كتاب:الكيلانية
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية

الكيلانية
شيخ الإسلام ابن تيمية
سئل شيخ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية عن قوم يقولون : كلام الناس وغيرهم قديم - سواء كان صدقا أو كذبا فحشا أو غير فحش نظما أو نثرا - ولا فرق بين كلام الله وكلامهم في القدم إلا من جهة الثواب . وقال قوم منهم - بل أكثرهم - : أصوات الحمير والكلاب كذلك ولما قرئ عليهم ما نقل عن الإمام أحمد ردا على قولهم تأولوا ذلك وقالوا : بأن أحمد إنما قال ذلك خوفا من الناس فهل هؤلاء مصيبون أو مخطئون ؟ وهل على ولي الأمر وفقه الله تعالى زجرهم عن ذلك أم لا ؟ وهل يكفرون بالإصرار على ذلك أم لا ؟ وهل الذي نقل عن أحمد حق كما زعموا أم لا فأجاب رضي الله عنه
الحمد لله .

بل هؤلاء مخطئون في ذلك خطأ محرما بإجماع المسلمين وقد قالوا منكرا من القول وزورا ؛ بل كفرا ومحالا يجب نهيهم عنه ويجب على ولاة الأمور عقوبة من لم ينته منهم عن ذلك جزاء بما كسبوا نكالا من الله ؛ فإن هذا القول مخالف للعقل والدين مناقض للكتاب والسنة وإجماع المؤمنين وهي " بدعة شنيعة " لم يقلها أحد قط من علماء المسلمين : لا علماء السنة ولا علماء البدعة ولا يقولها عاقل يفهم ما يقول ؛ ولكن عرض لمن قالها شبهة ونحن نبينها إن شاء الله تعالى . ولا يحتاج في مثل هذا الكلام الذي فساده معلوم ببداءة العقول أن يحتج له بنقل عن إمام من الأئمة إلا من جهة بيان أن رده وإنكاره منقول عن الأئمة وأن قائله مخالف للأمة مبتدع في الدين ؛ ولتزول بذلك شبهة من يتوهم أن قولهم من لوازم قول أحد من السلف ويعلم أنهم مخالفون لمذاهب الأئمة المقتدى بهم المعظمين ؛ وليتبين أن نقيض قولهم منصوص عن الأئمة المتبعين في السنة وليس ذلك مما سكتوا عنه نفيا وإثباتا . وأنه لا ريب أن الإمام أحمد بن حنبل ومن قبله وبعده من الأئمة نصوا على أن كلام الآدميين مخلوق - نصا مطلقا - بل نص أحمد وكثير من الأئمة على " أفعال العباد " عموما وعلى " كلام الآدميين " خصوصا ولم يمتنعوا عن هذا الإطلاق لأجل الشبهة التي عرضت لهؤلاء المبتدعة المخالفين حتى لا يقول قائل منهم أو من غيرهم : إنه لا يقال مخلوق ولا غير مخلوق لأجل شبهتهم أو لكون الكلام في ذلك بدعة بل القول بأن كلام الآدميين مخلوق غير قديم منصوص عن الأئمة المتفق على إمامتهم في الدين والسنة . فمنهم من نص عليه لما تكلم في " مسائل القدر " و " خلق أفعال العباد " ومنهم من نص عليه لما تكلم في " مسألة تلاوة العباد للقرآن واللفظ به " ومنهم من نص عليه محتجا به على الفرق بين كلام الخالق وكلام المخلوق . فروى أبو بكر أحمد بن هارون الخلال - وهو الذي جمع نصوص أحمد في أصول الدين وأصول الفقه وفي أبواب الفقه

كلها وفي الآداب والأخلاق والزهد والرقائق وفي علل الحديث وفي التاريخ وغير ذلك من علوم الإسلام . روي - في " كتاب السنة " في الكلام على اللفظية عن أبي بكر ابن زنجويه قال : سمعت أحمد بن حنبل يقول : من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع لا يكلم . قال الخلال : وأخبرنا أبو داود السجستاني قال : سمعت أبا عبد الله يتكلم في " اللفظية " وينكر عليهم كلامهم وسمعت إسحاق بن راهويه ذكر " اللفظية " وبدعهم وقال الخلال : سمعت ابن صدقة قال سمعت يحيى بن حبيب بن عربي قال سمعت رجلا سأل معتمر بن سليمان أن لنا إماما قدريا أصلي خلفه قال : من زعم أن لفظه غير مخلوق بمنزلة من زعم أن سماء الله غير مخلوقة قال الخلال : وأخبرني أبو بكر المروزي حدثنا محمد بن يحيى الأزدي حدثني مسدد قال : كنت عند يحيى القطان وجاء يحيى بن إسحاق بن توبة العنبري فقال له يحيى حدث هذا يعني مسددا كيف قال حماد بن زيد فيها ؟ - أي " مسألتنا " - فقال سألت حماد بن زيد عمن قال : كلام الناس ليس بمخلوق فقال هذا كلام أهل الكفر وقال يحيى بن إسحاق سألت معتمر بن سليمان عمن قال كلام الناس ليس بمخلوق فقال هذا كفر . فهذه الآثار ونحوها مما اعتمد عليها المشهورون بالسنة كالمروذي والخلال وغيرهما وكذلك الإمام أبو عبد الله ابن بطة يعتمد في كتابه " الإبانة الكبير " على هذه الآثار ونحوهما . قلت : حماد بن زيد أحد الأئمة الأعلام في السنة في طبقة مالك والثوري والأوزاعي وحماد بن سلمة والليث بن سعد في الزمان والإمامة بل هو عند علماء السنة أقعد بالسنة من الثوري وإن كان الثوري أكثر علما منه وزهدا وعند علماء الحديث أحفظ للحديث من حماد بن سلمة وإن كان حماد أشهر بالزهد وأكثر دعاء إلى السنة وهو إمام البصرة في ذلك الزمان الذي كانت البصرة فيه مجمع علم الإسلام وكان علماء الأمة وورثة الأنبياء وخلفاء الرسل في ذلك العصر الذي هو عصر تابعي التابعين

هؤلاء المسلمين ونحوهم وهم من القرن الثالث الممدوح . و المعتمر بن سليمان " أحد الأئمة الأعلام أيضا وهو دون حماد ابن زيد وقد أدركه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهما وهو أحد شيوخ الإمام أحمد وأما حماد بن زيد " ففات الإمام أحمد فقال : فاتني حماد بن زيد فعوضني الله بإسماعيل بن علية وفاتني مالك بن أنس فعوضني الله سفيان بن عيينة . وأما يحيى بن سعيد القطان " فهو أحد علماء السنة وهو إمام أهل الحديث في معرفة صحته وعلله ورجاله وضبطه حتى قال أحمد : ما رأيت بعيني مثله يعني في ذلك الفن وعنه أخذ ذلك علي بن المديني وعن علي أخذ ذلك البخاري صاحب الصحيح وقد ذكر الترمذي أنه لم ير في معرفة علل الحديث مثل محمد بن إسماعيل البخاري . وهؤلاء العلماء الأئمة أنكروا على من قال كلام الآدميين ولفظهم غير مخلوق لما نبغت " القدرية " المبتدعة وزعموا أن أفعال العباد غير مخلوقة لله : لا أقوالهم ولا سائر أعمالهم : لا خيرها ولا شرها ؛ بل يقولون : هي محدثة أحدثها العبد وليست مخلوقة لأحد أو يقولون : العبد خلقها كما أنه أحدثها ؛ فإنهم قد يتنازعون في إثبات خلق لغير الله ومع هذا فلم يكن بين الأمة نزاع في أنها محدثة كائنة بعد أن لم تكن ولم يقل أحد : إنها قديمة ؛ ولكن " القدرية " من المعتزلة وغيرهم اعتقدوا أن الأفعال الاختيارية وما يتولد عنها من أفعال الملائكة والجن والإنس - الطاعات والمعاصي - لم يخلقها الله . قالوا : لأنه لو خلقها للزم أن يكون العبد مجبورا وأن يرتفع التكليف والوعد والوعيد والثواب والعقاب ؛ ولأن العبد يعلم أنه هو الذي يحدث أفعاله علما ضروريا وعللوا ذلك بأدلة نظرية . فلما ابتدعوا هذه " المقالة " أنكرها أئمة السنة كما أنكر الصحابة رضوان الله عليهم أول هذه البدعة لما نبغت القدرية في أواخر عصر الصحابة فرد عليهم ابن عمر وابن عباس وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة . وبين الأئمة أن من جعل شيئا من

المحدثات كأفعال العباد وغيرها ليس مخلوقا لله فهو مثل من أنكر خلق الله لغير ذلك من المحدثات كالسماء والأرض ؛ فإن الله رب العالمين ومالك الملك وخالق كل شيء فليس شيء من العالمين خارجا عن ربوبيته ولا شيء من الملك خارجا عن ملكه ولا شيء من المحدثات خارجا عن خلقه قال تعالى : { الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل } { له مقاليد السماوات والأرض } وقال تعالى : { أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء } وقال تعالى : { بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم } { ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل } { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } وقال تعالى : { ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون } وقال تعالى : { الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا } وقال تعالى : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } وقال تعالى : { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم } { والله يعلم ما تسرون وما تعلنون } { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون } { أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون } ولهذا كان أهل السنة والجماعة والحديث هم المتبعين كتاب الله المعتقدين لموجب هذه النصوص حيث جعلوا كل محدث من الأعيان والصفات والأفعال المباشرة والمتولدة وكل حركة طبعية أو إرادية أو قسرية فإن الله خالق كل ذلك جميعه وربه ومالكه ومليكه ووكيل عليه وإنه سبحانه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم فآمنوا بعلمه المحيط وقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وربوبيته التامة ؛ ولهذا قال ابن عباس : الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن وحد الله وآمن بالقدر تم توحيده ومن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده . وأما صفة الله تعالى فهي

داخلة في مسمى أسمائه الظاهرة والمضمرة فإذا قلت : عبدت الله ودعوت الله و { إياك نعبد } فهذا الاسم لا يخرج عنه شيء من صفاته من علمه ورحمته وكلامه وسائر صفاته ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { : من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت } وقال : { من حلف بغير الله فقد أشرك } وقد ثبت عنه : " الحلف بعزة الله " والحلف بقوله : " لعمر الله " فعلم أن ذلك ليس حلفا بغير الله فأعطوا هذه الآيات المنصوصة حقها في اتباع عمومها الذي قد صرحت به في أن الله خالق كل شيء ؛ إذ قد علم أن الله ليس هو داخلا في المخلوق وعلم أن صفاته ليست خارجة عن مسمى اسمه . وأما " المعتزلة " الذين جمعوا التجهم والقدر فأخرجوا عنها ما يتناوله الاسم يقينا من أفعال الملائكة والجن والإنس والبهائم : طاعاتها وغير طاعاتها وذلك قسط كبير من ملك الله وآياته ؛ بل هي من محاسن ملكه وأعظم آياته ومخلوقاته وأدخلوا في ذلك كلامه لكونه يسمى " شيئا " في مثل قوله : { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } ولم ينظروا في أن ذلك مثل تسمية علمه " شيئا " في قوله : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } وتسمية نفسه شيئا في قوله : { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم } وأن قوله : { كل شيء } يعم بحسب ما اتصل به من الكلام . فإن الاسم تتنوع دلالته بحسب قيوده . ففي قوله : { وهو بكل شيء عليم } دخل في ذلك نفسه لأنها تصلح أن تعلم وفي قوله : { وهو على كل شيء قدير } دخل في ذلك ما يصلح أن يكون مقدورا وذلك يتناول كل ما كانت ذاته ممكنة الوجود وقد يقال : دخل في ذلك كل ما يسمى شيئا بمعنى " مشيئا " فإن " الشيء " في الأصل مصدر وهو بمعنى المشيء فكل ما يصلح أن يشاء فهو عليه قدير وإن شئت قلت : قدير على كل ما يصلح أن يقدر عليه والممتنع لذاته ليس شيئا باتفاق العقلاء . وفي قوله : { الله خالق كل شيء } قد علم أن الخالق ليس

هو المخلوق وأنه لا يتناوله الاسم وإنما دخل فيه كل شيء مخلوق : وهي الحادثات جميعها . هذا مع أن أهل السنة يقولون إن العبد له مشيئة وقدرة وإرادة وهو فاعل لفعله حقيقة وينهون عن إطلاق " الجبر " فإن لفظ " الجبر " يشعر أن الله أجبر العبد على خلاف مراد العبد كما تجبر المرأة على النكاح ؛ وليس كذلك ؛ بل العبد مختار يفعل باختياره ومشيئته ورضاه ومحبته ليس مجبورا عديم الإرادة والله خالق هذا كله ؛ فإن هذه الأمور من المحدثات الممكنات فالدلالة على أن الله خالقها كالدلالة على أنه خالق غيرها من المحدثات وليس هذا موضع الكلام على هذا فإن ذلك له موضع آخر . وإنما الغرض هنا أن الأئمة ردوا على من جعل أقوال العباد وأفعالهم خارجة عن خلق الله وجعلوا ذلك بمنزلة من جعل السماء والأرض ليس مخلوقة لله . هذا مع أن أولئك المبتدعين كانوا يقولون إنها محدثة ليست قديمة فكيف إذا قيل : إنها قديمة فإن ذلك يصير ضلالين بل ثلاث ضلالات . ( أحدها جعل المحدث المصنوع صفة لله قديمة مضاهاة للنصارى ونحوهم . و ( الثاني إخراج مخلوق الله ومقدوره عن خلقه وقدرته كما قالته القدرية مضاهاة للمجوس ونحوهم . و ( الثالث إخراج فعل العبد ومقدوره وكسبه عن أن يكون مقدورا له وكسبا وفعلا مضاهاة للجبرية القدرية المشركية فهذا كان وجه كلام أولئك الأئمة في هذا . ثم لما حدثت بدعة " اللفظية " احتج أئمة ذلك العصر في جملة ما احتجوا به بكلام أولئك السلف مثل البخاري الإمام صاحب " الصحيح " ومثل أبي بكر المروزي الإمام صاحب الإمام أحمد بن حنبل وخلق كثير في زمنه ومثل أبي بكر الخلال ونحوه . فاستدل هؤلاء الأئمة وغيرهم على بطلان قول من يقول : إن فعل العبد أو صفاته المتعلقة بصفات الله غير مخلوقة بما دل على أن أفعال العباد وصفاتهم مخلوقة . فروى البخاري عن أبي قدامة عن يحيى بن سعيد القطان قال ما زلت أسمع أصحابنا يقولون : أفعال العباد مخلوقة . وروى المروزي صاحب

الإمام أحمد والخلال ما تقدم ذكره من كلام الأئمة من النص على خلق كلام الآدميين وأفعالهم . وسيأتي إن شاء الله نصوص الإمام أحمد في ذلك فإن القصد هنا التنبيه على الأصل الذي تشعب منه تفرق الأمة في هذا الموضع وهو " مسألة اللفظ " .
فصل و " مسألة اللفظ بالقرآن " قد اضطرب فيها أقوام لهم علم وفضل ودين وعقل وجرت بسببها مخاصمات ومهاجرات بين أهل الحديث والسنة حتى قال ابن قتيبة كلاما معناه لم يختلف أهل الحديث في شيء من مذاهبهم إلا في " مسألة اللفظ " . وبين أن سبب ذلك لما وقع فيها من الغموض والنزاع بينهم في كثير من المواضع لفظي ولم يكن بين الناس نزاع في أن كلام العباد الذي لم ينزله الله تعالى أنه محدث مخلوق وإن كان الكلام في " حروف الهجاء " وفي " أسماء المحدثات " فيه نزاع هو الذي أوقع هؤلاء الجهال في ما ارتكبوه من المحال كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى . ولا يتسع هذا الجواب لشرح " مسألة اللفظ " مبسوطا ؛ ولكن ننبه عليه مختصرا فنقول : إن الله تعالى أرسل رسله وأنزل عليهم كتبه وأمرهم أن يبلغوا إلى الناس ما أنزل الله عليهم من وحيه وكلامه فمن الناس من آمن بالله ورسله وصدقهم فيما جاءوا به من عند الله وأطاعهم فيما أمروا به . وهؤلاء هم المؤمنون في كل وقت وزمان وهم أهل الجنة والسعادة كما قال تعالى : { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله } وقال تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } . ومن الناس من كفر بهم وكذب : مثل الأمم الذين قص الله علينا أخبارهم من قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وفرعون ومشركي العرب وكل من لم يؤمن بأصل الرسالة من الهند والبراهمة وغيرهم والترك والسودان وغيرهم من الأمم الأميين الذين لا كتاب لهم - سواء كانوا مكذبين

للرسل أو معرضين عن اتباعهم ؛ فإن الكفر عدم الإيمان بالله ورسله سواء كان معه تكذيب أو لم يكن معه تكذيب بل شك وريب أو إعراض عن هذا كله حسدا أو كبرا أو اتباعا لبعض الأهواء الصارفة عن اتباع الرسالة وإن كان الكافر المكذب أعظم كفرا وكذلك الجاحد المكذب حسدا مع استيقان صدق الرسل والسور المكية كلها خطاب مع هؤلاء . ولهذا يقول سبحانه : { كذبت قوم نوح المرسلين } لأنهم كذبوا جميع الرسل ولم يؤمنوا بأصل الرسالة وقد قال تعالى لما أهبط أباهم آدم : { قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } { قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا } { قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } { وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } . فأخبر أنه إذا أتاهم هدى منه وهو ما أنزله على رسله من الذكر فمن اتبعه اهتدى وسعد في الدنيا والآخرة ومن أعرض عنه شقي وعمي ولهذا قال في أوائل البقرة في نعت المؤمنين : { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } كما قال هنا : { فلا يضل ولا يشقى } فإن الهدى ضد الضلال والفلاح ضد الشقاء وقال تعالى : { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } { والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } . ومن الناس من آمن ببعض ما جاءت به الرسل وكفر ببعض كمن آمن ببعض المرسلين دون بعض واليهود والنصارى حيث آمنوا بموسى أو موسى والمسيح معه دون محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا يخاطب الله في القرآن الأميين الذين لم يتبعوا رسولا وأهل الكتاب المصدقين ببعض الرسل كما في قوله : { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم } وفي قوله : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين } . وكمن آمن

ببعض صفات الرسالة وكفر ببعض : من الصابئين الفلاسفة ونحوهم : الذين قد يقرون بأصل الرسالة ؛ لكن يجعلون الرسول بمنزلة الملك العادل : الذي قد وضع قانونا لقومه أو يقولون : إن الرسالة للعامة دون الخاصة أو في الأمور العملية دون العلمية أو في الأمور التي يشترك فيها الناس دون الخصائص التي يمتاز بها الكمل ويقرون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من حيث الجملة ويعظمونه ويقولون : اتفق فلاسفة العالم على أنه لم يرد إلى الأرض ناموس أعظم من ناموسه ؛ لكنهم مع هذا يكفرون ببعض ما جاء به : مثل أن يسوغوا اتباع غير دينه من اليهودية والنصرانية وقد يسوغون الشرك أيضا للعامة أو للخاصة : مثل أن يسوغوا دعوة الكواكب وعبادتها والسجود لها وقد يكذبون في الباطن بأشياء مما أخبر بها ويزعمون أن ما أخبر به من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هي أمثال مضروبة لتفهيم العامة ما لا يجوز إظهاره وإبانة حقيقته ؛ وذلك أنهم يجوزون كذبه لمصلحة العامة بزعمهم . وقد يزعمون أن حقيقة العلم بالله تؤخذ من غير ما جاء به الرسول وأن من الناس من يكون أعلم بالله منه أو أفضل منه ونحو ذلك من المقالات وهذا الضرب ما زال موجودا لا سيما مع القرامطة الباطنية : من الإسماعيلية والنصيرية والملوك العبيدية : الذين كانوا يدعون الخلافة ومع الخرمية والمزدكية وأمثالهم من الطوائف وهؤلاء خواصهم أكفر من اليهود والنصارى ومن الغالية الذين يقولون بإلهية علي ونحوه من البشر أو نبوته وهم منافقون زنادقة ؛ لكن في كثير من أتباعهم من يظن أنه مؤمن بالكتب والرسل لما لبسوا عليه أصل قولهم أو وافقهم في قول بعضهم دون بعض وأكثر هؤلاء يميلون إلى الرافضة ومنهم من ينتسب إلى التصوف ومنهم من ينتسب إلى الكلام ومنهم من يدخل مع الفقهاء في مذاهبهم . وهذا الضرب يكثر في الدول الجاهلية البعيدين عن معرفة الإسلام والتزامه كما كانوا كثيرين في دولة الديلم والعبيديين ونحوهم وكما

يكثرون في دولة الجهال من الترك ونحوهم من الجهال الذين آمنوا بالرسالة من حيث الجملة من غير علم بتفاصيل ما جاء به الرسول لأن الجهال من الترك وغيرهم بهذا الضرب أشبه منهم بغيرهم ؛ فإن هؤلاء لا يوجبون اتباع الرسول على جميع أهل الأرض ؛ لكنهم قد يرون اتباعه أحسن من اتباع غيره فيتبعونه على سبيل الاستحباب أو يتبعون بعض ما جاء به أو لا يتبعونه بحال . وهم في ذلك مقرون له ولأتباعه . والمؤمن ببعض الرسالة دون بعض كافر أيضا كما قال تعالى : { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا } { أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا } { والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما } وقال تعالى - يخاطب أهل الكتاب - : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون } وقال تعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا } { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } وقال تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } { أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا } . فذم الذين أوتوا قسطا من الكتاب لما آمنوا بما خرج عن الرسالة وفضلوا الخارجين عن الرسالة على المؤمنين بها كما يفضل ذلك بعض من

يفضل الصابئة من الفلاسفة والدول الجاهلية - جاهلية الترك والديلم والعرب والفرس وغيرهم - على المؤمنين بالله وكتابه ورسوله وكما ذم المدعين الإيمان بالكتب كلها وهم يتركون التحاكم إلى الكتاب والسنة ويتحاكمون إلى بعض الطواغيت المعظمة من دون الله كما يصيب ذلك كثيرا ممن يدعي الإسلام وينتحله في تحاكمهم إلى مقالات الصابئة الفلاسفة أو غيرهم أو إلى سياسة بعض الملوك الخارجين عن شريعة الإسلام من ملوك الترك وغيرهم وإذا قيل لهم : تعالوا إلى كتاب الله وسنة رسوله أعرضوا عن ذلك إعراضا وإذا أصابتهم مصيبة في عقولهم ودينهم ودنياهم بالشبهات والشهوات أو في نفوسهم وأموالهم عقوبة على نفاقهم قالوا إنما أردنا أن نحسن بتحقيق العلم بالذوق ونوفق بين " الدلائل الشرعية " و " القواطع العقلية " التي هي في الحقيقة ظنون وشبهات أو " الذوقية " التي هي في الحقيقة أوهام وخيالات { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا } إلى قوله : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقال تعالى : { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين } { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون } إلى قوله : { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } الآية وقال تعالى : { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم } . وقد ذم الله سبحانه أهل التفرق والاختلاف في الكتاب الذين يؤمن كل منهم ببعضه دون بعض كما قال تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات

بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } وقال تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وقال تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } وقال تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } قال ابن عباس : تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة . وقال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } { منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين } { من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } وقال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب } { وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب } { فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم } . فأمر الله نبيه أن يؤمن بجميع الكتب المنزلة وأن يعدل بين الناس كلهم فيعطي كل ذي حق حقه ويمنع كل مبطل عن باطله ؛ فإن القسط والعدل في جميع أمور الدين والدنيا فيما جاء به وهو المقصود بإرسال الرسل وإنزال الكتب كما قال تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } وقال تعالى : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك

المصير } إلخ السورة . وهاتان الآيتان قد ثبت في الصحيح { أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطيهما من كنز تحت العرش وأنه لم يقرأ بشيء منهما إلا أعطيه } وقد ثبت في الصحيح { أنه من قرأهما في ليلة كفتاه } وقال تعالى : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } .

