كتاب : كشف الأسرار في حكم الطيور والأزهار
المؤلف : عز الدين المقدسي 

مقدمة المُصنّف

الحمد لله البعيد في قُربه، القريب في بعده، المتعالي في رفيع مجده، عن الشيء وضده، الذي أوجد بقدرته الوجود بعد أن كان عَدماً، وأودع كل موجود حكماً، وجعل العقل بينهما حَكَماً، ليميز بين الشيء وضدّه، وألهمه بما علّمه فعلم مُرّ مذاق مصابه من حلاوة شهده. فمن فكر بصحيح قصده، ونظر بتوفيق رُشده، علم أن كل مخلوق موثوق في قبضتي شقائه وسعده، مرزوقٌ من خزائن نعمه ورفده، قال تعالى: (مَّا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ) فلو صفت عين بصيرتك، وانجلت مرآة سريرتك، وأصغيت بسمع يقظتك، لأسمعك كل شيء موجود ما يجده من منتقدات وجده، وما يكابده من وجدان بعده، ألم تسمع للنسيم كيف تنسّمَ أسفاً لبكآء السحاب على جزره ومّده، وتأوّه لهفاً على تبسم البرق لما سمع قهقهة رعده؟ ألم تسمع للربيع ما هو يبشرك بورود ورده، وأخبرك بنشور ورده وشرود برده، وسعي إليك بانقلاب الشتآء لجرده ومُرده، ووشى اليك القبول بوشي الروض وبرده، وشكى إليك البان ما بان من تمايل قده، وأنهى إليك الأقحوان ما حاز من ألوان الزهر وجُنده، وحقوق أعلامه المعلمة بسعده، ووثب النرجس قائماً للقيام بورده، وأقبل الشقيق على تشقيق ثوبه وقده، فكأنه ثلكى لا طماً على حمرة خدّه، ووصف إليك الجلنار جُل نار هجوه وصده، وناح العندليب على عوده الرطيب ورنده، وباح العاشق الكئيب بما يكابده من هوى زينبه وهنده، وهام في فلوات خلواته طرباً بما سمعه عن طيب نجده، وفرَّ هارباً إلى من يعلم خفايا ما أبداه وما لم يُبده، فالعارف من شكر سوابغ النغم، واحتقر معادن الحكم، ولم يقنه من اللبن إلا بزبده، وعلم أن الله تعالى ما أحدث حدثاً، وأهمله عبثاً، بل كلّ واقف عند حّده، باقٍ على حفظ عهده، مقرٌّ بتصديق وعيده ووعده (وَإِن مِّن شَيْءِ إِلاَّ يُسَبَّحُ بِحَمْدِهِ) أحمده على كل حال وأسأله توفيق حمده، وأُصلي على سدينا محمد رسوله وعبده، الذي أنزل عليه في مُحكم كتابه العزيز مخبراً برفيع مجده (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ..) صلى الله عليه وآله وصحبه وعشيرته وجنده.
أما بعد: فإني نظرت بعين التحقيق، ورأيتُ بنور التصديق والتوفيق، أن كل مخلوق مقر بوجود الخالق، وكل صامت في الحقيقة ناطق، فاستعربت الإشارات، واستقرأت العبارات، فرأيت كلا ناطقاً بلسان حاله ولسان قاله، لكنّي رأيت لسان الحال أفصح من لسان القال، وأصدق من كل مقال، لأن لسان الخبر يحتمل التكذيب والتصديق، ولسان الحال لا ينطق إلا بالتحقيق. بالناطق بلسان الحال مخاطب لذوي الأحوال، والناطق بلسان القال مقابل لأهل الصحة والاعتلال.
وقد وضعت كتاب هذا مترجماً عمّا استفدته من الحيوان برمزه، والجماد بغمزه، وما خاطبتني به الأزهار عن حالها، والأطيار عن مقرّها وارتحالها، وسميته: كشف الأسرار في حكم الطيور والأزهار، وجعلته موعظة لأهل الاعتبار، وتذكرة لذوي الاستبصار، فاعتبروا يا أولي الأبصار، قال تعالى: (إِنَّ فِيِ خَلْقِ السَّموَاتِ وَالأَرضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَار لآَياتٍ لأُِولِي الأَلْبَابِ).
فمن طالع مثالي، وفهم ضرب أمثالي، فذاك من أمثالي، ومن أعجم علي إشكالي فليس من أشكالي، فأقول والله لعبده كالي: أخرجني الفكر يوماً لأنظر ما أوجدته أيدي القدم في الحدث، وأحدثته القدرة البالغة للجدّ لا للعبث، فانتهيت إلى روضةٍ قد رق أديمها، ونمى خصيب رطيبها، وراق نسيمها، ونمَّ طيبها، وغنّى عندليبها، وتحركت عيدانها، وتمايلت أغصانها، وتنمقت أزهارها، وصّوت هزّازها، وتسلسلت جداولها، وتبلبلت بلابلها.
فقلت: يا لها من روضة ما أهناها، وخضرة ما أبهاها، وحضرة ما أصفاها، فليتنى استصحبت صديقاً حميماً يكون لطيب حضرتي نديماً.
فناداني لسان الحال في الحال: أتريد نديماً أحسن مني، أو مجيباً أفصح مني؟ وليس شيء في حضرتك إلا وهو ناطق بلسان حاله، منادٍ على نفسه بدنوا ارتحاله، فاستمع له إن كنت من رجاله. وفي ذلك أقول:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ نَسِيمَ الصَّبَا ... له نَفَسٌ نَشَره صَاعِدُ
فَطَوْراً يَفُوحُ وطوراً يَنُوحُ ... كما يَفْعَلُ الفَاقدُ الوَاجدُ

وسكبُ الغمامِ ونوحُ الحمامِ ... إذا ما شَكَى الغُصْن المايدُ
وضوءُ الأقاحِ ونُورُ الصَّباحِ ... وقد هزَّهُ البَارقُ الرَّاعِدُ
ووافَى الرَّبيعُ بمعنىً بديع ... يُترجمُ عن وِرْدِهِ الوَاردُ
وكُلٌّ لأَجْلِكَ مُسْتَنْبَطٌ ... لما فيه نَفْعُكَ يَا جَاحِدُ
وكُلٌّ لآلآئِهِ ذَاكِرٌ ... مُقرٌِّ لهُ شَاكِرٌ حامِدُ
وفى كُلّ شَيْءِ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلّ عَلَى أَنهُ وَاحِدُ

إشارة النسيم
فأول ما سمعت همهمة النسيم، يترنّم بصوته الرخيم، يقول بلسان حاله، عن صريح لفظه ومقاله: أنا رسول كل محب إلى حبيبه وحامل شكوى كل عليل إلى طبيبه، إن استودعت سِرّاً أديته كما استودعته، وإن حُمّلتُ نشراً رويته كما سمعته، وإن صحبتُ مصحوباً اتّحدتُ فيه بلطافة إيناسى، ومازجته بصفاء أنفاسى، فإن طاب طبت، وإن خبث خبثت، كما قال الشاعر:
الرَّاحُ كالرِّيّحِ إن مرَّت عَلَى عَطرٍ ... طَابت، وتَخْبُثُ إنْ مَرَّت على الجيفِ
ثم إني إن اعتللت صحّ بي العليل، وحيث حللت طاب بي المقيل، وإن تنفّست تنفّس المشتاق، وإن نمّت توسوست العشّاق، فأنا لّين الإعطاف، هيّن الانعطاف، سريع الائتلاف، ولولا وجودي في الوجود لما كان مخلوق موجود، يعرف لطفى ذوو الألطاف فلا تظن اختلاف هوائي سبب إغوائي، بل أختلف في الفصول الأربع، لما هو أصلح لك وأنفع، فأهبُّ في الربيع شمالاً لألقح الأشجار، وأُعدّل فصلى الليل والنهار، وأهب في الصيف صبّاً لأنمّى الثمار، وأُصفّى الأنهار، وأهب في الخريف جنوباً فتأخذ كل شجرة حد طيبها، وتستوفى حق تركيبها، وأهبّ في الشتاء دبوراً فآخذ عن كل شجرة حملها وأوراقها ويبقى أصلها. فأنا الذي تنمو بي الثمار، وتسمو بي الأزهار، وتتسلسل الأنهار، وتلقّح بي الأشجار، وتتروح بي الأسرار، وأبشرك في الأسحار بقرب المزار، وفي ذلك أقول:
يَاطِيب ما نقلَ النَّسيمُ لمَسْمعى ... عن طِيبِ ذيَّاك المحلّ الأرفعِ
وَافى لينشرَ ما انْطَوَى من نَشْرِهِ ... فَسَكِرتُ مِنْ طِيبِ الشَّذَا المتضوّعِ
ولربما أعتلّ النَّسيم إذا بَدَتْ ... أنفاس شوقي المستكنُ بأضلعِي
هبَّ الصَّبا سَحَراً لتُبرَد عُلّتي ... فَأثارَ نار تَحرّقي وتَوجّعى
مَا ذَاكَ إِلاَّ أنَّهَا لِمَا سِرْتُ ... مرّتْ عَلى تِلْكَ الرُّبَا الأَرْبَعِ
فَتَحَمَّلتْ نَشْرَ الصَّبَا في طّيّهَا ... فَسَكرتُ وسَمِعْتُ مَا لم يُسْمَعِ
وَآفتْ تُبَشّرنى بِلَيْلى أَنَّهَا ... في حُسْنهَا سَفَرتْ فَلَم تَتَبَرْقَعِ
وَجَلتْ عَلَى عُشّاقِهَا في حَانِهَا ... وَجْهاً تمنّع في حِمىً متمنّعِ
إشارة الورد
ثم سمعت مجاوبة الأزاهير بألوانها، والشحاريرُ بأقنانها، فرأيت الورد يخبر عن طيب وُروده، ويعترف بَعرفه عند شهوده، ويقول: أنا الضيف، الوارد بين الشتاء، والصيف، أزور كما يزور الطيف، فاغتنموا وقتى فإن الوقت سيف. أعطيت نفس العاشق وكُسيت لون المعشوق، فأروح الناشق وأهيج المشوق، فأنا الزائر وأنا المزور، فمن طمع في بقائي فإن ذلك زور. ثم من علامة الدهر المكدور، والعيش الممرور؛ أنني حيث ما نبتّ رأيت الأشواكَ تزاحمنى، والأدغال تجاورني، فأنا بين الأدغال مطروح، وبنبال شوكى مجروح، وهذا دمى يُرى عندما يلوح، فهذا حالى وأنا ألطف الأوراد،وأشرف الورّاد، فمن ذا الذي سلم الأنكاد، ومن صبر على نكد الدنيا فقد بلغ المراد.
وبينما أنا أرفل في حلل النضارة، إذ قطفتني يد النظارة، فأسلمتني من بين الأزاهير إلى ضيّق القوارير، فيذاب جسدي، ويُحرق كبدي، ويُمزق جلدي، ويقطر دمعي الندى، ولا يُقام بأودي، ولا يؤخذ بقودي ، فجسدي في حُرق، وجفوني في غرق، وكبدي في قلق، وقد جعلت ما رشح من عرقي شاهداً لما لقيت من حُرقي، فيتأسى باحتراقي أهل الاحتراق، ويتروح بنفسي ذوو الأشواق، فأنا فانٍ عنهم بأيّاي، باقٍ فيهم بمعناي، أهل المعرفة يتوقعون لقآئي، وأهل المحبة بتمنون بقآئي، وفي ذلك أقول:

