا القليل منه، وأكثر ذلك من الجزء السافل منها، وذلك لأن هذا الجزء من الإبط لما كان جذب الجزء من العضلة للعضد حينئذٍ قوياً إذ لا يكون ذلك الجذب معتمداً على عظم لأنه لو لم يكن جذباً إلى المنشأ بل إلى موضع الزاوية المنفرجة فلذلك احتيج أن يكون نفوذ هذا الجزء إلى الكتف على وجه يجذب عنه هذا الجزء من الإبط. وسواء كان هذا الجزآن عضلة واحدة، أو عضلتين فإن الوتر الجاذب منهما واحد وهو وتر دقيق بالقياس إلى ما يقتضيه جرم هذه العضلة ومع ذلك فلحميته قليلة وإنما خلق كذلك ليكون مع دقته شديد القوة، وإنما أريد أن يكون دقيقاً لئلا يثقل طرف العضد ويغلظه، واتصال هذا الوتر هو بأسفل مقدم العضد فإذا تشنج جزؤها العالي أقبل بالعضد نحو الصدر رافعاً له إلى فوق قليلاً لأن ليف هذا الجزء يرتفع بعضه عن طرف العضد فإذا تشنج جزؤها الأسفل أقبل العضد نحو الصدر خافضاً له لأن جذب هذا الجزء يكون على تأريب كما هو وضع ليه فإذا تشنج الجزآن معاً أقبلا بالعضد نحو الصدر على استقامته من غير رفع ولا خفض لأن ما يقتضيه كل واحد من الجزأين من ذلك يبطله الجزء الآخر، وإنما تتكافأ القوتان في ذلك فلا يكون الرفع أولى بسبب كون الجزء العالي أكبر وذلك لأن هذا الجزء وإن كان اكبر فليس جميع أجزائه ذاهباً إلى رأس العضد في أعلاه بل بعضه يكون أسفل من محاذاة ذلك الموضع وهو ما قرب من الجزء السافل. والله ولي التوفيق.
البحث الثاني عضلتي الخاصرة المحركتين للصدر قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وعضلتان تأتيان من ناحية الخاصرة تتصلان... إلى قوله وخمس عضلات منشؤها من عظم الكتف عضلة منها منشؤها.
الشرح

أما الأولى من هاتين العضلتين فهي أغلظ وأطول من جميع العضل المحركة لعظم العضد ومنشؤها من الفقار الذي يتصل بها أضلاع الخلف ويلتحم على عضل الصدر صاعدة حتى تلتحم أيضاً بقاعدة الكتف ثم تمتد إلى قدام على تأريب يسير ملتحمة مسافة ما على العضل الموضوع على الضلع المنخفض من أضلاع الكتف فإذا بلغت محاذاة الإبط صعدت إلى عظم العضد والتحمت به بوتر قوي جداً إلى العرض ما هو والتحامها به من الناحية الداخلة من وتر العضلة العظيمة الصاعدة التي تقدم ذكرها وهي إحدى تلك العضلات الثلاث. وهذه العضلة تلتحم بعضلتين: إحداهما: موضوعة فوقها في نفس الإبط.
والأخرى تبلغ إلى مفصل المرفق.
وإذا تشنجت هذه العضلة جذبت العضد إلى جهة ضلوع الخلف، لان تشنجها يكون إلى هناك، وإنما خلقت عظيمة لأن تحريك المستطيل من طرف هذه الحركة عسر جداً.
وأما العضلة الثانية فهي عند مبدئها رقيقة جداً، وتزداد غلظاً كلما ارتفعت ومبدؤها من الأغشية التي تحت الجلد الذي على عظم الخاصرة. فلذلك ولرقتها هناك جهلها كثير من المشرحين، لأنها تنكشط مع الجلد عند السلخ فلا يظهر لهم، فإذا بلغت الإبط ازدادت غلظاً كثيراً حتى ترى هناك عضلة ظاهرة وينتهي إلى وتر غشائي. وهذه تفعل فعل الأولى لأن مبدأ هذه أميل إلى قدام من تلك. وتتصل بطرف العضد فإذا جذبت بتشنجها رأس العضل إلى قدام مال ما فيه إلى خلف، وإنما لم تحتج هذه عند مبدئها أن تكون متصلة بعظم لأنها لطولها تكثر الأجزاء التي تتصل بها من الأغشية ونحوها فيقوم ذلك لها مقام العظم لو كانت قصيرة، وسبب اختصاص هذه بذلك أنها مع عظمها لا تحتاج أن تكون قوية جداً لأنها يقصد منها فعل مستقل بل أن تكون معينة للمذكورة قبلها. والله ولي التوفيق.
البحث الثالث باقي عضلات هذا المفصل قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وخمس عضلات منشؤها من عظم الكتف عضلة منها... إلى آخر الفصل.
الشرح قد علمت أن عظم الكتف على ظهره عظم مثلث فإذا لم يمتل جانباه لحماً، ولم يختف بعظم الكتف لحم، لم يمكن تسطح ظاهر البدن هناك مستحسناً وكان نتوء الجلد يعده للتضرر بالملاقيات، ولحم العضل أولى بذلك لأنه مع نفعه هذه المنفعة يفيد في تحريك العضد فلذلك خلق على هذا العظم خمس عضلات كبار ذوات أو تار عراض قوية كلها تلتحم بعظم العضد. وهذه العضلات بعضها فيما بين العظم الدرقي المثلث والضلع العالي من عظم الكتف، وبعضها فيما بين ذلك المثلث، وبين الضلع السافل من عظم الكتف، وبعضها في غير هذين الموضعين، والأولى من هذه الخمس تنشأ من الضلع الأعلى من الكتف وتملأ ما بين هذا الضلع وبين المثلث الذي على ظهر الكتف وينفذ إلى الجزء الأعلى من رأس العضد، وهو الرمانة الوحشية، وهي الخارجة عن نقرة الكتف وتتصل بهذه الرمانة مائلة يسيراً إلى الأنسي وهي تبعد العضد عن الصدر مع ميل إلى الأنسي لأنها إذا تشنجت جذبته إلى فوق، وذلك لأن تشنجها يكون إلى ظهر الكتف، وهو فوق العضد، ومع ذلك تميله إلى الأنسي لأن جهته الموضع الذي يشغله لحمها هو بالنسبة إلى موضع اتصالها بالعضد أنسي.
والثانية من هذه الخمس تملأ ما بين العظم المثلث وبين الضلع الأسفل من أضلاع عظم الكتف. وتتصل برأس العضد من الجانب الوحشي جداً فيبعده عن الصدر مع ميل إلى الوحشي إما بتبعيدها له عن الصدر فلأنها ترفعه إلى فوق، ولأنها تتشنج إلى ظهر الكتف وهو أعلى من رأس العضد وإما تمييلها له إلى الوحشي فلأن الموضع الذي يشغله وحشي بالنسبة إلى رأس العضد وقد جعل الشيخ منشأ هذه من الضلع الأعلى من أضلاع الكتف.
وأظن، والله أعلم، أنه من الأجزاء السفلية من ظهر الكتف.
والعضلة الثالثة من الخمس مشتبكة بهذه حتى يظن أنها جزء منها وهي تفعل هذه، وقد جعل الشيخ منشأها من الضلع الأعلى من الكتف أيضاً وأظن أنه من الأجزاء العليا من الضلع المنخفض من أضلاع الكتف من دون نصفه ووترها يتصل بالأجزاء الوحشية بالحقيقة من عظم العضد فلذلك يكون تمييلها له إلى الوحشي أكبر وهي أصغر من الثانية. والعضلة الرابعة من الخمس تحشو تقعير الكتف ووترها قوي عريض جداً.

والعضلة الخامسة تنشأ من الأجزاء السفلية من الضلع المنخفض من أضلاع الكتف وتلتحم بالعضلة العظيمة الصاعدة من الفقار الذي عند أضلاع الخلف التحاماً طويلاً وذلك في المواضيع الأنسية من العضد فهذه عضلات تحرك عظم العضد عند هذا المفصل وله عضلة أخرى ذات رأسين. فيكون جملة عضله إحدى وعشرين عضلة سوى العضلة الصغيرة التي زادها بعضهم. والله ولي التوفيق.

الفصل السابع عشر
تشريح عضل حركة الساعد والكلام في هذا الفصل يشتمل على ثلاثة مباحث: البحث الأول قول كليّ في العضل المحركة للساعد قبضاً وبسطاً قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه العضل المحركة للساعد... إلى قوله فالباسطة زوج أحد فرديه.
الشرح قد علمت من كلامنا في العظام أن هذا المفصل له حركة انقباض وانبساط وحركة انكباب وانبطاح. وهذه الحركات إرادية إنما تتم بالعضل، فيجب أن يكون لهذا المفصل عضلات تحركه هذين النوعين من هذه الحركة، ويجب أن تكون المحركة قبضاً وبسطاً موضوعة على العضد حتى يكون قبضها بجذب الساعد إلى مقاربته وبسطها بجذبه إلى مباعدة، ويلزم ذلك أن يبقى منبسطاً.
ويجب أن يكون لكل واحدة من هاتين الحركتين عضلتان، إذ لو كان لو احدة منهما عضلة واحدة لكانت تلك العضلة إما أن توضع في جانب من العضد أو في وسطه. فإذا كان الأول كان انجذاب الساعد إلى جهة ذلك الجانب أكثر فلا يكون الانقباض أو الانبساط مستوياً. وأيضاً يكون ثبات الساعد إلى جهة ذلك الجانب أكثر فلا يكون الانقباض أو الانبساط حينئذٍ على تلك الهيئة غير قوى. إذ تلك العضلة لا تكون حينئذٍ مانعة من حركة الساعد إلى أحد الجانبين منعاً قوياً. فإذا كان الثاني كان ثبات الساعد حينئذٍ عند انقباضه أو انبساطه على هيئته ضعيفاً لأن الجذب المحاذي للوسط في القرب أو البعد غير شديد المنع للميل إلى أحد الجانبين فيجب أن يكون لكل حركة عضلتان ويجب أن يكون تحريك كل واحدة على توريب إذ المستقيم لا يمنع الميل إلى الجانبين منعاً قوياً، ويجب أن تكون الجهة التي إليها ميل توريب كل عضلة مضادة لجهة توريب نظيرتها فتكون إحدى القابضتين مثلاً تميل إلى الجانب الأنسي، والأخرى تميل إلى الجانب الوحشي ليكون لكل واحد من الميلين مانعاً من الآخر متقاومان ويبقى الساعد حينئذٍ مستقيماً في انقباضه، وكذلك في انبساطه، ويجب أن يكون وضع كل واحدة من هذه العضلات إلى جانب من العضد يكون ثبات الساعد على حاله في الانقباض والانبساط أقوى لأن تعثر الميل حينئذٍ إلى الجانبين أكبر ويجب أن تكون هذه العضلات كلها متصلة بعظام الساعد وإلا لم يمكن جذبه، ويجب أن يكون اتصال كل واحد منها بالزند المخالف لجهتها ليتحقق الجذب المؤرب. ويلزم ذلك أن يكون وضع كل واحدة منها مؤرباً عند طرفها الذي يلي الساعد، ويجب أن تكون هذه العضلات الأربع بجملتها مجللة للعضد لئلا يبقى جزء غير مستور باللحم ولذلك يجب أن يكون على طول العضد، وها هنا سؤال وهو أنه لقائل أن يقول: إن حركات هذا المفصل أكثر من حركات مفصل العضد مع الكتف إذ في أكثر الأمر يكون ذلك المفصل ساكناً، واليد متحركة، وإذا كان كذلك، وجب أن تكون عضلات هذا المفصل أكثر عدداً من عضلات مفصل العضد مع الكتف ولا أقل أن تكون مساوية لها.
وجوابه: أن الأمر ليس كذلك. وذلك لأمرين: أحدهما: أن العضلات إما أن يلزم أن تكون متكثرة بتكثير الحركات إذا كانت تلك الحركات متكثرة بالنوع، وأما إذا كانت متكثرة بالوجود فقط لم يلزم ذلك إذ قد تكون بعضلات قليلة العدد، شديدة القوة، وهذا المفصل وإن كانت حركاته توجد أكثر من حركات مفصل العضد مع الكتف فأنواعها أقل لأن العضد له أن يتحرك إلى كل واحدة من الجهات التي تعرض على محيط نقرة الكتف ولا كذلك ها هنا.
وثانيهما: أن مفصل العضد مع الكتف احتيج أن يكون عنده لحم كثير ليفي يستر عظم الكتف وحشو الخلل الواقع بين المثلث على ظهره، وبين كل واحد من الضلعين الجنبيين، وذلك لئلا يبقى تسطيح الظهر مختلاً، وأولى اللحم بذلك لحم العضل لأنه مع نقصه في ذلك ينفع في حركة العضد بحسن وجاز أن يكون العضل هناك كثيراً، ولا كذلك ها هنا، فإن هذا العضل لو كان ها هنا كثيراً، لثقل العضد، وغلظ جداً، فكان تحريكه عسراً والله أعلم.
البحث الثاني

هيئة العضلات التي بها انقباض الساعد وانبساطه قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه فالباسطة زوج أحد فرديه... إلى قوله: وأما الباطحة للساعد.
الشرح أما الزوج القابض فيجب أن يكون موضوعاً على مقدم العضد. ليكون جذبه للساعد إلى ملاقاته فيكون ذلك الانجذاب أسهل، ويجب أن يكون أحد فرديه آخذاً من أنسي مقدم العضد إلى الزند الأعلى كما قلناه. ويكون الآخر آخذاً من وحشي ومقدمه إلى الزند الأسفل، وذلك ليكون الجذب مؤرباً كما أو حيناه، ويجب أن يكون الموضوع على الأنسي أعظم وأقوى، لأن الحاجة إلى ميله إلى الوحشي لأن اليدين عند الانقباض المائل إلى الأنسي يكون إحداهما مقبلة على الأخرى وذلك أحسن أو ضاعهما في التعاون على تحريك الشيء الواحد. وهذه الكثيرة القابضة تشاهد محتوية على مقدم العضد، ويبتدئ أو لاً: من الزيق العالي من زاوية الكتف، ومن الزائدة الشبيهة بالمنقار، واتصالها بالزيق برباط قوي مستدير، واتصالها بالزوائد الشبيهة بالمنقار برباط دقيق شديد الاستدارة ثم تكثر فيها الأجزاء اللحمية، وتماس العضد إلى نصفه ثم تعلو على الفرد الآخر راكبة عليه، فإذا بلغت المرفق اتصلت بالزند الأعلى، فإذا تشنجت جذبت ذلك الزند إلى مقاربة أنسي مقدم العضد. ويلزم ذلك أن يكون ذلك الانقباض مؤرباً إلى الأنسي، وأما العضلة الأخرى فتبتدأ من العضد وحده لأن جذب الأولى لما احتيج فيه أن تكون أقوى كانت محتاجة إلى ما تستند إليه من العظام أكثر وابتداؤها من خلف رأس العضد. ومن هناك تمتد في الجانب الوحشي وتصير بتأريب إلى قدام وتلتحم بالزند الأسفل آخذة تحت العضلة الكبيرة، وإنما كان كذلك لأن هذه لو جعلت من فوق لكانت معرضة للانقطاع والتضرر عن المصادمات مع صغرها ولأن وضع الزند الأعلى أرفع فيكون ارتفاع المتصل به أولى.
وأما الزوج الباسط فأحد فرديه يبتدئ من تحت مقدم رأس العضد، ويبتدئ الآخر من الضلع المنخفض من أضلاع الكتف من منتصفه ثم يتحدان حتى قد يظن أنها عضلة واحدة، وباقي هذا الزوج كما قلناه في الزوج الأول.
قوله: من الزيق الأسفل من الكتف الظاهر أن هذا وقع غلطاً من النساخ، والصواب أن يقال من الزيق الأعلى لأن ذلك هو المحاذي لمقدم العضو. والله ولي التوفيق.
البحث الثالث هيئة العضلات التي بها انبطاح الساعد وانكبابه قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما الباطحة للساعد فزوج... إلى آخر الفصل.
الشرح أما العضلة الطويلة الرقيقة المتصلة بالعضد فإيجابها لحركة الانبطاح فظاهر، وذلك لأن هذه تبتدئ من الجزء الأعلى من رأس العضد أعني الرأس الذي عند المرفق بما يلي ظاهر العضد، ويمتد إلى حد تقارب الرسغ، وهناك يتصل بالجزء الباطن من الزند الأعلى، ولا شك أن البعد المؤرب أطول من المستقيم . فإذا تشنجت هذه العضلة قصرت فلم تف بالتوريب واضطرت إلى أن تكون مستقيمة، وإنما يمكن ذلك بأن يصير الجزء الذي ينتهي إليه من الزند الأعلى مسامتاً للجزء الذي يبتدئ منه من رأس العضد، وإنما يمكن ذلك بأن تتسطح اليد على ظهرها حتى يصير باطن الكف عند بسطه متجهاً إلى فوق وإنما أمكن ذلك بسبب اتصال هذه العضلة بالعضد، واتصال الساعد عنه بمفصل يتمكن أحد عظميه من الآخر دون الآخر، وهو المرفق حتى يتمكن عند تشنجها تحريك الساعد إلى تلك الهيئة. فلذلك العضلة الأخرى لم يكن لها اتصال بالعضد لم يمكن أن تكون فاعلة لهذه الحركة لأن تشنجها حينئذ إنما تلزمه قوة ارتباط الزند العالي بالسافل، وشدة التلازم بينهما. ولا تلزمه هذه الحركة البتة إذ ليس لأحد الزندين أن يتحرك وحده البتة.
فلذلك إذا لم يكن لهذه العضلة اتصال بالعضد فإنما يكون لها فائدة إلا أنها تشد الارتباط بين الزندين فقط، وإذا عرفت هذا في العضل الباطحة فالأمر في العضل المكبة كما في هذا بعينه، فإن العضلة القصيرة إذا لم يكن لها اتصال بالعضد لم يكن لها فعل في الكتف البتة بل ليكون فعلها موثق ارتباط أحد الزندين من الجهة المقابلة للجهة المذكورة مع الباطحة.

الفصل الثامن عشر
تشريح عضل الرسغ
والكلام في هذا الفصل يشتمل على بحثين: البحث الأول العضلة الباسطة للرسغ قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه

وأما عضل تحريك المفصل... إلى قوله: وأما العضل القابضة فزوج على الجانب الوحشي.
الشرح الذي نعلمه من كلام الفضلاء في هذا الفن، والله أعلم، أن من جملة العضلات التسع التي على وحشي الساعد ثلاث عضلات عن جنبتيه: إحداهن: على الزند الأسفل منشؤها من الجزء الأسفل من رأس العضد أعني الرأس السافل حيث المرفق وينبت منها وتر فرد بسيط يتصل بالمشط قدام الخنصر وإذا تشنجت بسطت الكف كابة له على وجهه، والعضلتان الأخريان موضوعتان على الساعد تتصل إحداهن بالأخرى حتى يظن أنها عضلة واحدة إحداهما منشؤها وسط الزند الأسفل وينبت منها وتر يتصل بالإبهام، وإذا تشنجت تباعد الإبهام عن السبابة، والأخرى منشؤها من الزند الأعلى.
وينبت منها وتر واحد يتصل بالعظم الأول من عظام الرسغ قدام الإبهام، وإذا تشنجت بسطت الكف قالبة له على قفاه، وإذا تشنجت هذه مع الأولى من عظام الرسغ قدام الإبهام، وإذا تشنجت هذه مع الأولى من الثلث بسطتا بسطاً مستوياً.
وعضلة أخرى بين الأولى والثانية من الثلاث موضوعة على الزند الأعلى تنشأ من الأجزاء السفلية من رأس العضد أعني الذي عند المرفق ويتفرع منها وتران يتصلان بوسط المشط أحدهما قدام السبابة، والآخر قدام الوسطى وإذا تشنجت هذه بسطت الكف بسطا مستوياً، هذا ما وصل إلى ذهننا من كلامهم. والله أعلم بغيبه.
البحث الثاني العضلات القابضة للرسغ قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما العضل القابضة فزوج على الجانب الوحشي... إلى آخر الفصل.
الشرح العضل القابضة للكف على ما نعرفه عضلتان في جنبي أنسي الساعد. إحداهما منشؤها من الرأس الأنسي من العضد عند المرفق ومن الرأس الزند الأسفل، ويتصل وترها بالمشط أمام الخنصر إذا انسحب قبضت الكف مع قلب قليل له على قفاه.
وثانيتهما: تبتدئ من الجزء الأعلى من الرأس الأنسي من العضد ووترها يتصل بالرسغ من أمام الإبهام والسبابة وإذا تشنجت هذه وحدها قبضت الكف مكبة له على وجهه قليلاً وإذا تشنج العضلتان جميعاً انقبض الكف اقباضاً مستوياً. وإن تشنجت هذه مع التي على الجانب الوحشي أمام الخنصر انكب الكف على وجهه انكباباً ما وإن تشنجت العضلة الأولى من هاتين مع التي على الجانب الوحشي متصلة بعظم الرسغ الذي يلي الإبهام انقلب الكف على ظهره اقلاباً تاماً وليس في العضلات القابضة للكف ما هو موضوع على الجانب الوحشي كما ليس في الباسطة ما هو على الجانب الأنسي، وأما ما يخالف هذا مما هو مذكور في الكتاب فلست أفهمه.
وإنما جعل المكب والباطح ها هنا هو الباسط والقابض بخلاف ما في العضلات المحركة للساعد وذلك لأن هذا العضو لصغره بقي قوة العضلة الواحدة بالفعلين، ولا كذلك الساعد. والله ولي التوفيق.

الفصل التاسع عشر
تشريح عضل أصابع اليد
والكلام في هذا الفصل يشتمل على ستة مباحث: البحث الأول كلام كلي في هذه العضلات قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه العضل المحرك للأصابع... إلى قوله: فالباسطة عضلة موضوعة على.
الشرح قوله وكلما بعدت الرسغيات، يريد التي تمر أو تارها بالرسغ لا أنها موضوعة، فإن هذه موضوعة على الساعد.
قوله: فحصنت بأغشية تأتيها من جميع الجوانب معناه: فحصنت من جميع الجوانب بأغشية تأتيها لأن التحصين هو من كل جانب لأن تلك الأغشية تستدير عليها فتحيط بها من كل جانب لأن الأغشية تستدير عليها فتحيط بها من كل جانب وأما إتيانها إليها فليس من كل جانب بل لكل نوع منها جانب ما يأتي الأغشية منه كما نذكره. وإنما حصنت من جميع الجوانب لتوقي ضرر كل مؤذ إما من خارج كالمصادمات والصلابات الملاقية بعنف، وإما من داخل كالعظام المؤلمة لها لصلابتها وخلقت هذه الأوتار مستديرة لتكون أبعد عن قبول الآفات. فإذا وصلت إلى حيث تلاقي العضو استعرضت لتصل بأجزاء أكثر حال حركته فيكون المتحرك بها غير قلق في وضعه وجميع الباسطة موضوعة على الساعد لأنها لا بد أن تكون من جهة ظاهر الكف وهو يجب أن يكون قليل اللحم جداً كما نبينه فيما بعد.
قوله: وكذلك المحركة إياها إلى أسفل. هذا مشكل فإن بعض ما يميل إلى أسفل موضوع في باطن الكف على ما تدري من بعد والله ولي التوفيق.
البحث الثاني تشريح العضلة الباسطة لغير الإبهام

من الأصابع قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه فمن الباسطة عضلة موضوعة... إلى قوله: وأما المميلة إلى أسفل فثلاث.
الشرح لقائل أن يقول: لم خلق لبسط الأصابع الأربع عضلة واحدة وخلق لانقباضها عضلات كثيرة. وكان ينبغي أن يكون بالعكس لأن إشالة الثقيل أعسر من حطه.
وجوابه: إن الحركة القوية التي تحتاج إليها الأصابع عند الأعمال إنما هي حركة الانقباض وذلك في مثل الإمساك القوي وجر الأثقال ونحو ذلك.
وأما حركة الانبساط فهو في الحقيقة كترك العمل بالأصابع فلذلك إنما يحتاج أن تكون القوة فيه بقدر يقوى على رفع الأصابع فقط وهي قليلة الثقل فلذلك تكفي فيها قوة يسيرة، فلذلك كفى الأربعة عضلة واحدة، وهذه العضلة تحتاج أن تكون قوتها قوية، لأنها تحرك أربعة أعضاء، فلذلك خلقت عظيمة، ومنشؤها من الجزء المشرف من الرأس الوحشي من الطرف السافل للعضد، ويمتد في وسط وحشي الساعد. أعني ما بين أعلى ذلك الجنب وأسفله، وإنما خلقت كذلك ليكون ما يتوزع منها من الأوتار آخذاً إلى الأصابع على الوجه العدل، فلا تكون بعض الطرفيات أقرب إليها من مقابلها من الطرف الآخر. والله ولي التوفيق.
البحث الثالث العضلات المميلة للأصابع إلى أسفل لموضوعة على وحشي الساعد قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما المميلة إلى أسفل فثلاث... إلى قوله: وأما القابضة فمنها ما على الساعد.
الشرح إن الإنسان يحتاج في أعماله إلى تمييل أصابعه تارة إلى أسفل، وتارة إلى فوق، وتارة إلى تمييل بعضها إلى أسفل وبعضها إلى فوق وذلك عند إرادة القبض على شيء عظيم لأن جملة الأصابع تكون حينئذٍ كالمحيطة بالممسوك وتحتاج أن تكون هذه الحركات قوية لتقوى الأصابع حينئذٍ على شدة إمساك ما تحتوي عليه ورفع ثقله، فلذلك خلق لها عضلات كثيرة، وحاجة المميلة إلى أسفل إلى قوة شديدة أشد لأن الأصابع حينئذٍ تحتاج إلى قوة الإحاطة مع قوة رفع ثقل الممسوك، فلذلك احتيج لها إلى عضلات قوية جداً، فاحتيج أن تكون بعض عضلاتها كبارا جداً، فاحتيج أن يكون تلك على الساعد إذ الكف لا يحتمل ذلك لأجل صغره، ولا كذلك إذا كانت مائلة إلى فوق لأنها حينئذٍ إنما تحتاج إلى قوة الإحاطة فقط. وكان ينبغي أن تكون هذه العضلات على عدد الأصابع المتحركة بها، لكن الإبهام لما كانت قوتها تحتاج أن تكون قوية حتى تكون في قوة إصبعين، وجعل لها عضلة واحدة وكفى لكل إصبعين من الباقية عضلة واحدة فلذلك صارت هذه العضلات ثلاثاً، وخلقت من جانبي العضلة الباسطة لأن تلك لما كانت حركاتها مؤربة كان أحسن أو ضاعها الطرفان، ولما كان تأريب هذه الحركات إلى جهة ظاهر الكف خلقت عضلها من الجهة الوحشية. وخلق للإبهام وحدها عضلة واحدة والباقي لكل إصبعين عضلة لأن الإبهام يحتاج إلى قوة قوية تقارب ضعف قوة كل واحدة من الأصابع الأخرى، وخلقت المحركة للخنصر والبنصر أعظم من المحركة للوسطى والسبابة وذلك لأمرين: أحدهما: ضيق المكان على المحركة للوسطى والسبابة لأنها تحتاج أن تكون من جهة أعلى الجانب الوحشي من الساعد، وفي ذلك الجانب العضلة المحركة للإبهام أيضاً فضاق المكان عليهما فاحتيج أن تكونا صغيرتين وأن يكون الاتصال بينهما كثيراً، فلذلك قد يظن أنهما عضلة واحدة ولا كذلك مكان المحركة للخنصر والبنصر فإن مكانهما لا يزاحمهما فيه غيرهما. فأمكن أن تكون عظيمة.
وثانيهما: أن هذه الحركة تحتاج أن يكون الخنصر والبنصر أقوى لما قلناه فيحتاج أن يكون عضلهما أعظم .
قوله: فثلاث منها يتصل بعضها ببعض. أما اتصال المحركة للإبهام بالمحركة للوسطى والسبابة فذلك ظاهر وشبيه ما قلناه، وأما الأخرى فظاهر أنها إنما تتصل بالوسطى الباسطة للأصابع الأربع لأنها مجاورة لها بخلاف المميلة للوسطى والسبابة. والله ولي التوفيق.
البحث الرابع العضلات القابضة للأصابع الموضوعة على أنسي الساعد قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما القابضة فمنها ما هي على الساعد... إلى قوله: وأما العضلة الثالثة فليست للقبض ولكنها تنفذ.
الشرح

لما كانت العضلات القابضة للأصابع تحتاج أن يلاقيها من باطنها لا جرم فإن وضعها من تلك الجهة. ولأن هذه الحركة تحتاج أن تكون قوية فلذلك جعل لها عضلات أكثر مما للباسطة كما قلناه، ولذلك أيضاً جعل بعضها موضوعاً على الساعد للحاجة فيه إلى أن يكون عظيماً.
وهذا الموضوع على الساعد عند جالينوس عضلتان فقط.
وأما الثلاثة فليست عنده للقبض كما ظنه بعض الأقدمين بل لفوائد أخرى سنشير إليها ولكنها عدت مع القابضة بناء على قول الأقدمين، وإنما كانت هذه العضلات موضوعة في وسط أنسي الساعد أعني وسط ما بين أعلاه وأسفله للسبب الذي له خلقت الباسطة في وسط وحشي الساعد، وقد ذكرناه هناك.
ولما وجب أن تكون كلها في الوسط لم يكن بد من أن يكون بعضها فوق بعض أعني بالفوق ها هنا ما يكون فوقاً إذا كان الساعد ملقى على ظهره، ولزم ذلك فائدة وهي أن يكون بعضها مستوراً بالبعض ليكون المستور محروساً بالساتر، فلذلك كان أشرفها الذي يلاقي العظم لأنها محروسة بالباقي وإنما كانت هذه أشرف لأن تحريكها اشرف لأنها تحرك مفصلين من الأصابع، ولا كذلك الأخرى، ولذلك جعلت هذه أعظم مع أن المجلل ينبغي أن يكون أعظم مما يجلله.
قوله: متصلاً بالزند الأسفل سبب ذلك أن الزند الأعلى منحرف إلى الجانب الوحشي فيبقى وسط الجانب الأنسي في الزند الأسفل فقط. وهذه العضلة العظيمة القابضة خلق وترها يستعرض أو لاً ثم ينقسم إلى خمسة أو تار، وأما الباسطة فإن انقسام أو تارها يكون أو لاً وينقسم إلى أربعة أو تار فقط والسبب في ذلك أما الأول: فلأن هذه العضلة تعلوها عضلات أخر، فلو لم تستعرض أو تارها أو لاً جملة لكان موضعها يرتفع كثيراً إذ غير المستعرض يكون سمكه أكبر، ولا كذلك الباسطة، فإنها لا يعلوها غيرها من العضل، فتكون أو تارها معرضة للضرر والانفعال عن الملاقيات، فكان الأولى لها أن تكون مستديرة من أو ل بروزها. وأما الثاني فلأن هذه العضلة القابضة لما كانت تستعين على قبض الأصابع بعضلات أخرى أمكن تقسيمها على الخمس، ولا كذلك هذه الباسطة، فاقتصر بها على تحريك الأصابع الأربعة، وخلق للإبهام واحدة على حدة.
قوله: وقد جعل الإبهام مقتصراً في الانقباض على عضلة واحدة والأربع تنقبض بعضلتين عضلتين هذا إنما يصح إذا أراد بهذه العضلات، العضلات التي في الساعد وحينئذٍ لا تكون العلة المذكورة صحيحة. وإنما قلنا إنه إنما يستقيم إذا أريد ذلك لأن العضلات التي في باطن الراحة منها ثلاث عضلات تقبض الإبهام وثمان إذا اجتمع منها اثنتان اثنتان منها على الفعل قبضتا إصبعاً قبضاً مستوياً.
فلذلك أو تار هذه خمسة دون الباسطة. والله ولي التوفيق.
البحث الخامس تشريح العضلة المفروشة عل باطن الكف قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما العضلة الثالثة فليست ... إلى قوله: وأما العضل التي في الكف نفسها فهي.
الشرح هذه العضلة هي أرق العضلات التي على الساعد وفوق جميع ما في وسط أنسي الساعد حتى تماس الجلد، ويمتد لها أو لاً وتر مدور من فوق الرسغ بكثير إذا تجاوز الرسغ استعرض وانفرش والتحم بجلدة باطن الكف، وقد قال بعض قدماء المشرحين إنها ثلثي الأصابع كلها.
وجالينوس ينكر ذلك، وقد ذكر لها منافع: إحداها لتفيد الموضع حساً، وينبغي أن يعني بذلك، أنها تجعل ما تحت الجلد الذي هناك حساساً حتى لو فسد حس ذلك الجلد قامت مقامه في الحس وإنما اختص هذا الموضع بذلك لأن الحاجة إلى الحس في باطن الكف أكثر مما في باقي الأعضاء، مع أن الأعمال التي تحاولها اليد أكثرها مفسدة لحس ذلك الجلد، وذلك كحمل الأثقال ونحو ذلك مما يغلظ له هذا الجلد.
ولقائل أن يقول: لو كان الأمر كذلك لكانت خلقة هذه العضلة معطلة لأن الحس إنما يكون بالعصب فيكون خلط ذلك العصب بالرباط وانتفاشهما وحشو خللهما لحماً وغير ذلك مما يتم به يكون العضل معطلاً لا فائدة فيه.
وثانيتها: أنها تمنع نبات الشعر هناك. والفائدة في ذلك أن يبقى حس ذلك الموضع قوياً لأن الحاس اللمس إذا لقي المحسوس كان إدراكه له شديداً.
وثالثتها: أنها تدعم ما تحت الجلد وتقويه حتى لا يتضرر بصلابة ما يمسك بقوة ونحو ذلك.
والله ولي التوفيق.
البحث السادس العضلات الموضوعة في باطن الكف قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه

وأما العضل الذي في باطن الكف نفسها فهي... إلى آخر الفصل.
الشرح هذه العضلات هي أصغر عضلات اليد وبينها أيضاً خلاف كبير في العظم. والخمس التي تميل الأصابع إلى فوق تميلها أيضاً إلى الجانب الأنسي والمميلة للإبهام إلى أسفل يلزم فعلها ذلك أن يقربها من السبابة، والمميلة للخنصر إلى أسفل يلزم فعلها أن يبعدها من البنصر والمميلة لما سوى الإبهام من الخمس، وهن أربع منشؤهن من الغشاء المجلل لأوتار العضلة الكبيرة القابضة لجميع الأصابع، ولكل واحدة من هذه الأربع وتر دقيق مدور يتصل بجانب إصبع، وإذا تشنجت حركة تلك الإصبع الحركة المذكورة، وكذلك الوتر الذي ينتهي إليه الخامسة من هذه العضلات وهي المحركة للإبهام، ويلزم تحريكها لها هذه الحركة أن يبعدها عن السبابة بعداً كبيراً، والعضلتان الأخريان وهما المميلتان للإبهام والخنصر إلى اسفل أعظم من العضلات الخمس.
قال جالينوس: وإذا سلت هذه العضلات مع أو تارها ظهرت لك في المشط عضلات أخر لم يعرفها المشرحون، ولا عرفتها أنا أيضاً إلا بعد مدة طويلة. ومبدؤها من الرباط الذي يحتوي على عظام الرسغ في الموضع الذي ينتهي إليه الرسغ ثمان منها متصلة بعضها ببعض حتى ترى لكل إصبع عضلة. والله ولي التوفيق.
بحث مفرد تعديد عضلات الساعد والعضد على سبيل الاقتصار العضلات التي في الساعد منها ما هو على جانبه الأنسي، وهي سبع، ومنها ما هو على جانبه الوحشي وهي تسع. ومنها ما هو على حافته التي من فوق وهي الحافة الممتدة إلى الإبهام. وذلك أن العضلة الواحدة، جرت العادة بعدها في العضلات التي في الجانب الوحشي، وأما حافة الساعد التي من أسفل وهي التي فيها الخنصر فلم تخلق فيها عضلة البتة. فعلى هذا تكون العضلات المعدودة على الجانب لو حشي عشراً. واحدة موضوعة في وسطه وهي الباسطة للأصابع الأربع بأربعة أو تار تنشأ منها وعلى جانبها ثلاث عضلات متصلات بها. واحدة من أسفل وهي المحركة للخنصر والبنصر إلى أسفل بوترين ينشآن منها، والأخريان متوحدتان حتى يظنان واحدة إحداهما: تميل الوسطى والسبابة إلى أسفل بوترين.
وثانيتهما: تميل الإبهام إلى أسفل بوتر واحد، وعن جنبي هذه العضلات أربع عضلات، واحدة من أسفل تبسط الكف كابة له على وجهه بوتر يتصل بالمشط قدام الخنصر وعضلتان تتصلان حتى يظنا عضلة واحدة.
إحداهما تباعد الإبهام عن السبابة بوتر ينشأ منها.
وثانيتهما: تبسط الكف قالبة له على قفاه بوتر يتصل بالعظم الأول من عظام الرسغ عند الإبهام.
والرابعة هي التي تبسط الكف بسطاً مستوياً بوترين يتصل أحدهما قدام الوسطى. وثانيهما: قدام السبابة. وعضلتان مؤربتان وهما اللتان يقال: إنهما تقلبان الساعد على قفاه. فهذه عشر عضلات.
وقال بعضهم: إنها ثمان لظنه أن المميلة للإبهام إلى أسفل هي والمميلة للوسطى والسبابة عضلة واحدة، وأن المبعدة للإبهام عن السبابة غير الباسطة للكف مع قلب فتكونان عضلتين أو بالعكس، وأما العضلات التي على الجانب الأنسي من الساعد فهي سبع: واحدة في وسط هذا الجانب، وهي التي تبسط، وتنشأ منها خمسة أو تار لقبض المفصل الأول والثالث من الأصابع الأربع، والمفصل الثاني والثالث من الإبهام وأخرى فوقها، والمجللة، وأصغر منها وهي التي تقبض المفاصل الوسطى من الأصابع الأربع وتأتي منها شعبة إلى الإبهام، وفوق هاتين عضلة أخرى، والمجللة لهما، وهي التي تستعرض وتنفرش في باطن الكف، وهي أصغر من الثانية، وعضلتان على جنبي هذه الثلاث تقبضان الكف، أما السفلية فمع قلب له يسير وأما العلوية فمع كب يسير واتصالهما بعظام المشط، أما السفلية فأمام الخنصر وأما العلوية فأمام الإبهام والسبابة، وتحت هذه العضلات الخمس عضلتان مؤربتان، وهما اللتان تكبان الساعد فهذه عضلات الساعد، فأما عضلات العضد، فهي الأربع المحركة للساعد قبضاً وبسطاً، وقد بينا حالها أو لاً، فإذاً جميع العضلات التي في اليدين ثمان وستون عضلة لكل يد تسع وثلاثون عضلة. والله ولي التوفيق.

الفصل العشرون
تشريح عضل حركة الصلب
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه عضل الصلب منها ... إلى آخر الفصل.
الشرح

ليس يمكن أن يكون الإنسان في قوامه كالخشبة لا يملك الميل إلى جهة ما. ولا بد أن يكون متمكناً من الميل في أعماله وتصرفاته يميناً وشمالاً وقداماً وخلفاً وأن يكون ذلك له بإرادته فلا بد من عضلات يكون بها ذلك ولا بد وأن تكون هذه العضلات شديدة القوة جداً. وذلك لأمرين: أحدهما: ليكون قوام الإنسان قوياً.
وثانيهما: أن هذه الحركات يلزمها تحرك أعضاء كثيرة عظام فلا بد وأن يكون الفاعل لها شديد القوة، فلذلك لا بد وأن تكون هذه العضلات عظيمة جداً، ولابد أن يكون استنادها إلى عظم عظيم جداً وذلك لأمرين: أحدهما: ليكون تمكنها قوياً.
وثانيهما: لأنها في نفسها عظيمة، وليس في البدن ما يصلح لذلك سوى الصلب، فلا بد وأن تكون موضوعة عليه فلا بد وأن تكون المنكسة للبدن إلى خلف على ظاهره، والحانية إلى قدام على باطنه حتى يكون أي نوع منهما تشنج أعالي البدن جذب إلى ناحيته فانعطف إلى تلك الجهة. ويجب أن يكون وضع كل منها في جانبي تلك الجهة وذلك لأمرين: أحدهما: ليكون إذا تشنج ذلك النوع من الجانبين معاً كان قوام البدن منتصباً على الاستقامة انتصاباً محكماً.
وثانيهما: ليكون إذا تشنج ما في أحد الجانبين. أما من النوع الواحد فيميل البدن ميلاً مؤرباً إلى الجهة التي منها ذلك النوع من الجانب الذي فيه المتشنج وأما من النوعين معاً فيميل البدن إلى ذلك الجانب ميلاً مستوياً محكماً.
قوله: فالثانية إلى خلف هي المخصوصة بأن تسمى عضل الصلب، إنما خصت هذه بذلك لأنها هي التي تظهر أو لاً للمشرحين.
قوله: وهما عضلتان نحدس أن كل واحدة منهما مؤلفة من ثلاث وعشرين عضلة، هذه يجب أن تكون كل واحدة منهما، إما عضلة واحدة أو عضلات مجتمعة يلتصق بعضها ببعض حتى يكون الجميع في حكم عضلة واحدة، وذلك ليكون المجموع بالاتحاد قوة الواحد العظيم، وإذا كان كذلك يحكم بتكثير العضلات بسبب تكثير مبادئها فتكون هذه عنده عضلات كثيرة، ثلاثاً وعشرين عضلة لأن فقرات العجز والعصعص لا تنشأ منها ليف متصل بهذه العضلات إذ تلك لا حركة لها، وكذلك الفقرة العليا من فقرات العنق وهي الأولى منها لأن هذه الفقرة كما قلناه لا حركة لها فلذلك تبقى الفقرات التي يتصل بها هذا العضل ثلاث وعشرون فقرة.
قوله: ليف مؤرب إنما وجب أن يكون هذا الليف مؤرباً لأن هذه الهيئة أو فق في تحريك ما يراد انتصابه على الاستقامة انتصاباً قوياً محكماً كما قلناه في حركة مفصل الساعد.
قوله: وهذه العضلة إذا تمددت بالاعتدال نصبت الصلب يريد بالتمدد ها هنا التشنج.
قوله: وأما العضل الحانية فهي زوجان إنما كان كذلك لأن حركة الصلب إلى خلف يمكن بكل واحدة من الفقرات التي ذكرناها، وهي الثلاثة والعشرون، وأما حركته إلى قدام غير ممكنة بالفقرات التي في أسافل الصدر إذ عظام القص تمنع من تلك الحركة فلا يكون لتلك الفقرات حاجة إلى هذا العضل فوجب أن يكون هذا العضل من قدام إلى فوق واسفل دون الوسط فصار زوجين. ولا كذلك من خلف. والله ولي التوفيق.

الفصل الحادي والعشرون
تشريح عضل البطن
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه الشرح قد ذكر الشيخ لهذا العضل ثلاث منافع: إحداها: المعونة على عصر ما في الأحشاء من البراز والبول والأجنة ليسهل خروج ذلك، وإنما احتيج في خروج هذه إلى هذا العضل: أما البراز فلأن الأمعاء بعضها تلتف، ومع ذلك يعرض لها الجفاف كثيراً لأجل جذب الماساريقا ما فيه من الرطوبات الغذائية. ولأجل حرارة الأحشاء وإذا كان كذلك كانت قوة الأمعاء الدافعة يعرض لها العجز عن دفعه فيحتاج إلى الاستعانة بعصر هذه العضلات.
وأما البول: فلأنه وإن كان رقيقاً سهل الانفصال إلا أن عنق المثانة الذي فيه المجرى موضوع إلى فوق فإنما يخرج البول بانعصار شديد من المثانة حتى يضيق تجويفها على البول، فيضطر إلى الصعود إلى ذلك المجرى، ومثل هذا الانعصار مما لا يستغنى فيه عن الاستعانة بهذا العضل.
وأما الجنين فلأن خروجه إنما يتم بتمديد شديد ليتسع منفذه إلى خارج ومع ذلك فلا يمكن أن يبلغ في الاتساع إلى حد يخرج منه الجنين بثقله فقط أو بدفع يسير يقوي عليه الرحم، فلا بد من الاستعانة بعصر هذا العضل ليشتد ذلك الدفع فيسهل خروج الجنين.

وثانيتها: لأن هذه العضلات تدعم الحجاب عند إخراج النفس وهو المراد بالنفخ، وذلك عند الانقباض، وذلك لأن هذه العضلات إذا انقبضت حينئذٍ أعانت الحجاب على انقباض الصدر، ودعمته أي قوته على هذه الحركة. وإنما احتيج إلى ذلك لأن تحريك الصدر عسر بسبب وثاقة مفاصل عظامه، وإنما احتيج إلى هذه المعونة في الانقباض دون الانبساط لأن عضلات انقباض الصدر أقل من عضلات انبساطه على ما بيناه هناك.
وثالثتها: إن هذه العضلات تسخن المعدة والأمعاء بإدفائها. وإنما احتيج إلى ذلك لأن المعدة مع كونها مطبخ الغذاء يكون الغذاء فيها مجتمعاً فيكون انفعاله عسراً ومع ذلك فإنها تحتاج أن تكون كثيرة العصب لأجل شدة حاجتها إلى قوة الحس لأجل الجوع وأن تكون حرارتها غير مفرطة لأن ذلك مانع من الشهوة المقصودة من المعدة. وأما الأمعاء فلأن جرمها عصبي وهي مع ذلك محتاجة إلى قوة الهضم ليكمل هضم ما فات المعدة هضمه.
أقول: ولهذه العضلات منافع أخر: إحداها: أن يكون لجرم البطن ثخانة فيقل تضرر الأحشاء التي فيه من الحر والبرد.
وثانيتها: أن يكون جرم محيط هذا التجويف قوياً فلا تقوى الرياح التي تحدث فيه والامتلاءات المحدودة له على خرقه، ولتكون الأحشاء في ركن وثيق.
وثالثتها: أن يكون البطن مناسباً للصدر في كثرة اللحم عليه، فتكون صورة البدن أحسن. ولا كذلك لو كان بغير تكون هذه العضلات فإنه حينئذٍ كان يكون مهزولاً قحلاً، ويجب أن تكون هذه العضلات ممتدة طولاً وعرضاً وورباً من الجانبين لأن هذا التأليف أو فق في نفسه وأوفق في قوة ضمه لما في داخله، ويجب أن يكون الطول أكثر لحمية لأنه فوق المعدة والأمعاء المحتاج فيهما إلى الإدفاء كما قلناه. ويجب أن يكون العرضي تحت الكل لأنه هو المقاوم لتمديد الأحشاء فيجب أن يكون بالقرب منها، وأن يكون المؤرب أعلى الكل ليكون الطولي ملاقياً للعرضي فيكون مقوياً له شديد الحفظ لو ضعه، وإنما كان هذا في الطولي أكثر من المؤرب لأن المؤرب لا ينافي ميل أجزاء العرضي إلى فوق وأسفل منافاة كثيرة بخلاف الطولي. ويجب أن تكون هذه العضلات عند المقاطع أقل لحمية لئلا يكون لذلك الموضع نتوء مستقبح. والله ولي التوفيق.

الفصل الثاني والعشرون
تشريح عضل الأنثيين
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه أما للرجال....إلى آخر الفصل.
الشرح أما للرجال ففائدة هذه العضلات فيهم أربع فوائد: إحداها: أن يتعلق بها الأنثييان، وإنما لم يتعلق بأجسام غشائية ونحوها لأن الغشاء بارد وضار بالمني، ولا كذلك العضلات فإنها نافعة في توليده، وتمام نضجه بإسخانها للأنثيين بما فيها من اللحمية، ويمكن أن نجعل هذا منفعة أخرى والانتفاع بهذا المتعلق غير موجود للنساء.
وثانيتها: أن تكون هذه العضلات وقاية للأنثيين من البرد والحر ونحوهما، وهذا أيضاً غير محتاج إليه في النساء.
وثالثتها: أن هذه العضلات تعين على خروج المني بعصرها للأنثيين عند وقت الحاجة إلى الإنزال، وهذا موجود للنساء أيضاً.
ورابعتها: أن يكون للأنثيين حركة إرادية ليكون عند الإنزال على الموضع الذي يسهل ذلك معه، وهذا لا يحتاج إليه في النساء فإن لهن أنثييهن مدفونة فلا يعرض لهما من الأوضاع ما يخرجهما عن الوضع الموافق لخروج المني.
وأما السبب في بروز أنثيي الرجال، واندفانهما في النساء فقد بيناه أو لاً. وهو أنه لو لا ذلك لما أمكن النسل لأن تولد الجنين إنما يتم إذا كان حصول المنيين في الرحم في أو قات متقاربة جداً، وإنما يمكن ذلك بأن يكون الحال كما هو في الواقع وذلك لأن مني الرجال سريع الحركة، ومني المرأة قليل الحرارة بطيء الحركة، ولولا اندفان أنثييها لكان إنزالها بطيء جداً، ولولا بروز أنثثي الرجال لكان إنزالهم يسرع جداً، فلا يتفق الإنزالان في وقت واحد ولا في وقتين متقاربين فكان يتعذر الإحبال. والله ولي التوفيق.
الفصل الثالث والعشرون
تشريح عضل المثانة
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وعلى فم المثانة... إلى آخر الفصل.
الشرح عبارة الكتاب في هذا ظاهرة، ولكن ها هنا بحث وهو أنه ما السبب في جعل خروج البول والبراز إرادياً؟

وسبب ذلك أن خروجهما مستقذر لأجل كراهيتهما، فلو كان بالطبع لم يؤمن خروجهما في وقت أو حال يفتح ذلك فيهما، ولا كذلك العرق والوسخ ونحوهما.
وأما المني، فإن خروجه وإن كان طبيعياً فهو موقوف على الأكثر على أمر إرادي وهو فعل ما يوجبه كالجماع ونحوه.
وهذه العضلة لحمية وأكثرها في اسفل العنق لأن الأجزاء العالية بطبعها تهبط إلى أسفل، فيكتفي فيها بشيء يسير من انضمام وبالعكس من ذلك الأجزاء السافلة، وهذه العضلة مع منعها خروج البول بغير إرادة فهي أيضاً تعين على خروج ما يمر بها منه بعصره. والله ولي التوفيق.

الفصل الرابع والعشرون
تشريح عضل القضيب
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه العضل المحرك... إلى آخر الفصل.
الشرح إن خروج المني لم يجعل طبيعياً صرفاً، وإلا لم يمكن خروجه مرتبطاً بحال اجتماع الذكر والأنثى للإحبال، ولم يجعل أيضاً إرادياً صرفاً، وإلا كان الإنسان وغيره من الحيوانات يستكثر الجماع فوق حاجته لأجل التلذذ فيضر به، ولا كذلك البراز والبول ونحوهما فإن خروجهما غير ملذ لذة خروج المني. فلذلك جعل خروج المني متوقفاً على الأمرين. ولكل واحد منهما إعانة على تحقيق الآخر. فلولا توقفه على الأمر الطبيعي لأمكن الاستكثار منه بأي قدر أريد وفي أي سن أريد. ولولا توقفه على الإرادة لكان يكثر خروجه في غير الوقت المراد فيه الجماع ولولا أن الأمر الطبيعي محرك للإرادة لما كان المني يقل في المعرض عن الجماع ويكثر في المكثر من استعماله.
وهذا التوقف على الأمرين غير مختص بخروج المني إذ الجماع نفسه كذلك وتهيؤ الآلة له أيضاً بالانتصاب فلذلك افتقر إلى أن يكون تحريك هذه الآلة موقوفاً على عضل يحركها. وهذا العضل مع أنه يعين على نصب هذه الآلة، فإنه يوسع مجرى المني بجذبه ظاهر القضيب إلى جوانبه. لأن المجوف إذا انجذب محيطه من جوانبه اتسع تجويفه لا محالة، ولما لم يكن انتصاب هذه الآلة إرادياً صرفاً لا جرم كانت هذه العضلات غير كافية فيه معها إلى ريح ناقحة تسوقها روح شهو أنية يصحبها دم ليغذوها، فلأجل هذه الريح يغلظ القضيب عند الانتصاب. ولأجل هذه الروح يسخن، ولأجل هذا الدم يحمر ويزرق.
قوله: فإذا تمددتا يريد بهذا التمدد التشنج خاصةً. والله ولي التوفيق.
الفصل الخامس والعشرون
تشريح عضل المقعدة
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه عضل المقعدة أربع... إلى آخر الفصل.
الشرح قد بينا أن خروج البراز والبول يجب يكون إرادياً فلذلك يحتاج فيهما إلى عضلات. وكلاهما إنما يحصل بخروج الخارج باسترخاء العضل الذي له، ولكن يختلفان، وذلك لأن البول اكتفى فيه بعضلة واحدة، فاحتيج في البراز إلى عضلات، وذلك أن المراد بهذه العضلات هو حبس الفضلة عن الخروج في غير الوقت المراد خروجها فيه، وذلك يكفي في البول أن تكون عضلة واحدة، لأن مجراه إلى فوق الوعاء الذي له وهو المثانة. ومع ذلك غير شديد التمديد لمجراه لرقته، وقلة ثقله.
وأما البراز فمجراه إلى أسفل، وغاية الذي هو المعاء المستقيم ومع ذلك فهو كثير الثقل، شديد التمديد للمجرى بالغلظ والثقل، فلذلك احتيج في حبسه إلى عضلات كثيرة، وإنما يمكن خروجه باسترخائها بأسرها، فإن قيل: ولم خلق مجرى البول إلى فوق المثانة مع أن ذلك أعسر لخروجه؟ قلنا: سبب ذلك لأن فم هذا المجرى لا بد وأن يكون حساساً حتى يتألم بحدة البول فيخرج إلى إرادة دفعه، فلو كان في أسفل المثانة لكان يحصل هذا الألم من أدنى بول يحصل في المثانة، فكان الإنسان يحتاج إلى دفع البول قليلاً قليلاً في أو قات متقاربة. وكان الحال يكون كما يكون لأصحاب تقطير البول ولا شك أن ذلك رديء شاغل. وإنما لم يخلق مخرج البراز إلى فوق أيضاً كما للبول وذلك لأمور: أحدها: إن إصعاد الثقيل عسر، فكان يكون خروج البراز عسراً وخاصة إذا كان قد غلظ وجف.
وثانيهما: أن جرم المعاء الذي كان يجتمع فيه البراز كان يعرض له فساد لأجل إفراط حدة البراز، وإنما كان أكثر حدة من البول لما يخالطه من المرار الكثير الذي يندفع إليه من المرارة، ولأجل عفنه لطول احتباسه في تجاويف الأمعاء إلى أن تستوفي من ذلك الجداول مصبها.

وثالثها: أن البراز يندفع إلى المعاء المستقيم جملة لما نذكره من السبب في موضعه فلا تفتقر إلى إبقائه فيه مدة لتجتمع، ولا كذلك البول فإنه إنما يندفع إلى المثانة قليلاً قليلاً على قدر ما ينفصل منه من الكليتين فلو احتيج إلى إخراج كل قذر يحصل من المثانة عند أو ل حصوله لعرض من ذلك تقطير البول كما قلناه.
وهذه العضلات التي في المقعدة أعني الدبر. وهي طرف المعاء المستقيم ويسمى المخرج والسرم، وعددها أربع: إحداها: عضلة لحمية شديدة المخالطة لجلد هذا العضو حتى يجوز تسمية هذا الموضع لحماً جلدياً، ويجوز تسميته جلداً لحمياً. وأكثر جرم هذه العضلة في الأجزاء القدامية من هذا العضو، وإنما خلقت كذلك ليتمكن من عصر طرف هذا العضو عند إخراج الثقل، فيسهل اندفاع ما تبقى في طرفه منه.
وثانيها: عضلة مستديرة فوق هذه بالنسبة إلى طول البدن تحيط بالدبر عرضاً لأجل ضمه إذا تشنجت وتماس في وسطها عظم العصعص وينتهي إلى أصل القضيب، وفائدة ذلك أن يضيق هذا المخرج عند انتصاب القضيب بسبب انجذاب ليف هذه العضلة لانجذاب ما يتصل بالقضيب لأجل زيادة طوله وتمده، وفائدة ذلك أن يكون هذا المخرج عند الجماع شديد الضيق لئلا يخرج ما في المعاء المتصل به من البراز حينئذٍ. وذلك لأن إفراط اللذة يلزمه إفراط تحلل الروح كما عرف من كلامنا السالف ويلزم ذلك ضعف البول، وحصول حالة كالغشي، وهذا يظهر في الجماع كثيراً. لأنه مع إفراط لذته يلزمه استفراغ المني، وهو مضعف بما يلزمه من خروج أرواح كثيرة، فإذا عرض ذلك استرخى البدن، وجميع عضلاته، وإذا استرخت هذه العضلة يتهيأ البراز للخروج فلو لم يكن ليفها حينئذٍ منجذباً بسبب انتصاب القضيب لكان خروج البراز عند الجماع يعرض لأكثر الناس.
ولا شك أن هذا مستقذر ولهذا فإن من يكون شبقه شديداً، وهذه العضلة منه رخوة، فإن ما يعرض له عند الجماع أن يلقي زبله.
وأما العضلتان الباقيتان فهما غشائيتان تنشآن من الأجزاء الداخلة من عظم العانة، ومن عظم الفخذ، ويلتحمان من كل جانب عضلة، ويأخذان على تأريب فائدتهما إقلال المقعدة إلى فوق فلذلك تبرز المقعدة عند استرخائها. وإنما احتيج في هذا الغرض إلى عضلتين، لأن رفع العضو إلى فوق أعسر. والله ولي التوفيق.

الفصل السادس والعشرون
تشريح عضل حركة الفخذ
والكلام في هذا الفصل يشتمل على مباحث: البحث الأول كلام كلي في عضل حركة الفخذ قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه أعظم عضل الفخذ... إلى قوله: والعضل الباسطة لمفصل الفخذ منها عضلة.
الشرح لما كانت العضلات الباسطة للفخذ إنما يتم فعلها عند القيام بإشالة جميع الأعضاء إلى فوق الفخذ، وذلك هو حمل البدن ، والقابضة له إنما يتم فعلها بحمل الساق والقدم وجب أن تكون هاتان الحركتان بقوة أقوى من الحركات التي لا يلزمها ذلك كالمبعدة للفخذ والمقربة له.
ولما كان جوهر هذه العضلات متساوياً في اللحمية، فإنما يزيد قوة بعضها على بعض إذا كانت مختلفة المقادير فتكون الكبرى أقوى من الصغرى فلذلك كان عضل الفخذ المحرك له هاتين الحركتين أعظم من العضلات المحركة له باقي الحركات ووجب أن تكون الباسطة أعظم من القابضة لأن تحريك الأعضاء العالية كلها أعسر من تحريك الساق والقدم. ونحن نتكلم في كل واحد من أنواع هذه العضلات في بحث يخصه أن شاء الله عز وجل. والله ولي التوفيق.
البحث الثاني العضلات الباسطة للفخذ قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه والعضل الباسطة لمفصل الفخذ منها عضلة... إلى قوله: وأما العضل القابضة لمفصل الفخذ فمنها عضلة تقبض.
الشرح قوله منها عضلة هي أعظم جميع عضل البدن سبب زيادة عظم هذه أن المتحرك بها أعظم من المتحرك بكل واحدة من عضلات البدن، لأن هذه يلزم تحريكها لعظم الفخذ تحريك جميع الأعضاء التي فوقه وليس كذلك عضلات باقي الأعضاء.
قوله: وتجلل عظم العانة والورك، وتلتف على الفخذ كله من داخل ومن خلف سبب ذلك أمران: أحدها: أنها لقوة فعلها تحتاج أن تكون تشبثها بأجزاء كبيرة جداً.
وثانيهما: أن فعلها متفنن ، فتحتاج إلى تفنن وضع ليفها وجهات مبدئه ومنتهاه، وهذه تجلل جميع عظم العانة، وأما عظم الورك فإنها تحتوي على أسفله وجنبيه على أن يبلغ الموضع المعرى من اللحم.

قوله: فلأن بعض ليفها منشؤه من أسفل عظم العانة فينبسط مائلاً إلى الأنسي.
سبب ذلك أن هذا الليف يمتد في أنسي عظم الفخذ في خلقه فبانجذاب الأجزاء الخلفية ينجذب هذا العظم إلى خلف، ويلزم ذلك أن ينبسط لأن انقباضه يكون بتحركة إلى قدام، وانجذابه، وبانجذاب الأجزاء الأنسية يميل هذا العظم إلى الجانب الأنسي. وأما الليف الذي منشؤه من عظم الورك، فإنه يذهب في خلف هذا العظم فلذلك إذا تشنج جذبه إلى خلف جذباً مستوياً، فيبسطه بسطاً مستوياً.
وأما ما منشؤه المواضع التي هي من هذين الموضعين فما كان منها من المواضع العالية جداً، فإنه إذا تشنج جذب هذا العظم إلى خلف جذباً قوياً رافعاً إياه إلى فوق لأن كثرة ارتفاع مبدئه ويلزم ذلك أيضاً أن تجذبه إلى الجهة الأنسية فيقربه من الفخذ الأخرى، وذلك بسبب ما يتشنج حينئذ من الأجزاء الأنسية من الليف.
وأما ما كان من المواضع العالية علواً يسيراً فالذي نعرفه من كلام فضلاء المشرحين أنه إذا تشنج جذب هذا العظم إلى الجانب الأنسي فقط.
والذي قاله الشيخ أنه حينئذ يشيل الفخذ إلى فوق فقط أي أنه لا يميله مع ذلك إلى الجانب الأنسي وبين الكلامين تناقض. وما قاله الشيخ موافق لكتاب الجوامع.
وطريقة تعرف الحق في هذا أن يوقف على موضع توزع هذا الليف. فإن كان يتوزع في المواضع الأنسية من هذا العظم فلا شك أن تشنجه إنما يحرك الفخذ إلى الجهة الأنسية فقط، فإن كان يتوزع في المواضع التي خلف هذا العظم، فلا شك أن تشنجه يحرك الفخذ إلى فوق، ولا يقتصر على بسطه لأنه يجذبه إلى ما هو أعلى موضعاً من الباسط.
قوله: ومنها عضلة تجلل مفصل الورك كله من خلف هذه العضلة يمكن أن تعد واحدة. ويمكن أن تعد اثنتين: إحداهما: لحمية ذات رأسين.
والأخرى: غشائية الرأس، ويمكن أيضاً أن تعد اثنتين بوجه آخر، وهو بسبب أن لها طرفين فيجعل كل طرف كعضلة. والأول عندي أولى، لأن التكثير بسبب اختلاف الجوهر أولى من التكثير بسبب تكثير الأطراف.
ويمكن أن تعد ثلاث عضلات بعدد الرؤوس إذ لها ثلاثة رؤوس، وهذه العضلة منبسطة مستبطنة للجلد تشاكل العضلة التي تحتوي على معظم لحم الكتف مع أنها تجلل هذا المفصل من خلف فتملأ ما يكون هناك من الحفر لحماً. ويحتبس ويجود سطحه الظاهر وأكبر رأسيها اللحمين ينشأ من ظهر عظم الخاصرة الشاخص. وأصغرهما ينشأ من عظم الورك، وعظم العصعص والرأس العالي ينشأ مما بين هذين الموضعين وأعلى منهما.
وأما ذهاب ليف هذه العضلة فإنه: أو لاً يستدير على رأس الفخذ من خلف فإذا جاوز ذلك قليلاً امتد وانتهى إلى وتر عريض ينزل على الاستقامة وتلتحم بها العضلة التي وترها لحمي، وهي الملتحمة بالأجزاء الوحشية من الساق وسنذكرها في موضعها.
قوله: وأما الطرفان فيتصلان بالجزء المؤخر من رأس الفخذ، فإن جذبت بطرف واحد بسطت مع ميل إليه، وإن جذبت بالطرفين بسطت على الاستقامة.
هكذا قيل في الجوامع، وسبب ذلك أن كل واحد من الطرفين مائل إلى أحد الجانبين، فإذا كان الجذب به وحده، مال المجذوب إلى جهته لا محالة، وإن كان بهما معاً كان كل واحد منهما مبطلاً لميل الآخر، فيكون بسط الفخذ مستوياً.
قوله: ومنها عضلة منشؤها من جميع ظاهر عظم الخاصرة هذه العضلة موضوعة تحت العضلة التي تقدم ذكرها ومنشؤها من أكبر الأجزاء الوحشية من عظم الخاصرة ومن الأجزاء المنخفضة من عظم العجز إلى أن يبلغ العصعص، وتمتد صاعدة ناحية القطن، وتلتحم هناك بالجلد حيث الرأس العالي الذي ذكرناه للعضلة التي فوقها، وتنتهي إلى وتر عريض قوي يلتحم بجميع رأس الزائدة الوحشية من الزائدتين اللتين ذكرناهما في تشريح عظم الفخذ وهما من عند العنق الذي يتصل به الرأس الداخل في حق الورك وفعلها أنها تبسط الفخذ مميلة لرأسه إلى الجانب الوحشي وذلك لأن اتصالها بعظم الفخذ ما بين خلفيه ووحشيه، فإذا تشنجت جذبت ما يتصل به من وراء هذا العظم إلى جهة مبدئها.
وأما قول الشيخ إنها تبسط مع ميل إلى الأنسي فمما لست أفهمه.
قوله: وأخرى مثلها وتتصل أو لاً بأسفل الزائدة الصغرى الذي نعرفه من هذه العضلة أنها تنشأ من الأجزاء الوحشية السفلية من عظم الخاصرة، وأنها تتصل بالجزء الأسفل من الزائدة الوحشية، وهي الزائدة العظمى فإن فعلها بسط الفخذ يسيراً وتمييله إلى الوحشي كثيراً.