فصل فلما كان في الأمم كفار ومنافقون يكفرون ببعض الرسالة دون بعض إما في القدر وإما في الوصف كما أن فيهم كفار ومنافقون يكفرون بأصل الرسالة وكان في الكفار بأصل الرسالة من قال : إن الرسول شاعر وساحر وكاهن ومعلم ومجنون ومفتر كما كان رئيس قريش وفيلسوفها وحكيمها الوليد بن المغيرة الوحيد المذكور في قوله تعالى { ذرني ومن خلقت وحيدا } { وجعلت له مالا ممدودا } { وبنين شهودا } { ومهدت له تمهيدا } { ثم يطمع أن أزيد } { كلا إنه كان لآياتنا عنيدا } { سأرهقه صعودا } { إنه فكر وقدر } { فقتل كيف قدر } { ثم قتل كيف قدر } { ثم نظر } { ثم عبس وبسر } { ثم أدبر واستكبر } { فقال إن هذا إلا سحر يؤثر } { إن هذا إلا قول البشر } . فإنه صنع صنع الفيلسوف المخالف للرسل في تفكيره أولا : الذي هو طلب الانتقال من تصور طرفي القضية إلى المبادئ الموجبة للتصديق ليظفر بالحد الأوسط ثم قدر ثانيا والتقدير هو " القياس " وهو الانتقال من المبادئ إلى المطلوب بالقياس المنطقي الشمولي ؛ ولعمري إنه لصواب إذا صحت مقدماته وإن كانت النتيجة في الأغلب أمورا كلية ذهنية ثبوتها في الأذهان لا في الأعيان كالعلوم الرياضية من الأعداد والمقادير ؛ فإن العدد المجرد عن المعدود والمقدار المجرد عن الأجسام إنما يوجد في الذهن لكن أنى وأكثر مقدماته في الإلهيات دعاوى يدعى فيها بعموم ؟ وأن القضية من المسلمات بلا حجة ومتى لم يكن في القياس قضية كلية معلومة لم تفد المطلوب وهم يلبسون المهملات التي هي في معنى الجزئيات بالكليات العامة المسلمات أو يدعى فيها العموم بنوع من قياس التمثيل . ومعلوم أنه لا بد في كل قياس من " قضية كلية " وعامة " القضايا الكلية " التي لهم فيها المطالب الإلهية لا يعلم كونها كلية عامة ؛ إذ عمومها لا يعلم إلا بمجرد قياس التمثيل الذي قد يكون من أفسد القياس المقتضي لتشبيه الله بخلقه كما يقولون : الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وليس

معهم إلا تشبيه خالق السموات والأرض ورب العالمين بالطبائع كطبيعة الماء والنار مع أن الواحد الذي يثبتونه في الإلهيات وفي المنطق أيضا الذين يجعلون قضية الأنواع مركبة منه وهو " الجنس " و " الفصل " لا حقيقة لها ولا توجد إلا في الأذهان لا في الأعيان وقد بسطنا الكلام على ذلك في مواضع . وبينا أن ما يثبتونه من العقليات التي هي " الجواهر العقلية " المجردة عن المادة وهي العقل والنفس والمادة والصورة التي ليست بجسم ولا عرض لا حقيقة لها في الخارج وإنما تقدر في الأذهان لا في الأعيان وكذلك ما يثبتونه من الواحد الذي يصفون به واجب الوجود ومن الواحد الذي يجعلون الأنواع تتركب منه إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان " والقياس العقلي " الذي يحتجون به لا بد فيه من قضية كلية . والقياس نوعان " قياس الشمول " و " قياس التمثيل " . والناس متنازعون في مسمى " القياس " فقيل هو حقيقة في التمثيل مجاز في الشمول كما ذكر ذلك أبو حامد وأبو محمد المقدسي وغيرهما وقيل : هو حقيقة في عكس ذلك كما قاله ابن حزم وغيره من نفاة قياس التمثيل وقيل : بل اسم القياس يتناولهما وهذا قول جمهور الناس . واسم " القياس العقلي " يدخل فيه هذا وهذا ؛ لكن من الناس من ظن أن " قياس التمثيل " لا يفيد اليقين ولا يستعمل في العقليات كما ذهب إليه أبو المعالي وأبو حامد والرازي وأبو محمد والآمدي وآخرون من أهل المنطق . وأما الجمهور فعندهم كلا القياسين سواء وهذا هو الصواب ؛ فإن مآل القياسين إلى شيء واحد وإنما يختلف بترتيب الدليل . فإن القائل إذا قال : النبيذ المتنازع فيه حرام ؛ لأنه مسكر فكان حراما قياسا على خمر العنب فلا بد له أن يثبت أن السكر هو مناط التحريم وهو الذي يسمى في قياس التمثيل " مناطا " و " علة " . و " أمارة " و " مشتركا " و " وضعا " ونحو ذلك . ولا بد في القياس الصحيح من أن يقيم دليلا على أن السكر مناط التحريم بحيث إذا وجد السكر وجد

التحريم فإذا صاغ الدليل بقياس الشمول فإن النبيذ مسكر وكل مسكر حرام فالسكر في هذا النظم هو الحد الأوسط المكرر وهو العلة في قياس التمثيل ولا بد له في هذا القياس من أن يثبت هذه القضية الكلية الكبرى وهي قوله : كل مسكر حرام فما به ثبتت هذه القضية في هذا النظم يثبت به أنه مناط التحريم في ذلك النظم لا فرق بينهما . وإذا قال القائل : إثبات تأثير الوصف وكونه مناط الحكم هو عمدة القياس وهو جواب " سؤال المطالبة " وبيان كون الوصف بالشمول هو مناط الحكم وهذا لا يثبت إلا بأدلة ظنية . قيل له : وإثبات عموم القضية الكبرى في قياس الشمول هو عمدة القياس ؛ فإن الصغرى في الغالب تكون معلومة كما يكون ثبوت الوصف في الفرع معلوما وإذا كان ثبوت الوصف في الفرع قد يحتاج إلى دليل كما قيل تحتاج المقدمة الصغرى إلى دليل وإثبات المقدمة الكبرى لا يتأتى إلا بأدلة ظنية ونفس ما به يثبت عموم القضية يثبت تأثير الوصف المشترك لا فرق بينهما أصلا واستعمال كلا القياسين في الأمور الإلهية لا يكون إلا على وجه الأولى والأحرى . وبهذه " الطريقة " جاء القرآن وهي طريقة سلف الأمة وأئمتها فإن الله سبحانه لا يماثله شيء من الموجودات في " قياس التمثيل " ولا أن يدخل في " قياس شمول " تتماثل أفراده بل ما ثبت لغيره من الكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه فهو أحق به وما نزه عنه غيره من النقائص فهو أحق بالتنزيه منه كما قال تعالى : { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى } وقال تعالى : { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } . وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا أن ما يستفاد ب " القياس الشمولي " في عامة الأمور قد يستفاد بدون ذلك فتعلم أحكام الجزئيات الداخلة في القياس بدون معرفة حكم القضية الكلية كما إذا قيل : الكل أعظم من الجزء والضدان لا

يجتمعان فما من كل معين وضدين معنيين إلا وإذا علم أن هذا جزء هذا وأن هذا ضد هذا علم أن هذا أعظم من هذا وأن هذا لا يجامع هذا بدون أن يخطر بالبال قضية كلية أن كل ضدين لا يجتمعان وأن كل كل فهو أعظم من جزء . وكذلك إذا قيل النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان فما من نقيضين يعرف أنهما نقيضان إلا ويعرف أنهما لا يجتمعان ولا يرتفعان بدون أن يستحضر أن كل نقيضين لا يجتمعان [ ولا يرتفعان ] . فعامة المطالب يستغنى فيها عن القياس المنطقي المتضمن للكبرى الذي لا بد فيه من قضية كلية [ و ] الأمور المعينات لا تعلم بمجرد القياس العقلي وإنما يعلم بالقياس القدر المشترك بينها وبين غيرها وهم يسلمون ذلك وبينا أن الأدلة الدالة على الصانع هي آيات تدل بنفسها على نفسه المقدسة وبينا الفرق بين دلالة الآيات ودلالة القياس وأن الأدلة أكمل وأنفع وطريقة القياس تابعة لها ودونها في المنفعة والكمال والقرآن جاء بهذه وهذه ومعرفة الإلهيات والنبوات وغيرها فتلك الطريقة أكمل وأتم . وهؤلاء يزعمون أنه لا ينال مطلوب فطري إلا بطريقة القياس الذي لا بد فيه من قضية كلية والقضية الكلية لا تفيد إلا أمرا كليا عقليا لا تفيد معرفة شيء معين وكل موجود فهو معين فكيف يقول عاقل مع هذا أنه لا ينال علم إلا بهذه الطريق ثم إنهم في ضلالهم يظنون أن علم الأنبياء بل وعلم الرب سبحانه إنما حصل بواسطة القياس المنطقي وأن النبي له قوة حدسية يظفر بالحد الأوسط في القياس المنطقي بدون معلم فيكون أكمل من غيره فيجعلون علمه بالغيب من هذا الباب ولم يدرك بمثل هذا القياس علوم طبيعية أو حسابية ونحو ذلك فمن أين أنه لا ينال علم إلا به ؟ ومن أين أنه لا مواد يقينية إلا ما يدعيه المدعي مما عنده من الحدسيات المعتادة الظاهرة والباطنة والبديهيات المعتادة والمتواترات والمجربات المعتادة . والحدسيات المعتادة والحس الباطن والظاهر والتجربة ونحو ذلك لا يعلم بمجرده إلا أمر معين

جزئي وذلك لا يصلح أن يكون مقدمة في القياس ولكن يعلم في العموم إما بواسطة قياس تمثيل وإما بعلم ضروري يحدثه الله في القلب ابتداء وإذا أحدث علما ضروريا عاما لأفراد فإحداث العلم ببعض تلك الأفراد سهل فقل أن يستفاد بطريقهم علم بنتيجة إلا والعلم بالنتيجة فيه ممكن بالطريق الذي به عرفت المقدمات أو أسهل فلا يكون في قياسهم إلا زيادة تطويل وتهويل وتضليل . وقد بسطنا الكلام على " المنطق اليوناني " بما فيه من حق وباطل ونافع وضار في غير هذا الموضع . ونفي العلم إلا بهذا القياس ونفي كون القياس يقينيا إلا بهذه المقدمات قول بلا علم وتكذيب بما لم يحط المكذب بعلمه ؛ ولهذا كانت الطريقة النبوية السلفية أن يستعمل في العلوم الإلهية " قياس الأولى " كما قال الله تعالى : { ولله المثل الأعلى } إذ لا يدخل الخالق والمخلوق تحت قضية كلية تستوي أفرادها ولا يتماثلان في شيء من الأشياء بل يعلم أن كل كمال - لا نقص فيه بوجه - ثبت للمخلوق فالخالق أولى به وكل نقص وجب نفيه عن المخلوق فالخالق أولى بنفيه عنه وأمثال هذه " الأقيسة العقلية " التي من نوع الأمثال المضروبة في القرآن ولله المثل الأعلى وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع . فلما كان الكفار بالرسالة على ما ذكر جاء في الكفار ببعضها من شاركهم في بعض ذلك : فأنكرت الجهمية أن يكون الله يتكلم أو يقول أو يحب أو يبغض وأنكروا سائر صفاته التي جاءت بها الرسل فأنكروا بعض حقيقة الرسالة التي هي كلام الله وأنكروا بعض ما في الرسالة من صفات الله . وأول من أظهر ذلك في الإسلام - وإن كان ذلك موجودا قبل الإسلام في أمم أخرى - الجعد بن درهم شيخ الجهم بن صفوان وكان على ما قيل من أهل حران وكان فيهم أئمة الفلاسفة ومنهم تعلم أبو نصر الفارابي كثيرا مما تعلم من الفلسفة على ما ذكره عبد اللطيف بن يوسف البغدادي فضحى بالجعد خالد بن عبد الله القسري بواسط على عهد علماء التابعين وغيرهم من علماء

المسلمين وهم بقايا التابعين في وقته : مثل الحسن البصري وغيره الذين حمدوه على ما فعل وشكروا ذلك فقال : أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم ؛ فإني مضح بالجعد ابن درهم ؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما - تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا - ثم نزل فذبحه . وبنوا ذلك على قاعدة مبتدعة الصابئين المكذبين ببعض ما جاءت به الرسل الذين لا يصفون الرب إلا بالصفات السلبية أو الإضافية أو المركبة منهما وهم في هذا التعطيل موافقون في الحقيقة لفرعون رئيس الكفار الذي جحد الصانع بالكلية ؛ فإن جحود صفاته مستلزم لجحود ذاته ؛ ولهذا وافقوا فرعون في تكذيبه لموسى بأن ربه فوق السموات حيث قال : { يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب } { أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا } بخلاف محمد صلى الله عليه وسلم الذي صدق موسى لما عرج به إلى ربه وأخبر أنه وجد موسى هناك وأنه جعل يختلف بين ربه وبين موسى فمحمد صلى الله عليه وسلم صدق موسى في أن ربه فوق السموات وفرعون كذبه في ذلك . والناس إما محمدي موسوي وإما فرعوني ؛ إذ فرعون كذب موسى في أن الله فوق وكذبه في أن الله كلمه كما أنكر وجود الصانع ومحمد صدق موسى في هذا كله . وهؤلاء الصابئة المحضة من المتفلسفة يقولون : إن الله ليس له كلام في الحقيقة ؛ لكن كلامه - عند من أظهر الإقرار بالرسل منهم - ما يفيض على نفوس الأنبياء وهو أنه محدث في نفوسهم من غير أن يكون في الخارج عن نفوسهم لله عندهم كلام وهكذا كان الجهم يقول أولا : إن الله لا كلام له ثم احتاج أن يطلق أن له كلاما لأجل المسلمين فيقول : هو مجاز ؛ ولهذا كان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يعلمون مقصودهم وأن غرضهم التعطيل وأنهم زنادقة و " الزنديق " المنافق . ولهذا تجد مصنفات الأئمة يصفونهم فيها بالزندقة كما صنف الإمام أحمد " الرد على الزنادقة والجهمية " وكما ترجم البخاري آخر كتاب

الصحيح ب " كتاب التوحيد والرد على الزنادقة والجهمية " وكان عبد الله بن المبارك يقول : إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية . وتقول الصابئة المحضة - الذين آمنوا في الظاهر وآمنوا في الباطن ببعض الكتاب - كلام الله اسم لما يفيض على قلب النبي من " العقل الفعال " أو غيره و " ملائكة الله " اسم لما يتشكل في نفسه من الصور النورانية وقد يقولون : إن جبريل هو " العقل الفعال " أو هو ما يتمثل في نفسه من الصور الخيالية كما يراه النائم ؛ ولهذا يقول هؤلاء : إن خاصة النبي التخييل وأن الأنبياء أظهروا خلاف ما أبطنوه لمصلحة العامة ولم يفيدوا بكلامهم علما ؛ لكن تخييلا ينتفع به العامة ويجعلون هذا من أفضل الأمور ويمدحون الأنبياء بذلك ويعظمونهم وقد بسطنا الكلام على هذا في مواضع أخر . وعندهم ليس خارجا عن نفس النبي كلام ولا ملك كما يزعمه من يزعمه من المتفلسفة والصابئة المشركين وزعموا أنهم مؤمنون وقالوا إنهم يجمعون بين النبوة والفلسفة كما يفعل الفارابي وابن سينا وغيرهما من المتفلسفة والقرامطة الباطنية من الإسماعيلية ونحوهم الذين أخذوا معاني المتفلسفة الروم والفرس فأخرجوها في قالب التشيع والرفض . والإمامية والزيدية وغيرهم من الشيعة يعلمون أنهم كفار . ومثل ابن سبعين وأمثاله ممن أظهر التصوف على طريقة هؤلاء فهو يأخذ معانيهم يكسوها عبارات الصوفية والصوفية العارفون يعلمون أنهم كفار وإن شيوخ الصوفية الكبار كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني وعمرو بن عثمان الشبلي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وأبي عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي ونحوهم - رضي الله عنهم - كانوا من أعظم الناس تكفيرا لهؤلاء ؛ فإن قول هؤلاء الزنادقة - وإن كان فيه إيمان من وجه آخر - فهؤلاء موافقون في الحقيقة لمقدمهم الوحيد الذي قال : { إن هذا إلا قول البشر } لكن ذاك كفر به كله ظاهرا وباطنا

وهؤلاء قد يؤمنون به ظاهرا وقد يؤمنون باطنا ببعض صفاته : من أنه مطاع عظيم وأنه رئيس النوع الإنساني وأن هذا الكلام الذي جاء به كلام عظيم القدر صادر عن نفس صافية كاملة العلم والعمل لها ثلاث خصائص تتفرد بها عن غيرها . خصيصة قوة الحدس والعلم وخصيصة قوة التأثير في العالم السفلي بنفسه وخصيصة قوة التخيل المطابق للحقائق بحيث يسمع في نفسه الأصوات ويرى من الصور ما يكون خيالا للحقائق وأنه يجوز إضافة كلامه إلى الله وتسميته كلام الله حيث هو أمر به أمرا خياليا . وفي الحقيقة عندهم ما يفيض على سائر النفوس الصافية من العلوم والكلمات هي أيضا كلام الله مثل ما أنه كلام الله ؛ لكن هو أشرف وخطابه دل على أنه رسول الخلق تجب عليهم طاعته التي أخبرت بها الرسل لكن يطلقون عليه أنه متكلم ؛ ولهذا يقولون : إن " النبوة " مكتسبة فطمع غير واحد منهم أن يصير نبيا كما طمع السهروردي وابن سبعين وغيرهما من الملحدين . وقد بينا أصول أقوالهم وفسادها في غير هذا الموضع مثل كلامنا على إبطال قولهم : إن معجزات الأنبياء قوى نفسانية . وأما " المعتزلة " ونحوهم فيوافقونهم في أن الله لا يتكلم في الحقيقة التي يعلم الناس أن صاحبها يتكلم [ بل كلامه ] منفصل عنه ويزعمون أن ذلك حقيقة وليس كلامه عندهم إلا أنه خلق في الهواء أو غيره أصواتا يسمعها من يشاء من ملائكته وأنبيائه من غير أن يقوم بنفسه كلام لا معنى ولا حروف وهم يتنازعون في ذلك المخلوق هل هو جسم أو عرض أو لا يوصف بواحد منهما . ولما ظهر هؤلاء تكلم السلف من التابعين وتابعيهم في تكفيرهم والرد عليهم بما هو مشهور عند السلف واطلع الأئمة الحذاق من العلماء على أن حقيقة قول هؤلاء هو التعطيل والزندقة وإن كان عوامهم لا يفهمون ذلك كما اطلعوا على أن حقيقة قول القرامطة والإسماعيلية هو التعطيل والزندقة وإن كان عوامهم إنما يدينون بالرفض وجرت فتنة الجهمية كما امتحنت الأئمة وأقام " الإمام أحمد "

إمام السنة وصديق الأمة في وقته وخليفة المرسلين ووارث النبيين فثبت الله به الإسلام والقرآن وحفظ به على الأمة العلم والإيمان ودفع به أهل الكفر والنفاق والطغيان الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض . فاستقر أهل السنة وجماهير الأمة وأهل الجماعة وأعلام الملة في شرقها وغربها على الإيمان الذي جاءت به الرسل عن الله وجاء به خاتم النبيين مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه وهو أن القرآن والتوراة والإنجيل كلام الله وإن كلام الله لا يكون مخلوقا منفصلا عنه كما لا يكون كلام المتكلم منفصلا عنه ؛ فإن هذا جحود لكلامه الذي هو رسالته ودفع لحقيقة ما أنبأت به الرسل وعلمته أممهم وإلحاد في أسماء الله وآياته وتمثيل له بالمعدوم والموات ؛ فإن الحياة والعلم والقدرة والكلام ونحو ذلك صفات كمال والرب تعالى أحق بكل كمال فيمتنع أن يثبت للمخلوق كمال إلا والخالق أحق به كما يمتنع أن يتنزه المخلوق عن نقص إلا والخالق أحق بتنزهه منه كيف وهو خالق الكمال للكاملين . و " أيضا " فمن لم يتصف بصفات الكمال من الحياة والعلم والسمع والبصر والقدرة والكلام وغير ذلك فإما أن يكون قابلا للاتصاف بذلك ولم يتصف به أو غير قابل للاتصاف به . فإن قبله ولم يتصف به كان موصوفا بصفات النقص : كالموت والجهل والعمى والصمم والعجز والبكم باتفاق العقلاء ؛ فإنهم متفقون على أن القابل لهذا ولهذا متى لم يتصف بأحدهما اتصف بالآخر وإن قيل : إنه لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات كان أنقص من القابل الذي لم يتصف بها . فالحيوان الذي يكون تارة سميعا وتارة أصم وتارة بصيرا وتارة أعمى وتارة متكلما وتارة أخرس أكمل من الجماد الذي لا يقبل أن يكون لا هذا ولا هذا . فمن لم يصفه بصفات الكمال لزمه إما أن يصفه بهذه النقائص أو يكون أنقص ممن وصف بهذه النقائص . وذلك أن " المتفلسفة " اصطلحوا على تقسيم " المتقابلين بالنفي والإثبات " إلى النقيضين وإلى ما يسمونه " العدم

والملكة " ف " العدم " عندهم سلب الشيء عما من شأنه أن يكون متصفا به كالعمى والخرس ؛ فإنه عدم البصر والكلام عما من شأنه أن يكون بصيرا متكلما . فأما الجماد فلا يسمونه لا بهذا ولا بهذا . " وشبهتهم " لبست على طائفة من أهل النظر فظنوا أنه إذا لم يوصف بصفات الكمال من الحياة والعلم والسمع والبصر والكلام لم يلزم أن يتصف بصفات النقص لأنهما متقابلان تقابل " العدم والملكة " لا تقابل النقيضين . فيقال لهم : هذا أولا اصطلاح لكم وإلا فغيركم يسمي الجماد ميتا ومواتا ونحو ذلك كما في مثل قوله : { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون } { أموات غير أحياء } . ويقال لهم : " ثانيا " النظر في المعاني العقلية ومعلوم أن عدم هذه الصفات يستلزم النقص الثابت بعدمها . ويقال لهم " ثالثا " : إذا قلتم لا يتصف بواحد منهما لكونه لا يقبل ذلك فهذا النقص أعظم من نقص العمى والصمم والبكم ؛ فإنما لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال أنقص ممن هو قابل لها يمكن اتصافه بها ؛ فإنه منه بدأ ؛ لا كما يقوله الصابئة ومن وافقهم من الجهمية : إنه ابتدأ من نفس النبي أو من " العقل الفعال " أو من " الهواء " بل هو تنزيل من حكيم حميد وإنه إليه يعود إذا أسري به من المصاحف والصدور . وصار " الإمام أحمد " علما لأهل السنة الجائين بعده من جميع الطوائف : كلهم يوافقه في جمل أقواله وأصول مذاهبه ؛ لأنه حفظ على الأمة الإيمان الموروث والأصول النبوية - ممن أراد أن يحرفها ويبدلها - ولم يشرع دينا لم يأذن الله به والذي قاله هو الذي يقوله سائر الأئمة الأعيان حتى إن أعيان أقواله منصوصة عن أعيانهم ؛ لكن جمع متفرقها وجاهد مخالفها وأظهر دلالة الكتاب والسنة عليها ومقالاته ومقالات الأئمة قبله وبعده في الجهمية كثيرة مشهورة . " والجهمية " هم نفاة صفات الله المتبعون للصابئة الضالة . وصارت فروع التجهم تجول في نفوس كثير من الناس . فقال بعض من كان معروفا

بالسنة والحديث : ولا نقول مخلوق ولا غير مخلوق بل نقف وباطن أكثرهم موافق للمخلوقية ولكن كان المؤمنون أشد رهبة في صدورهم من الله . و " طائفة أخرى " قالت : نقول كلام الله الذي لم ينزله غير مخلوق وأما القرآن الذي أنزله على رسوله وتلاه جبريل ومحمد والمؤمنون فهو مخلوق وهؤلاء هم " اللفظية " . فصارت الأمة تفزع إلى إمامها إذ ذاك فيقول لهم أحمد : افترقت الجهمية على " ثلاث فرق " فرقة تقول : القرآن مخلوق وفرقة تقول كلام الله وتسكت وفرقة تقول : ألفاظنا وتلاوتنا للقرآن مخلوقة . فإن حقيقة قول هؤلاء أن القرآن الذي نزل به جبريل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قرآن مخلوق لم يتكلم الله به وكان لهؤلاء شبهة كون أفعالنا وأصواتنا مخلوقة ونحن إنما نقرؤه بحركاتنا وأصواتنا . وربما قال بعضهم ما عندنا إلا ألفاظنا وتلاوتنا وما في الأرض قرآن إلا هذا . وهذا مخلوق . فقابلهم قوم أرادوا تقويم السنة فوقعوا في البدعة . وردوا باطلا بباطل وقابلوا الفاسد بالفاسد فقالوا : تلاوتنا للقرآن غير مخلوقة وألفاظنا به غير مخلوقة ؛ لأن هذا هو القرآن . والقرآن غير مخلوق ولم يفرقوا بين الاسم المطلق والاسم المقيد في الدلالة وبين حال المسمى إذا كان مجردا وحاله إذا كان مقرونا مقيدا . فأنكر الإمام أحمد أيضا على من قال : إن تلاوة العباد وقراءتهم وألفاظهم وأصواتهم غير مخلوقة وأمر بهجران هؤلاء كما جهم الأولين وبدعهم . والنقل عنه بذلك من رواية ابنه عبد الله وصالح والمروذي وفوران وأبي طالب وأبي بكر بن صدقة وخلق كثير من أصحابه وأتباعه . وقد قام أخص أتباعه " أبو بكر المروذي " بعد مماته في ذلك وجمع كلامه وكلام الأئمة من أصحابه وغيرهم : مثل عبد الوهاب الوراق والأثرم وأبي داود السجستاني والفضل بن زياد ومثنى بن جامع الأنباري ومحمد بن إسحاق الصنعاني ومحمد بن سهل بن عسكر وغير هؤلاء من علماء الإسلام . وبين بدعة هؤلاء الذين يقولون إن