فإنْ غِبْتَ جِسْماً كنتَ بِالرُّوحِ حاضراً ... فسِيّان قُرْبى إنْ تَأَمّلتَ والبعْدُ
فللَّهِ من أضْحَى من النَّاسِ قائلاً: ... إِنَّكَ مَاءُ الوَرْدِ إذْ ذَهَبَ الوَرْدُ

إشارة المرسين
فلما سمع المرسين كلام الورد، قال: لقد لعب النسيم بالبرد، وباح النسيم بسره، ونشر السحاب عقود ظلّه، وتضّوع البهار بعرفه، وتبرج الربيع بقلائد نَحره، وخلع السرور عذاره، وبسط على الروض الأنيق أزهاره، وغرّد الهزار، ورد لعاشقة المزار، فقم بنا نتفرج، ونتيه بحسنه ونتبهرج، فأيّام السرور تُختلس، وأعمارها بأسرارها تُقتبس.
فلما سمع الورد كلام المرسين قال له: يا أمير الرياحين، من سلوك الأُمراء تأمّل الصواب في الآراء، تأمر باللو عبدك، وتحض على العيب جندك، وأسير الرعية، صاحب الفكرة والروية، فلا يعجبك حسنك إذا تماود غصنك، ولا لحسن أوراقك، وكرم أعراقك، فأيام الشباب كزيارة الأحباب، سريعة الزوال، دارسة الأطلال، كالطيف الطارق، والخيال المفارق، يطرق ويُلم، وينقطع وصله فلا يتم، وكذلك النبات، أخضر الجلباب، مورق العود، كالقباء المزرود، إذ حصد من أصله، وحكمت الأيام بشتات شمله. والنبات مختلف الأجناس، كاختلاف الحيوان من الناس: فمنها ما يصلح للنار، كالحطب اليابس من الأشجار، ومنها ما يُشمّ ويذبل، ويُجوّل خطابه وينصل، وتطرقه حوادث الأيام، ويعود مرمياً على الأكوام، ومنها ما تؤكل ثماره، وتحسن في النار آثاره، فإياك والاغترار بزخارف هذه الدار، إنما أنت فريسة الأسد الهمام، وعليك إن نصحتك والسلام، وفي ذلك أقول:
يا رَاقِداً في اللَّيلِ كَمْ ذَا تَنامُ ... أمّا تَخَافُ العُتْبَ بينَ الأنامِ
فَقُمْ لِمَوْلاَكَ وَكُنْ قَائِلاً ... في حِندِسِ اللَّيلِ وجُنحِ الظَّلامِ
يَا ربُّ بالهَادِي شِفِيعِ الوَرَى ... المُصْطَفَى ذُخْرِي عَلَيْهِ السَّلامُ
اهّدِي إِلهي مِنْكَ لي تَوْبَةً ... تَمْحُو ذُنُوبي والخَطَأ والآثامِ
فَقَدْ أتَيْتُ الآنَ مُسْتَغْفِراً ... مُعْتَرِفاً بالذَّنْبِ لي والسَّلامِ
إشار البان
فلما نظرت الأشجار إلى طرب البان بينها، وتمايُله دونها، لامُوه على كثرة تمايله، وعَنَّفوه على عجبه بشمائله، فتمايل هنالك البان، وقال: لقد ظهر عُذرى عند الناس وبان، فمن ذا يلومني على تمايل أغصاني، واهتزاز خرصاني، وأنا الذي بسطت لي الرياض مطارفها، وأظهرت لي الأزهار زخارفها، وأهدت اليَّ نسماتُ الأسحار لطآئفها. فإذا رأيت ساعة نشور أموات النبات قد اقتربت، ورأيت الأرض وقد اهتزت وربت، ونفخ في صور رعدي ونسخ حكم وعيدي بإنجاز وعدي، وحان ورود وردى، فأنظر إلى الورد وقد ورد، وإلى البرد وقد شرد، وإلى الزهر وقد اتقد، وإلى الحب وقد انعقد، وإلى الغصن اليابس وقد اكتسى بعد ما انجرد، وإلى اختلاف المطاعم والمشارب وقد اتحد، فاعلم أن خالقها أحدٌ، ومنوعها صمدٌ، وموجودها بالقدرة قد انفرد، فلا يفتقر إلى أحدٍ، ولا يستغنى عنه أحدٌ، ولا يشاركه في ملكه أحدٌ، فهو الأحد الصمدُ الذي لم يلد ولم يُولد ولم يكن له كفواً أحد.
فهناك تمايلت قدودي طرباً بطيب شهودي، وترنمت بلابل سعودي على تحريك عودي، ثم تدركني عنايةُ معبودي، فأفكرُ في عدمي ووجودي، وفوات مقصودي، فأنعطف إلى الورد فأخبره بورودي، وأخلع عليه من برودي، وأستخبره عن مصدري وورودي؛ فقال لي: وجودك كوجودي، وموجودك كموجودي، وركوعك كسجودي، فأنت بخضرة قدودك، وأنا بحُمرة خدودي، فلهمَّ نجعلُ في النار وقودك ووقودي، قبل نارُ خلودك وخلودي.
فقلت: إذا صح الائتلاف، ورضيت لنفسك بالتلاف، فليس للخلان من خلال، فنقطف على حكم الوفاق، ونختطف من بين الرفاق، وتُصعّدُ أنفاسنا بالاحتراق، وتقطر دموعنا بالإشفاق، فإذا فنينا عن صور أشباحنا، وبقينا بمعاني أرواحنا، فسيّان غدوّنا ورواحنا. وفي ذلك أقول:
وَرَدَ الوَرْدُ بَشِيراً بالذي ... فيه من لُطْف المَعَانِي قَدْ حَوَى
فَانْثَنَى البانُ لهُ منْعَطِفاً ... لاثِماً نَشرَ الذي فيه انطَوَى

مَالَ يَشْكوُ أَهْيف القدْ له ... فَرْطَ مَا يَلْقَاهُ من حَرٍّ الجَوَى
فَرَثاَهُ الَورْدُ إذْ قَالَ لَهُ ... نَحْنُ خِلَّانٌ تَسَاهَمْنَا الهَوَى
فأَنَا أنّتَ كما أنْتَ أَنَا ... نَحنُ في المَغْنَى جَمِيعاً بالسَّوَى
كم رُمِينَا في لَظَى نارٍ فلا ... صَاحِبِي ضَلَّ ولاَ قَلْبِي غَوَى
ولَكُمْ قَدْ فرّقَتْ أيدي النَّوَى ... بَيْنَنَا والغُصْنُ مِنَّا ما ذَوَى
ألم تَرَ أَحْشَاؤنا قد حُشِيَتْ ... بِلَهِيب النَّارِ وَالقَلْبُ اكتَوَى
وِبهَا أنْفَاسُنا قَدْ صُعِّدتْ ... مِثْلَ مَا قَدْ قُطّرت منّا القُوَى
كلُّنا نَشْكُو بِشجْوٍ وَاحِدِ ... ولكُلٍّ في هَوَاهُ ما نَوَى
قَسَماً حَقّاً يَمِيناً صَادِقاً ... بالذي قُدْماً على العرشِ اسْتَوَى
إنَّ في شَرْحِ غَرامِي عِبرةً ... لذَوِي القَلْبِ إذا القَلْبُ ارعَوَى
كُنْتُ بالأمسِ كِبِدْرٍ طَالعٍ ... وَأَنَا اليومَ كَنَجْمٍ قَدْ هَوَى