قوله: ومنها عضلة تنبت من أسفل عظم الورك. هذه العضلة لها فعلان أحدهما بالذات وهو الفعل الذي ذكره، وهو أنها تبسط وتزيد في بسطه، إلى أن تميله إلى خلف يسيراً، وتميله إلى الأنسي إمالة صالحة، وإنما تفعل ذلك لأن ليفها يذهب إلى خلف الفخذ إلى أنسيه فإذا تشنجت جذبت هذين الجزأين ويلزم ذلك الحركة المذكورة.
وثانيهما: بالعرض، وهو أنها تميل الساق إلى الأنسي، وذلك لأنها تتصل بالعضلة التي تأتي بطن الساق، ولهذا السبب إذا تشنجت انجذبت تلك العضلة بفعل ما يفعله لو تشنجت هي، وقد بقي من العضلة الباسطة للفخذ عضلة أخرى، وهي عضلة تنشأ من عظم العجز، وتتصل بالزائدة الوحشية التي عند عنق عظم الفخذ واتصالها بها من جميع أجزائها التي من خلف، وفعلها بسط الفخذ بسطاً يسيراً وتميله إلى الأنسي ميلاً كثيراً. والله ولي التوفيق.
البحث الثالث العضلات القابضة للفخذ قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما العضل القابضة لمفصل الفخذ... إلى قوله: وأما العضل المميلة إلى داخل فقد ذكر.
الشرح العضل الظاهر القابض للفخذ هو العضلتان الأوليان من هذه الأربع. وأما الأخريان فهما خفيتان ليس توجدان تجدان دائماً، بل قد توجد واحدة منهما متصلة بالعضلة الثانية من الظاهرتين، وقد توجدان معاً، وهما متصلتان بهما؛ وقد تتصل بها ثلاث عضلات فلذلك يختلف عدد العضلات القابضة للفخذ، وكيف كانت فهي أقل من الباسطة وسبب ذلك ما بيناه أو لاً. وهو أن الباسطة تحتاج في فعلها إلى تحريك جملة الأعضاء التي فوق الفخذ فلذلك خلقت عظيمة كبيرة العدد، ولا كذلك القابضة والعضلة الثانية من هاتين الظاهرتين لو نها إلى الخضرة. وأنت قد عرفت من هيئة هذه العضلات فائدة الزوائد التي على عظم الفخذ وهي تعلق هذه العضلات بها. والله ولي التوفيق.
البحث الرابع باقي عضلات الفخذ قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما العضل المميلة إلى داخل فقد ذكر... إلى آخر الفصل.
الشرح العضلات المميلة للفخذ إلى أحد الجانبين أعني الوحشي والأنسي أكثر من المديرة له، وسبب ذلك كثرة حاجة الإنسان إلى تمييل فخذه، وقلة حاجته إلى إدارته، والناشئة من المديرتين من الجانب الوحشي تديره إلى خلف، وإلى الأنسي والناشئة من الجانب الأنسي تديره إلى قدام، وإلى الجانب الوحشي. والله ولي التوفيق.

الفصل السابع والعشرون
تشريح عضل حركة الساق والركبة
والكلام في هذا الفصل يشتمل على بحثين: البحث الأول العضلات الباسطة للساق قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه أما العضل المحركة لمفصل... إلى قوله: وأما القوابض للساق فمنها عضلة ضيقة طويلة.
الشرح قوله: وهي أكبر العضل الموضوع في الفخذ يريد أنها أكبر الموضوعة في الفخذ التي لأجل حركة غيره، إذ العضلة العظيمة الباسطة للفخذ التي ذكرنا أنها تلتف على الفخذ من داخل ومن خلف أعظم من هذه الثلاث بكثير، وإنما كانت هذه الثلاث أعظم من تلك الثلاث لأنها تحتاج فيها إلى قوة قوية جداً لأنها تدعم الرضفة وتقوي ارتباطها وتمنع زوالها، وإنما يقوى على ذلك إذا كانت مقاومته لثقل البدن عند الجثو وإنما تكون.
قوله: وفعلها البسط إنما كان كذلك لأن هذه العضلة إذا تشنجت جذبت الساق إلى قدام. ويلزم ذلك انبساطه لأن الإنسان يثني رجله بتحريكها إلى خلف ويبسطها بتحريكها إلى قدام. وهذا الإنسان خاصة مما هو ذو رجلين.
قوله: وواحدة من هذه كالمضاعفة.
قال جالينوس: إني لا أعتقد أن هذه عضلة واحدة، ولكني إنما أقول بذلك كراهة مخالفة الذين أسن مني إذ التضعيف فيها ظاهر بيّن. وهذه العضلة تحت العضلتين الأخريين من هذه الثلاث متوارية بهما وهي تلتحم بالرضفة وبالرباطات التي حول المفصل وتنتهي في المواضع التي من قدام إلى طرف لحمي، وفي الموضع الأنسي إلى طرف غشائي.
وأما العضلتان الأخريان فهما فوق تلك العضلة وتحت الجلد. والله ولي التوفيق.
البحث الثاني العضلات القابضة للساق قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما القوابض للساق فمنها عضلة... إلى آخر الفصل.
الشرح

قوله: وينفذ بالتوريب إلى داخل طرفي الركبة هذه العضلة تمر في الأجزاء الأنسية من الفخذ ثم تتورب صاعدة إلى مقدم الساق نافذة في داخل الركبة، فتمر بطرفيها أعني الطرف الأنسي والطرف الأسفل.
قوله: ثم تبرز وتنتهي إلى النتوء الذي في الموضع المعرق من الركبة. هذا الموضع هو الموضع الثاني في أو ل مقدم الساق العاري من اللحم تحت الركبة.
قوله: مائلة بالقدم إلى ناحية الأربية، يريد بالأربية التي من جهة الرجل الأخرى، وهذه الحركة كما يكون الإنسان عند تحريك رجليه بحيث تكون قدميه على فخذ الرجل الأخرى. وألفاظ الكتاب ظاهرة. والله ولي التوفيق.

الفصل الثامن والعشرون
تشريح عضل مفصل القدم
فال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما العضل المحركة... إلى آخر الفصل.
الشرح قد يحتاج الإنسان تارة إلى رفع قدمه وذلك كما عند المشي صاعداً، وكما إذا أراد المشي أو القيام على عقبيه، وكذلك قد يحتاج إلى خفض قدمه، كما إذا أراد القيام أو المشي على أصابعه ليطول إلى شيء عال.
وكذلك قد يحتاج إلى بسط قدمه. وذلك إذا أراد الإحاطة والتشكل بالهيئة الصالحة للموطؤ عليه، إذا كان له نتوء في موضع أو مواضع ليكون الثبات على الموضع الموطؤ عليه أحكم. وإنما يمكن ذلك بعضلات تفعل هذه الحركات، ويجب أن تكون الرافعة للقدم في مقدم الساق، حتى إذا تشنجت جذبت القدم إلى مقاربة موضعها فارتفع لا محالة.
وقد كان يكفي في ذلك عضلة واحدة، ولكن لو فعل ذلك لكان اتصال تلك العضلة إما أن يكون بجانب القدم فلا يكون ارتفاعها مستوياً أو بواسطة فيكون عند الارتفاع متقلقلاً مائلاً للحركة إلى الجانبين فلا بد وأن يكون بعضلتين كل واحدة منها تتصل به إلى جانب فإذا تشنجت إحداهما وحدها ارتفع القدم مائلاً إلى جهتها، وإذا تشنجتا معاً ارتفع القدم مستقيماً وكان استواؤه حينئذٍ محكماً لأن كل واحدة من العضلتين تكون حينئذٍ مانعة من ميله إلى جهة العضلة الأخرى.
وأما العضلات الخافضة فيجب أن تكون أعظم مقداراً من الرافعة وأكثر عدداً لأن خفض القدم عند القيام أو المشي إنما يتم برفع جميع البدن، وذلك إنما يكون بعضلات شديدة القوة، قوية الأوتار جداً، ولا بد وأن تكون موضوعة في مؤخر الساق حتى إذا تشنجت جذبت ما يتصل به من القدم وهو مؤخره، أو ما يقرب من مؤخره جذباً إلى فوق فينخفض مقدمه بالضرورة. والزوج الذي ينشأ من رأس الفخذ ينشأ من مؤخر ذلك الرأس.
وأما العضلة الثالثة التي تتصل بالعقب فهي موضوعة تحت هذا الزوج.
وقول الشيخ: إن التصاقها بالعقب فوق التي قبلها. يريد أن ذلك فوق التصاق الوتر النابت من الزوج الذي تقدم ذكره، ومعنى قوله أنه فوقه بالنسبة إلى طول البدن، ولا ينافي ذلك أن يكون تحته بمعنى أنه أبعد منه عن الجلد وأقرب إلى العظم.
وقد قال جالينوس: إن لو ن هذه العضلة أسمانجوني وأما الوتر الذي ينفرش تحت القدم فانفراشه وتعريضه إنما يكون بعد مروره بأسفل العقب. والعضلة التي ينشأ منها هذا الوتر صغيرة بقدر ثلث واحد من الزوج الذي يصير منه الوتر العظيم، وبقدر ثلثي العضلة الأسما نجونية، إذ تلك بقدر نصف واحد من الزوج، والفردان من الزوج متساويان. والله ولي التوفيق.
الفصل التاسع والعشرون
تشريح عضل أصابع الرجل
والكلام في هذا الفصل يشتمل على بحثين: البحث الأول العضلات القابضة لأصابع الرجل الموضوعة خلف الساق قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه أما العضل المحركة للأصابع فالقوابض... إلى قوله: وأما اللواتي وضعها في كف الرجل فمنها عضل عشر.
الشرح إن أصابع رجل الإنسان تحتاج أن تكون لها حركة انقباض وانبساط، وميل إلى جهة الخنصر، وميل إلى جهة الإبهام. وذلك ليحسن تشكلها بشكل الموطؤ عليه وإمساكها له، فيكون الثبات والمشي أجود وأحكم، وحاجتها إلى الانقباض أشد لأن معظم الإمساك على الموطؤ به تكون بهذه الحركة وينبغي أن تكون هذه الحركة فيها أقوى من غيرها، لأن بها يكون إمساك الموطؤ عليه فلذلك احتاجت إلى عضلات كثيرة، وهذه العضلات بعضها موضوع على القدم نفسها كالحال كان في اليد، والموضوعة منها على الساق يجب أن تكون موضوعة في خلفه لتمر إلى أسفل القدم. وتحت الأصابع عند تشنجها لتمر إلى هناك تمتد فتنقبض.

وهذه العضلات ثلاث: إحداها: عظيمة تمتد على القصبة الوحشية من أو لها إلى آخرها ومبدؤها المواضع التي فوق الرأس العالي من هذه القصبة، وتنتهي إلى وتر قوي يجوز فيما بين أسفل الساق وبين عظم العقب، ويتصل بالأصبع الوسطى والبنصر.
وثانيتها: عضلة بقدر نصف الأولى تبتدئ من المواضع التي أسفل رأس الساق، وينفذ وترها مع وتر الأولى فيما بين أسفل الساق وعظم العقب، ويتصل بالأصبع الخنصر والسبابة، وتتشعب من هذا الوتر ومن وتر الأولى وتر يأتي الإبهام.
هذا هو المفهوم من كلام جالينوس فلذلك قول الشيخ: ثم يتشعب من كل واحد من القسمين وتر ينبغي أن يكون المراد من القسمين لا قسمي وتر الثانية بل وتر الأولى ووتر الثانية.
وثالثتهما: عضلة يظن أنها جزء من الثانية، وهذه العضلة تبتدئ من عند رأس القصبة الوحشية، أعني الرأس العالي، وذلك حيث تضام القصبة الأنسية، وتمتد ملتحمة بكل واحدة من القصبتين آخذة بينهما. ووترها ظاهر بين للجس قبل وصوله إلى الكوع، ويشده عند العقب رباط قوي يمر عرضاً يربط العقب بالساق، وهذا الوتر من هناك ينفرد من هناك إلى قدام. ويتوكأ على موضع منخفض قليلاً عند موضع اتصال الساق بالقدم، ثم ينزل إلى أسفل القدم، ويلتحم أكثر بالرسغ ويجذب القدم إلى خلف مميلاً له الجهة الأنسية، وباقي هذا الوتر يأتي الإبهام. والله ولي التوفيق.
البحث الثاني العضلات المحركة لأصابع الرجل الموضوعة على القدم قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما اللواتي وضعها في كف الرجل... إلى آخر الفصل.
الشرح إن القدم مشتملة على ست وعشرين عضلة: خمس منهن في أعلاه شأنها تمييل الأصابع إلى جهة الخنصر، وإحدى وعشرون في أسفله سبع منهن موضوعة في مشط القدم.
فالسبعة الموضوعة في مشط الكف، ولمثل فعلها خمس من هذه السبعة، لكل أصبع واحدة تميلها إلى جهة الإبهام واثنتان للإبهام والخنصر كما في الكف وأربع كل واحدة لقبض المفصل الأول من أصبع موضوعة أيضاً على الرسغ، وعشر عضلات كل اثنتين لقبض المفصل الأول من أصبع، وكل زوج لأصبع؛ فموضعه عن جنبي المفصل، فلذلك جملة عضلات البدن كلها خمس ماية وتسع وعشرون عضلة، وتفصيلها تعرفه مما قلناه في كتابنا الذي نعمله في الطب مع استقصاء الكلام في هيئات العضلات ومنافعها، وأوتارها، ومبادئها. وكذلك نستقصي هناك الكلام في جميع فن التشريح كما ينبغي، فإن كلامنا فيه، في هذا الكتاب أكثره موجز. والله ولي التوفيق.

الجملة الثالثة
العصب
وهي ستة فصول
الفصل الأول من الجملة الثانية من التعليم الخامس
قول في العصب خاص
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه الشرح أما حقيقة العضلة وأجزاؤها التي هي العصب والرباط واللحم وما يتصل بها، وهو الوتر فقد عرف مما سلف، وعرفت من كلامه في تشريح العضل مبادئ رباط كل عضل ولحمة.
وأما الأعصاب فلم يعرف ذلك فيها. ولذلك نتكلم فيها بعد الكلام في تشريح العضل. والأعصاب تنقسم بوجوه من التقاسيم: أحدها: باعتبار هيئتها. فإن من الأعصاب ما فيه تجويف ظاهر، وهو العصبتين الآتيتين إلى العينين، ومنها ما ليس كذلك كما في الأعصاب.
وثانيها: باعتبار قوامها، فإن من الأعصاب، ما هو شديد اللين كأعصاب الحس، وخصوصاً منها ما كان في مقدم الدماغ كأعصاب حس العينين. ومنها ما ليس كذلك كأعصاب الحركة، وخصوصاً ما كان منها ناشئاً من أسافل النخاع.
وثالثها: باعتبار حجمها فإن من الأعصاب ما هي غليظة جداً كالأعصاب الآتية إلى العينين. ومنها ما هو دقيق جداً كالأعصاب الآتية الناشئة من الفقرة الأولى من فقار العنق. ومنها ما ليس كذلك كبقية الأعصاب.
ورابعها: باعتبار ما يفيده من القوة، فإن من الأعصاب ما تفيده قوة الحس فقط، كأعصاب الذوق والسمع ونحو ذلك. ومنها ما يفيد قوة الحركة فقط، كالعصب المحرك للسان ومنها ما يفيد الأمرين في عضلات اليدين والرجلين ونحوهما.
وخامسها: باعتبار الأعضاء التي تأتي إليها فإن من الأعصاب ما يأتي الأحشاء فقط، كأكثر أعصاب الدماغ، ومنها ما يأتي الأعضاء الظاهرة فقط كأكثر أعصاب النخاع.

وسادسها: باعتبار ما يتكون منها، فإن من الأعصاب ما لا يتكون منه عضو آخر كالأعصاب المفيدة للسمع والذوق ومنها ما يتكون منها شيء آخر، وذلك إما غشاء كالأعصاب الآتية إلى الأحشاء. وإما طبقة كالأعصاب التي تنفذ فيها قوة البصر، وإما عضل كأكثر أعصاب النخاع.
وسابعها: باعتبار مبادئها، فإن الأعصاب منها دماغية، ومنها نخاعية. والدماغية منها ما هي من مقدم الدماغ، ومنها ما ليس كذلك.
والنخاعية منها ما هي عنقية، ومنها ما هي صدرية، ومنها ما هي قطنية. ومنها غير ذلك كالناشئة من العجز والعصعص. وقد يمكن تقسيمها باعتبارات أخرى كثيرة. وفيما ذكرناه ها هنا كفاية، ولنتكلم الآن في منفعة الأعصاب. والله ولي التوفيق.

منفعة العصب
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه منفعة العصب منها ما هو... إلى آخر الفصل.
الشرح قوله: منها ما هو بالذات ومنها ما هو بالعرض، يريد بالتي بالذات ما تكون مقصودة من خلقة العصب أو لاً. وبالتي بالعرض ما خلقه العصب لا لأجلها بل لشيء آخر فاتفق أن أفاد ذلك النفع وخلقة الأعصاب إنما هي لأجل إفادة الأعضاء الحس والحركة. وإنما كان كذلك لأن الدماغ كما عرف مبدأ لقوة الحس والحركة إما بذاته كما هو مذهب الأطباء أو بتوسط القلب كما هو مذهب كثير من الفلاسفة وكيف كان فإن الروح إنما يمكن من صدور أفعال الحس والحركة عنها بعد أن تحصل في الدماغ وإنما يمكن استفادة الأعضاء منها ذلك بعد نفوذها إليها من الدماغ. فلا بد من آلة تصلح لنفوذها فيها، وهذه الآلة لا بد وأن تكون لينة ليكون مع كونها عسرة الانقطاع سهلة الانعطاف والانثناء بحسب ما يوجبه وضع الأعضاء. ولا بد وأن تكون مستحصفة الظاهر لتمنع من تحلل ما ينفذ فيها من الروح ولا بد وأن تكون متخلخلة الباطن ليتسع لجرم الروح، ولا بد وأن تكون باردة المزاج لتكون على مزاج العضو المصلح لمزاج الروح النافذة فيها وهو الدماغ، فلا يعرض للروح تغير عن المزاج الذي به تصلح لصدور أفعال الحس والحركة، ولا بد وأن تكون إلى يبوسة، وإلا لم تكن أرضيتها كبيرة فلم يمكن بأن تكون عسرة الانقطاع ولا بد وأن تكون هذه اليبوسة يسيرة، وذلك لأمرين: أحدهما: لئلا يفسد مزاج الروح لأنها تكون حينئذٍ خارجة عن مزاج الدماغ خروجاً كبيراً.
وثانيهما: ليمكن أن تكون سهلة الانعطاف والانثناء. وهذه الآلة هي الأعصاب فإذا المقصود بالذات من خلقة الأعصاب أن تكون آلة لنفوذ هذه القوى من الدماغ إلى الأعضاء المستفيدة منه أفعالها.
وأما كونها مقوية للبدن واللحم فذلك بما اتفق منها لأنها لقوة جرمها وعسر انقطاعها، إذا انبثت في اللحم جعلته كذلك لأنها عسرة أي جعلته عسر الانفصال بسبب عسر انفصال ما هو منبث فيه، وإذا صار اللحم كذلك صار ظاهر البدن كذلك أيضاً لأنه ظاهر لحمي.
قوله: ومن ذلك الإشعار بما يعرض من الآفات للأعضاء وهذه المنفعة هي منفعة إفادة الدماغ للحس، وذلك لأن هذه الإفادة تكون تارة بأن يجعل العضو نفسه حاساً بذاته، وتارة بأن يجعل ما يحيط به كذلك. فيكون له حس بالعرض فلذلك لا يصلح عند هذه المنفعة من المنافع التي بالعرض.
قوله: على عناية عظيمة تختص بما ينزل من الدماغ إلى الأحشاء بالعصب ها هنا ثلاث مسائل: إحداها: لم اختص العصب الدماغي بالنزول إلى الأحشاء مع أن النخاعي إليها أقرب؟ وثانيتها: لم اختصت الأحشاء بالعصب الدماغي مع أن حاجة الأعضاء الظاهرة إلى قوة الحس أكثر لأنها هي الملاقية للمؤذيات الواردة على البدن؟.
وثالثتها: لم اختصت الأعصاب الواردة إلى الأحشاء بزيادة الوقاية مع أن أعصاب الأعضاء الظاهرة ملاقية لما يرد من المؤذيات فكان وجوب التحرس عليها أولى؟ الجواب: أما المسألة الأولى فإن الأعصاب الدماغية لما كانت شديدة اللين كانت شديدة القبول للتضرر بالواردات المؤذية، فكان الأولى بها البعد عن ظاهر البدن لثقل ما يرد إليها من المؤذي.
وأما أعضاء الرأس والوجه فلما كانت بمرصد من الحس، وكان العصب النخاعي لو سلك إليها لا فتقر إلى تعريج كبير جعلت أعضاؤها دماغية.

وأما المسألة الثانية: فقد أجاب الشيخ عنها، وذلك لأن هذه الأعصاب لما كانت مع لينها تحتاج إلى قطع مسافة بعيدة احتيج إلى توثيقها وخاصة في المواضع المذكورة ولا كذلك باقي الأعصاب فإنها إما صلبة كالنخاعية أو لينة. ولكنها لا تحتاج إلى مسافة بعيدة كالدماغية التي في الوجه والرأس.
قوله: فما كان المنفعة فيه إفادة الحس أبعد من منبعثه على الاستقامة يريد بذلك أن شأنه يكون كذلك إذا لم يكن هناك سبب آخر يوجب خروجه عن الاستقامة كما في الأعصاب الآتية إلى العينين.
قوله: بل كلما كانت ألين كانت لقوة الحس أشد تأذية ينبغي أن يقال: كان الحس أتم وأكمل، وذلك لأن العصب اللين أشد انفعالاً عن الملاقيات وأسرع انفعالاً، فإذا كان كذلك كان إدراك القوة لانفعاله أسرع وأكثر. وهذا فيما يكون الحس فيه بالملاقاة.
وأما ما ليس كذلك كحس البصر فإنه لا يكون كذلك وأما أن زيادة اللين تقتضي أن يكون تأذية القوة أشد أو أكثر فليس بلازم. والله ولي التوفيق.

الفصل الثاني
تشريح العصب الدماغي ومسالكه
والكلام في هذا الفصل يشتمل على سبعة مباحث: البحث الأول تشريح الزوج الأول قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه قد ينبت من الدماغ أزواج... إلى قوله: والزوج الثاني من أزواج العصب الدماغي منشؤه خلف.
الشرح إن لهذا الزوج من العصب خواص ليست لغيره: إحداها: أنه ينبت من أو ل مقدم الدماغ، وإنما كان كذلك لأن الروح النافذ فيه يجب أن يكون شديد الرطوبة المائية حتى يكون من جنس جوهر البخار متوسطاً بين طبيعة الماء والهواء وإنما كان كذلك لأنه يحتاج أن تنطبع فيه أشباح المرئيات، وذلك لا يتأتى في مثل جوهر الماء لذلك لا ترى أشباح الأشياء في الهواء الصافي بل في الهواء الرمادي وهو الكثير المائية، ولذلك إنما ترى الهالة وقوس قزح ونحو ذلك في هواء هو بتلك الصفة ولذلك كثيراً ما يعرض لراكب السفينة أن يرى خياله في هواء البحر، وذلك لشدة مخالطته للأجزاء المائية التي تتصعد إليه بالتبخر وأيضاً يحتاج هذا الروح إلى سرعة شديدة في الحركة حتى يمكن أن يؤدي الشبح إلى أمام القوة الباصرة في زمان غير محسوس. وذلك مما لا يتأتى في مثل جوهر الماء، فلا بد وأن يكون هذا الروح كالمتوسط بين الماء والهواء وإنما يكون كذلك إذا كان تولده في أو ل مقدم الدماغ ونفوذه في عصب في غاية ما يمكن من الرطوبة الممكنة للعصب وإنما يكون العصب كذلك إذا كان منشؤه من أرطب جزء من جرم الدماغ، وهو ذلك الموضع.
الخاصية الثانية: أن هذا العصب ذو تجويف ظاهر، وإنما كان كذلك لأن إحساس القوة الباصرة إنما يتم بانطباع شبح المرئي في الروح النافذ في هذا العصب على ما نبينه في موضعه. وانطباع الشبح إنما يكون في سطح له مساحة ظاهرة وإنما يمكن ذلك إذا كان الروح المنطبع فيه الشبح في موضع متسع، وليس يكفي أن يكون ذلك الاتساع في موضع الانطباع فقط. بل لا بد وأن يكون في مسافة نفوذ الروح بالشبح إلى أمام القوة الباصرة ليمكن نفوذها والشبح فيها بحاله، ولا يكفي ذلك أيضاً بل ولا بد وأن يكون في مسافة نفوذ تلك الروح راجعة إلى الدماغ أيضاً ليمكن إيصالها الشبح إلى موضع القوة التي تسمى الخيال كما نبينه في موضعه.
فلذلك لا بد وأن يكون هذا العصب مجوفاً من أو له إلى آخره خصوصاً وهذا الروح ولا بد وأن يكون غليظ القوام ليكون كالمتوسط بين قوام الماء والهواء، ولا بد وأن يكون كبيراً لتكون منه أجزاء تقبل الأشباح الواردة وأجزاء تؤدي شبحاً بعد شبح ولا بد وأن يكون سريع الحركة جداً، ليمكن تأدية الشبح في زمان غير محسوس. وإنما يمكن ذلك إذا كان منفذه شديد الاتساع.

الخاصية الثالثة: أن هذا العصب مع كونه للحس فقط فإنه ينفذ في العضو الذي هو آلته على غير الاستقامة وإنما كان كذلك لأن الإنسان ونحوه ينبغي أن تكون له عينان حتى إذا عرضت لإحداهما آفة قامت الأخرى مقامها في الإبصار وينبغي أن يكون بين موضعهما بعد ما. إذ لو كانت في موضع واحد لكانت الآفة العارضة لإحداهما يلزمها في الأكثر آفة الأخرى فلم يبق للتكثير فائدة وإذا كان كذلك فلو ذهب هذا العصب على الاستقامة إلى العينين لكان خروجهما إما أن يكون من موضع واحد حتى يكون أخذهما إلى العينين مؤرباً وتكون القوة الباصرة موضوعة في الموضع المشترك بينهما، وهو عند منشئهما، أو لاً يكون كذلك بل يكونان خارجين من موضعين ذاهبين إلى العينين بغير تأريب. فإن كان الأول، لزم ذلك ضعف جرم الدماغ هناك، لأنه حينئذٍ يحتاج أن يكون في موضع واحد ثقب عظيم في جوهر الدماغ إلى بطونه بحيث يعم ذلك الثقب لثقبتي العصبتين، ولزم أيضاً أن يكون أيضاً موضع القوة الباصرة بعيداً عن موضع ابتداء تشبح الروح بالمرئي، ويكون الشبح الواقع في روح كل واحدة من العصبتين بمعرض الانمحاء والتغير قبل وصوله إلى موضع القوة ولا كذلك إذا كانا يلتقيان في وسط تلك المسافة. فإن انطباق أحدهما على الآخر موجب لقوة ثبات هيئته في الروح.
وإن كان الثاني، وهو أن تكون العصبتان آخذتين إلى العينين على الاستقامة وناشئتين من موضعين مختلفين فحينئذٍ إما أن يكون في كل واحدة من العصبتين قوة باصرة، فيلزم أن ترى الشيء اثنين أو لا يكون في كل واحد منهما قوة فلا يرى الشيء البتة أو يكون في إحداهما دون الأخرى قوة فيكون الإبصار بالعين الواحدة والأخرى معطلة. وذلك محال.
ولقائل أن يقول: يجوز أن تكون القوة الباصرة حينئذٍ في داخل الدماغ فلا يلزم أن ترى الشيء اثنين لأن ما يرد من الشبحين حينئذٍ ينطبق أحدهما على الآخر في داخل الدماغ فتدركه القوة واحداً كما يقولون حيث القوة في موضع اجتماع تجويفي العصبتين في وسط المسافة إلى العينين.
وجوابه: إن هذا غير ممكن لأن القوى التي تكون في داخل الدماغ إنما يمكن أن تكون مدركة لما أدركته الحواس الظاهرة فقط فما لا يدركه شيء من الحواس الظاهرة لا يمكن إدراكه بقوة في داخل الدماغ البتة.
فإذاً لا بد وأن يكون نفوذ هاتين العصبتين إلى العينين على غير الاستقامة بل أن تأخذ المسافة على تأريب ويلتقيان في وسطها، وتكون القوة الباصرة هناك.
الخاصية الرابعة: أن هذا العصب لا بد وأن يكون كل واحد من فرديه مثقوباً في سطحه الذي يواجه به الآخر ثقباً ينفذ إلى تجويفه، وإن يكون ذلك الثقب في موضع التقائهما حتى يتحد تجويفهما هناك وتكون القوة الباصرة موضوعة في الموضع المشترك بينهما لتكون رؤية الشبحين واحداً على وجه ولا يكون كل واحد من الشبحين بمعرض التغيير والبطلان.
الخاصية الخامسة: أن هذا العصب لا بد وأن يكون مع غلظه قصيراً لأنه لا يبعد العينين ومسافة ما بينهما، وبين مقدم الدماغ قصيرة جداً.
قوله: مبدؤه من غور البطنين المقدمين. يريد أن هذا الزوج مبدؤه من داخل الدماغ أعني المخ، وإنما كان كذلك ليكون التجويف الذي في كل واحد من فرديه نافذاً إلى بطون الدماغ ليكون نفوذ الروح إلى هناك متشبحة تشبح المرئي حتى ينحفظ ذلك الشبح بحاله بقوة الخيال. وفائدة خروجها من البطنين أن يكونا بحيث إذا عرضت آفة لأحد بطني الدماغ المقدم يوجب فساد الإبصار قام الآخر مقامه.
قوله: ثم يلتقيان على تقاطع صليبي. قد قيل: أن العصبتين متقاطعتان بحيث تنفذ اليمنى منهما إلى العين اليسرى واليسرى إلى العين اليمنى.
وجالينوس يعتقد خلاف ذلك، ويرى أن اليمنى تنفذ إلى العين اليمنى واليسرى إلى اليسرى وأن العصبتين لا تتقاطعان بلا تتلاقيان، وينثقب كل واحدة منهما عند موضع التلاقي حتى يكون هناك موضع مشترك لتجويفهما ثم يتفارقان فتذهب كل واحدة منهما إلى العين المحاذية لمبدئه وهذا هو الرأي المشهور به ويقول الشيخ أيضاً فقوله على تقاطع صليبي يريد أن يكون ذلك في الرؤية. وفي الحقيقة إنه ليس كذلك.

قوله: فلذلك تصير كل واحدة من الحدقتين أقوى إبصاراً إذا غمضت الأخرى إنما يكون كذلك إذا كان الضعف عارضاً بسبب قلة الروح، فإن الحاصل في كل واحدة من الحدقتين من الروح يكون حينئذٍ أقل مما ينبغي فإذا غمضت إحداهما أمكن للأخرى أن تأخذ من الروح قدر الحاجة لتعطله عند الحدقة الأخرى، ويلزم ذلك أ؟ تقوى الإبصار لتوفر الروح وأما إذا لم يكن الضعف كذلك لم يلزم أن يقوى الإبصار لأن كل واحدة من الحدقتين فإنها إما تأخذ من الروح قدر الحاجة في الإبصار فإذا لم يكن ما عندها قاصراً عن ذلك لم يحدث شيئاً آخر وإن تعطل عن الحدقة الأخرى.
وكذلك كان قوله: ولهذا ما يزيد الثقبة العنبية اتساعاً إذا غمضت الأخرى إنما يصح إذا كان ثقب تلك العنبية قد عرض له أن ضاق لأجل قلة الروح فإنه حينئذٍ إذا وجد روحاً أزيد مما عنده لأجل تعطله عن الحدقة الأخرى عاد إلى مقداره الطبيعي فاتسع عما كان قبل ذلك. وأما أن هذا الاتساع يكون أزيد من المقدار الطبيعي فغير صحيح فإن العين يستحيل أن تأخذ بالطبع من الروح مقداراً يمددها حتى يخرج ثقبها عن المقدار الطبيعي بل إنما تأخذ مقدار حاجتها، وإن وجدت روحاً كبيرة جداً.
قوله: أن يكون للعينين مؤدى واحد يريد موضعاً واحداً يتأدى إليه الشبحان قوله: فلذلك يعرض للحول أن يروا الشيء شيئين عندما تزول إحدى الحدقتين إلى فوق وإلى أسفل إذا ارتفع مثلاً إحدى الحدقتين إلى فوق أو إلى أسفل فتارة ترتفع معها العصبة التي تأتيها عند موضع التقائها بالعصبة الأخرى فتكون هناك إحدى العصبتين على حاله، ويكون الموضع من العصبة الآتية إلى الحدقة المرتفعة طرفها فقط أعني أن موضع الالتقاء يرتفع وهذا تلزمه أن تصير مسافة المرتفعة أطول لأنها تصير وتراً للزاوية القائمة التي تحيط بها بعد الارتفاع وبعد العصبة التي كان أو لاً ولا يلزم ذلك الأمر الأول إذ يجوز أن يكون طرف العصبة حينئذٍ مساوياً لارتفاعها عند التقاطع فلا يكون بعدها حينئذٍ بالقياس إلى ما كان أو لاً كبعدي ضلعين متقابلين من سطح متوازي الأضلاع فإن كان الأول، وهو أن يرتفع موضع الالتقاء لزم أن يكون شبح الحدقة المرتفعة أرفع من موضع شبح الأخرى ويلزم ذلك أن لا ينطبق كل واحد من أجزائه على نظيره من الشبح الآخر بل تنطبق أجزاؤه السافلة على أجزاء الآخر العالية إن كان الارتفاع قليلاً، وإن كان كبيراً لم ينطبق شيء من أجزائه على أجزاء الآخر بل يقع بجملته فوق الآخر، فإن لم ينطبق شيء من أجزائه على الآخر رأى الشيء شيئين تامين أحدهما على الآخر بقدر نسبة ارتفاع أحد الشبحين على الآخر، وإن انطبق بعض أجزاء الشبح العالي على بعض أجزاء السافل لم ير الشيء تامين بل حينئذٍ لا يخل وإما أن يكون ارتفاع العصبة عند موضع الالتقاء مساوياً لارتفاعها عند العين حتى تكون مسافتها كما كانت أو لاً أو لا يكون كذلك بل إما أزيد من ذلك أو أنقص.

فإن كان مساوياً كانت مسافة هذه العصبة كمسافة الأخرى لأنها تكون بقدر ما كانت أو لاً، ويلزم ذلك أن يكون وصول الشبحين معاً في وقت واحد. فتختلط الأجزاء السافلة من الشبح العالي بالأجزاء العالية من الشبح الآخر من أو ل حصولهما هناك فتكون لما رأى أعلاه وأسفله مرتين على التمام رؤية صحيحة ولكن بينهما بعد ترى فيه الأجزاء السافلة مختلطتين وتكون هذه الأجزاء المختلطة بقدر المنطبق من كل واحد من الشبحين على الآخر، وإن كان مختلفاً أعني إن كان ارتفاع العصبة عند موضع الالتقاء مخالفاً لارتفاعها عند العين لزم ذلك أن تكون مسافتها أطول مما كانت أو لاً، ويلزم ذلك أن يكون وصول شبح العين السليمة قبل وصول شبح الأخرى فيرى الشبح الشيء أو لاً رؤية صحيحة ثم يرى على ما قلناه حيث الارتفاعان متساويان ويكون زمان ما بين الرؤيتين قصيراً جداً، ويختلف باختلاف تفاوت الارتفاعين فيطول حيث يكون التفاوت كبيراً، ويقصر حيث يكون أقل. هذا وأما الأمر الثاني وهو أن تكون العصبة الآتية إلى العين مرتفعة لم ترتفع عند الالتقاء بالأخرى وهذا يلزمه أن تكون مسافتها أطول مما قلناه ويلزم ذلك أن يكون ورود الشبح من العين السليمة قبل ورود شبح الأخرى وهذا لا يلزمه خلل في البصر، إذ يرى الشبح أو لاً شبحاً واحداً ثم يرى شبحين المنطبقين أحدهما على الآخر لكن لو اتفق أن عرض لشبح العين السليمة اختلال رئي الشيء أو لاً مختلاً بذلك النوع من الاختلال ثم يرى صحيحاً وبينهما زمان لا يكاد يحس وكذلك لو مالت إحدى الحدقتين إلى جانب طالت مسافة وصول شبحها إلى موضع الالتقاء لا محالة ثم هذا إما أن يلزمه مع ذلك تمدد عصبتها عند موضع الالتقاء أو لا يلزمه ذلك.
فإن كان الأول فإما أن يكون ذلك التمدد كبيراً حتى لا ينطبق شيء من شبحها على شبح الأخرى، فيرى الشيء شيئين: أحدهما عن جانب الآخر. أو يكون التمدد دون ذلك بحيث تنطبق بعض أجزاء شبح هذه الحدقة على بعض شبح الأخرى فيرى الشيء كما قلناه حيث ينطبق بعض أجزاء أحد الشبحين على بعض أجزاء الآخر إذا كانت إحدى الحدقتين مرتفعة. ولكن يختلف ها هنا بأن الأجزاء التي تكون رؤيتها صحيحة تكون من الجانبين لا إلى فوق ولا أسفل كما كانت هناك.
وكذلك الأجزاء التي ترى ها هنا مختلطة هي الأجزاء التي بين الجانبين كما كانت هناك بين الفوق والسفل.
وأما الثاني: وهو أن يكون ميل إحدى الحدقتين ليس يلزمه تمدد عصبتها عند موضع الالتقاء. فهذا لا يلزمه خلل البصر بل يكون الحال كما قلنا حيث ارتفاع إحدى الحدقتين لا يلزمه ارتفاع عصبتها عند موضع التقاطع.
هذا هو التحقيق.
وأما قول الشيخ: إن ارتفاع إحدى الحدقتين يبطل معه استقامة نفوذ المجرى إلى التقاطع ويعرض قبل الحد المشترك حد لانكسار العصبة فغير مسلم. وذلك لأن هذا الانكسار إنما يلزم لو كان بعض أجزاء تلك العصبة التي بين العين وموضع الالتقاء لازماً لو ضعه دائماً يكون كذلك لو كان مربوطاً بالأعضاء المجاورة فليس الأمر كذلك. والله ولي التوفيق.
البحث الثاني تشريح الزوج الثاني قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه والزوج الثاني من أزواج العصب الدماغي... إلى قوله: وأما الزوج الثالث فمنشؤه.
الشرح قد علمت أن الزوج الذي في عيني الإنسان ونحوه يجب أن يكون شديد الرطوبة المائية وإنما يمكن ذلك بأن يكون محلها رطباً ليبقى ما فيها من الرطوبة محفوظاً، فلذلك يجب أن يكون مزاج العينين وما يتصل بها رطباً فلذلك يجب أن تكون العضلات المحركة للعينين متكونة من عصب رطب لين فلذلك يجب أن يكون منشؤه بالقرب من منشأ الزوج الأول. وذلك هو هذا الزوج خصوصاً وهو لا يصلح لتحريك غير العينين من الأعضاء لأجل إفراط لينه.

ويجب أن يكون منشؤه وراء منشأ الأول لأن الأول يحتاج أن يكون أكثر رطوبة منه، لأنه للحس، وهو للحركة ويجب أن يكون هذا المنشأ في طرفي الدماغ من الجانبين أكثر من الأول، لأن الوسط ما بين جانبي الدماغ أكثر رطوبة فلذلك ما بين فردي هذا الزوج أو سع كثيراً مما بين فردي الزوج الأول، ومخرج هذا الزوج من ثقبين في نقرتي العين بالقرب من مخرج الأول يفصل بينهما عظم رقيق، وإنما ينصبان عن خروجهما من الجمجمة إلا عند أو ل منشئهما كما في الزوج الأول، وذلك لأن الزوج الأول يحتاج أن يلتقي فراده قبل الوصول إلى الجمجمة فيحتاج أن يتقارب أحدهما إلى الآخر من أو ل منشئهما،، ولا كذلك الزوج، وإنما أخرج هذا من نقرة العين لأمرين: أحدهما: أنه يحتاج إلى أن يتفرق في جميع الجوانب التي تقرب من العين لتكون منه العضلات المحركة لها إلى جميع تلك الجوانب، وإذا كان كذلك وجب أن يكون خروجه من الوسط ليكون تقسيمه إلى جميع الجوانب على العدل.
وثانيهما: أن العضلة التي خلف العينين تحتاج أن تكون قريبة الشبه من مزاجها وإنما يمكن ذلك إذا كان عصبها شديد الرطوبة وإنما يمكن ذلك إذا كان مخرجه من هناك إذ لو خرج من موضع آخر لكان يتصلب في مسافة نفوذ هذا الموضع. والله ولي التوفيق.
البحث الثالث تشريح الزوج الثالث قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه أما الزوج الثالث فمنشؤه الحد... إلى قوله: وأما الزوج الرابع فمنشؤه خلف الثالث وأميل.
الشرح إن هذا الزوج أيضاً يحتاج أن يكون شديد اللين لأن أكثره لأجل الحس، ومنه ما هو لحس الذوق وهو إنما يكون بعصب ظاهر اللين لأن إدراك التفاوت بين الطعوم إنما يتم إذا كان المنفعل شديد القبول جداً ولكن لا يجب أن يكون لينه كلين الزوج الأول بل دونه في ذلك فلذلك شعب هذا الزوج الثالث التي في داخل الدماغ متوسطة اللين بين لين الزوج الأول والزوج الثاني. وأما بعد خروجه، فالظاهر أنه يكون أقل ليناً من الزوج الثاني لبعد مسافة ما بين منشئه ومخارجه ولذلك فيما أظن خلق منشؤه خلف منشأ الثاني.
قال جالينوس: وقد ظن المشرحون في هذا العصب أنه عصبة واحدة، وكذلك يعتقد فيه من لم يستقص النظر، وإذا تأمل الاستقصاء ظهر له شعب كثيرة في داخل القحف كالشعر موضوع بعضها على بعض من غير تلبد. وهو أو لاً يخالط الزوج الرابع ويخرج معه من الأم الغليظة ثم بعد ذلك يتشعب إلى الشعب المذكورة في الكتاب وهذه العدة من الشعب ليست مجموع شعب هذا الزوج بل لأحد فرديه، وللفرد الآخر شعب نظيرة لها من الجانب الآخر.

قوله: فمنشؤه الحد المشترك بين مقدم الدماغ، ومؤخر الدماغ مقسوم في طوله وعرضه. وذلك أنه ينقسم إلى قسمين يميناً وشمالاً لك أن تسميهما جزأين ولك أن تسميهما بطنين. وقد جعل بينهما حاجز، وهو الحجاب القاسم للدماغ، وتنقسم أيضاً ما بين أو له وآخره إلى أجزاء وإلى بطون. أما الأجزاء فجزآن أحدهما من قدام والآخر من خلف والظاهر أنهما كالمتساويين في المساحة لست أعني مساحة الطول بل مساحة جميع الجرم بحيث يكون المقدم بجملته مساوياً للمؤخر بجملته إذ لا موجب لزيادة أحدهما على الآخر. ولما كن المؤخر أدق كثيراً من المقدم وجب أن يكون الجزء المؤخر أطول كثيراً من المقدم حتى يكون طوله كالضعف من طول المقدم. ولما كانت الأعصاب السبعة آخذة في طول الدماغ. وينبغي أن تكون الأبعاد التي بينها في طول الدماغ متساوية إذ لا موجب للتفاوت فيجب أن تكون حصة الجزء المقدم من الدماغ أقل وكالنصف من حصة المؤخر فلذلك صار في الجزء المقدم زوجان وفي المؤخر أربعة. والزوج الثالث في الحد المشترك بينهما وانفصال الجزء المقدم عن المؤخر هو باندراج الحجاب بينهما فقط، وأما انقسامه بالبطون فإن الدماغ ينقسم إلى بطون ثلاثة وهي التجاويف التي يكون فيها الروح وفيها يتعدل. وهذه البطون مختلفة في المقدار وذلك لأن البطن المقدم منها لأجل الحس المشترك، والخيال، وإنما يدرك المحسوس ويحفظ بأن يتشنج مثاله في الزوج، وذلك إنما يكون فيما له مقدار ومساحة فلذلك يجب أن يكون هذا البطن عظيماً جداً ليتسع لمقادير أشباح المحسوسات وأما البطن المؤخر فلأجل حفظ المعاني وهي مما لا مقدار له حتى يحوج أن يكون مثالها في مقدار ومساحة فلذلك خلق هذا البطن صغيراً جداً، وأصغر من نصف المقدم. وكذلك البطن الوسط فإنه لإدراك المعاني بالوهم فلذلك خلق أيضاً صغيراً، فلذلك تكون الأعصاب التي في البطن المقدم كبيرة جداً بالنسبة إلى التي في البطنين الآخرين، فلذلك لا منافاة بين كلام الشيخ ها هنا وبين كلامه في الكتاب الثالث من كتب القانون إذ قال هناك: وإنما لين مقدم الدماغ لأن أكثر عصب الحس وخصوصاً الذي للبصر والسمع ينبث منه، فإنه يريد هناك بالمقدم البطن المقدم، لا الجزء المقدم. وإن كان كلامه هناك إنما كان أو لاً في الأجزاء.
قوله: ثم تفارقه وتتشعب أربع شعب يريد أن كل فرد من هذا الزوج يتشعب هذه الشعب وينبغي أن يكون مخرج كل شعبة من الموضع الأقرب إلى مواضع تفرقها وانبثاثها.
قوله: وشعبه تطلع في الثقب الذي يخرج منه الزوج الثاني. سبب ذلك: أن هذه الشعبة لو أخرجت من غير هذا الموضع فإما من ثقب مستقل فتكثر ثقوب القحف ويزداد ضعفاً أو من ثقب مشترك بينها وبين غيرها فيتعين لها هذه الثقبة لأن ما سواها مما هو خارج عن نقرة العين بعيد عن مواضع انبثاث هذه الشعبة والتي مع هذه فقرة العين وهي مخرج الزوج الأول لا يمكن أن يخرج فيها مع ذلك الزوج غيره لئلا يضعفه فيفسد تجويفه ويلزم ذلك فقدان الإبصار. إن هذا الزوج شديد الاستعداد للانضغاط لزيادة تجويفه ولفرط لينه.
قوله: والجزء الذي يأتي اللسان أدق من عصب العين لأن صلابة هذا ولين ذاك يعادل غلظ ذلك ودقة هذا.
قد قلناه: إن سبب غلظ عصب العين ليس لإفراط لينه بل ليمكن أن يكون تجويفه كبيراً ظاهراً، ولما لم يحتج إلى ذلك ها هنا لا جرم كان هذا العصب دقيقاً. والله ولي التوفيق.
البحث الرابع تشريح الزوج الرابع قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما الزوج الرابع فمنشؤه... إلى آخر الفصل.
الشرح عبارة الكتاب في هذا ظاهرة . والله ولي التوفيق.
البحث الخامس تشريح الزوج الخامس قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما الزوج الخامس فكل فرد ينشق بنصفين... إلى آخر الفصل.
الشرح قوله: كل فرد منه ينشق بنصفين. قد قال جالينوس: أن العصبتين لا تخرجان من مخرج واحد لكن لكل واحدة منهما مخرج إلى جانب الأخرى وكل واحدة منهما تنشأ من أصل غير الأصل الذي تنشأ منه الأخرى وإذا كان كذلك لم يكن كل فرد منه واحداً ثم ينشق.

قوله: والقسم الأول من كل زوج منه يعتمد إلى الغشاء المستبطن للصماخ يريد القسم الأول من كل فرد من فردي الزوج الخامس، وإنما قال من كل زوج لأن كل فرد من هذين زوج كما قلناه أو لاً ويريد بالقسم الأول لا ما هو أولى في الخروج أو الظهور ونحو ذلك بل ما هو أولى في الكلام فيه، ويريد بكونه يعمد إلى الغشاء أنه يذهب إلى هناك ليكون ذلك الغشاء منه ومن الجزء من الأم الغليظة الذي يصحبه، وذلك لأن هذا الجزء من العصب وهو الذي يسمى عصب السمع، يدخل إلى ثقب السمع من قدام ومعه جزء من الأم الغليظة، فيعرضان معاً ويغشيان الصماخ.
قوله: وهذا القسم منبته بالحقيقة من الجزء المؤخر من الدماغ يريد الجزء المؤخر لا البطن المؤخر بل القسم الذي ينفصل عن المقدم باندراج الحجاب بينهما، وهذا الجزء يقع في بعضه مؤخر البطن المقدم، ومنه ينبت هذا الزوج فلذلك لا منافاة كما قلنا أو لاً بين قوله ها هنا، وقوله في الكتاب الثالث: إن عصبة السمع تنبت من مقدم الدماغ، إذ يريد هناك بالمقدم البطن المقدم وذلك البطن يقع آخره في الجزء المؤخر.
قوله: وهو الثقب الذي يسمى الأعور والأعمى لشدة التوائه وتعريج مسلكه. هذه التسمية على سبيل المشابهة وذلك لأن هذا الثقب يشبه الأعمى من جهة أنه لا يسلك طريقه على الاستقامة بل يميل يميناً وشمالاً وغير ذلك.
وقد ذكر الشيخ ها هنا مسألتين: إحداهما: ما السبب في خلقة الذوق أي حس الذوق في العصبة أي الشعبة الرابعة من الزوج الثالث، وخلق حس السمع في الزوج الخامس؟ وأجاب: بأن آلة السمع تحتاج أن تكون مكشوفة، وآلة الذوق مخبأة وبيان هذا أن السمع إنما يتم بأن يصل إلى الصماخ بتموج الهواء الحامل للصوت، وإنما يكون ذلك بأن يكون للهواء مدخل إلى هناك، فلا بد وأن يكون هذا المدخل مفتوحاً دائماً ليكون للإنسان إدراك الأصوات في أي وقت حدثت.
وأما الذوق فإنه إنما يدرك بأن ينحل من الجسم الحامل للطعم أجزاء تخالط الرطوبة العذبة التي في الفم وينفذ معها إلى العصب الذي فيه فتدرك كيفية تلك الأجزاء. وإنما يكون ذلك إذا كان وضع اللسان في الفم ومن لا يحتاج أن يكون دائماً بل إنما تحتاج إلى فتحة لإدراك الطعم إذا أريد إدخال المطعوم في الفم، فلذلك كانت هذه الآلة محرزة موقاة بالفم، وآلة السمع ليست كذلك وذلك موجب أن تكون آلة السمع أصلب لتكون عن قبول الآفات أبعد.
أقول: وها هنا أيضاً سبب آخر وهو أن إدراك الصوت إنما يتم بانفعال العصب عن تموج الهواء الراكد في الأذن تبعاً لتموج الهواء الحامل للصوت، وهذا التموج لا يخلو من قرع فلو كان عصبه ليناً جداً لتضرر بذلك وبكيفية ذلك الهواء في حره وبرده ولا كذلك إدراك لطعم.
وثانيتهما: ما السبب في الاكتفاء في عضلات العين بعضلة واحدة ولم يفعل ذلك في عضل الصدغين بل جعل من الزوج الثالث والخامس من الجزء الثاني من كل واحد منهما؟ وأجاب: بأن عصب عضلات العين يحتاج أن يكون مخرجه من نقرة العين وهذه النقرة فيها ثقب واسع لأجل الزوج الأول. فلو جعل فيها ثقوب كثيرة لاشتد ضعفها ولا كذلك عضل الصدغين فإن مخرج عصبها من العظم الحجري وهو مما يحتمل ثقوباً كثيرة لصلابته.
ولقائل أن يقول: إن عصب عضلات العين إنما احتيج إلى خروجه من النقرة لأنه عصب واحد يحتاج أن يكون بعد خروجه إلى جميع تلك العضلات متقارباً وإنما يكون كذلك إذا كان من النقرة. أما لو كان أعصاباً كثيرة لكان مخرج كل واحد منها يجب أن يكون من جهة العضلة التي يأتي إليها فلا يكون في النقرة ثقوب كثيرة وأيضاً فإن العظم الحجري كما احتمل أن يكون فيه ثقوب كثيرة كذلك هو أيضاً محتمل لان يكون فيه ثقب واسع فيه يخرج منه عصب واحد يكفي عضلات الصدغ. والله ولي التوفيق.
البحث السادس تشريح الزوج السادس قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما الزوج السادس فإنه ينبت... إلى قوله: وأما الزوج السابع فمنشؤه من.
الشرح

قد اتفق إن كانت الأزواج التي من الجزء المؤخر من الدماغ على النسبة التي من الجزء المقدم منه، فكما أن تلك الأجزاء الثلاثة الأولى منها قصيرة جداً، والثالث طويل جداً والثاني كالمتوسط بينهما في الطول كذلك هذه الثلاثة الأول منها، وهو رابع الأزواج الدماغية قصير جداً بالنسبة إلى الآخرين والثالث طويل جداً، والثاني كالمتوسط بينهما وذلك لتكون قسمة العصب على الوجه العدل، وكانت الثلاثة التي في الجزء الأول يجب فيها أن تكون في الطول على ما قلناه. لأن الأول منها إنما يأتي العينين فلا يجوز أن يكون أكثر طولاً مما عليه. والثالث: يأتي الأحشاء الباطنة فيجب أن يكون طوله كبيراً جداً. والثاني يأتي عضلات العينين ولا يصلح لغيرها. وتلك العضلات أبعد مكاناً من العينين فيجب أن يكون أطول من الأول، وأقصر من الثالث، وإذا كان كذلك وجب أن تكون أزواج الجزء الثاني كذلك إذ لا سبب يوجب اختلاف حال الجزأين لكونهما يختلفان في شيء وذلك لأن أزواج الجزء المؤخر أطول وتدارك ذلك أن جعلت أدق من أزواج الجزء المقدم فتكون أزواج الجزأين كالمتكافئة.
قوله: متصلاً بالخامس مشدوداً معه بأغشية وأربطة، إني إلى الآن لا أعرف لهذا الاتصال والارتباط حكمة، بل ولا أتحقق صحته فإن منشأ هذا الزوج خلف منشأ الخامس ومخرجه خلف مخارجه فلم يتقدم حتى يرتبط بالخامس ثم يتأخر ليخرج؟ وليس لقائل أن يقول: إن فائدة ذلك أن يعتضد كل واحد من الزوجين بالآخر ويقوى به، لأنا نقول: لو احتيج في هذين الزوجين إلى ذلك لكانت الحاجة إليه في الأزواج الأولى أولى لأنها أضعف لأجل لينها، ويخرج من الثقب الذي في منتهى الدرز اللامي كل واحد من فردي هذا الزوج ينقسم في داخل القحف إلى ثلاثة أقسام ويخرج الثلاثة جملة من ثقب في طرف الضلع اللامي من أسفل وذلك لان ثقب الجانب الأيمن منه الفرد الأيمن وثقب الجانب الأيسر يخرج منه الفرد الأيسر.
قوله: ليعاضد الزوج السابع على تحريكها. إن العمدة في تحريك عضل الحلق واللسان على الزوج السابع إذ الآتي إليه ذلك عصب عظيم والآتي إليه من هذا الزوج دقيق جداً، فلذلك جعله معاضداً للزوج السابع في التحريك لا أصلاً فيه.
قوله: وأتت العضل العريضة الحنجرية التي رؤوسها إلى فوق يريد بهذه الرؤوس مبادئ العضل وهي التي تنشأ منها، وللحنجرة قريب من عشرين عضلة منها ما هو موضوع عرضاً ومنها ما هو موضوع وراباً ومنها ما هو موضوع طولاً. وهذا الطول مستوياً منه ما يبتدئ من فوق ويحرك الحنجرة بطرفه الأسفل، وهو العضلات الآتية من العظم اللامي إلى الغضروف الدرقي، وكذلك المنحدرة من ذلك العظم، ومن الغضروف الدرقي، وفعلها رفع الحنجرة وغضاريفها.
وهذه تحتاج أن يأتيها العصب من فوق فلذلك ظاهر من أمرها أن عصبها يحتاج أن يكون من الدماغ. وينبغي أن يكون من هذا الزوج لأن ما قبله فمخارجه من قدام هذه العضلات وما بعده فمخرجها من خلفها وإذا كان كذلك فلو جعلت هذه العضلات من أحدها لكان إنما يأتيها مؤرباً فكان تحريك هذا العضل يكون كذلك.
قوله: فإذا جاوزت الحنجرة صعد منها شعب تأتي العضل المنكسة للحنجرة التي رؤوسها إلى أسفل وهي التي لا بد منها في إطباق الطرجهالي وفتحه إذ لا بد من جذب إلى أسفل، ومن العضل الموضوع طولا ما يبتدئ من أسفل، ويحرك بطرفه العالي.
وقد قال جالينوس في أو اخر كتابه في منافع الأعضاء إن هذا العضل هوا لذي يربط أطراف الغضروف الدرقي السفلية بالذي لا اسم له، وهو مشكل فإن ذلك العضل يتحرك مؤرباً وهذا العضل الذي ينفذ من أسفل ويتحرك بطرفه العالي قد كان يمكن أن يأتيه العصب من نخاع العتق، ومن نخاع الصدر، ولكن العصب من هناك إنما يخرج من جانبي الفقار كما بيناه فيحتاج في مجيئه إلى هذا العضل إلى أن يمر أو لاً إلى قدام، وإلى وسط ما بين اليمنى واليسرى حتى يحاذي مبادئ هذه العضلات ثم يصعد إليها مستقيماً، وذلك ليمكن أن يكون تحريكه على الاستقامة فلذلك جعل من هذا الزوج لأن مرور هذا الجزء منه في قرب ذلك العضل فلا يحتاج في صعود ما يتشعب من شعبه إلى مبادئ تلك العضلات إلى مرور إلى جهة أخرى فكان يكون هذه العضلات من هذا العصب أولى.

قوله: وإنما أنزل هذا من الدماغ. الأجود أنه كان يقول: وإنما خلقت هذه العضلات من العصب النازل من الدماغ وذلك لأن نزول هذا من الدماغ ليس ليكون منه هذه العضلات وأغشية الأحشاء التي نذكرها بعد لأن الأعصاب النخاعية لا يمكن أن تأتى هذه العضلات.
قوله: لأن النخاعية لو صعدت لصعدت مؤربة.
لقائل أن يقول: إن هذا غير لازم إذ يجوز أن يكون صعودها بأن يأتي أو لاً إلى محاذاة مبادئ هذه العضلات ثم يصعد على الاستقامة معتمدة على عضو هناك كما في هذا العصب الراجع. والله ولي التوفيق.
البحث السابع تشريح الزوج السابع قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما الزوج السابع فمنشؤه الحد... إلى آخر الفصل.
الشرح إن عبارة الكتاب ها هنا ظاهرة بينة غنية عن الشرح. والله ولي التوفيق.

الفصل الثالث
تشريح العصب النابت من نخاع العنق
ومسالكه
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه العصب النابت من النخاع... إلى آخر الفصل.
الشرح قد جعل الأزواج النابتة من نخاع العنق ثمانية وذلك لأنه عد الزوج الخارج مما بين الفقرة الأخيرة من فقار العنق والفقرة الأولى من فقار الصدر من جملة أزواج هذه الأزواج والفقرة الأولى من فقار العنق يخرج منها زوج من ثقب فيها، وزوج مما بينها وبين الثانية. ويلزم ذلك أن تكون هذه الأزواج ثمانية.
قوله: وهو صغير دقيق، إذ كان الأحوط في مخرجه أن يكون ضيقاً. هذا يختلف بحسب اختلاف حال الحيوانات. فما كان من الحيوان سلاحه في رأسه إما في نفس رأسه كما في ذوات القرون أو في فكه كما في ذوات الأنياب الحادة كالسباع، وهذا يحتاج أن تكون الفقرة الأولى من فقار العنق قوية جداً ليكون متمكناً من استعمال سلاحه بقوة، وإنما تكون هذه الفقرة كذلك إذا كانت مع صلابتها عظيمة وحينئذٍ يمكن أن يكون ما فيها من الثقوب متسعاً، فلذلك كان هذا الزوج أعني الأول يكون في هذا الحيوان كبيراً عظيماً وخاصة وحاجة مثل هذا الحيوان إلى قوة العضل التي هناك شديدة، تكون تلك العضلات فيه عظيمة أيضاً، وذلك محوج إلى كثرة الأعصاب التي تكون فيها، وذلك محوج إلى زيادة عظم هذا الزوج وما لم يكن من الحيوان كذلك كالإنسان والقرد ونحوهما. فإن هذه الفقرة تكون فيه ضعيفة لأنها تكون فيه أصغر من بقية فقار العنق لأن الحامل ينبغي أن يكون أعظم من المحمول إذا لم يكن سبب آخر يقتضي زيادة عظم المحمول وثقبها الذي ينفذ فيه النخاع يجب أن يكون اكثر سعة مما لغيرها لأن أو ل النخاع أغلظ، ويلزم ذلك أن يكون جرمها رقيقاً جداً وذلك موجب لزيادة ضعفها فلا بد وأن يكون ما فيها من الثقوب ضيقة جداً لئلا يفرط بها الضعف، ويلزم ذلك أن يكون العصب الخارج منه دقيقاً جداً، وخصوصاً ومثل هذا الحيوان غير شديد الحاجة إلى زيادة عظم العضلات التي يكون فيه هناك فلذلك يكون هذا الزوج دقيقاً قصيراً.
قوله: والزوج الثاني مخرجه مما بين الفقرة الأولى والثانية أعني الثقبة المذكورة في باب العظام.
قال جالينوس: إن هذا الزوج ليس يخرج من ثقب بل في كل ثقب واحدة من ناحيتي الزائدة المشبهة بالشوكة موضع معرى من عظام النقرة فيما بين الفقرة الأولى والثانية منه تخرج أعصابه. والحق كما قاله جالينوس.
قوله: ويوصل أكثره إلى الرأس حس اللمس بأن يصعد مؤرباً إلى أعلى الفقار، وينعطف إلى قدام.
الذي قاله جالينوس: إن أعظم جزء من هذا الزوج ينقسم في عضل خلف الرقبة، ويصير من جزء إلى العضلات العراض المحركة للخدين والجزء الباقي من هذا العصب بعضه يرتقي إلى الرأس، وينبث في مؤخره. وكذلك الجزء الذي يرتقي من قدام ينبث في مقدم الرأس.