تلاوة العباد وألفاظهم بالقرآن غير مخلوقة . وقد ذكر ذلك الخلال في " كتاب السنة " وبسط القول في ذلك . قال الخلال : أخبرني أبو بكر المروذي قال : بلغ أبا عبد الله عن أبي طالب أنه كتب إلى أهل نصيبين : أن لفظي بالقرآن غير مخلوق قال أبو بكر : فجاءنا صالح بن أحمد فقال : قوموا إلى أبي فجئنا فدخلنا على أبي عبد الله فإذا هو غضبان شديد الغضب قد تبين الغضب في وجهه فقال : اذهب فجئني بأبي طالب فجئت به فقعد بين يدي أبي عبد الله وهو يرعد فقال : كتبت إلى أهل نصيبين تخبرهم عني أني قلت : لفظي بالقرآن غير مخلوق فقال : إنما حكيت عن نفسي قال : فلا يحل هذا عنك ولا عن نفسي فما سمعت عالما قال هذا . قال أبو عبد الله : القرآن كلام الله غير مخلوق كيف تصرف فقيل لأبي طالب : اخرج وأخبر أن أبا عبد الله قد نهى أن يقال لفظي بالقرآن غير مخلوق . فخرج أبو طالب فلقي جماعة من المحدثين فأخبرهم : أن أبا عبد الله نهاه أن يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق . ومع هذا فكل واحدة من " الطائفتين " الذين يقولون لفظنا بالقرآن غير مخلوق والذين يقولون لفظنا وتلاوتنا مخلوقة ينتحل أبا عبد الله وتحكي قولها عنه وتزعم أنه كان على مقالتها لأنه إمام مقبول عند الجميع ؛ ولأن الحق الذي مع كل طائفة يقوله أحمد والباطل الذي تنكره كل طائفة على الأخرى يرده أحمد . فمحمد بن داود المصيصي أحد علماء الحديث وأحد شيوخ أبي داود وجماعة في زمانه كأبي حاتم الرازي وغيره يقولون : لفظنا بالقرآن غير مخلوق وتبعهم طائفة على ذلك : كأبي عبد الله بن حامد وأبي نصر السجزي وأبي عبد الله بن منده وشيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري وأبي العلاء الهمداني وأبي الفرج المقدسي وغير هؤلاء يقولون : إن ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة ويروون ذلك عن أحمد وأنه رجع إلى ذلك كما ذكره أبو نصر في كتابه " الإبانة " وهي روايات ضعيفة بأسانيد مجهولة لا تعارض ما تواتر عنه عند خواص أصحابه وأهل بيته

والعلماء الثقات لا سيما وقد علم أنه في حياته خطأ أبا طالب في النقل عنه حتى رده أحمد عن ذلك وغضب عليه غضبا شديدا . وقد رأيت بعض هؤلاء طعن في تلك النقول الثابتة عنه ومنهم من حرفها لفظا وأما تحريف معانيها فذهب إليه طوائف فأما الذين ثبتوا النقل عنه ووافقوه على إنكاره الأمرين وهم جمهور أهل السنة ومن انتسب إليهم من أهل الكلام كأبي الحسن الأشعري وأمثاله فإنه ذكر في " مقالات أهل السنة والحديث " إنهم ينكرون على من قال : لفظي بالقرآن مخلوق ومن قال : لفظي به غير مخلوق وأنه يقول بذلك . لكن من هؤلاء من تأول كلام أحمد وغيره في ذلك بأنه منع أن يقال : إن القرآن يلفظ به وهذا قاله الأشعري وابن الباقلاني والقاضي أبو يعلى وأتباعه كأبي الحسن بن الزاغوني وأمثاله . ثم هؤلاء الذين تأولوا كلامه على ذلك منهم من قال : المعنى الذي أنكره أحمد على من قال لفظي بالقرآن مخلوق كما فعل ذلك الأشعري وأتباعه . ومنهم من قال : بل المعنى الذي أنكره أحمد على من قال لفظي به غير مخلوق كما فعل ذلك القاضي وابن الزاغوني وأمثالهما ؛ فإن أحمد وسائر الأئمة ينكرون أن يكون شيء من كلام الله مخلوقا حروفه . أو معانيه أو أن يكون معنى التوراة هو معنى القرآن وأن كلام الله إذا عبر عنه بالعربية يكون قرآنا وإذا عبر عنه بالعبرانية يكون هو التوراة وينكرون أن يكون القرآن المنزل ليس هو كلام الله أو أن يطلق القول على ما هو كلام الله بأنه مخلوق وأحمد والأئمة ينكرون على من يجعل شيئا من أفعال العباد أو أصواتهم غير مخلوق . فضلا عن أن يكون قديما وكلام أحمد في " مسألة التلاوة والإيمان والقرآن " من نمط واحد منع إطلاق القول بأن ذلك مخلوق ؛ لأنه يتضمن القول بأن من صفات الله ما هو مخلوق ولما فيه من الذريعة ومنع أيضا إطلاق القول بأنه غير مخلوق لما في ذلك من البدعة والضلال .

ولما كان أحمد قد صار هو إمام السنة كان من جاء بعده ممن ينتسب إلى السنة ينتحله إماما كما ذكر ذلك الأشعري في " كتاب الإبانة " وغيره فقال إن قال قائل : قد أنكرتم قول " الجهمية " و " المعتزلة " و " الخوارج " و " الروافض " و " المرجئة " فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون . قيل له : قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا وسنة نبينا وما روي عن الصحابة والتابعين وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل " قائلون ولما خالفه مجانبون ؛ فإنه الإمام الكامل والرئيس الفاضل الذي أبان الله به الحق وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين وذكر جملا من المقالات . فلهذا صار من بعده متنازعين في هذا الباب . " فالطائفة " الذين يقولون لفظنا وتلاوتنا غير مخلوقة ينتسبون إليه ويزعمون أن هذا آخر قوليه أو يطعنون فيما يناقض ذلك عنه أو يتأولون كلامه بما لم يرده . و " الطائفة " الذين يقولون إن التلاوة مخلوقة والقرآن المنزل الذي نزل به جبريل مخلوق وإن الله لم يتكلم بحروف القرآن : يقولون : إن هذا قول أحمد وأنهم موافقوه كما فعل ذلك أبو الحسن الأشعري . فيما ذكره عن أحمد وفسر به كلامه وذكر أنه موافقه وكما ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني في تنزيه أصحابه من مخالفة السنة وأئمتها كالإمام أحمد وكما فعله أبو نعيم الأصبهاني في كتابه المعروف في ذلك وكما فعله أبو ذر الهروي والقاضي عبد الوهاب المالكي وكما فعله أبو بكر البيهقي في الاعتقاد في مناقب الإمام أحمد . وروي عنه أنه قال لفظي بالقرآن مخلوق وتأول ما استفاض عنه من الإنكار على من قال لفظي بالقرآن [ غير ] مخلوق على أنه أراد الجهمي المحض الذي يزعم أن القرآن الذي لم ينزل مخلوق . وكذلك أيضا افترى بعض الناس على البخاري الإمام صاحب " الصحيح " أنه كان يقول : لفظي بالقرآن مخلوق وجعلوه من " اللفظية " حتى وقع بينه

وبين أصحابه : مثل محمد بن يحيى الذهلي وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم بسبب ذلك وكان في القضية أهواء وظنون حتى صنف " كتاب خلق الأفعال " وذكر فيه ما رواه عن أبي قدامة عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال : ما زلت أسمع أصحابنا يقولون : أفعال العباد مخلوقة . وذكر فيه ما يوافق ما ذكره في آخر كتابه " الصحيح " من أن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن الله يتكلم بصوت وينادي بصوت . وساق في ذلك من الأحاديث الصحيحة والآثار ما ليس هذا موضع بسطه وبين الفرق بين الصوت الذي ينادي الله به وبين الصوت الذي يسمع من العباد وأن الصوت الذي تكلم الله به ليس هو الصوت المسموع من القارئ وبين دلائل ذلك وأن أفعال العباد وأصواتهم مخلوقة والله تعالى بفعله وكلامه غير مخلوق . وقال في قوله : { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } إن حدثه ليس كحدث المخلوقين . وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم { إن الله يحدث من أمره ما شاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة } وذكر عن علماء السلف : أن خلق الرب للعالم ليس هو المخلوق ؛ بل فعله القائم به غير مخلوق وذكر عن نعيم بن حماد الخزاعي : أن الفعل من لوازم الحياة وأن الحي لا يكون إلا فعالا . إلى غير ذلك من المعاني التي تدل على علمه وعلم السلف بالحق الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول . وذكر أن كل واحدة من طائفتي " اللفظية المثبتة والنافية " تنتحل أبا عبد الله وأن أحمد بن حنبل كثير مما ينقل عنه كذب وأنهم لم يفهموا بعض كلامه لدقته وغموضه وأن الذي قاله وقاله الإمام أحمد هو قول الأئمة والعلماء وهو الذي دل عليه الكتاب والسنة . ورأيت بخط القاضي أبي يعلى - رحمه الله - على ظهر " كتاب العدة " بخطه قال : نقلت من آخر " كتاب الرسالة " للبخاري في أن القراءة غير المقروء . وقال : وقع عندي عن أحمد بن حنبل على اثنين وعشرين وجها كلها يخالف بعضها بعضا والصحيح عندي أنه قال ما سمعت عالما يقول : لفظي بالقرآن غير

مخلوق قال وافترق أصحاب أحمد بن حنبل على نحو من خمسين . قال أبو عبد الله البخاري قال ابن حنبل " اللفظي " الذي يقول : القرآن بألفاظنا مخلوق . وكان " أيضا " قد نبغ في أواخر عصر أبي عبد الله من الكلابية ونحوهم - أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري : الذي صنف مصنفات رد فيها على الجهمية والمعتزلة وغيرهم وهو من متكلمة الصفاتية وطريقته يميل فيها إلى مذهب أهل الحديث والسنة ؛ لكن فيها نوع من البدعة ؛ لكونه أثبت قيام الصفات بذات الله ولم يثبت قيام الأمور الاختيارية بذاته ؛ ولكن له في الرد على الجهمية - نفاة الصفات والعلو - من الدلائل والحجج وبسط القول ما بين به فضله في هذا الباب وإفساده لمذاهب نفاة الصفات بأنواع من الأدلة والخطاب وصار ما ذكره معونة ونصيرا وتخليصا من شبههم لكثير من أولي الألباب حتى صار قدوة وإماما لمن جاء بعده من هذا الصنف الذين أثبتوا الصفات وناقضوا نفاتها ؛ وإن كانوا قد شركوهم في بعض أصولهم الفاسدة : التي أوجبت فساد بعض ما قالوه من جهة المعقول ومخالفته لسنة الرسول . وكان ممن اتبعه الحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي ثم أبو الحسن الأشعري وأبو الحسن بن مهدي الطبري وأبو العباس الضبعي وأبو سليمان الدمشقي وأبو حاتم البستي وغير هؤلاء : المثبتين للصفات المنتسبين إلى السنة والحديث المتلقبين بنظار أهل الحديث . وسلك طريقة ابن كلاب - في الفرق بين " الصفات اللازمة " كالحياة و " الصفات الاختيارية " وأن الرب يقوم به الأول دون الثاني - كثير من المتأخرين : من أصحاب مالك والشافعي وأحمد : كالتميميين أبي الحسن التميمي وابنه أبي الفضل التميمي وابن ابنه رزق الله التميمي وعلى عقيدة الفضل التي ذكر أنها عقيدة أحمد اعتمد أبو بكر البيهقي فيما ذكره من مناقب أحمد من الاعتقاد . وكذلك سلك طريقة ابن كلاب هذه أبو الحسن بن سالم وأتباعه " السالمية " والقاضي أبو يعلى وأتباعه : كابن عقيل

وأبي الحسن بن الزاغوني وهي طريقة أبي المعالي الجويني وأبي الوليد الباجي والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم ؛ لكنهم افترقوا في القرآن وفي بعض المسائل على قولين - بعد اشتراكهم في الفرق الذي قرره ابن كلاب - كما قد بسط كلام هؤلاء في مواضع أخر . والإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة كانوا يحذرون عن هذا الأصل الذي أحدثه ابن كلاب ويحذرون عن أصحابه وهذا هو سبب تحذير الإمام أحمد عن الحارث المحاسبي ونحوه من الكلابية . ولما ظهر هؤلاء ظهر حينئذ من المنتسبين إلى إثبات الصفات من يقول : إن الله لم يتكلم بصوت فأنكر أحمد ذلك وجهم من يقوله وقال : هؤلاء الزنادقة إنما يدورون على التعطيل وروى الآثار في أن الله يتكلم بصوت وكذلك أنكر على من يقول إن الحروف مخلوقة قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في " كتاب السنة " : قلت لأبي : إن ههنا من يقول إن الله لا يتكلم بصوت فقال : يا بني هؤلاء جهمية زنادقة إنما يدورون على التعطيل وذكر الآثار في خلاف قولهم . وكذلك البخاري صاحب " الصحيح " وسائر الأئمة أنكروا ذلك أيضا وروى البخاري في آخر " الصحيح " وفي " كتاب خلق الأفعال " ما جاء في ذلك من الآثار وبين الفرق بين صوت الله الذي يتكلم به وبين أصوات العباد بالقرآن موافقة منه للإمام أحمد وغيره من الأئمة حيث بين أن الله يتكلم بصوت كما جاءت به الآثار وأن ذلك ليس صوت العبد بالقراءة ؛ بل ذلك هو صوت العبد كما قد نص على ذلك كله في مواضع وعامة أئمة السنة والحديث على هذا الإثبات والتفريق : لا يوافقون قول من يزعم أن الكلام ليس فيه حرف ولا صوت ولا يوافقون قول من يزعم أن الصوت المسموع من القراء وألفاظهم قديمة ولا يقولون : إن القرآن ليس إلا الحروف والأصوات . وقد كتبت كلام " الإمام أحمد " ونصوصه وكلام الأئمة قبله وبعده في غير هذا الموضع ؛ فإن جواب هذه " المسألة " لا يحتمل البسط الكثير ؛ ولم يكن في كلام الإمام أحمد ولا الأئمة أن

الصوت الذي تكلم الله به قديم ؛ بل يقولون لم يزل الله متكلما وقد يقولون لم يزل الله متكلما إذا شاء بما شاء كما يقول ذلك الإمام أحمد وابن المبارك وغيرهما .
وكذلك قد تنازع الناس في زمنهم وبعده - من أصحابهم وغيرهم - في معنى كون القرآن غير مخلوق هل المراد به أن نفس الكلام قديم أزلي كالعلم ؟ أو أن الله لم يزل موصوفا بأنه متكلم إذا شاء ؟ على قولين . ذكرهما الحارث المحاسبي عن أهل السنة وأبو بكر عبد العزيز في " كتاب الشافي " عن أصحاب الإمام أحمد وذكرهما أبو عبد الله ابن حامد في كتابه " أصول الدين " . والنزاع في ذلك بين سائر طوائف السنة والحديث وهذا مبني على أصل " الصفات الفعلية الاختيارية " والنزاع فيه بين جميع الطوائف من أهل الحديث والسنة والفقه والتصوف ومن دخل معهم من أهل المذاهب الأربعة وبين سائر الفرق حتى بين الفلاسفة أيضا وقد حققت ذلك في غير هذا الموضع . وهذا منشأ نزاع الذين وافقوا السلف على أن القرآن كلام الله غير مخلوق ؛ فإن هؤلاء تنازعوا في أن الرب هل يتكلم بمشيئته وقدرته ؟ على قولين . فالذين وافقوا ابن كلاب قالوا : إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته ؛ بل كلامه لازم لذاته كحياته ثم من هؤلاء من عرف أن الحروف والأصوات لا تكون قديمة العين فلم يمكنه أن يقول : القديم هو الحروف والأصوات ؛ لأنها لا تكون إلا متعاقبة والصوت لا يبقى زمانين فضلا عن أن يكون قديما . فقال : القديم هو معنى واحد لامتناع معاني لا نهاية لها وامتناع التخصيص بعدد دون عدد . فقالوا : هو معنى واحد وقالوا : إن الله لا يتكلم بالكلام العربي والعبري وقالوا : إن معنى التوراة والإنجيل والقرآن وسائر كلام الله معنى واحد ومعنى آية الكرسي وآية الدين معنى واحد . إلى غير ذلك من اللوازم التي يقول جمهور العقلاء إنها معلومة الفساد بضرورة العقل ومن هؤلاء من عرف أن الله تكلم بالقرآن العربي والتوراة العبرية وأنه نادى موسى بصوت وينادي

عباده بصوت وأن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه ؛ لكن اعتقدوا مع ذلك أنه قديم العين وأن الله لم يتكلم بمشيئته وقدرته . فالتزموا أنه حروف وأصوات قديمة الأعيان لم تزل ولا تزال وقالوا : إن الباء لم تسبق السين والسين لم تسبق الميم وأن جميع الحروف مقترنة بعضها ببعض اقترانا قديما أزليا لم يزل ولا يزال وقالوا : هي مترتبة في حقيقتها وماهيتها غير مترتبة في وجودها . وقال كثير منهم : إنها مع ذلك شيء واحد إلى غير ذلك من " اللوازم " التي يقول جمهور العقلاء إنها معلومة الفساد بضرورة العقل . ومن هؤلاء من يقول : هو قديم ولا يفهم معنى القديم . فإذا سئل عن ذلك قال : هي قديمة في العلم ولا يعلم أن المخلوقات كالسماء والأرض بهذه المثابة مع أنها مخلوقة ومنهم من يقول : قديم بمعنى أنه متقدم على غيره ولا يعرف أن الذين قالوا : إنه مخلوق لا ينازعون في أنه قديم بهذا المعنى ومنهم من يقول : إن مرادنا بأنه قديم أنه غير مخلوق ولا يفهم أنه مع ذلك يكون أزليا لم يزل وهؤلاء سمعوا ممن يوافقهم على أنه غير مخلوق : قالوا هو قديم فوافقوا على أنه قديم ولم يتصوروا ما يقولونه . كما أن من الناس من قال : هو غير مخلوق وأراد بذلك أنه غير مكذوب وهذا مما لم يتنازع فيه الناس كما لم يتنازعوا في أنه قديم بمعنى أنه متقدم على غيره . و " القول الثاني " قول من يقول إن الله يتكلم بمشيئته وقدرته مع أن كلامه غير مخلوق . وهذا قول جماهير أهل السنة والنظر وأئمة السنة والحديث لكن من هؤلاء من اعتقد أن الله لم يكن يمكنه أن يتكلم في الأزل بمشيئته كما لم يكن يمكنه عندهم أن يفعل في الأزل شيئا فالتزموا أنه تكلم بمشيئته بعد أن لم يكن متكلما كما أنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا وهذا قول كثير من أهل الكلام والحديث والسنة . وأما السلف والأئمة فقالوا : إن الله يتكلم بمشيئته وقدرته وإن كان مع ذلك قديم النوع - بمعنى أنه لم يزل متكلما إذا شاء ؛ فإن الكلام

صفة كمال ومن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن لا يكون متكلما بمشيئته وقدرته ومن لا يزال متكلما بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام ممكنا له بعد أن يكون ممتنعا منه أو قدر أن ذلك ممكن فكيف إذا كان ممتنعا ؟ لامتناع أن يصير الرب قادرا بعد أن لم يكن وأن يكون التكلم والفعل ممكنا بعد أن كان غير ممكن ؟ كما قد بسط هذا في مواضع أخر .
وكانت " اللفظية الخلقية " من أهل الحديث يقولون : نقول : إن ألفاظنا بالقرآن مخلوقة وإن التلاوة غير المتلو . والقراءة غير المقروء . و " اللفظية المثبتة " يقولون : نقول : إن ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة والتلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء . وأما المنصوص الصريح عن الإمام أحمد وأعيان أصحابه وسائر أئمة السنة والحديث فلا يقولون مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا يقولون التلاوة هي المتلو مطلقا ولا غير المتلو مطلقا كما لا يقولون : الاسم هو المسمى ولا غير المسمى . وذلك أن " التلاوة والقراءة " كاللفظ قد يراد به مصدر تلا يتلو تلاوة وقرأ يقرأ قراءة ولفظ يلفظ لفظا ومسمى المصدر هو فعل العبد وحركاته وهذا المراد باسم التلاوة والقراءة واللفظ مخلوق وليس ذلك هو القول المسموع : الذي هو المتلو . وقد يراد باللفظ الملفوظ وبالتلاوة المتلو وبالقراءة المقروء وهو القول المسموع وذلك هو المتلو ومعلوم أن القرآن المتلو : الذي يتلوه العبد ويلفظ به غير مخلوق وقد يراد بذلك مجموع الأمرين . فلا يجوز إطلاق الخلق على الجميع ولا نفي الخلق عن الجميع . وصار " ابن كلاب " يريد بالتلاوة القرآن العربي وبالمتلو المعنى القائم بالذات وهؤلاء إذا قالوا : التلاوة غير المتلو وهي مخلوقة : كأن مرادهم أن الله لم يتكلم بالقرآن العربي بل عندهم أن القرآن العربي مخلوق . وهذا لم يقله أحد من أئمة السنة والحديث . ويظن هؤلاء أنهم يوافقون البخاري أو غيره ممن قد يفرق بين التلاوة والمتلو وليس الأمر

كذلك . ومن الآخرين من يقول : " التلاوة " هي المتلو ويريد بذلك أن نفس ما تكلم الله به من الحروف والأصوات هو الأصوات المسموعة من القراء حتى يجعل الصوت المسموع من العبد هو صوت الرب وهؤلاء يقولون : نفس صوت المخلوق وصفته هي عين صفة الخالق وهؤلاء " اتحادية حلولية في الصفات " يشبهون النصارى من بعض الوجوه وهذا لم يقله أحد من أئمة السنة . ويظن هؤلاء أنهم يوافقون أحمد وإسحاق وغيرهما ممن ينكر على " اللفظية " وليس الأمر كذلك ؛ فلهذا كان المنصوص عن الإمام أحمد وأئمة السنة والحديث أنه لا يقال : ألفاظنا بالقرآن مخلوقة ولا غير مخلوقة . ولا أن التلاوة هي المتلو مطلقا ولا غير المتلو مطلقا ؛ فإن اسم القول والكلام قد يتناول هذا وهذا ؛ ولهذا يجعل الكلام قسيما للعمل ليس قسما منه في مثل قوله تعالى { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } . وقد يجعل قسما منه كما في قوله : { فوربك لنسألنهم أجمعين } { عما كانوا يعملون } . قال طائفة من السلف عن قول لا إله إلا الله ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار فقال رجل لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل } ولهذا تنازع أصحاب أحمد فيمن حلف لا يعمل اليوم عملا هل يحنث بالكلام ؟ على قولين . ذكرهما القاضي أبو يعلى وغيره . ولم تكن " اللفظية الخلقية " ينكرون كون القرآن كلام الله حروفه ومعانيه وأن الله يتكلم بصوت ؛ بل قد يقولون : القرآن كله كلام الله حروفه ومعانيه ؛ فإن الله يتكلم بصوت كما نص عليه أحمد والبخاري وغيرهما من الأئمة وكما جاءت به الآثار ؛ ولكن يقولون المنزل إلى الأرض من الحروف والمعاني ليس هو نفس كلام الله الذي ليس بمخلوق ؛ بل ربما سموها حكاية عن كلام الله كما يقوله ابن كلاب أو عبارة عن كلام الله كما يقوله الأشعري وربما سموها كلام الله ؛ لأن المعنى مفهوم

عندهم . ولكن لما حدث أبو محمد بن كلاب وناظر المعتزلة بطريق قياسية سلم لهم فيها أصولا - هم واضعوها : من امتناع تكلمه تعالى بالحروف وامتناع قيام " الصفات الاختيارية " بذاته مما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال والكلام وغير ذلك ؛ لأن ذلك يستلزم أنه لم يخل من الحوادث وما لم يخل من الحوادث فهو حادث - اضطره ذلك إلى أن يقول : ليس كلام الله إلا مجرد المعنى وإن الحروف ليست من كلام الله وتابعه على ذلك أبو الحسن الأشعري ؛ وإن تنازعا في أن الرب كان في الأزل آمرا ناهيا أو صار آمرا ناهيا بعد أن لم يكن . وفي أن " الكلام " هل هو صفة واحدة كما يقوله الأشعري أو خمس صفات كما يقوله ابن كلاب . وصار هؤلاء مخالفين لأئمة السنة والحديث في شيئين . ( أحدهما أن نصف القرآن من كلام الله والنصف الآخر ليس كلام الله عندهم ؛ بل خلقه الله في الهواء أو في اللوح المحفوظ أو أحدثه جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم . وهؤلاء في كونهم جعلوا نصف القرآن مخلوقا موافقين لمن قال بخلقه ؛ لكن هؤلاء يقولون : إن هذا النصف المخلوق كلام الله وأولئك يقولون : هو مخلوق منفصل عن الله وهو كلامه ؛ لكن أولئك لا يجعلون لله كلاما متصلا به قائما بنفسه ولا معاني ولا حروفا . وهؤلاء يقولون : لله كلام قائم به متصل به هو معنى . فصار أولئك أشد بدعة في نفيهم حقيقة الكلام عن الله وفي جعلهم كلام الله مخلوقا . وهؤلاء أشد بدعة في إخراجهم ما هو من كلام الله عن أن يكون من كلام الله وصاروا في هذا موافقين الوحيد في بعض قوله لا في كله وهو قولهم : إن نصف القرآن ليس قول الله : بل قول البشر . وربما استدل بعضهم بأنه مضاف إلى الرسول فيكون هو أحدث حروفه ولم يتأمل هذا القائل فيرى أنه أضافه تارة إلى رسول هو جبريل وتارة إلى رسول هو محمد بقوله في الآية الأولى : { إنه لقول رسول كريم } { ذي قوة عند ذي العرش مكين } { مطاع ثم أمين } فهذا جبريل [ وقال في الآية الأخرى