إشارة النرجس
فأجابه النرجس من حاضره، وهو ناظر لمناظره، وقال: أنا رقيبُ القوم وشاهدهم، وسميرهم، ومنادمهم، وسيّد القومِ خادمُهُم، أعلّم من له همة كيف شروط الخدمة، أشدُّ للخدمة وسطى، وأوثقُ بالعزيمة شرطي، ولا أزال واقفاً على قدم، وتلك وظيفة من خدم. لا أجلس بين جُلاّسي،ولا ارفع للنديم رأسي، ولا أَمنعُ المتناول طيب أنفاسي، ولا أنا لعهد من وصلني ناسي، ولا قلبي على من قطعني قاسي. ثم لا يفارق فمي شرب كاس، وهو لي بصفوه كاسي. بُني على قضيب الزبرجد أساسي، وجُعل من العسجد واللجين لباسي، ألمحُ تقصيري فأطرق إطراق الخجل، وأُفكر فيما إليه مصيري فأحدق لهجوم الأجل، والعجيب أنني واقفٌ على التفرقة في مقام الجمع، يُدرك معنى شذاى حاسة الشمَّ لا حاسة السمع، وهذا معنى لا خطر بقلبٍ ولا مر بسمع، فإطراقي اعترافاً بتقصيري، وإطلاقي لأحداقي نظراً فيما غليه مصيري، وفي ذلك أقول:
إنْ يَكُنْ مِنِّي دني أَجَلِي ... آهُ واُذلّى وَيَا خَجَلِي
قُمْتُ من ذُلّي على قَدَمِي ... مُطْرِقاً للرأْسِ من ذَللِي
لَوْ بَذَلْتُ الرُّوحَ مُجْتَهِداً ... وَنَفَيْتُ النَّوم عَنْ مُقَلِيِ
كُنْتُ بالتَّقصِيِر مُعْتَرِفاً ... خائِفاً من خَيْبَة الأمَلِي
إِنْ يَكُنْ للعَبْدِ سَابِقَةٌ ... سَبَقَتْ في الأَعْصُرِ الأوَلِ
لم يكنْ في القَادِمِينَ غداً ... نَافِعِي عِلْمِي ولاَ عَمَلِي
مُقْلتي ما شَأْنها أبَداً ... قطّ لاَ يَنْفَعُكَ منْ وَجَلِ
عَجِلاً في حَتْفِهِ وَكَذا ... خُلِقَ الإنْسانُ من عَجَلِ
وقلت أيضاً:
تَأَمَّلْ في رِيَاضِ الرِّوضِ وانظر ... إلَى آثارِ مَا صَنَعَ المَلِيكُ
عُيُونٍ مِنْ لجينٍ شاخصاتٍ ... بأحداقٍ كما الذَّهَب السَّبيك
عَلَى قَضِيبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِداتٍ ... بأَنَّ اللهَ ليسَ لَهُ شَرِيك
وأنَّ مُحَمَّداً خَيْرُ البَرَايا ... إلى الثَّقَلَيْنِ أَرْسَلَهُ المَلِيكُ
إشارة اللينوفر

فناداه الينوفر، وحظه من السقم أوفى وأوفر، وقال: أما تعتبر أيها الحزينُ باصفراري، وأين من القضاء والقدر فراري، أنا الذي قد رضيت بعارى، ولست من العشق بِعَارى، الرياضُ قراري، والغياضُ داري، فإن كنتَ عاشقاً داري، فأهل الدارِ داري. هآ أنا أعشق صفآء المآء، فلا أفارقهُ في الصباحِ والمسآءِ، ومن العجب أنى به ولهان، وعليه لهفان، وإليه ظمآن، وأنا معه حيثما كان، فهل سمعتم بمثل هذا الشان، واقفٌ في الماء عطشان، أفتح عيني بالنهار، فيغار عليّ من نظر الأغيار، فإذا جنّ ليلي أنزلني عن رتبتي وحطني، وأخذني إليه وغطني، فأغوص في فكري، وأعود إلى خلوة ذكري، فتسغرق عيني في مشاهدة قرة عيني، فلا يعرف الجهول أينى، ولا يفرق العذول بين من أحبه وبيني، فحيث ما مال بي هَوَائي، لا أنظره إلا حذائي. إن ظمئتُ رواني، وإن مِتُّ واراني، فحياة وجودي بحياته، وبقاء شهودي بثباته، وقيام ذاتي بذاته، وصفآء صفاتي بصفاته، فما بيتا بيّن، ولولاه ما كنتُ أثراً بعد عين، وفي ذلك أقول:
كَسَا الحبُّ جِسْمِي ثَوْبَ الضَّنَا ... فَروحي من شَوْقِها في عَنَا
كأنَّ الهَوَئ إذ رَمَى سَهْمَهٌ ... لِقَلْبى دُونَ الوَرَى قد عَنَا
تَدَانَى فَأَدْنَى إِلىَّ مُهْجَتِى ... هوى كلما قًدْ دَنَا قَدَّنَا
يَقُولُ لى الحبُّ: اَلا تَألَفَنْ ... سِوَانَا إذا كنتَ من إِلْفِنَا
حَمَيْنا الوصَالَ ببيضِ النِّصالِ ... فإنْ تَلْقَ سُمْر القَنَا تَلْقَنَا
ولاَ تَجْزَعَنَّ بِحَدّ النِّبنَالِ ... وَمُرِّ النِّكال ففيه الهَنَا
ومُت مِثْلَ ما ماتَ أَهْلُ الهَوَى ... وَذابُوا اشْتِيَاقاً فَنَالُوا المُنَى
وما ضرُّهُمْ حِينَ نَادَيْتُهُمْ ... عَلَى طَوْر قَلْبِي أَتّى أَنَا

إشارة البنفسج
فتنفس البنفسج تنفس الصعدا، وقال: طوبى لمن عاش عيش السعدا، ومات موتَ الشهدا، إلى متى أموت بالذبول كمدا، وأكتسى بالنحول أثوابا جددا، أفتنى الأيام فما أطالت لى أمدا، وغيرتنى الأحكام فما أبقت لي جلدا، فما أقصر ما قضيت عيشا رغدا، وما أطول ما بقيت يابسا منجردا، وجميلة فضولى أننى أؤخذ أيام حصولي، فأقطع عن أصولى، وأمنع عن وصولى، ثم يتقوى على ضعفي، ويعسف بي مع ترفى ولطفى، فيتنعم بي من حضرني، ويجتلبني من نظرني، ثم لم ألبث إلا يوما، أو بعض يوم، حتى أسام بأنجس السوم، ويعاد على بعد الثناء باللوم، فحينئذ أعود يابسا، ومن النضارة آيسا، فيأخذنى أهل المعانى، ومن كان للحكمة يعانى، فتفشى بي الأورام الفاشية، وتلين بي الآلام القاسية، وتلصف بى الطبائع العاتية، ويدفع بي الأدواء العادية، والناس يتنعمون بيابسى ورطبى، جاهلون بعظم خطبى، غافلون عما أودع فىَّ من حكم ربى، ولسان الحال يقول عنى بلا ضجر، فإنى لمن تدبرنى عبرة لمن اعتبر، ونذكرة لمن ادّكر، وفىَّ مزدجر لمن ازدجر، حكمة بالغة فما تغنى النذر، وفى ذلك أقول:
وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنَ البَنَفْسج إِذْ غَدَا ... يَحْكِى بأوْرَاقٍ على أغْصَانِهِ
جَيُشاً طَوارِقُهُ الزَّبَرْجَدُ رُضِّعَتْ ... أحْجَارُ يَاقُوتٍ عَلَى خِرْصَانِهِ
فَكَأَنَّما أعْدَاؤهْ بِجِلاَدِهِ ... شِيلَتْ رءوسُهُمُ على عِيدَانِهِ
إشارة المنثور
فتأوه منظوم المنثور، بنفثه المصدور، ورشفه الموتور، وقال: ما هذا الغرور بالعمر المبتور، وما هذا السرور بالعيش المكدور، أما يعتبر العاقل بغصنى المآئل، ولونى الحائل، وعمرى الزائل، وأيامى القلائل. غيرتنى حوادث الأيام، فقسمت لونى ثلاثة أقسام، فمنى الأصفر، كسى من السقم ثوبا معصفرا، ومنى الأبيض اليقق، والأزرق الذى كاد بكمده يحترق.
فأما الأبيض، فلا يفوح عطره، ولا ينشق نشره، ولا يكشف ستره، وذلك لأنه كتم سره فما باح، وأخفى عطره فما فاح، وملك أمره فلا تلعب به الأهواء والرياح.
وأما الأصفر، فخلع العذار واستراح، وتوشح من السقم بوشاح، وفاج بعطره في الغدو والرواح. ونشر أنفاسه في المساء والصباح، يقول بلسان حاله، وصدق مقاله:

إنْ غَلَبَ وَجْدِى وبُحْتُ بما عِنْدِى ... فَلَيْسَ عَلَى العَاشِقِِ إِنْ بَاحَ جُناحُ
لاَ تَلُمْنِى إنْ بَدَا مِنّى افْتِضَاحٌ ... فَمَا عَلَى مَنْ بَاحَ فى الحبِّ جُنَاحٌ
فَبِحَقِّ اللَّهِ يَانَسِيمَ الصَّباَ ... بَلِّغْ سَلاَمِى أَهْلَ تِلْكَ البِطَاحِ
وَقُلْ لَهُمْ عَنَّى مصْنَاكُم ... يُقْلِقُهُ البَرْقُ وَمَرُّ الرِّيَاحِ
مَا نَفَحت مِنْ نَحْوِكُمْ نِسْمَةٌ ... إلاَّ وسحَّ الدَّمْعُ شَجْواً وَسَاح
لَوْلاَكُمُ يَا أَهْلَ ذَاكَ الحِمَى ... مَا رَاحَ قَلْبِى مُوثَقاً بالجِرَاحِ
أَسَرْتُمُ القَلْبَ فَيَكْفِيكُمُ ... لاَ تَقْتُلُونِى قَدْ رَميْتُ السِّلاحَ
وأما الأزرق منه، فانطوى فى جواه، وصبر على أذاه، وكتم بالنهار شذاه، وقال: أنا لا أبوح بسرى لعاشق، ولا أفوح بنشرى لناشق، فإذا جن ليلى أبديت ما بى لأحبابى، وشكوت مصابى لأهل أوصابى، فإذا دارت الكؤوس، شربت كاسي، وإذا طابت النفوس صعدت أنفاسى لجلاسى، فإنا لجلاسي كالخل المواسي، ومتى دعيت إلى أناسى سعيت على راسى، وإلى الله أشكو م أقاسى من القلب القاسى، وما كتمت بالنهار عطرى، واخترت في الليل هتك سترى وإلا لأن في الليل خلوة العشاق، وراحة كل مشتاق، وغيبوبة الرقيب، وحضرة الحبيب، وذ قال: هل من سائل جعلت أنفاسي إليه رسائل، وذلى لديه وسائل، وفى ذلك أقول:
أُصَعِّد أَنْفاسَ شَوقِى إِليْهِ ... وَأُوقِفُ طِيبَ ثَنائِى عَلَيْهِ
وَمَابِى إِلَى وَصْلِهِ شَافِع ... سِوَى حُسن ظَنّى وذُلِّى لَدَيْهِ
وَقَلْبِى فَى سَخْطِهِ وَالرِّضَى ... سَوًآءٌ فَلاَ حَال عن حَالتَيْهِ

إشارة الياسمين
فصاح بفصاحته الياسمين، وقال: أنا الياسمين، ويحكم إنى أفوح بوقاحة روحى بين الرياحين، وأتردد على الآثار حينا بعد حين، أجلب من خزائن الغيوب، ولا أسكن إلا في كماين الجيوب، أبوح بسرى أينما حضرت، وأفوح بعطرى أينما خطرت، لا أخفى على ذى ذوق، ولا ينكرنى من له شوق، فريحى على الرياحين يعلو، وزهرى ونشرى على الأزاهير ينمو، لأن من طاب معناه، كان أطيب معناه، كان أطيب وأذكى، ومن صح دعواه، كان أطهر وأذكى، فمن أراد مراتب العلى فليعل بلطافة معانيه، وليرق فى درج معاليه، ولا يكن ممن قصر في تدانيه، فما يفوز بأمانيه. ثم إن فى إشارة، وحقيقتها للعالمين بشارة، فأول اسمى ياس وآخره مين، فاليأس شين والمين زين، فلما اجتمعا ياس ومين دل على بينونه البين، وبشرا بقرة العين، وفى ذلك أقول:
رَأَيْتُ الفَأُلَ يُخبِرُنِى بِخَبَرٍ ... وَقَدْ أهدىَ إلىَّ الياسمينُ
قَالَ: لاَ تَحْزَنْ فإنَّ الحُزْنَ شَيْنٌ فإِنَّ اليَأْسَ مينُ
؟؟
إشارة الريحان
فقال الريحان: قد آن حضورى، وحان سرورى، فخذونى خديما، واتخذونى نديما، فرطيب خضرتى يخبر عن طيب حضرتى، وكيف تستريح روح بغير ريحان، أم كيف يطيب وقت بغير ألحان، أنا الموعود بى في الجنان، السارى بأنفاسي إلى صميم الجنان، فلونى أعدل الألوان، وكوني ألطف ما في الأكوان، فمن جنانى يستنشق نشرى النطوى في جناني، فأنا أليف الأنهار، وحليف الأزهار، وجليس السمار، وكاتم الأسرار، فإن سمعت في جنسى بالمنام، فلا تكن له من اللوام، فإنه ما نم إلا على عطره، ولا باح إلا بسره، ولا فاح إلا بنشره، باح بسره إعلاما، ونشر بنشره أعلاما، فلذلك سمى نماما، فليس من نم على نفسه كمن نم على غيره، ولا من جاد بخيره كمن عاد بضيره، فقد جرت الأحكام، وجفت الأقلام، أن النمام مذموم بين الأنام والسلام، وفي ذلك أقول:
سَائِلى عَن خَفِىّ سِرّ غَرَامى ... وَيْكَ اقصر وَخَلِّنى وَهَيامى
أَنا مُسْتودِعٌ لِسِرّ حَبِيبِى ... كَيْفَ أُبْدِى وَلَسْتُ بالنَّمَّامِ
إشارة الأقحوان

فنادى على نفسه الأقحوان، وهو بما كسى من النضارة فرحان، وقال: قد آن ظهورى، وحان سرورى، واعتدل فصل وجودى، وطاب في الحضرة شهودى، وكيف لا يطيب وقتى، وهذه الأنهار تجرى من تحتى، وكيف لا أؤدى بالشكر زكاه حولي، وقد تم لي نصابي من حولى، وما ذاك من قوتى ولا حولى، فبياضى هو العلم المعلم، واصفرارى هو السقم المبرم، واختلاف ألوانى هو المتشابه المحكم، فإن كنت للرموز تفهم، فقم إلى تغنم وإلا فنم، وإن كنت لا تدري ما تم فحقيق أن يقام عليك مأتم، وفي ذلك أقول:
إِذَا لم تُدْرِكِ المَعْنى وَتَدْرِى ... خَفَايَا مَا أَقُولُ فَلاَ تَلُمْنى
نَصَحْتُكَ مُشْفِقاً بِلِسَانِ حَالى ... وَمَا يُنْبِئُكَ شَرْحُ الحَالِ عَنّى
أَمَا يَكْفِيكَ حَوْلِى كلَّ حَوْلٍ ... وَمَا نَالَتْهُ أَيْدى الدَّهْر منّى
فَكَمْ وَافَيْتَنِى فى جَمعِ شَمْلٍ ... زَمَاناً ثمَّ جِئْتَ وَلَمْ تَجدنى
حمامُ الأَيْك يُسْعِدُنِى إذَا ما ... شَكَوْتُ إليهِ مَا أَلْقَى يُجبْنِى
يَنُوحُ علىَّ من عَلِمَ بأنِّى ... ملقِّى للفناءِ بِكُلِّ فنِّ
وَأَنْتَ تظنّهُ لَعِباً وَلَهْواً ... فَتَمْرَحُ بَيْنَ عِيدَانِى وَغُصْنِى
حقيقاً أنْ يُنَاحَ عَلَيْكَ إِذَا لَمْ ... تُفرِّقْ بَيْنَ أَفْرَاحِى وَحُزْنِى
إشارة الخزامى فلما رأى الخزامي ما يكابده الزهر قيدا والتزاما، فمنها ما يضام، فينثر بعد النظام، وبالثمن البخس يسام، فقال: مالي وللزحام، ومالي ومعاشرة اللئام، أنا من بين الأزهار لا أجاور الأنهار، ولا أسكن إلا على شفا جرف هار، بل أوافق الوحش في النفار، وسكنى البوادي والقفار، أحب من الخلوات فسيح الفلورات، ولا آسف على ما فات، فلا أزاحم في المحافل، ولا أتحمل منة الزارع والكافل، ولا تقطفنى أيدى الأسافل، ولا أحمل إلى لاعب ولا هازل، ولكننى بعيد عن المنازل،تجدنى بأرض نجد نازل، رضيت بالبر الفسيح، وقنعت بالعرعر والشيح، تعبث بنشرى الريح، فتحملنى إلى ذوى التقديس والتسبيحِ، فلا ينشق نشرى، إلا من له شوق صحيح، وذوق صريح، ومن هو على زهد المسيح، وصبر الذبيح، فأنا رفيق السواح، في الغدو والرواح، فإفوز بالأجور، وأسلم من حضور أهل الفجور، ومن يقترف المعاصي بالجحور، فلا أحضر على منكر، ولا أجلس عند من يشرب ويسكر، فأنا الحر الذى لا يباع في الأسواق، ولا ينادى على بالنفاق، في سوق النفاق ولا يحضرني الفساق، ولا ينظرني إلا من شمر عن ساق، وركب على جواد العزيمة وساق، فلو رأيتنى في البوادى، يهيم بي النسيم في كل وادى، أعطر النادى وأروح البادى، إن عرض بذكرى الحادى، حن إلى كل رائح وغادى، وفي ذلك أقول:
يُحَدِّثُنَى النَّسِيمُ عَنِ الخُزَامِى ... وَيُقْرِينى عَنِ الشِّيحِ السَّلاَمَا
فَهِمْتُ بما فَهِمْتُ وَطِبْتُ وَجْداً ... فَمَا أَحْلاهُ لِى لَوْ كَانَ دَاما
وَتَسْرِى تَحْتَ جُنَح اللَّيل شِرًّا ... فَتُوقِظُنى وَقَدْ هَجَعَ النِّيَامَا
فَأْسكِرُ من شَذَاهَا حَينَ هبَّتْ ... كَأَنِّى قَدْ تَرَشَّفْتُ المَدَامَا
تُعَارِضُنِى بِأَنْفَاسٍ مِرَاضٍ ... كَأَنْفَاسِى وَقَدْحُشِيتُ غَرَامَا
وقد عُرِفَتْ بِطِيب العُرْفِ لمَّا ... كَسَاهَا اللُّطْفُ أَخْلاَقاً كِرَامَا
أَهِيمُ بنشرها طَرَباً وَسَكْراً ... فَيُبْدِى البَرْقُ مِنْ طَرَتِى ابتسَامَا
تَمُرّ عَلَى الرِّيَاضِ رِيَاضِ نَجْدٍ ... فَتَنْعَطِفُ الغُصُونُ لَها احْتِشامَا
وَيُقْلِقُنِى حِمَامُ الأَيْكِ نوْحاً ... وَتُذكِّرُنِى المَنَازِلَ والخِيَامَا
خِيَامٌ تجمعُ الأَحْبَابَ فِيها ... وَفِيها يَبْلُغُ القَلْبُ المَرَامَا
وَتجَلَّى وَجْه مَنْ فيها ... بِبَهْجَةِ نَوْرِهِ يُجَلِّى الظَّلاَمَا