قوله: وفي غير الإنسان ينتهي إلى الأذنين فيحرك عضل الأذنين، يريد بذلك غير الإنسان مما له أذن بارزة. وإنما اختص غير الإنسان مما له أذن يحركها دون أكثر الناس، لأن الإنسان لا كلفة عليه في تحريك رأسه بحيث يحاذي كل جهة يريد بأذنه فيتمكن بذلك من سماع الصوت من أي جهة كانت ولو كذلك باقي ما له أذن فإن الفرس مثلاً ليس يتمكن من تحريك رأسه بانفراده إلى حيث يصير أحد أذنيه إلى خلف والأخرى إلى قدام وإذا كان كذلك فلو لم يمكن هذا الحيوان أن يحرك أذنيه إلى الجهات تعذر عليه سماع كثير من الأصوات ولذلك خلقت أذن أكثر هذا النوع من الحيوان طويلة لتكون عند التحريك إلى جهة ما كالباذهنج يحصر الهواء الوارد بالصوت ويعم هذا والأزواج الأخر التي بعده، أن كل واحد منها ينقسم عند خروجه كل فرد منه إلى قسمين أصغرهما يتفرق في النواحي إلى قدام.
قوله: لكن الصائر من السادس إلى ناحية اليد لا يجاوز الكتف ومن السابع لا يجاوز العضة وأما الذي يجيء الساعد من الكتف فهو من الثامن.
وقد قال في التعليم الثالث من الكتاب الأول: كما يستدل على ألم في الأصبع من سبب سابق أنه لآفة عارضة في الزوج السادس من أزواج عصب العنق وبين الكلامين تباين.
والأول هو الحق. فإن الأصابع لا يأتيها من الزوج السادس شيء وبذلك قال جالينوس.
قوله: وإنما قسم الحجاب من هذه الأعصاب دون أعصاب النخاع الذي تحت هذه ليكون الوارد عليها منحدراً من مشرف فيحسن انقسامه فيها. سبب هذا هو أن العضلات المحركة للحجاب تحتاج أن تكون العصب آتياً إليها من وسط الحجاب. وإنما يمكن ذلك أن تكون نازلة من هذه الأزواج إذ ما هو أسفل منها إنما يأتي إلى هناك بتأريب فلا يكون تحريكها كما هو الواجب في الحجاب والله ولي التوفيق.

الفصل الرابع
تشريح فقار الصدر
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه الأول من أزواجه مخرجه... إلى آخر الفصل.
الشرح قال جالينوس: إن تقسيم هذه الأعصاب تقسيماً متشابهاً وذلك لأن كل زوج منه فإن جزءاً منه يصير إلى عضل الصلب وجزءاً يصير إلى العضل الموضوع هناك المحرك للكتف والعضل الذي يرتقي إلى الكتف والثالث من أجزائه وهو الأعظم يتفرق في العضل الذي بين الأضلاع والعضل الموضوع عليها إما الذي بين الأضلاع التامة وعليها فينتهي إلى القص وإما على أضلاع الخلف وبينها فأكثره يتفرق في العضل الموضوع على الشراسيف والعضل المنحدر إلى الصدر والمتدلي الذي من جنس اللحم. اللهم إلا ما ينقسم في ما بين الضلع الثاني والثالث من الأضلاع الأولى فإن جزءاً منه يرتقي إلى جلدة العضد. والله ولي التوفيق.
الفصل الخامس
تشريح عصب القطن
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه عصب القطن... إلى آخر الفصل.
الشرح إن عبارة الكتاب في هذا ظاهرة بينة غنية عن الشرح. والله ولي التوفيق.
الفصل السادس
تشريح عصب العجز والعصعص
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه الزوج الأول... إلى آخر الفصل.
الشرح إن عبارة الكتاب في هذا أيضاً ظاهرة بينة صريحة غنية عن الشرح. والله ولي التوفيق.
الجملة الرابعة
الشرايين
وهي خمسة فصول.
الفصل الأول
كلام كلّي في صفة الشرّيان
قد كان ينبغي للشيخ أنه بعد الفراغ من الكلام في العصب أن يتكلم في الأربطة واللحم ليستوفي الكلام في أجزاء العضل وإنما لم يفعل ذلك لما عرف من كلامه في العضل كما قلناه.
ونحن نبتدئ به في ذلك ها هنا، ونبسط الكلام في هذا وأشباهه في الكتاب الكبير الذي نعمله في الصناعة الطبية إن شاء الله تعالى. والله ولي التوفيق.
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه العروق الضوارب وهي الشرايين... إلى آخر الفصل.
الشرح قد تكلمنا فيما سلف من شرحنا للكتاب الأول من كتب القانون في حقيقة الشرايين وهيئتها ما يستغنى به عن الإطالة ها هنا فليراجع ذلك من كلامنا في الأعضاء.
وقد كان ينبغي أن يكون الكلام في الشرايين قبل الكلام في الأعصاب لأن الابتداء بفروع ما هو أشد رئاسة أولى، وإنما قدم العصب لأن الكلام فيها من تتمة الكلام في العضل. والله ولي التوفيق.
الفصل الثاني
صفة الشّريان الورّيدي
والكلام في هذا الفصل يشتمل على ثلاثة مباحث: البحث الأول

كلام خاص بهذا الشّريان
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأول ما ينبت من التجويف الأيسر... إلى قوله وأما الشريان الأكبر وهو الأكبر وتسميته.
الشرح إن هذا العرق شبيه بالأوردة وشبيه بالشريان.
أما شبهه بالأوردة فلأنه من طبقة واحدة، وأن جرمه سخيف، وأنه على قوام ينفذ فيه الدم لغذاء عضو.
وأما شبهه بالشرايين فلأنه ينبض وينبت على قولهم من القلب، وينفذ فيه هواء التنفس، ولما كان نبض العروق من خواص الشرايين لا جرم، كان إلحاق هذا العرق بالشرايين أولى. ولذلك سمي شرياناً وريدياً لا وريداً شريانياً.
ونقول إن العروق التي تنبت في الرئة تخالف جميع عروق البدن، وذلك لأنه في جميع الأعضاء يكون للعرق الضارب طبقتان ولغير الضارب طبقة واحدة والضارب مستحصف وغير الضارب سخيف. وعروق الرئة بالعكس من هذا. واختلفوا في سبب ذلك فقال إسقليبيداس: إن ذلك لأن شرايين الرئة شديدة الحركة كثيرتها جداً فتهزل. وذلك لأنها تنقبض بنفسها وتنبسط وتنقبض تبعاً لانبساط الرئة وانقباضها والحركة المفرطة تهزل. وأما أو ردتها فإنها تتحرك تبعاً لحركة الرئة فقط.
والحركة المعتدلة مسمنة مغلظة للجرم. وأما في باقي الأعضاء فإن الشرايين إنما تتحرك بنفسها فقط. فتكون حركتها متوسطة فتحصف وتغلظ. والأوردة ساكنة دائماً. وذلك مهزل مذبل للأعضاء. وقد أفسد هذا جالينوس بأمرين: أحدهما: أنه لو كان كذلك لكان الاختلاف إنما هو بزيادة الغلظ وقلته لا بعدد الطبقات.
وثانيهما: أنه لو كان كذلك لكانت هذه العروق قبل عروض هذه الحركة متساوية في الرئة وغيرها، وذلك كما في الأجنة، فإن رئاتهم لم تكن بعد تحركت، ومع ذلك فإن عروقها تخالف عروق سائر الأعضاء.
والذي ذهب إليه جالينوس أن سبب ذلك هو أن شرايين الرئة الحاجة إليها جذب الهواء إلى القلب ودفع فضوله فيحتاج أن تكون سهلة الإجابة لمتابعة الرئة في انبساطها وانقباضها، ولا كذلك الأوردة فإن المقصود منها تنفيذ الغذاء. وذلك ما يضر فيه الحركة. فلذلك ينبغي أن تكون أبعد عن قبول متابعة الرئة في الحركة.
والذي نقوله نحن الآن، والله أعلم، أن القلب لما كان من أفعاله توليد الروح وهي إنما تكون من دم رقيق جداً، شديد المخالطة لجرم الهواء فلا بد وأن يجعل في القلب دم رقيق جداً وهو اء ليمكن أن يحدث الروح من الجرم المختلط منهما وذلك حيث تولد الروح، وهو في التجويف الأيسر من تجويفي القلب.
ولا بد في قلب الإنسان ونحوه مما له رئة من تجويف آخر يتلطف فيه الدم ليصلح لمخالطة الهواء فإن الهواء لو خلط بالدم وهو على غلظه لم يكن من جملتهما جسم متشابه الأجزاء، وهذا التجويف هو التجويف الأيسر حيث يتولد الروح. ولكن ليس بينهما منفذ، فإن جرم القلب هناك مصمت ليس فيه منفذ ظاهر كما ظنه جماعة، ولا منفذ غير ظاهر يصلح لنفوذ هذا الدم كما ظنه جالينوس فإن مسام القلب هناك مستحصفة وجرمه غليظ فلا بد وأن يكون هذا الدم إذا لطف نفذ في الوريد الشرياني إلى الرئة لينبث في جرمها ويخالط الهواء ويتصفى ألطف ما فيه، وينفذ إلى الشريان الوريدي ليوصله إلى التجويف الأيسر من تجويفي القلب، وقد خالط الهواء وصلح لأن تتولد منه الروح وما يبقى منه الروح أقل لطافة تستعمله الرئة في غذائها. ولذلك جعل الوريد الشرياني شديد الاستحصاف ذا طبقتين ليكون ما ينفذ من مسامه شديد الرقة وجعل الشريان الوريدي سخيفاً ذا طبقة واحدة ليسهل قبوله لما يخرج من ذلك الوريد. ولذلك جعل بين هذين العرقين منافسة محسوسة.
قوله: وأول ما ينبت من التجويف الأيسر شريانان المراد بهذا أن هذين الشريانين أنهما أو ل شرايين البدن كله، إلا أن هذا التجويف تنبت منه أشياء منها هذان الشريانان.
أولهما: وإنما كان نبات هذين التجويف الأيسر لأن الشريان المطلق منهما ينفذ فيه الروح إلى الأعضاء الأخر.
وإنما يمكن ذلك بأن يكون تجويفه مبتدئاً من التجويف الذي يتم فيه تكون الروح وذلك هو التجويف الأيسر من تجويفي القلب.
وأما الشريان الوريدي فلأنه عندهم لأجل نفوذ الروح إلى الرئة وأخذ الهواء منها وعندنا أنه كذلك، ولكن الهواء الذي يأخذه من الرئة لا بد وأن يكون مخالطاً للدم مخالطة تصلح معها لأن يتكون منهما الروح.

واعلم أن نبات هذين الشريانين ليس من التجويف الأيسر بل من الجرم الذي بين بطني القلب لكنهما مع ذلك مائلان إلى التجويف الأيسر حتى يكون تجويفهما متصلاً بذلك التجويف مؤرباً كان النافذ من ذلك التجويف منحرفاً إلى اليمين قليلاً حتى يدخل في تجويفهما، ومعنى كونهما نابتين من هناك لا أنهما ناشئان من هناك كما ينشأ النبات من الأرض كما يقولون، بل أنهما متصلان بذلك الموضع كاتصال النبات وكذلك قولنا في العصب ونحوه إنه ينبت من موضع كذا من النخاع أو من الدماغ إنما نريد بذلك هذا المعنى لا ما والمشهور بين الأطباء كما بيناه في شرحنا للأعضاء.
قوله: واتصال الدم الذي يغذو الرئة إلى الرئة من القلب.
هذا هو الرأي المشهور. وهو عندنا باطل. فإن غذاء الرئة لا يصل إليها من هذا الشريان لأنه لا يرتفع إليها من التجويف الأيسر من تجويفي القلب إذ الدم الذي في هذا التجويف إنما يأتي إليه من الرئة لا أن الرئة تأخذه منه فأما نفوذ الدم من القلب إلى الرئة فهو في الوريد الشرياني الذي نذكره بعد.
قوله: وليكون أطوع ليرشح منه ما يرشح منه إلى الرئة من الدم اللطيف.
هذا أيضاً على الرأي المشهور.
والحق: أنه ليس كذلك، بل ليكون أطوع لقبول ما ينفذ فيه من الدم والهواء الذي يوصله من الرئة إلى القلب. والله ولي التوفيق.
البحث الثاني

الشريان المسمى أورطيوهو الأبهر
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما الشريان الآخر... إلى قوله: وعلى مخرج أورطيأغشية ثلاثة.
الشرح لما كان الدم والهواء النافذان في الشريان الوريدي يجب أن يكونا قليلين. إما على قولهم فلأن ذلك الدم هو والنافذ في الوريد الشرياني لغذاء الرئة وهي عضو واحد. وإما على الحق فلأن ذلك الدم هو والهواء ينفذان إلى التجويف الأيسر من القلب فلو لم يكونا قليلين لزم ذلك اختناق الروح التي في ذلك التجويف فانطفأ الحار الغريزي فلذلك لا بد وأن يكون هذا الشريان صغيراً جداً بالنسبة إلى الشريان الآخر وهو المسمى أورطيلان هذا تنفذ فيه الروح إلى الأعضاء كلها.
ولا بد وأن يكون مع هذا الروح دم رقيق كما بيناه في شرحنا للكتاب الأول فلذلك يجب أن يكون أورطيعظيماً جداً، ولأن ما سوى التجويف الأيسر من القلب فهومحتاج إلى نفوذ الروح إليه، فلذلك لا بد إليه وأن ينفذ في جرم القلب شعبتان إحداهما ظاهرة فلا بد وأن تكون محيطة به وإنما كان كذلك إذا استدارت عليه. وثانيتهما إلى باطنه وذلك هوالبطن الأيمن. وأما الجدار الذي بين البطنين فيكفيه ما يدخل في خلله من الروح التي في البطن الأيسر ويجب أن يكون خروج هاتين الشعبتين من أورطيفإن الشريان الوريدي لتخلخه لا يصلح لتنفيذ الروح إلى غير الرئة، فلا يكواتصالها به، واتصالهما بجرم القلب تلزمه زيادة في الثقوب، وذلك يلزمه ضعف جرم القلب، ولأنه أورطيتنفذ فيه الروح إلى جميع الأعضاء، فلا بد وأن يكون متصلاً بها جميعاً. فلا بد وأن يكون منه ما ينزل إلى الأعضاء التي دون القلب، ومنه ما يصعد إلى التي فوقه، ويجب أن يكون هذا التقسيم إلى قرب صعوده من القلب لأنه لو تأخر عن ذلك كثيراً لكان لهذا الشريان إما أن يأخذ في الصعود فتطول المسافة على الجزء النازل أو في النزول فتطول المسافة على الجزء الصاعد وذلك ضرر لا فائدة فيه. ويجب أن الجزء النازل أعظم من الصاعد لأن الأعضاء التي دون القلب أكبر كثيراً من التي هي فوقه. والله ولي التوفيق.
البحث الثالث الأغشية التي في مخارج الشرايين قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وعلى مخرج أورطي أغشية... إلى آخر الفصل.
الشرح إن القلب تخرج منه أربعة عروق. وأما الشريان الوريدي منها فعلى مخرجه غشاءان. وأما الثلاثة الأخر فعلى مخرج كل واحد منها ثلاثة أغشية ونحن قد تكلمنا في هذه الأغشية في كلامنا في النبض كلاماً مختصراً وتمام تحقيق الكلام فيها يأتي في تشريح القلب إن شاء الله تعالى عز وجل. والله ولي التوفيق.
؟
الفصل الثالث
تشريح الشريان الصاعد
قال الشيخ رحمة الله عليه أما الجزء الصاعد.. إلى آخر الفصل.
الشرح

القسم الأكبر من القسم الصاعد من أورطي أخذ نحو اللثة كما قاله. وأما الأصغر فإنه يتفرق في كتف اليد اليسرى وفي الجانب الأيسر من الرقبة وفي سائر ما هناك من الأعضاء. قوله: حتى إذا بلغ اللحم الرخو التوتي الذي هناك انقسم ثلاثة أقسام: اثنان منها هما الشريانان المسميان بالسباتيين. السبب في انقسامه ها هنا إلى هذه الأقسام الثلاثة أنه يحتاج أن يصعد إلى الدماغ مقدار كبير من هذا الشريان لأجل إمكان حدوث الروح النفساني من الروح الحيواني النافذ فيه، ولا يمكن ذلك بأن يكون صعوده، وهو قسم واحد، إذ لو كان واحداً لكان صعوده إما في جانب واحد فيكون بعيداً عن الأعضاء التي في الجانب الآخر فيكون قسمة الروح غير عادلة أو في الوسط فيكون غير موافق لشيء من الأوداج في سلوكه فإن الأوداج موضوعة في الجانبين على ما تعرفه بعد، ولو كان كذلك لبطل استمداده الدم من الأوداج الذي لا بد منه كما بينا فيما سلف أن سلوك الشرايين يحتاج أن يكون مع الأوردة فلذلك احتيج أن يكون الصاعد إلى الدماغ قسمين، ولا بد من قسم آخر يتفرق في الأعضاء التي ذكرناها وهي القص والأضلاع والرقبة واليدان. قوله: وأما القسم الأصغر من قسم أورطيا لصاعد فإنه يأخذ إلى ناحية الإبط ولقائل أن يقول: ما السبب في احتياج هذه الأعضاء العالية إلى قسمين من الشرايين وهلا لها قسم واحد منهما؟ أما هذا الذي ينفصل أو لاً من الشريان الصاعد أو الذي هو الثالث من تلك الأقسام الثلاثة فإن قيل إن الواحد من هذين لا يكفي لصغره فتحتاج تلك الأعضاء إلى الآخر قلنا قد كان يمكن أن يكون أحد هذين عظيماً يقوم مقام الاثنين.
وجوابه: أن هذين القسمين يصعد الأول منهما وهو المفضل قبل صعود الشريان إلى اللثة إلى تلك الأعضاء من الجانب الأيسر لأنه أقرب إلى هذا الجانب ويصعد الآخر وهو المنفصل عن اللثة إلى تلك الأعضاء من الجانب الأيمن، لأن هذا الجانب أقرب إلى هذا القسم الأول.
ولو كان الأول يصعد إلى الجانبين بأن يتفرق إليهما لكان وصول أجزائه إلى الجانب الأيسر قبل وصلها إلى الجانب الأيمن، لأن هذا القسم صعوده هو من الجانب الأيسر ويلزم ذلك أن تكون قسمة الروح على الجانبين غير عادلة.
قوله: اثنان منها هما: الشريانان المسميان بالسباتيين ويصعدان يمنة ويسرة، مع الوداجين الغائرين أما وجوب صعود هذين مع وداجين أي صحبتهما فلما قلناه في وجوب مصاحبة الشريانين للأوردة وأما وجوب أن تكون هذه الصحبة للوداجين الغائرين دون الظاهرين فلأن نفوذ هذين إلى داخل الدماغ إنما هو في مؤخره، ومن قرب مؤخره فيجب أن يكون سلوكهما مما هو أقرب إلى مؤخر الدماغ. والوداجان الغائران كذلك بخلاف الظاهرين فلذلك وجب أن يكون سلوك هذين السباتيين في صحبة الوداجين الغائرين لا الظاهرين. والله ولي التوفيق.؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

الفصل الرابع
تشريح الشريانين السباتيين
وكلامنا في ذلك يشتمل على بحثين البحث الأول هيئة تصعد الشريانين إلى الرأس قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وكل واحد من الشريانين... إلى قوله: بل تنتسج عنه الشبكة عروقاً.
الشرح إن الغرض بخلقة هذين الشريانين إيصال لروح الحيواني إلى الدماغ، وإلى الأعضاء الظاهرة من الرأس والباطنة منه، وإلى التي هي منه قداماً وخلفاً. وذلك لأن هذه الأعضاء جميعها تحتاج إلى الروح الحيواني كما يحتاج إليه غيرها من الأعضاء ويحتاج الدماغ خاصة إلى أن تكون هذه الروح فيه أكثر ليحيلها إلى مزاج تصلح به لأن تصدر عنها الأفعال النفسية مضافاً إلى ما يحتاج إليه منها لاستفادته منها الحياة فلذلك هذان الشريانان يحتاجان أن يكون ما يتفرق منهما من الأجزاء كافياً لجميع أعضاء الرأس، ما ظهر منها، وما بطن وما هو من قدام، وما هو من خلف، ومع ذلك يكون ما يدخل منهما إلى داخل الدماغ كثيراً ليكون ما ينفذ إلى داخل الدماغ من الروح الحيواني كثيراً جداً، فلذلك ينقسم هذان الشريانان في تصعدهما التقسيم المذكور في الكتاب.

والفائدة من تلاقي الأجزاء المتصعدة إلى قمة الرأس أعني تلاقي فوهات الصاعدة من اليمين لفوهات الصاعدة من اليسار أن يكون ما ينقص من الروح الحيواني لو زيد في فروع الصاعد من اليمين أو من اليسار يمكن أن يعدل بما في فروع الصاعدة من الجانب الآخر فلا تكون هذه الروح ناقصة في أحد الجانبين عن الآخر، وإنما كان نفوذ ما ينفذ إلى داخل الدماغ من هذه الشرايين ليس ينفذ من مقدم الدماغ بل إما من مؤخره أو من قرب مؤخره لأن الحق أن هذه الروح تكون عند مؤخر الدماغ على طبيعتها غير متغيرة تغيراً كثيراً، وتغيرها الكثير إنما يكون في مقدم الدماغ، والمشهور غير هذا وهيئة التشريح تصدق ما قلناه، وسنبرهن على ذلك كما ينبغي إذا نحن تكلمنا في تشريح الدماغ. إن شاء الله عز وجل. والله ولي التوفيق.
البحث الثالث هيئة الشبكة التي تحت الدماغ قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه بل تنتسج عند الشبكة عروقاً في عروق طبقات من غضون على غضون... إلى آخر الفصل.
الشرح الغرض من هذه الشبكة تعديل الروح الصاعد إلى الدماغ، وهو الروح الحيواني معدلاً عن حرارة الزائدة حتى يقارب الاعتدال فيقرب بذلك من الاستعداد لأن تصدر عنه الأفعال النفسية، وإنما جعلت تحت الدماغ لا فوقه ولا إلى جانب لأن تبرد ما يوضع تحت الجسم المبرد أكثر كثيراً من برد ما يوضع فوقه أو إلى جانبه، لأن البارد وأجزاءه من شأنها التسفل لا غير، وإنما فرقت هذه العروق كالشبكة ليتفرق ما فيها من الروح إلى أجزاء صغيرة، فتكون أقبل للانفعال.
وإنما احتيج إلى ذلك مع أن الروح وإن كانت شديدة اللطافة فإنها شديدة الحرارة، وتبرد الحار عن البارد الضعيف البرد من غير مداخلة ومخالطة بطيء جداً وعسر، فلذلك احتيج إلى هذا التفرق، ولذلك خلقت هذه الشبكة من شرايين لا تخالطها أو ردة وذلك لئلا تخالط هذه الروح الدم فيغلظ قوامها، ويلزم ذلك قلة استعدادها بسرعة الانفعال، وجعلت هذه الشبكة بين العظام الموضوعة تحت الدماغ وبين الأم الجافية المحيطة بالدماغ من أسفل، وإنما فعل كذلك لأنها لو وضعت فوق الأم الجافية لكانت مع أنها أقرب إلى جوهر الدماغ، فإنها تجاوز الدم الذي يكون في البركة التي هي المعصرة، فإن هذه المعصرة، على ما نبينه بعد هي وهذه تحدث من أسفل موضع من الأم الجافية، وذلك الموضع المتسفل مملوء من الدم، فلو جعلت الشبكة فوقه تسخنت به فإن الحرارة من شأن حاملها التصعد كما أن البرودة من شأن حاملها التسفل. وكان أيضاً تكثير ما يخالطها من الأبخرة المتصعدة من ذلك الدم لأجل حرارته، فكانت الأرواح منها تغلظ، ويقل قبولها بسرعة الانفعال، فلذلك احتيج أن يكون وضع هذه الشبكة تحت الأم الجافية، ووضع المعصرة فوق تلك الأم، ثم إذا تعدلت هذه الروح واحتيج إلى تصعدها إلى الدماغ، وجب أن تجتمع عروقها وتصير كما كانت أو لاً زوجاً، وذلك لأن هذه العروق لما كانت موضوعة تحت الأم الجافية، فإنما يمكن نفوذها إلى الدماغ بأن يخرق أو لاً تلك الأم، ولو خرقتها وهي على حالها متفرقة لزم ذلك حدوث ثقوب كثيرة جداً في الأم الجافية ولزم ذلك وهن جرمها جداً، وإنما وجب أن تكون هذه العروق بعد تجمعها زوجاً ليكون كل فرد منه يصعد من جانب فتكون قسمة الروح على الجانبين عادلة، وإنما لم يجعل منها زوج آخر أحد فرديه قدام الدماغ، والآخر خلفه، لأن هذا الزوج يجب أن يكون تصعدها أو لاً إلى البطن المؤخر من الدماغ فلذلك يكون تصعدها من قرب جانبيه فقط.

الفصل الخامس
تشريح الشريان النازل من الأورطي
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما القسم الثاني... إلى آخر الفصل.
الشرح إن هذا الفصل مشتمل على مطلبين، أحدهما في هيئة الشريان النازل.
وثانيهما: في تعديد المواضع التي لا تصحب الشرايين فيها الأوردة فلذلك اشتمل كلامنا في هذا الفصل على بحثين.
البحث الأول تعريف هيئة الشريان النازل قد عرفت مما سلف أن الشريان العظيم المسمى أورطي ينقسم إلى قسمين: أصغرهما إلى أعالي البدن ويتفرق فيها، ويسمى الشريان الصاعد. وأعظمها ينزل إلى أسافل البدن، ويسمى الشريان النازل، وفائدة ذلك إيصال الروح الحيواني إلى جميع الأعضاء، لإفادتها الحياة والحياة الغريزية.

وينبغي أن يكون نزول هذا الشريان إلى أسفل من أقرب الطرق وأحرزها والطريق الأقرب هي المستقيمة، وأحرز الطرق أن تكون قدام عظام الصلب ملاقياً لها، وإنما كانت هذه الطريق أحرز، لأنه يكون فيها من خلف محروزاً بعظام الصلب. وأما من قدام، فإن أعلاه يكون محروزاً بعظام القص، وأسفله محروزاً بالأحشاء الموضوعة أمامه.
وأما من الجانبين فإن أعلاه يكون محروزاً بالأضلاع، وأسفله محروزاً بالأحشاء التي في جانبيه.
وإنما احتيج أن يكون المحرز له من خلف أكبر وأعظم وهو عظام الصلب لأنه من خلف غائب عن حراسة الحس، وإنما لم يجعل أسفله محروزاً بعظام من قدامه وجانبيه كما في أعلاه لأن ذلك غير ممكن إذ لو فعل في أسا فل تنور البدن، عظام من قدامه وجانبيه لتعذر مع ذلك انحناء البدن وانعطافه إلى جهة من الجهات، وكان ذلك مانعاً من الأعمال الإنسانية ونحوها.
فلذلك تعذر أن يكون أسفله محروزاً من قدامه، وجانبيه بعظام كما في أعلاه، وأما في أعلاه، فإن ذلك ممكن لأنه لا يعاوق عن الأعمال الإنسانية ونحوها. ولما كان القلب موضع مخرج هذا الشريان منه غير ملاق لعظام الصلب احتاج هذا الشريان في نفوذه إلى ملاقاة تلك العظام التي توجه إليها. وينبغي أن يكون ذلك على الاستقامة لئلا تطول المسافة التي هو فيها غير متكئ على عظام، وموضع انفصال هذا الشريان من الشريان الآخر الصاعد إلى محاذاة الفقرة الخامسة من فقار الظهر، فلذلك يجب أن يكون نفوذ هذا الشريان في توجهه إلى عظام الصلب، وهو إلى هذه الفقرة.
وعند نفوذه إليها يحتاج أن ينعطف لينزل إلى أسفل فلذلك يحدث له هناك زاوية، وملاقاة تلك الزاوية لعظام الصلب مضر لا محالة لهذا الشريان، فلذلك خلقت هناك غدّة تسمى التوتة. لتكون بهذا لشريان وطئاً، وهناك يرتبط لا محالة بعظام الصلب، ويمتد عليها إلى حيث يمكنه النفوذ إلى الرجلين على الاستقامة، وذلك عند فقرات العجز فلذلك هذا الشريان يمتد على عظام الصلب من الفقرة الخامسة من فقرات الظهر إلى فقرات العجز. ولما كان النخاع جزءاً من الدماغ وجب أن تكون حاجته إلى كثرة الأرواح الحيولية قريبة من حاجة الدماغ فلذلك احتيج أن ينفذ إليه شعب كثيرة من هذا لشريان إلى النخاع شعب من كل فقرة يمر عليها. ولذلك ترسل شعباً أخر إلى الأعضاء التي يمر على محاذاتها على ما هو مذكور في الكتاب.
قوله: ثم من بعد ذلك تنفصل منه ثلاثة شرايين: الصغير منها يختص الكلية اليسرى. السبب في اختصاص هذه الكلية بذلك أنها في الجانب الأيسر، وبقرب الطحال، فلو لم يختص بهذه الشعب تسخنها لكانت تبرد، فتخالف كثيراً لمزاج الكلية اليمنى.
قوله: والآخران يصيران إلى الكليتين لتجذب الكلية منهما مائية الدم فإنهما كثيراً ما يجتذبان من المعدة والأمعاء دماً غير نقي، لا شك أن هذين الشريانين، مع أنهما يفيدان الكليتين الحياة والحرارة، فإنهما ينتفع بهما في الكليتين لأنهما يجتذبان منهما مائية كثيرة فتنقى بسبب ذلك ما في الشرايين من الدم عن تلك المائية وأما سبب هذه المائية التي تحتاج إلى اجتذاب الكليتين لها فليس ما قاله. فإن الشرايين ليس من شأنها اجتذاب الدم المائي، بل سبب ذلك أن الدم الذي يصل إلى القلب لا بد من أن يكون كثير المائية. ولذلك سبب فاعلي، وسبب غائي.
أما السبب الفاعلي: فهو أن الدم الذي يأتي القلب إنما يأتيه من الوريد الصاعد. ودم هذا الوريد لا يخلو من مائية كثيرة خاصة عند قرب الكبد، وذلك لأن هذا الوريد يتصل به ما يصفي الدم من المائية كما في الوريد النازل على ما تعرفه بعد.
وأما السبب الغائي: فهو أن القلب يحتاج إلى أن يتصعد منه أجزاء كثيرة من الدم وينفذ إلى الرئة فيخالط الهواء، ويحدث من ذلك جرم مستعد لأن يصير في القلب روحاً وتصعد هذه الأجزاء يكون بالتبخر، وكثرة المائية في الدم مهيئة لذلك التبخير فإن الأجسام الأرضية يقل تصعدها بالحرارة ومخالطة المائية للأرضية تهيئها لذلك فلذلك احتيج أن يكون الدم الواصل إلى القلب كثير المائية، وجرم القلب كثير الأرضية فلا بد من أن يكون اغتذاؤه بما يناسبه من ذلك الدم، فلذلك تكثر المائية في الدم الذي يتصعد منه إلى الرئة لأجل انصراف الأرضية إلى غذاء القلب.

فلذلك يكون ما ينفذ إلى التجويف الأيسر من القلب من الأجزاء الدموية المخالطة للأجزاء الهوائية كثير المائية جداً، فلذلك يكون النافذ من ذلك التجويف إلى الشرايين كذلك وهذه المائية الزائدة تجعل الدم مستعداً للفساد والعفونة، فلذلك تحتاج إلى تنقيته منها، والعضو الذي من شأنه جذب المائية من الدم هو الكلي فلذلك يحتاج أن ينفذ إلى كل شعبة من الشرايين لتجتذب منها المائية المخالطة لدم الشرايين.
قوله: فالآتي إلى اليسرى منهما يستصحب دائماً من الآتي إلى الكلية اليسرى. السبب في ذلك أن الجانب الأيسر أكثر برداً من الأيمن، فلو لم يكن ما يأتي البيضة اليسرى من الشرايين أزيد مما يأتي الكلية اليمنى، لكانت البيضة اليسرى أبرد كثيراً من اليمنى. ولو كان كذلك لكان ما يخرج منها من المني مخالفاً جداً في المزاج لما يخرج من البيضة اليمنى، ولو كان كذلك لكان المني الخارج منهما غير متشابه المزاج، ولأجل كثرة الشرايين في البيضة اليسرى صارت مشاركتها للقلب أكثر من مشاركة البيضة اليمنى له، ولأجل الشعبة الآتية إليها من الكلية صارت البيضة اليسرى مشاركة للكلية اليسرى ولا كذلك الكلية اليمنى فإنها لا تشاركها البيضة اليمنى كثير مشاركة.
البحث الثاني المواضع التي لا تصاحب الشرايين فيها الأوردة

الجملة الخامسة
صفة الأوردة
هي خمسة فصول
الفصل الأول
العروق الساكنة
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه أما العروق الساكنة ... إلى آخر الفصل.
الشرح لما كانت الكبد وهي العضو الذي من شأنه إحالة الكيلوس كيموساً لتغذية نفسها وتغذية البدن كله بذلك الكيموس. وإنما يمكن ذلك بأن يكون للكيموس طريق ينفذ فيه من المعدة والأمعاء إلى الكبد ويكون للكيموس طريق ينفذ فيه من الكبد إلى جميع الأعضاء، ولا بد من أن يكون جرم كل واحد من الطرق قوياً لئلا ينخرق عند تمديد الكيموس أو الكيلوس له. ولا بد أن يكون مع ذلك لدناً حتى يكون قابلاً للانثناء والانعطاف بسهولة على حسب ما يعرض للأعضاء الأخر من ذلك فلا يكون معاوقاً عن تحرك الأعضاء. ولا بد من أن يكون مع ذلك مجوفاً ليمكن أن ينفذ في تجويفه كل واحد من هذين: أعني الكيلوس والكيموس وما هو من الأعضاء كذلك فهو المسمى عند متأخري الأطباء بالأوردة، وهي التي نريد أن نتكلم الآن فيها.
ولما كان تولد الكيموس هو في المعدة، وانجذابه هو في الأمعاء، وجب أن يكون الطريق الذي ينفذ فيه الكيلوس إلى الكبد مع اتصاله بالكبد هو متوجه إلى ناحية المعدة وإلى الأمعاء وما يقرب منهما ليكون منهما ترشح من هذين العضوين شيء من الكيلوس فيمكن لتلك الأوردة المنبثة هناك من استرشاحه لينفذ في تجاويفها ويوصله إلى الكبد.
أما اتصال هذه الأوردة بالكبد فيكفي أن تكون في موضع واحد. ومن ذلك موضع يتفرق الكيلوس في جرم الكبد فلذلك يكفي أن يكون الآتي للكبد بالكيلوس عرقاً واحداً، ويكون لذلك العرق تفرع في جرم الكبد إلى فروع كثيرة فيها ينفذ الكيلوس في جرمها متفرقاً متشتتاً ليكون أقوى على إحالة قوية.
وهذا العرق يسمى الباب وفروعه التي تنبت في جرم الكبد تسمى فروع الباب.
وأما أطراف هذا العرق عند المعدة والأمعاء ونواحيهما فيجب أن تكون كثيرة جداً لتفي باستنشاق جميع ما يرشح من هذين العضوين من أي موضع كان. فلذلك يجب أن ينقسم الباب في أخذه إلى المعدة والأمعاء إلى فروع كثيرة.
وهذه الفروع تسمى الماساريقا والمشهور أن هذه الماساريقا متصلة بالمعدة وبالأمعاء جميعها نافذة بتجاويفها إلى تجاويف المعدة والأمعاء وهذا قد بيناه فيما سلف أن من جملة الخرافات المشهورة هذا.
وأما الأوردة الموصلة للكيموس من الكبد إلى جميع الأعضاء فظاهر أنها يجب أن تكون متصلة أيضاً بالكبد وبالأعضاء جميعها واتصالها بالكبد يكفي أيضاً أن يكون في موضع واحد وذلك هو الوريد المسمى بالأجوف.

ولما كان اتصال الباب بالكبد يجب أن يكون من جهة مواجهتها للمعدة والأمعاء وذلك هو مقعر الكبد، وجب أن يكون اتصال الأجوف هو محدب الكبد لأن الكيلوس إنما يجذبه الكبد ليأخذ منه الغذاء، واندفاعه بعد أن صار كيموساً من الكبد إلى الأعضاء الأخر، إنما يكون لأنه فضل غذائها، وجهة دفع الفضل يجب أن تكون مقابلة لجهة جذب الغذاء كما بيناه مراراً، فلا بد أن يكون اتصال العرق المسمى بالأجوف من محدب الكبد، ويجب أن يكون لهذا الأجوف أصول كثيرة متفرقة في أجزاء الكبد لتمتص الكيموس من جميع أجزاء الكبد وتوصله إلى هذا الأجوف.
وبعد هذا نتكلم إن شاء الله تعالى في تفصيل الكلام في كل واحد من هذين العرقين: وهما الباب والأجوف.
ولنقدم أو لاً الكلام في الباب لأن فعله متقدم على فعل الأجوف. والله ولي التوفيق.

الفصل الثاني
تشريح الوريد المسمى بالباب
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه ولنبدأ بتشريح العرق... إلى آخر الفصل.
الشرح قوله: ينقسم طرفه في تجويف الكبد إلى خمسة أقسام. السبب في أن هذه الأقسام خمسة هو أن الكبد يمكن أن يكون لها خمس زوائد فلذلك جعلت هذه الأقسام خمسة ليكون لكل زائدة يمكن حدوثها قسم على حدة.
قوله: ويذهب وريد منها إلى الزائدة.
السبب في جعل العرق الآتي إلى المرارة من جملة هذه الفروع لا من أقسام الباب كما في الطحال، هو أن المندفع إلى المرارة شديد المنافاة لمادة الغذاء، فلذلك لا يصلح نفوذه في مجرى الغذاء، بخلاف النافذ إلى الطحال، وكذلك الطحال لبعده لا يمكن أن يكون النافذ إليه من هذه الفروع بخلاف المرارة، فإنها شديدة القرب من الكبد.
وقوله: وهذه الشعب هي مثل أصول الشجرة التي ينبغي أن تكون مثل أصول الشجرة هو الأقسام المنقسمة من الباب خارج الكبد لأن تلك منها تنفذ مادة الغذاء إلى هذه الثقبة في جرم الكبد.
وكذلك أصول الشجر التي تنفذ منها مادة الغذاء وينتهي إلى الفروع وعبارة الكتاب في هذا ظاهرة غنية عن الشرح. والله ولي التوفيق.
الفصل الثالث
تشريح الأجوف وما يصعد منه
وكلامنا في هذا الفصل يشتمل على أربعة مباحث: البحث الأول تشريح العرق الصاعد من الأجوف بعد انفصاله من الكبد إلى أن يقارب القلب قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما الأجوف فإن أصله... إلى قوله: ثم ينقسم إلى قسمين قسم منه عظيم يأتي من القلب.
الشرح: الأجزاء التي تنبث من العرق الأجوف ثم جرم الكبد تخالف الأجزاء المنبثة فيه من العرق المسمى بالباب لان تلك المنبثة من الباب تشبه كما قلناه لفروع الشجرة. وأما هذه المنبثة من العرق المسمى بالأجوف فإنها تشبه أصول الشجرة لأنها تأخذ مادة الغذاء. أما هي منبثة فيه، ويرسلها إلى غيرها كما هي أصول الشجرة.
قوله: لتجذب الغذاء من شعب الباب المتشعبة أيضاً كالشعر.
لقائل أن يقول: إن هذه الأصول، وتلك الفروع لو خلقت متصلة كأنها عروق واحدة لكان ذلك أسهل من نفوذ الغذاء من مقعر الكبد إلى محدبها. وأولى من بقاء الكبد بقية من الفضول بخلاف ما إذا كانتا متغايرتين منفصلة إحداهما عن الأخرى. فإن الغذاء حينئذٍ إنما يصل إلى أصول الأجوف بعد أن يخرج من أفواه فروع الباب وتمتصه تلك الأصول. وقد بقي منه شيء لا تقوى هذه الأصول على امتصاصه فيبقى محتبساً في جرم الكبد، وفضلاً فيها.
فما الحكمة في انفصال أحدهما عن الآخر؟

وجوابه: أن الأمر وإن كان كما قلتموه إلا أن هذا الانفصال ضروري في جودة تغذية الأعضاء، وذلك لأن عروق الباب إذا كانت منفصلة من عروق الأجوف بقي الغذاء في مقعر الكبد إلى أن يتم انهضامه لأنه قبل تماماً انهضامه لا يتمكن من النفوذ في أفواه فروع الباب ولا في أفواه أصول الأجوف فلذلك تبقى في مقعر الكبد إلى أن يتم انهضامه وحينئذٍ يستعد بسبب ترققه للنفوذ في تلك الأفواه، فلذلك إذا كانت هذه العروق في الكبد غير متصلة بقي الغذاء في مقعر الكبد انهضامه وحينئذٍ تجتذبه أجزاء العرق الأجوف وإنما تجتذبه لتغذية أجزاء محدب الكبد، فلذلك إنما يجتذب حينئذٍ ما يصلح لتغذية تلك الأجزاء، وذلك هو الدم والكيلوس والبلغم أما الدم فلأنه صالح بالفعل لتغذية محدب الكبد وأما البلغم والكيلوس فلأنهما أيضاً صالحان لذلك بالقوة أي بأن يستحيلا إلى الدموية وحينئذٍ يصلحان لتغذية محدب الكبد، ويلزم ذلك أن تبقى في مقعرها ما في ذلك الكبد مما يضر ذلك المقعر ويمنع نفوذ الغذاء إلى المواضع التي هما فيها فلذلك يضطر مقعر الكبد إلى دفع هذين الخلطين وإنما يسهل دفعهما حينئذٍ إلى الجهة التي فيها المقعر، لأن محدب الكبد لأجل ضيق أفواه عروقه لا يسهل اندفاع هذين الخلطين إليه لذلك فإنما يندفعان حينئذٍ من مقعر الكبد لأن أو ائل تلك الفروع المنبثة فيه من الباب اكبر سعة لا محالة من أفواه أصول الأجوف.
أما السوداء فلأجل غلظها إنما تندفع حينئذٍ من الباب لأن فروعه بقربه أو سع كثيراً من أطراف تلك الفروع. وأما الصفراء فلأجل لطافتها يمكن نفوذها في بعض تلك الفروع، وذلك بأن يكون ذلك الفرع الذي يندفع فيه منعطفاً من داخل مقعر الكبد إلى ظاهره فلذلك تنفذ الصفراء في بعض فروع الباب إلى المرارة.
وأما السوداء فتندفع إلى الطحال، ولكن من العروق المنقسمة من العرق المسمى بالباب أعني المنقسم منه من خارج الكبد، ويلزم ذلك أن يكون الغذاء الواصل إلى محدب الكبد خالياً من السوداء والصفراء المتكونتين في مقعرها، وبذلك يكون الدم الواصل إلى البدن نقياً من هذين الخلطين إلا ما يتكون منهما في محدب الكبد، وهذا إنما يتم إذا كانت أصول العرق الأجوف غير متصلة بأطراف فروع الباب بل هي ملاقية لها.
قوله: وأما الصاعد منه فيخرق الحجاب وينفذ فيه وأما جواب خرق هذا العرق الصاعد للحجاب فلأنه يحتاج إلى النفوذ إلى أعالي البدن وإلى القلب، والحجاب موضوع بين آلات الغذاء وآلات التنفس فلذلك إنما يتمكن هذا العرق من النفوذ إلى القلب ونواحيه بعد نفوذه إلى الحجاب، وذلك بأن يخرقه نافذاً فيه. ولا بد وأن يكون عند موضع خرقه شديد الاتصال بالحجاب إذ لو كان متبرماً عنه ولو بقدر يسير لكان النفس يخرج من الخلل الذي بينهما وينفذ إلى آلات الغذاء وذلك فيه ضرر عظيم.
ولكان أيضاً ما يسيل إلى داخل الصدر من القيح وغيره ينفذ في ذلك الخلل إلى آلات الغذاء فلذلك احتيج أن يكون التحام هذا العرق بالحجاب في موضع خرقه له شديداً وإنما يتمكن من ذلك إذا خرجت منه أجزاء تنبث في جرم الحجاب وأقل ذلك عرقان كل واحد منهما من جانب، وبذلك يشتد التحام هذا العرق بالحجاب.
قوله: ثم يحاذي غلاف القلب فيرسل إليه شعباً كثيرة تتفرع كالشعر. أما نفوذ هذه الشعب إلى غلاف القلب فلأجل تغذيته.
وأما أن هذه الشعب يجب فيها أن تكون شعرية فلأن هذا الغلاف يحتاج أن يكون جرمه كثير الشحم ليمد القلب بالدهنية فلا يعرض له جفاف لأجل حرارته ويبوسة جرمه مع دوام تحركه ومادة الشحم كما علمت هي مائية الدم فلذلك يجب أن يكون الغذاء الواصل إلى هذا الغلاف كثير المائية وإنما يمكن ذلك بأن تكون العروق التي تنفذ فيها شعرية حتى يمتنع نفوذ الدم الغليظ والمتين فيها، وها هنا سؤال ينبغي أن نحقق الكلام فيه: وهو أنه للقائل أن يقول: ما السبب في أن العرق الخارج من القلب إلى غيره من الأعضاء عند أو ل خروجه منه تنفصل منه شعبتان إحداهما تستدير حول القلب وتنبث في أجزائه، والأخرى تنفذ إلى البطن الأيمن؟ وأما الكبد فإن العرق الخارج منها إلى الأعضاء الأخر لا ينفصل منه شيء يتفرق في أجزائها؟

وجوابه: أن سبب ذلك أن العرق الخارج من القلب إلى الأعضاء فائدته إفادة الروح للأعضاء والحياة، وهذا العرق إنما يخرج من البطن الأيسر من القلب. وهناك الروح الحيواني فلو لم تنفصل من ذلك العرق ما ينفذ إلى بقية أجزاء القلب لكانت تلك الأجزاء تخلو من الروح، وعن قوة الحياة.
وأما العرق الخارج من الكبد فإن فائدته إيصال الغذاء إلى جميع الأعضاء. والغذاء إنما يصل إلى هذا العرق بعد عمومه لأجزاء الكبد كلها، وذلك من الأجزاء المتفرقة منه ومن الأجزاء المتفرقة من الباب ولذلك تكون جميع أجزاء الكبد مستغنية عن غذاء ينفذ إليها من عرق ينفصل من هذا العرق الأجوف، وقد عرفت مما سلف أن رأي جالينوس أن الأوردة جميعها تنبت من الكبد، وأن الشرايين تنبت من القلب، وأن العصب ينبت من الدماغ أو النخاع.
والمشهور عن أرسطوطاليس أن هذه جميعها تنبت من القلب، ومذهب الرئيس ابن سينا تجويز كل واحد من هذين المذهبين مع جواز أن يكون شيء من هذه ينبت من عضو.
وأما الحق الذي ذهبنا إليه، فهو أنه ليس شيء من هذه يجوز البتة أن ينبت من عضو، وأنها لها أسوة بباقي الأعضاء في أنها تتكون ابتداء من غير أن تكون نابتة من شيء من الأعضاء.
وأما ساسينوس القبرصي فقد قال: إن مبادئ نبات العروق جميعها من ناحية العينين والحاجبين ثم ينحدر عرقان يمنة ويسرة.
وقد قال ديباجانس: إن أصل العروق عرقان يبتدئان من البطن ثم ينحدران ويصعدان، ولم يشرح هو كيفية ذلك.
وقال: إن العرقين يرتفعان إلى فوق إلا شعبتين منهما دقيقتين فإنهما ترسلان إلى الكبد، وإلى الطحال وعرقان آخران يبتدئان من خرز الظهر يتيامن من أحدهما، ويتياسر من الآخر، ويمضي اليمين إلى الكبد، واليسار إلى الطحال وكل واحد منهما يتشعب في يد، ومنهما الكتفي والإبطي، ثم إنه يطول في قسمة ذلك بما لا فائدة.
وأما بولونيوس فإنه جعل مبدأ العروق من أزواج أربعة: زوج من خلف الرأس إلى العنق، من خلف إلى اسفل.
وزوج آخر من الرأس والدماغ عند الأذنين ثم إلى الفقار والظهر وجعل مبدأ العروق جملة هو الرأس والدماغ.
وقال الإمام أبقراط: والعروق الغلاظ التي في البدن على هذه الصفة. وهي أربعة أزواج: أحدها: يبتدئ من مؤخر الرأس، وينحدر على الرقبة من خارج، ويمتد على جنبي عظم الصلب إلى أن يبلغ إلى الوركين، والرجلين ثم ينحدر من هناك على الساق إلى أن يبلغ الكرسوع والقدمين من خارج فقد ينبغي لمن أراد فصد العرق في أو جاع الخاصرتين والأنثيين أن يفصد العرق الذي يظهر تحت الركبة، والعرق الذي على الكرسوع من خارج.
وأما الزوج الثاني: فيبتدئ من الرأس وينحدر إلى جانب الأذين على الرقبة من داخل ويمتد على جنبتي عظم الصلب ويسمى هذان العرقان الأوداج إلى أن يبلغ الخواصر، ثم ينقسم من هناك في الانثيين ويمتد أيضاً على الجانب الداخل من مأبض الركبة، ثم على الساقين إلى أن ينتهي إلى الكرسوع والقدمين من داخل فقد ينبغي لمن أراد فصد العرق في أجزاء الخاصرة والانثيين أن يفصد العرق الذي يظهر تحت الركبة، والعرق الذي على الكرسوع من داخل.
وأما الزوج الثالث: فيبتدئ من الأصداغ وينحدر إلى الرقبة تحت الأكتاف ثم يصير من هناك إلى الرئة ويمتد العرق منه إلى الجانب الأيمن ثم إلى الجانب الأيسر تحت الثدي إلى أن يصل إلى الطحال والكلية اليسرى ويمتد الذي في الجانب الأيسر من الرئة إلى الجانب الأيمن تحت الثدي إلى أن يصل إلى الكبد والكلية اليمنى وأطراف هذين العرقين تنتهي عند طرف المعاء المستقيم.
وأما الزوج الرابع: فيبتدئ من مقدم الرأس من ناحية العينين على الرقبة والترقوتين من كل جانب ثم يصير من هناك ممتداً على العضد إلى المأبض من كل واحدة من اليدين ثم من هناك إلى الساعدين والكتفين والأصابع ثم يمتد من الأصابع أيضاً على الذراع إلى المأبض ويمتد على الجانب الداخل من العضد ثم يمر على الأضلاع من خارج فيأتي عرق واحد منها إلى الطحال والعرق الآخر إلى الكبد، ثم يمتد على البطن من خارج إلى أن ينتهي إلى الفرج ثم ينقضي فعلى هذا يكون منشأ العروق الغلاظ. وفي البدن عروق كثيرة مختلفة في الجنس منشؤها من البطن تؤدي الغذاء إلى جميع البدن.

وقد يصير أيضاً الدم من العروق إلى جميع البدن ويتأدى من العروق التي في ظاهر البدن والعروق التي في باطنه بعضها إلى بعض، فيصير من العروق التي من خارج إلى التي من داخل، إلى التي من داخل وإلى التي من خارج.
وليكن فصدك العروق على حسب هذا القول وهذا كلامه.
وقد شنع جالينوس وأفرط، ولم يفهم أن غرض أبقراط من هذا إنما هو بيان امتداد العروق التي تفصد لأنها تنبث من هذه المواضع.
وقد بسطنا الكلام في ذلك عند شرحنا لكتاب طبيعة الإنسان فلترجع إليه هناك. والله ولي التوفيق.
البحث الثاني العرق الصاعد من حيث يقارب القلب

إلى أن ينبث في الرئة وفي جرم القلب
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه ثم ينقسم إلى قسمين قسم منه عظيم.... إلى قوله: وأما النافذ.
الشرح قوله: ثم ينقسم إلى قسمين قسم منه عظيم يأتي القلب ليس المراد أن هذا عظيم بالنسبة إلى القسم الآخر، فإن هذا أصغر من ذلك القسم بكثير، لأن هذا القسم ينحو إلى القلب والرئة وبعض الأضلاع والقسم الآخر يتوجه إلى الصدر والرقبة والرأس والثديين فلذلك يحتاج أن يكون أعظم من هذا القسم بكثير لأن هذا القسم مع أنه أصغر كثيراً من ذلك القسم فإنه في نفسه عظيم ومع ذلك هو أعظم عرق يتصل بالقلب لأن هذا ينفذ فيه الدم وإنما غيره ينفذ فيه النسيم وإن نفذ فيه دم فذلك الدم مع قلته رقيق جداً، فلذلك احتيج أن يكون هذا القسم أعظم عروق القلب.
قوله: وهذا الوريد يخلف عند محاذاة القلب عروقاً ثلاثة.
يريد بهذا المحاذاة الوصول لأن تقسيم هذا الوريد إلى الأقسام الثلاثة هو عند نفوذه في أذن القلب اليمنى وإنما انقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة لأنه يحتاج أن ينفذ منه قسم إلى الرئة ويحتاج أن ينبث منه قسم في جرم القلب لتغذيته ويحتاج أيضاً أن ينفذ منه قسم إلى الأضلاع السفلي والعضل الذي هناك وسائر ما هناك من الأجسام لإفادة الغذاء.
قوله: عرق يصير منه إلى الرئة نابتاً عند منبت الرأس بقرب الأيسر يريد بهذا النبات أنه من هناك يصعد إلى الرئة مع أن دخوله إلى داخل القلب إنما كان عند يمينه وإنما كان كذلك ليستفيد بقربه من البطن الأيسر حرارة بها يصير الدم الذي فيه قريباً من الاستعداد ولأن يكون منه، ومن الهواء الذي يستخلط به ما يصلح لأنه يصير في القلب روحاً وإنما يمكن أن تخرج هذه العروق من قريب البطن الأيسر، مع أن دخوله إلى تجويف القلب، إنما هو من جهة يمينه بأن ينعطف في داخل تجويف القلب من اليمين آخذاً إلى اليسار.
قوله: وقد خلق ذا غشائين كالشريانات. يريد ذا طبقتين وإنما خلق كذلك ليكون جرمه مستحصفاً ضيق المسام جداً فلا يرشح منه من الدم إلا ما لطف جداً، وهذا لذي يرشح منه يصادف هواء كثيراً مبثوثاً في تجاويف الرئة فيختلط به وبذلك يصلح لأن يصير في القلب روحاً وباقي الدم الذي لا يرشح من تلك المسام ينفذ من فوهات أجزاء هذا العرق فتغتذي به الرئة فلذلك غذاء الرئة إنما هو ما تبقى من أجزاء هذا العرق بعد ترشيح لطيفه إلى تجاويف الرئة.
قوله: أن يكون ما يرشح منه دماً كثيراً في غاية الرقة مشاكلاً لجوهر الرئة هذا الكلام لا يصح فإن جوهر الرئة ليس بغاية الرقة وإنما الفائدة فيه ما ذكرناه وإنما كان غذاء الرئة يأتي إليها من القلب مع العرق العظيم الحاوي للدم الغاذي للأعضاء العلوية كما سنذكره بعد تصعيد إلى خلف الرئة، وقريبا منها جداً ومن القلب مع أن العرق قريب منها جداً فيكون أخذها الغذاء منه أسهل.

السبب في ذلك أن الرئة عضو من شأنه تهيئة المادة لأن تستحيل في القلب روحاً وإنما يمكن ذلك إذا كانت المادة يغلب عليها الجوهر الهوائي حتى تكون مناسبة لجوهر الروح ولا يمكن أن يكون هواءً صرفاً. فإن الأجسام البسيطة قد بينا أنها لا تصلح للتغذية فلذلك إنما يصير هذا الهواء صالحاً لتغذية الروح إذا خالطته أجزاء دموية حتى يصير بسبب ذلك ممتزجاً مع الهواء وتلك الأجزاء وإنما يمكن تلك الأجزاء، أن تعد الهواء لتغذية الروح إذا كانت شديدة اللطافة حارة وإنما يمكن ذلك إذا كانت قد تسخنت في القلب ولطفت جداً، فلذلك لابد من أن تكون الأجزاء الدموية التي تخالط الهواء الذي في الرئة ويصير من جملة ذلك ما يصلح لغذاء الروح متسخنة في القلب وإنما يمكن نفوذها إلى الرئة بأن تكون الرئة جاذبة لها ولكل عضو يجذب خلطاً فإنه إنما يجذبه ليغتذي به وإنما يمكن ذلك إذا كان غذاء الرئة يأتي إليها من القلب فإنه لو وصل إليها من القلب العرق العظيم الذي هو وراءها لاستغنت تلك عن جذب الدم من القلب. ولو كانت كذلك لم ينفذ الدم اللطيف من القلب إليها فلذلك احتيج أن يكون غذاء الرئة يأتي إليها من القلب لا كما قاله جالينوس. وهو أن ذلك لأن دم العرق العظيم الذي وراءها لا يصلح لتغذيتها لأنه لا يغلب عليه الصفراء، وغذاء الرئة عنده يجب أن تكون الصفراء غالبة عليه.
ونحن قد بينا سهوه في ذلك وبينا أن الصفراء لا تصلح لتغذية عضو البتة لا بانفرادها، ولا بأن تكون غالبة على الدم بل إن كان الصفراء تغذيه كما تغذو الأبازير الحارة إذا وضعت في الأطعمة. والله ولي التوفيق.
البحث الثالث القسم الأعظم من قسمي العرق الصاعد عند انقسامه إلى الجزأين اللذين أصغرهما أعظم عروق القلب هو الذي ينقسم عند الأذن اليمنى من أذني القلب إلى ثلاثة أقسام قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما النافذ... إلى قوله: والذي يبقى من الإنشعاب الأول.
الشرح قوله: يتفرق منه في أعالي الأغشية المنصفة للصدر وأعالي الغلاف وفي اللحم الرخو المسمى توتة شعب شعرية أما تفرق الشعب إلى هذه الأشياء فلأجل تغذيتها، واختصت بهذا الصاعد لأجل قربها منه. وكانت هذه الشعب شعرية لتمنع نفوذ الدم الغليظ فيها فإن غذاء الأغشية أما تفرق الشعب إلى هذه الأشياء فلأجل تغذيتها هذه الأغشية يجب أن يكون رقيقاً كما بيناه أو لاً.
وغذاء الغلاف أعني به غلاف القلب يجب أن يكون مائياً وكذلك غذاء اللحم الرخو، إلا أن مائية غذاء هذا اللحم يجب أن يكون أقل من مائية غذاء الغلاف لأن الشحم أكثر مائية من اللحم الرخو.
قوله: ثم عند القرب من الترقوة يتشعب منه شعبتان تصير كل شعبة منهما شعبتين هاتان الشعبتان تصعدان من العرق العظيم الصاعد إذا قارب في صعوده الترقوتين وهما مع عظمهما صغيران بالقياس إلى الباقي من ذلك العرق وهاتان الشعبتان تصعدان إلى قرب الترقوتين جداً، وتصعدان مؤربتين متباعدتين فيكونان على هيئة اللام اليونانية فإذا قاربتا جداً الترقوتين انقسمت كل واحدة منهما إلى قسمين وهذان القسمان أحدهما أصغر من الآخر والصغير منهما ينحدر كل فرد منه عن جانب القص إلى أسفل حتى تنتهي إلى المواضع المذكورة في الكتاب. السبب في نزول هذين أن الأعضاء التي ينتهيان إليها كالثرب والعضل المستقيم الذي في طول البطن والعضلات الخارجة من الصدر ونحو ذلك.
وهذه العضلات كلها تحتاج أن يكون دمها الغاذي لها شديد الحرارة أما الثرب وعضلات البطن فلأن هذه الأعضاء تحتاج أن تكون حارة بالفعل لتسخن المعدة فتعينها على طبخ الأغذية.

وأما عضلات الصدر ونحو ذلك فلأن الصدر اكثر أجزائه باردة المزاج كالعظام والأغشية ونحو ذلك فيحتاج أن يكون ما عليه من العضل حار المزاج ليفي بتعديل برودة تلك الأعضاء وإنما يمكن أن يكون الدم شديد الحرارة بالطبع إذ قارب القلب حتى يتسخن بحرارته خاصة دم هذا العرق فإنه يقارب القلب مرتين مرة في صعوده ومرة في نزوله. فلذلك احتاج كثير من الأعضاء السفلية إلى أن يأتيها غذاها من العرق الصاعد. وأما الأعضاء العلوية فليس فيها ما يصل إليه شيء من العرق النازل إلا الثدي فإن الثديين ينتهي إليهما عرق من العرق النازل ويصعد إليهما من الرحم. وذلك ليكون من الرحم والثديين مشاركة له، وإنما احتيج إلى ذلك ليمكن أن يتصعد إليهما ما يفضل من غذاء الجنين من دم الطمث فيستحيل في الثديين لبناً.
وقوله: وأما الباقي في كل واحد منهما وهو زوج يعني بذلك الباقي من كل واحدة من الشعبتين الصاعدتين إلى مقاربة الترقوتين جداً فإن كل واحدة من تلك الشعبتين تنقسم إلى قسمين أصغرهما يمر عن جانبي القص إلى أسفل وينتهي إلى الأعضاء المذكورة في الكتاب وأعظمها وهو قسم من كل واحدة من الشعبتين فلذلك هو زوج، وهذا الزوج في كل فرد منه في قرب ترقوة وهو ينقسم إلى خمسة أقسام. والله ولي التوفيق.
البحث الرابع العرق العظيم الصاعد بعد تشعب الشعبتين منه عند مقاربة الترقوتين إلى أن يبلغ أعلى الرأس قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه والذي يبقى من الإنشعاب الأول الذي انشعب ... إلى آخر الفصل.
الشرح قوله: وقبل أن يمعن في ذلك ينقسم قسمين: أحدهما: الوداج الظاهر والثاني الوداج الغائر.
معناه: أن الأول من هذين القسمين يصير منه الوداج الظاهر. والآخر يصير منه الوداج الغائر.
قوله: على ما هما عليه فليس شيء منهما بوداج لأن كل واحد منهما فإنه إنما يصير منه الوداج الذي سماه به بعد أن ينفصل منه أجزاء، ويكون الوداج ما بقي بعد ذلك. وذلك فلا يكون المجموع هو الوداج وكل واحدة من الترقوتين فإنها تصعد من عندها ما يكون منه وداج ظاهر، ووداج غائر والذي يصير منه الوداج الظاهر كما يصعد من الترقوة ينقسم إلى قسمين: أحدهما: يأخذ إلى قدام الترقوة وإلى جانبها والثاني يأخذ أو لاً إلى قدام ثم يتسافل قليلاً ثم يصعد إلى قدام الترقوة ويستدير عليها ثم يصعد حتى يلحق بالقسم الأول فيختلط به، ويصير من جملتها الوداج الظاهر.
وفائدة انقسامه أو لاً اختلاط قسمته حتى يكون منهما قسم واحد أن يمر أحد القسمين بباطن الترقوة، والآخر بظاهرها فيعم الغذاء لظاهرها وباطنها وذلك مما لا يتم لو كانا قسماً واحداً، والذي يمر بظاهر الترقوة ويحتاج أن يستدير عليها ليصل منه الغذاء إلى أجزاء كثيرة بين ظاهر الترقوة وإنما لم يحتج إلى ذلك المار بباطنها لأن باطن الترقوة يستغني عن ذلك بكثرة العروق هناك ثم إذا تم ذلك الغرض عاد القسمان فصارا عرقاً واحداً لأن ذلك هو المقصود منهما قبل القسمة.
قوله: وقبل أن يختلط به ينفصل عنه جزءان أحدهما يأخذ عرضاً. القسم الثاني من القسمين اللذين يكون من اختلاطهما الوداج الظاهر وهو الذي يتسفل قبل تصعده قليلاً ثم يصعد مستظهراً للترقوة وينفصل منه قبل اختلاطه بالقسم الآخر أربعة عروق أخر.
اثنان منها يتميزان عن الاثنين الآخرين، فلذلك هما زوجان وهما المرادان بالجزأين لأنه جعل كل زوج الاثنين جزءاً، والزوج الأول من هذين يأخذان عرضاً نحو أعلى القص أي إنه يأخذ في عرض العنق مع تسفل يسير وهذا الزوج يلتقي فرداه ويتصل أحدهما بالآخر وذلك عند الموضع الغائر الذي بين الترقوتين وأما الزوج الآخر، فإن فرديه يتوربان صاعدين مستظهرين للعنق، ولا يلتقي أحد فرديه بالآخر كما في الزوج الآخر.
قوله: ويؤديها إلى الموضع الواسع وهو الفضاء الذي ينصب إليه الدم ويجتمع فيه ثم يتفرق عنه فيما ما بين الطاقين.
معناه: ثم يؤدي الصفة الثخين هذه العروق إلى الموضع الواسع، وهو الفضاء الذي من شأنه ذلك موضوع فيما بين الطاقين أي الاثنين: الجافية والرقيقة. وذلك لأن الأم الجافية تنعطف إلى أسفل وتخلي هناك تجويفاً وذلك التجويف هو الفضاء الذي ينصب فيه الدم.
هذا التجويف هولا محالة فوق الأم الجافية، وتحت الأم الرقيقة فهو بين الطاقين. والله ولي التوفيق.