] : { إنه لقول رسول كريم } { وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون } { ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون } وهذا محمد فلو كانت إضافته إليه لأنه ابتدأ حروفه وأحدثها لم يصلح أن يضاف إلى كل منهما ؛ لامتناع أن يكون كل منهما هو أحدث حروفه ؛ ولأنه قال : { إنه لقول رسول } وهذا إخبار عن القرآن الذي هو بالمعنى أحق عندهم وعند أهل السنة أيضا فلو كان الرسول ابتدأه لكان القرآن من عنده لا من عند الله وإنما أضافه الله إلى الرسول لأنه بلغه وأداه وجاء به من عند الله : ولهذا قال : { لقول رسول } ولم يقل لقول ملك ولا نبي ؛ بل جاء باسم الرسول ليتبين أنه واسطة فيه وسفير والكلام كلام لمن اتصف به مبتدئا منشئا ؛ لا لمن تكلم به مبلغا مؤديا كما يقال مثل ذلك في جميع كلام الناس فكيف بكلام الله ؟ وهذا على القول المشهور في التفسير المطابق لظاهر القرآن : أن الرسول في أحد الموضعين محمد صلى الله عليه وسلم وفي الآخر جبريل عليه السلام . وأما على قول طائفة جعلته في الموضعين جبريل فيكون الجواب هو الثاني والإثبات في الحقيقة حجة لمن يقول إنما يتكلم بكلام الله ويقول قوله ؛ لأنه جعل الرسول يقول قول الله الذي أرسله به والمعنى يراد من هذا قطعا كما أريد منه اللفظ أيضا . وأيضا فإن هؤلاء جعلوا الكلام الذي يتصف الله به معنى واحدا وهو الأمر والنهي والخبر والاستخبار وأنه إن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن وإن عبر عنه بالعبرية كان هو التوراة وإن عبر عنه بالسريانية كان هو الإنجيل وهذا مما أجمع جمهور العقلاء على أن فساده معلوم بالضرورة . و " المعنى الثاني " الذي خالفوا فيه أهل السنة والجماعة قولهم إن القرآن المنزل إلى الأرض ليس هو كلام الله لا حروفه ولا معانيه بل هو مخلوق عندهم ويقولون : هو عبارة عن المعنى القائم بالنفس ؛ لأن العبارة لا تشبه المعبر عنه ؛ بخلاف الحكاية والمحكي وهذا فيه من زيادة البدع ما لم يكن في قول " اللفظية " من أهل

الحديث الذين أنكر عليهم أئمة السنة وقالوا هم " جهمية " إذ جعلوا الحروف من إحداث الرسول وليست مما تكلم الله به بحال وقالوا : إنه ليس لله في الأرض كلام ولم يكن أيضا في " اللفظية " القدماء الذين يقولون : لفظنا بالقرآن غير مخلوق من يقول إن صوت العبد غير مخلوق أو أن الصوت القديم يسمع من العبد أو أن هذا الصوت صوت الله أو يسمع معه صوت الله ؛ وإنما أحدث هذا أيضا المتطرفون منهم كما أحدث المتطرفون من أولئك أن حروف القرآن ليست كلام الله ؛ فإن هاتين " البدعتين " الشنيعتين لم تكونا بعد ظهرتا في أولئك المنحرفين الذين أنكر الإمام أحمد وغيره قولهم من الطائفتين وأن القرآن ليس إلا مجرد معنى قائم بالنفس وذلك المعنى إليه يعود كلام الله من التوراة والإنجيل والقرآن . و " الأخرى " قد رأت حروف القرآن من كلام الله وأن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه وأن المعنى الواحد يمتنع أن يكون هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار وأنه يمتنع أن يكون مدلول التوراة والإنجيل والقرآن واحدا وعلموا أنا إذا ترجمنا التوراة بالعربية لم يصر معناها معنى القرآن وأن هذه الأقوال معلومة الفساد بالضرورة عارضها بعضها ؛ لأن القرآن حرف وصوت واعتقد بعضهم أنه ليس القرآن والكلام إلا مجرد الحروف والأصوات وأولئك يقولون ليس الكلام إلا مجرد المعنى القائم بالنفس . وكلا هذين السلبين الجحودين الحادثين خلاف ما كان عليه الأئمة كالإمام أحمد وغيره من الأئمة وأعيان العلماء من سائر الطوائف . فإن الكلام عندهم اسم للحروف والمعاني جميعا كما أن " الإنسان " الناطق المتكلم اسم للجسد والروح جميعا ومن قال : إن الإنسان ليس إلا هذه الجملة المشاهدة فهو بمنزلة من قال ليس الكلام إلا الأصوات المقطعة ومن قال : إن الإنسان ليس إلا لطيفة وراء هذا الجسد فهو بمنزلة من قال : إن الكلام ليس إلا معنى وراء هذه الحروف والأصوات وكلاهما جحد لبعض حقائق مسميات الأسماء وإنكار

لحدود ما أنزل الله على رسوله .
فصل ثم إن فروخ " اللفظية النافية " الذين يقولون بأن حروف القرآن ليست من كلام الله تروي عن منازعيها أنهم يقولون : القرآن ليس هو إلا الأصوات المسموعة من العبد وإلا المداد المكتوب في الورق وإن هذه الأصوات وهذا المداد قديمان وهذا القول ما قاله أحد ممن يقول إن القرآن ليس إلا الحروف والأصوات ؛ بل أنكروا ذلك وردوه وكذبوا من نقل عنهم : أن المداد قديم ولكن هذا القول قد يقوله الجهال المتطرفون كما يحكى عن أعيانهم مثل سكان بعض الجبال : أن الورق والجلد والوتد وما أحاط به من الحائط كلام الله أو ما يشبه هذا اللغو من القول الذي لا يقوله مسلم ولا عاقل . وفروخ " اللفظية المثبتة " الذين يقولون إن القرآن ليس إلا الحروف والصوت : تحكي عن منازعيها : أن القرآن ليس محفوظا في القلوب ولا متلوا بالألسن ولا مكتوبا في المصاحف وهذا أيضا ليس قولا لأولئك ؛ بل هم متفقون على أن القرآن محفوظ في القلوب متلو بالألسنة مكتوب في المصاحف لكن جهالهم وغاليتهم إذا تدبروا حقيقة قول مقتصديهم - إن القرآن العربي لم يتكلم الله به وإنه ليس إلا معنى واحد قائم بالذات وأصوات العباد ومداد المصحف يدل على ذلك المعنى وأنه ليس لله في الأرض كلام في الحقيقة وليس في الأرض إلا ما هو دال على كلام الله ولم يقل إلا ما هو دال على كلام الله وكلام الله إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وهو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ولا يتكلم الرب بمشيئته وقدرته ؛ إلى أمثال ذلك من حقائق قول المقتصدين - أسقطوا حرمة المصحف وربما داسوه ووطئوه وربما كتبوه بالعذرة أو غيرها . وهؤلاء أشد كفرا ونفاقا ممن يقول الجلد والورق كلام الله ؛ فإن أولئك آمنوا بالحق وبزيادة من الباطل وهؤلاء كذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله فسوف يعلمون ؛ إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في

الحميم ثم في النار يسجرون . وأما أهل العلم بالمقالة وأهل الإيمان بالشريعة فيعظمون المصحف ويعرفون حرمته ويوجبون له ما أوجبته الشريعة من الأحكام فإنه كان في قولهم نوع من الخطأ والبدعة وفي مذهبهم من التجهم والضلال ما أنكروا به بعض صفات الله وبعض صفات كلامه ورسله وجحدوا بعض ما أنزل الله على رسله وصاروا مخانيث للجهمية الذكور المنكرين لجميع الصفات لكنهم مع ذلك متأولون قاصدون الحق . وهم مع تجهمهم هذا يقولون : إن القرآن مكتوب في المصحف مثل ما أن الله مكتوب في المصحف وإنه متلو بالألسن مثل ما أن الله مذكور بالألسن ومحفوظ في القلوب مثل ما أن الله معلوم بالقلوب وهذا القول فيه نوع من الضلال والنفاق والجهل بحدود ما أنزل الله على رسوله [ ما فيه ] وهو الذي أوقع الجهال في الاستخفاف بحرمة آيات الله وأسمائه حتى ألحدوا في أسمائه وآياته . كما أن إطلاق الأولين : أنه ليس للقرآن حقيقة إلا الحروف والأصوات ولا يفرق بين صوت الله المسموع منه وصوت القارئ وأن القرآن قديم أوقع الجهال منهم والكاذبين عليهم في نقلهم عنهم : أن أصوات العباد والمداد الذي في المصحف قديم وأن الحروف التي هي كلام الله هي المداد وإن كانوا لم يقولوا ذلك ؛ بل أنكروه ؛ كما فرق الله بين الكلمات والمداد في قوله : { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا } فإن هؤلاء غلطوا " غلطين " غلطا في مذهبهم وغلطا في الشريعة . أما الغلط في " تصوير مذهبهم " فكان الواجب أن يقولوا : إن القرآن في المصحف مثل ما أن العلم والمعاني في الورق فكما يقال : العلم في هذا الكتاب يقال : الكلام في هذا الكتاب ؛ لأن الكلام عندهم هو المعنى القائم بالذات فيصور له المثل بالعلم القائم بالذات لا بالذات نفسها . وأما الغلط في " الشريعة " فيقال لهم : إن القرآن في المصاحف مثل ما أن اسم الله في المصاحف ؛ فإن القرآن كلام : فهو

محفوظ بالقلوب كما يحفظ الكلام بالقلوب وهو مذكور بالألسنة كما يذكر الكلام بالألسنة وهو مكتوب في المصاحف والأوراق كما أن الكلام يكتب في المصاحف والأوراق والكلام الذي هو اللفظ يطابق المعنى ويدل عليه والمعنى يطابق الحقائق الموجودة .
فمن قال : إن القرآن محفوظ كما أن الله معلوم وهو متلو كما أن الله مذكور ومكتوب كما أن الرسول مكتوب فقد أخطأ القياس والتمثيل بدرجتين : فإنه جعل وجود الموجودات القائمة بأنفسها بمنزلة وجود العبارة الدالة على المعنى المطابق لها والمسلمون يعلمون الفرق بين قوله تعالى { إنه لقرآن كريم } { في كتاب مكنون } وبين قوله تعالى { وإنه لفي زبر الأولين } . فإن القرآن لم ينزل على أحد قبل محمد : لا لفظه ولا جميع معانيه ولكن أنزل الله ذكره والخبر عنه كما أنزل ذكر محمد والخبر عنه فذكر القرآن في زبر الأولين كما أن ذكر محمد في زبر الأولين وهو مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل . فالله ورسوله معلوم بالقلوب مذكور بالألسن مكتوب في المصحف كما أن القرآن معلوم لمن قبلنا مذكور لهم مكتوب عندهم وإنما ذاك ذكره والخبر عنه وأما نحن فنفس القرآن أنزل إلينا ونفس القرآن مكتوب في مصاحفنا كما أن نفس القرآن في الكتاب المكنون وهو في الصحف المطهرة . ولهذا يجب الفرق بين قوله تعالى { وكل شيء فعلوه في الزبر } وبين قوله تعالى { وكتاب مسطور } { في رق منشور } فإن الأعمال في الزبر كالرسول وكالقرآن في زبر الأولين وأما " الكتاب المسطور في الرق المنشور " فهو كما يكتب الكلام نفسه والصحيفة فأين هذا من هذا ؟ وذلك أن كل شيء فله " أربع مراتب " في الوجود : وجود في الأعيان ووجود في الأذهان : ووجود في اللسان ووجود في البنان : وجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي . ولهذا كان أول ما أنزل الله من القرآن : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } وذكر فيها أنه سبحانه معطي الوجودين فقال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } { خلق الإنسان من علق }

فهذا الوجود العيني ثم قال : { اقرأ وربك الأكرم } { الذي علم بالقلم } { علم الإنسان ما لم يعلم } فذكر أنه أعطى الوجود العلمي الذهني وذكر التعليم بالقلم ؛ لأنه مستلزم لتعليم اللفظ والعبارة وتعليم اللفظ والعبارة مستلزم لتعليم المعنى فدل بذكره آخر المراتب على أولها [ لأنه ] لو ذكر أولها أو أطلق التعليم لم يدل ذلك على العموم والاستغراق . وإذا كان كذلك فالقرآن كلام والكلام له " المرتبة الثالثة " ليس بينه وبين الورق مرتبة أخرى متوسطة ؛ بل نفس الكلام يثبت في الكتاب كما قال الله تعالى : { إنه لقرآن كريم } { في كتاب مكنون } وقال تعالى : { بل هو قرآن مجيد } { في لوح محفوظ } وقال : { يتلو صحفا مطهرة } { فيها كتب قيمة } وقال : { كلا إنها تذكرة } { فمن شاء ذكره } { في صحف مكرمة } { مرفوعة مطهرة } وقال : { ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس } . وقد يقال : إنه مكتوب فيها كما يطلق القول : إنه فيها كما قال تعالى : { والطور } { وكتاب مسطور } { في رق منشور } وأما الرب سبحانه أو رسوله أو غير ذلك من الأعيان فإنما في الصحف اسمه وهو من الكلام ؛ ولهذا قال : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } وإنما في التوراة كتابته وذكره وصفته واسمه وهي " المرتبة الرابعة " منه فكيف يجوز تشبيه كون القرآن أو الكلام في الصحف أو الورق بكون الله أو رسوله أو السماء أو الأرض في الصحف أو الورق ولو قال قائل : الله أو رسوله في الصحف أو الورق لأنكر ذلك ؛ إلا مع قرائن تبين المراد كما في قوله : { وكل شيء فعلوه في الزبر } وفي قوله : { وإنه لفي زبر الأولين } فإن المراد بذلك ذكره وكتابته . و " الزبر " جمع زبور والزبور فعول بمعنى مفعول أي مزبور أي : مكتوب فلفظ الزبور يدل على الكتابة وهذا مثل ما في الحديث المعروف { عن ميسرة الفجر : قال قلت : يا رسول الله متى كنت نبيا - وفي رواية متى كتبت

نبيا - ؟ قال : وآدم بين الروح والجسد } رواه أحمد . فهذا الكون هو كتابته وتقديره وهو " المرتبة الرابعة " كما تقدم . فإن هذه المرتبة تتقدم وجود المخلوقات عند الله وعند من شاء من خلقه ؛ وإن كانت قد تتأخر أيضا ؛ ف { إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة } رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا قال ابن عباس في قوله : { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } إن الله يأمر الملائكة بأن تنسخ من اللوح المحفوظ ما كتبه من القدر ويأمر الحفظة أن تكتب أعمال بني آدم فتقابل بين النسختين فتكونان سواء ثم يقول ابن عباس : ألستم قوما عربا ؟ وهل تكون النسخة إلا من أصل ؟ . والتقدير والكتابة تكون تفصيلا بعد جملة . فالله تعالى لما قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة لم يظهر ذلك التقدير للملائكة ولما خلق آدم قبل أن ينفخ فيه الروح أظهر لهم ما قدره كما يظهر لهم ذلك من كل مولود كما في الصحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد } وفي طريق آخر وفي رواية { ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال : اكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح } . فأخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح : أن الملك يؤمر بكتابة رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد بعد خلق جسد ابن آدم وقبل نفخ الروح فيه . فكان ما كتبه الله من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد ولد آدم بعد خلق جسد آدم وقبل نفخ الروح فيه من هذا الجنس كما في الحديث الآخر الذي في المسند وغيره عن العرباض بن سارية { عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إني عند الله مكتوب خاتم

النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته } وهذا وأمثاله من وجود الأعيان في الصحف .
وأما وجود الكلام في الصحف فنوع آخر ؛ ولهذا حكى ابن قتيبة من مذهب أهل الحديث والسنة : أن القرآن في المصحف حقيقة لا مجازا كما يقوله بعض المتكلمة وإحدى " الجهميات " التي أنكرها أحمد وأعظمها قول من زعم أن القرآن ليس في الصدور ولا في المصاحف وأن من قال ذلك فقد قال بقول النصارى كما حكي له ذلك عن موسى ابن عقبة الصوري - أحد كتبة الحديث إذ ذاك ؛ ليس هو صاحب المغازي ؛ فإن ذلك قديم من أصحاب التابعين - فأعظم ذلك أحمد وذكر النصوص والآثار الواردة وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم { استذكروا القرآن فلهو أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم من عقلها } ومثل قوله : { الجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب } وغير ذلك . وليس الغرض هنا إلا التنبيه اللطيف . ومن قال : إن هذا شبه قول النصارى فلم يعرف قول النصارى ولا قول المسلمين أو علم وجحد ؛ وذلك أن النصارى تقول : إن الكلمة وهي جوهر إله عندهم ورب معبود تدرع الناسوت واتحد به كاتحاد الماء واللبن أو حل فيه حلول الماء في الظرف أو اختلط به اختلاط النار والحديد والمسلمون لا يقولون إن القرآن جوهر قائم بنفسه معبود وإنما هو كلام الله الذي تكلم به ولا يقولون اتحد بالبشر . وأما إطلاق حلوله في المصاحف والصدور فكثير من المنتسبين إلى السنة الخراسانيين وغيرهم يطلق ذلك ومنهم من العراقيين وغيرهم من ينفي ذلك ويقول : هو فيه على وجه الظهور لا على وجه الحلول ومنهم من لا يثبته ولا ينفيه بل يقول : القرآن في القلوب والمصاحف لا يقال هو حال ولا غير حال ؛ لما في النفي والإثبات من إيهام معنى فاسد وكما يقول ذلك طوائف من الشاميين وغيرهم ولا نزاع بينهم : أن كلام الله لا يفارق ذات الله وأنه لا يباينه كلامه ولا شيء من صفاته ؛ بل ليس شيء من صفة موصوف تباين موصوفها وتنتقل إلى غيره فكيف يتوهم عاقل أن كلام

الله يباينه وينتقل إلى غيره ؟ ولهذا قال الإمام أحمد : كلام الله من الله ليس ببائن منه وقد جاء في الأحاديث والآثار : " أنه منه بدأ ومنه خرج " ومعنى ذلك أنه هو المتكلم به لم يخرج من غيره ولا يقتضي ذلك أنه باينه وانتقل عنه فقد قال سبحانه في حق المخلوقين : { كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا } ومعلوم أن كلام المخلوق لا يباين محله وقد علم الناس جميعهم أن نقل الكلام وتحويله هو معنى تبليغه كما قال : { بلغ ما أنزل إليك من ربك } وقال تعالى : { الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه } وقال تعالى : { ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم } وقال النبي صلى الله عليه وسلم { نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه } وقال { : بلغوا عني ولو آية } . والكلام في الورق ليس هو فيه كما تكون الصفة بالموصوف والعرض بالجوهر . بحيث تصير صفة له ولا هو فيه كما يكون الجسم في الحيز الذي انتقل إليه من حيز آخر ولا هو فيه كمجرد الدليل المحض بمنزلة العالم الذي هو دليل على الصانع ؛ بل هو قسم آخر معقول بنفسه ولا يجب أن يكون لكل موجود نظير يطابقه من كل وجه ؛ بل الناس بفطرهم يفهمون معنى كلام المتكلم في الصحيفة ويعلمون أن كلامه الذي قام به لم يفارق ذاته ويحل في غيره ويعلمون أن ما في الصحيفة ليس مجرد دليل على معنى في نفسه ابتداء بل ما في الصحيفة مطابق للفظه ولفظه مطابق لمعناه ومعناه مطابق للخارج وقد يعلم ما في نفسه بأدلة طبعية وبحركات إرادية لم يقصد بها الدلالة ولا يقول أحد إن ذلك الكلام للمتكلم مثل كلامه المسموع منه فلو كان الكلام إنما سمي بذلك لمجرد الدلالة لشاركه كل دليل وسنتكلم إن شاء الله تعالى على ذلك . ولو كان ما في المصحف وجب احترامه لمجرد الدلالة وجب احترام كل دليل ؛ بل الدال على الصانع وصفاته أعظم من الدال على كلامه وليست له حرمة كحرمة المصحف

والدال على المعنى القائم بنفس الإنسان قد يعلم تارة بغير اختياره وقد يعلم بأصوات طبعية كالبكاء وقد يعلم بحركات لم يقصد بها الدلالة وقد يعلم بحركات يقصد بها الدلالة كالإشارة وقد يعلم باللفظ الذي تقصد به الدلالة .
فصل وصار هؤلاء الذين غلطوا مذهب " اللفظية " وزادوا فيه شرا كثيرا إذ قالوا : " القراءة " غير المقروء و " التلاوة " غير المتلو و " الكتابة " غير المكتوب إنما يعنون بالقراءة أصوات القارئين وب " الكتابة " مداد الكاتبين ويعنون أن هذا غير المعنى القائم بالذات الذي هو كلام الله وإنما هو دلالة عليه وعبارة عنه ؛ وليس عندهم إلا قراءة ومقروء فلم يبق إلا صوت ومداد ومعنى قائم بالذات ؛ ليس ثم قرآن غير ذلك . وأسقطوا حروف كلام الله التي تكلم بها وحقيقة معاني القرآن التي في نفس الله تعالى وأسقطوا أيضا معاني القرآن التي في نفوس القارئين والمستمعين ؛ فإنه لا ريب أن القرآن الذي نقرؤه فيه حروف ومعاني حروف منطوقة ومسطورة ؛ فإذا لم يكن عندهم إلا صوت العبد وحبر المصحف فأين المعاني ؟ وأين حروف القرآن التي أنزلها الله ؟ وإن كانت عندهم مخلوقة . وكيف يتصور أن لا يكون لجميع ما أنزل الله تعالى من الكتب إلا معنى واحد يكون أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا وتكون هذه أوصافه لا أقسامه ؟ فإن هؤلاء يقولون : إن معاني جميع كلام الله معنى واحد فمعنى : { تبت يدا أبي لهب } هو معنى { قل هو الله أحد } ومعنى التوراة هو معنى القرآن والإنجيل . ثم قد يجعلون معاني الكلام كلها الخبر وقد يجعلون معنى الخبر العلم ويجعلون العلم بهذا غير العلم بهذا . ولهذا كان أكثر العقلاء يقولون : فساد هذا معلوم بالاضطرار ويقولون : الأمر والنهي والخبر صفات إضافية للكلام وليست هي أنواع الكلام وأقسامه وكلام الله شأنه أعظم من شأن كلام المخلوقين والكلام الذي في المصحف هو من هذا القسم الأخير دون الأقسام المتقدمة فكيف إذا كان لذلك اللفظ من الخصائص ما

قيل فيه : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } . لكن من الأشياء ما يدل على غيره بقصد منه [ ومنها ما يدل على ] غيره [ بغير قصد منه ] للدلالة كالجامدات فإن فيها مقاصد غير دلالتها على [ الخالق ] ومن الأشياء ما لا يقصد به إلا الدلالة . بحيث إذا ذكر ما يقصد بذكره ذكر مدلوله كالاسم مع مسماه فالمقصود من الاسم هو المسمى ؛ فلهذا إذا ذكر الاسم كان المقصود به المسمى وكذلك " اللفظ " مع المعنى الذي هو مدلوله وكذلك " الخط " مع اللفظ فالمقصود من الخط إنما هو اللفظ والمقصود من الحروف المرسومة هو الحروف المنطوقة ؛ ولهذا كان لفظ الحرف مقولا عليهما جميعا . فإذا قيل : الكلام من الكتاب عرف أن المقصود مما في الكتاب هو الكلام دون غيره ولهذا كان لهذا من الاختصاص بالحرمة ما ليس لما يقصد منه الدلالة وغير الدلالة والله أعلم .

فصل وصار أولئك الذين غلطوا مذهب " اللفظية المثبتة " الذي يقولون : لفظنا بالقرآن غير مخلوق ويقولون : " التلاوة " هي المتلو و " الكتابة " هي المكتوب وما عندهم من القرآن إلا ما توهموا من الحروف والأصوات يلتزم أحدهم : أن الصوت القديم يسمع من القارئ ويوهمون المخالف لهم أن عين الصوت المسموع من العبد هو عين الصوت الذي تكلم الله به وينكرون معاني حقائق القرآن أن تكون من كلام الله ولا يجعلون المعنى من كلام الله وكان السلف يقولون : القرآن كلام الله غير مخلوق والقرآن حيث تصرف فهو كلام الله غير مخلوق . و " اللفظية المبتدعة المثبتة " الذين أنكر عليهم الإمام أحمد وغيره إنما قالوا لفظنا به غير مخلوق . ولم يقولوا قديم . فجاءت المغلطة لمذهبهم فقالوا : لفظنا به قديم ولفظنا به أصواتنا فأصواتنا به قديمة . والإمام أحمد وسائر الأئمة من أصحابه الذين صحبوه وغيرهم ومن بعدهم من الأئمة ينكرون هذه " المراتب الأربع " فإنهم ينكرون أن يقال : لفظي به غير مخلوق فكيف لفظي به قديم ؟ فكيف صوتي به غير مخلوق ؟ فكيف صوتي به قديم ؟ أو بعض الصوت المسموع قديم ؟ ونحو ذلك .