إشارة الشقيق

فتنفس الشقيق من بين ندمائه، وهو مضرج بدمائه، واستوى على ساقه ووثب، وقال: يالله العجب ما بال لونى باهى، وحسنى زاهى، وقدرى بين الرياحين واهى، فلا أحد بى يباهى، ولا ناظر إلى ساهى، فياليت شعرى، ما الذى أسقط جاهى، أرفل فى ثوتى القانى، وأنا مدحوض عند من يلقانى، فلا أنا في الحضرة حاضر، ولا يشار إلى بالناظر، ولا أصافح بالمناخر، وما برحت في عدد الرياحين آخر، فأنا طريد عن صحبى، بعيد عن قربى، وما أظن ذلك إلا من سواد قلبي، ولا حول لي عن مراد ربى، فلما رأيت باطنى محشوا بالعيوب،وقلبى مسودا بالذنوب، علمت أن الله لا ينظر إلى الصور، ولكن ينظر إلى القلوب، فكان إعجابي بأثواتي سببا لحجابي عن ثواتي، فكنت كالرجل المنافق الذي حسنت سيرته، وخبثت سريرته، وراق في المنظر سيمته، وقل في المخبرقيمته، فلو صلح قلبى، ولو شاء ربي، لأطاب بين الخلائق ذكرى، وأفاح بين الأزاهير عطرى، لكن شذا الطيب لا يفوح، إلا ممن يطيب، وإشارات القبول لا تلوح، إلا من رضى عنه الحبيب، وحق لمن أصبح بهواه كئيب، وعن معناه سليب، أن يندب عليه بالنحيب، ويبكى عليه بالدمع الطبيب، عسى يرضى عليه الحبيب، ويمن عليه بالتوبة من قريب، وفىذلك أقول:
لا تلمنى إِذَا شققت ردائى ... فملامى يزيد من حر دائى
أَنَا قَلْبِى قد سَوَّدَتْهُ ذُنُوبِى ... وَقَضَى لى مُعَذِّبِى بِشَقَائِى
مَنْ رَآنِى يَظُنُّ خَيْراً وَلَكِنْ ... بِاخْتِبَارِى يَظُنُّ أنّى مُرائِى
مَيْ رَأَى حُسْنَ مَنْظَرى وَلِبَاسِى ... وَالرَّزايا مَحْشُوّةٌ بِحَشَائِى
وَاحَيَائى إذا سُئلتُ وَمَالِى ... مِنْ جَوابٍ وَاخَجَلَنِى واحَيَائى
لَوْ كَشَفَت السّثتُورُ عَنْ سُوءِ حَالي ... لَرَأَيُتَ السّرُورَ للأَعْداءِ
لَكنَّ الأَمْرَ بَيْنَ قَلْبِى وَرَبّى ... عَامِرٌ أَرْتَجِيهِ يَوْمَ مَعَادِى

إشارة السحاب
فلما حسن العتاب، وطاب فصل الخطاب، سح دمع السحاب، فانبسط وساح في الرحاب، وقال: سبحان الله! أينكر فضلى عليكم، وأنا الباعث طلى ووبلى إليكم، وهل أنتم إلا أطفال جورى، ونسل وجودي، كم ملأت الأرض برا ببرى، والبحر درا بدرى، أنا مغذى نطف البذر في بطن أمه، ومستخرجه بالنمو من غمة غمه، فإذا تمخضت الحوامل بحملها، بنات النبات من حفرة رملها، جعلت حواليها إلى، وحضانتها لدى، فلم يزل ثدى درى عليه درارا، ومزيد برى إليه مدرارا، فإذا انقضت أيام الرضاع، ولم يبق إلا أيام الفطام، قطعت عنه درى، فيصبح لأهل الدنيا حطاما، وكان بالأمس يحرس أن لا يضام سروره في انسكاب عبراتى، ونشوره في بعث قطراتى، فالكل في الحقيقة أطفالي، لو اعترفوا بحقى لكانوا من الجوى أطفالي، وقد سمع كل حي في الحي، وجعلنا من الماء كل شيء حي، وفى ذلك أقول:
وًإِذَا نَظَرتُ لِرِيعِهَا المِهْطَالِى ... أَبْكِى عَلَيْهِ بِدَمْعِى الهَطَّالِ
يَبْكِى المشُوقُ إِذَا البُروقُ تَبَسَّمَتْ ... وَوَشَتْ إِلَيْهِ نَسَائِمُ الأَوْصالِ
فَتَنَفّس الصُّعَدَاء مِنْ زَفَرَاتِهِ ... مُتَلفِّتاً لِدَوارِسِ الأَطْلالِ
لا تَعْذُلَنه عَلَى جَواهُ وَلاَ تَلُمْ ... ه فَلَسْت عَنْه إلى المماتِ بسَالِى
واحذر مُقَاوَمَةَ الغَرَامِ فَإنَّهُ ... فِيهِ اللَّبِيب مُبَلْبلُ البَلْبَالِ
إشارات الأطيار وأولها إشارة الهزار

فبينما أنا مصغ إلى منادمة أزهارها، على حافات أنهارها، إذ صاحت فصاحة أطيارها من أوكارها، فأول من صوت الهزار، ونادى على نفسه بخلع العذار، وباح بما عنده من الأسرار، وقال: أنا العاشق الولهان، أنا الهائم اللهفان، أنا الواله الظمآن، إذا رأيت فصل الربيع قد حان، ومنظره البديع قد آن، تجدنى في الرياض فرحان، وعلى الأغصان أردد الألحان، أغنى فأطرب، وأدير كأسى فأشرب، فأنا من نشوتى سكران، ومن نغمتى طربان، إذا زمزم النسيم، وخفقت أوراق أغصان البان، أرقص على العيدان، كأن الزهر والنهر لي عبدان، وأنت تحسبنى في ذلك عابثا، لا والله ولست في يمينى حانثا، إنما أنوح حزنا لا طربا، وأبوح ترحا لا فرحًا، لأننى لا أجد روضة إلا نحت عليها وعلى أضمحلالها، ولا خضرة إلا تبلبلت على زوالها، لأني ما رأيت صفوة إلا وتكدرت، ولا عيشة حلوة إلا وتمررت، وقد قرأت في محكم القرآن (كل من عليها فان) فكيف لا أنوح على عيش يزول، وحال يحول، ووصل عن قريب مفصول، فهذه الجمل من شرح حالي تغنى عن الفصول، وفي ذلك أقول:
حَديثُ ذَاكَ الحِمَى رَوْحِى وَريْحَانِى ... فَلاَ تَلُمْنِى إِذَا كَرّرتُ أَلْحَانِى
رَوْضُ بِهِ الرَّوْحُ وَالرَّيْحَانُ قَدْ جُمِعَاوَخُضْرَةٌ مَا لَهَا فى حُسْنِهَا ثَانِى
مِنْ أَبْيَضَ يَقِقٍ أَوْ أَصْفَرَ عَبقٍ ... أَوْ أزْرَقَ برقٍ أَو أَحْمَرَ قَانِ
وَالزَّهْرُ وَالنَّهْرُ وَالأَطْيَارُ تَرْفُصُ فِىمَيْدَانِ عِشْقٍ عَلَى أَوْتَارِ عِيدَانِى
وَالأُنْسُ دَانٍ وَشَمْلُ الوَصْلِ مُجْتَمِعٌهَذَا هُو العَيْشُ لَوْلاَ أَنَّهُ لَوْلاَ أَنَّهُ فَانِى