الفصل الرابع
تشريح أوردة اليدين إلى الكتفي منه
وهو القيفال أما الكتفي منه... إلى آخر الفصل.
الشرح قوله: وأما الكتفي وهو القيفال أي وهو الذي يصير منه القيفال فإنه يتفرق منه شعب في جلد العضد، وفي الإبط ظاهره، ويكون منه أيضاً حبل الذراع ويجتمع جزء منه وجزء آخر من العرق الإبطي فيكون منهما العرق المسمى بالأكحل وكذلك أيضاً يجتمع منه جزء وجزء من الإبطي فيكون منه ذلك عرق يتعمق في الساعد، وهذا غير مشهور ولا اسم له، لأنه لأجل غوصه لا يصل إليه المبضع فلذلك لا يفصد فلذلك هو غير مشهور.
والقيفال ليس هو مجموع هذه الأشياء بل ما يبقى من الكتفي بعد هذه الأشياء وهو عرق يمتد في الساعد ماراً في أعلى معطف المرفق. وألفاظ باقي الفصل ظاهرة. والله ولي التوفيق.
الفصل الخامس
تشريح الأجوف النازل
وكلامنا في هذا الفصل يشتمل على بحثين: البحث الأول الأجوف النازل من عند انفصاله من الأجوف الصاعد إلى أن يتوكأ على أعلى الصلب قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه قد ختمنا الكلام في الجزء... إلى قوله: وبعد نبات الطالعين.
الشرح قوله: فأول ما يتفرع منه كما يطلع من الكبد، وقبل أن يتوكأ على الصلب يتشعب منه بشعب شعرية تصير إلى لفائف الكلية اليمنى.
السبب في ذلك أن الكليتين تحتاجان أن يكون على ظاهرهما شحم كثير لما نذكره من منفعة ذلك عند كلامنا في تشريح الكلي. والشحم إنما يتكون من مائية الدم كما علمته من قبل.
وإذا نفذ هذا الأجوف عن الكبد قليلاً تصفى دمه عن المائية الزائدة فاحتيج أن يكون ما يصل إلى ظاهر الكليتين من الدم واصلاً إليهما أو لاً والعروق النافذة إلى ظاهر الكلية اليمنى من أو ل انفصالها عن هذا الأجوف شعرية، ولا كذلك النافذة إلى ظاهر الكلية اليسرى. فإنها تكون أو لاً عرقاً واحداً ثم ينقسم إلى عروق شعرية، وإنما احتيج أن تكون هذه العروق شعرية لتمنع نفوذ الدم المتين فيها، ولا ينفذ فيها من الدم إلا ما تغلب عليه المائية حتى ترققه جداً، وإنما كانت عروق الكلية اليمنى من أو ل انفصالها شعرية لأن هذه الكلية قريبة جداً من الكبد، فلذلك لا يخشى على عروقها الدقاق من الانقطاع لأجل طول المسافة ولا كذلك الكلية اليسرى فإنها بعيدة عن الكبد لأنها مع أنها في خلاف جهتها هي كثيرة النزول إلى أسفل فلذلك جعل ما ينفذ إليها عرقاً واحداً غليظاً ثم يتفرع ذلك العرق إلى عروق كثيرة جداً شعرية.
قوله: يتوجهان إلى الكليتين لتصفية مائية الدم إذ الكلية إنما تجتذب منها غذاها، وهو مائية الدم ها هنا سؤالان: أحدهما: ما السبب في أن العرق النازل جعل له وحده ما يصفى من المائية؟ وهلا جعل ذلك للعرق الصاعد أيضاً؟ أ جعل ما يصفي المائية قبل انقسام الأجوف إلى الصاعد والنازل لتكون التصفية عامة للدم النافذ فيهما؟ وثانيهما: أن الكلية كيف تجذب الدم المائي وكل عضو فإن جذبه للمواد الغذائية إنما يكون لتغتذي من ذلك المجذوب. وغذاء الكلي يجب أن يكون من الدم المتين الكثير الأرضية لأن جوهر الكلية كذلك والغذاء يجب أن يكون فيه شبيهاً بالمغتذي؟

الجواب: أما السؤال الأول فإن الدم الصاعد في العرق الصاعد مستغن عن التصفية عن المائية وإنما يحتاج إلى ذلك العرق النازل فقط، وإنما كان كذلك. لأن تصعد المائية في العرق الصاعد لا يمكن أن يكون بالطبع، ولا أيضاً تجذبه الأعضاء فلذلك تصعدها في ذلك الصاعد غير ممكن إنما تصعدها بالطبع محال فلأن المائية من شأنها السيلان إلى أسفل لا إلى فوق وأما أن تصعدها يجذب الأعضاء لا محال فلأن جذب الأعضاء إنما يكون لما يغتذي به ولما يعين على تغذيتها والمائية لا تصلح للأعضاء فلذلك كان تصعد هذه المائية الزائدة في العرق الصاعد حينئذٍ محالاً وأما العرق النازل فإن هذه المائية تنفذ فيه لأن المائية شأنها السيلان إلى أسفل وهذه المائية لأنها زائدة عن المقدار الذي يستحقه الدم الغاذي يحتاج إلى تصفية الدم منها وإنما يمكن ذلك باندفاعها عنه، وذلك بأن تجتذبها الكلى فيخلص الدم منها، وجذب الكلى لها لا لأنها ملازمة للدم الذي يحتاج إليه الكلى في تغذيتها، فتجذب الكلى لذلك الدم ويلزم ذلك انجذاب هذه المائية والسبب في أن هذا الدم تنجذب معه مائية كثيرة بخلاف الدم الباقي وغيره هو أن الأعضاء تجذب الدم أيضاً ولا تجذب المائية، وجب تلك الأعضاء يمانع من أن يندفع إلى الكلى لجذبها دم كثير ولأجل فقدان جذب تلك الأعضاء المائية تكون مندفع منها مع ذلك الدم كثيراً ولأجل هذا وجدت المائية يكون المندفع منها من ذلك الدم كثيراً، فلذلك تندفع إلى الكلى دم كثير المائية وبكثرة تلك المائية يخلص الدم الباقي منها، وبعد انفصال هذين الطالعين من العرق العظيم النازل ينفصل منه أيضاً عرقان آخران ينفذان إلى الأنثيين في نفوذ هذين العرقين إلى مع أن الأنثيين ينبغي أن يكون ما يأتيهما من العروق آتياً إليها من هذا العرق العظيم النازل بعد وصوله إلى عظام العجز. لأن ذلك الموضع أقرب إلى الأنثيين. سبب ذلك أن الدم المائي النافذ في الطالعين إلى الكليتين ليس يكاد يستقصي ما في الدم من المائية الزائدة فيبقى في الدم الباقي يسير من تلك المائية الزائدة فيحتاج إلى دفعها إلى عضو يحتاج في غذائه إلى رطوبة زائدة وذلك هو الأنثيان فلذلك ينفذ إليهما العرقان.
قوله: وما يأتي من الأنثيين من الكلية وفيه المجرى الذي ينضج فيه المني بعد احمراره ولكثرة معاطف عروقه وعروق الكلى كما عرفته كثيرة المائية فلذلك يكون فيها دم كثير الرطوبة فيكون ذلك الدم كثير الاستعداد والاستحالة إلى المنوية وذلك إذا خالطه ما يحيله إلى طبيعة المني.
وقد بينا في غير هذا الكتاب أن الأصل في المني والخميرة فيه هو ما ينزل من الدماغ وهذا النازل من الدماغ يخرج من الدماغ في العروق التي عند السحا وتنفذ تلك العروق إلى عظام الصلب فيجري فيها المني مصاحباً للنخاع ليبقى في تلك المنافذ على مزاجه، وهو في الدماغ، ولا يزال ينفذ إلى أسفل حتى ينتهي إلى هذين العرقين فينفذ فيهما، وتحيل ما فيهما من الدم إلى طبيعة المني فلذلك هذان العرقان، وليسا لتغذية الأنثيين فقط بل ولأن يستحيل كثير من الدم الذي فيهما إلى طبيعة المني، وتكمل استحالته إلى ذلك إذا حصل في الأنثيين.
وقد قال الإمام الفاضل أبقراط: إذ نزل المني ووصل إلى مخ عظم الظهر تميز فيه، ثم ينزل في مجار له في الكليتين أعني التي لا تنزل إلى أسفل ولكنها تصعد إلى الكبد، وهي التي إن أصابها شيء من الأوجاع يسيل منها دم، وقوله: التي لا تنزل إلى أسفل يعني التي لا تتعدى الأنثيين إلى أسفل كمالتي تنفذ إلى جهة الرجلين. وقوله: وهي التي إن أصابها شيء من الأوجاع يسيل منها دم، يريد بذلك أن هذه العروق فيها يستحيل الدم إلى طبيعة المنى فإذا عرض له شيء من الأوجاع أي من الأمراض يسيل منها دم عند الإنزال أو يكون ما ينزل حينئذٍ دموياً، وذلك لأجل قصور استحالة الدم الذي فيها إلى المنوية لأجل ضعفها بذلك المرض ولذلك يعرض أيضاً لمن استكثر الجماع أن ينزل منيه دموياً لأنه ينزل حينئذٍ ما لا يكون قد استحكمت استحالته إلى المنوية والله ولي التوفيق.
البحث الثاني الأجوف النازل من حين ما يتوكأ على عظم الصلب إلى أن ينتهي إلى الرجلين قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وبعد نبات الطالعين وصنعتهما يتوكأ الأجوف... إلى قوله: وما يبقى من هذا باقي.
الشرح

قوله: يتوكأ الأجوف عن قرب على الصلب الشرايين والأوردة من شأنها أي أن يتوكأ كل منهما في صعودها ونزولها على عظام الصلب لتكون هذه العظام وقاية لها حيث لا يلحقها حراسة الحواس وارتبط بتلك العظام فتبقى أو ضاع أجزائها محفوظة.
قوله: فإذا انتهى إلى آخر الفقار انقسم قسمين. يريد بقوله: أجزاء الفقار الذي ينتهي عنده، وذلك هو فقار العجز، وفائدة هذا الانقسام أن ينتهي كل قسم منها إلى رجل ولذلك يتابعدان فيكونان على هيئة اللام في كتابة اليونان.
وكل واحد من هذين القسمين ينفصل منه قبل موافاته العجز عشرة عروق وهي التي سماها طبقات، وسماها غيره طوائف وبعضهم سماها أنواعاً.
قوله: يتفرع منها عروق صاعدة إلى الثدي تشارك بها الرحم. فائدة هذه المشاركة أن يكون ما يفضل من دم الطمث عن غذاء الجنين يجد طريقاً للنفوذ إلى الثديين ليستحيل لبناً، ويصير بذلك غذاء للجنين بعد انفصاله ولا يبقى في الرحم فضلاً ويندفع إلى غير الثدي من الأعضاء فيؤذيه وعبارة باقي الفصل ظاهرة. والله ولي التوفيق.
تم القسم الأول بحمد الله ومنه ومن هنا نأخذ في تشريح الأعضاء الآلية مستعيناً بالله وحده.

القسم الثاني
تشريح الأعضاء الآلية
وهو عشرون فصلاً
فصل
معرفة الرأس وأجزائه
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه قال جالينوس: إن الغرض في خلقة الرأس هو الدماغ ولا هو السمع ولا الشم ولا الذوق ولا اللمس فإن هذه الأعضاء والقوى موجودة في الحيوان العديم الرأس... إلى قوله: ثم العظيم الذي هو القاعدة للدماغ.
الشرح
المراد ها هنا بالرأس العضو المشتمل على الدماغ الموضوع في أعلى البدن ورأس الإنسان. إذا قيس إلى بدنه كان أعظم نسبة من رؤوس باقي الحيوانات إلى أبدانها وسبب ذلك أمور: أحدها: أن الإنسان يحتاج أن تكون له قوة الفكر والذكر وذلك يحتاج إلى أرواح كثيرة فلذلك احتيج أن يكون لتلك الأرواح مكان متسع ولا كذلك غيره من الحيوان فإنه ليس له هذه القوى.
وثانيها: أن أرواح دماغ الإنسان يحتاج فيها أن تكون صافية ليجود فكره، وإنما يمكن ذلك، إذا لم تخلط فيها أبخرة كثيرة ورأس الإنسان يحتاج فيها أن تكون صافية ليجود فكره، وإنما يمكن ذلك إذا لم تختلط فيها أبخرة كثيرة ورأس الإنسان في أعلى بدنه فهو في جهة تصعد إليه الأبخرة من معدته ومن جميع بدنه. فلذلك يحتاج الإنسان أن يكون رأسه كبيراً جداً ليتسع لما يتصعد إليه من أبخرة من غير أن يحتاج تلك الأبخرة بسبب ضيق المكان إلى مخالطة أرواحه. ولذلك احتيج أن تكون عظام رأس الإنسان متخلخلة، واسعة المفاصل قليلة اللحم الذي فوقها ليكون ذلك أعون على تحلل تلك الأبخرة.
فلذلك فإن من رأسه كثير اللحم فإن فكره ضعيف فاسد ومن كان رأسه قليل اللحم فهو أصح ذهناً، وبسبب أن رأس الإنسان في أعلى بدنه والأبخرة متصعدة إليه كثيراً صارت النزلات وغيرها من الأمراض الدماغية تكثر في الإنسان فلذلك يكثر بالإنسان السعال والزكام والبحوحة. وكذلك يكثر ازدياده وتكثر الرطوبات في عينيه، ولا كذلك غير الإنسان.
وثالثها: أن الإنسان يمشي منتصب القامة وذلك مما يحتاج فيه إلى قوة من الأعصاب والعضلات المحركة له الحركة التي يلزمها ذلك، ولذلك يحتاج الإنسان إلى أعصاب قوية وكثيرة وإنما يمكن ذلك إذا كان دماغه كبيراً ونخاعه كبيراً قوياً. وإنما يمكن ذلك إذا كان رأسه عظيماً وكانت عظامه صلبة عظيمة وجميع الحواس، وكذلك جميع أجزاء الرأس فإنها لا يحتاج فيها أن تكون مرتفعة، وفي أعلى البدن إلا العينين فإنها إنما تكون منفعتها كثيرة تامة إذا كانت مرتفعة جداً، وسبب ذلك لأن الارتفاع يزيدها قوة إدراك أو هو زيادة إدراك لما هو بحذائها، فإن الإبصار إنما يتم بالمحاذاة. أي بأن يحاذي الرائي للمرئي أو يحاذي صقيلاً يحاذي المرئي كما في رؤية الشيء في المرآة.

وهذا يتم سواء كانت العين مرتفعة أو منخفضة ولكن العين المرتفعة ترى أكثر مما إذا كانت غير مرتفعة. وسبب ذلك ليس زيادة قوتها أو زيادة إدراكها بل إن تشكل الأرض كرة، فالبعيد جداً ما هو على ظاهر الأرض ينستر عن الرؤية بحدبة الأرض، وبيان هذا ليكن الأرض كرة ب ح د والمرئي د والرائي البعيد ب والقريب ج ق لا يراها البعيد لأجل انستاترها عنه بحدبة الأرض ولا كذلك ج القريب ونحن إن شاء الله تعالى نحقق الكلام في هذا إذا نحن تكلمنا في كيفية الرؤية بالعين، وذلك عند كلامنا في أمراض العين.
ولتعلم الآن أن العين تحتاج أن تكون في أعلى موضع من البدن ويحتاج ذلك أن تكون قريبة جداً من الدماغ ليكون العصب الآتي إليها منه قريباً من طبيعة الدماغ، فلا تكون شديدة اليبوسة.
وذلك لما تعلمه حيث نتكلم في كيفية الرؤية وإنما يمكن ذلك إن كان الدماغ موضوعاً في أعلى البدن، وإنما يمكن ذلك إذا كان العضو الحاوي له كذلك. فلذلك يجب أن يكون الرأس في أعلى البدن فلذلك المحوج إلى خلقة الرأس أعني العضو العالي المحاذي للدماغ إنما هو العينان.
قوله: فإن قياس العين إلى البدن قريب من قياس الطليعة إلى العسكر لاشك أن جميع الحواس مشتركة في أنها تحرس البدن من الآفات فإن الشم يحرس من التضرر بالرائحة الرديئة القتالة، وذلك بأن تحد تلك الرائحة من آلة الشم لما يحوج ذلك إلى التنحي عنها. وكذلك هذه الحاسة تجلب للبدن النافع من الرائحة لأن آلة الشم تلتذ بتلك الرائحة فيدعو ذلك إلى الاستكثار منها وكذلك حاسة الذوق تحرس البدن من تناول الأشياء الضارة والقتالة بتألم تلك الحاسة بها عند نفوذ الأجزاء المنفصلة عنها النافذة مع الريق إلى باطن اللسان، وكذلك هذه الحاسة تجلب الأشياء النافعة للبدن، وذلك بأن تلتذ الحاسة بطعومها فتحرض النفس على الاستكثار منها وكذلك حاسة السمع تحرس البدن عند الضرر بملاقاة الأصوات الضارة بأن تتألم بها هذه الحاسة وتجلب إلى البدن النفع بالأصوات النافعة، بأن تلتذ هذه الحاسة فتحرض النفس على استماعها والاستكثار منها.
وكذلك حاسة اللمس تدفع عن البدن ضرر ما تضر ملاقاة البدن وذلك بتألم الحاسة بقوة بردها مثلاً أو بقوة حرها أو لشدة خشونتها أو صلابتها ونحو ذلك وتجلب إلى البدن النفع بالأشياء التي تنفع ملاقاتها البدن، وذلك بالتذاذ هذه الحاسة بها وترغب النفس في ملاقاتها، والاستكثار من ذلك ولكن جميع هذه الحواس إنما تتمكن من الشعور بمحسوساتها بعد ملاقاتها لها ومن الأشياء الضارة ما إذا بلغ القرب منه إلى حد الملاقاة فإن القرب منه حينئذٍ قد يكون غير ممكن.
وأما حاسة البصر فإنها تدرك الأشياء المحاذية لها أو لصقيل يحاذيها وإن بعدت جداً سواء كانت تلك الأشياء ضارة أو نافعة، فلذلك هي أولى بالحراسة من غيرها من الحواس إنما يلزم في العين أن تكون قريبة جداً من الدماغ لتكون الروح فيها كما هي في الدماغ حتى يكون الشبح الواقع فيها وهي في العين باقياً على حاله ومقداره إذا حصلت تلك الروح في الدماغ فلا يتغير في شيء من ذلك لأجل تغير حال الروح بسبب التجمع التابع لليبوسة والانبساط والتابع لكثرة الرطوبة ونحو ذلك.
ورأس الإنسان وما يجري مجراه اشتمل على جملته بسائطها القحف، وما يحيط به وتغشيه وما في داخله من المخ والحجب والجرم الشبكي والعروق والشرايين، والذي يحيط بالقحف السمحاق ولحم وجلد ينبت فيه شعر الرأس وطول شعر الرأس من خواص الإنسان وسبب ذلك كثرة ما يتصعد إليه من الأبخرة الدخانية وإذا كبر الإنسان قل شعر رأسه لأجل نقصان الدخانية حينئذٍ لأن أرضية البدن لها يعرض حينئذٍ أن تجف فيعسر تصعدها فإن الرطوبة تعين على تصعد الأرضية المتسخنة والقحف من عظام كثيرة لما نذكره بعد، ولما ذكرناه في تشريحنا لعظام الرأس.
وقد صادف الفاضل أرسطوطاليس في تشريحه رأساً لإنسان ليس لعظامه مفاصل وإنما رأسه من عظم واحد.
فلنأخذ الآن في تشريح الدماغ وكلامنا فيه يشتمل على مباحث تسعة. والله ولي التوفيق.

البحث الأول
كلام كلّي في تشريح الدماغ
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما تشريح دماغ الإنسان فإن الدماغ ينقسم إلى جوهر حجابي وإلى جوهر مخي... إلى قوله: وحده أظهر للحس.
الشرح

لفظ الدماغ يقال على معان: أحدها: الرأس بجملته فيكون مرادفاً له إلا أن لفظ الرأس يستعمل في التعظيم والمدح.
والدماغ يستعمل في أضداد ذلك فيستعمل في التحقير والذم. ولذلك يقال للعظيم: وحق رأسك ولا يقال: وحق دماغك.
وثانيها: ما دون القحف. فتدخل فيه الحجب والشبكة ونحو ذلك مما في داخل القحف. وثالثها: نفس المخ، وهذا هو المعنى المشهور.
قوله: الدماغ ينقسم إلى جوهر حجابي يريد بالدماغ ها هنا مادون القحف إذ لو أراد الرأس نفسه لدخل فيه الجلد والسمحاق والقحف.
ولو أراد المخ، لم يدخل فيه الحجب، ويريد ها هنا بانقسام الدماغ إلى الأشياء المذكور لا قسمة العام والخاص. وإلا كان لفظ الدماغ يصدق على كل واحد من هذه الأشياء فيقال للحجاب دماغ، وكذلك التجويف وليس كذلك بل يريد بهذا الانقسام انقسام الجزء إلى أجزائه وذلك لأن ما دون القحف منه ما هو عضو كالحجب، ومنه ما هو رطوبة كالمخ ومنه ما هو بعد كفضاء البطون.
وقيل المراد بالبطون التجاويف التي هي الأفضية التي في داخل القحف والتي في داخل الأم الجافية، أو التي في داخل المخ.
الظاهر من كلامه، ومن كلام غيره أنهم يريدون الأفضية التي يعتقدون أنها في داخل المخ، وذلك لأنهم يزعمون أن في داخل المخ تجاويف ثلاثة وأنها مملوءة من الأرواح النفسانية وأن تلك الأرواح هي التي تقوم بها القوى التي بها الحس، وهي التي يسمونها الحس المشترك.
والقوى التي يسمونها الخيال. والقوى التي يسمونها الوهم، والتي يسمونها تارة مفكرة وتارة متخيلة والقوى التي يسمونها حافظة وذاكرة: وأنا إلى الآن لم يتحقق لي شيء من ذلك على الوجه الذي أرتضيه وقولهم إنهم شرحوا وأبصروا الأمر على ما ذكروه مما لا يوقع عندي ظناً فضلاً عن جزم.
فكثيراً ما رأيت الأمر على خلاف ما ادعوا أنهم صادفوه بالتشريح الذي يدعون أنه تكرر لهم كثيراً.
قوله: وجميع الدماغ منصفاً في طوله تنصيفاً نافذاً في حجبه ومخه، وفي بطونه أما بنصف القحف في أعلاه فظاهر. وذلك لأنه في باطنه نتوء ذاهب في طوله تحت الدرز السهمي ولهذا النتوء فائدة غير التنصيف ويبقى أن يكون العظم عند اتصاله بالدرز السهمي غليظاً فيكون بذلك متداركاً لما يوجبه الانفصال من وهن الجرم.
وأما الحجاب الغليظ وهو الأم الجافية فلا يظهر فيها تنصيف البتة إلا بالشعب الذي ينفذ منها في الدرز السهمي، وينبث في السمحاق ليرتبط هذه الأم بسبب تلك الأجزاء بالقحف ارتباطاً محكماً فلا يقع على المخ بل تكون معلقة بينه وبين عظام القحف وأما المخ نفسه فإنه ينقسم في طوله بما ينفذ فيه في طوله من الأم الرقيقة.
وبذلك المنافذ يحدث أيضاً لهذه الأم تنصيف وفائدة هذا التنصيف أن يكون أحد النصفين قائماً بما يحتاج إليه إذا حدث للنصف الآخر آفة وليكون ما يعرض من الآفات لشيء من هذه الأجزاء أعني العظام والحجب والمخ لا يكثر عموم ذلك لباقي جوهرها لآفة عارضة له.
قوله: وإن كانت الزوجية في البطن المقدم وحده أظهر للحس.
أما ظهور ذلك في عظام القحف فلأجل زيادة غلظ النتوء الذي به تنصيف العظم في مقدم الدماغ وذلك لأجل اتساع ذلك الموضع، وكذلك زيادة ظهور ذلك في المخ، فإنه لأجل زيادة غلظ النازل منه في مقدمه لأجل كبر ذلك الموضع يظهر ذلك التنصيف أكثر. والله ولي التوفيق.

البحث الثاني
مزاج الدماغ وقوامه
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وقد خلق جوهر الدماغ بارداً... إلى قوله: والجزء المؤخر أصلب.
الشرح إن الكلام في مزاج الدماغ قد وقع ها هنا بالعرض لأن من جملة ما ينبغي الكلام فيه من التشريح هو قوام الأعضاء فالسبب المحدث لقوام الدماغ هو مزاجه. فإن الدماغ يحتاج أن يكون كثير الرطوبة جداً. بل الأولى أن يعد في جملة الرطوبات لا في الأعضاء وزيادة الرطوبة يلزمها لين القوام لأن كثرة الرطوبة إنما تكون لزيادة المائية والمائية إذا لم تكن جامدة كانت سهلة القبول للتشكل والانفعال وذلك مما يحتاج إليه في القوام اللين بل لا يتم لين القوام إلا به.
ومراده ها هنا بالدماغ إنما هو المخ لا غير، لأن ما سواه مما يدخل في لفظ الدماغ بالمعاني الأخر، فإنه وإن كان بارداً فليس برطب.

قوله: وأما برده قليلاً يشغله كثرة ما يتأدى إليه من قوى حركات الأعضاء وانفعالات الحواس، وحركات الروح كل عضو خلق لفعل فإن مزاجه يجب أن يكون مما يعين على ذلك الفعل على ذلك الفعل مثال ذلك القلب فإنه لما كان فعله توليد الروح الحيواني وذلك إنما يمكن بأن يكون في الحرارة بحيث يبخر الدم الواصل إليه من الكبد حتى يصعد ذلك الدم إلى الرئة، ويخالط ما فيها من الهواء المثبوت في جرمها فيحصل من المجموع مادة تصلح لأن يتكون منها الروح إذا حصلت تلك المادة في التجويف الأيسر من تجويفي القلب لذلك احتيج أن يكون مزاج القلب شديد الحرارة، وكذلك العظم لما احتيج إليه ليكون للبدن كالأساس والدعامة والدماغ وجب أن يكون شديد الصلابة، وإنما يمكن ذلك إذا كانت الأرضية فيه كثيرة جداً ويلزم ذلك أن يكون مزاجه بارداً يابساً هذا إذا كان الفعل لذلك العضو.
أما إذا كان لغيره وتأثير ذلك الفعل يصل إلى عضو آخر كان ذلك العضو ليس يجب فيه أن يكون على مزاج يعين على ذلك الفعل بل قد يجب أن يكون على مزاج ينافيه فعل الدماغ، فإنه لما كان يتسخن بأفعال أعضاء وأرواح وكان إفراط ذلك التسخن يلزمه الإضرار به جداً، وجب أن يكون مزاجه مزاجاً ينافي الإفراط في ذلك التسخين. وإنما يكون ذلك بأن يكون مزاجه بارداً فإن البارد غير مستعد للتسخن الكثير، وإن كان فعله قوياً، ولذلك وجب أن يكونه مزاج الدماغ بارداً، وكذلك نقول في الرطوبة. وإنما يمكن ذلك إذا كان ذلك العضو لا يتضرر في أفعاله بذلك المزاج مثل الدماغ فإن فعله تعديل الروح الحيواني حتى يصير صالحاً لصدور الأفعال النفسانية عنه فإنما يتم ذلك بأن يكون مزاجه بارداً رطباً فإن الروح الحيوانية ذات حرارة، وقلة رطوبة ولا كذلك القلب فإنه وإن كان يتسخن بكثرة حركاته، وحركات الشرايين المتصلة به ونحو ذلك فإن مزاجه لا يمكن أن يجعل بارداً، وإلا كان ذلك مضراً له في فعله الذي هو توليد الروح، فلذلك خلق حار المزاج، وجعل له ما يمنع إفراط تسخنه، وذلك بأن يجعل الهواء يصل المبرد إليه في أزمان متقاربة جداً ليمنع إفراط تسخينه.
قوله: ليحسن تشكله واستحالته بالمتخيلات هذا إنما يجب أن تكون معه الرطوبة إذا كان التشكل واقعاً في العضو نفسه. أما إذا كان في الروح المحوية فيه، فإن ذلك مما لا يلزم البتة والتشكل الواقع عند التخيل والإدراك ونحوهما إنما هو في الروح لا في جرم الدماغ، فلذلك لا يلزم بسبب ذلك أن يكون رطباً.
قوله: أما الدسومة فليكون ما ينبت منه من العصب علكاً.
قد بينا فيما سلف من كلامنا في الأمور الطبيعية أن العصب لا ينبت من الدماغ البتة، والعلك هو اللدن الذي مع لدونته لين.
قوله: وليكون الروح الذي يحويه الذي يفتقر إلى سرعة الحركة ممداً برطوبته الروح الذي يحويه الدماغ يحتاج إلى سرعة الحركة، وأما الروح المتحرك بالإرادة فليكون للإنسان متى أراد تحريك عضو تحرك ذلك الروح من الدماغ إلى العضل المحرك لذلك العضو في زمان لا تحس قدره.
وأما الروح المفكر، فليكون للإنسان متى أراد الفكر في أمر تحرك ذلك الروح إلى التفتيش في المخزون في الخيال وفي الحافظة ليقع بسرعة على الأمر الذي يتوصل به إلى المطلوب وسرعة حركة الروح يحتاج فيه إلى رقة قوام ذلك الروح، وقلة برودته. فإن غلظ القوام مانع من سرعة النفوذ، وكذلك زيادة البرد، فإن البرودة منحدرة مانعة من سرعة الحركة والحرارة معينة على ذلك، وإنما يكون الروح لطيف القوام إذا كان الغالب عليه الجوهر الهوائي. وذلك إنما يوجب الرطوبة التي هي بمعنى سرعة الانفعال لا الرطوبة البالة المائية، ورطوبة الدماغ إنما تكون بكثرة مائيته، فلذلك يكون ترطيبها للروح إنما يكون بمعنى الرطوبة البالية، وذلك مانع من سرعة الحركة فلذلك قوله إن رطوبة الدماغ مما يعين على سرعة حركة الروح مما لا يصح بوجه.

قوله: وأيضاً ليخف بتخلخله أما أن الأعضاء الصلبة أثقل من اللينة فظاهر لأن هذه الصلابة إنما تكون لزيادة في الأرضية وهي يلزمها زيادة الثقل وإنما قلنا أن زيادة صلابة الأعضاء إنما يكون لزيادة الأرضية مع أن الصلابة قد تفعلها قوة الانعقاد، وذلك لأن الحرارة العاقدة للأعضاء كلها واحدة وهي الحرارة الغريزية. وإذا كان الفاعل واحداً فإنما يزيد صلابة بعض الأعضاء على بعض إذا كان الاستعداد للصلابة فيها مختلفاً، وإنما يكون ذلك بسبب الأرضية فلذلك زيادة صلابة الأعضاء إنما تكون لزيادة الأرضية، ويلزم ذلك أن يكون الثقل زائداً، وأما أن الرطوبة يلزمها التخلخل فذلك إنما يكون إذا أريد بهذا التخلخل السخافة، فإن رطوبة العضو يلزمها سخافة جرمه، ولذلك كان لحم الإناث أسخف.
قوله: وذلك لأن الجزء المقدم منه ألين، والجزء المؤخر أصلب. جميع الأعضاء التي في مقدم البدن ألين من التي في مؤخره، وذلك لأن الأعضاء التي في مؤخر البدن غائبة عن حراسة الحواس فيحتاج أن يكون قبولها للانفعال عن المصادمات ونحوها أقل وغنما يمكن ذلك إذا كان قوامها أصلب والله ولي التوفيق.

البحث الثالث
الأجزاء التي ينقسم إليها الدماغ
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وفرق ما بين الجزأين باندراج الحجاب الصلب... إلى قوله: فجعل الطي دعامة لها.
الشرح الدماغ يعرض له الانقسام بأمرين وكلاهما بأن يكون ما ينقسم إليه الأجزاء لكن الأشياء التي ينقسم إليها بأحد الأمرين، يخص باسم الأجزاء، والأشياء التي ينقسم غليها بالأمر الآخر يخص باسم البطون، والأشياء التي يخص باسم الأجزاء ليس بعضها بأن يكون أعظم من الآخر أولى من العكس. فلذلك يجب في هذه الأجزاء أن تكون متساوية أعني إنها تكون متساوية في القطر الذي انقسمت فيه فلذلك انقسم الدماغ إلى جزأين: أحدهما يميناً، والآخر شمالاً هما لا محالة متساويان في جميع الأقطار وذلك لأن هذه القسمة إنما كانت ليقوم أحد الجزأين بالأفعال الواجبة في الحياة عند فساد الجزء الآخر وإنما يكون ذلك إذا كان أحد الجزأين مساوياً للآخر في جميع الأقطار حتى يكون أحدهما مثل الآخر حتى تكون جميع أفعاله مثل جميع أفعال الآخر.
وأما انقسام الدماغ إلى جزأين: أحدهما مقدم، والآخر مؤخر، فيجب أن يكون هذان الجزآن متساويين في الطول إذ ليس أحدهما بأن يكون أطول من الآخر أولى من العكس، وأما في العرض والسمك فيجب أن يكونا مختلفين جداً، لأن مقدم الدماغ أكثر عرضاً وسمكاً من مؤخره، فلذلك يكون الجزء المؤخر من هذين أدق من الجزء المقدم.
وأما الأشياء التي يخص البطون مما ينقسم الدماغ إليه فإنها يجب فيها أن تكون مقاديرها مختلفة بحسب الأغراض المقصودة منها. فالبطن المقدم لما كان محلاً للصور المحسوسة بالحواس الظاهرة والمحسوسة بالبصر منها هي لا محالة مثل المحسوسات الخارجية، وتلك المثل إنما يتصور فيما له مساحة فلذلك يجب أن يكون هذا البطن عظيماً جداً حتى يمكن أن يتسع لمثل كثرة الأمور الخارجة. وأما البطن المؤخر فإنه لما كان محلاً لمعاني الصور المحسوسة وتلك المعاني هي لا محالة مما لا مساحة لها، فلذلك لا يضر فيها صغر المكان، ولا يحتاج الكثير منها إلى محل كبير، فلذلك جعل البطن المؤخر من بطون الدماغ صغيراً جداً بالقياس إلى البطن المقدم بل هو أصغر كثيراً من كل واحد من جزأيه اللذين أحدهما في اليمين والآخر في الشمال، فأما البطن الوسط فإنه لما كان كالدهليز الذي يحتاج إليه القوة التي في مؤخر الدماغ لأن يشرف منه على جميع ما في البطن المقدم من الصور على ما تعرفه بعد، وجب أن يكون في مقداره على المقدار الذي لا بد منه في ذلك.

فلذلك هو صغير جداً بالنسبة إلى البطن المقدم بل هو أيضاً صغير بالنسبة إلى البطن المؤخر لأنه مؤد إليه، فالمؤدي لا محالة أصغر من الذي يؤدي هو إليه فلذلك يكون البطن المقدم أعظم كثيراً من مجموع البطنين الآخرين، فلذلك الغشاء القاسم للدماغ بنصفين، وهو الآخذ عن يمين الدماغ إلى يساره يجب لا محالة أن يقع في بعض البطن المقدم، فلذلك هذا الغشاء لا يجوز أن يمر في أعلى الدماغ إلى أسفله على الاستواء، وإلا كان يفصل مؤخر البطن المقدم عن مقدمه وكانت الروح التي في مقدم البطن المقدم لا يتمكن من النفوذ إلى مؤخره، فلذلك هذا الغشاء إذا قطع سقف البطن المقدم انحرف من التسفل إلى تغشية باطن هذا البطن، فتكون فائدة غوص هذا الغشاء في جرم الدماغ، هو التمكن من تغشية باطنه، وإنما اختص غوصه بمنتصف أعلى الدماغ لأنه لا موضع أولى بذلك من آخر فيجب أن يكون هذا الغوص في الوسط ليكون قسمته على باطن الدماغ على السواء فتكون هذه القسمة عادلة.
قوله: وإنما أدرج الحجاب فيه ليكون فصلاً أي ليفصل الجزء المقدم من الدماغ من الجزء المؤخر.
وهذا الكلام إنما يصح إذا كان انفصال الجزء المقدم من الجزء المؤخر له فائدة. وذلك مما لا يظهر ولو كان له فائدة لكانت تلك الفائدة هي فائدة إدراج الحجاب هناك من غير حاجة إلى توسط كونه فصلاً.
قوله: وقيل ليكون اللين مبرأ عن مماسة الصلب.
هذا الكلام في غاية الفساد.
وذلك لأن اللين غنما يجب أن يكون بينه وبين الصلب متوسطاً إذا كان هناك أمران: أحدهما أن يكون ما يلاقي اللين من الصلب بضربه. وأما إذا كان هذا الانتقال بالتدريج. فإن ذلك لا يجب لأن ما يلاقي أحد الجزأين حينئذٍ لا يكون بينه وبين ما يلاقيه تفاوت كثير في اللين والصلابة، فلا يمكن لملاقاته له مؤذية، ولو وجب هذا التوسط مع الانتقال لو جب أن يكون هذا المتوسط بين كل جزء من اللين وبين الجزء الذي يليه فكان يجب أن يكون غوص هذا الغشاء في مواضع كثيرة جداً، وليس كذلك.
وثانيهما: إن توسط شيء بين لين وصلب إنما يجب إذا كان ذلك المتوسط متوسطاً بينهما في الصلابة واللين إذ لو كان مساوياً للصلب في الصلابة لكانت ملاقاة اللين له كملاقاته للصلب المجاور له فكيف إذا كان هذا المتوسط أزيد صلابة من الصلب الملاقي؟.
فإن تضرر اللين حينئذٍ يكون بملاقاة ذلك المتوسط أكثر.
قوله: ونحن نعلم بالضرورة أن جرم الغشاء، ولو بلغ في اللين إلى أي غاية بلغ إليها، فإنه لا يبلغ إلى أن يكون في قوام النخاع فضلاً عن مؤخر الدماغ فضلاً عن توسطه.
قوله: ولهذا الطي منافع أخر أيضاً لحفظ الأوردة النازلة هذا الكلام أيضاً لا يستقيم، وذلك لأن الأوردة النازلة إلى داخل القحف هي شعب من الوداج الغائر، وهذه الشعب تأتي الغشاء المجلل للقحف، وهو السمحاق ويغوص إلى داخل القحف في الدرز السهمي متفرقة في طوله، وهذا الدرز إنما يوازيه من أغشية الدماغ الغشاء المنصف للدماغ بنصفين يمنة ويسرة. وهذا الغشاء يصلح لحفظ أو ضاع تلك الشعب فتكون هذه المنفعة من منافع هذا الغشاء لا من منافع الغشاء الذي يغوص في جرم الدماغ في منتصف ما بين مقدمه ومؤخره، فإن هذا الغشاء مقاطع للدرز السهمي لا على محاذاته وإذا كان كذلك لم يمكن أن يكون حافظاً لأوضاع ما ينزل فيه من تلك الشعب. والله ولي التوفيق.

البحث الرابع
هيئة الموضع الذي تحت الدماغ
المسمى بالبركة والمعصرة
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه من قوله: وتحت آخر هذا العطف وإلى خلفه المعصرة... إلى قوله: ولم يلحقها صلابة العصر.
الشرح الموضع المسمى بالبركة يحدث من تسفل وسط الغشاء الصفيق الذي تحت الدماغ. وهو الأم الجافية فإن وسط هذا الغشاء أعني وسط ما تحت الدماغ منه يتسفل فيحدث من تسفله تجويف، أعني وهدة.

وهذه الوهدة مستديرة المحيط متدرجة في التسفل، ولذلك أكثر تسفلها في وسطها، فلذلك تسمى البركة لأنها على هيئة البركة التي تسمى في العرف العام: طشتية. وإلى هذه البركة تتوجه أطراف كثيرة من الأوردة النافذة في جرم الدماغ فيخرج الدم من فوهاتها إلى هذه البركة، ولذلك تسمى أيضاً المعصرة. لأن العروق كأنها تنعصر إليها حتى يخرج منها الدم إليها وهذه المعصرة موضوعة تحت آخر هذا الطي، أعني الغشاء الذي بينا أنه ينفذ في وسط جرم الدماغ ما بين مقدمه ومؤخره، وإنما كانت المعصرة مع أنها تحت آخر هذا الغشاء فإنها موضوعة إلى خلفه أي أنها تميل إلى خلفه قليلاً فتكون منحرفة عن وسط الدماغ في طوله إلى خلفه بقدر يسير، وسبب هذا الانحراف أن تكون قريبة من الأوردة النافذة في الدماغ فإن أكثرها إنما ينفذ إلى داخل الدماغ من خلفه وذلك من ثقب موضوع في أعلى الدرز اللامي على ما بيناه في تشريح الأوردة والغرض بذلك أن يصل الدم إليها بسرعة قبل نفوذ تلك العروق إلى قرب مقدم الدماغ فيسخنه بأكثر ما ينبغي، لأن الدم في أو ل نفوذ هذه العروق إلى الدماغ يكون بعد حاراً بما هو دم وبما يخالطه من الصفراء الكثيرة التي لابد من مخالطتها له، وإلا لم يسهل تصعده إلى الدماغ. فلذلك جعلت هذه المعصرة أميل عن وسط طول الدماغ لتغذية الدماغ ثم إلى مؤخره ليصل إليها الدم بسرعة فيتعدل فيها حتى يصلح بعد ذلك ينفذ فيها إلى جميع أجزائه، وإنما احتمل مؤخر الدماغ نفوذ الدم الحار فيه من غير أن يتضرر بذلك لأن هذا المؤخر أشد برداً من المقدم. فلذلك الدم الحار يرده إلى قرب الاعتدال قليلاً وهذا من جملة الأسباب التي أو جبت نفوذ أكثر الأوردة والشرايين إلى الدماغ من جهة مؤخره.
قوله: وهذا الطي ينتفع به في أن يكون منبتاً لرباطات الحجاب الصفيق بالدماغ في موازاته الدرز من القحف الذي يليه وفي بعض النسخ الحجاب اللصيق بالدماغ، ومعنى هذه النسخة أن من جملة منافع هذا الطي أعني القاسم للدماغ إلى جزء مقدم وآخر مؤخر أنه ينبت منه أجزاء يرتبط به الغشاء اللصيق بالدماغ، أعني الأم الرقيقة بالدرز من القحف، وهذا الدرز الذي يلي هذا الطي أي الذي يحاذيه.
وهذه النسخة لا تصح.
فإنه لا درز في القحف يحاذي هذا الطي هو في وسط ما بين مقدم الدماغ ومؤخره، وليس في وسط القحف درز من يمين الرأس إلى يساره حتى يكون محاذياً لهذا الطي، وكذلك النسخة التي كتبناها أو لاً لا تصح أيضاً لما قلناه، ولأن الأجزاء التي تصل بين الحجاب الصفيق والدرز السهمي الممتد بطول القحف إنما تتصل من ذلك الحجاب الصفيق لا من هذا الطي فإن تلك الأجزاء بعد نفوذها في ذلك الدرز تنبت في السمحاق لتعلق بها الأم الجافية فلا يقع على الدماغ.
وأما الأم الرقيقة فلا حاجة بها إلى انفصال أجزاء منها إلى القحف فإن ذلك تلزمه كثرة الثقوب في الأم الجافية من غير حاجة الأم الرقيقة لا تحتاج إلى أن يتعلق بشيء حتى تستقل عن الدماغ فإنها إنما تتم منفعتها إذا كانت ملاقية للدماغ حتى يصل إليه الغذاء منها.
قوله: وفي مقدم الدماغ منبت الزائدتين الحلميتين اللتين يكون بهما يكون الشم، في وسط مقدم الدماغ من قدام زائدتان شبيهتان بحلمتي الثدي وهما الآلة في الشم على ما نبينه بعد، وجرمها متوسط في الصلابة واللين بين الدماغ والعصب فهما ألين من العصب وأصلب من الدماغ، فلذلك قوامهما قريب من قوام النخاع وأميل منه إلى الصلابة قليلاً وإنما جعلتا في مقدم الدماغ لتكون رطوبته غذاء لهما بالنداوة فلا يعرض لهما جفاف يصلهما وإنما جعلا في وسط ما بين يمين هذا المقدم ويساره ولأن هذا الموضع أرطب أجزاء المقدم، وإنما احتيج أن تكون آلة الشم شديدة اللين لأن محسوسها هو الكيفية التي تجذب في الهواء المستنشق وجميع ذلك الأجل ضعفه إنما ينفعل عنه ما كان شديد القبول جداً، وإنما يكون كذلك إذا كان شديد اللين جداً حتى ينفعل عن المؤثرات وإن ضعفت جداً. والله ولي التوفيق.

البحث الخامس
تشريح الغشاءين المحيطين بالدماغ
وهما الأمّان الغليظة والرقيقة
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وقد جلل الدماغ كله بغشائين... إلى قوله: ارتباط الغشاء الثخين بالقحف أيضاً.
الشرح

إن الدماغ بطبعه شديد اللين، والجرم الذي يحيط به عظم والعظم شديد الصلابة، وفي بعض الأحوال مثل الطرح الشديد، ويتورم جرم الدماغ ونحو ذلك يحتاج أن يلاقي الدماغ العظم المحيط به إذ لم يكن بينهما حائل يمنع من هذه الملاقاة. وملاقاة الشديد اللين للجرم الشديد الصلابة، لا شك أنها مؤلمة مضرة باللين، فلا بد وأن يكون بينهما حائل يمنع من هذه الملاقاة. وذلك الحائل يجب أن لا يكون شديد الصلابة، وإلا كان الدماغ يتضرر جداً. بملاقاته ويجب أيضاً أن يكون شديد اللين بملاقاة العظم فإنه شديد الصلابة فلا بد من أن يكون في صلابته متوسطاً ولكن المتوسط بين شدة لين الدماغ وشدة صلابة العظم بالنسبة إلى الدماغ صلب لأن التفاوت بين لين الدماغ وصلابة العظم كبير جداً، فلذلك لا بد من أن يكون ما يلاقي الدماغ من هذا المتوسط مائلاً إلى اللين حتى يكو مائلاً للدماغ فلا يتضرر به الدماغ ولا بد من أن يكون ما يلاقي العظم أو يتوقع ملاقاته في بعض الأحوال مائلاً إلى الصلابة حتى لا يتضرر بملاقاة القحف. فلذلك لا بد من أن يكون ما يلي الدماغ مخالفاً جداً في قوامه لما يلي العظم، وإذا كان كذلك لم يكن أن يكون ذلك المتوسط جرماً واحداً لأن الجرم الواحد إنما يختلف سطحاه المتقابلان اختلافاً كبيراً في الصلابة واللين إذا كان لذلك الجرم سمك كثير. ذلك يلزمه أن يملأ مسافة كبيرة من فضاء داخل القحف فلذلك لا بد من أن يكون هذا التوسط جرمين رقيقين ليكونا غير مائلين لقدر كثير من ذلك الفضاء، فلذلك لا بد أن يكون غشاءين، ويكون ما يلي الدماغ منهما ليناً جداً، وما يلي القحف إلى صلابة يعتد بها، ويجب أن يكون ما يلي الدماغ رقيقاً جداً لأن ذلك يكفي في حدوث صلابة ما لظاهر الدماغ بها يمكن ملاقاته الأم الجافية من غير إيلام الدماغ، وأما ما يلي القحف فيجب أن يكون غليظاً إذ لو كان رقيقاً جداً لتهيأ للتمزق بما يحدث هناك من الرياح أو الأبخرة ونحوهما لأن هذا الغشاء ليس يعتمد على عضو يقوي به كما يعتمد الغشاء الرقيق على الدماغ لأنه يلاقيه. ولما كان الدماغ يحتاج أن يتصل به عروق كثيرة جداً ضاربة، وغير ضاربة. وذلك لأنه يحتاج إلى ذلك لأجل نفسه للاغتذاء واستفادة الحياة، ويحتاج إلى ذلك لأجل توليد الروح النفساني فلذلك احتيج أن يكون ما يصل إليه من العروق بكثرة.
وهذه العروق لو لم تكن مخالطة لجرم إلى الصلابة لكانت أو ضاعها تختل بسبب تحريك ما يحدث حول الدماغ من الرياح والأبخرة، فلذلك لابد من أن يكون تلك العروق مداخلة لجرم إلى الصلابة لحفظ أو ضاع بعضها من بعض ويجب أن يكون الجرم ملاقياً للدماغ حتى تكون تلك العروق ملاقية للدماغ لتحيل ما فيها إلى الدم والروح إلى مشابهة طبيعته فيقرب بذلك من اعتدال حتى يكون الدم إلى الدماغ ضاربها وغير ضاربها مخالطة لجرم الغشاء الرقيق الملاقي للدماغ فلذلك سمي هذا الغشاء المشيمي لأجل مشابهته للمشيمة التي للجنين في حفظها لأوضاع ما يأتيه من العروق، فلذلك هذا الغشاء المجلل للدماغ الملاقي له يحتاج أن تكون فيه عروق كثيرة جداً.
وأما الغشاء الآخر الغليظ فإنه إنما يخالطه من العروق ما يوصل إليه غذاه، فإن كان قد تنفذ فيه عروق أخرى تخدمه إلى المجرى فلذلك كان هذا الغشاء قليل العروق بخلاف الغشاء الرقيق مع أن الغليظ أحوج إلى كثرة الغذاء من الرقيق.
قوله: ولذلك ما يداخل أيضاً جوهر الدماغ معناه ولما كان الغشاء الرقيق كالمشيمة في حفظ أو ضاع العروق التي منها يغتذي الدماغ وجب أن يكون لهذا الغشاء مداخلة كبيرة لجوهر الدماغ ليوصل إليه الغذاء من تلك العروق.
قوله: وينتهي عند المؤخر منقطعاً الغشاء الرقيق يدخل إلى داخل الدماغ وذلك من الطي الذي ذكرناه، وإذا خرق ذلك الطي جرم الدماغ إلى بطونه غشاء تلك البطون من داخل إلا البطن المؤخر فإنه لصلابته استغنى عن هذه التغشية. وذلك لأن من فوائد هذه التغشية حفظ أو ضاع أجزاء الدماغ، وذلك لأجل إفراط لينه وقبوله للإنعواج والانثناء ونحو ذلك بسبب إفراط ما يحدث في الدماغ من الرياح والأبخرة ونحوها، والبطن المؤخر لأجل قلة لينه يستغني عن ذلك، فلذلك باطنه يخلو من هذا الغشاء. والله ولي التوفيق.

البحث السادس
تعديل بطون الدماغ
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه

وللدماغ في طوله ثلاثة بطون... إلى قوله: للمؤخر عن المقدم موجود في الزرد.
الشرح لما كان الدماغ مبدأ للروح النفساني، وإنما يكون ذلك بإحالة المادة التي تتحقق منها إلى المزاج الذي به يتحقق ذلك، وذلك إنما يتم في زمان يعتد به، وجب أن تكون للروح الذي فيه يتكون من الروح النفساني مكاناً يبقى فيه زماناً في مثله يصير ذلك الروح نفسانياً وذلك المكان هو البطون ويجب أن تكون هذه البطون كثيرة لأن الروح الذي يتكون منه هذا الروح النفساني كما بيناه في موضعه هو الروح الذي يأتي من القلب فلا بد من مكان يتعدل فيه هذا الروح حتى يستعد لأن يصير نفسانياً، وإذا استعد لذلك وجب أن ينفذ إلى مكان آخر فيكمل فيه استحالته إلى الروح النفساني وإنما لا يبقى في مكانه إلى تمام هذه الاستحالة لأن ذلك المكان يحتاج أو لاً أن يخلو حتى يصير فيه روحاً آخر يستعد ذلك الاستعداد ثم يتحرك إلى حيث تكمل استحالته ليبقى عمل الدماغ في الروح الآتي من القلب مستمراً ومع ذلك لا يخلو عن روح نفساني ولو كملت استحالة هذا الروح في المكان الأول لكان إنما يمكن أن يصل إلى ذلك المكان روح آخر بعد خلوه، وإنما كان يخلو إذا توزع ذلك الروح النفساني على الأعضاء وحينئذٍ كان الدماغ يخلو عن روح نفساني إلى أن يكمل استحالته ذلك الوارد فلذلك احتيج أن تكون للروح النفساني مكان يسستعد فيه لذلك، ومكان يتم فيه استحالته إلى ذلك ولا بد من مكان آخر منه يتوزع ذلك الروح على الأعضاء فلذلك احتيج أن يكون للدماغ ثلاثة بطون: بطن يستعد فيه الروح الآتي من القلب لأن يصير نفسانياً، وبطن تتم فيه استحالته إلى ذلك، وبطن يتوزع منه الأعضاء.
فإن قيل: وهلا كان البطن الذي يكمل استحالته هو الذي يتوزع منه على الأعضاء قلنا هذا لا يصح وإلا كان الروح الذي استعد في البطن الأول لأن يصير نفسانياً إنما يصل إلى البطن الذي يكمل فيه استحالته بعد توزع ما في ذلك البطن من الروح على الأعضاء. وحينئذٍ كان يلزم ذلك خلو الدماغ عن روح نفساني هذه استحالة الروح المستعد لتمام الاستحالة، وذلك لا محالة يلزمه ضرر عظيم، فلذلك لا بد من أن يكون الدماغ ثلاثة بطون، وكل واحد من هذه البطون فإنه يجب أن يقسم إلى جزأين ليقوم كل واحد منهما بفعل ذلك البطن المقدم أظهر لأن هذا البطن لكبره يتسع لفاضل غليظ يفصل بين جزأيه، ولا كذلك غيره. والمشهور هو المذكور في الكتاب.
إن الروح الحيواني ينفذ أو لاً إلى البطن المقدم فينبطخ فيه أي أنه يستحيل فيه إلى مشابهة مزاج الروح النفساني استحالة ما ثم ينفذ بعد ذلك إلى البطن الأوسط ويزداد فيه هذه الاستحالة ثم إن هذه الاستحالة تكمل في البطن المؤخر وهذا مما لا يصح، وذلك لأن الروح الحساس يحتاج أن تكون بغاية الاعتدال ليحس بكل انحراف ويخرج عن الاعتدال، ولا كذلك الروح الذي به الذكر والفكر فإن هذا الروح يحتاج إلى أن يكون إلى الحرارة، ولذلك فإن البرودة شديدة الإضعاف للذكر. ولذلك فإن المشايخ يضعف هذه القوة الحافظة والذاكرة فيهم، وكذلك الفكر يضعف بالبرد، ولذلك فإن المشايخ الهرمين يعرض لهم الخرف كثيراً. فلذلك الحق: إن الروح الحيواني يصل أو لاً إلى البطن المؤخر فيعتدل فيه قليلاً ثم يزداد اعتدالاً في البطن الأوسط، وهو أشد اعتدالاً ثم يكمل هذا الاعتدال في البطن المقدم، فلذلك يكون الروح الذي في المقدم أشد اعتدالاً من الذي في البطن الأوسط وهو أشد اعتدالاً من الذي في البطن المؤخر، وما ذلك إلا أن الروح الحيواني ينفذ أو لاً إلى البطن المؤخر ثم ينفذ بعد ذلك إلى البطنين الآخرين. وهيئة التشريح تصدق ذلك، وتكذب قولهم، فإن نفوذ الشرايين إلى داخل القحف إنه لا يكون من البطن المقدم.
قوله: والغشاء الرقيق يستبطن بعضه فيغشي بطون الدماغ إلى الفجوة التي عند الطاق.
قد قالوا إن عند منتهى البطن المقدم موضعاً عميقاً، ومن هناك يبتدئ البطن الأوسط، وذلك الموضع يسمى مجمع البطنين أي أنه هناك يجتمع البطنان اللذان للبطن المقدم، وهما اللذان أحدهما يمنة والآخر يسرة، وهذا الموضع يسمى فجوة. وأما الطاق فقد يراد به الغشاء الرقيق الغائص في جرم الدماغ وهو الذي يقسمه إلى جزأين: أحدهما مقدم والآخر مؤخر.

وهذا الغشاء عند غوصه في الدماغ يغوص وهما طاقان: طاق من قدام ذلك الموضع، وطاق من مؤخره. وقد يراد بالطاق سقف البطن الأوسط لأنه كالقعد المستدير، ويغشيه الغشاء الرقيق لباطن الدماغ إنما هو قرب هذا الموضع، وذلك لأنه ما بعده إلى خلف تغشية صلابة هذه التغشية كما ذكرناه أو لاً. والله ولي التوفيق.

البحث السابع
تشريح المشيمية
ما يأتيها من العروق
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وبين هذا البطن، والبطن المؤخر من تحتهما مكان هو متوزع العرقين العظيمين الصاعدين... إلى قوله: ويكون هناك تنسج على مثال المتنسج في المشيمة فيستقر فيه.
الشرح قد كنت عرفت أن تحت الغشاء الذي ذكرنا أنه ينقسم إلى جزأين مقدم ومؤخر إلى خلفه مكان ضيق من تقعر الأم الجافية الحاوية للدماغ من تحته، فإن هذا المكان مملوء من الدم، فإن الفائدة في ذلك أن يتعدل ذلك الدم حتى يصلح لتغذية الدماغ، إذ الدم الوارد إلى الدماغ لا بد وأن يكون حاراً، والألم يسهل تصعده فلو خالط الدماغ عند أو ل وصوله لسخنه وأخرجه عن المزاج الموافق له. فلذلك احتيج أن يبقى هذا التقعير قبل نفوذه ومخالطة الدماغ مدة في مثلها ويقرب من ماج الدماغ.
وهذا المكان يسمى البركة، ويسمى المعصرة، وقد عرفت السبب في ذلك وإذا تعدل هذا الدم وصلح لتغذية الدماغ فلا بد من تصعده إليه، وإنما يمكن ذلك بامتصاص العروق له من فوهاتها. إنما يمكن ذلك بأن تكون تلك العروق كثيرة جداً لتمكنها أن تمتص كل وقت من هذا الدم ما يكفي لتغذية الدماغ مع أن هذا الامتصاص عسير وذلك لأن هذا الدم إنما يتعدل ويشابه مزاج الدماغ مشابهة ما بأن يبرد الدم إذا برد غلظ وأفواه العروق الصغار ضيقة فذلك إنما يتمكن من امتصاص ما يكفي الدماغ من هذا الدم في زمن قصير إذا كانت كثيرة جداً، وعند نفوذها إلى الدماغ لا يمكن أن تكون كثيرة وإلا لزم ذلك تثقب الأم الرقيقة لكل واحد منها فيكثر فيها الثقوب، وذلك مضعف لجرمها. فلذلك هذه العروق الماصة لهذا الدم لا بد من أن يكون أو لاً كثيرة ومتفرقة جداً لتلاقي مواضع كثيرة ثم إذا صعدت إلى قرب الدماغ فلا بد من اجتماعهما وينبغي أن يكون ذلك إلى عرقين أحدهما يمنة، والآخر يسرة، لتكون قسمة الدم على جانبي الدماغ على الوجه العدل، ثم إن هذين العرقين يتوزعان إلى عروق كثيرة تنبث في الغشاء الرقيق فيكون ذلك في المشيمة ثم يداخل جوهر الدماغ لإيصال الغذاء إليه والشعب الماصة للدم هي لهذين العرقين كالأصول للشجرة لأن منها يأتي لمادة إلى هذين العرقين، وقد ملئ الخلل بينهما بجسم غددي ليحفظ أو ضاع بعضها عند بعض. وخلق ذلك الجرم غددياً ليكون محيلاً لما في تلك العروق إلى مشابهة بجوهر الدماغ لأن الأجرام الغددية جميعها كثيرة الرطوبة ولما كانت هذه العروق من أسفل منفرجة، ومن فوق مجتمعة إلى هذين العرقين وجب أن يكون هذا الجرم الغددي صنوبري الشكل ويكون رأسه وهو الدقيق منه من فوق. وقاعدته وهو الغليظ منه إلى أسفل. والله ولي التوفيق.
البحث الثامن
تشريح البطن الأوسط من بطون الدماغ
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه والجزء من الدماغ المشتمل... إلى قوله: بسبب حركة شيء آخر أشبه بإجابة الشيء الواحد.
الشرح

إن هذا الأوسط أو له عند آخر البطن المقدم وهو في وسط عرض الدماغ، فلذلك يكون أو له عند ملتقى بطن البطن المقدم أعني الأيمن والبطن الأيسر فيكون طرف كل واحد من هذين البطنين في أو ل فضاء هذا البطن الأيسر فلذلك يشاهد منه الصور المحسوسة المنطبعة في الأرواح التي في البطنين المقدمين وآخر هذا البطن الأوسط هو عند أو ل بطن المؤخر، فلذلك تتمكن القوة الموضوعة في البطن المؤخر إذا كان هذا البطن مفتوحاً من مشاهدة جميع الصور المنطبعة في الأرواح التي في البطنين المقدمين وآخر هذا البطن الأوسط وعند أو ل البطن المؤخر وحينئذٍ يحكم على كل صورة من تلك الصور بما يليق بها من المعاني ولذلك تحكم هذه القوة من الشاة على صورة الذئب المنطبعة في البطن المقدم على أن ذلك عدو مفسد لها، وعلى صورة متعهدها بالعلف أنه صديق لها فلا تنفر عنه نفورها من الذئب. وهذا البطن لا يمكن أن يكون مفتوحاً دائماً وإلا كانت الروح التي في مؤخر الدماغ ينتقل بعضها إلى مقدمه والتي في مقدمه فينتقل إلى إلى مؤخره، فيشوش الأرواح ويفسد الذهن. وتختلط تلك الصور المحسوسة بعضها ببعض على غير النظام الطبيعي فيحدث من ذلك كما يحدث للمبرسمين، ولا يمكن أيضاً أن يكون هذا البطن دائماً مسدوداً وإلا لم يمكن الحكم على معاني تلك الصور المحسوسة لأنها حينئذٍ لا يمكن القوة التي في مؤخر الدماغ مشاهدة شيء منها، فلذلك لا بد من أن يكون هذا البطن في حال ما مفتوحاً وفي حال أخرى مسدوداً.

ولا يمكن أن يكون ذلك بالطبع فإن الطبع لا يقتضي شيئاً ولا يقتضي ما يقابله فلا بد من أن يكون هذا الانسداد والانفتاح بالإرادة، ولكن بالإرادة الطبيعية، وهي التي بالقوة الحيوانية، وهي التي لا يلزم في أفعالها أن نكون مدركين لها ولا مدركين للإرادة التي بها تكون أفعالها ثم هذا الانفتاح والانسداد لا يمكن أن يكونا بانضمام جرم الدماغ انضماماً يلزمه انسداد هذا البطن وبانفراج يلزمه انفتاح هذا البطن فإن جرم الدماغ لأجل إفراط لينه ليس يحتمل ذلك فلا بد أن يكون هذا الانسداد بجرم يكون في داخل هذا البطن ويكون ذلك الجرم على بعض أحواله ينفتح في هذا البطن وعلى بعضها ينسد، ولا يمكن أن يكون هذا الجرم من خارج هذا البطن وإلا كان سده يضغط جرم الدماغ إلى أن تتلاقى أجزاؤه وفتحة بتخلية الموضع من الدماغ عن ذلك الضغط فلا بد من أن يكون هذا الجرم من الفاعل ليسد هذا البطن وفتحه في داخل هذا البطن، ولا يمكن أن يكون ذلك في موضع من هذا البطن دون باقيه لأن هذا الجرم لا بد من أن يكون شبهاً بجوهر الدماغ حتى لا تؤلمه ملاقاته وكذلك لا بد من أن يكون هذا الجرم شديد اللين، فلو كان موضوعاً في موضع من داخل هذا البطن لأمكن أن ينفعل عن الرياح والأبخرة الحادثتين في داخل الدماغ ليبطل بذلك فتحه أو سده، ولكانت حركة الروح أيضاً قد تقوى على تغييره عن الحالة المنفتحة والسادة فلذلك لا بد من أن يكون هذا الجرم ممتداً في طول هذا البطن ولا يمكن أن يزيد على ذلك وإلا كان يحدث ضيقاً في البطن الذي تقع فيه تلك الزيادة، ولا يمكن أيضاً أن يكون جسماً واحداً، فإن الجسم الواحد إنما يحدث له سدة تارة، وانفتاحاً أخرى إذا كان يتجمع تارة فينفتح هذا البطن وينبسط أخرى فينسد وهذا غير ممكن ها هنا، فإن الأجسام الشديدة اللين لا يمكن أن يكون التفاوت بين تجمعها وانبساطها كثيراً جداً. فلو كان هذا الجرم واحداً لكان ما ينفتح عند تجمعه يسيراً جداً لا يفي بالغرض فلا يلزم أن يكون هذا الجرم من أجسام كثيرة ويكون واحد منها تحدث له حالة يحدث فيها تقارب الباقي إلى الملاقاة والسد وحالة أخرى يلزمها تباعد الباقي، وانفتاح المجرى. وهذا الجرم الذي تختلف أحواله التي يلزمها ذلك، لا بد من أن يكون حدوث تلك الأحوال له بسهولة حتى يمكن أن يحدث كل واحد من انفتاح هذا البطن وانسداده بسرعة وسهولة، وهذا يمكن أن يكون هذا الجرم دودي الشكل مؤلفاً من أجزائها أن تجتمع وتتباعد بسهولة، وذلك بأن يكون مؤلفاً من أجزاء كالزوائد مربوطاً بعضها ببعض ويكون لتلك الأجزاء أن تتباعد تارة وتتقارب أخرى، فإذا تقاربت قصر ذلك الجرم جداً، وإذا تباعدت طال، ويكون إلى جانبي هذا الجرم وإلى أسفل جسمان آخران يسهل تقاربهما وتباعدهما ويكونان ممتدين في طول هذا البطن كالجرم الأول، وإلى جانبيه، وأسفل منه ويكون هو مربوطاً إليهما من جانبيه ربطة يذهب إليها على الاستقامة فما دامت تلك الربط كذلك كانات متباعدين أي إن أحدهما يكون بعيداً عن الآخر فيكون ما بينهما مفتوحاً وذلك هو ما تحت الجرم الأول وإما إذا امتد في ذلك الجرم الأول في الطول حتى لزم ذلك خروج مبادئ تلك الأربطة عن محاذاة اتصالها بالجسمين الآخرين وذلك بأن صارت تلك الأربطة في اتصالها بالجسمين الآخرين مؤربة لزم ذلك انجذاب ذينك الجسمين إلى التقارب فسدا ما بينهما، فكان ذلك البطن حينئذٍ مسدوداً فإذا عاد الجرم الأول الدودي إلى التجمع وتقاربت أجزاؤه لزم ذلك عود تلك الأربطة في اتصالها بالجسمين الآخرين إلى الاستقامة فيمكن ذلك الجسمين من التباعد الذي هو لهما بالطبع فعادا إلى وضعهما متباعداً أحدهما عن الآخر ولزم ذلك انفتاح ما بينهما، وبذلك ينفتح هذا البطن.
ولقائل أن يقول: إن هذا لا يصح، وذلك لأن هذين الجسمين إذا تقاربا مما عن جانبيهما من الدماغ إما أن توافقهما في التقارب فيكون انسداد هذا البطن بتقارب أجزائه.