فصل ومن تأمل نصوص " الإمام أحمد " في هذا الباب وجدها من أسد الكلام وأتم البيان ووجد كل طائفة منتسبة إلى السنة قد تمسكت منها بما تمسكت ثم قد يخفى عليها من السنة في موضع آخر ما ظهر لبعضها فتنكره . ومنشأ النزاع بين أهل الأرض والاضطراب العظيم الذي لا يكاد ينضبط في هذا الباب يعود إلى " أصلين " . " مسألة " تكلم الله بالقرآن وسائر كلامه . و " مسألة " تكلم العباد بكلام الله . وسبب ذلك أن التكلم والتكليم له مراتب ودرجات وكذلك تبليغ المبلغ لكلام غيره له وجوه وصفات ومن الناس من يدرك من هذه الدرجات والصفات بعضها وربما لم يدرك إلا أدناها . ثم يكذب بأعلاها فيصيرون مؤمنين ببعض الرسالة كافرين ببعضها ويصير كل من الطائفتين مصدقة بما أدركته مكذبة بما مع الآخرين من الحق . وقد بين الله في كتابه وسنة رسوله ذلك فقال تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } وقال تعالى : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا } { ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما } وقال : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } . ففي هذه الآية خص بالتكليم بعضهم وقد صرح في الآية الأخرى بأنه كلم موسى تكليما واستفاضت الآثار بتخصيص موسى بالتكليم فهذا التكليم الذي خص به موسى على نوح وعيسى ونحوهما ليس هو التكليم العام الذي قال فيه : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } فإن هذه الآية قد جمع فيها جميع درجات التكليم كما ذكر ذلك السلف . فروينا في كتاب " الإبانة " لأبي نصر السجزي وكتاب البيهقي وغيرهما عن

عقبة قال : سئل ابن شهاب عن هذه الآية : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم } قال ابن شهاب : نزلت هذه الآية تعم من أوحى الله إليه من البشر . فكلام الله الذي كلم به موسى من وراء حجاب والوحي ما يوحي الله إلى النبي من أنبيائه عليهم السلام ليثبت الله عز وجل ما أراد من وحيه في قلب النبي ويكتبه وهو كلام الله ووحيه ومنه ما يكون بين الله وبين رسله ومنه ما يتكلم به الأنبياء ولا يكتبونه لأحد ولا يأمرون بكتابته ولكنهم يحدثون به الناس حديثا ويبينونه لهم ؛ لأن الله أمرهم أن يبينوه للناس ويبلغوهم إياه ومن الوحي ما يرسل الله به من يشاء ممن اصطفاه من ملائكته فيكلمون به أنبياءه من الناس ومن الوحي ما يرسل الله به من يشاء من الملائكة فيوحيه وحيا في قلب من يشاء من رسله . قلت : فالأول الوحي وهو الإعلام السريع الخفي : إما في اليقظة وإما في المنام فإن رؤيا الأنبياء وحي ورؤيا المؤمنين جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح وقال عبادة بن الصامت - ويروى مرفوعا - : { رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام } وكذلك في " اليقظة " فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر } وفي رواية في الصحيح " مكلمون " وقد قال تعالى : { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي } وقال تعالى : { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه } . بل قد قال تعالى : { وأوحى في كل سماء أمرها } وقال تعالى : { وأوحى ربك إلى النحل } فهذا الوحي يكون لغير الأنبياء ويكون يقظة ومناما . وقد يكون بصوت هاتف يكون الصوت في نفس الإنسان ليس خارجا عن نفسه يقظة ومناما كما قد يكون النور الذي يراه أيضا في نفسه . فهذه " الدرجة " من الوحي التي تكون في نفسه من غير أن يسمع صوت ملك

في أدنى المراتب وآخرها وهي أولها باعتبار السالك وهي التي أدركتها عقول الإلهيين من فلاسفة الإسلام الذين فيهم إسلام وصبوء فآمنوا ببعض صفات الأنبياء والرسل - وهو قدر مشترك بينهم وبين غيرهم - ولكن كفروا بالبعض فتجد بعض هؤلاء يزعم أن النبوة مكتسبة أو أنه قد استغنى عن الرسول أو أن غير الرسول قد يكون أفضل منه وقد يزعمون : أن كلام الله لموسى كان من هذا النمط وأنه إنما كلمه من سماء عقله وأن الصوت الذي سمعه كان في نفسه أو أنه سمع المعنى فائضا من العقل الفعال أو أن أحدهم قد يصل إلى مقام موسى . ومنهم من يزعم أنه يرتفع فوق موسى ويقولون : إن موسى سمع الكلام بواسطة ما في نفسه من الأصوات ونحن نسمعه مجردا عن ذلك . ومن هؤلاء من يزعم أن جبريل الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الخيال النوراني : الذي يتمثل في نفسه كما يتمثل في نفس النائم ويزعمون أن القرآن أخذه محمد عن هذا الخيال المسمى بجبريل عندهم ؛ ولهذا قال ابن عربي صاحب " الفصوص " و " الفتوحات المكية " : إنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك : الذي يوحي به إلى الرسول . وزعم أن مقام " النبوة " دون الولاية وفوق " الرسالة " فإن محمدا - بزعمهم الكاذب - يأخذ عن هذا الخيال النفساني - الذي سماه ملكا - وهو يأخذ عن العقل المجرد الذي أخذ منه هذا الخيال . ثم هؤلاء لا يثبتون لله كلاما اتصف به في الحقيقة ولا يثبتون أنه قصد إفهام أحد بعينه ؛ بل قد يقولون لا يعلم أحدا بعينه ؛ إذ علمه وقصده عندهم إذا أثبتوه لم يثبتوه إلا كليا لا يعين أحدا بناء على أنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات إلا على وجه كلي . وقد يقرب أو يقرب من مذهبهم من قال باسترسال علمه على أعيان الأعراض وهذا الكلام - مع أنه كفر باتفاق المسلمين - فقد وقع في كثير منه من له فضل في الكلام والتصوف ونحو ذلك ولولا أني أكره التعيين في هذا الجواب لعينت أكابر من المتأخرين . وقد يكون الصوت الذي

يسمعه خارجا عن نفسه من جهة الحق تعالى على لسان ملك من ملائكته أو غير ملك وهو الذي أدركته الجهمية من المعتزلة ونحوهم واعتقدوا أنه ليس لله تكليم إلا ذلك وهو لا يخرج عن قسم الوحي الذي هو أحد أقسام التكليم أو قسيم التكليم بالرسول . وهو " القسم الثاني " حيث قال تعالى : { أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } فهذا إيحاء الرسول . وهو غير الوحي الأول من الله الذي هو أحد أقسام التكليم العام . وإيحاء الرسول أيضا " أنواع " ففي الصحيحين { عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل النبي صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي ؟ قال : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول قالت عائشة رضي الله عنها ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا } . فأخبر صلى الله عليه وسلم أن نزول الملك عليه تارة يكون في الباطن بصوت مثل صلصلة الجرس . وتارة يكون متمثلا بصورة رجل يكلمه كما كان جبريل يأتي في صورة دحية الكلبي وكما تمثل لمريم بشرا سويا وكما جاءت الملائكة لإبراهيم وللوط في صورة الآدميين كما أخبر الله بذلك في غير موضع وقد سمى الله كلا النوعين إلقاء الملك وخطابه وحيا ؛ لما في ذلك من الخفاء ؛ فإنه إذا رآه يحتاج أن يعلم أنه ملك وإذا جاء في مثل صلصلة الجرس يحتاج إلى فهم ما في الصوت . و " القسم الثالث " التكليم من وراء حجاب كما كلم موسى عليه السلام ولهذا سمى الله هذا " نداء " و " نجاء " فقال تعالى : { وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا } وقال تعالى : { فلما أتاها نودي يا موسى } { إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى } { وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى } وهذا التكليم مختص ببعض الرسل كما قال تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله } وقال تعالى : { ولما جاء موسى لميقاتنا

وكلمه ربه } وقال بعد ذكر إيحائه إلى الأنبياء : { وكلم الله موسى تكليما } فمن جعل هذا من جنس الوحي الأول - كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة ومن تكلم في التصوف على طريقهم كما في " مشكاة الأنوار " وكما في " كتاب خلع النعلين " وكما في كلام الاتحادية كصاحب " الفصوص " وأمثاله - فضلاله ومخالفته للكتاب والسنة والإجماع ؛ بل وصريح المعقول من أبين الأمور . وكذلك من زعم : أن تكليم الله لموسى إنما هو من جنس الإلهام والوحي ؛ وأن الواحد منا قد يسمع كلام الله كما سمعه موسى - كما يوجد مثل ذلك في كلام طائفة من فروخ الجهمية الكلابية ونحوهم - فهذا أيضا من أعظم الناس ضلالا . وقد دل كتاب الله على أن اسم الوحي والكلام في كتاب الله فيهما عموم وخصوص . فإذا كان أحدهما عاما اندرج فيه الآخر كما اندرج الوحي في التكليم العام في هذه الآية واندرج التكليم في الوحي العام حيث قال تعالى : { فاستمع لما يوحى } وأما التكليم الخاص الكامل فلا يدخل فيه الوحي الخاص الخفي : الذي يشترك فيه الأنبياء وغيرهم كما أن الوحي المشترك الخاص لا يدخل فيه التكليم الخاص الكامل ؛ كما قال تعالى لزكريا : { آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا } ثم قال تعالى : { فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم } " فالإيحاء " ليس بتكليم ولا يناقض الكلام وقوله تعالى في الآية الأخرى : { ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } إن جعل معنى الاستثناء منقطعا اتفق معنى التكليم في الآيتين وإن جعل متصلا كان التكليم مثل التكليم في سورة الشورى وهو التكليم العام ؛ وقد تبين أنه إنما كلم موسى تكليما خاصا كاملا بقوله : { منهم من كلم الله } مع العلم بأن الجميع أوحى إليهم وكلمهم التكليم العام وبأنه فرق بين تكليمه وبين الإيحاء إلى النبيين وكذا التكليم بالمصدر وبأنه جعل التكليم من وراء حجاب قسما غير إيحائه وبما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من تكليمه الخاص

لموسى منه إليه وقد ثبت أنه كلمه بصوت سمعه موسى كما جاءت الآثار بذلك عن سلف الأمة وأئمتها موافقة لما دل عليه الكتاب والسنة . وغلطت هنا " الطائفة الثالثة " الكلابية . فاعتقدت أنه إنما أوحى إلى موسى عليه السلام معنى مجردا عن صوت . واختلفت هل يسمع ذلك ؟ فقال بعضهم يسمع ذلك المعنى بلطيفة خلقها فيه قالوا : إن السمع والبصر والشم والذوق واللمس معان تتعلق بكل موجود كما قال ذلك الأشعري وطائفة وقال بعضهم لم يسمع موسى كلام الله فإنه عنده معنى والمعنى لا يسمع كما قال ذلك القاضي أبو بكر وطائفة . وهذا الذي أثبتوه في جنس الوحي العام الذي فرق الله عز وجل بينه وبين تكليمه لموسى عليه السلام حيث قال : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } إلى قوله : { وكلم الله موسى تكليما } وفرق بين إيحائه وبين تكليمه من وراء حجاب حيث قال : { إلا وحيا أو من وراء حجاب } وحيث فرق بين الرسول المكلم وغيره بقوله تعالى : { منهم من كلم الله } . لكن هؤلاء يثبتون أن لله كلاما هو معنى قائم بنفسه هو متكلم به وبهذا صاروا خيرا ممن لا يثبت له كلاما إلا ما أوحى في نفس النبي من المعنى ؛ أو ما سمعه من الصوت المحدث ولكن لفرط ردهم على هؤلاء زعموا : أنه لا يكون كلاما لله بحال إلا ما قام به ؛ فإنه لا يقوم به إلا المعنى . فأنكروا أن تكون الحروف كلام الله وأن يكون القرآن العربي كلام الله . وجاءت " الطائفة الرابعة " فردوا على هؤلاء دعواهم أن يكون الكلام مجرد المعنى فزعم بعضهم أن الكلام ليس إلا الحرف أو الصوت فقط وإن المعاني المجردة لا تسمى كلاما أصلا ؛ وليس كذلك ؛ بل الكلام المطلق اسم للمعاني والحروف جميعا وقد يسمى أحدهما كلاما مع التقييد كما يقول النحاة : " الكلام " اسم وفعل وحرف . فالمقسوم هنا اللفظ وكما قال الحسن البصري : ما زال أهل العلم يعودون بالتكلم على التفكر وبالتفكر على التدبر ويناطقون القلوب حتى نطقت .

وكما قال الجنيد : " التوحيد " قول القلب " والتوكل " عمل القلب . فجعلوا للقلب نطقا وقوة كما جعل النبي صلى الله عليه وسلم للنفس حديثا في قوله : { إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها } - ثم قال - : { ما لم تتكلم به أو تعمل به } . فعلم أن " الكلام المطلق " هو ما كان بالحروف المطابقة للمعنى وإن كان مع التقييد قد يقع بغير ذلك حتى إنهم قد يسمون كل إفهام ودلالة يقصدها الدال قولا سواء كانت باللفظ أو الإشارة أو العقد - عقد الأصابع - وقد يسمون أيضا الدلالة قولا وإن لم تكن بقصد من الدال مثل دلالة الجامدات كما يقولون : قالت : " اتساع بطنه " . وامتلأ الحوض وقال قطني قطني رويدا قد ملأت بطني وقالت له العينان سمعا وطاعة ويسمى هذا لسان الحال ودلالة الحال ومنه قولهم : سل الأرض من فجر أنهارك وسقى ثمارك وغرس أشجارك ؟ فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا . ومنه قولهم : تخبرني العينان ما القلب كاتم ولا خير في الحياء والنظر الشزر ومنه قولهم : سألت الدار تخبرني عن الأحباب ما فعلوا فقالت لي أناخ القوم أياما وقد رحلوا وقد يسمى شهادة وقد زعم طائفة أن ما ذكر في القرآن من تسبيح المخلوقات هو من هذا الباب وهو دلالتها على الخالق تعالى ؛ ولكن الصواب أن ثم تسبيحا آخر زائدا على ما فيها من الدلالة كما قد سبق في موضع آخر ؛ لكن هذا كله يكون مع التقييد والقرينة ؛ ولهذا يصح سلب الكلام والقول عن هذه الأشياء كما قال تعالى : { ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا } وقال تعالى : { أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا } وقال الخليل عليه السلام { فاسألوهم إن كانوا ينطقون } وقال تعالى : { هذا يوم لا ينطقون } { ولا يؤذن لهم فيعتذرون } وقال تعالى : { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا } وقال تعالى : { لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } وهذا معلوم بالضرورة والتواتر وهو سلب القول والكلام عن

الحي الساكت والعاجز فكيف عن الموات وقد علم أن الله تعالى موصوف بغاية صفات الكمال وأن الرسل قد أثبتوا أنه متكلم بالكلام الكامل التام في غاية الكمال فمن لم يجعل كلامه إلا مجرد معنى أو مجرد حروف أو مجرد حروف وأصوات فما قدر الله حق قدره ومن لم يجعل كلامه إلا ما يقوم بغيره فقد سلبه الكمال وشبهه بالموات وكذلك من لم يجعله يتكلم بمشيئته أو جعله يتكلم بمشيئته وقدرته ولكن جعل الكلام من جملة المخلوقات وجعله يوصف بمخلوقاته أو جعله يتكلم بعد أن لم يكن متكلما فكل من هذه الأقوال وإن كان فيه إثبات بعض الحق ففيه رد لبعض الحق ونقص لما يستحقه الله من الكمال .

فصل وكل من هؤلاء أدرك من درجات الكلام وأنواعه بعض الحق . وكذلك " الأصل الثاني " وهو تكلمنا بكلام الله ؛ فإن الكتاب والسنة والإجماع دل على أن هذا الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله لا كلام غيره ولو قال أحد : إن حرفا منه أو معنى ليس هو من كلام الله أو أنه كلام غير الله وسمع ذلك منه النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه لعلم بالاضطرار أنهم كانوا يقابلونه بما يقابلون أهل الجحود والضلال ؛ بل قد أجمع الخلائق على نحو ذلك في كل كلام . فجميع الخلق الذين يعلمون أن قوله : ألا كل شيء ما خلا الله باطل من شعر لبيد يعلمون أن هذا كلام لبيد وأن قوله : قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل هو من كلام امرئ القيس مع علمهم أنهم إنما سمعوها من غيره بصوت ذلك الغير فجاء المؤمنون ببعض الحق دون بعض فقالوا : ليس هذا أو لا نسمع إلا صوت العبد ولفظه ؛ ثم قال " النفاة " : ولفظ العبد محدث وليس هو كلام الله فهذا المسموع محدث وليس هو كلام الله . وقالت " المثبتة " : بل هذا كلام الله وليس إلا لفظه أو صوته فيكون لفظه أو [ صوته ] كلام الله وكلام الله غير مخلوق أو قديم فيكون لفظه أو صوته غير مخلوق أو قديم . وكل من الفريقين قد علم الناس بالضرورة من دين الأمة ؛ بل وبالعقل أنه مخطئ في بعض ما قاله مبتدع فيه ؛ ولهذا أنكر الأئمة ذلك وإذا رجع أحدهم إلى فطرته وجد الفرق بين أن يشير إلى الكلام المسموع فيقال : هذا كلام زيد وبين أن يقول هذا صوت زيد ويجد فطرته تصدق بالأول وتكذب بالثاني قال الله تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } وقال النبي صلى الله عليه وسلم " { زينوا القرآن بأصواتكم } " . وكل أحد يعلم بفطرته ما دل عليه الكتاب والسنة من أن الكلام كلام الباري والصوت صوت القارئ ؛ ولهذا قال " الإمام أحمد " لأبي طالب لما قرأ عليه : { قل هو الله أحد } وقال له : هذا غير مخلوق فحكى عنه أنه قال : لفظي بالقرآن

غير مخلوق قال له : أنا قلت لك لفظي غير مخلوق ؟ قال : لا . ولكن قرأت عليك : { قل هو الله أحد } فقلت : هذا غير مخلوق . فبين أحمد الفرق بين أن يقول : هذا الكلام غير مخلوق أو يقول : لفظ هذا المتكلم غير مخلوق ؛ لأن قوله لفظي " مجمل " يدخل فيه فعله ويدخل فيه صوته . فإذا قيل : لفظي أو تلاوتي أو قراءتي غير مخلوقة أو هي المتلو أشعر ذلك أن فعل العبد وصوته قديم وأن ما قام به من المعنى والصوت هو عين ما قام بالله من المعنى والصوت وإذا قال : لفظي بالقرآن أو تلاوتي للقرآن أو لفظ القرآن أو تلاوته مخلوقة أو التلاوة غير المتلو أو القراءة غير المقروء أفهم ذلك أن حروف القرآن ليست من كلام الله بحال وأن نصف القرآن كلام الله ونصفه كلام غيره وأفهم ذلك أن قراءة الله للقرآن مباينة لمقروئه وتلاوته للقرآن مباينة لمتلوه وأن قراءة العبد للقرآن مباينة لمقروء العبد وتلاوته له مباينة لمتلوه وأفهم ذلك أنما نزل إلينا ليس هو كلام الله ؛ لأن المقروء والمتلو هو كلام الله والمغايرة عند هؤلاء تقتضي المباينة فما باين كلامه لم يكن كلاما له فلا يكون هذا الذي أنزله كلامه . ولما كان الكلام إنما يكون بحركة وفعل تنشأ عنه حروف ومعان صار الكلام يدخل في اسم الفعل والعمل : تارة باعتبار الحركة والفعل ويخرج عنه تارة باعتبار الحروف والمعاني ؛ ولهذا يجيء في الكتاب والسنة قسما منه تارة كما في قوله تعالى { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة } وقسيما له أخرى كما في قوله تعالى { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } . ولهذا تنازع العلماء فيما إذا حلف لا يعمل عملا في هذا المكان ولم يكن له نية ولا سبب يفيد هل يحنث بالكلام ؟ على قولين في مذهب الإمام أحمد وغيره وذكروهما روايتين عن أحمد ؛ ولهذا قال أبو محمد بن قتيبة في كتابه

الذي ألفه في بيان " اللفظ " أن القراءة قرآن وعمل لا يتميز أحدهما عن الآخر فمن قال : إنها قرآن فهو صادق ومن حلف إنها عمل فهو بار وأخطأ من أطلق : أن القراءة مخلوقة وأخطأ من زعم أنها غير مخلوقة ونسبهما جميعا إلى قلة العلم وقصور الفهم ؛ فإن هذه المسألة خفيت على الطائفتين لغموضها ؛ فإن إحدى الطائفتين وجدت القراءة تسمى قرآنا فنفت الخلق عنها والأخرى وجدت القراءة فعلا يثاب صاحبه عليه فأثبتت حدوثه . قلت : والخطأ في هذا الأصل في طرفين كما أنه في الأصل الأول في طرفين . ففي الأصل الأول من قال : إنه ليس له كلام قائم به ومن قال : ليس كلامه إلا معنى مجرد أو صوت مجرد . وفي هذا الأصل من قال : كلامه لا يقوله غيره أو لا يسمع من غيره ومن قال : كلامه إذا أبلغه غيره وأداه فحاله كحاله إذا سمعه منه وتلاه بل كلامه يقوله : رسله وعباده ويتكلمون به ويتلونه ويقرءونه فهو كلامه حيث تصرف وحيث تلي وحيث كتب وكلامه ليس بمخلوق حيث تصرف ؛ وهو مع هذا فليس حاله إذا قرأه العباد وكتبوه كحاله إذا قرأه الله وسمعوه منه ولا من يسمعه من القارئ بمنزلة موسى بن عمران الذي سمع كلام رب العالمين منه كما جاء في الحديث : " { إذا سمع الخلائق القرآن يوم القيامة من الله فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك } " بل ولا تلاوة الرسول وسمعه منه كتلاوة غيره وسمعه منه ؛ بل ولا تلاوة بعض الناس والسماع منه كتلاوة بعض الناس والسماع منه وهو كلام الله تعالى الذي ليس بمخلوق في جميع أحواله وإن اختلفت أحواله . ومما يجب أن يعرف أن قول الله ورسوله والمؤمنين لما أنزله الله : هذا كلام الله ؛ بل وقول الناس لما يسمعونه من كلام الناس : هذا كلام فلان كقولهم لمثل قوله : " { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى } " هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولمثل قوله : ألا كل شيء ما خلا الله باطل هذا شعر لبيد . فليس قولهم : هذا هو هذا ؛ لأنه مساو له في النوع كما

يقال : هذا السواد هو هذا السواد ؛ فإن هذا يقولونه لما اتفق من الكلامين والعلمين ؛ والقدرتين والشخصين . ويقولون في مثل ذلك : وقع الخاطر على الخاطر كوقع الحافر على الحافر . وفي الحقيقة فهو إنما هو مثله كما قال تعالى : { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم } وهم يقولون : هذا هو هذا مع اتفاقهما في الصفات وقد يكون مع اختلافهما اختلافا غير مقصود كما أنهم يقولون للعين الواحدة إذا اختلفت صفتها هذه [ عين ] هذه ولا هو أيضا بمنزلة من تمثل بكلام لغيره سواء كان نظما أو نثرا مثل أن يتمثل الرجل بقول لغيره فيصير متكلما به متشبها بالمتكلم به أولا وهذا مثل أن نقول قولا قاله غيرنا موافقين لذلك القائل في صحة القول . ولهذا قال الفقهاء : إن من قال ما يوافق لفظ القرآن على وجه الذكر والدعاء مثل أن يقول عند ابتداء الفعل بسم الله وعند الأكل الحمد لله ونحو ذلك لم يكن قارئا وجاز له ذلك مع الجنابة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر } رواه مسلم . فجعلها أفضل الكلام بعد القرآن وأخبر أنها من القرآن فهي من القرآن . وإذا قالها على وجه الذكر لم يكن قارئا . لكن هذا الوجه قد يضاف فيه الكلام إلى الأول وإن لم يقصد الثاني تبليغ كلامه ؛ لأنه هو الذي أنشأ الحقيقة ابتداء والثاني قالها احتذاء فإذا تمثل الرجل بقول الشاعر وإن لم يقصد تبليغ شعره : ألا كل شيء ما خلا الله باطل قيل له هذا كلام لبيد ؛ لكن الثاني قد لا يقصد إلا أن يتكلم به ابتداء لاعتقاده صحة معناه . ومن هنا تنازع أهل العلم في " حروف الهجاء " وفي " الأسماء " المنزلة في القرآن وفي " كلمات " في القرآن إذا تمثل الرجل بها ولم يقصد بها القراءة هل يقال : ليست مخلوقة لأنها من القرآن ؟ أو يقال : إذا لم يقصد بها القرآن وكلام الله فليست من كلام الله فتكون مخلوقة على قولين