إشارة الباز
فناداه الباز من ميدان البراز: ويحك لقد صغر جرمك، وكبر جرمك، وضعف قدرك، ولقد أقلت بتغريدك الطير، وإطلاق لسانك يجلب عليك الضير، وما يفضى بك إلى خير، وما يهلك الإنسان، إلا عثرات اللسان، فلولا لقلقة لسانك، ما غربت عن أوطانك، وأخذت من بين أقرانك، وحبست في ضيق الأقفاص، وسد عليك باب الخلاص، فهل ذلك إلا مما جناه عليك لسانك، وأفصح به بيانك، فلو اهتديت تشيمتي، واقتديت بسيرتي، لبرئت من الملامة، وعلمت أن الصمت رفيق السلامة، ألا تراني كيف ألفت السكوت، ولزمت الصموت، فكان الصمت جمالي، ولزوم الأدب كمالي، اقتنصت من البادية قهرا، وجلبت إلى بلاد الغربة جبرا، فلا بالسريرة بحت، ولا على العشيرة نحت، بل أدبت حين غربت، وقربت حين جربت، ومنحت حين امتحنت، وقد قيل فيما تقدم من الزمان عند الامتحان يكرم المرء أو يهان، نظر مؤدبي إلى تخليطى الوقت، فخاف على من المقت، فكمم تصرى بكمامة، ولا تمدن عينيك، وعقد لساني بعقدة، ولا تحرك به لسانك، وقيد قدمى بقيد، ولا تمش في الأرض مرحا، فأنا في وثاقي أتألم، ومما ألاقى لا أتكلم، فلما كممت وعلمت، وأدبت وهذبت، استخلصنى مؤدبى إلى إرسال الصيد، وأزال عني ذلك القيد، فأطلقت وأرسلت هناك بإشارة إنا أرسلناك، فلما رفعت الأكمة عن عينى، وأصلحت ما بينه وبيني، رأيت الملوك خدمى، وأكفهم تحت قدمي، وفي ذلك أقول:
أَمْسَكْتُ عَنْ فَضُلِ الكَلاَمِ لِسَانِي ... وَكَفَفْتُ عَنْ نَظر الُلا إنْشَانِى
مَا ذَاكَ إِلاَّ أَنَّ قُرْبَ مَنِيَّتِى ... لِزَحَارِفِ اللَّذَّاتِ قَدْ أَنْسَانِى
أُدِّبت آدَابَ المُلُوكِ وَعَلَمتْ ... رُوحِى هُنَاكَ صَنَائِع الإِحْسَانِ
أُرْسِلْتُ عَنْ كَفِّ المُلُوكِ مُجَرّداً ... وَجَعَلْتُ مَا أَبْغِيهِ نُصبَ عِيَانِى
حَتَّى ظَفَرْتُ وَنِلْتُ مَا أمّلتُهُ ... ثمّ اسْتَجَبْتُ إِلَيْهِ حِين دَعَانِى
هَذَا لَعَمْركَ وسْمُ كلِّ مكلَّفِ ... بِوَظَائِفِ التَّسْلِيمِ والإِيمان
إشارة الحمامة

فبينما أنات مستغرق في لذة كلامه، معتبر بحكمة وأحكامه، إذ رأيت أمامه حمامة، قد جعل طوق العبودية في عنقها علامة، فقلت لها: حدثينى عن شوقك وذوقك، وأوضحى لي ما حكمة تطويق طوقك؟ فقالت: أنا المطوقة بطوق الأمانة، المتقلدة تقليد الصيانة، فأنا لحمل الأمانة قد ندبت، وبالمحافظة عليها أمرت، فإذا رأيت أهل الجناية تدبت أحمل الرسائل، وأبلغ الوسائل، وأجيب المسائل، وأؤدي الأمانة، ولا أسائل، ولكني أخبرك بخبري، لتعلم حقيقة مخبري، أخبرك بالقصة الصحيحة، فإن الدين النصيحة، ما كل طائر أمين، ولا كل حالف يصدق في اليمين، ولا كل سالك هو من أصحاب اليمين، وإنما الخصوص بحمل الأمانة جنسي، وما أبرىء نفسي، يحمل الأمانة منا من كان أبلق وأخضر، لأنه أمحسن في الشكل والمنظر، وأعدل في الخبر والمخبر، ولا تكون الشيم العلية إلا في الروح الزكية، ولا شرف العزيمة إلا في النفس النفيسة المستقيمة، فإن اعتدال لون الطائر يدل على اعتدال تركيبه، فيصلح حينئذ وتأديبه، فلما باشرني مؤدبى بالتخريج، وعرفني الطريق بالتدريج، أقول: حملوني ما شئتم، فأحمل كتب الأسرار، ولطائف الأخبار، فحينئذ أطير، وأقطع الهول المستطير، خائفا من جارح جانح، حاذرا من سايح سارح، جازعا من صائد ذابح، أكابد الظمأ في الهواجر، وأطوى على الطوى في المحاجر، فلو رأيت حبة بر مع شدة جوعى، عدلت عنها، وذكرت ما جرى على آدم منها، فأرتفع حشية من كمين فخ مدفون، أو شرك يعوقنى عن تبليغ الرسالة فأنقلب بصفقتى مغبونا، فإذا أنا وصلت، وفي مأمنى حصلت أديت ما حملت، وعملت بما علمت، فهنالك طوقت، وبالبشارة خلقت، ثم انقلب إلى شكر الله على ما وفقت، وفي ذلك أقول:
أَأَحْبَابِى وَصَلْتُمُ أَوْ صَدَدتُمْ ... فَعَبْدُكُم على حِفْظِ الأَمَانَةِ
مُقِيمٌ لاَ يُزَحْزِحُهُ عَذُولٌ ... وَلاَ يُثْنِىِ مٌعَنِّفُهُ عِنَانَه
حَمَلُتُ لأَجْلِكُمْ مَا لَيْسَ تَقْوَى ... جِبَالٌ أَنْ تَحْمِلَها وِزَانَه
فَحِفْظُ العَهْدِ مَا وَافَاهُ حُرِّ ... وَلَوْ أَوْدَى هَواهُ بِهِ وشَانَه

إشارة الخطاف
فبينا نحن نتذاكر أوصاف الأشراف، وأشراف الأوصاف، إذ نظرت إلى خطاف، وهو بالبيت قد طاف، فقلت له: مالي أراك للبيوت ملازم، وعلى مؤانسة الإنس عازم، فلو كنت في أمرك حازم، لما فارقت أبناء جنسك، ورضيت في البيوت بحبسك، ثم إنك لا تنزل إلا في البيوت العامرة، والمنازل التي هي بأهلها عامرة، فقل لي: يا كثيف الطبع، يا ثقيل السمع، اسمع الآن قصة حالي، وكيف عن الطيور ارتحالي، أنا ما فارقت أمثالي، وعاشرت غير أشكالي، واستوطنت السقوف، دون الشعاب، والكهوف، إلا لفضيلة الغربة، ولزوما لأدب الصحبة، صحبت من ليس مني لاكون غريبا، وجاورت من هو خير مني لأضرب لي بينهم نصيبا، فأعيش عيش الغرباء، وأفوز بصحبة الأدباء، فالغريب مرحوم في غربته، ملطوف به في صحبته، فقصدت المنازل، غير مضر بالنازل، أبتنى بيتي من حافات الأنهار، وأكتسب قوتى من مباحات القفار، فلست للجار كمن جار، ولا لأهل الدار كالغدار، بل أحسن جواري مع جاري، أكثر سوادهم، ولا أستطعم زادهم، فزهدى فيما في أيديهم، هو الذي حببنى إليهم، ولو شاركتهم في قوتهم، ما بقيت معهم في بيوتهم، فأنا شريكهم في أبنيتهم، لا في أغذيتهم، مزاحمهم في أوقاتهم، لافي أقواتهم، مكتسب من أخلاقهم، لا من أرزاقهم، منتهب من جمالهم، لا من مالهم، مقتبس من برهم، راغب في حبهم لافي حبهم، فزهدي بما في أيديهم هو الذي حببنى فيهم، مقتديا في ذلك بإشارة صاحب البشارة صلى الله عليه وسلم (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس)، وفي ذلك أقول:
كُنْ زَاهِداً فِيمَا حَوَتْهُ يَدُ الوَرَى ... تُضْحَى إلى كُلِّ الأَنامِ حَبِيباً
أَوَ مَا تَرَى الخُطَّافَ حَرَّمَ زَادَهُمْ ... فَغَدا رَبِيباً في الحُجُورِ قَرِيباً
قلت: لله درك لقد عشت عيشا سعيدا، وسرت سيرا حميدا، ووفقت أمرا رشيدا، وقلت قولا سديدا، ولا أطلب على موعظتك مزيدا، فالعاقل يفهم، والجاهل يندم.
إشارة البوم