وقد قلتم: إن ذلك لا يمكن أو لاً توافقهما في ذلك فيبقى بين جانبي هذا البطن وذينك الجسمين فرجة بقدر تحركهما إلى التقارب فبقي هذا البطن مفتوحاً هناك، فيلزم ذلك أن يكون هذا البطن دائماً مفتوحاً لكن تارة يكون هذا المفتوح منه ما بين ذينك الجسمين وذلك إذا كانا متباعدين وتارة ما بين جوانبه وجوانب ذينك الجسمين، وذلك إذا كانا متقاربين وحينئذٍ يكون انسداد هذا البطن محالاً، قلنا ليس الأمر كذلك وذلك لأن هذين الجسمين ملتصقان بالغشاء المشيمي المغشي لداخل هذا البطن، فإذا تقاربا لزم ذلك انجذاب ذلك الغشاء إليهما، فانسد ما بينهما وبين جانبي الدماغ بذلك الغشاء لا بجرم الدماغ.
قوله: بأربطة تسمى وترات، هذه في الحقيقة ليست بأربطة ولا وترات أما أنها ليست بأربطة فلأنها غير متصلة بعظم. وأنها ليست بوترات فلأنها ليست مؤلفة من عصب ورباط، ولكنها تسمى أربطة بالاصطلاح العام لأنها تربط شيئاً بشيء وتسمى وترات لأنها تشبه الأوتار في أنها تجذب الأعضاء المتصلة بها فتحركها تحريكاً إرادياً فإن انفتاح هذا البطن وانسداده قد بينا أنه لا يمكن أن تكون إلا بالإرادة.
وقوله: تمدد وضاق عرضها ضغطت هاتين الزائدتين إلى الاجتماع فيسند المجرى. وإذا تقلصت إلى القصر وازدادت عرضاً تباعدت إلى الافتراق فانفتح المجرى فإن زيادة عرض ذلك الجرم يلزمها تضيق هذا البطن فلا يكون الانفتاح تاماً وكذلك ضيق عرض ذلك الجرم يلزمه أن لا يكون انسداد هذا البطن تاماً وكذلك لا لأمر يضطر إليه، وكذلك يمكن أن تتباعد أجزاؤه عند التمدد من غير نقصان في الثخن وذلك لأن مقادير تلك الأجزاء لا تتغير في حالتي التمدد والتقلص لكنها تتقارب عند التقلص وتتباعد عند التمدد، وحركة الجسم الدودي حركة إرادية كما ذكرناه لما ذكرناه أو لاً.
وأما حركة الجسمين الآخرين إلى الالتقاء، فذلك بما تجذب الأوتار المتصلة بهما وبالجرم الدودي عند تمدده، وأما حركتها إلى الانفراج فذلك بمقتضى طبيعتهما ليعودا إلى وضعيهما الطبيعي لهما وبجذب الغشاء المغشي لهما ليعود إلى ملاقاة جرم الدماغ وأما حكمة هذه الأجرام، وكونها على الهيئة المخصوصة فذلك مما نذكره في كتابنا الكبير الذي نعمله في هذه الصناعة. والله ولي التوفيق.

البحث التاسع
فضول الدماغ
من قوله: ولدفع فضول الدماغ... إلى آخر الفصل.
الشرح يحيط بالدماغ عظام القحف وهي صلبة لا تسمح بنفوذ الفضول من خلالها إلا ما يمكن أن يمر في سنون القحف وهذه لا تكفي لتحلل فضول الدماغ الكثيرة ولذلك يعسر تحلل ما يتحلل منها بخلاف الأعضاء التي تحيط بها مثل اللحم ونحوه. فإن فضولها تجد سبيلاً إلى النفوذ في ذلك المحيط فتكون تلك الأعضاء نقية من الفضول ولا كذلك الدماغ ومع كثرة فضول الدماغ فإن الحاجة إلى كثرة بقائه تشتد وذلك لأن ما يحتبس فيه من فضول مع أنه يحدث له سوء المزاج والسدد في مجاريه ونحوها فإنه يكدر أرواحه ويغلظها، ويفسد أمزجتها، فلذلك اضطر إلى أن يكون له طرق ينتقي منها فضوله. وهذه الطرق منها ما منفعتها تنقية الدماغ من الفضول فقط فتكون مخلوقة لذلك فقط.
وهذه كالمجاري المذكورة في الكتاب. ومنها ما هي مخلوقة مع ذلك لمنفعة أخرى إما للإحساس بشيء كالعين، وإنها تنتفع بها في إدراك المبصرات، وينتفع بها أيضاً في تحلل بعض فضول الدماغ بها بالدموع ونحوها، وكذلك الأذن ينتفع بها في إدراك المسموعات، وفي تنقية الدماغ من المادة الحادة الصفراوية التي تندفع إليها فيكون منها وسخ الأذن، وكذلك الأنف ينتفع به في إدراك الرائحة وفي إخراج الفضول المخاطية التي تتولد في الدماغ.

وأما تكون تلك المنفعة ليست هي الإحساس لشيء كالسنون التي في عظام القحف فإن هذه ينتفع بها المنافع التي ذكرناها عند تشريحنا لعظام القحف وينتفع بها مع ذلك في تحلل الفضول البخارية التي في الدماغ منها وكذلك النخاع فإنه خلق لما ذكرناه في تشريح عظام الصلب من منافعه ومع ذلك فإنه ينتفع به في تحلل بعض فضول الدماغ منه، وكذلك فإن الذي يعتريه الجرب يكون جربه في اسافل ظهره عند عجزه، وطرف عصعصه. لأن الذي يقربه الجرب لا بد من أن تكون مواده حارة بورقية فيكون ما يتبخر منها كذلك فلذلك يكثر هذا التبخر منها في دماغه، ويكثر ما يندفع من ذلك في النخاع إلى طرفه، وذلك عند آخر العصعص ولذلك فإن كثيراً مما تكثر فيه السوداء يعرض له عند طرف عصعصه غلظ. وعبارة الكتاب في باقي الفصل ظاهرة. والله ولي التوفيق.

فصل
تشريح العين
وكلامنا في هذا الفصل يشتمل على أربعة مباحث:
البحث الأول
أجزاء العين
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه فنقول قوة الإبصار ومادة الروح... إلى قوله: أو سطها جليدية وهي.
الشرح لا شك أن الإبصار إما يكون بقوة باصرة وتلك القوة إنما تقوم بروح تحملها وتسمى الروح الباصرة. وهذه القوة وهذه الروح هما من القوى والأرواح النفسانية.
فمبدؤهما لا محالة الدماغ وإنما يتم الإبصار بنفوذ تلك القوة، وهذه الروح من الدماغ إلى العينين أو ما يقرب منهما، فإن هذه القوة لو بقيت في الدماغ لكان إدراكها تخيلاً لا إبصاراً والقوى والأرواح إنما ينفذان من الدماغ إلى الأعضاء بتوسط العصب فلذلك لا بد للعين من عصب تنفذ فيه القوة الباصرة والروح الحاملة لها. وقد بينا أن العين لا بد من أن تكون في أعلى مقدم البدن فلذلك العصب التي تأتي فيه القوة الباصرة والروح الباصر لا بد من أن يكون هو الزوج الأول من أزواج العصب الدماغي لأن هذا الزوج يتصل بالدماغ في مقدمه، ومن ورائه يتصل بالأزواج الأخر. وهذا الزوج يسمى العصب النوري لأن فيه النور الذي به الإبصار.
وقد عرفت هذا الزوج وكيفية نفوذه، إلى العينين عند كلامنا في تشريح الأعصاب، وعرفت أن هذا الزوج مع أنه للحس فإن نفوذه إلى العينين ليس على الاستقامة بل على تقاطع يسمى التقاطع الصليبي وإن اكثر المقصود بذلك أن تكون لهذه القوة الباصرة مكان تقف فيه مشترك بين العصبتين وذلك هو التجويف المجتمع من تجويفي كل فرد من هذا الزوج.
فقد عرفت أن هذا الزوج من خواصه أنه ذو تجويف ظاهر. وإنما خالف بذلك ما في الأعصاب لأن النافذ من الأعصاب المدركة إلى الدماغ في باقي الأعصاب إنما هو هيئة انفعال تلك الأعضاء وذلك مما لا يحتاج فيه إلى أن يكون لحامل ذلك للانفعال مساحة يعتد بها فلذلك يكفي في نفوذ الروح الحاملة لذلك الانفعال التام الذي لا بد منها في الأعصاب بخلاف هذا الروح فإن النافذ من العينين إلى الدماغ إنما هو أشباح المرئيات وتلك الأشباح يحتاج حاملها لا محالة أن تكون له مساحة يعتد بها، فلذلك لا يمكن نفوذه في مسام الأعصاب بدون فساد تلك الأشباح فلذلك يحتاج هذا العصب النوري أن يكون ذا تجويف ظاهر ينفذ فيه الروح البصري. ومن تجويفي كل واحد من فرديه يحدث تجويف واحدد في وسط مسافة نفوذهما إلى العينين وفي ذلك التجويف مكان القوة الباصرة، ولو كانت هذه القوة في عين واحدة لكان وجود الأخرى عبثاً ولو كان في كل قوة عين قوة باصرة لكان الشيء الواحد يرى بكل واحدة في العينين فكان الواحد يرى اثنين.
ولقائل أن يقول: لو كان الأمر كذلك لكان الشيء يسمع اثنين. لأن كل واحدة من الأذنين فيها قوة سامعة فإن قوة السمع لو كانت واحدة وموضوعة في إحدى الأذنين لكانت خلقة الأذن الأخرى عبثاً. ولو كانت هذه القوة في داخل تجويف الدماغ لكان الصوت يتخيل ولا يسمع كما قلتم في الإبصار.
وجوابه: إن الأمر في السمع ليس كما في الإبصار وذلك أن إدراك السمع هو من جنس إدراك اللمس. وكما أن قوة اللمس متكثرة لأن هذه القوة في جميع الجلد، وفي أكثر اللحم، وفي الأغشية وغير ذلك.

ومعلوم أن هذه الأشياء ليست القوة التي فيها قوة واحدة، بل كثيرة جداً فلذلك قوة السمع لا تمتنع عليها أن يكون متكثرة بخلاف قوة البصر. وإنما قلنا إن قوة السمع من جنس قوة اللمس لأن إدراك قوة السمع إنما هو التموج الحاصل في الهواء الراكد في داخل الأذن النافع لتموج الهواء الحامل للصوت، وإدراك هذا التموج هو بانفعال الحاسة عنه، كما تنفعل حاسة اللمس عن الملموسات الحارة والباردة والخشنة ونحو ذلك وتحقيق الكلام في هذا وبسطه الأولى به في غير هذا الكتاب. وهذا العصب النوري هولا محالة كباقي الأعصاب مغشى بغشائين: أحدهما: من الأم الجافية، وهو الأعلى منهما.
والآخر من الأم الرقيقة، فيكون لا محالة كثير العروق كما في تلك الأم فإذا بلغ هذا العصب مع الغشاءين المغشيين له إلى عظم الحجاج، وهذا العظم الذي فيه نقرة العين انبسط طرف كل واحد من ذلك وانفرش بقدر سعة تلك النقرة ثم انضم طرفه وصار من مجموع ذلك العضو الذي يسمى المقلة.
قوله: اتسع طرف كل واحد منها وامتلأ وانبسط واتسع اتساعاً يحيط بالرطوبات التي في الحدقة.
يريد بقوله: وامتلأ وغلظ وسمن. وما أشبه ذلك. وذلك لأن طبقات العين أكثرها أغلظ من كل واحد من الغشاءين اللذين على العصب النوري.
وقوله: يحيط بالرطوبات المشهور أن هذا الاتساع يقدر قدر الرطوبات التي في المقلة حتى تكون الطبقة الحادثة من جرم العصب مشتملة على الرطوبة الجليدية اشتمال الشبكة على الصيد، وهذا لا يصح فإن مقدار الرطوبات أصغر كثيراً من المقلة، ولو كانت الطبقة معها كما قالوه لزم أن تكون المقلة أصغر مما هي عليه، وأصغر من نقرة العين، فلم تكن المقلة ملتصقة بالعظم بل مسربة عنه. وليس كذلك. بل الحق أن اتساع العصب مع الأغشية بقدر نقرة العين وتبقى الرطوبات في الوسط مائلة عن ثقب العصب النوري إلى جهة الموق الأكبر، ولو كانت هذه الرطوبات مالئة لتجويف العصب النوري لكانت سادة له فكان يمنع نفوذ الروح إلى المقلة، ومن المقلة إلى أمام القوة الباصرة فكان الإبصار يتعذر كما يتعذر لسدة أخرى تقع في هذا العصب.
وقوله: التي في الحدقة. المعروف من الاصطلاح أن العين هي مجموعة المقلة مع الأجفان، وأن الحدقة هي الوضع الذي فيه الثقب العيني، وأن سوى الأجفان من العين هو المقلة. وها هنا يريد بالحدقة المقلة وله أن يصطلح على ذلك ولكنه كان ينبغي أن نبين هذا الاصطلاح أو لاً لنفهم المراد من كلامه ولا يحمل على المعنى المشهور. والله ولي التوفيق.

البحث الثاني
رطوبات العين
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه التي أو سطها الجليدية وهي رطوبة... إلى قوله: ثم إن طرف العصبة تحتوي على الزجاجية والجليدية.
الشرح إن العين يجب أن يشتمل على رطوبات ثلاث. أما عندهم فلأن الإبصار على قولهم إنما يتم بوقوع الأشباح على الجليدية، وهذه الجليدية مستعدة جداً لسرعة التحلل فلا بد لنا من جسم يمدها بالغذاء لتخلف بدل المتحلل منها فلا يفنى بسرعة، وذلك الجسم لا يمكن أن يكون دماً باقياً على لو نه وإلا كانت هذه الرطوبة تعجز عن إحالته بسرعة إلى طبيعتها فكانت تقل جداً قبل تمكنها من إحالة ما يقوم لها بدل المتحلل فلذلك احتيج أن يستحيل هذا الدم إلى مشابهتها بعض الاستحالة حتى تصير مقتدرة على أخذ الغذاء منه بسهولة ولون هذه الرطوبة مع صفائه وبريقه أبيض فلذلك إنما يصير الدم شبيهاً بها بوجه ما إذا استحال عن حمرته بعض الاستحالة فلذلك يصير لو نه بين البياض والحمرة، وذلك هو لون الزجاج الذائب فلذلك الدم يصل إلى هذه الرطوبة ليغذوها يجب أن يكون كذلك، ولذلك تسمى بالرطوبة الزجاجية ثم إن الجليدية إذا أبعدت من هذه الرطوبة وإحالتها إلى طبيعتها فلا بد من أن تفضل منها فضلة وتلك الفضلة تكون لا محالة قد ازدادت بإحالة الرطوبة الجليدية لها صفاءً وبياضاً فلذلك يكون كبياض البيض. وحينئذٍ تدفع تلك الجليدية تلك الفضلة إلى أمامها فيكون من ذلك الرطوبة البيضية فلذلك لا بد في العين من هذه الرطوبات الثلاث. فهذا مذهبهم في هذه الرطوبات مع تقديرنا له.

وأما عندنا: فإن أشباح المرئيات ليست تقع على الرطوبة الجليدية فإن الشبح إنما يقع على جسم إذا كان ذلك الجسم لا يحول بينه وبين ذي الشبح جسم ملون بل يكون ذلك الجسم مكشوفاً ولذلك فإن المرآة إذا غطيت بجسم ملون فإنه لا يقع عليها شبح البتة.
وهذه الرطوبة الجليدية مغطاة، ومحجوبة من قدامها بجسم شديد السواد، فكذلك يستحيل أن تقع عليها شبح المرئيات، وذلك الجسم المغطى للجليدية هو الجسم الأسود الذي يشاهد أمامها ولولاه لشوهدت للناظر في العين فكانت ترى على لو نها الذي هو بياض مع صفار فلذلك الشبح عندنا إنما يقع على ذلك الجسم الذي يرى أسود، وذلك الجسم هو الروح الذي يتأدى فيه الشبح إلى أمام القوة الباصرة ويسمى الروح المؤدي فلذلك الحاجة عندنا إلى الرطوبات التي في العين ليس ليقع الشبح على شيء منها بل ليكون داخل العين كثير الرطوبة حتى يكون في مزاجه قريباً من مزاج الدماغ.
فلذلك إذا حصلت الروح فيه لم تتغير عن مزاجها وهي في الدماغ بل يكون فيه كما هي في الدماغ فلذلك إذا وقع عليه شبح ثم انتقل ذلك الشبح إلى الدماغ بقي ذلك الشبح على حاله لأجل بقاء الروح على حالتها، ولا كذلك لو عرض لهذه الأرواح في الدماغ تغير عن حالتها وهي في العين لكان الشبح الذي فيها يعرض له حينئذٍ تغير. فكان الشيء يتخيل على خلاف ما رئي فلذلك احتيج أن يكون داخل العين مثل داخل الدماغ في أنه كثير الرطوبة وطبقات العين كلها مائلة إلى اليبوسية فلذلك إنما يكون داخلها كثير الرطوبة إذا كانت مشتملة على رطوبة كثيرة. ويجب أن تكون هذه الرطوبة نيرة صافية فإن ذلك أعون على الإبصار فلذلك احتيج أن يكون في داخل العين هذه الرطوبة الجليدية، ويجب أن يغتذي فيجب أن يكون وراءها الرطوبة الزجاجية ولأنها لا بدلها من فضله ليجب أن يكون قدامها الرطوبة البيضية لما مر تقريره.
قوله: وقد فرطحت ليكون المتشبح فيها أو فر مقداراً إما أن الرطوبة الجليدية فيها أن تكون مستديرة فلأنها جسم متشابه الأجزاء فليس بعضه بأن يكون زاوية أو بشكل آخر أولى من الآخر فلذلك لا بد من أن تكون شكلها متشابه الأجزاء. والشكل الذي هو كذلك في المسطحات هو الدائرة، وفي المجسمات هو الكرة، هذا إذا لم يكن أمر يحوج إلى شكل آخر غير طبيعي لذلك الجسم. وها هنا كذلك فإنه لا موجب لتغير هذه عن الكرية إلا بتسطح ظاهرها، وعلة ذلك التسطيح أما عند من يقول إن وقوع الشبح هو في الجليدية فهو أن يكون مقدار الشبح فيها على المقدار الذي ينبغي أن يكون عليه ليكون المرئي كذلك فإن الشبح الواقع في جسم كري يكون أصغر من المقدار الذي يستحقه ولذلك ترى المصورة في المرآة المحدبة الصغيرة والشبح الواقع في جسم مقعر يكون أعظم من القدر الذي يستحقه ولذلك ترى الصورة في المرآة المقعرة كبيرة، وأما الشبح الواقع في السطح المستوي فإنه يكون على المقدار الذي يستحق بحسب رأي الشيخ.
هذا عندما نقول إن وقوع الشبح هو في الرطوبة الجليدية.
وأما على رأينا: وهو أن وقوع الشبح هو في الروح المشاهد في الحدقة فإن فائدة تسطح الرطوبة الجليدية من قدام هو أن يكون ذلك الموضع مستوي الوضع فيكون للروح الانبساط عليه جميعه. وإن كانت تلك الروح يسيرة فقد لا يزيد على المقدار الذي ولا كذلك إذا كان الموضع محدباً، فإنه حينئذٍ كان يكون وسطه ناتئاً. فإذا كانت الروح يسيرة فقد لا يزيد على المقدار الذي يملأ ما يحيط بذلك الوسط الناقىء حتى ينبسط على ذلك الناقىء فيبقى وسط الحدقة خالياً من الروح فلا يقع عليه شبح فهذا ما نذكره ها هنا من سبب هذا التسطيح على رأينا وعلى الرأي المشهور.
وأما قوله: ليكون المتشبح فيها أو فر مقداراً فهذا لا يصح فإن المقصود ليس أن يكون الشبح أكثر ما يستحقه بل أن يكون على ذلك المقدار.
قوله: هو أن يتدرج حمل الضوء على الجليدية يريدان الضوء القوى يؤذي الجليدية بفرط تحليله. فلذلك وضعت الرطوبة البيضية أمامها ليقل ما يصل إليها من ذلك الضوء، ويريد بذلك الضوء الحامل للشبح وهذا إنما يصح على قول من يقول: إن وقوع الأشباح هو على الرطوبة الجليدية. ونحن قد أبطلناه فلذلك يكون هذا السبب المذكور باطلاً. والله ولي التوفيق.

البحث الثالث
تشريح طبقات العين
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه

من قوله: ثم إن طرف العصبة يحتوي على الزجاجية... إلى قوله: وأما الهدب فقد خلقت لدفع ما يطير إلى العين.
الشرح قد بينا أن العصب النوري يحيط به غشاءان أصلهما من الغشاءين المحيطين بالدماغ فلذلك الخارج منهما صلب غليظ قليل العروق والداخل رقيق لين كثير العروق كما هما الغشاءان المحيطان بالدماغ. وهذه الأجسام الثلاثة إذا انبسطت في عظم النقرة وملأت تلك النقرة ثم اجتمعت إلى قدام الرطوبات كان منها ثلاث طبقات، وهذه هي طبقات العين مع الطبقة الملتحمة التي نذكرها بعد والمشهور أن يعد ما هو ملتصق بعظم النقرة على حدة وبعد ما هو متصل بذلك من قدام الرطوبات على حدة. فلذلك تجعل تلك الطبقات الثلاث ستاً، ولذلك تكون طبقات العين إذا عدت مع الطبقة الملتحمة سبعاً.
فالطبقة الأولى: هي الحادثة وراء الرطوبات من العصب النوري، وتسمى الطبقة الشبكية، وقد أشار الشيخ إلى علة هذه التسمية وهي أنها تحتوي على الرطوبة الجليدية. أي على منتصف الرطوبة الجليدية، احتواء الشبكة على الصيد وبعضهم علل ذلك بأن هذه الطبقة تنفذ إليها من الغشاء الرقيق عروق كثيرة متنسج فيها انتساج الشبكة وسبب ذلك أن هذه الطبقة أقرب لا محالة إلى الرطوبة الزجاجية يأخذ إليها من هذه الطبقة، وإنما يمكن ذلك إذا كانت مشتملة على عروق كثيرة ليكون فيها دم كثير يكفي لغذائها ولغذاء الرطوبة الجليدية يتوسط إحالة الزجاجية إلى قرب مشابهة الجليدية وجوهر العصب يخلو عن العروق البتة فلا بد من أن تكون العروق التي في هذه الطبقة آتية إليها من غيرها والغشاء الرقيق مع كثرة عروقه وهو شديد القرب من هذه الطبقة، فلذلك وجب أن تكون العروق الآتية إلى هذه الطبقة آتية إليها من الغشاء المشيمي. وهذه العروق لا بد من أن تكون في هذه الطبقة منبثة معوجة ليكون كما في الشبكة من الخيوط، وذلك ليطول تردد الدم في هذه الطبقة فتحيله إلى طبيعتها فتقرب بذلك من البياض ليصير مشابهاً بوجه ما للرطوبة الزجاجية.
والطبقة الثانية تبتدئ من طرف هذه الطبقة وتغشي ظاهر الجليدية وذلك لأن الرطوبة البيضية قد بينا أنها فضلة غذاء الجليدية وملاقاة الفضول دائماً. ولا شك أنه مضر وذلك احتيج أن يكون بين الرطوبة الجليدية والرطوبة البيضية حاجز وذلك هو هذه الطبقة ولذلك جعلت هذه الطبقة مفرطة في الرقة عنكبوتية أي شبيهة بنسيج العنكبوت. ولذلك تسمى طبقة عنكبوتية وإنما احتيج أن تكون كذلك مع أنها لو كانت غليظة لكانت أكثر حجباً للرطوبة الجليدية عن ملاقاة البيضية، والسبب في ذلك أما عندهم فلتكون هذه الطبقة كثيرة التخلخل فلا يمنع نفوذ الضوء الحامل للشبح إلى الرطوبة الجليدية وأما عندنا فلتكون عندنا غير مانعة من نفوذ نور الرطوبة الجليدية إلى ما أمامها فتبطل فائدة الجليدية ولو كانت هذه الطبقة غليظة كثيفة الجرم ولهذه الطبقة فائدة أخرى، وهي أنها لا تخلو من عروق دقاق، وتلك العروق يكون ما فيها من الدم قد استحال إلى مشابهة الجليدية في الطبقة الشبكية وفي هذه الطبقة أيضاً، فلذلك يكون ذلك الدم غير بعيد جداً عن جوهر الجليدية فلذلك ما يرشح من العروق التي في هذه الطبقة من الدم يصلح لغذاء الجليدية من قدامها فإن الرطوبة الزجاجية إنما تلاقيها من ورائها فيقل أيضاً ما يصل إليها من الغذاء إلى مقدم الجليدية فلذلك احتاج مقدم الجليدية إلى أن يأتيه الغذاء من هذه الطبقة العنكبوتية، وإنما جعل بين الرطوبة الجليدية والبيضية هذه الطبقة ولم يحتج إلى طبقة أخرى بين الجليدية والزجاجية وذلك لأن الزجاجية لأجل غذاء الجليدية والأجاود أن يكون الغذاء ملاقياً للمغتذي ليسهل انفعاله منه فتستحيل إلى مشابهته بسهولة ولا كذلك البيضة فإنها فضل تتضرر بدوام ملاقاتها للجليدية.
والطبقة الثالثة: هي الطبقة المشيمية ويحدث من الغذاء المشيمي وهو الغشاء الرقيق الكثير العروق وذلك من وراء الرطوبات وهذه الطبقة هي بالحقيقة الممددة للعين ولجميع أجزائها بالغذاء من قدام هذه الطبقة.
الطبقة العنبية: وهي الطبقة الرابعة وهذه الطبقة ثخينة الجرم ظاهرها صلب لأنها تلاقي الطبقة القرنية وباطنها ألين وكأنه لحم إسفنجي لأنه ذو خمل وخشونة والمشهور أن فائدة ذلك أن يجد الماء المقدوح خشونة يتعلق بها ولا يعود إلى الحدقة.

وأما الحق: فإن فائدة هذا الخمل أن يكون ما ينفذ إلى العين من الفضول يمنعه ذلك الخمل من الوصول إلى الحدقة وهذه الطبقة ذات لو ن إلى السواد ليكون بذلك جمع البصر وقوته. فلذلك لا بد من أن تكون مثقوبة في وسطها وذلك هو موضع الحدقة. إذ لو لا هذا الثقب لم ينفذ الشبح إلى موضعه وقد زيد في صلابة ما يحيط بهذا الثقب لئلا ينخرق هذه الطبقة هناك بسبب تمديد الأبخرة ونحوها مما نفذ إلى داخل تجويف العين.
والطبقة الخامسة: تحدث من وراء الرطوبات من الغشاء الصلب، فلذلك هذه الطبقة أصلب الطبقات الباطنة وفائدة ذلك أن تقوي العين على ملاقاة العظم ولا تضرر بصلابته وتسمى هذه الطبقة: الطبقة الصلبة لأجل صلابتها ومن قدام هذه الطبقة الطبقة القرنية: وهي: الطبقة السادسة: وسميت هذه قرنية لأنها تشبه القرن المرفق بالنحت وهي شديدة الإشفاف فلذلك ينفذ فيها الشعاع، وهي أيضاً صلبة لأنها في ظاهر المقلة، وأصلب أجزائها ما يحاذي منها الحدقة لأن هذا الموضع ليس وراءه ما يعتمد عليه عندما تصيب العين ضربة ونحوها.
وأما الطبقة الملتحمة: فإنها تحدث من أجزاء الغشاء الظاهر وهو المغشي لظاهر الرأس وغيره ويسمى السمحاق فيحدث من تلك الأجزاء ومن لحم أبيض صلب غضروفي جرم هذه الطبقة وسميت ملتحمة لأنها كالملتحمة بالمقلة من خارجها وفائدة هذه الطبقة إفادة المقلة من خارجها رطوبة بما فيها من دسومة.
قوله: وهي بالحقيقة كالمؤلفة من طبقات رقاق أربع أي: الطبقة القرنية ذات طبقات أربع هي لها كالقشور المتراكبة بعضها فوق بعض من غير خلل بينها وفائدة ذلك أن تكون بعض هذه الطبقات قائماً مقام البعض إذا حدثت لذلك البعض آفة من حرق ونحوها.
واحتيج أن تكون أربعاً لأن ظاهر المقلة يحتاج أن يكون شديد الصلابة ليقوى على مقاومة المصادمات ونحوها كما قلنا، وباطن هذه الطبقة يحتاج أن يكون إلى لين ليكون شيهاً لقوام ظاهر العنبية فإن ذلك الظاهر، وإن كان صلباً فهو بالنسبة إلى ظاهر المقلة شديد اللين، وإذا كان كذلك وجب أن يكون بين الطبقة الخارجة من هذه الغريبة، والطبقة الداخلة منها متوسط بينهما في الصلابة واللين لئلا يتضرر الطبقة الداخلة بصلابة الطبقة الخارجة ويجب أن يكون هذا المتوسط طبقتين فإن الذي يجود ملاقاته للطبقة الداخلة لا يجود ملاقاته للطبقة الخارجة لأن التفاوت بينهما في الصلابة واللين كثير جداً. فلذلك وجب أن يكون لهذه الطبقة أربعة قشور. والله ولي التوفيق.

البحث الرابع
تشريح الأجفان والأهداب
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه أما الهدب فقد خلقت لدفع... إلى آخر الفصل.
الشرح إن الإنسان ونحوه مما هو لين العين فإن عينيه يخشى عليهما من مصادمات الأجسام لها من خارج فلذلك جعلها الخالق تعالى من عظام ناتئة وهذه العظام إنما توقيها وقاية تامة من الأجسام العظيمة وأما ما صغر من الأجسام فلا كثير نفع لهذه العظام فيها، فلذلك احتياجها إلى وقاية أخرى ولا يمكن أن يكون العينان دائماً مكشوفتين وإلا تعرضتا لملاقاة الآفات المؤذيات لهما ولا دائماً مغطاتين وإلا بطلت منفعتهما فلذلك احتيج إلى كشفهما وقتاً وذلك حين يراد الإبصار وإلى سترهما وقتاً وذلك حيث يراد صونهما عن المؤذيات وأما الواردة أو المخوف ورودها كما عند النوم، فلذلك لا بد لهما من غطاء يزول تارة ويغطي تارة أخرى وهذا هو الأجفان، ويكفي في ذلك حركة أحدهما دون الآخر، وكل حيوان يبيض فإنه يحرك جفنه الأسفل، وكل حيوان يلد فإنه يحرك جفنه الأعلى فلذلك الإنسان يحرك جفنه الأعلى فلذلك يحتاج إلى عضل يحركه هذا الجفن دون الأسفل فلذلك الجفن الأعلى في الإنسان ونحوه يزيد في أجزائه على الجفن الأسفل بالعضل المحرك له وبالجرم الذي يكون منه الشرناق.

ونحن قد بسطنا الكلام في ذلك حيث تكلمنا في العضل ويكون الجفن هو الغشاء المسمى بالسمحاق. فإن هذا الغشاء إذا بلغ موضع الجفن الأعلى ينزل على العين يقدر يغطيها ثم انعطف إلى فوق فإذا لاقى المقلة تفرق في طبقاتها واحتشى لحماً أبيض صلباً وتكون منهما الطبقة الملتحمة، ثم إن هذا الجفن لكثرة حركته خيف عليه أن يفرط في التجفف فخلق بين طبقاته غشاء شحمي وذلك هو الجرم الذي إذا عظم جداً كان من الشرناق واحتيج إلى أن يحفظ للطي على هيئته فلا تتغير وضع طاقيته فخلق في طرف هذا الطاق جرم غضروفي دقيق وفيه تنبت الأهداب وجعل الوتر المحرك للجفن متصلاً بهذا الغضروف ليكون إذا حركه تحرك بسبب ذلك جميع الجفن من غير أن يمتد موضع الوتر فقط.
وأما الجفن الأسفل فإنه أيضاً يتكون من السمحاق وذلك بأن يصعد من فوق عظم الوجنة، فإذا غشي بعض المقلة انعطف إلى أسفل فإذا لاقى المقلة حدث منه ومن اللحم الأبيض الطبقة الملتحمة كما ذكرنا.
وخلق أيضاً في طرف عطفة الجرم الغضروفي ليحفظ وضع ذلك العطف وليكون مغرسٍ الهدب صلباً لما نذكره من منافع ذلك وهذا الجفن أصغر كثيراً من العالي لأنه لو كان عظيماً كالعالي لحبس الغذى الذي بينه وبين المقلة ولا كذلك العالي فإن حركته تدفع القذى والذي نحوه إلى أسفل فيظهر القذى ويخرج وهدب الجفن الأسفل منقلبة إلى أسفل لأنها لو كانت منتصبة على الاستقامة لمنعت نزول ما ينزل عليها من الغبار ونحوه وحبسته أمام المقلة، ولو كانت منتصبة إلى فوق لأضرت بالإبصار فلذلك خلقت منعطفة إلى أسفل فإن ذلك أمنع لتصعد ما من شأنه التصعد إلى المقلة.
وأما هدب الجفن الأعلى فإنها لو كانت منعطفة إلى فوق لحبست ما ينزل إلى العين عندها، ولو كانت مسترسلة إلى أسفل لأضرت بالإبصار فلذلك خلقت منتصبة إلى قدام، ولولا صلابة مغرس هذه الأهداب في الجفنين لكانت تكون كما في الشعور مسترخية ولذلك جعل مغرسها في الجرم الغضروفي الذي ذكرناه ثم جعل هذا الجرم منثقباً لأنه لو كان مصمتاً لكان ما يحصل من الفضول بين الطاقين يحتبس بينهما ويضر بالجفن، فلذلك خلق ذلك الجرم منثقباً ولذلك يخرج من طرف الجفن الرمص ونحوه. ولأجل صلابة مغرس الأهداب ويبوسته قل جداً ما ينفذ في الشعر من الرطوبة فلذلك جميع الشعور تشيب في الكبر إلا هذه الأهداب لأن بياضها شديد الإضرار بالبصر. والله ولي التوفيق.

فصل
تشريح الأذن
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه اعلم أن الأذن عضو خلق... إلى آخر الفصل.
الشرح
كل حيوان يلد فله أذن بارزة ولا كذلك الحيوان الذي يبيض وذلك لأن آلة السمع تحتاج إلى صلابة ولذلك جعل عصبها من الزوج الخامس، وجعل منفذها من العظم الحجري كل ذلك لتكون هذه الآلة، صلبة وذلك لأن هذه الصلابة تعين على الصوت بقرع الهواء الحامل للصوت لها ولذلك فإن ما كان من الحيوان كثير الرطوبة حتى لا تكون هذه الآلة فيه شديدة الصلابة فإن ما كان سمعه لا يخلو من ضعف ولذلك خلق الإنسان يستعين على جودة سمعه بالأذن البارزة فإن هذه تعين على السمع بجمعها للهواء وكذلك الحيوان الكثير اليبوسة فإن سمعه لقوته يستغني عن تقوية هذه الآلة للسمع فلذلك كل حيوان يلد وله أذن بارزة لأن الحيوان إنما يلد إذا كان كثير الرطوبة حتى يمكنه أن يمد الجنين بالغذاء من رطوبة بدنه إلى أن يعظم، وكل حيوان يبيض فإن لا أذن له بارزة. فإن الحيوان إنما يبيض إذا كان بدنه قليل الرطوبة جداً حتى لا يكون فيه من الرطوبة ما يمد الجنين بالغذاء مدة تكونه.
وليس لقائل أن يقول: لو كان الأمر كذلك لكان السمك أولى بأن تكون له أذن بارزة وبأن يلد لأن رطوبات السمك كثيرة إلا أن نقول إن السمك لا شك أن رطوبة أعضائه كثيرة ولكن ليس في بدنه رطوبات تفضل لغذاء الجنين ولذلك فإن دمه قليل جداً، وسبب ذلك أن جميع ما يرد إليه من الرطوبات فإنه ينصرف إلى تغذية أعضائه فلا تبقى في بدنه رطوبة تستحق أن يندفع عنه إلى غذاء غيره أو إلى غير ذلك بخلاف الماشية ونحوها. وكل حيوان له أذن بارزة فإنه يحركها ليتوصل بذلك إلى جميع الهواء الحامل للصوت إلى جميع الجهات اللهم إلا كثيراً من أشخاص الإنسان فإنهم لا يحركون آذانهم.

وسبب ذلك أن الإنسان يسهل عليه توجيه ثقب أذنه إلى جميع الجهات لأجل سهولة حركة رأسه لذلك ولا كذلك غيره من الماشية ونحوها، وكذلك كل حيوان له أذن بارزة غير الإنسان فإن أذنيه تكونان فوق رأسه وذلك لأجل طأطأة رأسه خاصة عند المرعى، ونحو ذلك بخلاف الإنسان فإن أذنيه في وسط جانبي رأسه وذلك لأن الإنسان يسهل عليه تحريك رأسه إلى جميع الجهات.
وقوله: وجعل له صدف معوج ليحبس جميع الصوت أما فائدة صدفة الأذن فليكون له آلة لجمع الصوت كما في رأسي الباذهنج.
وأما فائدة تعويجه وتعريجة فليكون ما يقع في داخل هذه الصدفة ممنوعاً فيها من التعريج عند دخول ذلك الشيء في ثقب الأذن. وذلك لأجل احتباسه في ذلك التعريج.
قوله: وهذه العصبة في أحوال السمع كالجليدية في أحوال الإبصار هذا بناء على قولهم إن وقوع أشباح المرئيات هو على سطح الجليدية ونحن قد أبطلناه.
وألفاظ باقي الفصل ظاهرة. والله ولي التوفيق.

فصل
تشريح الأنف
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه تشريح الأنف يشتمل... إلى آخر الفصل.
الشرح
الأنف مخلوق لكل حيوان يتنفس الهواء وذلك كل حيوان له رئة، ويختص الإنسان بأن أنفه بارز من بين عينيه ليكون وقاية لهما مما يرد إلى العين من جهة الأنف ومنقار الطير يقوم له مقام الأنف. وأما الفيل فلما كان حيواناً عظيم الجثة جداً، وكان ارتفاعه كثيراً لم يكن أن يكون له عنق إذ لو كان له عنق لاحتاج أن يكون طويلا جداً ليصل رأسه إلى الأرض لأجل الرعي ونحوه.
ولو كان كذلك لم يتمكن من حمل رأسه فلذلك جعل عديم العنق، فلذلك تعذر تصويته من فمه وتعذر أكله بدون شيء ممتد يصل إلى الأرض ليأخذ به الغذاء من العشب وذلك الممتد يمكن أن يكون آلة يتنفس بها فلذلك خلق الخرطوم وذلك الخرطوم هو له أنف ومع ذلك فقد جعل آلة يتناول بها ما يتناوله بنفسه أو بشأن وجعل طرفها صلباً ليتمكن به من قطع العشب وغيره فلذلك أنف الفيل يقوم له مقام اليد ومأخذه خرطومه يوصله إلى فمه وهو في أعلى فمه ومن خصائص الإنسان أنه أضعف الحيوان شماً، فلذلك هو محتال على إدراك الرائحة بالتبخر والتسخين بسبب الحك ونحوه والأنف يبتدئ من أسفل واسعاً ثم يتضايق إلى فوق أما سعته من أسفل فليأخذ هواءً كثيراً، وأما ضيقه في أعلاه فليمكن ما يصحب الهواء المستنشق من النسيم ونحوه من النفوذ إلى داخل، وإنما ابتدأ من أسفل إلى فوق، ولم يحصل أو له فوق بحذاء آلة الشم، وذلك ليكون الهواء المجذوب إلى الرئة صعود ونزول معين على انجذابه وكذلك لاستحالة الخلاء وهذا كما في الأنابيب التي تعمل لانجذاب الماء فيها لأجل استحالة الخلاء، وعند أعلى الأنف منفذان دقيقان جداً ينفذان إلى داخل العينين بحذاء الموق الأعظم وفيهما تنفذ الروائح الحادة وغيرها إلى داخل العينين ولذلك تتضرر العينان برائحة الصنان القوي ولذلك أيضا تدمع عند شم مثل البصل ومن هذين المنفذين تندفع الفضول الغليظة التي في داخل العينين وهي التي تغلظ عند الاندفاع بالدموع. وإذا حدث لهذين المنفذين انسداد كما عند الغرب كثرت الفضول في العينين ولذلك تكثر أمراضها حينئذٍ وإذا انتهى الأنف إلى أعلاه انقسم المجرى هناك إلى ثلاثة أقسام:

قسم واحد غليظ متسع ينحدر مؤرباً إلى آخر فضاء الفم، وفيه ينفذ الهواء إلى الحنجرة وقصبة الرئة ثم إلى الرئة وقسمان دقيقان يصعد منهما الهواء إلى عظام المصفاة المثقبة، ومن هناك إلى داخل الأم الجافية في ثقوب الأم الجافية محاذية لثقوب تلك العظام ومن هناك تنفذ إلى الزائدتين الشبيهتين بحلمة الثدي اللتين في مقدم الدماغ وفي كل واحدة من تلك الزائدتين ثقب دقيق جداً يفضي إلى داخل الدماغ، فلذلك فإن الروائح لها تأثير قوي في الدماغ، وذلك لأجل نفوذها صحبة الهواء المستنشق في هذين الثقبين إلى داخل الدماغ. ومما يدل على أن إدراك الرائحة هو بهاتين الزائدتين أن الهواء المخالط للرائحة وإن كثرت تلك الرائحة وقويت فإن تلك الرائحة إنما تدرك إذا استنشق ذلك الهواء حتى بلغ هناك ولو كان إدراك الرائحة هو بالمنخرين لكنا ندرك تلك الرائحة بدون الاستنشاق وذلك إذا امتلأ المنخران من الهواء الحامل لتلك الرائحة ومن ذينك الثقبين تندفع الفضول من البطن المقدم من الدماغ إلى حيث ينتهي إلى الأنف في التصعيد فينزل بعضها في مجرى الحنك إلى فضاء الفم، وبعضها يخرج من الأنف وباقي ألفاظ هذا الفصل ظاهرة المعنى. والله ولي التوفيق.

فصل
الفم واللسان
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه والفم عضو ضروري...إلى قوله: يتوزع منهما العروق والكثير يسميان الصردين.
الشرح
كل حيوان يتنفس بالاستنشاق للهواء فإنه إنما يتنفس من أنفه فقط إلا الإنسان فإنه يتنفس من أنفه ومن فمه. وسبب ذلك أن الإنسان يحتاج كما بيناه أو لاً إلى الكلام وهو إنما يتم بتقطيع حروف يحتاج فيها إلى خروج هواء بعضه من الأنف وبعضه من الفم وإنما يتم ذلك إذا كان دخول الهواء هو أيضاً من هذين العضوين فلذلك يمكن للإنسان من التنفس وهو مطبوق الفم.
ويتمكن أيضاً من الكلام، وهو مطبوق الأنف. ولا كذلك غيره من الحيوانات المتنفسة وقد فتح بيطار فم فرس بآلة سدت منخريه فمات في الوقت. وقد بينا فيما سلف السبب في أن الحيوان يكتفي بفم واحد يدخل فيه الغذاء ولا كذلك النبات فإنه يحتاج إلى أفواه كثيرة جداً، وهي أطراف أصوله لأنه يأخذ الغذاء بالإرادة وينقله إلى فمه فلذلك يكتفي بواحد ولا كذلك النبات فإنه يأخذ الغذاء بالطبع وبالجذب الطبيعي فيحتاج إلى أفواه كثيرة حتى إذا تعذر الجذب ببعضها لأجل عوز المادة ونحو ذلك يمكن من ذلك الجذب بالباقي وما كان من الحيوان أن يمضغ المأكول قبل بلعه، فإنه لا يحتاج إلى سعة كبيرة في فمه وفي مجرى الغذاء منه إلى داخله ولا كذلك ما يبلع المأكول بدون تصغير الإنسان وحده غير محتاج إلى قوة حركة فكه للعض ونحوه، بخلاف باقي الحيوان فإن منها ما يحتاج إلى ذلك ليكون فمه كالسلاح له ومنها ما يحتاج إلى ذلك ليكون قبضه على الصيد ونحوه قوياً ومنها ما يحتاج إلى ذلك لأجل حاجته إلى تكسير مأكوله بفمه ونحو ذلك وأما الإنسان فإنه لما كان يتخذ الغذاء بالصناعة ليستغني عن ذلك كله، فلذلك فكه المتحرك أخف وأضعف حركة من غيره. وجميع الحيوان يحرك فكه الأسفل إلا التمساح فإنه يحرك فكه الأعلى.
وقد بينا السبب في ذلك كله عند كلامنا في تشريح العظام، وجميع آلات الحواس، فإن كل آلة منها تزيد على واحدة وكذلك اللسان أيضاً ولكن اللسان اختص بأن فرديه ملتصق أحدهما بالآخر ولا كذلك لسان بعض الحيات فإنه مقسوم فيها باثنين وإنما اختص اللسان بالتصاق أحد فرديه بالآخر لأنه لو بقي على حاله مقسوماً بإثنين كما في تلك الحيات لزم ذلك عسر المضغ. وكان الكلام يختل في الإنسان فلذلك لصق فرداه، وجعل لساناً واحداً وألسنة الأجنة بيض الألوان لأن لحم اللسان كذلك وإنما يحمر اللسان بعد الولادة وذلك لما يلزمه من الدم في العروق المنبثة فيه.
وألفاظ الكتاب ظاهرة. والله ولي التوفيق.
فصل
تشريح أعضاء الحلق
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه نعني بالحلق الفضاء الذي فيه مجرى النفس... إلى قوله: وأما القصبة والمريء فنذكر تشريحها من بعد.
الشرح

الحلق كما قاله هو الفضاء الذي فيه مجرى النفس والغذاء وفيه اللهاة واللوزتان والغلصمة وأما الفم فهو مقدم الحلق وأسفله فلذلك يعد اللسان من أجزاء الفم الأعلى لا من أجزاء الحلق وأعني الحنك وهو سقف الحلق واللهاة عضو مستطيل أعلاه متصل بسقف الحلق وأسفله يحاذي الحنجرة وفي طرفه الأسفل جرم مستدير كالكرة وجوهرة جوهر لحمي عصبي والمنافع المشهورة له ثلاث وقد ذكرها الشيخ.
وأما اللوزتان فهما النغانغ وتسمى أصول الأذنين ويقال لهما في العرف العام نبات الأذنين وهما عضلتان في جانبي الحلق. وقد عرفناهما، وعرفنا منافعهما وذلك عند كلامنا في العضل فليرجع غليه من هناك.
ولقائل أن يقول: كيف يجوز أن يعد هذان العضوان من العضل وليس شيء منهما يحرك البتة عضواً من الأعضاء؟ وجوابه: أنه ليس من شرط العضل أن يكون محركاً لعضو ما، بل أن يكون من شأنه تحريك شيء ما وإن لم يكن ذلك الشيء عضواً وهاتان العضلتان تعينان على تحريك الممضوغ وتبليغه إلى فم المريء وذلك أنهما يتشبثان بالأغذية ويدفعانها إلى ذلك الموضع، ولذلك إذا عرض لهاتين العضلتين آفة تضعف فعلهما يعسر حينئذٍ نفوذ الأغذية إلى المريء وذلك كما إذا أصابها يبوسة شديدة ونحوها.
فإن قيل: إن هذا يتم ولو كان جوهرها من لحم وعصب فقط، ولا يلزم أن يكونا عضلتين فإن العضل لا بد في تحقيقه من عصب ورباط... ولحم جاسي لما يثير ذلك من خلل.
قلنا: مسلم أن هذا الفعل يتم وإن لم يكن في جوهر هذين رباط، ولكن ذلك الفعل يكون ضعيفاً فإن العصب إنما يقوى فعله في التحريك إذا كان معه أجزاء رباطية فلذلك هذان العضوان إنما يشتد فعلهما ويقوى إذا كانا عضلتين ومن منافعهما أيضاً أنهما يكملان تكون الصوت ويقويانه، وذلك لأنهما يضيقان، ما يحاذي فم الحنجرة فإذا خرج الهواء من الحنجرة خرج من متسع إلى موضع ضيق ثم بعد ذلك الموضع إلى فضاء الحلق، ولذلك يشتد الصوت ويقوى ولذلك فإنما يعرض لهاتين العضلتين من الآفات يلزمها تغير في الصوت، وتعسر في بلع الأغذية. والله ولي التوفيق.

فصل
تشريح الحنجرة والقصبة والرئة
إن الشيخ رتب الكلام في التشريح مبتدئاً من تشريح الأعضاء التي هي في أعلى البدن. ومنتقلاً إلى ما هو أسفل من تلك الأعضاء حتى ينتهي إلى الرجلين. وكانت الأعضاء المؤلفة التي تحت الرأس من باطن هي هذه الأعضاء وجب أن يأخذ في تشريحها بعد الكلام في تشريح الرأس، وما يتصل به من الأعضاء، وإنما جمع الكلام في تشريح هذه الأعضاء في فصل واحد لأن معرفة هيئة كل منها يستدعي معرفة هيئة الآخر.
ونحن نجعل كلامنا في هذا الفصل يشتمل على ثلاثة مباحث:
البحث الأول
تشريح قصبة الرئة
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه فأما قصبة الرئة فهي عضو... إلى قوله: فهذه صورة قصبة الرئة.
الشرح قد علمت أن في الحلق مجريين، وهما مجرى الغذاء ومجرى النسيم ومجرى النسيم أشرف لا محالة من مجرى الغذاء والخطر في الأمور الضارة به أعظم وذلك لأن الانقطاع عن الغذاء لآفة في مجراه، ونحو ذلك قد يبقى الحياة معه مدة ولا بعض ساعة، فلذلك مجرى النسيم أشرف كثيراً من مجرى الغذاء، ومقتضى القياس أن يكون الأشرف محروساً بالأحسن، ويتوقى به ويلزم ذلك أن يكون مجرى الغذاء من قدام ليكون وقاية لمجرى النسيم.
فما السبب في مخالفة هذا الأمر، وجعل مجرى النسيم وهو قصبة الرئة والحنجرة من قدام؟ السبب في ذلك أمور: أحدها: أن مجرى النسيم يحتاج أن يتصل بالرئة في وسط ما بين جانبيها وخلفها وأمامها ليكون نفوذ النسيم إلى أجزاء الرئة على الوجه العدل، وإنما يمكن ذلك بأن يكون هذا المجرى مائلاً إلى قدام بقدر صالح وذلك مما لا يحتاج إليه مجرى الغذاء.
وثانيها: أن كل موضع هو أميل إلى باطن البدن فهو أشد سخونة مما هو أميل إلى ظاهره فإن المائل إلى الظاهر يبرد لا محالة بملاقاة الهواء الخارجي أو ما يقارب ملاقاته ولا كذلك المائل إلى داخل البدن، فلو كان مجرى النسيم خلف مجرى الغذاء لكان مائلاً إلى داخل البدن فكان النسيم الداخل فيه يسخن قبل نفوذه إلى القلب فتبطل فائدته في التطفئة أو يقل ولا كذلك إذا كان هذا المجرى من قدام.

وثالثها: أن أعلى العنق ليس يتسع بأن يكون مجرى الغذاء ومجرى النسيم دائماً مفتوحين واسعين فلا بد من أن يكون في أعلى العنق أحد هذين المجريين يحتاج عند انفتاحه إلى تضيق الآخر، وذلك بأن يكون انفتاحه عند انطباق الآخر فإن هذا المكان غير متسع لانفتاحهما معاً في وقت واحد وإذا كان كذلك وجب أن يكون مجرى النسيم من قدام ولكن حاجة هذا المجرى إلى الانفتاح هو في أو قات متقاربة جداً بخلاف مجرى الغذاء فإنه إنما احتاج إلى الانفتاح عند ازدراد الطعام، وذلك إنما يكون في أو قات متباعدة فلذلك كانت حاجة مجرى النسيم إلى الانفتاح أكثر كثيراً من حاجة مجرى الغذاء، فلذلك يجب أن يكون مجرى النسيم من قدام، لأن المجرى المقدم أسهل انفتاحاً من المؤخر لأن المقدم لا عائق له عن الانفتاح إلا من ورائه فقط إذ لا مزاحم له في باقي الجهات، ولا كذلك المجرى المؤخر فإنه يكون نحيف بالأعضاء وهي لا محالة مزاحمة معاوقة عن الانفتاح فلذلك يكون انقتاح المجرى الداخل أعسر، فلذلك وجب أن يكون مجرى النسيم يحتاج من قدام لأنه أشد حاجة إلى كثرة الانفتاح وإنما يسهل ذلك إذا كان موضوعاً من قدام.
ورابعها: أن مجرى النسيم يحتاج أن يكون صلباً ليمكن حدوث الصوت بانقراعه بالهواء الخارج منه بقوة، ولا كذلك مجرى الغذاء فإن اللين أو فق له ليمكن أن يتشكل تجويفه المزدرد، وإذا كان كذلك وجب أن يكون مجرى النسيم من قدام لأنه لأجل صلابته يقل انفعاله عن المصادمات ونحوها.
وخامسها: أن مجرى النسيم يحتاج أن يكون في أعلى الحنجرة و هي تحتاج أن يكون تجويفها متسعاً لما نقوله بعد. وأعلى العنق ضيق فواجب أن يكون مجرى النسيم من قدام ليتمكن أعلى العنق أن يتمدد إلى قدام، ويبرز عن مسامته باقي أجزاء العنق ولا يمكن ذلك إذا كان هذا المجرى من خلف لأن مجرى الغذاء كان يعاوق عن هذا البروز قوله: دوائر وأجزاء دوائر.
أما أسافل القصبة فإنها دوائر تامة ليكون ما يحتوي عليه من التجويف أو سع وأما أجزاء الدوائر فإنها إنما تكون في أعالي هذه القصبة وذلك لأن هذه القصبة هناك تلاقي المريء ويضيق المكان عن تجويفي هذه القصبة مع تجويف المريء فلذلك يحتاج أن يجعل التجويفان في تجويف واحد، فيكون عند ازدراد اللقمة واحتاج المريء إلى الاتساع لها يستعين المريء بتجويف هذه القصبة فيتمدد جرم المريء من قدام حتى يلاقي داخل محيط هذه القصبة من قدام.
وإذا دخل النسيم المستنشق في تجويف هذه القصبة واحتيج إلى اتساعها له تمدد جرمها من خلف ودخل في بعض تجويف المريء، وإنما يمكن ذلك إذا كان ما بين تجويف المريء وتجويف هذه القصبة جرماً شديداً لقبول التمدد، وإنما يكون ذلك إذا كان غشاء فلذلك لا يمكن أن يكون غضروفياً فإن الغضاريف لا يسهل قبولها لهذا التمدد. فلذلك مؤخر هذه القصبة هناك لا يكون غضروفياً بل غشائياً.
ويلزم ذلك أن لا تكون الدوائر الغضروفية هناك تامة. وينبغي أن يكون هناك أنصاف دوائر لأنها لو كانت أقل أو أكثر من أنصاف دوائر لم يكن ما يستعينه المريء من تجويف هذه القصبة حينئذٍ عظيماً فلم يمكن أن يتسع اتساعاً كثيراً، ثم لو كانت أكثر من أنصاف دوائر لكانت تضيق المكان على المريء كثيراً، وأما أسافل هذه القصبة وعند قرب الرئة فإن تأليفها هناك يكون من دوائر تامة وذلك لأن هذه القصبة في أسافلها تنحرف كثيراً عن المريء إلى قدام، والمريء ينحرف إلى خلف أما انحراف أسافل هذه القصبة إلى قدام فلأنها تتوجه بذلك إلى وسط جهات أعلى الرئة ليتصل بها في ذلك الوسط لتكون قسمة النسيم على جميع أجزاء الرئة قسمة عادلة.
وأما انحراف المحاذي لذلك من المريء إلى خلف فلأنه يتوجه بذلك إلى الاتكاء على عظام الصلب وهي أن أسافل العنق يأخذ في الميل إلى خلف ليتوسع ما بين مؤخر الصدر، ومقدمه فيكون مكان القلب والرئة متسعاً.
قوله: ويجري على جميع ذلك من الباطن غشاء أملس إلى اليبس والصلابة ما هو أكثر الأعضاء التي يجب فيها أن يكون الأمر بعكس ذلك فيكون باطنها أشد صلابة من ظاهرها وسبب ذلك أمور:

أحدها أن هذا الغشاء يحتاج فيه أن يكون قليل الانفعال وإنما يكون كذلك إذا كان قوي الجرم، وإنما يكون كذلك إذا كان صلباً، وإنما يكون كذلك إذا كان يابساً. وإنما احتيج أن يكون قليل القبول للانفعال ليكون صبوراً على ملاقاة ما ينزل في هذه القصبة من المواد الحادة التي تنزل من الدماغ، وسبب حدة هذه النوازل إما شدة عفونة المادة أو كثرة مخالطة المواد لها، فإن فضول الدماغ يجب أن يكثر فيها المرار، لكن المادة الواصلة إليه لتغذيته لا بد من أن تكون كثيرة المرار، وإلا لم يسهل تصعدها إلى الدماغ واغتذاء الدماغ إنما هو بالأجزاء الرطبة الباردة من تلك المادة ولذلك تبقى المواد الحادة المخالطة لما يفضل عن غذائه كثيرة جداً. فلذلك كثيراً ما تكون النوازل من الدماغ حادة جداً، ومن جملة النوازل ما ينزل إلى تجويف هذه القصبة.
وثانيها: أن هذا الغشاء يحتاج أن يكون إلى صلابة ليقل تضرره لما يتصعد فيه من الدخانية التي تخرج مع الهواء المتردد في التنفس وليقل أيضاً قبوله لتمديد النسيم الكثير الداخل فيه فلا يعرض له من انشقاق ونحوه عندما يعرض حين اشتعال القلب في الحميات المحرقة وغيرها من جذب هواء كثير للتنفس.
وثالثها: ليكون الصوت الحادث بقرع الهواء الخارج بقوة قوياً فإن قوة الصوت بقرع الأشياء الصلبة أكثر من قوته بقرع الأشياء اللينة.
قوله: وكذلك أيضاً من ظاهره وعلى رأسه الفوقاني الذي يلي لفم الحنجرة قد بينا السبب في صلابة الغشاء الباطن من غشاءي القصبة. وأما السبب في صلابة الغشاء الظاهر عند آخر هذه القصبة من فوق وذلك حيث يلي الحنجرة من أسفلها فذلك لأن هذا الموضع فيه لسان المزمار، وهو كثير الضيق فاحتيج إلى هذا الضيق لينحصر عنده الهواء النافذ من أسفل هذه القصبة إلى أعلاها بقوة وهو الهواء الذي يتزايد به الصوت ويلزم ذلك أن يكون عند خروجه من هذا الموضع إلى فضاء الحنجرة بقوة ويلزم ذلك شدة قرعه لجرمها، وسبب هذا الانحصار أن باقي هذه القصبة كثير السعة فيكون الهواء الخارج فيه بقدر تجويفها فإذا بلغ هذا الموضع صادف هناك الضيق ولم يتسع لذلك الهواء وانحصر فيه وما يصعد بعده يدفعه للخروج وإذا خرج من ذلك الموضع صادف تجويفاً متسعاً وهو تجويف الحنجرة ومن شأن ما ينفذ من سعة إلى مضيق ومن ذلك المضيق إلى سعة أن يكون نفوذه في ذلك المضيق اشد وأقوى كما تبين في العلوم الأصلية فلذلك يكون قرع هذا الهواء لجرم الحنجرة بقوة قوية، ويلزم من ذلك قوة الصوت وإنما سمي هذا لسان المزمار لأنه يشبه ما يسمى في المزمار لساناً، وهو الموضع المستدق الذي بين أنبوبة رأسه الغليظ.
ولما كان هذا الموضع ضيقاً بالنسبة إلى باقي قصبة الرئة فالهواء الواصل إليه من القصبة لا بد وأن يشتد تمديده لجرمه طلباً لتوسيع المكان له فلو لم يكن الغشاء الخارج في ذلك الموضع الملبس عليه من خارج صلباً قوياً يقوى ذلك الهواء على توسيعه بقوة تمديده له فتبطل لذلك فائدته أو تنقص فلذلك احتيج أن يكون الغشاء الخارج في ذلك الموضع شديد الصلابة بالنسبة إلى باقي الغشاء الخارج الذي لهذه القصبة.

قوله: وأما ضيق فوهاتها فليكون بقدر ينفذ فيها النسيم إلى الشرايين المؤدية إلى القلب فإن فوهات شعب قصب الرئة تتصل بفوهات شعبة الشرايين والتي فيها ليتصل منها النسيم إلى القلب ولا ينفذ إليها دم، وعدم نفوذ الدم الذي ينبث في الرئة ليخالط الهواء، ويحدث من مجموعهما ما يستعد لأن يصير في القلب روحاً لأجل ضيق فوهات هذه الغضاريف المتفرقة في هذه الرئة فإن هذا الدم بغاية الرقة وهو لا ينفذ في فوهات هذه ومع ذلك ينفذ الدم الغليظ المنفصل من الرئة بسبب جراحة تحدث لها ونحو ذلك، ولذلك تنفذ فيها المدة والبلغم الغليظ الخارج بالنفث ولو كان الضيق هو المانع من نفوذ ذلك الدم فيها لكان امتناع نفوذ الدم الغليظ والمدة والبلغم بطريق الأولى بل السبب في نفوذ هذه وتعذر ذلك الدم هو أن الرئة من شأنها التمسك بذلك الدم الرقيق ليجعله مع الهواء الذي فيها مستعداً لأن يصير في القلب روحاً وهذا التمسك يمنع ذلك الدم من النفوذ في تلك الأفواه، وكذلك الدم الذي تغتذي به الرئة وأما الدم الغليظ الخارج من الجراحة ونحوها فإن الرئة تدفعه عنها ولا تمسكه لئلا تفسد المادة التي تعدها لأن تصير روحاً فلذلك يضطر إلى النفوذ في أفواه تلك الغضاريف إذا لا منفذ له في الرئة سوى تلك الأفواه إلا في الأوردة والشرايين ولو نفذ في هذه لكان اندفاعه يكون إلى القلب فيكون ضرر ذلك عظيماً جداً، وكذلك الحال في البلغم الغليظ والمدة ونحو ذلك فإن الرئة جعلت بالطبع تدفع فضولها إلى هذه الغضاريف ليخرج بالنفث فإنها إذا لم تندفع من هناك وجب نفوذها إلى القلب، وفي ذلك من شدة الضرر ما لا يخفى فلذلك جعلت عروق الرئة سهلة الإنصداع ولذلك يكثر بالناس حدوث نفث الدم مع أنه شديد الخطر ينتقل كثيراً إلى السل وما ذلك إلا ليكون الدم مهما كثر في الرئة وضربها دفعته إلى تلك الغضاريف وإنما يكون ذلك بانصداع أو عيته ولولا ذلك لكان ينفذ إلى القلب، فيشتد بذلك تضرر القلب والله ولي التوفيق.