لأهل السنة . وأما الإنسان إذا قال ما هو كلام لغيره يقصد تبليغه وتأديته أو التكلم به معتقدا أنه إنما قصد التكلم بكلام غيره الذي هو الآمر بأمره . المخبر بخبره ؛ المتكلم ابتداء بحروفه ومعانيه فهنا الكلام كلام الأول قطعا ليس كلاما للثاني بوجه من الوجوه وإنما وصل إلى الناس بواسطة الثاني . وليس للكلام نظير من كل وجه فيشتبه به وإنما هو أمر معقول بنفسه فإن كلام زيد المخلوق وإن كان قد عدم مثلا وعدم أيضا ما قام به من الصفة فإذا رواه عنه راو آخر وقلنا : هذا كلام زيد . فإنما نشير إلى الحقيقة التي ابتدأ بها زيد واتصف بها وهذه هي تلك بعينها : أعني الحقيقة الصورية ؛ لا المادة ؛ فإن الصوت المطلق بالنسبة إلى الحروف الصوتية المقطعة بمنزلة المادة والصورة وهو لم يكن كلاما للمتكلم الأول ؛ لأجل الصوت المطلق الذي يشترك فيه صوت الآدميين والبهائم العجم والجمادات وإنما هو لأجل الصورة التي ألفها زيد مع تأليفه لمعانيها . ووجود هذه الصورة في المادتين ليس بمنزلة وجود الأنواع والأشخاص في الأعيان ولا بمنزلة وجود الأعراض في الجواهر ولا هو بمنزلة سائر الصور في موادها الجوهرية ؛ بل هو حقيقة قائمة بنفسها وليس لكل حقيقة نظير مطابق من كل وجه . وإذا قالوا : هذا شعر لبيد فإنما يشيرون إلى اللفظ والمعنى جميعا . ثم مع هذا لو قال القائل : أنا أنشأت لفظ هذا الشعر أو هذا اللفظ من إنشائي أو لفظي بهذا الشعر من إنشائي لكذبه الناس كلهم وقالوا له : بل أنت رويته وأنشدته . أما أن تكون أحدثت لفظه أو هو محدث البارحة بلفظك ؛ أو لفظك به محدث البارحة فكذب ؛ لأن لفظ هذا الشعر موجود من دهر طويل وإن كنت أنت أديته بحركتك وصوتك فالحركة والصوت أمر طبيعي يشركك فيه الحيوان ناطقه وأعجمه فليس لك فيه حظ من حيث هو كلام ولا من حيث هو كلام ذلك الشاعر ؛ إذ كونه كلاما أو كلاما لمتكلم هو مما يختص به المتكلم ؛ إنما أديته بآلة يشركك فيها العجماوات

والجمادات ؛ لكن الحمد لله الذي جعل لك من العقل والتمييز ما تهتدي به ويسير به لسانك ولم يجعل ذلك للعجماوات ؛ فجعل فعلك وصفتك تعينك على عقل الكلام والتكلم به ولم يجعل فعل العجم وصفتها كذلك . فإذا كان هذا في مخلوق بلغ كلام مخلوق مثله فكيف الظن بكلام الخالق جل جلاله الذي فضله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه فإن له شأنا آخر يختص به لا يشبه بتبليغ سائر الكلام كما أنه في نفسه لا يشبه سائر الكلام وليس له مثل يقدر عليه أحد من الخلق ؛ بخلاف سائر ما يبلغ من كلام البشر ؛ فإن مثله مقدور فلا يجوز إضافة هذا الكلام المسموع الذي هو القرآن إلى غير الله بوجه من الوجوه ؛ إلا على سبيل التبليغ كقوله تعالى : { إنه لقول رسول كريم } والله سبحانه قد خاطبنا به بواسطة الرسول كما تقدم . وقد بسطت الكلام في هذه المواضع التي هي محارات العقول التي اضطربت فيها الخلائق في الموضع الذي يليق به ؛ فإن هذا جواب فتيا لا يليق به إلا التنبيه على جمل الأمور وإثبات وجوب نسبة الكلام إلى من بدأ منه لفظه ومعناه دون من بلغه عنه وأداه وأنه كلام المتصف به مبتدئا حقيقة سواء سمع منه أو سمع ممن بلغه وأداه بفعله وصوته مع العلم بأن أفعال العباد وصفاتهم مخلوقة وأن قول الله ورسوله والمؤمنين : هذا كلام الله وما بين اللوحين كلام الله حقيقة لا ريب فيه وأن " القرآن " الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه ويحفظونه هو كلام الله تعالى وكلام الله حيث تصرف غير مخلوق . وأما ما اقترن بتبليغه وقراءته من أفعال العباد وصفاتهم فإنه مخلوق . لكن هذا الموضع فيه اشتباه وإشكال لا تحتمل تحريره وبسطه هذه الفتوى ؛ لأن صاحبها مستوفز عجلان يريد أخذها ؛ ولأن في ذلك من الدقة والغموض ما يحتاج إلى ذكر النصوص وبيان معانيها وضرب الأمثال التي توضح حقيقة الأمر وليس هذا موضعه . بل الذي يعلم من حيث " الجملة " أن الإمام أحمد والأئمة الكبار الذين لهم في الأمة لسان صدق عام

لم يتنازعوا في شيء من هذا الباب ؛ بل كان بعضهم أعظم علما به وقياما بواجبه من بعض . وقد غلط في بعض ذلك من أكابر الناس جماعات . وقد رد الإمام أحمد عامة البدع في هذا الباب هو والأئمة .
فأول ما ابتدع الجهمية القول " بخلق القرآن " و " نفي الصفات " فأنكرها من كان في ذلك الوقت من التابعين ثم تابعي التابعين ومن بعدهم من الأئمة وكفروا قائلها . ثم ابتدع بعض أهل الحديث والكلام الذين ناظروا الجهمية : القول بأن القرآن المنزل مخلوق أو أنه ليس بكلام الله أو أنه ليس في المصاحف ولا في الصدور وأنكر بعضهم أن تكون حروف القرآن كلام الله أو أن يكون الله تكلم بالصوت وأنكر الإمام أحمد وأئمة وقته ذلك . وقابلهم قوم من أهل الكلام والحديث ؛ فزعموا أن ألفاظ العباد وأصوات العباد غير مخلوقة أو ادعوا أن بعض أفعال العباد أو صفاتهم غير مخلوقة أو أن ما يسمع من الناس من القرآن هو مثل ما يسمع من الله تعالى من كل وجه ونحو ذلك . فأنكر الإمام أحمد وعامة أئمة وقته وأصحابه وغيرهم من العلماء ذلك . وإنكار جميع هذه البدع وردها موجود عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة في الكتب الثابتة مثل " كتاب السنة " للخلال و " الإبانة " لابن بطة و " كتب المحنة " التي رواها حنبل وصالح و " كتاب السنة " لعبد الله بن أحمد و " السنة " للالكائي و " السنة " لابن أبي حاتم وما شاء الله من الكتب . فأما الرد على " الجهمية " القائلين بنفي الصفات وخلق القرآن ففي كلام التابعين وتابعيهم والأئمة المشاهير من ذلك شيء كثير وفي " مسألة القرآن " من ذلك آثار كثيرة جدا . مثل ما روى ابن أبي حاتم وابن شاهين واللالكائي وغيرهم من غير وجه عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قيل له يوم صفين : حكمت رجلين فقال : ما حكمت مخلوقا ما حكمت إلا القرآن وعن عكرمة قال : كان ابن عباس في جنازة فلما وضع الميت في لحده قام رجل فقال : اللهم رب القرآن اغفر له فوثب إليه ابن

عباس فقال له : مه القرآن منه . وفي رواية : القرآن كلام الله وليس بمربوب منه خرج وإليه يعود . وعن عبد الله بن مسعود قال : من حلف بالقرآن فعليه بكل آية كفارة فمن كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع . ومن المستفيض عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار - وربما وقفه بعضهم على سفيان والأول هو المشهور - قال : أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون : القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود ومشايخ عمرو من لقي عمرو من الصحابة والتابعين . وعن علي بن الحسين زين العابدين وابنه جعفر بن محمد : ليس القرآن بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله . ومثل هذا مأثور عن الحسن البصري وأيوب السختياني وحماد بن أبي سليمان وابن أبي ليلى وأبي حنيفة وابن أبي ذئب وابن الماجشون والأوزاعي والشافعي وأبي بكر بن عياش وهشيم وعلي بن عاصم وعبد الله بن المبارك وأبي إسحاق الفزاري ووكيع بن الجراح والوليد بن مسلم وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان ومعاذ بن معاذ وأبي يوسف ومحمد والإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وبشر بن الحارث ومعروف الكرخي وأبي عبيد القاسم بن سلام وأبي ثور والبخاري ومسلم وأبي زرعة وأبي حاتم ومن لا يحصى كثرة . قال أبو القاسم اللالكائي - وقد سمى علماء القرون الفاضلة ومن يليهم الذين نقل عنهم في كتابه أن القرآن كلام الله غير مخلوق " - فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفسا من التابعين وأتباع التابعين والأئمة المرضيين - سوى الصحابة - على اختلاف الأعصار ومضي السنين والأعوام وفيهم نحو من مائة إمام ممن أخذ الناس بقولهم وتمذهبوا بمذاهبهم ولو اشتغلت بنقل قول المحدثين لبلغت أسماؤهم ألوفا كثيرة فنقلت عن هؤلاء عصرا بعد عصر لا ينكر عليهم المنكر ومن أنكر قولهم استتابوه أو أمروا بقتله أو نفيه أو صلبه . قال : ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال : القرآن مخلوق الجعد بن درهم ثم " الجهم بن صفوان " وكلاهما قتله المسلمون . وممن أفتى

بقتل هؤلاء : مالك بن أنس ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وسفيان بن عيينة وأبو جعفر المنصور الخليفة ومعمر بن سليمان ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي ومعاذ بن معاذ ووكيع بن الجراح وأبوه وعبد الله بن داود الخريبي وبشر بن الوليد - صاحب أبي يوسف - وأبو مصعب الزهري وأبو عبيد القاسم بن سلام وأبو ثور وأحمد بن حنبل وغير هؤلاء من الأئمة .
وكذلك ذم " الواقفة " وتضليلهم - الذين لا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق - مأثور عن جمهور هؤلاء الأئمة مثل ابن الماجشون وأبي مصعب ووكيع بن الجراح وأبي الوليد وأبي الوليد الجارودي صاحب الشافعي والإمام أحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق بن راهويه ومن لا يحصي عدده إلا الله .

وأما البدعة الثانية - المتعلقة بالقرآن المنزل تلاوة العباد له - وهي " مسألة اللفظية " فقد أنكر بدعة " اللفظية " الذين يقولون : إن تلاوة القرآن وقراءته واللفظ به مخلوق أئمة زمانهم جعلوهم من الجهمية وبينوا أن قولهم : يقتضي القول بخلق القرآن وفي كثير من كلامهم تكفيرهم . وكذلك من يقول : إن هذا القرآن ليس هو كلام الله وإنما هو حكاية عنه أو عبارة عنه أو أنه ليس في المصحف والصدور إلا كما أن الله ورسوله في المصاحف والصدور ونحو ذلك وهذا محفوظ عن الإمام أحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي مصعب الزهري وأبي ثور وأبي الوليد الجارودي ومحمد بن بشار ويعقوب بن إبراهيم الدورقي ومحمد بن يحيى بن أبي عمرو العدني ومحمد بن يحيى الذهلي ومحمد بن أسلم الطوسي وعدد كثير لا يحصيهم إلا الله من أئمة الإسلام وهداته . وكذلك أنكر بدعة " اللفظية المثبتة " - الذين يقولون : إن لفظ العباد أو صوت العباد به غير مخلوق أو يقولون إن التلاوة التي هي فعل العبد وصوته غير مخلوقة - الأئمة الذين بلغتهم هذه البدعة : مثل الإمام أحمد بن حنبل وأبي عبد الله البخاري صاحب الصحيح وأبي بكر المروذي أخص أصحاب الإمام أحمد بن حنبل به وأخذ في ذلك أجوبة علماء الإسلام إذ ذاك : ببغداد والبصرة والكوفة والحرمين والشام وخراسان وغيرهم : مثل عبد الوهاب الوراق وأبي بكر الأثرم ومحمد بن بشار بندار وأبي الحسين علي بن مسلم الطوسي ويعقوب الدورقي ومحمد بن سهل بن عسكر ومحمد بن عبد الله المخرمي الحافظ ومحمد بن إسحاق الصاغاني والعباس بن محمد الدوري وعلي بن داود القنطري ومثنى بن جامع الأنباري وإسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ومحمد بن يحيى الأزدي والحسن بن عبد العزيز الجروي وعبد الكريم بن الهيثم العاقولي وأبي موسى بن أبي علقمة النفروني وغيره من علماء المدينة ومحمد بن عبد الرحمن المقري وأبي الوليد بن أبي الجارود وأحمد بن محمد بن القاسم بن أبي مرة وغيرهم من أهل

مكة وأحمد بن سنان الواسطي وعلي بن حرب الموصلي ومن شاء الله تعالى من أئمة أهل السنة وأهل الحديث من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل وغيرهم ينكرون على من يجعل لفظ العبد بالقرآن أو صوته به أو غير ذلك من صفات العباد المتعلقة بالقرآن غير مخلوقة ويأمرون بعقوبته بالهجر وغيره وقد جمع بعض كلامهم في ذلك أبو بكر الخلال في " كتاب السنة " ومن المشهور في " كتاب صريح السنة " لمحمد بن جرير الطبري وهو متواتر عنه لما ذكر الكلام في أبواب السنة قال : وأما القول في " ألفاظ العباد بالقرآن " فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى ولا عن تابعي قفا إلا عمن في قوله الشفاء والعفاء وفي اتباعه الرشد والهدى ومن يقوم لدينا مقام الأئمة الأولى : أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل فإن أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل يقول " اللفظية " جهمية يقول الله : { حتى يسمع كلام الله } ممن يسمع ؟ قال ابن جرير : وسمعت جماعة من أصحابنا - لا أحفظ أسماءهم - يحكون عنه أنه كان يقول : من قال : لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال : غير مخلوق فهو مبتدع . قال ابن جرير : ولا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله غير قوله إذ لم يكن لنا إمام نأتم به سواه وفيه الكفاية والمقنع وهو الإمام المتبع . وقال أبو الفضل صالح بن أحمد بن حنبل في " كتاب المحنة " تناهى إلي أن أبا طالب حكى عن أبي أنه يقول : لفظي بالقرآن غير مخلوق فأخبرت أبي بذلك فقال : من أخبرك فقلت : فلان فقال : ابعث إلى أبي طالب فوجهت إليه فجاء وجاء فوران فقال له أبي : أنا قلت لك : لفظي بالقرآن غير مخلوق ؟ وغضب وجعل يرتعد فقال له : قرأت عليك { قل هو الله أحد } فقلت لي : هذا ليس بمخلوق قال له : فلم حكيت عني أني قلت : لفظي بالقرآن غير مخلوق ؟ وبلغني : أنك وضعت ذلك في كتابك وكتبت به إلى قوم فإن كان في كتابك فامحه أشد المحو واكتب إلى القوم الذين كتبت إليهم : أني لم أقل

هذا وغضب وأقبل عليه فقال : تحكي عني ما لم أقل لك ؟ فجعل فوران يعتذر له وانصرف من عنده وهو مرعوب فعاد أبو طالب فذكر أنه حك ذلك من كتابه وأنه كتب إلى القوم يخبرهم ؟ أنه وهم على أبي عبد الله في الحكاية . قال الفضل بن زياد : كنت أنا والبستي عند أبي طالب قال : فأخرج إلينا كتابه وقد ضرب على المسألة وقال : كان الخطأ من قبلي وأنا أستغفر الله وإنما قرأت على أبي عبد الله القرآن فقال : هذا غير مخلوق كان الوهم من قبلي يا أبا العباس وقال الخلال في : " السنة " حدثنا المروزي قال لي أبو عبد الله قد غيظ قلبي على ابن شداد قلت : أي شيء حكى عنك ؟ قال : حكى عني في اللفظ فبلغ ابن شداد أن أبا عبد الله قد أنكر عليه فجاءنا حمدون بن شداد بالرقعة فيها مسائل فأدخلتها على أبي عبد الله فنظر فرأى فيها : أن لفظي بالقرآن غير مخلوق - مع مسائل فيها - فقال أبو عبد الله : فيها كلام ما تكلمت به فقام من الدهليز فدخل فأخرج المحبرة والقلم وضرب أبو عبد الله على موضع : لفظي بالقرآن غير مخلوق وكتب أبو عبد الله بخطه بين السطرين : القرآن حيث تصرف غير مخلوق . وقال : ما سمعت أحدا تكلم في هذا بشيء وأنكر على من قال : لفظي بالقرآن غير مخلوق . وقال الخلال في " كتاب السنة " : أخبرني زكريا بن الفرج الوراق قال حدثنا أبو محمد فوران قال جاءني صالح - وأبو بكر المروذي عندي - فدعاني إلى أبي عبد الله وقال : إنه قد بلغ أبي أن أبا طالب قد حكى عنه أنه يقول : لفظي بالقرآن غير مخلوق فقمت إليه فتبعني صالح فدار صالح من بابه فدخلنا على أبي عبد الله فإذا أبو عبد الله غضبان شديد الغضب بين الغضب في وجهه فقال لأبي بكر : اذهب فجئني بأبي طالب فجاء أبو طالب وجعلت أسكن أبا عبد الله قبل مجيء أبي طالب وأقول : له حرمة فقعد بين يديه - وهو متغير اللون - فقال له أبو عبد الله : حكيت عني أني قلت : لفظي بالقرآن غير مخلوق ؟ فقال : إنما حكيت عن نفسي فقال : لا

تحك هذا عنك ولا عني فما سمعت عالما يقول هذا - أو العلماء شك فوران - وقال له : القرآن كلام الله غير مخلوق حيث تصرف فقلت لأبي طالب - وأبو عبد الله يسمع - إن كنت حكيت هذا لأحد فاذهب حتى تخبره أن أبا عبد الله نهى عن هذا ؟ فخرج أبو طالب فأخبر غير واحد - بنهي أبي عبد الله - منهم أبو بكر بن زنجويه والفضل بن زياد القطان وحمدان بن علي الوراق وأبو عبيد وأبو عامر وكتب أبو طالب بخطه إلى أهل نصيبين - بعد موت أبي عبد الله - يخبرهم أن أبا عبد الله نهى أن يقال : لفظي بالقرآن غير مخلوق وجاءني أبو طالب بكتابه وقد ضرب على المسألة من كتابه قال زكريا بن الفرج : فمضيت إلى عبد الوهاب الوراق فأخذ الرقعة فقرأها فقال لي : من أخبرك بهذا عن أحمد فقلت له : فوران بن محمد فقال : الثقة المأمون على أحمد قال زكريا : وكان قبل ذلك قد أخبر أبو بكر المروذي عبد الوهاب فصار عند عبد الوهاب شاهدان . قال زكريا وسمعت عبد الوهاب قال : من قال : لفظي بالقرآن غير مخلوق يهجر ولا يكلم ويحذر عنه وكان قبل ذلك قال : هو مبتدع . وروى الخلال عن أبي الحارث قال سمعت رجلا يقول لأبي عبد الله يا أبا عبد الله أليس نقول : القرآن كلام الله ليس بمخلوق بمعنى من المعاني وعلى كل حال وجهة ؟ فقال أبو عبد الله : نعم . واستيعاب هذا يطول . وكذلك في كلام الإمام أحمد وأئمة أصحابه وغيرهم من إضافة صوت العبد بالقرآن إليه ما يطول كما جاء الحديث النبوي بذلك : مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم { زينوا القرآن بأصواتكم } " وقوله : { لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته } " فذكر الخلال في ( كتاب القرآن عن إسحاق بن إبراهيم قال قال لي أبو عبد الله يوما - وكنت سألته عنه - : تدري ما معنى من لم يتغن بالقرآن ؟ قلت : لا . قال : هو الرجل يرفع صوته فهذا معناه إذا رفع صوته فقد تغنى به وعن منصور بن صالح أنه قال لأبيه : يرفع صوته بالقرآن

بالليل ؟ قال : نعم إن شاء رفعه " ثم ذكر حديث أم هانئ : { كنت أسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وأنا على عريش من الليل } " وعن صالح بن أحمد أنه قال لأبيه : " { زينوا القرآن بأصواتكم } " فقال : " التزيين " أن تحسنه . وعن الفضل بن زياد قال سمعت أبا عبد الله يسأل عن القراءة : فقال يحسنه بصوته من غير تكلف وقال أبو بكر الأثرم سألت أبا عبد الله عن القراءة بالألحان ؟ فقال : كل شيء محدث ؛ فإنه لا يعجبني إلا أن يكون صوت الرجل لا يتكلفه قال القاضي أبو يعلى فيما علقه بخطه على " جامع الخلال " : هذا يدل من كلامه على أن صوت القارئ ليس هو الصوت القديم ؛ لأنه أضافه إلى القارئ الذي هو طبعه من غير أن يتعلم الألحان . وأما ما في كلام أحمد والأئمة من إنكارهم على من يقول إن هذا القرآن مخلوق وإن القراءة مخلوقة وتعظيمهم لقول من يقول : إنه ليس في الصدور قرآن ولا في المصاحف قرآن وزعم من زعم أن من قال ذلك فقد قال بقول النصارى والحلولية فإنكار أحمد وغيره هذه المقالات كثير شائع موجود في كتب كثيرة ولم تكن هذه الفتيا محتاجة إلى تقرير هذا الأصل فلم يحتج إلى تفصيل الكلام فيه ؛ بخلاف الأصل الآخر وقد ذكرنا من ذلك ما يسره الله في غير هذا الموضع ولو ذكرت ما في كلام أحمد وأئمة أصحابه وغيرهم : من الرد على من يقول : لفظ العبد أو صوته غير مخلوق أو يقول : إن الصوت المسموع من القاري قديم لطال . وهذا أبو نصر السجزي قد صنف " الإبانة " المشهور وهو من أعظم القائلين : بأن التلاوة هي المتلو واللفظ بالقرآن هو القرآن وهو غير مخلوق وأنكر ما سوى ذلك عن أحمد ومع هذا فقد قال : فإن اعترض خصومنا فقالوا : أنتم وإن قلتم : القراءة قرآن وكلام الله فلا تطلقون أن الصوت المسموع من القاري صوت الله ؛ بل تنسبونه إلى القاري وإذا لم يمكنكم إطلاق ذلك دل على أنه غير القرآن قال أبو نصر : فالجواب أن اعتصامنا في هذا الباب بظاهر الشرع وقولنا في

القراءة والصوت غير مختلف وإذا قرأ القارئ القرآن لا يقول : إن هذه قراءة الله ولا يجيز ذلك بوجه : بل ينسب القراءة إلى القارئ توسعا لوجود التحويل منه وإنما يقول إن قراءة القاري قرآن وقد ثبت ذلك في الشرع باتفاق الكل ؛ فإن الأشعري مع مخالفته لنا يقول : المسموع من القاري قرآن وقد بينا : أن التمييز بين القراءة والقرآن في هذا الموضع الذي اختلفنا فيه غير ممكن وكذلك يقول : إن الصوت المسموع من قارئ القرآن قراءة وقرآن والشرع يوجب ما قلناه لا أعلم خلافا بين المسلمين في ذلك .