فناداه البوم وهو منفرد بالخراب مهموم، أيها الصديق الصادق، لا تكن بمقالة الخطاف واثق، ولا لعقله موافق، فإنه إن سلم من شبه زادهم، فما سلم من شبهة فرحهم وأعيادهم، وتكثير سوادهم، وقد علمت أن من كثر سواد قوم فهو منهم، ولو صحبهم ساعة صار مسئولا عنهم، وقد علمت أن مبدأ التفريط من آفة التخليط، والخلطة غلطة، وأول السيل نقطة، وأعلم أن السلامة في العزلة، فمن وليها لا يخاف عزله، فهلا استسن بسنتى، وتأسى بوحدتي، واعتزل المنازل والنازل، وزهد في المآكل والآكل، فلا أساكنهم في مساكنهم، ولا أزاحمهم في أماكنهم، ولا أجالسهم في مجالسهم، بل اخترت لنفسي الداثر من الجدران، ورضيت بالخراب على العمران، فسلمت من الأنكاد، وأمنت من شر الحساد، ولم أزل عن الأحباب فريدا، وعن الأتراب بعيدا، من كان مسكنه التراب، كيف يساكن الأتراب، ومن كان الليل والنهار يجريان من عمره، فكيف لا يقنع بالخراب، ومن علم أن الموت وراءه كيف يتعلق بالأسباب، ومن علم أن العمر قصير، وأن كل شىء إلى الفناء يصير، قنع من الدنيا باليسير، وبات على خشن الحصير، وأفطر على قرص الشعير، وعلم أن الخلق في المصير، فريق في الجنة، وفريق في السعير.
أما أنا فنظرت إلى الدنيا وذهابها، وإلى الآخرة واقترابها، وإلى القيامة وحسابها، وإلى النفس واكتسابها، فشغلنى التفكير في حالي عن منزلي الخالي، وأذهلني ما على ومالي، عن أهلي ومالي، وأهمني صحتي واعتلالي عن القصور العوالي، فجلا اليقين عن بصر بصيرتي كل شبهة، فعلمت أن لا فرح يدوم ولا نزهة، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، فعرفت من هو، وما عرفت ما هو، فحيث كنت لا أرى إلا هو، وإذا نطقت فلا أقول إلا هو، لأنه لا إله إلا هو، وفي ذلك أقول:
أَفْرَدَنِى عَنْهُمْ هَوَاهُ ... وَلَيْسَ لى مَقْصِدٌ سِوَاهُ
أَهِيمُ وَحْدى بِصِدْقِ وَجْدِى ... وَحُسْنِ قَصدِى عَسَى أَرَاهُ
أَنْكَر ضَحْبى غَرَامَ قَلْبِى ... وَمَا دَرَوْا بِالَّذِى دَهَاهُ
أَحْبَبْتُ مَوَلى إِذَا تجلّى ... يَقْتَبِسُ البَدْرُ مِنْ سَنَاهُ
تَحيّر النَّاسُ فيه شَوْقاً ... وَجُمْلَةُ النَّاس فِيه تَاهُ
وَلاَ أسميه غير أنّى ... إنْ غَلَبَ الوجدُ قُلتُ: ياهو
فأخذت موعظته بمجامع قلبي، وقلت: هذا رحمة من ربي، وخلعت عني ملابس عجبى، إلا أن الهوى يقول: عج بي.

إشارة الطاووس
ثم التفت، فرأيت طاووسا، قد شرب من خمرة العجب كؤوسا، قد رخرف بملابس التلبيس، وهو الذي عاد عليه شؤم إبليس، قد زين ريشه ألوان، وفنن عيشه أفنان، لا يأوى إلا إلى الجنان، والله يعلم بما في الجنان، فقلت له: ويحك، كم بينك وبين البوم من الحظ المقسوم، فأنت أيها العانى نظرت إلى الصور، وهو نظر إلى المعاني، فأنت تفرح بالفاني، وتغتر بالامانى، فقال لي: يا عانى، يا من بالشماتة نعانى، لا تظهر لي الشماته، ولا تذكر الحزين ما فاته، فقد قيل في الخبر: (ارحموا عزيز قوم ذل، وغنى قوم افتقر)، أين كنت يا مسكين، وأنا في الجنان أطوف بين الظلال والقطوف، أدور دورها، وأزور حورها، وأسكن قصورها، شرابي التسبيح، وطعامي التقديس، حتى ساق لي القدر إبليس، فألبسني ملابس التلبيس، حتى عوضنى بالخسيس عن النفيس، ولقد كنت لمراده كاره، لكن القضاء والقدر يوقع في المكاره، وينفر الطير عن أوكاره، ولقد كان إبليس يرفل في حلل حبه، وخلع قربه، فما تركه شؤم رأيه، حتى تاه على آدم بعجبه، فأوقعنى في الخطية، وما أطلعنى على ماله في الطوية، غير أني كنت له دلاله، وكانت الحية في دخوله الجنة محتاله، فأخرجت معهم من دار العز إلى دار الهوان والإذلال، وقيل: هذا أجره الدلال، وهذا جرآء من عاشر الأنذال، ثم أبقيت على زينة ريشي، أتذكر به ما كان من صفو عيشى، فيزيدنى ذلك تحرقا وتشوقا، ثم جعلت على علامة السخط في ساقي، أنظرها بإحداقى، وينادى على بنقض ميثاقى، ثم إنى ألفت من البقاع بقعة، تشاكل ما خرجت منه، وطردت بما فعلت عنه، فأتذكر بالبساتين مرابع ربوعى، وأجرى عليه سواكب دموعي، وألوم نفسي التي كانت سببا لوقوعي، وأقول كلما ذكرت تفريق جموعي:

يَا دَارُ هَلْ يُقْضَى لنا بِرُجُوعِ ... وَيَعُودُ لِى يَا عَيْنُ طِيبَ هُجوعِى
يا سَادَة كادَ المَشُوق بِذِكْرِهِ ... يَقْضِى أَساً في سَاعَةِ التَّوْدِيعِ
قَلْبِى لِيَومِ فِرَاقِكُمْ مُتَوجّعٌ ... وَارَحْمَتَاهُ لِقَلُبي المَوْجُوعِ
فٌرَّقْتُم مَا بَيْتَ عَيْنِى وَالكَرَى ... وَوَصَلْتُمُ بَيْنَ الأسى وَضُلُوعِى
جِسْمِى مَعِى وَالقَلْبُ بَيْنَ خِيَامِكُمْ ... ما ضرُّكُمْ لو كانَ ثَمَّ جَمِيعِى
وَإِذَا ذَكَرْتُ ليالياً سَلَفَتْ لَنَا ... في وَصْلِ أَحْبَابِى بَيْنَ ظِلِّ رُبُوعِى
فَأَكَادُ مِنْ حُرَقى أَدُوبُ صَبَابَةً ... لَوْلاَ يَجُودُ علىّ فَيْض دُمُوعِى
وَوَعَدتُّمُونِى في الحَيَاة بِزَوْرَةٍ ... فَتَضَاعَفَتْ حُرَقي وَزَادَ وُلُوعِى
إنْ كَانَ ذَنْبِى صَدَّنِى عَنْ وَصْلِكُمْ ... فإليكُمُ فٌقْرِى أَعَزُّ شَفِيعِى
مَاضِى القَطِيعَة لا يُعادُ وَمَا جَرَى ... كافٍ وَحُبِّى ذلّتى وَخُضُوعِى
فقال: تالله، لقد رثيت لمصابه، وبكيت لأوصابه، لأنه لا شىء أبكى من الاغتراب، بعد الاقتراب، ولا أنكى من الحجاب، بعد مشاهدة الأحباب.

إشارة الدره
فبينما هو كلما نظر إلى ريشه نظرة، تذكر تلك الحضرة، فتجدد له الحسرة، وكلما نظر إلى ساقه نظرة صاح وصعد الزفرة، إذ رأيت إلى جانبه دره، قد كسيت ثيابا خضره، فصاحت بفصاحتها: أيها الطاووس، إلى كم هذا العبوس، والعيش المنكوس، أنت في الصورة عروس، وفي المعنى كظلمة الناووس، أوقعك الرأى المعكوس، حتى خرجت من منزلك المأنوس، وإنما أخرجت من مسكنك لجنايتك على الساكن، وتحريكك للأمر القاطن، فلو فكرت في السبب الذي أخرجت به، والشخص الذى طردت بسببه، لا شتغلت بإصلاح شأنك، عن التنزه في بستانك، ويجب عليك كما جنيت على آدم في تلك الدار، أن تشتغل ههنا بالاعتذار، وتشاركه في الاستغفار، وتعترف بعد الإنكار، وتزاحمه في خلوات الأذكار، لعلك أن تزور معه إذا زار، فإنه لا بد له أن يعود، وتعود إليه أيام السعود، فإن آدم أخرج إلى مزرعة الدنيا، وقيل له: ازرع اليوم ما هو في الغد محصود، فإذا انتهى زرعك، ونما فرعك، فعد إلى مقامك المحمود، على رغم الحسود. فمن عمل عملك فهو مسعود، وحذا حذوك فهو موعود بدار الخلود، ألا ترى كيف علت همتى، وسمت عزيمتى، فلم أرض لنفسى بما رضيته أبناء جنسي، لأني نظرت إلى الوجود، وما فيه موجود، فرأيت آدم وبنيه من الكل مقصود، خلق الله الكائنات لأجلهم، في كلامهم، وشاركتهم في طعامهم، فأتشبه بهم، وإن لم أكن منهم، وأخالطهم ولا أرغب عنهم، فغلت قيمتى إذ علت عزيمتى، فأحلوني محل النديم، وألف بيني وبينهم من له الحكم القديم، فاذكر كما يذكرون، وأشكر كما يشكرون، لعلهم عند اللقاء يذكرون، وإذا ذكرت يشكرون، فأكون في الدنيا من خدامهم، وفي الجنة تحت أقدامهم، وفي ذلك أقول:
اخْتَبِرْ حَالِى تَجِدْنِى ... مِنْ أصحِّ النَّاسِ مَجْبَرْ
أَنَا قَدْ أَحُبَبْتُ قَوْماً ... شُرِّفُوا مَعْنًى وَمَنْظَرْ
كَبِّرُوا قَدْراً وَذِكراً ... فهُمُ أزْكَى وَأَطْهَرْ
هَكَذَا قَدْ قَالَ حَقًّا ... سَيدُ الكونِ وَبَشَّرْ
كُلُّ مَنْ يَهْوَى حَبِيباً ... فَمَع المَحْبُوبِ يُحْشَرْ
فلما سام نفسه بهذا السوم، ورأيته قد جلس بمزاحمته في صدور مجالس القوم، قلت: ما رأيت كاليوم، البهائم في اليقظة، وأنا في النوم، مالي لا أزاحم على أبواب ذوى المراحم، لعل يوهب مرحوم لراحم، ويقال: مرحبا بالقاجم، ها قد وهبنا الجناية للنادم.
إشارة الخفاش
فناداه الحفاش، وهو في ارتعاش: إياك والزحام، فقد حام حول الحمى حام، وهو من ذوى الأرحام، فما أذن القسام إلا لسام:
فَلا المنى يُدْرَكُ بسُمر القَنَا ... وَلاَ العُلَى يَعْلُو بِحَدِّ الحُسَامِ