البحث الثاني
تشريح الحنجرة
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه أما الحنجرة فإنها آلة... إلى قوله: وقد ذكرنا تشريح غضاريف الحنجرة وعضلها في كتابنا الأول.
الشرح أما غضاريف الحنجرة وعضلاتها وأغشيتها وكيفية اتساعها تارة وضيقها أخرى وانفتاحها تارة وانسدادها أخرى فكل ذلك قد فرغ منه عند الكلام في تشريح العضل.
قوله: وقد يقابله من الحنك جوهر مثل الزائدة التي ينسد بها رأس المزمار هذا الجوهر هو اللهاة، فإنها مدلاة فوق فم الحنجرة لتفيد في تقرير الصوت، وتعديده ولينه .
قوله: إذا هم المريء بالازدراد ومال إلى أسفل لجذب اللقمة انطبقت الحنجرة وارتفعت إلى فوق.
ولقائل أن يقول: أن كل جسمين أحدهما مشدود بالآخر فإنهما لا محالة بسبب ذلك الشد يتلازمان فمتى تسفل أحدهما، تسفل الآخر وكذلك متى ارتفع أحدهما ارتفع الآخر.
وكذلك إلى أي جهة مال إليها أحدهما فلا بد من ميل الآخر معه إلى تلك الجهة، وإذا كان كذلك فكيف إذا مال المريء إلى أسفل ترتفع الحنجرة إلى فوق مع أن شد أحدهما إلى الآخر شداً وثيقاً.
قلنا: هذا يمكن بأن يكون انسداد المجرى بالحنجرة ليس بأن يكون جرم أحدهما مربوطاً بما يحاذيه من جرم الآخر، فإنه لو كان كذلك لكان تسفل المريء يلزمه تسفل القصبة والحنجرة بل بأن يكون الليف الممتد في طول المريء أو عند أعلاه نافذاً من عند أعلى المريء وسالكاً إلى أسفل الحنجرة، وبعض القصبة ماراً في سلوكه على موضع أعلى فلذلك إذا تحرك المريء إلى أسفل لأجل بلع اللقمة انجذب ذلك الليف معه إلى أسفل من جهة أعلى المريء وأعلى الحنجرة وذلك عند قرب ظاهر الحلق من أسفل ويلزم ذلك انجذاب طرف ذلك الليف أعني الطرف الذي به يتصل بأسفل الحنجرة، وبأسفل القصبة وإنما يمكن هذا الانجذاب بأن يرتفع إلى جهة ظاهر الحلق، ويلزم ذلك انجذاب أسفل الحنجرة وأجزاء من القصبة إلى فوق فلذلك ترتفع الحنجرة والقصبة عند تسفل المريء لأجل الازدراد ويلزم هذا الانجذاب تمدد الحنجرة والقصبة في الطول، ويلزم ذلك ضيقها وانطباقها، ويلزم ذلك امتناع التنفس فلذلك الازدراد لا يجامع التنفس البتة.
وباقي ألفاظ الكتاب ظاهرة. والله ولي التوفيق.
البحث الثالث
تشريح الرئة
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه

وأما الرئة فإنها مؤلفة من أجزاء... إلى قوله: وهو شديد التعلق به والالتحام.
الشرح أما حاجة الرئة إلى الوريد الشرياني فلأن ينقل إليها الدم الذي قد لطف وسخن في القلب ليختلط ما يترشح من ذلك الدم من مسام فروع هذا العرق في خلل الرئة بالهواء الذي في خللها ويمتزج به من الجملة ما يصلح لأن يكون روحاً إذا حصل ذلك المجموع في التجويف الأيسر من القلب وذلك باتصال الشريان الوريدي لذلك المجموع إلى هذا التجويف، وأما ما يبقى من ذلك الدم فيكون في داخل فروع هذا الوريد الشرياني وينفذ من فوهاتها إلى جرم الرئة فإن يكون أغلظ من ذلك الدم الذي يرشح وأكثر مائية فلذلك يصلح لغذاء الرئة فلذلك هذا الوريد الشرياني مع أنه يوصل إلى الرئة غذاءها يوصل إليها الدم الشديد الرقة الصالح لأن يصير منه ومن جرم الهواء مما يمد الروح الحيواني وأما حاجة الرئة إلى الشريان الوريدي فإنه ينفذ فيه هذا الهواء المخالط لذلك الدم ليوصله إلى التجويف الأيسر من تجويفي القلب فيصير ذلك المجموع روحاً، وأنه ينفذ فيه ما فضل في هذا التجويف من ذلك المجموع فلم يصلح لأن يتكون منه روح وما فضل فيه من الهواء الذي سخن وبطلت فائدته في تعديل الروح والقلب واحتيج إلى إخراجه ليتسع المكان لما يدخل بعده من الهواء إما وحده وإما مخالطاً للأجزاء الدموية الشديدة اللطافة وليوصل ذلك إلى الرئة فيخرجه عند ردها النفس وأما حاجة الرئة إلى جرم الرئة من الهواء المجذوب في القصبة ولأن يخرج ما يفضل في الرئة من ذلك الهواء وما يفضل فيها من الرطوبات والدم ونحو ذلك فيخرج بالسعال نفثاً. وأما حاجة الرئة إلى اللحم فلأن يملأ الخلل الواقع بين هذه الأعضاء ويكون من جملة ذلك عضو واحد واحتيج أن يكون لحماً ليكون قريباً من الاعتدال بخلاف الشحم والسمين ونحوهما، واحتيج أن يكون هذا اللحم رخواً لئلا يمانع عن سهولة انبساط الرئة وانقباضها الذين لا بد منهما في التنفس وإنما يكون اللحم رخواً إذا كان كثير الرطوبة وإنما يكون كذلك إذا كانت المائية فيه كثيرة. وإنما يكون كذلك إذا كان غذاء الرئة من دم مائي وكذلك فإن الدم الواصل إلى القلب لا بد وأن يكون كثير المائية واللطيف منه الهوائي يصير روحاً والقلب إنما يغتذي بالمتين الكثير الأرضية فلذلك تبقى المائية لغذاء الرئة فلذلك قول من قال: إن غذاء الرئة بدم صفراوي مما لا صحة له البتة وكذلك تحتاج الرئة أن يكون لحمها متخلخلاً وذلك ليكون كثير المسام واسعها والغرض بذلك أن تمتلئ الفرج التي في جرمها هواء فتعدل بذلك الهواء ويخرج مما يرشح إلى جرمها من الدم اللطيف الهوائي الذي لا يصلح لغذاء الرئة، ولكنه يصلح لأن يخالط ذلك الهواء يحدث من مجموعهما جرم يصلح لأن يستحيل في القلب دماً ولما كان بين جانبي الإنسان أكثر كثيراً مما بين خلفه وقدامه خاصة في صدره وجب أن تكون الرئة مقسومة بقسمين أحدهما يذهب يميناً والآخر يذهب شمالاً ليكون ملؤها للجانبين وانقسامهما فيهما على السواء فلذلك يجب أن يكون هذان القسمان لفضاء الصدر، وليس في اليمين هذا أيضاً لا يصح.
وذلك لأن ميل القلب إلى الشمل، إنما هو عند رأسه المستدق، وذلك يسير جداً، ومع ذلك فإن هذا الميل هو في أسافل الصدر، وانقسام الجانب الأيمن من الرئة، إلى الأقسام الثلاثة هو في أعالي الرئة فلا يكون القسم الخامس الذي يراد به الجانب الأيمن على اليسر واقعاً في الموضع الذي أخلاه القلب بانحرافه إلى الجانب الأيسر.
قوله: والصدر مقسوم إلى تجويفين بلا شك بأن الصدر يغشيه من داخل غشاء وهو في الحقيقة غشاءان أحدهما في يمين الصدر، والآخر في يساره وإذا التقى طرف كل واحد منهما بطرف الآخر من قدام ومن خلف افترقا بعد ذلك فيمر الأيمن في الجانب الأيمن و يلقى الوسط إلى أن يتصل بطرفه الآخر المقابل لذلك الطرف. وكذلك يمر الأيسر في الجانب الأيسر ويلقى الوسط، ونفوذ كل واحد منهما في جانبه ليس على الاستقامة فإنهما جميعاً ينتحيان عن موضع القلب وغلافه فلا يمر واحد منهما بجرم القلب وإلا كان يخرقه فلذلك يبقى القلب وغلافه بين هذين الغشاءين فينقسم الصدر بذلك بنصفين، والقاسم له غشاءان يفترقان عند موضع القلب ويتلاقيان في غير ذلك الموضع.

قوله: وفي الحجاب ثقبان الكبير منهما منفذ للمريء والشريان الكبير والأصغر ينفذ فيه الوريد المسمى الأبهر.
هذا الكلام لست أفهمه، فإن الشريان ليس يحتاج في نفوذه إلى خرق الحجاب أما الصاعد فلأنه فوق الحجاب ليس يجذبه البتة.
وأما النازل فلأنه إنما يمر بالحجاب عند أسفله وذلك عند الفقرة الثانية عشرة من فقار الظهر.
وفي آخر فقار الظهر وهو هناك لا يخرق الحجاب بل يمر وراءه لأنه يمر متوكئاً على عظام الصلب. والله ولي التوفيق.

فصل
تشريح القلب
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه أما القلب فإنه مخلوق... إلى قوله: وإن كان أشبه الأعضاء بها لكن تحركها غير إرادي.
الشرح

إن فعل القلب كما بيناه أو لاً: أن يولد الروح الحيواني ويوزعه على الأعضاء لتحيا، وتوليده ذلك بأن يسخن الدم ويلطفه حتى إذا خالطه بما في الرئة من الهواء صلح ذلك المجموع لأن يصير روحاً حيوانياً. وذلك إذا حصل في القلب فلا بد من أن يكون له تجويف يحوي الدم الذي يحتاج إلى تسخينه وذلك بما يحدث فيه من الغليان الذي يلزمه تخلخل الجرم وانبساطه فلذلك لا يكفي في ذلك أن يكون ذلك الدم محوياً في العروق لأن العروق لا تتسع لهذا الانبساط الذي يحتاج إليه لأجل ترقق القوام جداً، فلا بد من أن يكون له تجويف آخر يحوي الروح الحيواني ومنه ينفذ في الشرايين إلى جميع الأعضاء وهذه الروح لا بد من أن تكون شديدة اللطافة هوائية فهي لا محالة مستعدة لسرعة التخلخل فلا بد من أن يكون القلب يمدها كل وقت بالغذاء وغذاؤها لا بد من أن يكون هوائياً يغلب على جوهره الجوهر الهوائي وإنما يمكن ذلك بمخالطة الأجزاء اللطيفة جداً الدموية لجوهر كثير هوائي وامتزاج ذلك المجموع وانطباخه حتى يستعد لأن يصير في القلب روحاً. وهذا الانطباخ والامتزاج لا يمكن أن يكون أو لاً في القلب فاستبين أن القلب دائماً في انبساط وانقباض وذلك ينافي بقاء ذلك الجرم فبه مدة في مثلها تمتزج وتنطبخ فلا بد من أن يكون ابتداء هذا الانطباخ والامتزاج في عضو آخر حتى إذا حصل له الاستعداد الذي به يقرب من طبيعة الروح نفذ إلى التجويف المملوء من الروح الذي في القلب فاستحال في ذلك التجويف إلى مشابة تلك الروح، وكان منه اغتذاؤها، وهذا العضو الذي يفيد هذا الاستعداد لا بد من أن يكون مشتملاً على هواء كثير يخالطه ما يلطفه القلب من الدم حتى يصير من مجموع ذلك مادة تصلح لتغذية هذا الروح فلا بد من أن يكون بالقرب من القلب فإنه لو كان بعيداً عنه لقد كان الرقيق من الدم النافذ إليه من القلب قد يبرد في المسافة الطويلة ويكثف فتبطل لذلك لطافته، وكان لم ينفذ من ذلك العضو من الهواء الخارج لتلك الأجزاء الدموية الذي استعد لتغذية الروح إلى أن يصل إلى القلب ويبرد ويفارقه ذلك الاستعداد فلذلك لا بد من أن يكون هذا العضو الذي يستعد فيه هذا المجموع لتغذية الروح مع كثرة الهواء فيه هو أيضاً بقرب القلب وذلك العضو هو الرئة فلذلك لا بد من أن يكون اغتذاء الروح الذي في القلب بأن يلطف الدم في القلب ويرق قوامه جداً ثم بعد ذلك ينفذ في الرئة ويخالطه ما فيها من الهواء وينطبخ فيها حتى يتعدل ويصلح لتغذية الروح ثم بعد ذلك ينفذ إلى الروح الذي في القلب ويختلط به ويغذوه وهذا الموضع الذي هو في القلب وفيه الروح لا بد من أن يكون متسعاً ليتسع بمقدار كفاية البدن كله من الروح فلذلك لا بد من اشتمال القلب على تجويف مجرى الدم، ويتلطف فيه ذلك الدم، وتجويف آخر يحوي الروح ومن ذلك التجويف ينفذ الروح إلى جميع الأعضاء ولا بد من أن يكون التجويف الذي فيه الدم بالقرب من الكبد الذي فيه يتكون الدم، وذلك بأن يكون في الجانب الأيمن من القلب، فإن موضع الكبد هو في الجانب الأيمن من البدن فلا بد من أن يكون التجويف الحاوي للروح هو في الجانب الأيسر من القلب ويجب أن يكون هذا التجويف الأيسر أكثر سعة من التجويف الأيمن لأن الدم الذي يخالط الهواء ويمتزج فيه يكفي فيه أن يكون قليل المقدار جداً لأن الغالب على هذا الروح يجب أن يكون هو الهواء نفسه فلذلك هذا الدم الذي يحتاج إلى تلطيفه في القلب لا يحتاج فيه أن يكون كثيراً جداً، وأما الروح الذي في الجانب الأيسر، فإنه يجب أن يكون كثيراً جداً ليفي بالانتشار في جميع الأعضاء فلذلك يحتاج أن يكون مكانه كثير السعة فلا بد من أن يكون هذا التجويف مع سعته عميقاً. ويلزم ذلك أن يكون القلب طويلاً ليتسع لعمق هذين التجويفين ولا بد من أن يكون فيه موضع كثير السعة ليتسع لهذين التجويفين ويجب أن يكون هذا الموضع الكثير السعة من القلب هو في أعلاه ليكون كل واحد من التجويفين بقرب الرئة فيسرع إليها وصول الدم الذي قد تلطف في التجويف الأيمن ويسرع إلى القلب نفوذ ما استعد في الرئة لتغذية الروح لينفذ بسرعة إلى التجويف الأيسر فلذلك يجب أن يكون أو سع موضع في القلب هو في أعلاه، وأما أسفله فيجب أن يكون رقيقاً لفقدان هذين التجويفين هناك. ولأن الغلظ هناك فضل غير محتاج إيه، ومع ذلك يضيق المكان على

الأعضاء التي لا بد منها هناك. ولأن الغلظ هناك فضل غير محتاج إليه، ومع ذلك يضيق المكان على الأعضاء التي لا بد منها هناك ويجب أن يكون الانتقال من سعة أعلى القلب وغلظ جرمه إلى رقة أسفله بتدريج كتدريج البطن الأيسر في سعة أعلاه إلى ضيق أسفله، فلذلك يكون شكل القلب صنوبرياً. التي لا بد منها هناك. ولأن الغلظ هناك فضل غير محتاج إليه، ومع ذلك يضيق المكان على الأعضاء التي لا بد منها هناك ويجب أن يكون الانتقال من سعة أعلى القلب وغلظ جرمه إلى رقة أسفله بتدريج كتدريج البطن الأيسر في سعة أعلاه إلى ضيق أسفله، فلذلك يكون شكل القلب صنوبرياً.
قوله: مخلوق من لحم قوي الغالب على جرم القلب يجب أن يكون هو اللحم لأنه يحتاج أن يكون شديد الحرارة ليقوى على تلطيف الدم التلطيف المحتاج إليه فيما ذكرناه فلذلك يجب أن يكون الغالب على جرمه الجوهر اللحمي فإن ما سوى اللحم من الأعضاء فإن مزاجه بارد ويجب أن يكون هذا اللحم صلبا ليكون جرم القلب غير شديد القبول للانفعال من الواردات وإنما يكون اللحم صلباً إذا كانت الأرضية في جرمه كثيرة. ويلزم ذلك أن يميل لو نه عن لو ن اللحم الذي هو الحمرة إلى السواد يوجبه كثرة الأرضية في جرمه كثيرة، ويلزم أن يميل لو نه عن لو ن اللحم الذي هو الحمرة إلى السواد توحيه كثرة الأرضية.
وقد علمت أن الحق الذي ذهبنا إليه هو أن حركات القلب في انبساطه وانقباضه حركات إرادية وأن الحركات التي بالليف الجاذب الطولي، والدافع العرضي، والماسك المؤرب كلها حركات إرادية فلذلك أصناف الليف الذي فيه كلها حركات إرادية وإنما كثر فيه الليف ليزداد جرمه صلابة.
قوله: دقق منه الطرف الآخر كالمجموع إلى نقطة ليكون ما يبتلى بمماسة العظام أقل أجزائه. إن هذا الكلام مما لا يصح.
وذلك لأن أسفل القلب ليس البتة عنده عظم يلاقيه لأن القلب موضوع في وسط الصدر، وليس هناك البتة عظم وإنما العظام في محيط الصدر لا عند عظم يلاقيه لكان يلاقيه دائماً، وإنما كان أسفل القلب دائماً ممتلئاً والتألم والتضرر بملاقاته وذلك لا محالة مضعف لقوته.
قوله: كالأساس يشبه الغضروف في أصل القلب جرم أصلب من غيره من أجزاء القلب وتبلغ صلابته في بعض الحيوانات خاصة العظيم الجثة إلى أن يكون ذلك الجرم غليظاً وفائدة هذا الجرم فيما أظن أن يتصل به الجوهر الرباطي فإن الأربطة كما عرفته قبل جميعها يتصل بعظام قريبة من موضع بسطها إلى ليف العضل.
قوله: وفيه ثلاث بطون.
هذا الكلام لا يصح.
فإن القلب فيه بطنان فقط. أحدهما مملوء بالدم، وهو الأيمن، والآخر مملوء بالروح وهو الأيسر. ولا منفذ بين هذين المنفذين البتة. وإلا كان الدم ينتقل إلى موضع الروح فيفسد جوهرها. والتشريح يكذب ما قالوه.
فالحاجز بين البطنين أشد كثافة منه غيره لئلا ينفذ منه شيء من الدم أو من الروح فيضيع.
فلذلك قول من قال: إن ذلك الموضع كثير التخلخل باطل والذي أو جب له ذلك ظنه أن الدم الذي في البطن الأيسر إنما ينفذ إليه من البطن الأيمن من هذا التخلخل، وذلك باطل فإن نفوذ الدم إلى البطن الأيسر إنما هو من الرئة بعد تسخنه وتصعده من البطن الأيمن كما قررناه أو لاً.
قوله: ليكون له مستودع غذاء يتغذى به كثيف قوي يشاكل جوهره ومعدن يتولد فيه عن دم لطيف، ومجرى بينهما.
غرضه بهذه الدلالة على ثبوت البطون الثلاثة التي ظن ثبوتها وإنما هي بطنان فقط كما قررناه. وجعله للدم الذي في البطن الأيمن منه يغتذي القلب، لا يصح البتة.
فإن غذاء القلب إنما هو الدم المنبث فيه من العروق المنبثة في جرمه ولو كان القلب يغتذي من ذلك لكان يميله إلى مشابهة جوهره فكان يميله إلى الغلظ والأرضية وليس ذلك الدم كذلك إذ هو أرق من غيره من الدماء التي عند الأعضاء بل فائدة ذلك الدم أن يتلطف فيه ويرق قوامه جداً ويتصعد إلى الرئة ويخالط الهواء الذي فيها وينفذ بعد ذلك في الشريان الوريدي إلى التجويف الأيسر من تجويفي القلب فيكون من ذلك المجموع الروح الحيواني.
قوله: وذلك المجرى يتسع عند تعرض القلب وينضم عند تطوله.

إن هذا الذي يدعي وجوده ويسميه بطناً أو سط قد بينا أن لا وجود له فضلاً عن أن يكون حاله يختلف في الاستعراض والانضمام بحسب ما يدعى من تعرض القلب وتطوله فإن الحركة التي يعتبر فيها للقلب إنما حركة الانبساط والانقباض وأما التطول والاستعراض فمما لا أعتقد له وجوداً.
قوله: وقاعدة الأيسر أرفع، وقاعدة البطن الأيمن أنزل بكثير بسبب ذلك أن رأس القلب وهو طرفه الدقيق مائل إلى الجانب الأيسر كما بيناه.
ويلزم من ذلك أن يكون أعلاه على الصفة المذكورة.
قوله: بانبساط فيجذب الدم إلى داخله كما يجتذب الهواء.
المشهور أن البطن الأيمن من القلب له أيضاً انبساط وانقباض فإنه يجذب الدم بانبساط كما يجذب البطن الأيسر بانبساط النسيم.
وهذا عندنا من الخرافات.
فإن الجذب بالانبساط والانقباض إنما يكون لما لطف من الأجسام والدم ليس كذلك فإن الجسم الكثيف إنما يجذب بسبب الخلاء الحادث بالانبساط إذا لم يوجد جسم ألطف منه ينجذب بذلك فإن الخلاء إنما يجذب ما لطف ثم ما كثف إذا أعوز اللطيف والدم يكفي في انجذابه إلى القلب ما فيه من القوة الجاذبة الطبيعية كما في غيره من الأعضاء وانبساط البطن الأيسر وانقباضه كما نبين في غير هذا الموضع إنما هو لأجل تعديل الروح بالنسيم ودفع فضولها وتغذية الروح بما ينجذب من النسيم المخالط للطيف الدم. وهذا كله مما لا يتحقق في البطن الأيمن فلذلك هو، والله أعلم غير متحرك البتة.
قوله: وقد أخطأ من ظن أن القلب عضلة وإن كان أشبه الأشياء بها لكن بحركة غير إرادي.
قد بينا في مواضع كثيرة أن حركة القلب في انبساطه وانقباضه حركة إرادية وإن كنا لا نشعر بها، ولا بأنا مريدين لها، كما أن حركة العضل كذلك وأما أن القلب هل يسمى عضلة أو لا؟ فذلك مما لا يسوغ النزاع فيه. والله ولي التوفيق.

فصل
تشريح الثدي
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه الثدي عضو خلق لتكوين اللبن... إلى قوله: فإنه قد وقفت عليه من تشريح العروق.
الشرح
الحاجة إلى الثدي هو توليد اللبن ليكون غذاء الطفل، وإنما احتيج إلى ذلك ليكون هذا الغذاء شبيهاً جداً بجوهر الطفل لأنه يتولد من المادة التي تكون منها أعضاؤه وبها تغذت، وبيان ذلك أن كل حيوان يلد حيواناً، فإنه لا بد من أن يكون في بدنه رطوبة زائدة منها يتكون ذلك الحيوان ويغتذي منها مدة تكونه فما صلح من تلك الرطوبة للاستحالة إلى جواهر أعضائه كانت غذاء لها. وما لم يصلح لذلك وكان غير بعيد جداً عن جواهر تلك الأعضاء اندفع إلى الثدي واستحال فيه إلى حالة يصلح لتغذية أعضائه بعد الانفصال عن الرحم، وذلك هو اللبن، فلذلك كل حيوان يلد حيواناً، فإنه يتكون فيه اللبن وبه يغتذي طفله بعد الولادة. ولا كذلك الحيوان الذي يتولد بيض، فإن هذا الحيوان يكون بدنه قليل الرطوبة فلذلك جميع ما في بدنه من الرطوبة يخرج في البيضة فلذلك إذا تكون ذلك الحيوان لم يجد في بدن أمه ما يقوم بغذائه، ولذلك فإن الحيوان الذي يتولد في البيض يغتذي بالأشياء الخارجة من أو ل خروجه من البيضة، ولا كذلك الحيوان الذي يتولد في الرحم، فإنه عند ولادته إنما يغتذى باللبن لأن ما سواه يبعد جداً عن طبيعته فلذلك احتيج إلى الثدي لتوليد اللبن فإن الثدي في أو ل حلقة الأنثى يكون صغيراً جداً وإنما يعظم ويظهر ظهوراً بيناً عند وقت الحاجة إلى توليده اللبن، وذلك عند الوقت الذي يمكن فيه الولادة. وذلك بعد البلوغ. فلذلك يكون ثدي الطفلة صغيراً جداً ولا يزال كذلك حتى تقارب البلوغ. وحينئذٍ يزداد زيادة فاحشة، وإذا حبلت ازداد زيادة أكثر من ذلك بكثير. وأما الرجل فيكون ثديه صغيراً جداً وإن كملت خلقته وذلك لأن الحاجة إلى اللبن في الرجال قليلة جداً ونادرة فإن الرجل كثيراً ما تتكون في ثديه اللبن لطفل يحن عليه ونحو ذلك.

وكان لنا جار توفيت زوجته عن طفل رضيع. ولم يكن له جدة يتخذها مرضعة. فتولد اللبن في ثديه. وكان إذا عصر ثديه خرج منه لبن كثير. وكان لبعض كبراء أهل دمشق أتان توفيت بعد أن وضعت جحشاً، وعنده بغلة. فدر لتلك البغلة لبن كثير يجري من ثدي تلك البغلة. فكان إذا ركب تلك البغلة، وأخذ الجحش خلفها يستحي من الناس، وإذا ترك الجحش في الاصطبل صار اللبن يجري من ثدي تلك البغلة وهي تمشي تحته، وهو مستح من الناس. فلم يكن له إلا أن ترك ركوب تلك البغلة إلى أن فطمت الجحش. ومن خواص الإنسان أن ثدييه في صدره، وثديا الفيل يقربان من صدره. وثديا غيره يقرب من الرحم، وسبب ذلك أن قرب الثدي من الرحم أولى ليكون وصول المادة إليه من الرحم في حال الحمل أسهل. وطفل غير الإنسان يتمكن من الارتضاع من ثدي أمه وهو بقرب الرحم فلذلك وجب أن يخلق الثدي هناك في غير الإنسان من الماشية وغير ذلك. وأما الإنسان فإن ذلك تعذر فيه لأن طفل الإنسان لا يقوى على القعود ولا على القيام عقيب الولادة بل إنما يقوى على ذلك بعد مدة يعتد بها، وفي تلك المدة لا يتمكن من الارتضاع من الثدي إذا كان كما في الماشية. لأنه في تلك المدة يكون مستلقياً، فإنما يسهل ارتضاعه بأن يكون الثدي مرتفعاً عن وركي المرأة في حال قعودها بقدر يعتد به. وذلك بأن يكون في الصدر فإنه حينئذٍ يسهل دخول الحلمة في فم الطفل إذا كان مستلقياً على وركي أمه. وتختلف الحيوانات في عدد أثدائها لاختلافها في عدد الأولاد فيكون عدد الثدي في كل حيوان بعدد أكبر ما يولد لها في العادة. وأكثر ما للإنسان في العادة ولدان، فلذلك يكون له ثديان فقط. وأما الكلاب فأكثر عدد يولد لها عادة هو ثمانية، ولذلك لها ثمانية أثداء. قوله: لحم غددي لا حس له، أبيض اللون ولبياضه إذا تشبه به الدم أبيض.
هذا الكلام لا يصح. وذلك لأن اللحم الغددي وإن كان أبيض غير شديد بل يميل إلى الحمرة قليلاً والدم إذا شبه بهذا اللحم فإن كان التشبه به تاماً صار لو نه أبيض إلى حمرة لبياض ذلك اللحم، وإن كان ذلك التشبه أقل، كانت الحمرة أغلب لأن لو ن الدم يكون بطلانه حينئذٍ أق، واللبن كذلك فإن بياضه شديد جداً بل العلة في بياض اللبن هو ما يحدث له من الزبدية بسبب ما يعرض له من الغليان في الثدي، والزبدية يلزمها البياض على ما عرف في العلوم الأصلية. والله ولي التوفيق.

فصل
تشريح المريء والمعدة

إن الحيوان يخالف النبات في أمر الغذاء من وجوه المحتاج إلى ذكره ها هنا وجهان: أحدهما: أن الحيوان ليس يتناول الغذاء دائماً، فإنه يشتغل عنه بالنوم وبتحصيل مادة الغذاء ونحو ذلك. وثانيهما: أنه يتناول الغذاء بالإرادة وبالشهوة، ولا يقتصر على ما هو في نفس الأمر النافع بل على ما تدعو إليه الشهوة. ولا كذلك في النبات فإنه دائماً يجتذب الغذاء من الأرض، وإن كان هذا الجذب قد يضعف في بعض الأزمان كما في الشتاء. فإن النبات في الشتاء يقل جذبه للغذاء إنما هو بالطبع، وبالجذب الطبيعي، وأما دوام التحلل فهو مشترك بين الحيوان والنبات. ولما كان التحلل في الحيوان دائماً وورود الغذاء ليس دائماً فلا بد من أن يكون في أبدان الحيوان مادة معدة لتغذيته أو لاً فأولا حتى لا تجف أعضاؤه إلا أن يرد الغذاء إليه من خارج، وهذه المادة لا بد أن تكون صالحة لتغذية أعضاء الحيوان، وإنما يكون كذلك إذا كانت مركبة فإن الأجسام البسيطة لا يمكن أن تغذوا لأعضاء، ولا أن يتكون منها عضو أو جزء عضو لذلك لا بد من أن تكون هذه المادة جسماً مركباً، ولا بد من أن يكون مع ذلك ذا رطوبة يسهل انفعالها واستحالتها إلى جواهر الأعضاء. ولا بد من أن يكون مع ذلك سيالة حتى يتمكن من التحرك إلى كل واحد من الأعضاء الملاقية، فيتمكن ذلك العضو من إحالتها إلى طبيعته، وهذه المادة هي الأخلاط، فإذاً لا بد من أن يكون في أبدان الحيوان أخلاط. لكن هذه الأخلاط تقل في بعض الحيوان كما في السمك ويكثر في بعضها كما في الإنسان والفرس ونحو ذلك. والأخلاط لا يمكن أن تكون حاصلة في بدن الحيوان من أو ل زمان الخلقة إلى أن يفسد من غير أن تكون مستمدة من أجسام أخر يرد إليها من خارج فإن بدن الحيوان عند أو ل الخلقة لا يمكنه أن يتسع لما يكفي في تغذيته زماناً فيه تتم خلقته، فإن بدنه حينئذٍ يكون لا محالة أصغر من ذلك بكثير فكيف تكون فيه ما يكفي لهذه التغذية مدة عمر الحيوان، فلذلك لا بد من أن تكون هذه الأخلاط تستمد من أجسام أخر ترد إليها من خارج وتستحيل طبيعته إلى طبيعة تلك الأخلاط فإن من المستحيل أن يوجد في خارج البدن أخلاط حاصلة بالفعل حتى يمكن ورودها إلى أبدان الحيوانات، ويكون منها أخلاط بدون أن تستحيل على حالها التي هي عليها وهي في خارج البدن، فلا بد من أجسام أخر ترد إلى أبدان الحيوانات وتستحيل فيها إلى مشابهة المادة المعدة لتغذيتها، وتلك الأجسام تسمى أيضاً أغذية. وهي مثل الخبز واللحم والطعام للإنسان ولا بد أن تكون لهذه الأجسام التي تسمى أغذية في بدن الإنسان ونحوه عضو يحيلها إلى طبائع الأخلاط وذلك العضو هو الذي نسميه الكبد، وسندل على ذلك إذا بلغنا إلى تشريح الكبد. وهذه الكبد سنبين أن جذبها للغذاء لا بد أن يكون طبيعياً والجذب الطبيعي إنما يكون لما هو نافع موافق للغرض الطبيعي، وأخذ الحيوان الأجسام التي تسمى أغذية كما قلناه هو بالإرادة وبالشهوة وذلك ما لا يشترط فيه أن يكون في نفس الأمر موافقاً، فلذلك إذا أخذت الكبد منه النافع الموافق فلا بد أن يبقى منه ما ليس بموافق ولا نافع غير منجذب إلى الكبد. وهذا الشيء إن بقي في البدن دائماً فسد وأفسد الأخلاط وغيرها. فلا بد من أندفاعه وخروجه من البدن، وإنما يمكن ذلك بعد تمييزه عن الطبيعي والنافع. وإنما يمكن ذلك بعد أن يفعل فيه عضو آخر فيحيله إلى حالة يتمكن الكبد من جذب النافع منه دون غيره، وذلك العضو هو المعدة فإذا لا بد في اغتذاء الإنسان ونحوه من أن يكون له معدة يهضم الأجسام التي تسمى أغذية فتحيلها إلى حالة يتمكن الكبد بسببها من تخليص موافقها من غيره فتجتذب ذلك الموافق وتخطي من غيره فيحتاج إلى دفعه، وهذه المعدة لا يمكن أن تكون موضوعة عند الفم حتى يمكن أن ترد إليها الأجسام الغذائية من الفم من غير توسط يقبلها من الفم ويؤديها إلى المعدة. وذلك لأن المعدة لو كانت موضوعة هناك لكانت الكبد إذا أخذت النافع من تلك الأجسام احتاجت المعدة إلى دفع ما يبقى من الفضلات إلى أسفل لتخرج من مخارج الفضول التي بينا مراراً أنها لا بد من أن تكون في جهة مقابلة لجهة مورد الغذاء فلذلك لا بد من أن يكون في أسفل البدن فكانت تلك الفضول في اندفاعها لا بد من أن تمر على القلب إذ قد بينا أنه لا بد من أن يكون موضوعاً في الصدر، وكان يلزم ذلك

شدة تضرره وتضرر أرواحه بقذارات تلك الفضول، فلذلك ليس يمكن أن تكون المعدة موضوعة في موضع أعلى من القلب ولا يمكن أن تكون معه في الصدر وإلا كان القلب يتضرر بما يلزم من فعلها من الأبخرة والأدخنة لأنها كالمطبخ للغذاء، فلذلك لا بد من أن تكون موضوعة تحت الصدر وذلك في الجوف الأسفل. وإذا كانت المعدة موضوعة تحت الصدر هناك فصول الأجسام الغذائية إليها من الفم لا بد من أن يكون في وعاء يتصل بالحلق وبالمعدة حتى يمكن تأدية الأجسام الغذائية إليها من هناك إلى المعدة، وهذا الوعاء هو الذي يسمى بالمريء، فلذلك لا بد في تغذية الإنسان ونحوه من معدة ومريء. فلنتكلم الآن في تشريح كل واحد من هذين، بعون الله وتوفيقه، ونجعل الكلام في ذلك مشتملاً على ستة مباحث. والله ولي التوفيق.دة تضرره وتضرر أرواحه بقذارات تلك الفضول، فلذلك ليس يمكن أن تكون المعدة موضوعة في موضع أعلى من القلب ولا يمكن أن تكون معه في الصدر وإلا كان القلب يتضرر بما يلزم من فعلها من الأبخرة والأدخنة لأنها كالمطبخ للغذاء، فلذلك لا بد من أن تكون موضوعة تحت الصدر وذلك في الجوف الأسفل. وإذا كانت المعدة موضوعة تحت الصدر هناك فصول الأجسام الغذائية إليها من الفم لا بد من أن يكون في وعاء يتصل بالحلق وبالمعدة حتى يمكن تأدية الأجسام الغذائية إليها من هناك إلى المعدة، وهذا الوعاء هو الذي يسمى بالمريء، فلذلك لا بد في تغذية الإنسان ونحوه من معدة ومريء. فلنتكلم الآن في تشريح كل واحد من هذين، بعون الله وتوفيقه، ونجعل الكلام في ذلك مشتملاً على ستة مباحث. والله ولي التوفيق.

البحث الأول
تشريح المريء
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه أما المريء فهو مؤلف من لحم وطبقات غشائية... إلى قوله: ثم يستعرض بعد النفوذ في تبسط متوسعاً متصوراً فماً للمعدة.
الشرح إذا عرض مرض يلزمه تألم فم المعدة، فإنا نحس الوجع عند آخر عظام القص من أسفل. وذلك خلف الغضروف المسمى بالخنجري وكذلك إذا عرض خفقان معدي، فإنا نجده يجذب خلف هذا الغضروف ونحس به تحت القص، وكذلك إذا انصب إلى فم المعدة مادة حارة صفراوية كما يعرض كثيراً للصائمين في الصيف. وكذلك عند الإفراط في إخراج الدم في الفصد ونحوه فإنا نحس لذع تلك المادة عند آخر عظام القص، وكذلك إذا كثر انصباب السوداء إلى فم المعدة خاصة إذا كانت السوداء رديئة كما في كثير من أصحاب المراقيا فإنا نحس حينئذٍ لذع تلك السوداء عند آخر عظام القص وكذلك إذا حدث للطعام الكثير التخمة ونحوها فساد يحدث اللذع، فإنا نحس حينئذٍ ذلك اللذع عند آخر هذا الموضع. أعني عند آخر عظام القص من أسفل، وجميع هذا مما يوجب أن يكون فم المعدة هو في ذلك الموضع فلذلك فغن المشهور أن من جملة منافع الغضروف المعروف بالخنجري أنه وقاية لفم المعدة، وإذا كان كذلك إنما اشتهر بين الأطباء من أن المريء ينتهي عند الفقرة الثانية عشرة من فقرات الظهر، وأنه هناك يخرق الحجاب ويتسع ليكون منه فم المعدة، ظاهر أنه حديث باطل.
فإن هذه الفقرة هي آخر فقار الظهر، ويتصل بفقار القطن، ويتصل بها الضلع الذي هو أقصر أضلاع الخلف. وهو الضلع الآخر، وهذا الموضع لا شك أنه أنزل من الموضع المذكور، وهو عند آخر عظام القص بكثير ثم من المعلوم أن المعدة لا يمكن أن تكون عند فقار القطن فإن ذلك الموضع هو موضع الكلى والرحم، وكيف يمكن أن تكون المعدة هناك، وكثير من المعاء خاصة الدقاق موضع فوق السرة.
وقد عرفنا أن جميع المعاء موضوعة تحت المعدة ولو كانت المعدة عند القطن فالموضع الذي أعلاه عند آخر عظام القطن وأسفله عند محاذاة عظام القطن الذي يكون فيه من الأعضاء والمعلوم أن الكبد يشتمل على الجانب الأيمن من المعدة والطحال موضوع عند جانبها الأيسر، وأنزل من موضع الكبد ومع ذلك فإنا نحس الطحال عند الشراسيف اليسرى والكبد عند الشراسيف اليمنى يظهر ذلك إذا حدث لهذين العضوين ورم خاصة في الجانب المحدب، وهذا إنما يمكن إذا كان وضع المعدة فوق السرة فيما بين الجانبين ومن هذا يعرف أن ما قالوه في موضع انتهاء المريء وابتداء المعدة كاذب قبيح وذلك لأنهم يجعلون ذلك عند الفقرة الثانية عشرة، وذلك إذا كانت المعدة تبتدئ يلزم ذلك أن تكون موضوعة في اسفل البطن. ويكون أكثر الأمعاء فوقها.

وذلك لا محالة كذب محال.
والمريء كالجزء من المعدة لأنه يفعل فعلها في أخذ الغذاء وهضمه وأخذه للغذاء وهو بجذبه له بما فيه من الليف الطولي ويدفع ذلك المجذوب إلى أسفل فيعان ذلك بجذب الأجزاء السفلية، وهذا الدفع هو بالليف المستعرض وليس المراد أن جذبه ودفعه إنما بهذين الليفين فقط بل وبما فيه من الجذب والدفع الطبيعيين كما في جذب حجر مغناطيس الحديد، وأما جذبه ودفعه بالليف فقد بينا أن ذلك إنما يكون بفعل إرادي. ولكن الإرادة ها هنا من الإرادات الطبيعية كما بيناه فيما سلف. وإنما احتيج إلى هاتين القوتين أعني الإرادية والطبيعية ليتعاضدا على الجذب والدفع فيكون هذا الفعلان في المريء قويين وإنما احتيج إلى قوتهما فيه مع أن حركة الثقيل إلى أسفل سهلة، وذلك لأن نفوذ المريء إلى أسفل ليس على الاستقامة بل مع انحراف، قد بينا وجوبه حيث تكلمنا في تشريح الشرايين خاصة والمجذوب به والمدفوع لم يتصغر بعد أجزاؤه تصغيراً تاماً حتى يسهل نفوذه في المجرى مع ضيقه ولذلك فإن الغصص يقع كثيراً مع وجود هذه القوى في المريء، وإنما يهضم المريء للغذاء بما فيه من الأجزاء اللحمية فإن ذلك اللحم بحرارته يعين على الهضم الذي يتم بالطبخ، وأما الذي يكون بإحالة الصورة النوعية للمادة إلى مشابهة جوهرها، فلذلك مما لا يحتاج فيه إلى حرارة. وإنما خلق المريء كذلك لأنه جزء من المعدة، والمعدة تفعل أفعالها بهذه الأجزاء أعني أنها تهضم باللحمية وتجذب وتدفع بما فيها من الليف، وبما فيها من القوى الطبيعية، وكذلك يجب أن يكون المريء والله ولي التوفيق.

البحث الثاني
تشريح المعدة
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وبعد المريء جرم المعدة المنفتح... إلى قوله: وأحسنهما المقابل لهما للطحال هذا.
الشرح إن المريء لما كان فعله يشابه فعل المعدة، وذلك هو جذب الغذاء وإحالته ليتهيأ لفعل الكبد فيه، لا جرم خلق جرمه مشابهاً لجرم المعدة إذ يحتاج كما تحتاج المعدة إلى سطح حساس باطن وسطح لحمي خارج فلذلك كأنه جزء من المعدة، ولا كذلك الأمعاء فإن فعلها أن يخزن الغذاء فيها مدة أخذ الكبد منه صفاوته وخالصته ثم يندفع الباقي ولذلك فعلها يباين فعل المعدة فلذلك جوهرها غير شبيه بجوهر المعدة فلذلك الأمعاء كالشيء القريب عن المعدة لكنها متصلة به من أسفل ويجب أن يكون المريء أو سع تجويفاً من أو ل الأمعاء لأن المعاء الأول إنما يحتوي على الغذاء بعد أن رق وسال ولا كذلك المريء فإن الغذاء ينفذ فيه، وهو باق على تكاتفه ويبوسته فيحتاج أن يكون تجويفه أو سع كثيراً من تجاويف الأمعاء الأولى وأما الأمعاء السفلى فإن تجاويفها قد لا ينقص عن سعة تجويف المريء وذلك لأن هذه الأمعاء يكثر فيها اجتماع ثفل الغذاء وأرضيته وكثيراً ما يعرض لذلك الثفل أن يخف ويجتمع منه مقدار كثير، فلذلك يحتاج أن تكون تجاويف هذه الأمعاء أو سع كثيراً من تجاويف تلك الأمعاء العليا، وكذلك بطانة المريء أكثف وأغلظ كثيراً من بطانة الأمعاء العليا لأن ما ينفذ في هذه الأمعاء من الغذاء يكون قد لان وسال ولم يحدث له بعد تكاثف ولا كذلك الأمعاء السفلى، فإن بطانتها تحتاج أن تكون كثيفة لتقوى على تمديد الثفل اليابس ونحوه.
وأما المعدة فبطانتها كالمتوسطة بين بطانتي المريء والأمعاء العليا وذلك لأن الغذاء في المعدة لا شك أنه ألين مما يكون وهو بعد في المريء وأما الذي في الأمعاء الأولى فإنه لا يكون إلا ليناً سيالاً فلذلك كانت بطانة المعدة كالمتوسطة بين بطانتي المعدة والأمعاء العليا، ولعل بطانة المعدة مع ذلك ألين من بطانة المعاء الغلاظ. فإن هذه الأمعاء تحتاج أن تقوى على تمديد ما يبس فيها من الثقل ويغلظ جداً.
قوله: وألينها عند فم المعدة إنما كانت بطانة المعدة عند فمها ألين لأن هذا الموضع منها يحتاج أن يكون حسه قوياً ليشتد إدراكه للجوع وإنما يكون كذلك إذا كان جرمه إلى لين ليكون أقبل للانفعال الذي به الحس.

قوله: أكثر لحمية مما للمعدة إنما كان كذلك لأن المعدة مع حاجتها إلى قوة الهضم فإنها محتاجة إلى قوة الحس فلذلك احتيج أن يكون جرمها اقرب إلى الاعتدال فلذلك لم يحتج إلى تكثير اللحم فيها خاصة والسخونة المعينة على هضمها يتوجه إليها كثيراً من مجاورتها من الأعضاء ولا كذلك المريء فإنه مع حاجته إلى قوة الهضم غير محتاج إلى قوة الحس لأن الغذاء ينهضم فيه في زمان قصير جداً وذلك في مدة نفوذه في تجويفه ولا كذلك المعدة فإن الغذاء يبقى فيها زمناً طويلاً حتى ينهضم فلذلك احتيج أن يكون هضم المريء قوياً ومع ذلك هو غير محتاج إلى قوة الحس بل يلزمه لأجل زيادة تضرره بلذع الأغذية اللذاعة ونحوها ومع ذلك فليس له من خارج معين على تقوية حرارته الهاضمة إلا بما يقرب منه من القلب وأما غير ذلك من أجزائه فإن أكثر الأعضاء المجاورة له باردة وإلى يبوسة فلذلك احتيج أن يكون الجوهر اللحمي في المريء إذا قيس إلى باقي جرمه أكثر منه إذا قيس لحم المعدة إلى باقي جرمها.
وأما جرم الأمعاء فيخلو عن اللحمية البتة. وذلك لأن اللحمية فيه وإن إفادته بعضها يكمل فيه الهضم المعدي ويزيد في استعداده للهضم الكبدي فإن اللحم يضيق مسامه فلا يسهل رشح ما يرشح منه من الغذاء ولا نفوذ ما ينفذ إلى داخله من الفضلات التي يقطر من الأعضاء الأخر فإن الحق أن نفوذ الغذاء من الأمعاء إلى الكبد وغيرها من الأحشاء إنما هو على طريق الرشح. ومن هناك يدخل كثير منه إلى داخل العروق التي هي عندنا كالأصول للعرق المسمى بالباب. وهي التي في الثرب وغيره. وذلك ما يقع على الأمعاء من الفضول ومن الأجسام المنقطعة عن الأعضاء الأخر فإنه ينفتح له مسام الأمعاء وينفذ فيها ذلك الجرم إلى داخل الأمعاء ثم يخرج من المخرج وكذلك خروج القطع اللحمية من الكبد والكلى ونحوها في الإسهالات ونحوها. إنما هو بهذا الطريق.
وأما الأمعاء والمعدة يتصل بجرمها عروق تنفذ إلى داخل هذه الأعضاء وتأخذ منها صفاوة الغذاء فلذلك عندنا مما لا يصح.
فقد بينا ذلك في مواضع أخر غير هذا الموضع.
وجعلت المعدة كرية الشكل لتتسع لغذاء أكثر. وسطحت من ورائها قليلاً لئلا يلاقي تحدبها عظام الصلب فتتضرر بذلك وفائدة التفاف العصب النازل من الدماغ إلى المعدة على المريء أن هذا العصب يعرض له الامتداد كثيراً إلى أسفل وذلك عند ثقل المعدة بالغذاء أو بالورم ونحو ذلك وهذا الامتداد يميله إلى الاستقامة فلا يضره ذلك ولو كان النازل الأول مستقيماً لتهيأ للانقطاع عند هذا الامتداد فإن المستقيم أقصر الخطوط. وباقي ألفاظ الفصل ظاهرة. والله ولي التوفيق.

البحث الثالث
تشريح الثرب
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وقد يدفيها من قدام الثرب الممتد... إلى قوله: وتحفظها للزوجتها الدسمة.
الشرح

قد بينا فيما سلف وجه حاجة المعدة إلى الأعضاء المدفئة لها من خارج ولا كذلك غيرها من سائر الأعضاء الهاضمة. وبينا أيضاً السبب في أن هذه الحرارة هي التي تحتاج إليها المعدة في الاستعانة على الهضم لم يخلق لها بذاتها وذلك لأن المعدة تحتاج أن يكون مزاجها قريباً من الاعتدال لأنها مع حاجتها إلى أن تكون هاضمة للأغذية فهي أيضاً محتاجة إلى أن تكون قوية الحس لتكون شديدة الإدراك للحاجة للغذاء. وذلك لشدة إدراكها للخلو وللذع السوداء المنصبة إليها حينئذ وقوة الحس إنما تكون مع الاعتدال فلذلك يجب أن تكون حرارة المعدة غير قوية مخرجة لها عن الاعتدال وهضمها للغذاء إنما يتم بحرارة قوية فلذلك هي محتاجة إلى استفادة هذه الحرارة من خارج. ولذلك فإن أكثر الأدوية المقوية للهضم بذواتها حارة المزاج وإنما كان هضم المعدة يحوج إلى حرارة كثيرة لأن هضمها لا يتم بإحالة صورتها النوعية للغذاء إلى مشابهة جوهرها فقط كما هو الحال في الكبد وفي هضم الأعضاء الهضم الرابع بل هضم المعدة إنما يتم بذلك وبطبخ الغذاء في تجويفها وإحالة الصورة وإن كان غير محتاج فيه إلى حرارة قوية فإن طبخ الغذاء إنما يكون بحرارة قوية تجذب لذلك المطبوخ غلياناً شديداً به ينطبخ وهذه الحرارة محال أن تكون للمعدة بذاتها فلا بد من أن تكون مستفيدة لها من خارج والحاجة إلى استفادة تلك الحرارة من قدام أشد لألأ مقدم المعدة في الجهة التي يلاقيها في الهواء الخارجي فيبردها فلذلك تحتاج إلى هذا المسخن لإفادتها الحرارة ولتعديل ما أفاده الهواء الخارجي من البرد فاحتيج بذلك أن يوضع أمام المعدة ما يفعل ذلك وإنما يمكن ذلك إذا كان ذلك الشيء شديد الحرارة. لكن هذا الشديد الحرارة لا يمكن أن يكون ملاقياً للمعدة، وإلا كان تسخنها شديداً فيخرجها عن الاعتدال الذي يحتاج إليه لأجل الحس، فلذلك لا بد من أن يكون حائلاً بينه وبين المعدة وهذا الحائل لا يمكن أيضاً أن يكون بذاته حاراً وإلا لم يمنع الحار الآخر من زيادة تسخين المعدة، فلا بد من أن يكون بذاته بارداً، ولا يمكن أن يكون كذلك. وهو لا يقبل التسخين بسرعة وإلا لكان يبرد المعدة بالملاقاة مع منعه لتسخين الحار الآخر الذي ليس بملاق فلذلك لا بد للمعدة من جوهر حار شديد الحرارة يوضع أمامها ولا يلاقيها ومن جوهر آخر بارد يقبل أن يلاقيها ومع ذلك يقبل الحرارة من الحار الخارجي ومن غيره فيسخن المعدة باعتدال فلذلك جعل قدام المعدة عضلات البطن وهي شديدة الحرارة لأنها كثيرة اللحم وجعل خلف كل هذه العضلات جسم آخر بارد بذاته شديد القبول للتسخن بغيره وذلك هو الثرب فإن هذا الثرب فيه عروق كثيرة فهي تفيد حرارة يسيرة وجوهره شحمي فهو بذاته بارد ولكنه بدهنيته ودسومته يقبل التسخن بغيره كثيراً فلذلك مجموعه وإن كان بذاته قريباً من الاعتدال وإلى برد فإنه يقبل من الحرارة التي يستفيدها من غيره وهو تسخن المعدة سخونة معتدلة لا تضرها في جودة الحس وذلك يعينها على الهضم، والذي يستفيد منه الشحم هذه الحرارة هي العضلات التي أمامه هذا هو السبب التمام.
وأما السبب المادي لذلك فإن العضو الذي يلاقي المعدة هولا محالة بالقرب من مقعر الكبد فلذلك الدم الآتي إليه إنما يأتي في العرق المسمى بالباب ماراً إلى ذلك العضو في شعب هذا العرق، والدم الذي في شعب هذا العرق إذا تصفى عن الأجزاء الصفراوية التي تخالطه، وذلك باندفاع تلك الأجزاء إلى المرارة وعن الأجزاء السوداوية التي تخالطه أيضاً وذلك باندفاع تلك السوداء إلى الطحال بقي الباقي من ذلك الدم مائياً كثير المائية جداً. ومثل هذا الدم أكثر ما يتولد عنه الشحم أو السمين فإن تولد عن لحم فذلك اللحم لا بد من أن يكون كثير المائية فيكون غددياً ولذلك فإن الأعضاء التي تغتذي من الدم الآتي من هذا العرق منها ما هو شحم كالثرب ومنها ما هو لحم رخو كاللحم الذي يسمى بانقراس.

وأما ظاهر المعدة فإنه وإن كان يأتيه الدم من هذا العرق فإن المعدة بحراراتها تحلل منه المائية الكثيرة فلا جرم يكون ما يتولد منه من اللحم عليها متيناً. ولذلك هذا الجرم الذي يلاقي المعدة من قدامها لا بد من أن يكون جوهره كثير المائية ولا يمكن أن يكون لحماً رخواً رهلاً لأن مثل هذا اللحم ليس فيه من الدسومة والدهنية ما يقبل لأجل ذلك الحرارة من غيره قبولاً كثيراً كما في الشحم ولذلك فإن الشحم يشتعل كثيراً بالنار. ولا كذلك هذا اللحم الرخو ولذلك وجب أن يكون الملاقي للمعدة لإدفائها جرماً شحمياً لا لحماً رخواً. وإنما لا يكون من جوهر السمين لأن جوهر السمين ليس فيه من البرد ما يعدل من حرارة العروق فلذلك كان هذا الملاقي للمعدة لإدفائها بتوسط قبوله الحرارة من غيره جرماً شحمياً. وذلك هو الثرب وجعل هذا الثرب رقيق الجرم أي ليس كثير الثخن لئلا تلزمه زيادة كثيرة في كبر البطن، وجعل جوهره كثيفاً ليفي مع رقته بحصر الحرارة في جرم المعدة فلا يتحلل بسرعة ولا كذلك لو كانت مسامه متسعة والله ولي التوفيق.

البحث الرابع
تشريح الصّفاق المسمى باريطارون
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وفوق الثرب الغشائي الصفاق المسمى باريطارون... إلى قوله: ومنه ينبت الغشاء المستبطن للصدر.
الشرح كما أن آلات التنفس يحويها الغشاء المستبطن للأضلاع كذلك آلات الغذاء ودفع الفضول والرحم هذه جميعها يحويها الغشاء الذي يسمى الصفاق، وهو الذي نتكلم فيه ها هنا، وإنما لم تحجب آلات الغذاء عن آلات دفع الفضول بحجاب، وكذلك كلا هذين عن آلة التوليد التي هي في الرحم مع أن ذلك أولى وقاية لآلات الغذاء عن أبخرة تلك الآلات وقذاراتها لأنه لو فعل ذلك لكثرت الحجب والتكثير إنما يكون لأمر ضروري وها هنا ليس كذلك فإن تضرر آلات الغذاء بقدارات آلات الفضول وآلات التوليد بدون خلقة ما يحجب بينها ليس بأزيد من تضررها بذلك مع خلقة الحجب بقدر يعتد به، وذلك لأن آلات الغذاء لا بد من أن يكون لها منافذ إلى آلات الفضول وإلا لم يمكن اندفاع تلك الفضول غليها، ومن تلك المنافذ لا بد من نفوذ قذارات تلك الآلات وأبخرتها إلى آلات الغذاء سواء خلق مع ذلك حجب أو لم يخلق فلذلك لم يكن ضرورة إلى خلقة الحجب بين هذه الأعضاء، ولا بد من غشاء يحوي هذه الآلات فإذا لم يكن حجب كانت هذه الآلات جميعها في غشاء واحد وذلك هو المسمى بالصفاق. وهذا الصفاق مع أنه يحفظ هذه الآلات ويحرسها عن نفوذ ما ينفع نفوذه إليها فإنه أيضاً يحفظ أو ضاعها لأن بينه وبين عظام الصلب تنفذ العلايق المعلقة لهذه الآلات كما أن العلايق لآلات التنفس جميعها متصلة مع عظام الصلب بالغشاء المستبطن للأضلاع فوق هذا الغشاء المسمى باريطارون غشاء آخر يسمى المراق. وفوقه عضلات البطن ثم الجلد وإنما احتيج في آلات الغذاء إلى هذا الغشاء الآخر ولم يكتف بغشاء واحد كما في آلات التنفس لأن آلات التنفس تحيط بها الأضلاع وهي شديدة التوقية لها وكذلك هذه الآلات فإنها لا يمكن أن تحيط بها عظام كما في آلات التنفس وإلا لزم ذلك تعذر الانحناء والانثناء والانتكاس إلى قدام وخلف ونحو ذلك فلذلك احتاجت إلى وقاية أخرى لا تمنع عن هذه الحركات وتلك هي هذا الغشاء الذي هو المراق.
قوله: ومن خلفها الصلب ممتداً عليه عرق ضارب، وقد ذكر أو لاً ما يدفئ المعدة من جانبها ومن قدامها والمذكور منها ها هنا هو ما يدفئها من ورائها والصلب من عظام وهي باردة فليس فيه أدفأ للمعدة إلا بما عليه من العروق المذكورة فتكون تلك العروق هي المدفئة من ورائها لا الصلب نفسه.
قوله: ومنافعه وقاية تلك الأحشاء والحجز بين المعاء وعضل المراق لئلا يتخللها فيشوش فعلها، أما منفعة الصفاق في وقاية الأحشاء التي في داخله فظاهرة. وأما منفعة الحجز بين المعاء وعضل المراق فذلك لأن هذه العضلات لو لاقت الأمعاء لكانت بحركتها تغير أو ضاع تلك الأمعاء بتخلل العضل فيها.
قوله: فإنها تعصر المعدة بحركة العضل معها. الحركة العاصرة للمعدة وغيرها من الأحشاء المحتاجة في دفع فضولها إلى ذلك إنما هي للعضل التي للبطن وأما المراق بذاته فلا حركة له ولكنه قد ينفع في هذا العصر بسبب المزاحمة.

قوله: وأغلظه أسفله وأيسره. أما أغلظ أسفل الصفاق، فليكون هناك قوياً على حمل الأحشاء وليتدارك بذلك ما يوجبه الثقبان اللذان فيه من وهن الجرم، فلا تكثر عروض الإنخراق له وأما غلظ اليبس فلأن الرياح المحرقة، وهي الملازمة لضعف الطحال يكثر هناك فيحتاج أن يكون جرمه هناك قوياً لئلا ينخرق بقوة تمديد تلك الرياح. والله ولي التوفيق.

البحث الخامس
تتمة الكلام في الثرب
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه ويفضل من منبت الصفاق فضل من الجانبين...إلى قوله: تسخين المعدة تعاونها في وقايتها.
الشرح عبارة الكتاب في هذا بينة ويريد بالمناوط المنابت التي ينبت منها الثرب.
وهذا على الرأي المشهور. وأما الحق فإن تلك ليست بمنابت، وإنما هي مواضع اتصال ما به يتعلق بتلك الأعضاء. والله ولي التوفيق.
البحث السادس
تتمة الكلام في المعدة
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وفي اسفل المعدة ثقب... إلى قوله: ويعني به فم المعدة حسب تأويله.
الشرح قوله والثالث أنه قد ينصب إليها عند الجوع الشديد من الكبد دم أحمر نقي فيغذوها.
إن هذا مما لا أصدقه وذلك لأن الجوع الشديد يلزمه شدة جذب الكبد وغيرها من الأعضاء المادة من المعدة وذلك يشتد حينئذٍ الامتصاص من المعدة فكيف يدفع إليها ما هو بعدها من الأعضاء فضلاً لذلك عن الكبد وخاصة والكبد عند الجوع الشديد يكون لا محالة خالية من الدم، وإن كان فيها شيء منه كانت شديد ة التمسك به فكيف يدفعه إلى المعدة، ولو اندفع من الكبد دم من جهة مقعرها لكان يقع على الأمعاء ويخرج بالأسهل لا أنه يندفع من المعدة ومن أين ينفذ إلى باطن المعدة، ولا منفذ إلا على ما يقولون من أن ألماساً ريقاً يتصل بعضها بالمعدة نافذة إلى تجويفها وهذا شيء قد بينا كذبه فيما سلف ولو نفذ إلى باطن المعدة الدم، لكان ذلك الدم إما أن يخرج بالقيء على الفور أو يجمد في المعدة إن دام فيها، ويستحيل سماً بل قد يندفع حينئذٍ إلى المعدة من السوداء ما يشبه هذا الدم وذلك لأجل شدة امتصاص فم المعدة للعرق الآتي إليه من الطحال ولقائل أن يقول هذا: قد شاهد شيئاً من ذلك فطنه دماً. وباقي ألفاظ الكتاب ظاهرة. والله ولي التوفيق.
فصل
تشريح الكبد

إنا قبل الكلام في تعريف الكبد نقدم مقدمة نبين فيها وجه الحاجة إلى الكبد فنقول. قد بينا مراراً كثيرة أن الحاجة إلى خلقة الكبد هي أن تحيل الغذاء إلى مشابهة جوهرها فيصير لذلك دماً وخلطاً وذلك بعد استعداده في المعدة لذلك. وذلك لطبخ المعدة له وإحالتها إياه إلى حالة يشابه جوهرها مشابهة ما، فتصير بذلك مع أنه أقرب مشابهة لجوهر المعدة مما كان أو لاً لأنه هو أيضاً أقرب مشابهة لجوهر الكبد فلذلك تقرب استحالته إلى مشابهة جوهر الكبد وذلك إذا فعلت فيه بصورتها النوعية فإن الأجسام في هذا العالم جميعها تتفاعل إذا تلاقت وذلك بأن يفعل كل واحد منها في مادة الآخر فعلاً يقرب تلك المادة إلى مشابهة جوهره ولذلك إذا تلاقت العناصر تفاعلت ولزم ذلك حصول المزاج وبيان هذا أن مادة أجسام هذا العالم جميعها واحدة وإنما تختلف في الأجسام باختلاف حالها من الصور، وكل صورة في جسم فإن من شأنها أن تجعل المادة التي هي قائمة بها على الكيفيات التي بها تكون تلك المادة شديدة الملاءمة لتلك الصورة حتى تكون تلك الصورة حينئذٍ أثبت في تلك المادة مثال ذلك الماء فإن صورته من شأنها أن يجعل مادته باردة رطبة وتلك المادة بذلك شديدة المناسبة لصورته حتى إن تلك المادة ما دامت كذلك استحالت أن تفارقها تلك الصورة وإذا حدث لها قاسر يخرج له عن طبيعته كالنار مثلاً إذا سخنته فإن تلك السخونة إذا كانت شديدة جداً أعدت مادته لقبول تلك الصورة الهوائية واستحال ذلك الماء هواء. وإن كانت تلك السخونة أضعف من ذلك الماء لو يفارق صورته لمادته ولكنها تكون في طريق أن يفارق وذلك إذا تزيدت الماء سخونة ثم إذا بطل تأثير ذلك القاسر، وكان الماء لم يفارق صورته لمادته كانت تلك الصورة حينئذٍ مجتهدة في إبطال تلك السخونة لتزول عن مادته التأهب لأن يفارق صورته ومع ذلك فلا يقتصر على إبطال تلك السخونة فقط بل تحيله مع ذلك إلى الكيفية المناسبة لصورته حتى يصير بارداً رطباً ومادة جميع هذا العالم واحدة فإن المادة التي في النار هي بعينها المادة التي في الماء لكن تلك تصورت بصورة النار وهذه تصورت بصورة الماء فلذلك صورة النار تحيل المادة المصورة بصورة الماء إلى طبيعتها فتصير مناسبة لصورة النار فتصير ناراً ومادة الماء تحيل مادة النار إلى طبيعتها فتصير مناسبة لصورة الماء فيصير ماء وكذلك الأجسام المختلفة الصور جميعها كل منها يفعل في غيره هذا الفعل وإن كان بعض الأجسام في ذلك أقوى من بعض فما كان من الأجسام قوى الكيفيات فهو أقوى على إحالة غيره إلى طبيعته من الأجسام إلى كيفياتها ضعيفة فلذلك فإن إحالة النار للماء حاراً أكثر كثيراً من إحالة الهواء إلى الحرارة وكذلك إحالة النطرون لغيره نطروناً أشد وأسرع من إحالة الماء وغيره مادة خاصة إذا كان المستحيل بصورة يعسر قبولها لصورة المحيل لو كانت الاستحالة إلى صورة المحيل عسرة جداً ولذلك فإن استحالة الماء ناراً أعسر من استحالة الأرض ناراً مع أن الأرض أشد كثافة من الماء وأبعد في ذلك عن طبيعة النار وذلك لأن الماء لأجل قوة برده، ورطوبة مادته تعسر استحالة مادته ناراً ولا كذلك الأرض فإن بردها أضعف ومادتها يابسة وكذلك استحالة الأجسام رصاصاً أسرع كثيراً وأسهل من استحالتها ذهباً. وذلك لأن الذهب إنما يتحقق بمزاج شديد وذلك مما يعسر تكيف الأجسام بمزاجه ولا كذلك الرصاص. ولذلك إذا طال مقام الرصاص في موضع ندي كبر جرمه، ولذلك يزداد بخلاف الذهب وقد يحيل جسم جسماً آخر إلى جسم بصورة ثالثة ليست لو أحد منهما فإن النار إذا سخنت الماء سخونة شديدة صار لذلك هواء وكذلك يقال إن الأكسير يحيل الرصاص فضة أو النحاس ذهباً مع أنه ليس بصورة واحد منها وذلك لأن هذا المحيل لا يحيل المادة فيكون بصورة ذلك الثالث بل لأنه يحيلها للتصور بصورته ولكنها في طريق تلك الاستحالة يستعد لصورة ذلك الثالث. والله تعالى لكرمه لا يمنع مستعداً ما استعد له. فلذلك الماء إذا تسخن بفعل النار فالنار تسخنه ليصير ناراً لكنه قبل أن يندفع إلى الحد الذي به يصير ناراً يستعد لصورة الهواء فيعطيه الخالق تعالى صورة الهواء لأجل استعداده لها.