فصل وأما نصوص الإمام أحمد على " خلق كلام الآدميين " و " خلق أفعال العباد " فموجودة في مواضع كثيرة كما نص على ذلك سائر الأئمة . وليس بين أهل السنة في ذلك اختلاف ؛ ولهذا قال يحيى بن سعيد القطان شيخ الإمام أحمد : ما زلت أسمع أصحابنا يقولون : أفعال العباد مخلوقة وقد سئل الإمام أحمد عن أفاعيل العباد مخلوقة هي ؟ فقال نعم . ونص على كلام الآدميين في رواية أحمد بن الحسن الترمذي كما سيأتي وفيما خرجه على " الزنادقة والجهمية " وهو مروي من طريق ابنه عبد الله ( وجادة وقد ذكره الخلال أيضا في " كتاب السنة " ونقل منه القاضي أبو يعلى وغيره وقد حكى إجماع الخلق على ذلك غير واحد منهم أبو نصر السجزي في " الإبانة " وهو من أشد الناس إنكارا على من يقول : إن ألفاظ العباد بالقرآن مخلوقة أو يقول : إن المسموع من القارئ ليس هو القرآن . قال أبو نصر : وأما نسبة الأصوات إلى القراء - فيما ذكرنا في هذا الباب وفي غيره من كتابنا هذا - ونسبة القراءة إليهم وإن فرح بها الزائغون فلا حجة لهم فيها ؛ وذلك أنا لم نختلف في إضافة الصوت إلى الإنسان وأنه إذا صاح أو تكلم بكلام الناس أو نادى إنسانا فصوته مخلوق . قال : وهذا لا يشتبه : وإنما وقع الاختلاف في أن المستمع من قارئ القرآن ماذا يستمع ؟ وساق الكلام إلى آخره . وذكر في موضع آخر " الإجماع " أيضا على ذلك . فصل وإنما نبهت على أصل مقالة الإمام أحمد وسائر أئمة السنة وأهل الحديث في " مسألة تلاوتنا للقرآن " لأنها أصل ما وقع من الاضطراب والتنازع في هذا الباب مثل " مسألة الإيمان " هل هو مخلوق أو غير مخلوق ؟ و " مسألة نور الإيمان " و " الهدى " ونحو ذلك من المسائل التي يكثر تنازع أهل الحديث والسنة فيها ويتمسك كل فريق ببعض من الحق فيصيرون بمنزلة الذين أوتوا نصيبا من الكتاب مختلفين في الكتاب كل منهم بمنزلة الذي يؤمن ببعض ويكفر ببعض وهم عامتهم في جهل وظلم : جهل بحقيقة الإيمان والحق

وظلم الخلق ويقع بسببها بين الأمة من التكفير والتلاعن ما يفرح به الشيطان ويغضب له الرحمن ويدخل به من فعل ذلك فيما نهى الله عنه من التفرق والاختلاف ويخرج عما أمر الله به من الاجتماع والائتلاف . وأصل ذلك القرب والاتصال الحاصل بين ما أنزله الله تعالى من القرآن والإيمان الذي هو من صفاته وبين أفعال العباد وصفاتهم ؛ فلعسر الفرق والتمييز يميل قوم إلى زيادة في الإثبات . وآخرون إلى زيادة في النفي ؛ ولهذا كان مذهب الإمام أحمد والأئمة الكبار : النهي عن الإثبات العام والنفي العام ؛ بل إما الإمساك عنهما - وهو الأصلح للعموم وهو جمل الاعتقاد . وأما التفصيل المحقق فهو لذي العلم من أهل الإيمان كما أن الأول لعموم أهل الإيمان . وهذه المسألة لها أصلان . ( أحدهما أن " أفعال العباد مخلوقة " وقد نص عليها الأئمة أحمد وغيره وسائر أئمة أهل السنة والجماعة المخالفين للقدرية واتفقت الأمة على أن أفعال العباد محدثة . و ( الأصل الثاني مسألة " تلاوة القرآن وقراءته واللفظ به " هل يقال إنه مخلوق أو غير مخلوق ؟ والإمام أحمد قد نص على رد المقالتين هو وسائر أئمة السنة من المستقدمين والمستأخرين ؛ لكن كان رده على " اللفظية النافية " أكثر وأشهر وأغلظ لوجهين . ( أحدهما أن قولهم يفضي إلى زيادة التعطيل والنفي وجانب النفي - أبدا - شر من جانب الإثبات ؛ فإن الرسل جاءوا بالإثبات المفصل في صفات الله وبالنفي المجمل : فوصفوه بالعلم والرحمة والقدرة والحكمة والكلام والعلو وغير ذلك من الصفات وفي النفي : { ليس كمثله شيء } { ولم يكن له كفوا أحد } . وأما الخارجون عن حقيقة الرسالة : من الصابئة والفلاسفة والمشركين وغيرهم ومن تجهم من أتباع الأنبياء فطريقتهم " النفي المفصل " ليس كذا ليس كذا وفي الإثبات أمر مجمل ولهذا يقال : المعطل أعمى والمشبه أعشى . فأهل التشبيه مع ضلالهم خير من أهل التعطيل . ( الوجه الثاني أن أحمد إنما ابتلي

بالجهمية المعطلة فهم خصومه فكان همه منصرفا إلى رد مقالاتهم ؛ دون أهل الإثبات ؛ فإنه لم يكن في ذلك الوقت والمكان من هو داع إلى زيادة في الإثبات ؛ كما ظهر من كان يدعو إلى زيادة في النفي . والإنكار يقع بحسب الحاجة والبخاري لما ابتلي " باللفظية المثبتة " ظهر إنكاره عليهم كما في تراجم آخر " كتاب الصحيح " وكما في " كتاب خلق الأفعال " مع أنه كذب من نقل عنه أنه قال : لفظي بالقرآن مخلوق من جميع أهل الأمصار وأظنه حلف على ذلك وهو الصادق البار . فصل وقد نص أحمد على نفس هذه " المسألة " في غير موضع فروى أبو القاسم اللالكائي في " أصول السنة " قال : أخبرنا الحسن بن عثمان قال حدثنا عمرو بن جعفر قال ؛ حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال : قلت لأحمد بن حنبل : إن الناس قد وقعوا في القرآن فكيف أقول ؟ فقال أليس أنت مخلوقا ؟ قلت : نعم قال : فكلامك منك مخلوق ؟ قلت : نعم قال : أفليس القرآن من كلام الله ؟ قلت : نعم قال : وكلام الله من الله ؟ قلت : نعم قال : فيكون من الله شيء مخلوق . بين أحمد للسائل : أن الكلام من المتكلم وقائم به ؛ لا يجوز أن يكون الكلام غير متصل بالمتكلم ولا قائم به ؛ بدليل أن كلامك أيها المخلوق منك ؛ لا من غيرك فإذا كنت أنت مخلوقا وجب أن يكون كلامك أيضا مخلوقا وإذا كان الله تعالى غير مخلوق امتنع أن يكون ما هو منه وبه مخلوقا . وقصده بذلك الرد على " الجهمية " الذين يزعمون أن كلام الله ليس من الله ولا متصل به . فبين أن هذا الكلام ليس هو معنى كون المتكلم متكلما ولا هو حقيقة ذلك ولا هو مراد الرسل والمؤمنين من الإخبار عن أن الله قال ويقول وتكلم بالقرآن ونادى وناجى ودعا ونحو ذلك مما أخبرت به عن الله رسله واتفق عليه المؤمنون به من جميع الأمم ؛ ولهذا قال تعالى : { ولكن حق القول مني } وقال : { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } وقال تعالى : { وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم } وقال تعالى :

{ الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } . وليس القرآن عينا من الأعيان القائمة بنفسها حتى يقال : هذا مثل قوله : { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه } وإنما هو صفة كالعلم والقدرة والرحمة والغضب والإرادة والنظر والسمع ونحو ذلك ؛ وذلك لا يقوم إلا بموصوف وكل معنى له اسم وهو قائم بمحل وجب أن يشتق لمحله منه اسم وأن لا يشتق لغير محله منه اسم . فكما أن الحياة والعلم والقدرة إذا قام بموصوف وجب أن يشتق له منه اسم الحي والعالم والقادر ؛ ولا يشتق الحي والعالم والقادر لغير من قام به العلم والقدرة فكذلك القول والكلام والحب والبغض والرضا والرحمة والغضب والإرادة والمشيئة إذا قام بمحل وجب أن يشتق لذلك الموصوف منه الاسم والفعل فيقال : هو الصادق والشهيد والحكيم والودود والرحيم والآمر ولا يشتق لغيره منه اسم . فلو لم يكن الله سبحانه وتعالى هو القائل بنفسه : { أنا الله لا إله إلا أنا } بل أحدث ذلك في غيره لم يكن هو الآمر بهذه الأمور ولا المخبر بهذا الخبر ولكان ذلك المحل هو الآمر بهذا الأمر المخبر بهذا الخبر وذلك المحل : إما الهواء وإما غيره فيكون ذلك المحل المخلوق هو القائل لموسى : { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } ولهذا كان السلف يقولون في هذه الآية وأمثالها : من قال : إنه مخلوق فقد كفر . ويستعظمون القول بخلق هذه الآية وأمثالها أكثر من غيرها يعظم عليهم أن تقوم دعوى الإلهية والربوبية لغير الله تعالى . ولهذا كان مذهب جماهير " أهل السنة والمعرفة " - وهو المشهور عند أصحاب الإمام أحمد وأبي حنيفة وغيرهم : من المالكية والشافعية والصوفية وأهل الحديث وطوائف من أهل الكلام : من الكرامية وغيرهم - أن كون الله سبحانه وتعالى خالقا ورازقا ومحييا ومميتا وباعثا ووارثا وغير ذلك من صفات فعله وهو من صفات ذاته ؛ ليس من يخلق كمن لا يخلق ومذهب الجمهور أن الخلق غير المخلوق فالخلق فعل الله

القائم به والمخلوق هو المخلوقات المنفصلة عنه . وذهب طوائف من " أهل الكلام " من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم : من الفقهاء الحنبلية والشافعية والمالكية وغيرهم إلى أنه ليس لله صفة ذاتية من أفعاله وإنما الخلق هو المخلوق أو مجرد نسبة وإضافة وهذا اختيار ابن عقيل وأول قولي القاضي أبي يعلى وهؤلاء عندهم حال الذات التي تخلق وترزق أو لا تخلق ولا ترزق سواء . وبهذا نقضت المعتزلة على من ناظرها من الصفاتية الأشعرية ونحوهم ؛ لما استدلت الصفاتية بما تقدم من " القاعدة الشريفة " فقالوا : ينتقض عليكم بالخالق والرازق وغير ذلك من أسماء الأفعال ؛ فإن الخلق والرزق قائم بغيره وقد اشتق له منه اسم الخالق والرازق ؛ ولم يقم به صفة فعل أصلا فكذلك الصادق والحكيم والمتكلم والرحيم والودود وهذا النقض لا يلزم جماهير الأمة وعامة أهل السنة والجماعة ؛ فإن الباب عندهم واحد وليس هذا قولا بقدم مخلوقاته أو مفعولاته سواء قيل : أن نفس فعله القائم به قديم فقط كما يقوله كثير من هؤلاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وأهل الحديث والكلام والصوفية - أو يقولون له عند إحداث المخلوقات أحوال ونسب كما يقوله كثير من هؤلاء : الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وأهل الكلام من الطوائف كلها . وذلك لأن القول في ذلك كالقول في مشيئته وإرادته فإنه وإن كان مذهب أهل السنة وسائر الصفاتية أنها قديمة فليست مراداته قديمة وكذلك صفة الخلق والتكوين ؛ وذلك لأن الشرع والعقل يدل على أن حال الخالق والرازق الفاطر المحيي المميت الهادي النصير ليس حاله في نفسه كحاله لو لم يبدع هذه الأمور ؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى : { أفمن يخلق كمن لا يخلق } . فالفرق بين الخالق وغير الخالق كالفرق بين القادر وغير القادر . والمخالف يقول إنما هو موصوف بالقدوة التي تتناول ما يخلقه وما لا يخلقه سواء في نفسه كان خالقا أو لم يكن خالقا ليس له من كونه خالقا " صفة ثبوتية " لا صفة

كمال ولا صفة وجود مطلق كما له بكونه قادرا . ونصوص الكتاب والسنة توجب أن تكون أسماء أفعاله من أسمائه الحسنى التي تقتضي أن يكون بها محمودا مثنى عليه ممجدا ؛ وذلك يقتضي أنها من صفات الكمال وليس الغرض هنا ذكر هذه " المسألة " وإنما هي طرد حجة الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف الثقات وسائر الصفاتية ؛ ولهذا قال الإمام أحمد في رواية حنبل في " كتاب المحنة " : لم يزل الله عالما متكلما غفورا . فبين اتصافه بالعلم - وهو صفة ذاتية محضة - و " بالمغفرة " وهي من " الصفات الفعلية " والكلام الذي يشبه هذا وهذا وذكر أنه لم يزل متصفا بهذه الصفات والأسماء وقال الإمام أحمد فيما خرجه في " الرد على الزنادقة والجهمية " لما ذكر قول جهم : إنه يتكلم ؛ ولكن كلامه مخلوق . قال أحمد قلنا له : وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق ففي مذهبكم كان الله في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام وكذلك بنو آدم لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه وكذلك ذكروا في " المحنة " فيما استدل به الإمام أحمد في المناظرة واستدل بقوله : { ولكن حق القول مني } قال : فإن يكن القول من غير الله فهو مخلوق . فصل وأما قول القائل : إن أحمد إنما قال ذلك خوفا من الناس فبطلان هذا يعلمه كل عاقل بلغه شيء من أخبار أحمد وقائل هذا إلى العقوبة البليغة التي يفتري بها على الأئمة أحوج منه إلى جوابه ؛ فإن الإمام أحمد صار مثلا سائرا يضرب به المثل في المحنة والصبر على الحق وأنه لم تكن تأخذه في الله لومة لائم حتى صار اسم الإمام مقرونا باسمه في لسان كل أحد فيقال : قال الإمام أحمد . هذا مذهب الإمام أحمد . لقوله تعالى { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } فإنه أعطي من الصبر واليقين ما يستحق به الإمامة في الدين . وقد تداوله " ثلاثة خلفاء " مسلطون من شرق الأرض إلى غربها ومعهم من العلماء المتكلمين والقضاة والوزراء والسعاة

والأمراء والولاة من لا يحصيهم إلا الله . فبعضهم بالحبس وبعضهم بالتهديد الشديد بالقتل وبغيره وبالترغيب في الرياسة والمال ما شاء الله وبالضرب وبعضهم بالتشريد والنفي وقد خذله في ذلك عامة أهل الأرض - حتى أصحابه العلماء والصالحون والأبرار وهو مع ذلك لم يعطهم كلمة واحدة مما طلبوه منه وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة ولا كتم العلم ولا استعمل التقية ؛ بل قد أظهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره ودفع من البدع المخالفة لذلك ما لم يتأت مثله لعالم : من نظرائه وإخوانه المتقدمين والمتأخرين ؛ ولهذا قال بعض شيوخ الشام : لم يظهر أحد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما أظهره أحمد بن حنبل فكيف يظن به أنه كان يخاف في هذه الكلمة التي لا قدر لها ؟ و " أيضا " فمن أصوله أنه لا يقول في الدين قولا مبتدعا وقد جعلوا يطالبونه بما ابتدعوه فيقول لهم : كيف أقول ما لم يقل فكيف يكتم كلمة ما قالها أحد قبله من خلق الله . و " أيضا " فإن أحمد بن الحسن الترمذي من خواص أصحابه وأعيانهم فما الموجب لأن يستعمل التقية معه . و " أيضا " فلم يكن به حاجة إلى أن يقول : كلام الآدمي مخلوق وإنما هو ذكر ذلك مستدلا به ضاربا به المثل فكيف يبتدئ بكلام هو عنده باطل لم يسأله عنه أحد و " أيضا " فقد كان يسعه أن يسكت عن هذا ؛ فإن الإنسان إذا خاف من إظهار قول كتمه . أما إظهاره لقول لم يطلب منه وهو باطل عنده فهذا لا يفعله أقل الناس عقلا وعلما ودينا . فمن يسب " الإمام أحمد " الذي موقفه من الإسلام وأهله فوق ما يصفه الواصف ؛ ويعرفه العارف فقد استوجب من غليظ العقوبة ما يكون نكالا لكل مفتر كاذب راجم بالظن قاذف قائل على الله ورسوله والمؤمنين وأئمتهم ما لا يقوله العدو المنافق . و " أيضا " فقد ذكر ذلك فيما صنفه من " الرد على الزنادقة والجهمية " وهو في الحبس وكتبه بخطه ولم يكن ذلك مما أظهره لأعدائه : الذين يحتاج غيره إلى أن يستعمل

معهم التقية . وهذا القول أقبح من قول الروافض فيما ثبت عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه قاله وفعله على وجه التقية ؛ فإن الإمام أحمد صنف الرد عليهم وبين أنهم زنادقة فأي تقية تكون لهم مع هذا وهو يجاهدهم ببيانه وبنانه وقلمه ولسانه ؟
فصل شبهة هؤلاء أنهم وجدوا الناس قد تكلموا في " حروف المعجم " و " أسماء المخلوقات " . فإن المنتسبين إلى السنة تكلموا في حروف المعجم في غير القرآن والكتب الإلهية وقال طوائف منهم : كابن حامد وأبي نصر السجزي والقاضي في أشهر قوليه وابن عقيل وغيرهم : إنها مخلوقة وقالوا : الحروف حرفان . وقال طوائف وهم كثير من أهل الشام والعراق وخراسان : كالقاضي يعقوب البرزيني والشريف أبي الفضائل الزيدي الحراني ويروى ذلك عن الشيخ أبي الحسين بن سمعون وهو قول القاضي أبي الحسين وحكاه عن أبيه في آخر قوليه وهو قول الشيخ أبي الفرج الأنصاري والشيخ عبد القادر وابن الزاغوني وغيرهم : الحرف حرف واحد وحروف المعجم غير مخلوقة حيث تصرفت ؛ لأنها من كلام الله وحقيقة الحرف واحدة لا تختلف . وقد نقل عن الإمام أحمد رضي الله عنه الإنكار على من قال : بخلق الحروف وإنه لما حكي له أن بعض الناس قال : لما خلق الله الحروف سجدت له إلا الألف فقال الإمام أحمد : هذا كفر . وروي إنكار ذلك عن غيره من الأئمة . والأولون لا ينازعون في هذا ؛ فإنهم ينكرون على من يقول : إن الحروف مخلوقة ؛ فإنه إذا قال ذلك دخل فيه حروف كلام الله تعالى من القرآن وغيره وهم يخصون الكلام في الحروف الموجودة في كلام المخلوق دون الحروف الموجودة في كلام الله ويقولون : حقيقة الحروف والاسم وإن كانت واحدة فذلك بمنزلة كلمات موجودة في القرآن وقد تكلم بها بعض المخلوقين . فالمتكلم تارة يقصد أن يتكلم بكلام غيره وإن وافقه في لفظه بالنسبة إلينا وهذا لا يتأتى إلا في الشيء اليسير وهو ما دون السورة القصيرة ؛ فإن الله قد تحدى الخلق أن يأتوا بسورة

مثله وأخبر أنهم لن يفعلوا . قال الأولون : فموافقة لفظ الكلام للفظ الكلام لا يوجب أن يكون لأحدهما حكم الآخر في النسبة إلى المتكلم المخلوق ؛ بحيث ينسب أحدهما إلى من ينسب إليه الآخر فكيف بالنسبة إلى الخالق ؟ بل { لما كتب مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب } كان اللفظ برسول الله من المتكلمين سواء : من أحدهما صدق - ومن أعظم الصدق - ومن الآخر كذب - ومن أقبح الكذب . وقد ذكر الله عن الكفار مقالات سوء في كتابه مثل قولهم : { اتخذ الله ولدا } { ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا } وقولهم : { عزير ابن الله } و { المسيح ابن الله } وغير ذلك من الأقوال الباطلة وقد حكاها الله عنهم فإذا تكلمنا بما حكاه الله عنهم كنا متكلمين بكلام الله ولو حكيناها عنهم ابتداء لكنا قد حكينا كلامهم الكذب المذموم . ولهذا قال الفقهاء : من ذكر الله أو دعاه جاز له ذلك مع الجنابة وإن وافق لفظ القرآن إذا لم يقصد القراءة . وقالوا : لو تكلم بلفظ القرآن في الصلاة يقصد مجرد خطاب الآدمي بطلت صلاته ؛ لأن ذلك من كلام الآدميين والصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين وإن قصد مع تنبيه الغير القراءة صحت صلاته عند الجمهور كما لو لم يقصد إلا القراءة . وعند بعضهم تبطل كقول أبي حنيفة . ومن هذا الباب مسألة الفتح على الإمام وتنبيه الداخل بآية من القرآن وغير ذلك . وسبب ذلك أن معنى الكلام داخل في مسماه ليس هو اسما لمجرد اللفظ والمعنى : هو إنشاء وإخبار والإنشاء فيه الأمر والنهي ومعلوم أن أمر زيد ليس هو أمر عمرو ولا حكمه حكمه وإن اتفق اللفظ وكذلك اختيار زيد ليس هو اختيار عمرو ولا حكمه حكمه وإن اتفق اللفظ . فالآمر المطاع الحكيم إذا أمر بأمر كان له حكم خلاف ما إذا أمر به الجاهل العاجز وإن

اتفق لفظهما وكذلك الشاهد العالم الصادق إذا أخبر بخبر كان حكمه خلاف ما إذا أخبر به الجاهل الكاذب وإن اتفق لفظهما . وإذا كان كذلك فمن أدخل في كلام له بعض لفظ أدخله غيره في كلامه لم يوجب ذلك أن يكون هذا اللفظ من كلام ذلك المتكلم وإن كان أحد اللفظين شبيها بالآخر وهو بمنزلة من كتب حروفا تشبه حروف المصحف كتبها كلاما آخر لم يكن ذلك مما يوجب أن يكون من حروف المصحف . وقال الآخرون مجرد الموافقة في اللفظ لا يوجب أن يجعل حكم أحد اللفظين حكم الآخر لكن إذا كان أحدهما أصلا سابقا إلى ذلك الكلام والآخر إنما احتذى فيه حذوه ومثاله : كان اللفظ والكلام منسوبا إلى الأول ؛ بمنزلة من تمثل بقول لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل أو بقوله : ويأتيك بالأخبار من لم تزود أو بمثل من الأمثال السائرة كقوله : " عسى الغوير أبؤسا " و " يداك أوكتا وفوك نفخ " وكل الصيد في جوف الفرا " ونحو ذلك . فهذا الكلام هو تكلم به في المعنى الذي أراده ؛ لا على سبيل التبليغ عن غيره ومع هذا فهو منسوب إلى قائله الأول فهكذا الحروف الموجودة في كلام الله وإن أدخلها الناس في كلامهم الذي هو كلامهم فأصلها مأخوذ من كلام الله تعالى . قال الأولون : هنا مقامان . ( أحدهما : أن كل من أنطقه الله بهذه الحروف فإنما كان ذلك بطريق الاستفادة من كلام الله أو ممن استفادها من كلام الله . وهذه الدعوى العامة تحتاج إلى دليل ؛ فإن تعليم الله لآدم الأسماء أو إنزاله كتبه بهذه الحروف لا يوجب أن يكون لم ينطق غير آدم ممن لم يسمع الكتب المنزلة بهذه الحروف كما كانت العرب تنطق بهذه الحروف والأسماء قبل نزول القرآن والله تعالى أنزله بلسانهم الذي كانوا يتكلمون به قبل نزول القرآن . ( المقام الثاني : أنه لو لم يكن أحد نطق بها إلا مستفيدا لها من كلام الله ؛ لكن إذا أنشأ بها كلاما لنفسه ولم يقصد بها قراءة كلام الله لم تكن في هذه الحال من كلام الله كما لو فعل ذلك في

بعض الجمل المركبة وأولى . ويدل على ذلك الأحكام الشرعية . قال الآخرون - القائلون بأن حروف المعجم غير مخلوقة مطلقا - لنا في الأسماء الموجودة في غير القرآن قولان . منهم من يقول بأن جميع الأسماء غير مخلوقة كما يقول ذلك في الحروف . ومنهم من لا يقول ذلك وقد حكى القولين ابن حامد وغيره عمن ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد وغيره من القائلين بأن حروف المعجم غير مخلوقة فمن عمم ذلك استدل بقوله تعالى : { وعلم آدم الأسماء كلها } وهذه الحجة مبنية على مقدمتين . ( إحداهما أن مبدأ اللغات توقيفية وأن المراد بالتوقيف خطاب الله بها لا تعريفه بعلم ضروري وهذا الموضع قد تنازع فيه الناس من أصحاب الإمام أحمد وسائر الفقهاء وأهل الحديث والأصول . فقال قوم : إنها توقيفية وهو قول أبي بكر عبد العزيز والشيخ أبي محمد المقدسي وطوائف من أصحاب الإمام أحمد ؛ وهو قول الأشعري وابن فورك وغيرهما . وقال قوم : بعضها توقيفي وبعضها اصطلاحي . وهذا قول طوائف : منهم ابن عقيل وغيره . وقال قوم : يجوز فيها هذا وهذا ولا نجزم بشيء . وهذا قول القاضي أبي يعلى والقاضي أبي بكر بن الباقلاني وغيرهما . ولم يقل : إنها كلها اصطلاحية إلا طوائف من المعتزلة ومن اتبعهم - ورأس هذه المقالة أبو هاشم ابن الجبائي . والذين قالوا إنها " توقيفية " تنازعوا : هل التوقيف بالخطاب أو بتعريف ضروري أو كليهما ؟ فمن قال : إنها توقيفية وإن التوقيف بالخطاب فإنه ينبني على ذلك أن يقال : إنها غير مخلوقة ؛ لأنها كلها من كلام الله تعالى ؛ لكن نحن نعلم قطعا أن في أسماء الأعلام ما هو مرتجل وضعه الناس ابتداء فيكون التردد في أسماء الأجناس . و " أيضا " فإن تعليم الله لآدم بالخطاب لا يوجب بقاء تلك الأسماء بألفاظها في ذريته ؛ بل المأثور أن أهل سفينة نوح لما خرجوا من السفينة أعطي كل قوم لغة وتبلبلت ألسنتهم . وهذه المسألة فيها تجاذب والنزاع فيها بين أصحابنا وسائر أهل السنة

يعود إلى نزاع لفظي فيما يتحقق فيه النزاع وليس بينهم والحمد لله خلاف محقق معنوي . وذلك أن الذي قال الحرف حرف واحد وإن حروف المعجم ليست مخلوقة ؛ إنما مقصوده بذلك أنها داخلة في كلام الله وأنها منتزعة من كلام الله وأنها مادة لفظ كلام الله وذلك غير مخلوق وهذا لا نزاع فيه . فأما حرف مجرد فلا يوجد لا في القرآن ولا في غيره ولا ينطق بالحرف إلا في ضمن ما يأتلف من الأسماء والأفعال وحروف المعاني وأما الحروف التي ينطق بها مفردة مثل : ألف لام ميم ونحو ذلك فهذه في الحقيقة أسماء الحروف وإنما سميت حروفا باسم مسماها كما يسمى ضرب فعل ماض باعتبار مسماه ؛ ولهذا لما سأل الخليل أصحابه كيف تنطقون بالزاء من زيد ؟ قالوا : نقول " زا " قال : جئتم بالاسم ؛ وإنما يقال " زه " . وليس في القرآن من حروف الهجاء - التي هي أسماء الحروف - إلا نصفها وهي أربعة عشر حرفا وهي نصف أجناس الحروف : نصف المجهورة و المهموسة والمستعلية والمطبقة والشديدة والرخوة وغير ذلك من أجناس الحروف . وهو أشرف النصفين . والنصف الآخر لا يوجد في القرآن إلا في ضمن الأسماء أو الأفعال أو حروف المعاني - التي ليست باسم ولا فعل . فلا يجوز أن نعتقد أن حروف المعجم بأسمائها جميعها موجودة في القرآن ؛ لكن نفس حروف المعجم التي هي أبعاض الكلام موجودة في القرآن ؛ بل قد اجتمعت في آيتين : " إحداهما " في آل عمران و " الثانية " في سورة الفتح : { ثم أنزل عليكم من بعد الغم } الآية و { محمد رسول الله } الآية . وإذا كان كذلك فمن تكلم بكلام آخر مؤلف من حروف الهجاء فلم ينطق بنفس الحروف التي في لفظ القرآن وإنما نطق بمثلها وذلك الذي نطق به قد يكون هو أخذه وإذا ابتدأ من لفظ كلام الله تعالى وقد لا يكون حقيقة . قيل : الحرف من حيث هو هو شيء واحد له الحقيقة المطلقة التي لا تأليف فيها لا توجد لا في كلام الله تعالى ولا في كلام عباده وإنما الموجود الحرف الذي هو جزء من