ولكن عليك بأوقات الخلوات، والقيام في الليالي المظلمات، ألم تراني إذا طلعت الشمس، دخلت إلى وكرى، وإذا انبسطت النفس، صفت لي خلوة فكرى، فأنا في النهار، لا أرور ولا أزار، محجوب عن الأبصار، محبوب إلى ذوى الاستبصار، فإذا دجى ليلى جردت ذيلى، وجعلت الليل معاشى، وفيه انتعاشى، لأن فيه يفتح الباب، ويرفع الحجاب، ويخلو الحبيب بالأحباب، وتغفل أعين الرقباء، وتتيقظ أشجان المحبين، وأحزان الغرباء، ثم لا تصادف إلا العشاق وذوى الأشواق، ومن هو لكاس المحبة قد ذاق، فيفتح الحبيب بابه ويرفع حجابه، وينادى أحبابه، فترفع الرسائل بالدمع السائل، وتجاب المسائل بالطف الوسائل، ويقال: يا جبريل أقم فلانا وأنم فلانا، وقل لمن كتم حبى يصرح بالإعلان، وقل لمن هو ظمآن، هذا الكأس ملآن، وقل لمن هو في حبنا ولهان إن الوصل قد آن، وفي ذلك أقول:
يَا قَلْبُ لاَ يُؤْذِى بَكَ الخَفَقَانُ ... رَاضِى الحَبِيبَ وَوَاصِلْ الغَضْبَانَ
وَصَفَتْ أُوَيْقَاتُ السُّرُورِ بِوَصْلِهِ ... فَعَلَيْك فِى حُكُمِ الهَوَى سلوانُ
لاَ تَكْحَلَنَّ بِغَيْرِ يُورِ جمَالِنَا ... إِنْسَان عَلَيْكَ أَيُهَا الإِنْسَانُ
اليَوْمَ يَنُسَخُ بَيْنَنَا مِنْ بَيْنِنَا ... لا صدّ يُخْشى لا وَلاَ هُجْرانُ
لاَ يُبْعِدَنُّكَ عَتْبُنَا عَنْ بَابِنَا ... فَالعَهْدُ باقٍ وَالوِدَادُ مُصَانُ
فَبِحُبِّنَا وَبِلُطْفِنَا وَبِوَصْفِنَا ... شَاعَ الحَدِيثُ وَسَارَت الرُّكْبَانُ
فَلَرُبُّمَا يَكْبُو الجَوَاد وَرُبَّما ... يَنْبُو الزِّنادُ وَتَعْهُرُ الفُرسَانُ
فَاخْضَعْ وذلّ لِمَنْ تُحبَّ فَإِنَّهُ ... حُكْمُ الهَوَى أَنْ تَخْضَعَ الشُّجْعَانُ
وَإَذا ذلَلْت لعزِّنَا ذَلَّتْ لعزَّ ... تِكَ المُلُوكُ وَهَهابَكَ السُّلْطَانُ
يَا أَيُّهَا العُشَّاقُ دُونَكُم السَّبا ... قُ فَهَذِهِ الشَّقْرَاءُ والمَيْدَانُ
فقلت له: أيها الطائر الضعيف مالي أراك تخالف من سواك، إذا طلعت الشمس وقعت في الغشا، فلا تزال كذلك إلى العشا، فتعمى بما يستضىء به الناس، وهذا خلاف القياس.
فقال: يا آدمى التكوين، ذلك لأنى في مقام التلوين، وما بلغت إلى مقام التمكين، لأن المتلون الخائف، يدهش عند تشعشع أنوار المعارف، والمتمكن العارف، من يثبت عند شهود أسرار اللطائف، وإنما عدم تمكنى في تلوينى، لأنى مخلوق ناقص الحقوق، بالنهار أستر نقصى باستتارى، وبالليل أناجى الحبيب بانكسارى، فيجود بغناه على فقرى، وبفضله على احتقارى، فأول ما جبر به كسرى، ورحم به فقرى، أن جعل الليل خلوتى، ومع أحبابه حضرتى، وإليه لا إلى سواه نظرتي، فإذا انقضت خلوة الليل أغمضت عينى بالنهار، كي لا أنظر إلى الأغيار، وحق لمن سهر الليل أن ينام بالنهار، وقبيح على عين تمتعت برؤياه، أن تنظر إلى ما سواه، وفي ذلك أقول:
أَيَجْملُ أَنْ تَهْوَى هَوَاهُ وَتَدّعى ... سِوَاه وَمَا فِى الكَوْنِ يُعْشَقُ إِلاّ هُو
قَبِيحٌ عَلَى قَلْبٍ يَذُوبُ صَبَابَةً ... بِحُبٍّ لَهُ في الكَوْنِ مَثلٌ وَأَشْباهُ
إِذَا كَانَ مَنْ تَهْواهُ في الحُسْنِ وَاحِداًفَكُنْ وَاحداً فٍى العِشْقِ إِنْ كُنْتَ تَهُوَاهُ
فقلت: تالله لقد فاز أهل الخلوات، وامتاز أهل الصلوات، ومنع من الجواز أهل الغفلات، فافهم الإشارات.

إشارة الديك

فقال الديك: ها أنا في ناديك أناديك، وأنت في تعاميك وتغاشيك، جعلت الأدان لي وظيفة، أوقظ به من هو نائم كالجيفة، وأبشر الذين يدعون ربهم تضرعا وخيفة، وفي إشارة لطيفة، ومعان ظريفة، أصفق بجناحي بشرى للقائم، وأعلن بصياحى تنبيها للنائم، فتصفيق الجناح، بشرى بالنجاح، وترداد الصياح، دعاء للفلاح، ولئن كان الخفاش جعل له في الليل وظيفة، فإنه في النهار نائم كالجيفة، مستتر عن أعين الناس خيفة، فأنا الذى لا أخل بوظيفتي ليلا ولا نهارا، ولا أغفل عن وردى سرا ولا جهارا، قسمت وظائف الطاعات، على جميع الساعات، فما تمر بي ساعة، إلا ولي فيها وظيفة طاعة، فبى تعرف المواقيت، فأنا غالي القيمة، ولو شربت باليواقيت، فهذا حالي مع قيامي في عيالي، وإشفاقى على أطفالي، فأنا بين الدجاج، أقنع بالماء الأجاج، فلا أختص عنهم بحبه، ولا أتجرع من الماء دونهم بشربه، وهذه حقيقة المحبة، إن رأيت حبة دعوتهم إليها، ودللتهم عليها، فمن شأنى الأيثار، إذا حصل اليسار،ثم إنى طوعا لأهل الدار، أصبر لهم على سوء الجوار، يذبحون أفراخى، وأنا لهم كالخل المواخى، وينتهبون أتباعى، وأنا في نفعهم ساعى، فهذه سجية أوصافى، والله لعبده كافى.
فقلت له: أيها الديك إلى كم تعظ، ولا تتعظ، وتنصح من هو عن الصواب معترض، وتجمع من ملازمتك الأذكار، ومنادمتك في ظلم الأسحار؟ فقال: يا قوم إذا حسن الوعظ انتفع به الكل أو البعض، فالعقول عارفة بما أقول، فقد أفلح من وعى، واجتهد في الإخلاص وسعى، ومن أعماه الجهل، فقد توعد مسلكه السهل، وفي ذلك أقول:
بِذِكْرِ اللَّهِ يَدْفَعُ كلَّ خَوْفٍ ... وَيَدْنُوا الخَيْرُ مِمَّنْ يَرْتَجِيهِ
وَلَكِن أينَ مَنْ يَصْغَى وَيَدْرِى ... حَقِيقَةَ ما أَقُولُ وَمَنْ يَعيهِ
فقلت له: أيها الديك مالي أراك تغتر إذا شبعت، كما تغتر إذا منعت؟ فقال: الحرص أغلب، وهو لأجل القلوب أجلب، وقد آن وجود الحب، بمشيئة الرب، فعليك بحسن الطلب لبلوغ الأرب، فربما قل رزقك، إذا كثر حذقك.
قلت: فليهنك الخلاص من المرضى، فلم بليت منهم بهذه البغضى، وأنت صغير السن، جدير الرحمة من الإنس والجن؟ قال: ولع الطبيب بهذه الأسماء، فسجرت الشفار لإراقة الدماء، فمن حان أجله، عظم وجله، والحمام أجل معلوم، وما أحد من منيته بمعصوم، وفي ذلك أقول:
إِذَا مَا الدِّيكُ صَفَّقَ بالجَنَاح