وكذلك الأكسير يحيل الرصاص مثلاً لأن يكون بصورته وقبل بلوغه إلى ذلك الحد يستعد لصورة الفضة فيفاض عليه، ولذلك المعدة تحيل الغذاء المستحيل إلى صورتها وقبل ذلك يستعد بعض الاستحالة إلى صورة جسم آخر وأجسام أخر فإن الماء إذا استحال هواء استعد قريباً بذلك من الاستعداد لاستحالة ما وكذلك الحال في الكبد فإن الغذاء إذا استحال إلى صورتها قريباً بذلك من الاستحالة إلى جواهر الأعضاء كلها فهذه فائدة الكبد فإنها إذا أحالت الغذاء دماً استعد بذلك الاستحالة إلى جوهر كل عضو فكان جوهر الكبد كالمتوسط بين جواهر الأغذية وجواهر الأعضاء الأخر. ونحن قد تساهلنا في هذا الكلام فأطلقنا لفظ الاستحالة على التغير في الجوهر. وذلك لأجل تسهيل التعليم وكلامنا في تشريح الكبد يشتمل على بحثين:

البحث الأول
هيئة الكبد وموضعها وأفعالها
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه إن الكبد هو العضو الذي... إلى قوله: وأكثر القوى الأخرى في ليفيته.
الشرح قوله وإن كان الماساريقاً قد يحيل الكيلوس إلى الدم إحالة ما إن عني بالدم الخلط الذي لو نه أحمر فإحالة الماساريقا الكيلوس إليه إنما يكون بتقريبه إلى طبيعة الدم أعني أن الماساريقا يقرب الكيلوس إلى أن يصير في الكبد دماً وذلك بأن يحيله بعض الإحالة التي بها يستعد لقبول الصورة الدموية وهذا كما أن الفم والمريء يحيلان الغذاء إلى أن تسهل صيرورته في المعة كيلوساً. وأما إن عني بالدم ما يصلح لتغذية عضو وإن لم يكن لو نه أحمر فلا يبعد أن تقوى الماساريقا على ذلك وذلك بأن تحيل الكيلوس إلى أن يصير صالحاً لتغذيتها، وإن لم ينفذ إلى الكبد البتة وذلك فإن السطح الباطن من المعدة يحيل الكيلوس إلى حالة تصلح بها تغذيته ولكنه لا يصير بذلك أحمر اللون لأنه إنما يصير بذلك أحمر اللون لأنه إنما يصير كذلك باستحالته إلى مشابهته جوهر باطن المعدة، وهذا الجوهر ليس بأحمر اللون فما يستحيل إلى مشابهته محال أن يكون لو نه أحمر.
قوله: كأنه دم جامد يريد بالجمود هاهنا مسمى الانعقاد على سبيل التجوز وذلك لأن الجمود إنما يقال حقيقة لانعقاد الشيء بالبرد. وأمامنا ينعقد بالحرارة كانعقاد جرم الكبد فلذلك إذا قيل له جمود كان على سبيل التجوز.
قوله: وهو يمتص من المعدة والأمعاء بتوسط شعب الباب المسماة ماساريقا من تقعيره وبطبخه هناك دماً وتوجهه إلى البدن بتوسط العرق الأجوف النابت من حدبته قد علمت مما سلف من كلامنا أن الكبد يأخذ مادة الغذاء بعضها بانتشار فيها لما يرشح من المعدة والأمعاء من ذلك وبعضها بما يستسقيه أجزاء الباب التي نسميها نحن: أصولاً ويسمونها هم: فروعاً وشعباً.
وعلمت أن هذه المادة تنفذ أو لاً إلى الجزء المقعر من الكبد، وهو الذي تنبت فيه أكثر فروع الباب التي يسمونها هم أصولاً. وفي ذلك الجزء المقعر يستحيل أو لاً إلى الأخلاط الأربعة ثم تجذبها أصول العرق المسمى بالأجوف من فوهاتها الملاقية لفوهات فروع الباب وإنما ينجذب حينئذٍ في تلك الأصول الدم والبلغم وما بقي من الكيلوس وذلك لأن هذه جميعها تصلح لتغذية محدب الكبد وإنما هو يجذب لأجل هذه التغذية فلذلك تتخلف السوداء والصفراء في مقعر الكبد ويحتاج إلى دفعها ليخلو المكان لجذب غذاء آخر واندفاعها حينئذٍ لا يمكن أن يكون إلى جهة المحدب فإنه لا يقبلها لأنهما لا يصلحان للتغذية فلذلك إنما يندفع من المقعر إلى الجهة التي فيها المعدة والأمعاء وتندفع الصفراء في فرع من فروع الباب إلى المرارة من غير أن ينفذ في الباب وأما السوداء فيندفع في الباب، وينفذ ويندفع في الطحال كما بيناه في كلامنا في تشريح الأوردة وبذلك تتميز الصفراء والسوداء المندفعتان إلى مجاريهما.
قوله: وتوجه المائية إلى الكليتين من طريق الحدبة.
لقائل أن يقول: إنكم قلتم إن اندفاع الصفراء والسوداء من المقعر إنما كان لأن المحدب لا يجذبهما لأنهما لا يصلحان لتغذية عضو من الأعضاء فهي أولى بأن لا يجذبها المحدب. وكان ينبغي أن يكون اندفاعها من المقعر؟

وجوابه: أن هذا لا يصح فإن نفوذ المائية في المقعر لا لأجل التغذي بل ليرقق الغذاء فتمكن نفوذه في مجاري الكبد، وهذا مما يحتاج إليه في المحدب أيضاً فلذلك ينجذب إليه الماء فإذا انفصل الدم وغيره من الأخلاط من الكبد إلى العرق الأجوف جذبت الأعضاء تلك الأخلاط لتغتذي بها ولم يجذب من المائية إلا ما يحتاج إليه في التغذية فيبقى ما كانت الحاجة إليه لأجل نفوذ الغذاء في مجاري الكبد مستغنياً عنه فلذلك يحتاج إلى دفعه ويندفع حينئذٍ إلى الكليتين لأنهما مخلوقتان لذلك ثم منهما إلى المثانة ثم إلى سبيل البول.
قوله: ويعد لها بالنبض. هذا لا يصح، فإن نفوذ الشرايين في الأعضاء إنما هو لإفادتها الحياة والحرارة الغريزية لا لتعديلها فإن تعديل النبض إنما هو بنفوذ الهواء البارد إلى تجاويف الشرايين، وذلك فإن أفاد تبريداً فإن تبريده إنما هو لما هو في داخل الشرايين لا للعضو الذي فيه شريان فإن ذلك لا يصل إليه بتبريد هذا الهواء المجذوب إلى داخل الشريان.
قوله: والفضاء الذي يحوي الكبد يربطها بالغشاء المجلل للمعدة والأمعاء يريد بهذا الغشاء الشحمي الذي هو الثرب فإن هذا الثرب يغشي الأمعاء والمعدة ونحوها من أعضاء الغذاء والفضول.
قوله: وإذا اختل في التميز اختل أيضاً تولد الدم الجيد واختلال التمييز قد لا يلزمه اختلال في تولد الدم بل في الدم الواصل إلى الأعضاء وإن كان تولده على أفضل الوجوه وذلك لأن اختلال التمييز إن كان بسبب غير الكبد فظاهر أن ذلك لا يلزمه اختلالها في توليد الدم ولا في غيره وإن كان اختلال التمييز لأجل خلل في الكبد فقد لا يلزم ذلك أيضاً وقوع خلل في توليدها الدم لأن القوة المميزة مغايرة للقوة الهاضمة. ومن الجائز أن يعرض خلل في القوة المميزة مع سلامة غيرها من القوى. والله ولي التوفيق.

البحث الثاني
نقض مذهب قيل في القوى التي في الماساريقا
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه ولا يبعد أن يكون في الماساريقا... إلى قوله: وكذلك الهواء بين الحديد والمغناطيس عند أكثر أهل التحقيق.
الشرح
أما أن الماساريقا ونحوها من الأعضاء فيها قوى يتصرف في غذائها فذلك مما لا شك فيه فإن جميع الأعضاء لا تخلو عن ذلك وقد وقع الاتفاق على ذلك بين الأطباء والفلاسفة وأما أن فيها قوى يتصرف فيها في الغذاء العام كتصرف المعدة والكبد فذلك ما لا أجزم بثبوته ولا أنفيه وإن كنت إلى ثبوته أميل وذلك ليستفيد الغذاء فيها تهيئة بفعل الكبد. وألفاظ الكتاب ظاهرة. والله ولي التوفيق.
فصل
تشريح المرارة
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه إن المرارة كيس معلق... إلى قوله: إلى الأمعاء بإفراط أو رثت الإسهال المراري والسحج.
الشرح

لما كانت المعدة تدفع الغذاء إلى الأمعاء وتأخذ الكبد منه خالصه وصفاوته، ويبقى في المعاء ثفله وفاسده. وذلك لا محالة رديء شديد القبول للعفونة والفساد، وإذا فسد أفسد ما يجاوره من جرم الأمعاء. لا جرم أنعم الخالق سبحانه وتعالى وأجري على ظاهر جرم الأمعاء من داخل رطوبة لكن ذلك الثفل الفاسد وتلك الرطوبة لا محالة مع أنها تمنع وصول ضرر ذلك الثفل إلى جرم الأمعاء فهي لا محالة تمنع جرم الأمعاء عن إدراكه والشعور به وإلا كانت تتضرر لحدته ولذعه، وإذا كان كذلك لم يكن في الأمعاء ما يوجب الاهتمام بدفعه وإذا طال زمانه فيها تضرر خاصة الأعضاء العالية بما يتصعد منه من الأبخرة، فلذلك احتيج عند طول احتباسه وخوف التضرر ببخاره وعفنه أن يخالطه ما ينفذ إلى جرم الأمعاء ويلذعها ويحوجها إلى الاهتمام بدفعه وإنما يمكن ذلك إذا كان ذلك المخالط شديد الحدة واللذع رقيق القوام جداً يتمكن من قوة النفوذ وسرعته إلى جرم الأمعاء ويفعل فيها ذلك وليس في البدن سوى أعضاء وأرواح ورطوبات وهذا الذي يفعل ذلك لا يمكن أن يكون من الأعضاء ولا من الأرواح فهو إذاً من الرطوبات وليس في البدن رطوبة تفعل ما قلناه سوى الصفراء فلذلك لا بد عند الحاجة إلى إخراج الثفل من أن ينفذ إلى تجاويفها قسط من الصفراء ويخالط الثفل المحتبس فيها وينفذ إلى جرم الأمعاء ويلذعه ويحوجه إلى دفعه ودفع ما يخالطه من الثفل لأجل اختلاطه به وهذه الصفراء ليس يمكن أن يكون نفوذها إلى هناك من عروق البدن، ومن الأعضاء البعيدة وإلا كانت تنقطع عن النفوذ إلى تجاويف الأمعاء كثيراً لكثرة العوائق لها عن ذلك فلذلك احتيج أن يكون بقرب الأمعاء قسط متوفر من الصفراء مدخر لهذه المنفعة ونحوها. وتلك الصفراء لا بد أن تكون في وعاء يحفظها من التبدد والسيلان إلى وفق الحاجة إليها وذلك الوعاء هو المرارة فلذلك هذه المرارة لا بد منها في تنقية الأمعاء من الثفل الذي هو قد فسد واحتيج إلى إخراجه. ومع ذلك فإنها ينتفع بها في أمور أخر لتسخين المعدة والمعاء وتنقية الأمعاء أيضاً من الرطوبات اللزجة والبلغم ولذلك إذا امتنع نفوذ الصفراء من هناك إلى داخل الأمعاء حدث عن ذلك رياح وآلام شديدة كالقولنج ومع ذلك فإنها تجذبها الصفراء إليها لأجل ما ذكرناه من المنافع فإنها بهذا الجذب تنقي الدم من المرار الزائد على ما يحتاج إليه البدن ولذلك إذا بطل نفوذ الصفراء إلى المرارة كثر لذلك المرار في البدن وحدثت منها آفات منها اليرقان الأصفر.
قوله: وفم ومجرى إلى ناحية المعدة والأمعاء يرسل فيهما إلى ناحيتهما فضل الصفراء. هذا هو المشهور: وهو أن المرارة ينفذ منها إلى أسفل المعدة مجرى تصب الصفراء في أسفل المعدة وينفذ منها إلى الأمعاء مجرى آخر تنفذ منه الصفراء إلى تجاويف الأمعاء وهذا لا محالة باطل.

فإن المرارة شاهدناها مراراً، ولم نجد فيها ما ينفذ لا إلى المعدة ولا إلى الأمعاء وإنما تنفذ الصفراء منها إلى هذين الموضعين على سبيل الرشح. وذلك لأن هذه المرارة إذا كثرت فيها الصفراء وذلك عندما يأتيها الدم المراري من معقر الكبد يتمدد لذلك جرمها وتتسع مسامها فيرشح منها قسط كثير من الصفراء وينفذ من هناك في مسام التخلخل أسفل المعدة إلى داخلها ومن مسام الأمعاء إلى تجاويفها. فمن تكون هذه المرارة فيه مرتفعة قليلاً، أو يكون أسفل المعدة فيه شديد التخلخل كان ما ينفذ إلى داخل معدته من تلك الصفراء المترشحة من المرارة كثيراً جداً. وكان ما ينفذ منها إلى تجاويف الأمعاء قليلاً خاصة إذا كان جرم أمعائه مع ذلك مستحصفاً يقل نفوذها هذه الصفراء في خلله. ومن تكون هذه المرارة فيه منخفضة فإنه يقل جداً نفوذ ما يرشح منها من الصفراء إلى أسفل معدته، وأكثر ترشح تلك الصفراء يكون إلى تجاويف أمعائه وربما بلغ انخفاض المرارة في بعض الناس إلى أن لا يندفع منها إلى معقر المعدة شيء البتة وإنما لا يندفع من هذه الصفراء شيء ما إلى أعالي المعدة لان هذه المرارة ليست ترتفع إلى قرب أعالي المعدة فذلك فائدة فإن الصفراء لو نفذت إلى أعالي المعدة لأسقطت شهوة الطعام ولما كان أعالي المعدة لا يندفع إليه الصفراء بالطبع فهولا محالة يكثر فيه البلغم وغيره من الرطوبات فلذلك يحتاج إلى إخراج ذلك بالقيء فلذلك كان القيء من الأمور التي تكاد تكون ضرورية في حفظ صحة المعدة، وذلك شرط في حفظ صحة البدن كله فلذلك كان القيء من الأمور التي تكاد تكون ضرورية في حفظ الصحة. والله ولي التوفيق.

فصل
تشريح الطحال
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه إن الطحال بالجملة مفرغة ثفل الدم... إلى قوله: فإن غشاء الحجاب أيضاً مثل الصفاق.
الشرح

فالتخلخل والحاجة إلى الغذاء لا زمان لكل واحد من الأعضاء وأما الجوع فليس بلازم لكل واحد منها فإن الجوع إحساس ما، والحس ليس يمكن أن يعم الأعضاء. فإن بعض الأعضاء تمنع عليه الحس، لأن الحس إنما يكون مع اعتدال المزاج أو القريب من الاعتدال وليس يمكن أن تكون الأعضاء جميعها كذلك فلذلك لا يمكن أن يكون عضو جوع يخرجه إلى طلب الرزق فلا بدمن عضو يتكفل للأعضاء جميعها بشدة طلب الغذاء وإنما يمكن ذلك بأن يكون الجوع يحدث له ألماً شديداً يحوجه إلى شدة طلب الغذاء ويحوج صاحبه إلى شدة السعي في تحصيله وذلك العضو هو المعدة وهذا الألم الذي يحدث لها عند الجوع، إنما يكون لأمر يحدث لها حينئذٍ إذ لو كان دائماً لكان ما يحدثه من الجوع دائماً، وهذا الحادث لا بد من أن يكون إيلامه للمعدة مقوياً له إذ لو لا ذلك لكانت تضعف جداً بكثرة حدوث ذلك الألم لها وإنما يمكن ذلك أن يكون إحداثه لذلك ليس بإحداث سوء مزاج يحدث للمعدة وإلا كان كثرة حدوث ذلك موحياً لفساد مزاج المعدة، وذلك محدث لضعفها فلا بد من أن يكون ذلك الألم بإحداث تفرق اتصال ويكون ذلك التفرق من شأنه أن يفارق ويرتد الاتصال بسهولة وبطبيعة المعدة من غير احتياج إلى شيء آخر يرد ليرد ذلك الاتصال وإنما يمكن إذا كان ذلك التفرق يسيراً جداً فإن التفرق الكثير الشديد تعسر إزالته بنفس الطبيعة والتفرق اليسير لا يكون ألمه ظاهراً شديداً ما لم يكثر عدده كثيراً جداً حتى يكون كل واحد من أفراده مع أنه غير محسوس فإن الحمل يحس ويؤلم ألماً ظاهراً. وهذا التفرق الذي هو كذلك هو التفرق الحادث عن الشيء اللاذع فإن اللذاع يحدث في العضو تفريقات كثيرة ليس يحس واحد منها لكن يحس بجملتها وتكون جملتها هي المؤلمة وهذا كما يحدث في الفم عند المضمضة بالخل مع الخردل المسحوق فلا بد من أن يكون في المعدة عند خلوها وخلو الأعضاء من الغذاء والاحتياج إلى ورود الغذاء يرد إليها ما له لذع يؤلم المعدة ويحوج إلى تكلف تحصيل الغذاء وهذا اللاذع لا يمكن أن يكون لذعه بحرارته كما في الصفراء وإلا كان منفرداً عن الغذاء لا محرضاً على تناوله ولا بد من أن يكون لذعه غير ذلك ولا بد من أن يكون هذا الشيء من الرطوبات كما بيناه في تشريح المرارة وليس في رطوبات البدن ما يلذع بغير المرارة إلا ما طعمه حامض ولا بد من أن تكون فيه هذه الحموضة مع قبض يشد المعدة ويقويها وليس في الرطوبات ما يجمع هذين الطعمين إلا السوداء وذلك بعد غليانها المحدث لنضجها إذن بدون ذلك تكون السوداء الطبيعية طعمها بين حلاوة وعفوصة فلا بد إذن من أن تكون السوداء التي قد نضجت بالغليان وحمض طعمها ينصب إلى المعدة عند الحاجة إلى الغذاء ليحرض على تناوله ولا يمكن أن تكون السوداء ترد إلى المعدة من موضع بعيد كما قلناه في الصفراء المندفعة إلى الأمعاء ولا بد من أن تكون هذه السوداء ترد مخزونة في عضو بقرب المعدة، وذلك العضو هو الطحال فلا بد من أن يكون هذا الطحال من شأنه جذب السوداء وإصلاحها بعد ذلك وإنضاجها ثم دفع ما فضل عنه إلى المعدة عند الحاجة إلى تناول الغذاء ولا بد من أن يكون بالقرب منها ليسهل اندفاع السوداء منه إليها وإذا ضعف الطحال كثرت السوداء في الدم الواصل إلى البدن فلزم ذلك حدوث الأمراض السوداوية سواء ضعف عن جذب السوداء أو عن دفعها إلى المعدة.
أما إذا ضعف عن جذبها فلأنها حينئذٍ تبقى مخالطة للدم.
وإذا ضعف عن دفعها إلى المعدة فلأنها حينئذٍ تكثر فيه وتملاً أو عيته فلا يتمكن من جذب شيء آخر فتكثر السوداء في الدم كما قلناه عند ضعف الجذب فلذلك لا شيء أنفع من الأمراض السوداوية من تقوية الطحال فإن ذلك يلزمه نقصان السوداء في الدم.
قوله: والطحال مستطيل لساني. السبب في خلقه مستطيلاً أن يكون ممتداً في بعض طول المعدة حتى يسهل اندفاع ما يندفع منه من السوداء إليها ولم يخلق مستديراً لئلا يكثر جرمه. فإن تقليل جرمه أولى. ولذلك إذا سمن تضرر البدن ونحف. وإنما لم يخلق مشتملاً على المعدة كما في الكبد لئلا تكثر ملاقاته لها فيفسد هضمها برداءة مزاجه. والله ولي التوفيق.

فصل
تشريح الأمعاء الستة
وكلامنا في هذا يشتمل على خمسة مباحث:
البحث الأول
منفعة الأمعاء
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه

إن الخالق تعالى بسابق عنايته... إلى قوله: من امتصاص صفاوته التي فاتت الطائفة الأولى.
الشرح قد علمت أن المعدة لا بد منها في هضم الغذاء وتهيئته في للإنهضام في الكبد ليتكون منه الدم وغيره من الأخلاط التي لا بد منها في التغذية التي لا بد منها في بقاء الإنسان ونحوه من الأجسام المغتذية وقد عرفت أن هضم المعدة يتم بأمرين: أحدهما: فعل صورتها في الغذاء لتحيله إلى مشابهة جوهرها.
وثانيهما: فعل الحرارة الطابخة للغذاء حتى تتشابه أجزاؤه وتصلح لفعل الكبد فيه فإذا تم انهضام الغذاء فيها لهذين الأمرين وجب أن يندفع منها ولا يلزم فيها بعد ذلك زماناً له قدر يعتد به لأنه لو بقي فيها بعد ذلك زماناً كثيراً لزم ذلك أمران: أحدهما تعذر نفوذ غذاء آخر إليها فتهضمه كما هضمت الأول إذ لا يكون لهذا الثاني مكان ويلزم ذلك تضرر البدن بانقطاع الغذاء الثاني عنه إلى أن يندفع الأول.
وثانيها: إن الغذاء إذا بقي في المعدة بعد تمام انهضامه فسد لأن الحرارة لا بد وأن يستمر عملها فيه. ويلزم ذلك أن يتدخن أو يحترق وبالجملة أن يصير بحال لا يصلح لفعل الكبد فيه فلذلك وجب أن يندفع الغذاء من المعدة إذا تم انهضامه فيها واندفاعه حينئذٍ لا يمكن أن يكون إلى الكبد فإن عروق الكبد لأجل ضيقها لا يمكن نفوذ الغذاء فيها دفعه وفي زمان قصير جداً ولو اندفع إلى فوق فخرج بالقيء مثلاً لغابت منفعته فلا بد من أن يكون اندفاعه حينئذٍ إلى داخل البدن وأن يكون ذلك في تجويف يمكن نفوذه فيه دفعة، وهذا التجويف لا يمكن أن يكون بحيث يخرج هذا الغذاء منه دفعة أيضاً بل لا بد وأن يقيم فيه الغذاء مدة في مثلها يتمكن الكبد من أخذ الصالح منه الصافي فلذلك لا بد من أن يكون هذا التجويف بقرب الكبد ولا بد من أن يكون مع قبوله لجملة الغذاء دفعة يتعذر مع ذلك خروجه منه دفعة، وإنما يمكن ذلك بأن يكون لهذا التجويف امتداد كبير حتى يكون بعضه مستسفلاً على الاستقامة حتى يقبل نفوذ الغذاء فيه من المعدة دفعة ويكون بعضه مع ذلك ملتوياً متعرجاً حتى يعسر نفوذ هذا الغذاء منه إلى خارج دفعة فيفوت الكبد أخذ الصالح منه ولا بد من أن يكون مع تعاريجه والتواءه يصعد بعضه إلى فوق حتى يعسر نفوذ الغذاء في ذلك الصاعد إلا بفعل الطبيعة وذلك عند الحاجة إلى دفعه وذلك عند فراغ الكبد من جذب ما من شأنها جذبه منه.
ولا بد من أن يكون مع ذلك يسهل نفوذ الصالح منه إلى الكبد وهذا إنما يمكن بأحد أمرين: إما أن يكون فيه مجار ينفذ منها إلى داخل الكبد والكبد يجذب ذلك الصالح من تلك المجاري كما هو مذهبهم، وإما أن يكون جرم هذا التجويف واسع المنافذ والمسام حتى يسهل رشح ذلك الصالح من باطن التجويف إلى خارجه فيأخذ الكبد يجذبها له بعضها بنفسها وبعضه بانتشاف العروق التي هي كالأصول للعرق النافذ في مقعر الكبد الذي هو الباب وذلك كما هو مذهبنا. ولكن اتصال المجاري بهذا التجويف قد بينا أنه باطل لأمرين: أحدهما: الوجود كما بيناه فيما سلف مراراً .
وثانيهما: أن هذا التجويف لما كان الغذاء يحصل فيه وهو بعد كثير الرطوبة مستعد لأن تتولد منه الرياح والأبخرة والكبد والمرارة مجاورتان له فهما بحرارتهما يحدثان فيه ذلك وإذا حصلت هذه الرياح ولأبخرة في هذا التجويف فهي لا محالة تمدده وتغير وضع بعض أجزائه عن بعض فلو كان له عروق تتصل به وبالكبد لكانت تلك العروق تعرض لها كثيراً أن تتمدد تمدداً كثيراً ويلزم ذلك تقطعها وكان يلزم ذلك تعذر نفوذ الغذاء وخروج الرطوبات التي في الكبد من ذلك المنقطع من تلك العروق وكان يلزم ذلك فساد البدن، فلذلك نفوذ الغذاء من هذا التجويف إلى الكبد لا يمكن أن يكون بعروق تتصل به وبالكبد كما قالوه. فلا بد من أن يكون على الوجه الذي ذكرناه وإنما يمكن ذلك بأن يكون هذا التجويف ذا مسام كثيرة واسعة وإنما يمكن ذلك بأن يكون جرم هذا التجويف له ثقب حتى يمكن نفوذ الغذاء من خلله، وهذا التجويف هو العضو المسمى بالمعاء.
قوله: خلق أمعاؤه التي هي آلات دفع الفضل اليابس كثيرة العدد والتلافيف.
قد ذكر ها هنا لكثرة عدد الأمعاء وكثرة تلافيفها منفعتين:

إحداهما: أن يتأخر خروج الثفل منها فلا يخرج كما يدخل فيلزم سرعة خروجه سرعة الحاجة إلى التغذي لأنه إذا خرج بسرعة خرج قل أخذ الكبد منه الغذاء الكافي فاحتيج إلى إدخال غذاء آخر ليأخذ منه القدر الكافي ويلزم ذلك أن يكون حال الإنسان في كثرة عدد اغتذائه كحال الدواب وتلك حال مستنكرة ولذلك فإن من يفعل ذلك من الناس ينسب إلى الشره، والغذاء الوارد بعمل ذلك يكون حاله كحال الأول فيخرج أيضاً بسرعة، ويلزم ذلك كثرة حاجة الإنسان إلى القيام للتبرز وذلك أيضاً مستنكر شاغل له عن المهام ونحوها.
وثانيتهما: أن كثرة عدد الأمعاء وتلافيفها يلزمه تغيير أو ضاع الغذاء الذي في تجويفها وذلك لأن ما كان منه في موضع في العمق يرجع في موضع آخر في المحيط أو ما يقرب منه فيسهل نفوذ ما ينفذ منه إلى الكبد.
أما عندهم فبسبب قربه من العروق الماصة عند حصوله من المحيط.
وأما عندنا فلأجل قربه حينئذٍ من مسام المعاء التي يخرج منها على سبيل الرشح.
ولقائل أن يقول: إن هاتين المنفعتين ليستا متوقفتين على كثرة عدد الأمعاء لأنها لو كانت واحدة ولكنها طويلة وكثيرة التلافيف لكانت هاتان المنفعتان متحققتين مع أن الأمعاء واحد؟ وجوابه: أن اختلاف الأمر في هذا ليس إلا في العبارة فقط، فإن قولنا أن عدد الأمعاء ستة ليس معناه، أن ستة أمعاء منفصل بعضها عن بعض كل واحد منها يقال له معاء بل جميع هذه متصلة. وإنما قلنا إنها كثير ة العدد بمعنى أن بعضها رقيق الجرم ضيق التجويف، وبعضها غليظ الجرم، واسع التجويف. وبعضها ذاهب في الاستقامة. وبعضها ملتو آخذ على الاستدارة وغير ذلك. والكل في الحقيقة شيء واحد متصل فلا فرق بين أن يقال: إنها معاء واحد مختلف الأجزاء فيما ذكرنا، وبين أن يقال إن كل جزء منها معاء برأسه إذ الجميع متصل كشيء واحد. والخلاف في العبارة فقط. والغرض بطول بقاء الغذاء في الأمعاء بالذات ليس تأخر خروجه أو تأخر طلب الغذاء بل الغرض الذاتي بذلك أن يكثر ما يصل إلى الكبد من الغذاء عند طول لبثه في الأمعاء لكثرة ما يجذبه إليها منه.
قوله: فيتمكن طائفة أخرى من العروق من امتصاص صفاوته التي فاتت الطائفة الأولى إن أراد بهذا الطائفة من العروق بعض العروق الملاقية للأمعاء وهي التي في الثرب مثلاً فذلك صحيح وإن أراد بعض العروق التي نعتقد أنها نافذة في أجرام الأمعاء إلى تجاويفها فذلك مما أبطلناه فيما سلف. والله ولي التوفيق.

البحث الثاني
تعديد الأمعاء
وتمييز بعضها عن بعض
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وعدد الأمعاء ست.. إلى قوله: لزجة مخاطية تقوم مقام التشحيم.
الشرح

إن عدد الأمعاء يجب أن يكون ستة. وذلك لأن المعاء المتصل بقعر المعدة وهو المعروف بالإثني عشري لابد من أن يكون مستقيماً ليسهل نفوذ الغذاء إلى تجويفه سريعاً. وسمي كذلك لأنه بقدر اثني عشر إصبعاً بأصابع صاحبه. إنما كان كذلك لأنه يحتاج مع تسفله أن لا يبعد كثيراً عن الكبد فيقرب ما يبعد منه عنها ما يحدث بسبب حرارتها وقوتها الهاضمة من زيادة انهضام الغذاء أعني بذلك الانهضام الذي بعد الغذاء هضم الكبد لا الانهضام الكيلوسي. فإن ذلك الهضم يتم في المعدة وإفادة المعدة له أولى من إفادة المعاء له فلذلك لم يجعل طوله كثيراً بل بقدر ما يتسع لما ينزل إليه من الغذاء فقط ولما كان هذا المعاء ينزل مستقيماً وابتداؤه من المنفذ الذي في أسفل المعدة. وذلك المنفذ في وسط عرض البدن لزم أن يكون نفوذ هذا المعاء قدام فقرات الصلب ولذلك قالوا إنه يرتبط بها ليبقى وضعه محفوظاً ولا ينحرف بما يحدث له من الرياح ونحوها، وهذا لا يصح فإن هذا الموضع قدام أسفل الحجاب، والحجاب يحول بينه وبين عظام الصلب فلذلك لا يمكن ارتباطه بتلك العظام البتة كما أن هذا المعاء يجب أن يكون مستقيماً ليسهل نفوذ الغذاء إلى تجويفه كذلك المعاء الآخر وهو المسمى بالسرم وهو المتصل بالمخرج الذي هو الدبر يحتاج أيضاً أن يكون مستقيماً ليسهل خروج الثقل منه ولذلك يسمى هذا المعاء المستقيم وإنما يختص بهذا الاسم له مشاركة الأول في ذلك لأن الأول لقصره ليست تلزمه الاستقامة بخلاف هذا المعاء فإن هذا يأخذ في الانحدار من قرب المعدة إلى الدبر منحدراً على فقار الظهر لأنه يمتد من الدبر إلى الموضع المحاذي له من فوق والدبر في وسطه ثخانة البدن فلذلك يكون هذا المعاء ممتداً في وسط عرض البدن فلذلك يكون ممتداً على فقرات الظهر وقد وسع هذا المعاء وطول ليتمكن أن يتسع لقدر كثير من الثقل، وإنما يمكن لأن هذا الثقل قد يجف ولا يسهل خروجه ويحتبس أياماً فيحتاج هذا المعاء أن يكون تجويفه بحيث يتسع لما يجتمع في تلك الأيام من الثقل. وإنما يمكن ذلك بأن يكون هذا المعاء مع كثرة سعته كثير الطول وأما المعاء الذي بعد الإثني عشري فلا يمكن أن ينزل أيضاً مستقيماً فإن الغذاء ينحدر من المعاء الإثني عشري دفعة. وكان هذا الثاني يتعدى إلى الكبد بكثير وينحدر الغذاء منه سريعاً جداً فلا يتمكن الكبد ولا العروق التي حوله والتي في الثرب من أن يمتص منه غذاء كثيراً، ولا كانت قوة الكبد الهاضمة تقوى على هضم الغذاء الذي فيه فلذلك احتيج أن يكون هذا المعاء يأخذ أو لاً إلى جهة اليمين ليصل إلى الكبد ثم ينحرف عنها آخذاً إلى اليسار وإنما كان كذلك لأن ابتداء هذا المعاء هو من آخر المعاء الإثني عشري فلو نفذ على الاستقامة نازلاً لخرج الغذاء منه ومن الإثني عشري دفعة فلم يكن له منفعة ما في هضم الغذاء ولا في أخذ الكبد منها الصفاوة ولو نفذ أو لاً إلى اليسار لبعد أو لاً عن الكبد وقل جداً ما يأخذ الكبد منه من الغذاء فلذلك احتيج أن ينفذ أو لاً إلى اليمين، ولا يكفي وصوله إلى هناك وإلا كان قصيراً جداً فيقل لذلك منفعته، فلذلك جعل له طول يعتد به ونفذ من اليمين إلى اليسار، وتعدى بذلك موضع ابتدائه ليطول، وهو في أخذه إلى اليمين يأخذ مرتفعاً لئلا يخرج الغذاء من الإثني عشري بسرعة لان نفوذ الثفل إلى فوق عسر ثم إذا انعطف إلى اليسار آخذاً إلى أسفل لأنه لا يجد مسافة مستقيمة لأن سلوكه إلى اليسار تحت مسلكه إلى اليمين وهو في سلوكه إلى اليمين يسلك مرتفعاً فلذلك في سلوكه إلى اليسار لا بد وأن ينحدر ويلزم ذلك سرعة انحدار الغذاء من تجويفه فلذلك نفوذ الغذاء إلى هذا المعاء يطول ويعسر ونفوذه عنه يقصر فلذلك يبقى تجويفه خالياً أعني بذلك تجيفه من عند قرب الكبد إلى آخره وذلك عندما يأخذ في الانعطاف ويلزم ذلك أن يخلو آخر تجويفه الآخذ إلى اليمن عند قرب الكبد لأن الغذاء إذا انحدر من ابتداء انعطافه إلى اليسار جذب ما وراءه لئلا يخلو المكان فيلزم ذلك خلو أكثر تجويفه الآخذ إلى جهة الكبد ولذلك يسمى هذا المعاء بالصائم لأنه بحسب وضعه يخلو تجويفه بسرعة كخلو جوف الصائم ومع ذلك فإن المرارة موضوعة بحذائه فلذلك يكثر ما يترشح منها إليه من الصفراء. وذلك بلذعه يسرع خروج ما في تجويفه من الغذاء وكذلك العروق الماصة هي بقربه كثيرة.

فكثيراً ما تأخذ منه من الغذاء وذلك موجب لخلوه وكذلك الكبد لقربها منه يكثر ما يمتصه من الغذاء وجميع ذلك موجب لخلو تجويفه لذلك يسمى بالصائم. وإذا كان كذلك فالمعاء الذي بعد هذين لا بد من أن يكون كثير التلافيف لكثير مقام الغذاء فإن بقاءه في هذين المكانين قليل.ً ما تأخذ منه من الغذاء وذلك موجب لخلوه وكذلك الكبد لقربها منه يكثر ما يمتصه من الغذاء وجميع ذلك موجب لخلو تجويفه لذلك يسمى بالصائم. وإذا كان كذلك فالمعاء الذي بعد هذين لا بد من أن يكون كثير التلافيف لكثير مقام الغذاء فإن بقاءه في هذين المكانين قليل.
أما الأول فلأجل استقامته. وأما الثاني فلما قلناه.
وهذا المعاء الثالث يسمى بالدقيق. ولكن هذه الثلاثة جميعها دقاق لأن ما فيها من الغذاء يكون بعد رقيق القوام سيالاً، ومع ذلك فإن جرمها دقيق وذلك ليسهل ترشيح الغذاء من مسامها ولما اختص الأول منها باسم الاثني عشرى واختص الثاني باسم الصائم بقي هذا الثالث ليس له حالة يستحق لأجلها اسماً خاصاً فخصوه بالاسم العام للثلاثة وهو الدقيق.

وهذا المعاء طويل ملتف ليطول بقاء الغذاء فيه ليستوفي منه الكبد ما يحتاج أن يأخذ منه من الغذاء والذي يأخذه من هذه الثلاثة إنما هو الدقيق الجرم. وأما ما لم يتم هضمه ولم تكمل رقة قوامه، فإن أخذ الكبد له كالمتعذر فلذلك احتيج أن يبقى الغذاء في معاء آخر مدة طويلة ليتم انهضام باقي الغذاء فيه فلا يبقى منه ما يتعذر نفوذه إلى الكبد، وإنما يمكن بقاء الغذاء في ذلك المعاء مدة طويلة إذا كان كثير التلافيف جداً كثير الطول أو كان ذا فم واحد ليكون الفم الذي يدخل فيه الغذاء هو الذي يخرج منه ولابد من أن يكون مع ذلك شديد القرب من الكبد حتى يمكن عملها فيه وأخذها الغذاء منه ويلزم ذلك أن يكون هذا المعاء على الوجه الثاني اعلأي يكون ذا فم واحد إذ لو كان على الوجه الأول أعني كثير الطول كثير التلافيف لم يتسع المكان حتى تكون جميع أجزائه بقرب الكبد فلا بد أن يكون على الوجه الثاني وهو أن يكون ذا فم واحد وإنما يمكن ذلك بأن يكون طرفه الأخير وهو الذي في اليمين مسدوداً أعني أنه لا يكون له هناك فم، ويكون طرفه الأخير وهو البعيد عن الكبد متصلاً بما بعده من الأمعاء وتكون المعاء المعروف بالدقيق نافذاً في جرمه عند قرب اتصاله بالمعاء الذي بعده وهذا المعاء يسمى بالأعور وهو متسع كأنه كيس والغرض بذلك أن يكون فيه الغذاء مدة طويلة ليتم انهضامه فيه، ويكثر ما يأخذه الكبد منه وأما المعاء الذي بعده وهو الذي يتصل بفمه فيجب فيه أن لا يكون مستقيماً وذلك لأن الغذاء إذا تم انهضامه في المعاء الأعور فإن الواصل منه إلى الكبد إنما يكون بما هو بقرب ظاهره فقط. وإما أن يكون في عمقه فإنه لا يتمكن من الرشح حتى يأخذه الكبد إلا بأن يصير بقرب الظاهر وذلك إنما يمكن بأن ينفذ في معاء كثير التلافيف طويل حتى يحدث بسبب ذلك الغذاء تغير في أو ضاعه فإذا صار ما كان في عمق المعاء الأعور في قرب ظاهر هذا المعاء الذي بعده يمكن من الترشح حتى يأخذه الكبد بنفسها وبانتشاف العروق التي هناك ثم نقلها إياه إلى الكبد من العرق المسمى بالباب فلذلك المعاء الذي يندفع إليه الغذاء من المعاء الأعور لابد من أن يكون كثير الطول كثير التلافيف فلذلك يستحيل أن يكون هو المعاء المستقيم المسمى بالسرم فلا بد من أن يكون غيره ومن ذلك المعاء يجب أن ينفذ الثفل إلى المعاء المستقيم لأنه يكون حينئذٍ قد يخلص من الغذاء الذي يحتاج إلى نفوذه إلى الكبد وبقي ثفلاً فقط، ومن ذلك المعاء المستقيم يندفع إلى خارج برازاً، وهذه المعاء الذي يندفع إليه الغذاء من المعاء الأعور هو المعاء المسمى بالقولون وسمي بذلك لأن حدوث القولنج في أكثر الأمر يكون فيه وذلك لأن الغذاء يندفع إليه من الأعور. وهو كثير مجتمع قد غلظ جرمه بكثرة ما انفصل من المعاء من المعدة الرقيق الرطب الصافي، وإذا كان هذا المندفع كذلك وجب في كثير من الأحوال أن تحدث شدة لأن الغذاء ينتقل إليه بعد أن كان في وعاء متسع فينتقل من سعة إلى مضيق وذلك محدث للشدة فلذلك الانسداد الحادث في الأمعاء المحدث للقولنج الحقيقي، إنما يحدث في هذا المعاء ولذلك يسمى قولون مشتقاً من اسم القولنج وهذه الثلاثة جرمها غليظ ليكون قوياً فلا تنخرق بقوة تمديد الثفل وحدته وتجويفها كثير السعة خاصة الأعور فإنه كالكيس كثير السعة وبعده في السعة المعاء المستقيم أما زيادة سعته فليتسع ثفلاً كثيراً كما قلناه أو لاً وأما أنه أقل سعة من الأعور فلأن الأعور يحتاج أن يجتمع فيه شيء من مادة الغذاء والثفل لينضج فيه كما قلناه فلذلك اقل هذه منفعة هو المعاء القولون.
هذه الأمعاء الثلاثة الأمعاء الغلاظ، كما تسمى تلك الثلاثة الأولى الأمعاء الدقاق. ولما كانت هذه الغلاظ تحتاج أن يكون جرمها أقوى واصبر على خدش الثفل في داخلها جرم شحمي ليمكنها من ملاقاة الثفل فيقل تضررها به والله ولي التوفيق.

البحث الثالث
المخالفة بين المريء والمعاء الاثني عشري
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه والمعاء الاثني عشري... إلى قوله: وسعتها سعة فمها المسمى بواباً.
الشرح

قوله إن النافذ من المريء لا يتعاطاه من القوى الطبيعية إلا قوة واحدة وإن كانت الإرادية تعينها. نفوذ الغذاء في المريء هو عندنا بقوة إرادية فقط لا بقوة طبيعية لكن هذه الإرادية عندنا منها إرادية مطلقة وهي التي معها شعور بالفعل وبأن ذلك الفعل مراد وهذه هي التي تسمى في المشهور إرادية. ومنها إرادية طبيعية وهي التي الإرادة فيها للقوة الحيوانية التي لنا، وهي إرادية لتلك القوة ولا يلزم ذلك أن تكون إرادية لنا، وكذلك اندفاع الغذاء عن المعدة إلى الاثني عشري هو أيضاً عندنا بهذه الإرادة الطبيعية، وبالقوة الجاذبة التي هي في هذا المعاء. وهي أيضاً إرادة طبيعية فنفوذ الغذاء في هذين العضوين هو في كل واحد منهما بقوتين لكن القوتان اللتان ينفذ بهما الغذاء في المريء من نوعين متقاربين بالجنس، وكلاهما إرادي وهما جاذبتان لكن إحداهما تجذب بالإرادة المطلقة، والأخرى تجذب بالإرادة الطبيعية وأما القوتان اللتان ينفذ بهما الغذاء في المعاء الاثني عشري، فهما أيضاً إراديتان والإرادة فيهما من نوع واحد وهي الإرادة الطبيعية لكنهما مختلفتان بالجنس اختلافاً كبيراً، وذلك لأن إحداهما جاذبة، والأخرى دافعة لأن نفوذ الغذاء في هذا المعاء يتم بجاذبة هذا المعاء، ودافعة المعدة وقد عرفت أنا قد بينا أو لاً أن جميع الأفعال التي تتم بالليف وهي الجذب والدفع والإمساك جميعها عندنا إرادية ولكن من الإرادات الطبيعية.
قوله: إذا كانت المعدة تحتاج إلى جذب لما ينفذ فيه. لكن حاجة المعدة إلى الجذب أكثر لأن المجذوب إليها الغذاء، والغذاء من شأنه أن يجذب إلى الأعضاء، وأما المجذوب إلى الأمعاء فهو أكثر فضل الغذاء والفضلات من شأنها أن تندفع لا أن تجذب فلذلك كان من الغالب على ليف الأمعاء هو الليف العرضي العاصر فإن هذا الليف فعله الدفع.
قوله: وكالطحال يسره أما أن بعض الكبد يحصل في الجانب الأيمن تحت المعدة فذلك ظاهر فإن بعض زوائدها تكون كذلك، وأما الطحال فإنه ليس يكون تحت المعدة بل عن يسارها من أسفل أي من أسفل يسارها لأنه يكون تحتها بجملته. والله ولي التوفيق.

البحث الرابع
تشريح المعاء الصائم والمعاء الدقيق
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه والجزء من الأمعاء الدقيقة... إلى قوله: كما يخلو عن عروق كبدية تأتيها لمص وجذب.
الشرح زيادة هضم الأمعاء الدقيقة على الأمعاء الغليظة ليست بجواهرها فإن الجوهر الدقيق أقل حصراً للحرارة لكن استيلاء الأجرام الأخرى عليه أكثر لأن الرقيق يتمكن بقوة المجاورة له من النفوذ في جرمه أكثر فإذا كان ذلك العضو المجاور ذا قوة قوية الهضم كما هو المجاور للأمعاء الدقاق جرم الكبد وهي قوية الهضم جداً كان هضم ذلك الرقيق بذلك أكثر فلذلك يكون هضم هذه الأمعاء الدقاق بسبب مجاورتها للكبد أشد من هضم الأمعاء الغلاظ بكثير، وأما الأمعاء الغلاظ فإن قوتها على دفع ما في داخلها وإخراجه أقوى كثيراً من قوة الأمعاء الدقاق وذلك لأن الأمعاء الدقاق في غالب تكون ما في داخلها سيالاً شديد القبول للتحرك والسيلان، فلذلك يكفي في دفعه إلى الأمعاء الأخر أيسر قوة فلذلك لم يحتج أن يخلق قوى هذه الأمعاء قوية الدفع. ولا كذلك الأمعاء الغلاظ فإن ما في داخلها في أكثر الأمر يكون غليظاً عسر الإجابة إلى الاندفاع فلذلك احتيج أن تخلق قواها الدافعة قوية، وأما هضمها بذواتها فقد يكون أقوى بكثير من هضوم الأمعاء الدقاق بذواتها وأما الهضم بسبب مجاورتها الكبد فإنه في الدقاق أقوى لأجل قربها من الكبد مع رقة جرمها. و الله ولي التوفيق.
البحث الخامس
الكلام في بقية الأمعاء وهي الأمعاء الغلاظ
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه ويتصل بأسفل الدقاق معاء يسمى الأعور... إلى قوله: أكثر من عضل الكبد لحاجتها إلى حس كثير.
الشرح إن هذا المعاء المسمى بالأعور اختص بأمور: أحدها: أنه ذو فم واحد يدخل فيه الغذاء من المعاء المعروف بالدقاق ومن ذلك الفم يخرج منه المعاء المسمى قولون.

وثانيها: أن هذا المعاء مع أنه من الغلاظ فإن هضمه أقوى من هضم جميع الأمعاء غليظها ورقيقها، وإنما كان كذلك لأنه مع قربه من الكبد فإن الغذاء فيه ثابت لا يتحرك من موضع إلى غيره، وذلك أقوى الأسباب على قوة الهضم فلذلك في هذا المعاء يتم هضم جميع ما فات المعدة إتمام هضمه فلذلك نسبته إلى الأمعاء الغلاظ الأخر كنسبة المعدة إلى الأمعاء الدقاق.
وثالثها: إنه مع أن الثفل يدوم فيه مدة طويلة فإنه شديد الإعانة على دفعه جملة وذلك لأن الشيء القليل قد يعسر دفعه بطريق العصر بخلاف الكثير المجتمع فإن جرم العصر يتمكن منه أكثر من تمكنه من القليل المتفرق. وباقي ألفاظ الكتاب ظاهرة. والله ولي التوفيق.

فصل
تشريح الكلية
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه حلقت الكلية آلة تنقي الدم... إلى قوله: فيأتيها شريان له قدر من الشريان الذي يأتي الكبد.
الشرح
إن بقاء لبدن بدون الغذاء محال واغتذاؤه إنما يمكن بعد فعل الكبد في الغذاء وإنما يمكن ذلك بأن يكون الغذاء ينفذ في الكبد في عروق شديدة الضيق جداً لتكون الكبد كأنها بجميع أجزائها ملاقية للغذاء فيكون فعلها فيه أتم وأقوى وأسرع ونفوذ الغذاء في تلك العروق إنما يمكن بأن يترقق قوامه جداً وذلك إنما يمكن بأحد أمرين:

إما حرارة شديدة الإفراط مذيبة للأغذية كما يكون في أبدان الجوارح فإن تلك تبلغ من قوة حرارتها أن تذيب ما يلقاه من الأغذية ولو الكثيفة الجرم جداً، وأما كثرة مخالطته من الماء، فإن الماء قوامه رقيق جداً فإذا خالط الأغذية مخالطة تامة بالطبخ التام كما في طبخ المعدة ويلزم ذلك ترقق قوام المجموع الحاصل من الماء ومن تلك الأغذية وحرارة بدن الإنسان ونحوه من الماشية ليست تقوى على إذابة الأغذية كما هي حرارة أبدان الجوارح فلا بد من أن يكون وفق قوام الأغذية في الإنسان ونحوه، وإنما هو بكثرة مخالطة المائية وهذه المائية الكثيرة إما أن تكون قوة حرارة البدن فيها شديدة كما يكون في أبدان الطيور أو لا تكون كذلك، فإن كان الأول لم يضر البدن مخالطة تلك المائية الكثيرة الأغذية لأن قوة حرارته تحلل ما يخالط غذاه من تلك المائية فلذلك لا يحتاج إلى إخراجها بالبول كما في أبدان الطيور فإن من الطيور ما يشرب الماء كثيراً، ومع ذلك فلا يبول وذلك لأن قوة حرارة بدن ذلك الطير تحلل المائية الزائدة، فلا يتضرر بدنه بما يصحب غذاءه منها، وإن كان الثاني وهو أن يكون البدن الذي يحتاج إلى ترقيق غذائه بكثرة المائية ليس له حرارة شديدة يفي بتحليل تلك المائية فإما أن يكون أعضاؤه كثيرة المائية حتى تكون محتاجة إلى تلك المائية الزائدة في تغذيتها كما في السمك أيضاً فهذا أيضاً لا يتضرر أعضاؤه بكثرة المائية فلذلك السمك أيضاً لا يبول أو لا تكون أعضاؤه كثيرة المائية كما في الإنسان ونحوه من الماشية، فهذا الحيوان يحتاج إلى إخراج تلك المائية الزائدة بالبول لئلا يفسد غذاؤه وترهله فيصير حاله كحال البدن الذي به استسقاء لحمي وإنما يمكن إخراج تلك المائية ودفعها بعد فراغ المقصود منها وهو الحاجة إلى ترقيق قوام الأغذية ليتمكن نفوذها في عروق الكبد وذلك إنما يكون بعد انفصال ذلك وإنما يمكن ذلك بعد خروجه من حدبتها وإنما يمكن ذلك بأن تتميز تلك المائية وتنجذب إلى حيث تندفع بالبول وإنما يمكن هذا التمييز بأن يجتذب الأعضاء الأخر من ذلك الغذاء ما هو صالح لتغذيتها وذلك هو الدم الجيد المتين فلذلك يبقى الدم المائي في خارج حدبة الكبد متميزاً عن ذلك الدم المتين بسبب جذب الأعضاء لذلك الدم وإذا تميز هذا الدم المائي فإنما يمكن نفوذه إلى حيث يخرج بالبول بانجذابه إلى ذلك الموضع الذي يكون فيه الدم الثاني متميزاً هو عند حدبة الكبد وهو بعيد جداً هو مجاري البول المتصلة بالمثانة فإن كل واحد من هذين يجب أن يكون في أسافل البدن على ما تعرفه بعد، فلا بد من عضو آخر يقوى على جذب هذا الدم المائي وذلك بان يكون موضع ذلك العضو بين المثانة، وبين محدب الكبد ليكون أقرب إلى هذا المحدب فيكون قريباً من الدم المائي المتميز ولا بد أن يكون مع ذلك قوى الجذب إنما يمكن ذلك بأن يكون مزاجه حاراً فإن الحرارة تعين على الجذب وإنما يكون ذلك العضو كذلك إذا كان لحمياً لذلك احتيج أن يكون بين المثانة ومحدب الكبد عضو حار لحمي قوى الجذب للدم المائي وذلك هو الكليتان.
ولقائل أن يقول: إن هذا لا يصح وذلك لأن كل عضو فإنه إنما يجذب مادة ليتغذى منها فالغذاء لا بد من أن يكون شبيهاً بالمغتذي وجوهر الكليتين كثيف أرضي وذلك ما لا يناسبه ولا مشابهة الدم المائي فلذلك يستحيل أن تكون الكليتان تجذبان هذا الدم المائي.

وجوابه: أن جذب الكليتين للدم المائي لا يلزم أن يكون لتغذية جميع أجزائها فإن جرم الكلية وإن كان صلباً كثير الأرضية فإن الشحم الكثير الذي يحتف بها جوهره جوهر مائي فلذلك إنما يتغذى بما فيه بكثير المائية جداً، وذلك الدم المائي لا بد فيه من دم متين، وذلك الدم المتين يقوم بغذاء جرم الكلية وما يبقى من الدم كثير المائية قليل الدموية جداً تصرفه الكلية إلى غذاء الشحم فلذلك يكون جذب الكلية لذلك الدم المائي ليس لما يغتذي به جوهرها فقط بل لتغذية جوهرها وتغذية شحمها فإن قيل وما السبب في خلقة الكلية كذلك وهلا كانت بجملة أجزائها من طبيعة واحدة وذلك بأن يكون من لحم رخو يصلح لأن يغتذي بهذا الدم المائي قلنا هذا لا يمكن. وذلك لأن جرم الكلية يحتاج أن يكون قوي الحرارة جداً ليقوى على جذب هذا الدم مع بعده، وليفي بتسخين أسفل الظهر فإن أسفل الظهر يغلب عليه البرد جداً وذلك لكثرة الأعضاء الباردة هناك وهي العظام والأغشية وجوهر العروق والأعصاب خاصة وهو لأجل بعده عن القلب يقل تسخنه بحرارته فلذلك يحتاج إلى عضو شديد الحرارة يتسخن به وذلك هو الكلى وهي بذاتها شديدة الحرارة وأحر كثيراً من الطحال لكن الطحال أكثر حرارة منها إذا اعتبرت الكلية هي وما عليها من الشحم.
وأما جرم الكلية نفسه فهو أشد حرارة من الطحال وإن هذا العضو يحتاج أن يكون شديد الحرارة فلا يمكن أن يكون جوهره لحماً رخواً فإن اللحوم الرخوة لا بد من أن تكون كثيرة الرطوبة وإنما يمكن ذلك إذا لم تكن الحرارة كثيرة فيها قوية شديدة التحليل للرطوبات ولذلك جرم الكلية لا يمكن أن يكون من لحم رخو فلا بد من أن يكون من لحم صلب، والأعضاء التي في أسفل الظهر مع أنها باردة فهي أيضاً يابسة كالعظام الأغشية والأعصاب وطبقات العروق. فلذلك الموضع يحتاج أيضاً إلى عضو يوطنه وإنما يكون ذلك حاراً.
كما أن العضو الحار جداً لا يمكن أن يكون كثير الرطوبة فلا بد من أن يكون ذلك العضو الرطب مغايراً للعضو المسخن وجرم الكلية مسخن بقوة وجرم الشحم مرطب بقوة مع أنه ليس بمبرد لأن الجرم الشحمي بما يفعله من السخونة لا بد من أن يكون مسخناً فلذلك اجتمعت هاتان المنفعتان في الكليتين فخلق جرمها حاراً وشحمها مرطباً ومجموعها يغتذي بدم ما في جرمها يغتذي كما في ذلك الدم من الدم المنتن وشحمها تغتذي بالباقي من ذلك المجموع أعني الدم المائي، وكل واحد من جانبي أسفل الظهر يحتاج إلى ما قلناه من التسخين والترطيب ولذلك احتيج أن يكون في كل جانب كلية ولو خلق للجانبين كلية واحدة لكانت هذه الكلية إن وضعت في الوسط فلا يخلو إما أن تكون عظيمة جداً حتى تصل مع ذلك إلى الجانبين فتزاحم الأعضاء التي هناك أو تكون صغيرة فيكون تسخينها إنما هو توسط اسفل الظهر فيكون تسخينها حيث لا يحتاج إلى تسخين لأن هذا الوسط يتسخن بالشريان والوريد العظيمين عليه، ويبقى جانبا أسفل الظهر بغير مسخن فلذلك لا بد من كليتين ولا يتم المقصود بواحدة وللكليتين منفعة أخرى غير ما ذكرناه وهي أنهما يعينان على تمام تكون المني وذلك بإسخانهما الدم النافذ في العروق الواصلة بينهما وبين الأنثيين وذلك هو الذي تنصب إليه المادة النازلة من الدماغ في عظام الصلب التي هي كالخميرة للمني فيحيل ذلك الدم إلى طبيعتها ويصير المجموع منياً ولذلك فإن صاحب الكلى الحارة باعتدال يكون كثير المني قوياً في الجماع والله ولي التوفيق.

فصل
تشريح المثانة
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه كما أن الخالق تعالى خلق للثفل وعاءً... إلى قوله: ليكون جسها بما يرتكز ويتمدد أكثر.
الشرح

لما كان الإنسان من جملة الحيوانات التي تشرب الماء، ومع ذلك فحرارته ليست قوية شديدة التحليل كما في الطيور، ولا أعضاؤه كثيرة المائية كما في السمك وجب بالضرورة أن يكون من جملة الحيوانات التي تحتاج أن تبول ولو كان بوله يبرز إلى الخارج أو لاً فأولاً على قدر انفصاله من الكلى لكانت تلك حركة رديئة مستقذرة فيلطف الخالق تعالى فجعل ما ينفصل من كلاه قليلاً قليلاً يجتمع في تجويف عضو إلى أن يكثر، وذلك في أو قات متباعدة وذلك العضو هو المثانة، ولا بد من أن تكون هذه المثانة موضوعة في أسفل البدن لتكون بالقرب من الموضع الذي ينبغي أن يكون اندفاع الفضول منه وهو أن يكون في جهة مقابلة لمدخل الغذاء، أو الآلة التي يندفع فيها البول في الرجال هو الإحليل وفي النساء هو الفرج فلذلك يجب أن يكون وضع المثانة هو بقرب هذين العضوين وجرم المثانة لا بد من أن يكون قوياً جداً ليتمكن من الصبر على حدة البول ولذعه ومع ذلك لا يقبل الانشقاق عند امتلاء هذا العضو من البول وتركزه، ومع ذلك فيجب أن لا يكون جرمه غليظاً جداً فيزاحم الأعضاء الأخر خاصة وتجويف هذا العضو يحتاج أن يكون كثير السعة ليمكن أن يجتمع فيه مقدار كثير من البول فلذلك جرم هذا العضو الذي هو المثانة يجب أن يكون عصبياً غشائياً ليكون جرمه مع قلة ثخنه قوياً ويجب أن يكون أعلاه ومقدمه من طبقة واحدة لأن هذا الموضع لا يشتد تركزه عند امتلاء المثانة من البول لأن البول بثقله يميل إلى أسفل، وما فوق المثانة يمنع شدة تمددها إلى فوق، وكذلك ما أمامها من الأعضاء يمنع تمددها إلى قدام فلذلك إنما يشتد تمددها إلى خلف وإلى أسفل فلذلك احتيج أن يكون جرم المثانة في هاتين الجهتين قوياً، فلذلك جعل اسفل المثانة ووراؤها من طبقتين وإذا نفذ إليها العرقان المعروفان بالحالبين: أحدهما من الكلية اليمنى، والآخر من الكلية اليسرى. فأول نفوذهما يخرقان الطبقة العالية وينفذان كذلك مسافة ما ثم يخرقان الطبقة السافلة ويفضيان إلى تجويف المثانة، وفائدة ذلك أن تكون المثانة إذا امتلأت حتى ضغطت الطبقة الداخلة الخارجة انضغط ذنك العرقان الحالبان النافذان بين الطبقتين فانسدا فامتنع رجوع البول إلى ما وراء المثانة وامتنع أيضاً رجوع البول بعد ذلك إلى المثانة. وألفاظ الكتاب ظاهرة. والله ولي التوفيق.

فصل
تشريح الأنثيين وأوعية المني
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه قد خلق الأنثيان كما علمت... إلى قوله: يصل برقبة المثانة أسفل من مجرى البول.
الشرح
إنا عند شرحنا للأمور الطبيعية من هذ الكتاب تكلمنا في المني وذكرنا مذاهب الناس فيه. وذكرنا مذهب جالينوس وأصحاب العلم فيه وحججهم ومع ذلك فلم نحقق الكلام فيه هناك.
وأما ها هنا فإنا نريد أن نحقق الكلام في المني ونبين كيفية تكونه ولكن على وجه مختصر ونبين بعد ذلك ما فعل الأنثيين فيه. وذلك على الوجه المحقق ولا علينا من مخالفة المشهورين.
فنقول: إن المادة التي يتكون منها البدن محال أن تكون متشابهة الأجزاء وإلا لم يكن تكون بعضها عظماً أولى من تكونه عصباً ورباطاً بل لحماً وجلداً ونحو ذلك فلذلك لا بد من أن تكون هذه المادة مختلفة الأجزاء، وإن كان ذلك الاختلاف قد لا يظهر للحس فلذلك يكون بعضها أولى بأن يكون عظمياً وبعضها أولى بأن يكون عصبياً وبعضها أولى أن يكون عروقاً ونحو ذلك لا بد من أن يكون هذه الأجزاء المختلفة المزاج والقوام معدودة بعدد الأعضاء التي لا بد منها في تكون الإنسان حتى يكون كل واحد منها على مزاج وقوام يستعد لأجلهما لأن يكون مثلاً عظماً أو عصباً أو رباطاً ونحو ذلك وهذه المادة إما أن تكون منفصلة من بدن آخر ليكون منها بدن الجاذب فيكون تكون الإنسان ونحوه بالتوالد أو لا يكون كذلك فيكون تكون الإنسان ونحوه حينئذٍ هو بالتكون كما يكون آدم عليه السلام فإن تكونه من طين مختلف الأجزاء في المزاج والقوام حتى كان كل جزء من ذلك الطين مستعداً لعضو من الأعضاء الإنسانية بحسب ماله من ذلك المزاج وذلك القوام.

والله تعالى لكرمه لا يمنع مستحقاً من مستحقه فيعطي كل واحد من تلك الأجزاء ما يستعد له من صور الأعضاء فيكون حينئذٍ بدن آدم عليه السلام هذا. وأما التكوين بالتوالد فقد يكون في البيض، وقد يكون في داخل البدن. والمادة التي يتولد عنها في داخل البدن تسمى المنى، وهذا المنى إنما تكون أجزاؤه على الصفة التي ذكرناها إذا كان كل جزء منه قد يعدل في عضو حتى صار في مزاجه وقوامه شبيهاً بذلك العضو وإنما يمكن ذلك بأن يكون قد انهضم الهضم الرابع الذي عرفته، وإنما يكون كذلك إذا كان من الرطوبة الثانية فإن الدم إنما يصل إلى الأعضاء حتى ينهضم فيها الهضم الرابع إذا صار من هذه الرطوبة. وهذه الرطوبة قد بينا أن ما يتكون منها في البدن الذي هي فيه فإن أصنافه ثلاثة وهي الرطوبة المحصورة في أطراف العروق الساقية للأعضاء، والرطوبة المنبثة على الأعضاء كالطل والرطوبة القريبة العهد بالانعقاد فلننظر الآن أن المنى من أي الرطوبات يتكون فنقول إنه يتكون من الرطوبة الكلية وذلك لأن القريبة العهد بالانعقاد التي قد صارت من جوهر العضو الذي فيه وخرجت على أن تكون قابلة للسيلان، ومثل هذه لا يمكن أن يكون منها المنى. وأما الرطوبة المحصورة في أطراف العروق الصغار فلأن تلك لم تتصل بالأعضاء فلم يحصل لها بعد الهضم الرابع، فلذلك تكون المنى إنما يتكون من الرطوبة المبثوثة على الأعضاء كالطل، وهذه الرطوبة كيف يمكن وصولها إلى الأنثيين ثم إلى القضيب حتى يصير منياً، ومعلوم أنه ليس ما كل جزء من كل واحد من الأعضاء مجرى يسيل منه ما هناك من تلك الرطوبة إلى الأنثيين. فكيف يمكن وصولها إلى هناك؟ هذا إنما يمكن بأن تتبخر تلك الرطوبة من كل واحد من الأعضاء حتى يتصعد إلى أعلى البدن وهو الدماغ، وهناك تفارقها الحرارة المتبخرة فيبرد ويتكاثف ويعود إلى قوامها قبل التبخر ثم من هناك ينزل إلى الأنثيين.
وقد بينا في غير هذا الكتاب أنها تنزل في العروق التي خلف الأذنين وتنفذ إلى النخاع في عروق هناك وفائدة نزولها مع النخاع أن ينحفظ عليها ما أفاده الدماغ من التعدل فلا يعرض لها أن تتبخر بالحرارة كرة أخرى حتى وصلت قرب الأنثيين صادفت هناك عروقاً واصلة من الكليتين إلى الأنثيين وتلك العروق مملوءة من دم قد يسخن في الكليتين ويعدل فيحيله ذلك النازل من الدماغ إلى مشابهه بعض الاستحالة فلذلك يقرب من البياض ثم بعد ذلك ينفذ إلى الأنثيين فيكمل فيهما تعدله وبياضه ونضجه. ومنهما يندفع إلى أو عيته وهذا الدم الذي يكمل نضجه وبياضه في الأنثيين يقال له منى على سبيل التجوز وذلك لأجل مشابهته للمنى الحقيقي وهو النازل من الدماغ وفي الحقيقة فإن المتكون في الأنثيين هو فضلة غذائهما وليس بمختلف لأن أجزاؤه متشابهة وليس بمحيل إلى المنى الحقيقي المذكور. وأما أن الأنثيين من الأعضاء الرئيسة، وأنها تعطي هذه المادة التي كالمنى قوة مولدة ومصورة فلذلك قد بينا بطلانه فيما سلف. وعبارة الكتاب لا خفاء فيها. والله ولي التوفيق.

فصل
تشريح القضيب
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما القضيب فإنه عضو... إلى قوله: ولا بد من أن يتقدم خروجه خروجها.
الشرح

إن التكوين بالتوالد في الإنسان ونحوه إنما يتم في عضو مخصوص وذلك هو الرحم على ما تعرفه في موضعه، وإنما يمكن ذلك بأن يجتمع في الرحم المنى الذي يمكن معه هذا التوليد، فلذلك يحتاج أن يكون لهذا المنى طريق ينفذ فيه من الأنثيين إلى داخل الرحم، وهذا الطريق يسمى أيضاً وعاء المنى وموضع الرحم لا يمكن أن يكون في ظاهر بدن الأم وإلا كان يبرد بالهواء الخارجي فلا يكون فيه من السخونة ما بها يصلح لأن يتكون الجنين فلذلك لا بد من أن يكون موضع الرحم داخل البدن، ولا بد أيضاً من أن يكون بقرب أسفله ليكون حيث تندفع إليه فضول الأم الممدة للجنين بالغذاء مدة كونه وتلك الفضول هي دم الطمث. واندفاع الفضول من شأنه أن يكون إلى أسفل البدن فلذلك موضع الرحم لا بد من أن يكون في داخل البدن وبقرب أسفله فلذلك إنما يتمكن مجرى المنى من صب المنى في داخله إذا كان له امتداد يصل به إلى هناك فلذلك احتيج إلى القضيب يشمل على مجرى المنى ويتمكن ذلك المجرى بسببه من صب المنى إلى داخل الرحم فلذلك حاجة القضيب إنما هو للتمكن من إيصال المنى إلى داخل الرحم، وأما البول فليس به حاجة إلى القضيب بما هو بول بل ليتمكن به انزراق البول إلى حيث يبعد عن البدن فلا يسيل عليه فإن ذلك مستقذر ولذلك فإن من لا قضيب له يتمكن من البول، ولا يتمكن من صب المنى في داخل الرحم، فلذلك القضيب يجب أن يشتمل على ثلاثة مجارٍ: مجرى للبول، ومجرى للمنى، ومجرى آخر للمذي بينهما.

وإنما وجب ذلك لأن مجرى البول لا يمكن أن يكون هو مجرى المنى، وإلا كان المنى يفسد بما قد يبقى في ذلك المجرى من آثار البول، فلذلك لا بد من تغاير هذين المجريين خاصة ومجرى البول يحتاج أن يكون جرمه إلى صلابة لئلا ينفعل ويتألم بحدة البول وبلذعه فإن البول لا بد فيه من مرار حار يخالطه لينبيه على وقت وجوب إخراجه. وذلك المرار يؤلم المجرى اللين ويؤذيه فلذلك مجرى البول لا بد فيه من صلابة ومجرى المنى لا بد من أن يكون ليناً لينفعل عن حدة المني فيغرض فيه حينئذٍ شبه تفرق اتصال مؤلم ألماً ما ثم بعد ذلك يلتحم ذلك التفرق بما في المني من الغروية واللزوجة فيعود بذلك الاتصال الذي كان قد تفرق وعود هذا الاتصال يكون دفعة لأجل سرعة حركة المني كما تعرفه بعد، وعود الاتصال دفعة لذيذة فلذلك يكون خروج المني لذيذاً، وإذ يجري يحتاج أن يكون ليناً فهولا محالة يحدث له الانطباق والتضيق وخروج المادة من المجرى المنطبق الضيق عسر لا محالة وبطئ وخروج المني لينصب في داخل الرحم يجب أن يكون سريعاً جداً وفي زمان قصير وذلك لأن المني يفيد في الإحبال إذا كان باقياً على مزاجه وطول زمان خروجه مما يفسد مزاجه ويبرده فلا يصلح التوليد فلذلك يجب أن يكون مجرى المني عند سيلان المني فيه سهل الانفتاح غير معاوق له عن سرعة الخروج وإنما يمكن ذلك بأن تسيل عليه رطوبة متلينة تليناً يسهل معه اتساعه وهذه الرطوبة لا بد من أن يكون سيلانها على ذلك المجرى قبيل سيلان المني للخروج قبل تحريكه له إلى ذلك تحرك تلك الرطوبة وسيلانها لتليين مجرى المني، وسيلان المني وخروجه إنما سببه قوى الشهوة. وهذه الشهوة قبل قوتها تكون ضعيفة فلذلك الرطوبة الملينة لمجرى المني لا بد من أن يكون سيلانها عند ابتداء شهوة الجماع، وقبل قوتها وتلك الرطوبة هي المذي. فإن المذي من شأنه السيلان عند شهوة الجماع إذا لم تكن بعد اشتدت فإذا اشتدت أسالت المني وأخرجته فلذلك لا بد من أن يكون سيلان المذي متقدماً على سيلان المني لكنه قد يكون السائل منه بقدر تلين مجرى المني فقط ولا يسيل إلى خارج فلا يجس سيلانه، وسيلان المذي لا يمكن أن يكون في مجرى المني، وإلا كان المني يختلط به فيفسد، فلا بد من أن يكون في مجرى آخر. ويجب أن يكون ذلك المجرى فوق مجرى المني حتى يكون نفوذ قوته إلى مجرى المني أكثر فإنه يلين الرطوبة لما يسيل فوقه أزيد من تلينها لما يسيل من تحته وكيفية خروج هذا المذي وتحركه أن تكون شهوة الجماع إذا اشتدت حركت أجزاء القضيب لأجل التهيئة للجماع ويلزم ذلك انضغاط غدة موضوعة في ابتداء مجرى المذي ويلزم انضغاطها سيلان الرطوبة منها وأما مجرى البول فيجب أن يكون فوق هذين المجريين ليكون له فائدة في تلينها والبول لا يخلو من حدة فلذلك طول زمان مروره بالمجرى مما يلزمه تألم ذلك المجرى وانسحاجه، فلذلك لا بد من رطوبة أخرى تسيل عند إرادة البول لتلين مجراه ولا بد أيضاً من رياح تنفذ معه لتعين على انفتاح ذلك المجرى لئلا يعسر خروج البول، وهذه الرطوبة هي الودي، ولا يحتاج إلى مجرى آخر بل نفوذها في مجرى البول أولى لأن تلينها له حينئذٍ يكون مع أن مخالطة البول لها لا ضرر فيه كما يضر اختلاط المني بغيره فلذلك كان سيلان الودي في مجرى البول، وذلك بأن جعل في ابتدائه غدة إذا تحرك البول للخروج ضغط تلك الغدة فسالت منها تلك الرطوبة.
ولقائل أن يقول: لو كان الأجود في البول أن يكون خروجه بسرعة لكان يجب أن يكون مجراه مستقيماً، فإن قطع المسافة المستقيمة أسرع لا محالة من قطع المعوجة. ولمجرى البول في الرجال ثلاثة تعاريج، وفي النساء تعريج واحد؟ وجوابنا: أن هذه التعاريج ليست لإطالة زمان خروج البول فإن ضرر ذلك ظاهر بل تلك التعاريج الغرض منها تمكن القضيب من الانتشار فإن مجرى البول كما بيناه أو لاً لا بد من أن يكون إلى صلابة، والأجسام الصلبة ليس يسهل تمددها عند انتشار القضيب فإنه حين يخرج لا بد من أن يزداد طوله. فلو لم يكن هذه التعاريج لما أمكن انتشار القضيب لأن المجرى إذا استقام طال ما بين طرفيه وإنما كانت هذه التعاريج في الرجال كثيرة ليتمكن القضيب من الطول الكبير الذي لا بد منه في الانتشار.

وأما التعريج الذي للنساء فليمكن الفرج من البروز عند الجماع، ولما كان هذا البروز يسيراً لا جرم كفى من تعريج واحد، والمجاري الثلاثة تتحد عند رأس القضيب لأنها لو بقيت نافذة إلى طرفه لبقي له ثلاثة أبخاش ظاهرة وكان ذلك معرضه لكثرة التضرر بنفوذ ما عسى أن ينفذ فيها، فلذلك احتيج إلى اجتماع تلك المجاري جميعها عند رأس القضيب فلا يدرك فيه هناك سوى منفذ واحد، والقضيب في جميع الماشية يبرز عند الانتشار ويختفي عند الاسترخاء إلا في الإنسان فإنه يطول ويغلظ عند الانتشار ويقصر ويدق عند الاسترخاء وسبب ذلك أن جميع الماشية فإن المسافة ما بين صلبها وظاهر بطنها أكثر كثيراً مما بين جوانبها فتجد القضيب ما بين الصلب ومقابله مسافة كثيرة ويتسع له عند الاسترخاء فلذلك بقيت في تلك المسافة لأن ذلك أو فى له.
وأما في الإنسان فإن المسافة بين صلبه ومقدم بدنه أقل كثيراً مما بين جانبيه فتقصر مسافة ما بين خلفه وقدامه عن اختفاء القضيب فيها، وانتشار القضيب هو لأجل ما ينفذ في عروقه وأعصابه وأربطته من الروح الشهو أني والرياح التي تكون في العروق وأرواح كثيرة حيوانية، ولأجل نفوذ هذه الروح إليه ينفذ فيه دم كثر شرياني فإن هذه لروح لا تخلو عن مصاحبة الدم الشرياني لها ولأجل كثرة الدم وكثرة الأرواح يعرض له أن يسخن كثيراً. وألفاظ الكتاب غنية عن الشرح. والله ولي التوفيق.

فصل
تشريح الرحم
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه نقول إن آلة التوليد... إلى قوله: يهتكها الإفضاض ويسيل ما فيها من دم.
الشرح
قد علمت أن تكون الإنسان ونحوه بالتوالد إنما يمكن بأن يكون تكونه في عضو موضوع في داخل البدن في أسفله ليكون في جهة توجه الفضول المندفعة إليه ليغذوه وهي دم الطمث. وهذا العضو لا بد من أن يكون ذا أمور: أحدها أنه لا بد من أن يكون هذه الفضول التي تصلح لإمداده يكثر نفوذها إليه وذلك ليقوم بغذائه وتتم المادة التي منها يتكون وإنما يمكن ذلك بأن يكون ذلك العضو من شأنه قبول اندفاع دم الطمث إليه ودم الطمث هو فضلة رطوبات الأم. وهذه الفضلة لا يختص إندفاعها من عضو واحد بل هي مندفعة في جميع الأعضاء وإنما يمكن أن يكون اندفاعها إلى عضو ما إذا كان ذلك العضو يأتيه عروق تتحرك فيها تلك الفضلة من جميع الأعضاء إليه فلا بد من أن تكون العروق الآتية إلى هذا العضو آتية إليه من جميع الأعضاء فلذلك لا بد من أن تكون كثيرة جداً، ولأن الجنين إنما يمكن تكونه بأن تتصرف فيه قوى كثيرة، وإنما يمكن ذلك بأن تأتيه أرواح كثيرة والأرواح إنما تأتي الأعضاء في الشرايين فلذلك هو العضو لا بد من أن يأتيه شرايين كثيرة.
وثانيها: أن هذا العضو لا بد من أن يكون جرمه قوياً ليقوى على ضغط الجنين وتوقيه من جميع الواردات، ولا ينخرق بقوة تمديد الجنين له إذا عظم ولا بد من أن يكون هذا العضو مع قوة جرمه ليس بكثير الثخانة جداً وإلا كان يزاحم بقية الأحشاء والعضو الذي هو مع قوته قليل الثخانة هو الغشائي فلا بد من أن يكون جوهر هذا العضو غشائياً ولا يمكن أن يكون من غشاء واحد لأن هذا العضو يحتاج أن يكون ظاهره صلباً ليقوى على الأعضاء المجاورة له ودفعها أمامه ليتسع المكان عند عظم الجنين، وأما ظاهره فيجب أن يكون شديد اللين لأنه يلاقي الجنين والجرم الواحد لا يمكن أن يكون أحد سطحيه أصلب من الآخر إلا إذا كان ثخنه كثيراً، وذلك غير ممكن في الرحم. وإلا كان يلزم أن يكون جرمه عظيماً جداً فلذلك الرحم لا بد من أن يكون جرمه من غشائين: أحدهما في داخل الآخر، ولا بد من أن يكون الداخل كثير العروق جداً لأنه هو الذي يلاقي الجنين والغشاء الظاهر إنما هو ليقوم حمل العضو ولذلك يحتاج أن يكون الغشاء الباطن كثير العروق جداً ليفي بإيصال الغذاء والنسيم والروح إلى الجنين.

وثالثها: أن هذا العضو لا بد من أن يختلف حاله في توجه دم الطمث إليه وذلك لأن سيلان دم الطمث إلى هذا العضو لو كان مستمراً قليلاً لتعذر الحمل دائماً أو كان ما يتفق من الحمل مع بعد يكون فيه الجنين فاسد المزاج لأجل اختلاط ما يسيل من دم الطمث بالمني الذي يدخل إلى تجويف هذا العضو بالإنزال ولو كان سيلان هذا الدم دائماً في أو قات بينها مدة طويلة لكان الجنين إلى أن يأتيه دم الطمث يجف لعدم الغذاء فلذلك لا بد من أن يكون سيلان هذا الدم إلى هذا العضو في حال الحمل مستمراً وقليلاً قليلاً على القدر الذي يحتاج إليه الجنين أو قريب من ذلك القدر، وأما في حال عدم ذلك الحمل فيكون سيلان هذا الدم بعد مدد متباعدة ويكون السائل بقدر كثير ليقوم بنقاء البدن مع طول مدة الظهر التي يجود معها الحمل.
ورابعها: أن هذا العضو لا بد من أن يكون موضوعاً بين أعضاء لينة حتى إذا عظم الجنين وزاحم تلك الأعضاء لم يتضرر بصلابتها فلذلك وضع هذا العضو بين المثانة والأمعاء إذا ليس في الأعضاء السفلية من الأحشاء ما هو لين يتحمل تمديد الجنين إذا عظم سوى هذين العضوين.
وخامسها: أن هذا العضو لا بد وأن يكون بقدر يتسع تجويفه للجنين إذا عظم فإنما يمكن ذلك إذا كان مقداره عظيماً وكذلك لابد من أن يكون له منفذ إلى خارج ليخرج منه دم الطمث وليدخل فيه المني إلى داخله ولابد من أن يكون هذا المنفذ ليس بقصير جداً فيكون هذا العضو بقرب الهواء الخارجي ولا بطويل جداً فيه فلا يسهل نفوذ المني فيه إلى داخل ذلك العضو غلا في مدة لها طول فيفسد مزاجه ويخرج بذلك عن الصلوح للتوليد. وهذا العضو هو الرحم وهذا المنفذ هو عنقه وإنما يمكن دخول المني فيه إلى داخل الرحم بإيلاج القضيب فيه. فلذلك لا بد من أن يكون مع ذلك شديد القبول للتمدد والاتساع ليمكن خروج الطفل منه عند الولادة فلذلك لا يمكن أن يكون جرمه شديد الصلابة كالعظم ونحوه ولا يمكن أيضاً شديد اللين كاللحم وإلا لكان ينحرق عند شدة تمدده ليتسع لخروج الطفل ولا بد من أن يكون مع ذلك آخذاً من الرحم إلى اسفل ليكون خروج ما يخرج منه من الأشياء التي لها ثفل أسهل.
قوله: هي الرحم وهي في أصل الخلقة مشاكلة لآلة التوليد التي للذكران وهي الذكر وما معه.
إن الفاضل أبقراط يطلق لفظ الرحم تارة على العضو الذي يتكون الجنين فيه وهو الذي ذكرنا حاله قبل وهذا العضو هو آلة التوليد في الإناث وتارة على عنق هذا العضو وهو المجرى الذي يخرج منه الحيض، ويدخل فيه القضيب وهذا هو الذي يشاكل الذكر في الذكران ويشبه ذكراً مقلوباً.
قوله: وكأن الصفن صفاق الرحم.
يريد بالرحم ها هنا العضو الذي يتكون فيه الجنين ومشابهته للصفن هو أنه كيس يحتوي على شيء في داخله لكن الذي في داخل الصفن البيضتان والذي في داخل الرحم الجنين. وإنما كانت البيضتان في الرجال خارجتين عن البدن محصورتين في الكيس الذي هو الصفن وأما في النساء فإنهما مدفونتان في الفرج كل واحدة في جانب لأن الحال لو لم يكن كذلك تعذر الإحبال وذلك لأن الإحبال إنما يتم بأن يكون إنزال الرجال مع إنزال المرأة أو يقرب زمانه جداً، ولولا أن بيضتي الرجال مخالفة لبيضتي النساء بما ذكرناه لتعذر اتفاق الإنزالين في وقت واحد، وذلك لأن مني الرجال حار المزاج حاد يسيل بأدنى شهوة ويخرج سريعاً ومني المرأة بخلاف ذلك لأنه كثير المائية قليل الحرارة جداً، فلولا بعد بيضتي الرجال وبروزهما لما كان إنزاله يتأخر إلى حين إنزال المرأة. ولولا اندفان بيضتي النساء وتسخنهما بحرارة باطن البدن لما كان إنزالهن يتقدم حتى يوافي إنزال الرجال.
قوله: ثم ينثني هابطاً متعرجاً مؤرباً ذا التفافات يتم بها نضج المني، السبب في تعريج أو عية المني في الرجال، وذلك بعد تصعدها إلى الاتصال بالمجرى الذي في أصل الذكر هو أن تكون هذه الأوعية قابلة للتمدد والزيادة في الطول. وذلك بأن تقرب من الاستقامة والغرض بذلك أن يستعجل انتشار القضيب ولا تمانعه عن ذلك تلك الأوعية لو كانت مستقيمة وأما أن هذا التعريج لأجل إتمام إنضاج المني فذلك مما لا يصح فإن المني يتم في الأنثيين وبقاؤه في هذا التعريج ليس مما يطول حتى يستفيد بذلك زيادة نضج بل يندفع منها بسرعة لئلا يفسد مزاجه بطول زمان نفوذه وهذا كما قلناه في تعريج مجرى البول.

وقوله: من الجانبين يريد أن أو عية المني تنفذ من البيضتين وكل واحدة منهما في جانب فتكون هذه الأوعية كذلك وإذا نفذت إلى أصل القضيب اتصلا بمجرى المني عند أصل القضيب وذلك المجرى واحد، فلذلك يتصلان بهذا المجرى من جانبيه.
قوله: وأما في النساء فيميل من البيضتين إلى الخاصرتين كالقرنين.
يريد أن أو عية المني في النساء تميل من البيضتين إلى الخاصرتين وبيان هذا أن مني النساء ينصب في عنق الرحم من ثقبين متقابلين: أحدهما من جهة اليمين، والآخر من جهة اليسار، وذلك لأن هذين الوعائين يتصلان بالبيضتين أحدهما بالبيضة اليمنى وهو الذي في الجانب الأيمن والآخر من الجانب الأيسر، ويتصل بالبيضة اليسرى وكل واحد من هذين يأخذ مرتفعاً مع ميل إلى الخاصرة التي في جهته ثم ينحرف راجعا إلى الوسط فيفضي إلى عنق الرحم فيكون كل واحد من هذين الوعاءين معوجاً كالقرن لأنه يكون كقطعة صغيرة من دائرة عظيمة وإنما جعل كذلك ولم ينفذ كل منهما على الاستقامة، لأن النساء يعرض لهن عند الجماع أن يمتد منهن عنق الرحم ويبرز جانبا فروجهن.
ولو كان هذان الوعاءان مستقيمين لما أمكن ذلك وإنما كان انعواجهما إلى جهة الخاصرتين لا إلى قدام وخلف ولا إلى جهة الوسط لأن هذه الجهات جميعها ليس فيها ما يتسع لهذا الانعواج وعند الجماع إذا تمدد عنق الرحم والفرج لزم ذلك تمدد كل واحد من هذين القرنين وانجذب طرفا كل واحد منهما ويلزم ذلك أن يجذبا عنق الرحم إلى الجانبين لأن كل واحد منهما يجذبه إلى جانبه ويلزم ذلك اتساعه فيجود قبوله المني ونفوذه فيه إلى داخل الرحم.
قوله: وطولها المعتدل في النساء ما بين ست أصابع إلى إحدى عشر إصبعاً يريد بذلك طول العنق لا طول الرحم، ولذلك قال: وقد يقصر ويطول باستعمال الجماع وتركه. والذي هو كذلك هو عنق الرحم لا الرحم بعينه.
قوله: يزيدها السمن صلابة وتقصر.
أراد بذلك أن السمن يزاحم لحم العنق فبضيق ويكثر ممانعته حينئذ للقضيب عن الدخول فيظن لذلك أنه صلب. وفي الحقيقة فإنه لين لأن زيادة السمن توجب زيادة الرطوبة والتليين.
قوله: وهو أقرب إلى فم الرحم مما يلي أعاليه يريد بفم الرحم هاهنا فم عنقه لأنه طرف مجرى البول في الفرج قريب جداً من فم عنق الرحم وهو مع قربه من هذا العنق فهو فوقه لأن المثانة فوق الرحم فلا بد من أن يكون مجراها فوق مجرى الرحم أي عنقه.
قوله: وقبل افتضاض الجارية يكون في رقبة الرحم أغشية إن المقصود بهذه الأغشية ليس أن تسد فم العنق في زمن الصغر كما يظنون بل الغرض بها أن تكون البيضتان في النساء كما هو في الرجال أعني في كيس واحد، وإنما يمكن ذلك بأن يكون ذلك الكيس ماراً على رقبة الرحم فلذلك يسده، وينبغي أن يكون هذا الغشاء رقيقاً جداً ليسهل انخراقه بالجماع ليمكن الإيلاج والعروق التي في هذا الغشاء هي العروق التي في صفن الرجل. والله ولي التوفيق.

فصل
تولد الجنين
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه إذا اشتملت الرحم على المني... إلى قوله: وإذا ولد لم يحصل النوم.
الشرح

كل جسم طبيعي فإن تحققه إنما يكون محصول صورته النوعية إذا حصلت لتلك المادة استعداد لقبول تلك الصورة وإنما يكون ذلك إذا حصل لتلك المادة الكيفية التي بها يكون ذلك الاستعداد أعني الاستعداد لقبول تلك النفس وإنما يحصل ذلك لتلك المادة بأن يكون بكيفية بعدها لتلك النفس وذلك لأن المادة بذاتها قابلة لجميع الصور وجميع النفوس، واجتماع صور كثيرة فيها، أو نفوس كثيرة محال فلا بد في قبول بعض أي في قبول أن يحصل للمادة صورة معينة دون غيرها ويتعلق بها نفس بعينها دون غيرها من أمور تقتضي ذلك فلذلك المادة إذا سخنت بإفراط تعذر عليها في أن تتصور بصورة الماء وكانت صورة النار بها أولى فلذلك يقال إن هذه المادة مستعدة للصورة النارية، وإنها غير مستعدة للصورة المائية وكذلك المادة إذا بردت استعدت للصورة المائية ولم تستعد للصورة النارية وكذلك إذا كانت المادة خارجة جداً عن الاعتدال الحقيقي لم تكن مستعدة لتعلق النفس الإنسانية بها البتة وكانت مستعدة للتعلق بنفس أخرى أو غير مستعدة للتعلق بنس البتة فلذلك المعد لحصول صورة معينة أو للتعلق بنفس معينة إنما يكون لكيفية تقتضي للمادة ذلك فلذلك مهما حصلت تلك الكيفية لمادة ما أعدتها لحصول الصورة المناسبة لها وللتعلق بالنفس المناسبة لها والله تعالى لكرمه لا يمنع مستحقاً مستحقه فلذلك يعطي كل مادة ما تستعد له من الصور والنفوس، فلذلك إذا اجتمع المنيان في الرحم واختلطا وحصل من اختلاطهما مزاج إنساني استعد ذلك الممتزج من المنيين لقبول صورة الإنسان والتعلق بنفس إنسانية، وحصل له من ذلك من الله تعالى.

وسبب هذا الامتزاج أن الرحم بطبعه شديد الاشتياق إلى مني الرجل حتى إنه يحصل له عند الجماع أن يعرض له الارتعاد ويتحرك إلى البروز للتوصل إلى مني الرجل لو لا الأربطة المانعة من البروز، فإذا كان كذلك فهولا محالة يشتد جذبه لما حصل في داخله من مني الرجل. وإذا لاقى هذا المني جرم الرحم التذ به لا محالة كثيراً جداً بما فيه من السخونة والإدفاء المعتدلين وصار ذلك كماء معتدل السخونة صب على بدن قد برد، ومع هذا الالتذاذ الشديد لا بد من أن يحدث له تألم بما يحدثه ذلك المني بحدته من اللذع، وتفريق اتصال جرم الرحم فتختلط تلك اللذة الشديدة بهذا الألم فيشتاق لذلك الرحم إلى ما يزيل ذلك السبب المؤلم ومني المرأة رطب قليل الحرارة فلذلك يحتاج جرم الرحم إلى جذبه لدفع ذلك الألم فينجذب المنيان إلى سطح الرحم ويلزم ذلك شدة اختلاطها وجميع الأجسام التي في هذا العالم المختلفة الطبائع يحدث لها لا محالة تفاعل يؤدي إلى كيفية متوسطة بين تلك الطبائع المختلفة. وتلك الكيفية تسمى مزاجاً فلذلك لا بد من حدوث هذا المزاج عن اختلاط المنيين فيكون هذا المزاج قريباً جداً من الاعتدال لأجل تكافؤ قوى المنين في الخروج عن الاعتدال. فلذلك يستعد المركب حينئذٍ منهما لحصول صورة إنسانية وللتعلق بنفس إنسانية وإنما تنتع النفس بذلك إذا صار بدناً. فلذلك تحتاج تلك النفس الجاذبة إلى تكميل ذلك المجتمع من المنيين وذلك بأن يصير بدناً إنسانياً، وإنا يمكن ذلك لقوى تحدث له فيفعل فيه ذلك وهو في تلك الحال غير قابل لجميع القوى التي للإنسان فلذلك تقبض عليه من القوى ما يمكن قبولها أو لاً وتلك هي القوة الحيوانية فإن جميع أفعال الإنسان وقواه موقوفة على الحياة. والقوة الحيوانية إنما تقوم بروح حيواني فلذلك يحتاج هذا الممتزج أن يحدث فيه أو لاً روح حيواني وحدوث هذا الروح أسهل لا محالة من حدوث الأعضاء. فلذلك يحدث له أو لاً هذا الروح وذلك بأن يتبخر من ذلك المني لأجل تسخنه في الرحم أبخرة لطيفة وتلك الأبخرة هي لا محالة من أجزاء دموية قد كمل نضجها وتلطفت بالحرارة فلذلك هذه الأجزاء البخارية تخالط ما يكون في الرحم من الهواء الواصل بعضه من عنق الرحم بعضه من الشرايين النافذة في جرم الرحم، ويحدث من اختلاط ذلك جرم شديد الاستعداد للاستحالة إلى جوهر الروح فإذا نفذ من أرواح الأم شيء إلى داخل الرحم من أفواه الشرايين النافذة فيه أحاله ذلك الجرم روحاً. وتلك الروح يتصور بالقوى الحيوانية فلذلك يحدث لهذا المني أو لاً قوة حيوانية قائمة بروح حيواني وهذه القوة والروح محال أن يضيعا حينئذٍ وأن يتركا منيين في فضاء الرحم بل لا بد من نفوذهما حينئذٍ إلى داخل ذلك المني وليس موضع منه أولى من آخر فيجب أن يجولا في وسطه فلا بد من أن يحدث لهما حينئذٍ مكان ينحصران فيه فلذلك يحدث لهما في المني تجويف ينحصران فيه وذلك التجويف إذا تم خلقته بعد ذلك الوقت كان هو البطن.

وذلك المنفذ لا بد من تصلبه بتدافع أجزاءه عند نفوذ ما ينفذ فيه والحرارة هناك تزيده انعقاداً فيكون من ذلك السرة، فلذلك السرة أو ل عضويتم فيه تكونه وتجويف القلب أو ل عضو يحدث في المني لكن صلابة جرم القلب تمنع من سرعة تكونه فلذلك تمام تكون السرة يسبق تمام تكون القلب وتجويف القلب يسبق حدوث السرة لأنها إنما تحدث بعد احتياج الروح المحوية في تجويف القلب إلى نفوذ الهواء إليه. والمنفذ الذي تكون فيه السرة ثم بعد أن يصير الجنين حياً مغتذياً يحتاج أن يصير مع ذلك حساساً متحركاً بالإرادة وإنما يمكن ذلك بتعدل القوة الحيوانية حتى يمكن صدور تلك الإرادة عنها وإنما يمكن ذلك بعضو بارد ورطب، فإن هذه الروح حارة قليلة الرطوبة الندية فإنما يعتدل بعضو هو كذلك، وهذا العضو البارد الرطب هو الدماغ على ما بيناه في موضعه، فلذلك يحتاج الجنين أن يتكون له الدماغ، وابتداء تكونه وإن كان متأخراً فإن تمامه يتقدم تمام تكون القلب، وذلك لأن الرطوبة أقبل للانفعال والتخلق من غيرها، فلذلك تمام تكون الدماغ يظهر في الجنين قبل تمام تخلق القلب ثم الدم الواصل إلى الجنين من بدن الأم يحتاج إلى أن يستحيل إلى مشابهة مزاج الجنين ومشابهة جوهر أعضائه والعضو الذي يتم فيه تكون الدم الغاذي للبدن هو الكبد فلذلك يحتاج الجنين إلى أن يتكون الكبد لأجل إصلاح ما يرد إليه من بدن الأم فإن ذلك الوارد لحدته ويبوسته لا يصلح لغذاء الجنين ما لم يتعدل وينصلح مزاجه في الكبد فلذلك يتكون الكبد، وربما سبق أيضاً تمام تكونها لتمام تكون القلب لأنها عضو رطب بخلاف القلب. وقبل هذه الأحوال جميعها لا بد من أن يكون الغشاء الأول الذي يسمى المشيمة وذلك لان وصول الروح والدم إلى داخل المني إنما هو من العروق التي في هذا الغشاء. وكيفية تكونه أن المني عند أو ل وروده إلى داخل الرحم لا بد أن يتسخن بحرارة باطن الرحم. وهذه الحرارة لا بد من أن ينبسط جرمه فيزداد حجمه. والغشاء الباطن من غشاءي الرحم لا بد من اشتماله على ذلك المني فلذلك لا بد للمني حينئذٍ أن يلاقي ذلك السطح، وقوام المني لزج، وكل لزج لاقى سطحاً حاراً فلا بد من انعقاد ظاهر ذلك الجسم بحرارة ذلك السطح، ويلزم ذلك أن يحدث في ظاهر المني جرم غشائي وفي الغشاء الباطن من غشاءي الرحم عروق كثيرة ساخنة وضاربة من أفواه تلك العروق تقضي إلى داخل الرحم لأن من هذه العروق ينفذ دم الطمث ويرتفع ما يرتفع من فضل المادة التي تفضل من غذاء الجنين إلى الثديين فيحدث منهما اللبن وكذلك الأرواح والنسيم الواردان إلى الرحم إنما يردان إليه من هذه الأفواه التي للشرايين وهذه الأفواه لأنها أطراف العروق تكون لا محالة صلبة خشنة وكذلك إذا ماس المني باطن الغشاء الثاني من غشاءي الرحم وهو الداخل فلا بد من أن يلتصق بهذه الأفواه ما يلاقيها من جرم المني فيتعلق لا محالة بها، وإذا تفشش ما في المني من الجرم المخلخل لجرمه الباسط له عاد المني إلى حجمه الأول فنزل بذلك عن مماسته جرم هذا الغشاء الداخل من غشاءي الرحم وبقيت الأجزاء الملتصقة بتلك الأفواه ملازمة لها فامتد من تلك الأجزاء خيوطاً متصلة من تلك الأفواه إلى الغشاء الحادث على سطح المني وبعض هذه الخيوط يتصل بأفواه الأوردة وبعضها يتصل بأفواه الشرايين فإذا نزل الدم من الأوردة ونزلت الروح من الشرايين نفذ كل واحد منهما في الخيوط المتصلة بأفواه عروقه فلذلك ينفذ الدم في الخيوط المتصلة بأفواه أو ردة الرحم وتنفذ الروح في الخيوط المتصلة بشرايين الرحم فلذلك تصير تلك الخيوط مجوفة كأنها وصلات لأوردة الدم وشرايينها وتتحد التي ينفذ فيها الدم فيصير غرقاً واحداً ينفذ في السرة في كبد الجنين لأجل تغذيته وتتحد التي فيها الروح فتصير عرقاً وواحداً ينفذ في السرة إلى تجويف قلب الجنين لأجل إفادة الروح وتعديلها بالنسيم ثم بعد ذلك يعرض للمني أن يتسخن كرة أخرى ويربو ويتخلخل حتى يلاقي الغشاء الداخل فيلزم ذلك أن يعرض لتلك الخيوط التي صارت عروقاً انعطافات على الغشاء الداخل على سطح المني لأجل لزوجة المني تلتصق تلك العروق المنعطفة بذلك الغشاء فإذا تخللت الحرارة من ذلك المني كرة أخرى وضمر وصغر حجمه عاد كرة أخرى نازلاً من ملاقاة الغشاء الداخل من غشاءي الرحم ويلزم ذلك تمدد ما بقي من تلك العروق غير

منعطف فإذا عاد المني بعد ذلك إلى التسخين والتخلخل وارتفع إلى ملاقاة الغشاء الداخل عرض لتلك العروق الممتدة انعطافات كثيرة أخرى ولصق بالغشاء الحادث على سطح المني كما عرض أو لاً ثم إذا عاد المني إلى تجمعه كرة أخرى وامتد ما بقي منها غير منعطف ولا يزال الأمر كذلك حتى تكثر تلك العروق الملتفة جداً وحينئذٍ إذا تسخن المني وتخلخل حتى لاقى جرم الغشاء الداخل من غشاءي الرحم وينخرق نه أجزاء منوية فلاقت ذلك الغشاء حدث من تلك الأجزاء غشاء آخر فوق تلك العروق تحفظ أو ضاعها فلذلك تبقى تلك العروق الكثيرة كلها بين هذين الغشاءين وجملة ذلك يقال له المشيمة ومن هذه المشيمة يكون غذاء الجنين ووصول الروح والنسيم إلى بدنه ثم بعد ذلك يحدث للجنين غشاءان آخران أحدهما في الشهر الثاني، وثانيهما في الشهر الثالث. وسنتكلم فيهما فيما بعد.طف فإذا عاد المني بعد ذلك إلى التسخين والتخلخل وارتفع إلى ملاقاة الغشاء الداخل عرض لتلك العروق الممتدة انعطافات كثيرة أخرى ولصق بالغشاء الحادث على سطح المني كما عرض أو لاً ثم إذا عاد المني إلى تجمعه كرة أخرى وامتد ما بقي منها غير منعطف ولا يزال الأمر كذلك حتى تكثر تلك العروق الملتفة جداً وحينئذٍ إذا تسخن المني وتخلخل حتى لاقى جرم الغشاء الداخل من غشاءي الرحم وينخرق نه أجزاء منوية فلاقت ذلك الغشاء حدث من تلك الأجزاء غشاء آخر فوق تلك العروق تحفظ أو ضاعها فلذلك تبقى تلك العروق الكثيرة كلها بين هذين الغشاءين وجملة ذلك يقال له المشيمة ومن هذه المشيمة يكون غذاء الجنين ووصول الروح والنسيم إلى بدنه ثم بعد ذلك يحدث للجنين غشاءان آخران أحدهما في الشهر الثاني، وثانيهما في الشهر الثالث. وسنتكلم فيهما فيما بعد.
قوله: زبدية المني هو من فعل القوة المصورة، والحقيقة في حال تلك الزبدية تحريك من القوة المصورة لما في المني من الروح النفساني والطبيعي والحيواني إلى معدن كل واحد منه.
أما حدوث الزبدية في المني عند حصوله في الرحم فذلك لأجل تسخنه بحرارة باطن البدن، وأما أن ذلك من فعل القوة المصورة. إنما هو إفادة الصورة وإحداث الزبدية ينافي ذلك، وعندهم إن هذه القوة يستفيدها المني من الأنثيين، وأنها من قوى نفس الأب على رأيي، ومن قوى نفس الأبوين على رأي جالينوس. وأن الأنثيين عضو رئيس لأجل إعطائه هذه القوة. والقوة المولدة ونحن قد بينا فيما سلف بطلان هذا الكلام وأن المني ليس فيه شيء من القوى وإنما هو مادة يتكون منها البدن، وما يحدث فيه من القوى الغاذية والمصورة ونحو ذلك فإنما هو من قوى النفس الحادثة وهي المتعلقة بذلك المني ليتكون منه الشخص الحادث وليس في المني عندنا روح نفساني وطبيعي وحيواني، بل هو رطوبات اجتمعت وحدث لها الحرارة المنضجة غليان أو جب لها زبدية وبتلك الزبدية يبيض لو نه ويغلظ قوامه غلظاً غير حقيقي وإذا برد وزالت منه الزبدية رق قوامه وليس للقوى الطبيعية عندنا روح ولا هي أيضاً مستفادة من الكبد ولا الكبد عندنا عضو رئيس وكل ذلك قد بيناه فيما سلف وليس يوجد عندنا في المني نفخ يمتلأ من روح إلا النفخ الذي يصير فيه الروح الحيواني الذي يحدث من المني في الرحم ويصير ذلك النفخ تجويفاً للقلب كما قلناه.
قوله: وإنما يغتذي هذا الجنين بهذا الغشاء، ما دام الغشاء رقيقاً وكانت الحاجة إلى قليل من الغذاء. وأما إذا صلب فيكون من الاغتذاء إنما يتولد في مسامه من منافذ الغشاء الذي يتولد في الجنين أو لا وهو الغشاء المشيمي واغتذاء الجنين هو من ذلك الغشاء ما دام جنينا لأن هذا الغشاء يحتوي على عروق كثيرة بعضها يتصل بالأوردة النافذة إلى الرحم فتكون في هذه العروق الدم ومن ذلك يغتذي الجنين بأن ينفذ في عروق تتكون من تلك العروق نافذاً إلى كبد الجنين من سرته، وبعض تلك العروق يتصل بالشرايين النافذة إلى الرحم وفي تلك العروق أرواح ونسيم نافذان إليها من تلك الشرايين وهذه العروق يتحد منها عرق واحد ينفذ بالروح والنسيم إلى قلب الجنين من سرته. وأما أن الجنين يغتذي من مسامه، فذلك مما لا يصح البتة.
قوله: إنه يحكى عن أبقراط أنه قال: أو ل عضو يتكون هو الدماغ والعينان هذا الكلام إن صح عن أبقراط فالمراد به أن الدماغ أو ل عضو من الأعضاء الرئيسية يتم تكونه.

أقول: إن الصواب أن يكون أو ل عضو ينخلق هو الكبد لا شك أن أو ل قوة تحدث في المني بعد القوة الحيوانية هي قوة الغذاء، وهذا لا يلزمه أن يكون الكبد يتكون أو لاً. ولأنها يتكون أو لاً قبلها سوى القلب من الأعضاء وذلك لأن القوى الطبيعة جميعها عندنا تجذب الأعضاء بذواتها لا بإعطاء الكبد لها. وقد حققنا هذا من قبل.
والدم الذي يغتذي به الجنين ليس يلزم أن يكون متولداً في بدنه فضلاً عن أن يكون من الكبد بل ذلك الدم يأتي إليه من بدن الأم فلذلك وجوب تقدم الكبد في التكون ليس بلازم ولا أيضاً وجوب تقدمها على ما سوى القلب فإن السرة تكون قبلها وكذلك الدماغ لأن حاجة الجنين إلى الكبد لا لأجل إصلاح الدم الآتي إليه من الدم وإن كانت متقدمة على الحاجة إلى الدماغ لكن يكون الدماغ أسرع لأجل زيادة رطوبة مادته.
وها هنا بحث لا بد من تحقيق الكلام فيه وهو أن لقائل أن يقول: إن المني إذا اجتمع في الرحم يشاهد في داخله نقطة حمراء تشتد ظهورا كلما تحرك ذلك الموضع، وذلك الشيء الأحمر لا بد من أن يكون دماً، ويلزم من هذا أحد أمرين: إما أن يكون الدم في القلب وأنتم لا تقولون بذلك وإما أن يكون في الكبد أو لاً لأن يكون الدم إذا لم يكن في القلب فلا بد أن يكون في الكبد، وتكونه في الكبد متأخراً لا محالة عن تكون الكبد وعن مشاهدة هذه النقطة الحمراء في وسط المني لا يكون القلب قد تكون فيلزم ذلك أن يكون تكون الكبد قبل تكون القلب بكثير ويلزم ذلك أن يكون تكونها قبل تكون الأعضاء الأخر جميعها؟ والجواب عن هذا: إن تلك النقطة مسلم أنها من الدم ولكن ذلك الدم لا يلزم أن يكون متكوناً لا في القلب ولا في عضو آخر أعني من أعضاء الجنين وذلك لأن أصل المني كما علمت هو المتصعد بالحرارة إلى الدماغ. وهذا المتصعد لا يلزم أن يكون جميعه من الرطوبات المائية لأن الحرارة تصعد كل رطوبة تجذبها ولذلك لا بد من أن يكون المني مخالطاً لكثير من المائية وهي التي يتصعد بتلك الحرارة ولا بد أيضاً من أن يكون مخالطاً لشيء من الدم وهو الذي يتصعد بسبب تلك الحرارة المصعدة للرطوبة الثانية أيضاً. لكن هذا الدم يسير جداً لأن الدم محصور في العروق وهي كيفية الأجرام فلا يتمكن ما فيها من الدم من التصعد بالحرارة فلذلك إنما يتصعد منه شيء يسير جداً وذلك اليسير ما دام منبثاً في جرم المني يكون مختلطاً به فلا يتميز للحس فإذا استقر المني في الرحم فمن شأنه أن يجتمع كل جزء فيه مع جنسه فلذلك تجتمع الأجزاء المتبخرة من غذاء العظم بعضها إلى بعض وكذلك الأجزاء المتبخرة من غذاء العصب ونحو ذلك وكذلك الأجزاء الدموية تجتمع لا محالة بعضها إلى بعض فيصير من الجملة قدر محسوس وهذا لابد من أن يكون في مكان ما من المني وليس موضع منه أولى من آخر فيجب أن يكون في وسطه لأن ذلك الموضع متميز عن غيره ونسبة إلى الأطراف جميعها على السواء فلذلك يجب أن يكون هذا الدم في وسط المني وليس موضع أولى به أيضاً من آخر فلذلك يجب أيضاً أن يكون في وسط المني فلذلك الدم والروح يجب أن يكونا في وسط المني وذلك بأنه يحدث نفخة يكونان فيها وتلك النفخة إذا تم تكونها كانت في تجويف القلب كما بيناه فلذلك الدم المجتمع في المني لا بد من أن يكون أو لاً في تجويف القلب ولا يلزم ذلك أن يكون الدم يتكون في القلب ولا أن يكون تكون الكبد متقدماً على تكون القلب وأما أن تلك النقطة الحمراء يشتد ظهورها كلما تحرك الموضع الذي هي في داخله فذلك لأن حركة ذلك الموضع هي حركته في الانبساط فإنا قد بينا النفاخة التي تكون فيها الروح وهي التي تصير تجويفاً للقلب لا بد من أن تكون متحركة حركة انبساط وانقباض وإذا انبسطت بتخلخل جرمها فكانت الرؤية تلك النقطة أسهل وأوضح.

قوله: والحال الأخرى ظهور النقطة الدموية في الصفاق وامتدادها في الصفاق هذه النقطة الدموية ليست تظهر في الصفاق بل في داخل المني وذلك في النفخة التي تصير تجويفاً للقلب كما قلناه والظاهر أن الغلط في هذا أو قع من الغلط في فهم كلام الفاضل أبقراط وذلك لأنه قال: كما أنه إذا قشر الإنسان قشر البيض الأعلى يرى شبه الحجاب الرقيق على رطوبة البيض. كذلك كان على ذلك المني حجاب رقيق وكان داخله مدوراً أحمر يتحرك فإذا تحرك ظهرت الحمرة التي فيه. وهذا الكلام ذكر في كتاب الأجنة في صفة مني سقط من امرأة بعد ستة أيام ومن الصفات التي ذكرت لذلك المني أنه كان عليه غشاء رقيق وكان يظهر في داخله أي في داخل المني شيء أحمر مدور يتحرك أي يتحرك أنبساطاً وانقباضاً وإذا تحرك ظهرت الحمرة التي فيه، وظهور هذه الحمرة بأكثر مما كان ليس في مطلق الحركة بل في حركة الانبساط وذلك لأن الموضع إذا انبسط تخلخل فكانت رؤية ما فيه من الحمرة أشد هذا هو معنى هذا الكلام لا أن تلك الحمرة كانت في الحجاب أي في الغشاء المجلل للمني و الظاهر أن الذي أو جب فهم ما في الكتاب من كلام الفاضل أبقراط أنه ظن أن الضمير في قوله: وكان داخله مدوراً أحمر يعود إلى الحجاب الرقيق وهذا لا يصح فإن الذي في داخل الحجاب هو جملة المني ولون المني ليس بأحمر.
قوله: فهي في الإناث أبطأ تكون الأنثى أبطأ من تكون الذكر، ولذلك تكون أجزائها أبطأ من تكون أجزاء الذكر، وأما النمو فهو في الإناث أسرع، فلذلك تأخر كمال الرجال وبلوغهم عن كمال النساء وبلوغهن وذلك لأن العمدة في سرعة التكون هو قوة العاقد وهو الحرارة وهي في الذكور أقوى فلذلك تكونهم أسرع، وإنما كان كذلك لأن نقصان رطوبة المني المذكر يعين على سرعة الانعقاد، فإن عقد الحرارة هو بتجفيف الرطوبة ليستحيل أرضية وذلك يعين على نقصان الرطوبة. وأما النمو فإن سرعته إنما هي لزيادة قبول المادة للتمدد والانبساط وذلك إنما يكون بالرطوبة وهي في النساء الجواري أكثر مما في الصبيان لا محالة وليست حرارة الجواري تقصر عن إحالة الغذاء بقدر يكفي النمو الكثير فلذلك أسرع نمواً من الصبيان.
قوله: وهو الخامس عشر من العلوق ينفذ الدموية التي في الجميع فيصير علقة. حصول هذه الدموية ليس لأن المني يستحيل دماً فإن ذلك مما لا يمكن بل لأن الدم الذي ينفذ فيه من الرحم ليس يقوي المني في أو ل الأمر على إحالته إلى طبيعته إحالة تامة فتبقى حمرته باقية ويصبغ المني فيصير كالدم.
قوله: والأطراف عند الضلوع. وهيئة الجنين أنه جالس على عقبه وعيناه على ظهر كفيه وهما على ركبيه وأنفه بين ركبتيه فلذلك تكون يداه ورجلاه لاصقة بأضلاعه وبطنه. وفي المدة المذكورة ينفصل عنهما.
قوله: والجنين تحيط به أغشية ثلاثة: المشيمة. وهذه المشيمة هي أو ل غشاء يحدث على المني. وسبب حدوثها ما ذكرناه من تحرك المني تارة إلى ملاقاة جرم الرحم، وذلك إذا إلى وانفتح. وتارة إلى البعد عنه وذلك إذا تفشت حرارته وتكاثف جرمه، وفائدة هذه المشيمة إيصال الدم والروح إلى بدن الجنين ليغتذي بالدم ويحيا بالروح وذلك بسبب ما في المشيمة من العروق الكثيرة المتصلة بأفواه أو ردة الرحم وشرايينه وهي التي تعرف بالنقر وقد يسمى أنف الرحم بسبب أنه يستنشق منهما النسيم كما في الأنف، وفائدة تدلي هذه العروق في المشيمة أن تطول مسافة نفوذ ما ينفذ فيها وزمان بقائه في تلك العروق فتكثر استحالته إلى مشابهة مزاج المني ثم ينفذ من هذه العروق الدم والروح من سرة الجنين إلى بدنه ويبتدئ الدم بالنفوذ إلى كبد الجنين ومنها إلى جميع أعضائه لتغذيتها وكذلك الروح يبتدئ في النفوذ إلى قلب الجنين ثم إلى بقية أعضائه لست أعني بذلك أعضاءه التي تكونت بلا أجزاء والتي تصير له أعضاء ومنافذ الدم تصير أو ردة ومنافذ الروح التي تصير شراييناً.

قوله: والثاني يسمى بلاسي وهو اللفايفي وينصب إليه بول الجنين. هذا الغشاء يحدث للجنين في الشهر الثاني وذلك لأن الجنين يبول من سرته وملاقاة البول لبشرته يؤذيها فلذلك احتيج أن يخلق له حينئذٍ هذا الغشاء ليحول بين البول وبين بشرته وإنما يتأخر هذا الغشاء إلى الشهر الثاني لأن بول الجنين إنما يكثر حتى يخشى من إضراره بشرة الجنين في هذه المدة، وإما المادة التي يتكون منها هذا الغشاء فهي الفضلات التي تفضل من غذائه الواصل إليه من المشيمة وذلك لأن الجنين في الشهر الأول والثاني والثالث يكون ما يستعمله من الغذاء قليلاً لأجل صغره والواصل غليه من الرحم وهو على القدر الذي يصل إليه بعد ذلك فلا بد من أن يفضل عنه في هذه المدة فضول كثيرة ولذلك تكثر بالأم الأعراض الردية التي من شأنها أن تعرض للحوامل كالشهوة الفاسدة والنفرة عن اللحوم وثقل البدن والتكرب ونحو ذلك ومن هذه الفضول يتكون الغشاءان الحادثان وهما هذان الغشاءان والأخرى تحدث في الشهر الثالث.
قوله: والثالث يقال له أنفس وهو يمتص العرق ولما كانت الفضول تكثر في الجنين في الشهور الأولى وجب أن يكون ما يندفع منها حينئذٍ أكثر والمندفع في البول أكثر لا محالة من المندفع في العرق فلذلك كانت الحاجة إلى الغشاء الموقي عن البول قبل الحاجة إلى الغشاء الموقي عن العرق متأخراً ولا شك أن عرق الجنين إذا كثر من ملاقاته للبشرة أن يلدغها ويرخيها فيحتاج لذلك إلى جرم يحول بينه وبين ذلك العرق، وهذا الجرم لا بد وأن يكون غشائياً ليكون مع قوته مفرط الرقة فلا يزاحم الجنين ويضيق عليه المكان.
وقوله: هذا الغشاء أيضاً هو من فضول الغذاء كما قلنا في الغشاء الحاوي للبول وليس يحتاج الجنين مع هذه الأغشية الثلاثة إلى غشاء رابع وذلك لأن حاجته إلى ذلك إما لأجل الغذاء والروح والنسيم وذلك قد قام به الغشاء المشيمي وإما لأجل الوقاية وذلك قد قام به هذان الغشاءان الآخران وجملة هذه الأغشية تفيد أيضاً في وقاية الجنين عن المصادمات والسقطات ونحو ذلك.
وليس للجنين براز حتى يحتاج إلى غشاء آخر وإنما كان كذلك لأن وصول الغذاء إليه إنا هو بالطبع وإنما يصل بذلك ما كان من الغذاء صالحاً صافياً خالياً من الفضول التي تحتاج إلى إخراجها بالبراز.
ولقائل أن يقول: ها هنا إشكالان أحدهما أن الغذاء الواصل إلى الجنين كما أنه يخلو من الفضول المحوجة إلى البراز وكذلك هو أيضاً يخلو من المائية الزائدة المحوجة إلى إخراجها بالبول فإن الحاجة إلى البول كما بينتموه أو لاً إنما هو زيادة المائية التي يحتاج إليها لتنفيذ المائية الغذاء في مجاري الكبد، وتلك المائية زائدة عن القدر الكافي في الاغتذاء فلذلك إذا انفصل الغذاء من الكبد استغنى عن تلك المائية الزائدة فاحتيج إلى إخراجها بالبول، وهذه المائية ليست مما يحتاج إليه الجنين لأن الغذاء إنما يصل إلى كبده بعد ترقيقه وانطباخه في بدن الأم وصيرورته دماً وإنما يحتاج حينئذٍ إلى فعل كبده فيه ليصلحه ويجعله شبيهاً بمزاج المني وذلك مما لا يحتاج فيه إلى مائية يحتاج إلى إخراجها بالبول فلذلك يجب أن يكون الجنين غير محتاج إلى البول كما هو غير محتاج إلى البراز فكما استغنى عن غشاء لأجل البراز وجب أن يستغني عن غشاء لأجل البول.
وثانيهما: أن خلق غشاء لأجل البول يمكن وصوله إلى خارج ذلك الغشاء من السرة وأما العرق إذا خرج من المسام فإنه لا يجد طريقاً إلى خارج الغشاء الذي يقولون إنه مخلوق له فلا يتمكن من النفوذ إلى خارجه فلئن قلتم إنه يتمكن من ذلك بأن ينفذ من مسام ذلك الغشاء.
قلت: هذا لا يصح من وجهين: أحدهما: إن أمكن نفوذه أيضاً في غشاء البول ومخالطة العرق للبول مع توقيتهما عن ملاقاة بشرة الجنين مما لا ضرر فيه.
وثانيهما: أن هذا العرق كما انه ينفذ في مسام هذا الغشاء إلى خارجه كذلك أيضاً يتمكن من النفوذ في تلك المسام إلى داخله بعد ذلك بتلاقي بشرة الجنين فلا يكون لذلك الغشاء تأثير في توقية بشرة الجنين.

والجواب: أما الإشكال الأول فإن الجنين يحتاج أن يكون غذاؤه كثير المائية أعني الدم الذي يأتي إليه لتغذيته يحتاج أن تكون مائيته كثيرة خاصة في أو ل الأمر وذلك لأن هذا الدم إذا تعدى عروق الأم يحتاج أو لاً أن ينفذ في الخيوط التي ذكرنا أنها تحدث من تشبث بعض أجزاء المني بالتقويم ابتداؤها وانعطافاتها على الغشاء الأول الذي تحتها وهو الغشاء الداخل من المشيمة وإنما يمكن نفوذه في هذه إذا كان قوامه شديد الرقة جداً، وكان مع ذلك قوي النفوذ وذلك لأجل دفع الهواء النافذ معه له، وإذا نفذ في هذه وأحدث فيها تجويف فلا بد من نفوذه بعد ذلك إلى داخل المني حتى يصل إلى كبد الجنين. ثم بعد ذلك ينفذ في جوهر المني نفوذاً في مواضع كثيرة جداً متفرقة ومن مواضع كثيرة ونفوذ ذلك لا بد من أن يحدث ثقوباً وتلك الثقوب يحدث منها الأوردة وكذلك تحدث الشرايين للجنين من نفوذ الروح والنسيم في أجزاء بدنه وإحداثها الثقوب فيها فتصير الشرايين من تلك الثقوب وإذاً الدم النافذ إلى بدن الجنين يحتاج في تغذيته إلى ذلك فلا بد من أن يكون قوامه شديد الرقة جداً وإنما يكون الدم كذلك لأمرين: إما مخالطة كثير من الصفراء وذلك يمنعه من التغذية خاصة للجنين الذي جوهره كثير الرطوبة وإما مخالطة كثيرة من المائية فلذلك يحتاج أن يكون هذا الدم كثير المائية جداً فلذلك في غالب الأمر يفضل من تلك المائية قدر كثير ويحتاج إلى إخراجه لئلا يفسد الغذاء وجوهر الجنين وليس يسهل خروج جميعه بالعرق فإن العرق إنما يكون من المائية المصاحبة للدم إلى ظاهر البدن، وقد يكون بقاء تلك المائية في ذلك الدم إلى ذلك الموضع مما يفسد الدم ويفسد جوهر الجنين ولأن نفوذها إلى هناك إنما يتم بسعة كثرة من المجاري فهي في أو ل الأمر لا تتحمل ذلك فلذلك تحتاج هذه المائية الزائدة أن يندفع عن الجنين قبل وصولها إلى ظاهر أعضائه وإنما يمكن أن يكون ذلك بأن يندفع من منفذ ما إلى خارج وهذا المنفذ لا يمكن أن يكون من جهة المثانة والقضيب لأن قضيب الجنين ليس يمكن أن يكون له من الطول ما يصل به المائية إلى مكان بعيد حتى يتعدى جميع بدنه فلذلك تحتاج أكثر هذه المائية الزائدة أن تندفع من منفذ آخر وليس في الجنين منفذ إلى خارج سوى منفذ السرة فلذلك يجب أن يكون اندفاع أكثر المائية الزائدة هو من السرة وباقي تلك المائية يندفع من جهة العرق. وأما الإشكال الثاني فإنه يجوز أن يكون العرق إنما يكثر في بدن الجنين قبل استحكام المجاري التي يخرج منها فإذا استحكمت تلك المجاري وكثر ما يخرج فيها من البول قل لذلك العرق جداً حتى لا يكون المتولد منه بعد ذلك له قدر يخشى من ملاقاته للجنين فإذا كان كذلك ففي الشهر الثالث يكون العرق قد كثر جداً وملأ الفضاء الذي بين الغشاء والجنين الذي فيه البول وحينئذٍ ولا بد من أن يترسب منه أجزاء خلطية قد اندفعت منه فإنه بعيد أن يكون الخارج بالعرق حينئذٍ ماء صرفاً وتلك الأجزاء الخلطية إذا رسبت إلى جهة ظاهر الجنين عرض لها هناك انعقاد بقوة الحرارة ويلزم ذلك تولد الغشاء منها، وحينئذٍ يكون ذلك الغشاء موقياً لبشرة الجنين عند ذلك العرق القديم. وأما ما يحدث بعد ذلك من العرق فإنه يكون قليلاً جداً لأجل اندفاع المائية الزائدة حينئذٍ بالبول فلا يبقى منها ما يكثر له العرق، وإذا كان ذلك العرق قليلاً جداً لم يجتمع منه ما يؤذي بشرة الجنين لأن حرارة داخل الرحم تحلله أو لاً فأولاً فلا يجتمع منه قدر كثير فلذلك يكون هذا الغشاء نافعاً في توقية الجنين من حدة العرق الكثير مع أن الغشاء المتقدم لا يفي بذلك لأن نفوذ العرق في مسام الغشاء يمكن وإلا نفذ فيها البول وكانت ملاقاته للبشرة أشد إضراراً من ملاقاة العرق لها.
قوله: وهو أقها ليكون مجمع الرطوبة الراشحة. رقة هذا الغشاء لا ليكون يجمع هذه الرطوبة بل لأن هذه الرطوبة قليلة فلا يكون لها تمديد قوي يحس منه انفتاق الغشاء الحاوي لها فلذلك هذا الغشاء أرق أغشية الجنين وأغلظها الغشاء المشيمي وهو ذو طبقتين تحللها العروق المتلففة بينهما وأما الغشاء الآخر فهو كالمتوسط بين هذين لأنه يحتاج إلى الغلط ليقوى على مقاومته تمديد البول بكثرته.

قوله: وبالحقيقة فإن هذا العرق إنما ينبت من الكبد ويتجه إلى السرة. هذا كله لأجل المشهور: وهو أن الأوردة كلها تنبت من الكبد.
وهذا شيء قد أبطلناه وبينا فساده فيما سلف بل هذه العروق جميعها تكون على الوجه الذي قلناه. وذلك تتشبث أجزاء من المني بقعر الرحم ثم تمتد وتلتوي في المشيمة كما ذكرناه ثم يخرقها الدم النافذ فيها، وينفذ ذلك الدم إلى السرة ثم إلى الكبد ثم إلى جميع أعضاء البدن فيخرق جميع ما يمر فيه ويصير ذلك كله أو ردة وكذلك يفعل الروح والنسيم ينفذان في الأجزاء الممتدة من المني المتشبثة بأفواه النقر الملتصقة في المشيمة فيخرقانها ثم ينفذان إلى السرة ثم إلى القلب ثم إلى جميع أعضاء البدن فيخرقان ما يمران فيه ويصير ذلك كله شرايين وليس شيء من ذلك بنابت من شيء من الأعضاء.
وباقي ألفاظ الكتاب ظاهرة وليس لها تعلق شديد بالتشريح فلذلك حذفنا الكلام فيها على وجه أبسط من هذا ونستقصي شرح ألفاظه ونحقق الكلام فيها ها هنا وسنعيد شرح هذا الفصل وغير ذلك إذا أخذنا شرح الكتاب الثالث من كتب القانون ونقول الآن إن قولنا في هذا الفصل وغيره في فن التشريح إن كذا انعقد بالحرارة وينخرق بنفوذ الدم والروح ونحو ذلك إنما هو ليفهم المتعلم وتقريب الأمر غليه في التصور.
وأما في الحقيقة فذلك إنما هو بإرادة من لا يعتريه سهو ولا يعجزه أمر وهو الله الخالق تعالى وحده عما يقول الظالمون والجاحدون والكافرون علواً كبيراً. كمل ذلك ولله الحمد والمنّة ونسأله السّلامة في ديننا.