اللفظ أو اسمه إذا لم يوجد إلا حرف ؛ ولكن هذا المطلق ؛ بل الأعيان الموجودة في الخارج قائمة بأنفسها كالإنسان لا يوجد مجردا عن الأعيان في الأعيان لا يوجد مجردا عن الأعيان إلا في الذهن لا في الخارج فكيف بالحرف الذي لا يوجد في الخارج إلا مؤلفا فلو قدر أنه يوجد في الخارج غير مؤلف متعدد الأعيان كما يوجد الإنسان لم تكن حقيقته المطلقة من حيث هي هي موجودة إلا في الأذهان لا في الأعيان . فتبين أن الحروف تختلف أحكامها باختلاف معانيها واختلاف المتكلم بها وهذا أوجب تعظيم حروف القرآن المنطوقة والمسطورة وكان لها من الأحكام الشرعية ما امتازت به عما سواها واختلاف الأحكام إنما كان لاختلاف صفاتها وأحوالها . فتبين أن الواجب أن يقال ما قاله الأئمة كأحمد وغيره : إن كلام الإنسان كله مخلوق حروفه ومعانيه والقرآن غير مخلوق حروفه ومعانيه . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { يقول الله : أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته } " وروى الربيع بن أنس عن { المسيح أنه قال : عجبا لهم كيف يكفرون به وهم يتقلبون في نعمائه ويتكلمون بأسمائه } . وذكر في معظم حروف المعجم أنها مباني أسماء الله الحسنى وكتبه المنزلة من السماء وهذا مما يحتج به من قال : ليست مخلوقة وليس بحجة ؛ فإن أسماء الله من كلامه وكلامه غير مخلوق وما اشتقه هو من أسمائه فتكلم به فكلامه به غير مخلوق وأما إذا اشتقوا اسما أحدثوه فذلك الاسم هم أحدثوه ولا يلزم إذا كان المشتق منه غير مخلوق أن يكون المشتق كذلك . وما يروى عن المسيح فلا يعرف ثبوته عنه وبتقدير ثبوته فإذا كان قد ألهم عباده أن يتكلموا بالحروف التي هي مباني أسمائه التي تكلم بها لم يلزم أن يكون ما أحدثوه هم غير مخلوق . " وبالجملة " فمن نظر إلى أن حقيقة الحرف التي لا تختلف موجودة في كلام الله وكلام الله غير مخلوق قال إنها مخلوقة إشارة إلى نفس

حقيقة الحرف ؛ لا إلى عين جزء اللفظ الذي به ينطق الكفار والمشركون ؛ فإن ذلك الحرف الذي هو صوت لمقدر أو تقدير صوت قائم بالكافر والمشرك لا يقول عاقل : إنه غير مخلوق ؛ مع أنه ليس مضافا إلى الله بوجه من الوجوه وإنما يضاف إلى الله ما شاركه في اسمه مما كان متعلقا بالمعنى المضاف إلى الله . وهذا بخلاف الحروف التي في كلام الله ؛ فإن تلك كلام الله كيف ما تصرفت ونحن لما يسر الله كلامه بألسنتنا أمكننا أن نتكلم بكلامه ؛ لكن بأدواتنا وأصواتنا ؛ وليس تكلمنا به وسمعه منا كتكلم الله به وسمعه منه كما تقدمت الإشارة إلى هذا كما أن الله ليس كمثله شيء فكذلك سائر ما يضاف إليه ؛ ولكن لما أنطقنا الله بأدواتنا وحركاتنا وأصواتنا صار بين بعض لفظنا به ولفظنا بغيره نوع من الشبه ؛ فإذا تكلمنا بكلام آخر فهو يشبه من بعض الوجوه لفظنا وصوتنا بالقرآن لا يشبه تكلم الله به وقراءته إياه فإذا كان وجود هذه الحروف في كلام الآدميين ليس بمنزلة تكلم الله بالقرآن وإنما يشبه من بعض الوجوه تكلمنا به من جهة ما يضاف إلينا لا من جهة ما يضاف إلى الله امتنع حينئذ أن يقال : عين الحرف الذي هو جزء لفظة من الاسم الذي ينطق به الناس هو عين الحرف الذي هو جزء لفظ من كلام الله تعالى وإنما يشبهه ويقاربه فهو هو باعتبار النوع ؛ وليس هو إياه باعتبار العين والشخص خلاف حروف كلام الله القرآن ؛ فإنها كلام الله حيث تصرفت وفيها دقة وشبهة أشرنا إليها في هذا الجواب وشرحناها في موضعها . فمن قال : إن الحروف حرفان أراد به أنهما عينان وشخصان وهذا حق . ومن قال : الحرف حرف واحد أراد به : أن الحقيقة النوعية واحدة في الموضعين وهذا حق . ومن قال : إن حروف الهجاء من كلام الآدميين غير مخلوقة فقد صدق باعتبار الحقيقة النوعية . ومن قال : إنها مخلوقة باعتبار العين الشخصية فقد صدق . ونظير هذا كثير يوجد في كلام أهل العلم وأهل السنة من النفي والإثبات ويكون النزاع

في معنيين متنوعين نزاعا لفظيا اعتباريا وقد قال بعض الفضلاء : أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء ؛ لكن وقوع الاشتراك والإجمال يضل به كثير من الخلق كما يهتدي به كثير من الخلق وهو سبب ضلال هؤلاء الجهال المسئول عنهم فإن حجتهم : أن الله علم آدم الأسماء كلها وعلمه البيان وهو مبني على أن " اللغات توقيفية " كقول كثير من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم : كأبي بكر عبد العزيز وأبي محمد المقدسي وهو قول الأشعري وابن فورك وغيرهما . لكن " التوقيف " هل المراد به التكليم أو التعريف أو كلاهما ؟ هذا فيه نزاع أيضا كما تقدم . فالذين قالوا : إنها غير مخلوقة يقولون : إنها " توقيفية " وإن التعليم هو بالخطاب فيكون الله قد تكلم بالأسماء كلها وكلام الله غير مخلوق . قال هؤلاء الجهال الضالون : وكلام الآدميين ليس إلا ما يأتلف من الحروف والأسماء وتلك غير مخلوقة . فهذا أيضا غير مخلوق . فبنوا قولهم على أن حروف المعجم غير مخلوقة وأن الأسماء المؤلفة من الحروف غير مخلوقة واعتقدوا مع ذلك أن كلام الآدميين ليس إلا ما يأتلف من الأسماء والحروف وتلك غير مخلوقة فقالوا : كلام الآدميين غير مخلوق ؛ لأن مفرداته غير مخلوقة . وإذا ضويقوا . فقد يقولون النظم والتأليف مخلوق وأما نفس المنظوم المؤلف فهو قديم ثم يحسبون أن المواد المنظومة المؤلفة هي أدخل في الكلام من نفس التأليف والنظم كما أن أجزاء البيت هي أدخل في مسماه من تأليفه وإن كان البيت اسما للأجزاء ولتأليفها . وربما طرد بعضهم هذه " المقالة " في سائر أصوات الآدميين . ولما ألزمهم من خاطبهم بأصوات العباد ؛ التي ليست بكلام طرد بعضهم ذلك في الأصوات ثم طرد ذلك في أصوات البهائم : من الحمير وغيرها ويلزمهم طرد ذلك في جميع الأصوات حتى أصوات العيدان والمزامير ؛ إذ لا فرق بينها وبين أصوات البهائم . واعلم أن الجهالة إذا انتهت إلى هذا الحد صارت بمنزلة من يقول : إن الوتد والحائط

والعجل الذي يعمل منه الجلد كلام الله أو يقول : إن يزيد بن معاوية كان من الأنبياء الكبار أو يقول : إن الله ينزل عشية عرفة على جمل أورق يعانق المشاة ويصافح الركبان أو يقول : إن أبا بكر وعمر ليسا مدفونين بالحجرة أو أنهما فرعون وهامان وأنهما كانا كافرين عدوين للنبي صلى الله عليه وسلم مثل أبي جهل وأبي لهب أو يقول : إن علي بن أبي طالب هو العلي الأعلى رب السموات والأرض أو يقول : إن الذي صفعته اليهود وصلبته ووضعت الشوك على رأسه هو الذي خلق السموات والأرض وإن اليدين المسمرتين هما اللتان خلقتا السموات والأرض أو يقول : إن الله قعد في بيت المقدس يبكي وينوح حتى جاء بعض مشايخ اليهود فبرك عليه أو أنه بكى حتى رمدت عيناه وعادته الملائكة وأنه ندم على الطوفان وعض يديه من الندم حتى جرى الدم أو يقول : إن الشيخ فلانا والشيخ فلانا يخلق ويرزق وكل رزق لا يرزقنيه ما أريده أو يقول إن عليا هو الذي كان يعلم القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم أو يقول : إن صانع العالم لما صنعه غلبت عليه الطبيعة حتى أهلك نفسه أو يقول : إن وجوده ووجود هذا وهذا هو عين وجود الحق وإن الله هو عين السموات والأرض والنبات والحيوان وأن كل صوت ونطق في العالم فهو صوته وكلامه وكل حركة في العالم وسكون فهو حركته وسكونه وإن الحق المنزه هو الخلق المشبه وإنه لو زالت السموات والأرض لزالت حقيقة الله وإنه من حيث ذاته لا اسم له ولا صفة وإنه لا وجود له إلا في الأعيان الممكنات وإنه الوجود المطلق الساري في المخلوقات : الذي لا يتميز ولا ينفصل عن المخلوقات . إلى أمثال هذه المقالات التي يقولها الغلاة من المشركين والكتابيين . ومن أشبههم من غالية هذه الأمة . فإن المنتسبين إلى السنة والحديث - وإن كانوا أصلح من غيرهم من أشباههم فالسنة في الإسلام كالإسلام في الملل كما أنه يوجد في المنتسبين إلى الإسلام ما يوجد في غيرهم وإن كان كل خير في غير المسلمين فهو في

المسلمين أكثر وكل شر في المسلمين فهو في غيرهم أكثر فكذلك المنتسبة إلى السنة - قد يوجد فيهم ما يوجد في غيرهم وإن كان كل خير في غير أهل السنة فهو فيهم أكثر وكل شر فيهم فهو في غيرهم أكثر ؛ إذ قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لتتبعن سنن من كان قبلكم : حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه . قالوا : اليهود والنصارى ؟ قال : فمن } ؟ " وقال : " { لتأخذن مآخذ الأمم قبلكم : شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا : فارس والروم ؟ قال : ومن الناس إلا هؤلاء } " . وإزالة شبهة هؤلاء تحتاج إلى الكلام في " الحروف والأسماء " هل هي مخلوقة أم غير مخلوقة وإن كنا قد أشرنا إلى ذلك ؛ بل نتكلم على تقدير أنها غير مخلوقة ونقول مع هذا : يجب القطع بأن كلام الآدميين مخلوق ويطلق القول بذلك إطلاقا لا يحتاج إلى تفصيل : بأن يقال نظمه وتأليفه مخلوق وحروفه وأسماؤه غير مخلوقة أو تركيبه مخلوق ومفرداته غير مخلوقة فإن هذا التفصيل لا يحتاج إليه . وذلك لأن كلام المتكلم هو عبارة عن ألفاظه ومعانيه كما قدمناه ليس الكلام اسما لمجرد الألفاظ ولا لمجرد المعاني . وعامة ما يوجد في الكتاب والسنة وكلام السلف والأئمة ؛ بل وسائر الأمم عربهم وعجمهم من لفظا الكلام والقول وهذا كلام فلان أو كلام فلان ؛ فإنه عند إطلاقه يتناول اللفظ والمعنى جميعا لشموله لهما ؛ ليس حقيقة في اللفظ فقط كما يقوله قوم ؛ ولا في المعنى فقط كما يقوله قوم . ولا مشترك بينهما كما يقوله قوم . ولا مشترك في كلام الآدميين وحقيقة في المعنى في كلام الله كما يقوله قوم . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم " { إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به } " { وقول معاذ له : وإنا لمؤاخذون بما نتكلم ؟ فقال : ثكلتك أمك يا معاذ ؛ وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم } " وقوله : " { كلمتان ثقيلتان في الميزان خفيفتان على اللسان

حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم } " وقوله : " { إن أصدق كلمة قالها الشاعر : كلمة لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل } وقوله : " { إني لأعلم كلمة لا يقولها أحد عند الموت إلا وجد روحه لها روحا . فمن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة } " وما في القرآن : مثل قوله : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } وقوله : { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى } ونحو ذلك من أسماء القول والكلام جميعا ونحوهما فإنه يدخل فيه اللفظ والمعنى جميعا عند الإطلاق . وإذا كان كذلك فالمتكلم بالكلام المبتدئ له سواء كان نظما أو نثرا لا ريب أنه هو الذي ألف معانيه وألف ألفاظه ؛ وأما مفردات " الأسماء والحروف " فلا ريب أنه تعلمها من غيره سواء كانت مخلوقة أو غير مخلوقة ؛ فإن " اللغات " سابقة لكلام عامة المتكلمين ونطق الناطقين من البشر وهم تلقوا الأسماء وحروف الأسماء الموجودة في لغاتهم عمن قبلهم إلى أن ينتهي الأمر إلى أول متكلم بتلك الأسماء المفردة . ثم أنه مما علم بالاضطرار واتفق عليه أهل الأرض جميعهم : أن الكلام هو كلام من ألف معانيه وألفاظه وإن كان جميع ما فيه من الأسماء والحروف إنما تعلمها من غيره فالناس مطبقون على أن هذه القصائد كلام منشئيها : مثل شعر امرئ القيس والنابغة الذبياني : كقوله : قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل فجميع الأمم يعلمون ويقولون إن هذا شعر امرئ القيس وكلامه وإن كانت الأسماء المفردة فيه إنما تعلمها من غيره ؛ فإن العرب نطقت قبله بلفظ " قفا " وبلفظ " نبك " وبلفظ " من ذكرى " " حبيب " " ومنزل " وجميع المسلمين إذا سمعوا قوله صلى الله عليه وسلم " { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى } " أو " { ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما

يكره أن يلقى في النار } " وقوله : " { من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار } " قالوا : هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا حديثه وهذا قوله مع علمهم أن جميع مفردات هذا الكلام قد كانت موجودة في كلام العرب قبله : مثل لفظ " إنما " ولفظ " الأعمال " ولفظ " النية " و " النيات " ولفظ " كل امرئ " ولفظ " ما نوى " وغير ذلك . وهكذا كلام الصحابة والتابعين وكلام مصنفي الكتب والرسائل والخطب كلهم يقول : هذه الرسالة كلام فلان وهذه الخطبة كلام فلان وهذه المسألة من كلام فلان مع علمهم بأنه مسبوق بمفردات الكلام : أسمائه وحروف هجائه وذلك لأن الكلام لم يكن كلاما باعتبار الألفاظ المفردة ولا باعتبار أجزائها - وهي حروف الهجاء - ولا كان المقصود بوضع اللفظ للمعنى الدلالة على المعاني المفردة فإن المعاني المفردة لا يعلم وضع اللفظ لها إلا بعد العلم بها فلو كان العلم بها لا يستفاد إلا من اللفظ لزم الدور . ولهذا يقول أهل العربية - وهم أخبر بمشبهات الألفاظ من غيرهم - : إن اسم الكلام لا يقال إلا على الجملة المفيدة كالمركبة من اسمين أو اسم وفعل . وقد ذكر ذلك " سيبويه " حكيم لسان العرب في ( باب الحكاية بالقول حيث ذكر أن القول يحكى به ما كان كلاما ولا يحكى به ما كان قولا والقول إنما تحكى به الجمل المفيدة . فعلم أنها هي الكلام في لغة العرب . وحيث أطلق الفقهاء اسم " الكلام " على حرفين فصاعدا في ( باب الصلاة فإنما غرضهم ما يبطل الصلاة سواء كان مفيدا أو غير مفيد وموضوعا أو مهملا حتى لو صوت تصويتا طويلا ولحن لحون الغناء أبطل الصلاة وإن لم يكن ذلك في اللغة كلاما . وهم فيما إذا حلف لا يتكلم أو ليتكلمن لا يعلقون البر والحنث إلا بما هو في عرف الحالف كلام وإن كان أخص من الكلام الذي يبطل الصلاة ولهذا لو حلف لا يتكلم وأطلق يمينه حنث بكلام المخلوقين وهل يحنث بتكلمه بالقرآن ؟ من العلماء من قال : لا يحنث بحال .

ومنهم من قال : لا يحنث بتلاوته في الصلاة . ومنهم من توقف ؛ لأن اليمين مرجعها إلى عرف الحالف فعموم اسم الكلام وخصوصه عندهم بحسب الأحكام المتعلقة به . والسلف إذا ذموا أهل الكلام وقالوا : علماء الكلام زنادقة وما ارتدى أحد بالكلام فأفلح فلم يريدوا به مطلق الكلام وإنما هو حقيقة عرفية فيمن يتكلم في الدين بغير طريقة المرسلين . والخائضون في " أصول الفقه " وإن قالوا : إن الكلام ما تألف من حرفين فصاعدا أو ما انتظم من " الحروف " وهي الأصوات المقطعة المتواضع عليها . وتنازعوا في الحرف الواحد المؤلف مع غيره هل يسمى كلاما ؟ على قولين ؛ كما قال أكثر متكلميهم : إن الجسم هو المؤلف وأقل التركيب من جوهرين وتنازعوا في الجوهر الواحد المؤلف هل يسمى جسما ؟ على قولين ؛ فهذا اصطلاح خاص لهم . كما اصطلح ( النحاة على أن ( المفرد مثل الاسم وحرف المعنى يسمى كلمة وإن كانت الكلمة في لغة العرب العرباء لا توجد إلا اسما للجملة التامة إلا أن يكون شيئا لا يحضرني الآن . وإذا كان الناس متفقين على أن الكلام هو كلام من ألف ألفاظه ومعانيه وإن كان قد تعلم أسماءه من غيره زالت كل شبهة في المسألة ووجب إطلاق القول بأن كلام الآدميين مخلوق كما يطلق القول بأن هذا الشعر من كلام فلان وهذا الكلام كلام فلان ؛ لا كلام الذين تكلموا قبلهم بتلك الأسماء وحروفها ؛ فإن كلام الآدميين هو الكلام الذين أنشئوه وابتدءوه فألفوا ألفاظه ومعانيه وإن كان بعضهم قد تعلم أسماءه وحروفه من بعض ولو كانت أسماؤه قد سمعوها من الله تعالى . واعلم أن هنا أمرا عجيبا وهو أن هؤلاء القوم ضد الذين يجعلون القرآن الذي يقرءونه كلام الآدميين لا كلام الله فإن أولئك عمدوا إلى كلام الله الذي يتلونه ويبلغونه ويؤدونه - فجعلوه كلام أنفسهم وهؤلاء عمدوا إلى كلامهم - المتضمن الكفر والفسوق والعصيان والكذب والبطلان - فجعلوه كلام الله الذي ليس بمخلوق . فأولئك لم ينظروا إلا إلى

من سمع منه الكلام وهؤلاء لم ينظروا إلا إلى من اعتقدوا أنه تكلم أولا بمفردات الكلام . وأما " الأمة الوسط " الباقون على الفطرة وجميع بني آدم فيقولون لما بلغه المبلغ عن غيره وأداه ولما قرأه من كلام غيره وتلاه . هذا كلام ذاك وإنما بلغت بقواك كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما خرج على قريش فقرأ عليهم : { الم } { غلبت الروم } { في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون } فقالوا : هذا كلامك أم كلام صاحبك ؟ فقال : ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ولكن كلام الله . وهذا كما قال الله تعالى : { فأجره حتى يسمع كلام الله } وفي سنن أبي داود عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم " { أنه كان يعرض نفسه على الناس في الموقف فيقول : ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي ؟ فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي } " فبين صلى الله عليه وسلم أنما يبلغه ويتلوه هو كلام الله لا كلامه وإن كان يبلغه بأفعاله وصوته كما قال : " { زينوا القرآن بأصواتكم } " وقال : { لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته } " . والأمم متفقون على هذا إذا سمعوا من يروي قصيدة من شعر مثل " قفا نبك " أو " هل غادر الشعراء " أو " خطبة " مثل خطب علي وزياد أو " رسالة " كرسالة عبد الحميد ونحوه أو سجعا من سجع الكهان أو قرآنا مفترى كقرآن مسيلمة الكذاب قالوا : هذا شعر امرئ القيس وكلام علي وكلام عبد الحميد وقرآن مسيلمة وهو كلامه ولم يجعلوه كلاما للمبلغ المؤدي بالواسطة وإن كان بلغه بفعله وصوته وإذا أنشأ رجل قصيدة أو خطبة أو رسالة أو سجعا أو تكلم بكلام منثور : آمرا أو مخبرا قالوا : هذا كلام فلان وقوله وإن كان قد تعلم مفرداته من غيره وتلقنها من أحد . فمن قال : إن الكلام هو كلام لمن تعلم منه المفردات فهو أبعد عن العقل والدين ممن قال : إن الكلام لمن بلغه وأداه وإنما الكلام كلام من اتصل به واتصف به وألفه وأنشأه وكان مخبرا

بخبره وآمرا بأمره وناهيا عن نهيه .
فصل وأما سؤال السائل : هل يجب على ولي الأمر زجرهم وردعهم ؟ فنعم يجب ذلك في هؤلاء وفي كل من أظهر مقالة تخالف الكتاب والسنة ؛ فإن ذلك من " المنكر " الذي أمر الله بالنهي عنه كما قال تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وهو من " الإثم " الذي قال الله فيه : { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت } . وكل من أثبت لله ما نفاه عن نفسه أو نفى عن الله ما أثبته لنفسه من المعطلة والممثلة فإنه قال على الله غير الحق وذلك مما زجر الله عنه بقوله للنصارى : { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق } وبقوله : { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل } وقال عن الشيطان : { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } وقال : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } . فإن من قال غير الحق فقد قال على الله ما لا يعلم ؛ فإن الباطل لا يعلم إلا إذا علم بطلانه فأما اعتقاد أنه الحق فهو جهل لا علم فمن قاله فقد قال ما لا يعلم وكذلك من تبع في هذه الأبواب وغيرها من أبواب الدين آباءه وأسلافه من غير اعتصام منه بالكتاب والسنة والإجماع فإنه ممن ذمه الله في كتابه : مثل قوله : { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون } وقوله : { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا } { وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا } { ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا } . وكذلك من اتبع

الظنون والأهواء معتقدا أنها " عقليات " و " ذوقيات " فهو ممن قال الله فيه : { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى } وإنما يفصل بين الناس فيما تنازعوا فيه الكتاب المنزل من السماء والرسول المؤيد بالأنباء كما قال تعالى : { ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين } وقال تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } وقال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } وقال تعالى : { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } بل على الناس أن يلتزموا الأصول الجامعة الكلية التي اتفق عليها سلف الأمة وأئمتها : فيؤمنون بما وصف الله به نفسه وبما وصفه به رسوله : من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل . وليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك ؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة .

فصل وأما تكفير قائل هذا القول فهو مبني على أصل لا بد من التنبيه عليه ؛ فإنه بسبب عدم ضبطه اضطربت الأمة اضطرابا كثيرا في تكفير أهل البدع والأهواء كما اضطربوا قديما وحديثا في سلب الإيمان عن أهل الفجور والكبائر وصار كثير من أهل البدع مثل الخوارج والروافض والقدرية والجهمية والممثلة يعتقدون اعتقادا هو ضلال يرونه هو الحق ويرون كفر من خالفهم في ذلك فيصير فيهم شوب قوي من أهل الكتاب في كفرهم بالحق وظلمهم للخلق ولعل أكثر هؤلاء المكفرين يكفر ب " المقالة " التي لا تفهم حقيقتها ولا تعرف حجتها . وبإزاء هؤلاء المكفرين بالباطل أقوام لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة كما يجب أو يعرفون بعضه ويجهلون بعضه وما عرفوه منه قد لا يبينونه للناس بل يكتمونه ولا ينهون عن البدع المخالفة للكتاب والسنة ولا يذمون أهل البدع ويعاقبونهم ؛ بل لعلهم يذمون الكلام في السنة وأصول الدين ذما مطلقا ؛ لا يفرقون فيه بين ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وما يقوله أهل البدعة والفرقة أو يقرون الجميع على مذاهبهم المختلفة كما يقر العلماء في مواضع الاجتهاد التي يسوغ فيها النزاع وهذه الطريقة قد تغلب على كثير من المرجئة وبعض المتفقهة والمتصوفة والمتفلسفة كما تغلب الأولى على كثير من أهل الأهواء والكلام وكلا هاتين الطريقتين منحرفة خارجة عن الكتاب والسنة . وإنما الواجب بيان ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وتبليغ ما جاءت به الرسل عن الله والوفاء بميثاق الله الذي أخذه على العلماء فيجب أن يعلم ما جاءت به الرسل ويؤمن به ويبلغه ويدعو إليه ويجاهد عليه ويزن جميع ما خاض الناس فيه من أقوال وأعمال في الأصول والفروع الباطنة والظاهرة بكتاب الله وسنة رسوله غير متبعين لهوى : من عادة أو مذهب أو طريقة أو رئاسة أو سلف ؛ ولا متبعين لظن : من حديث ضعيف أو قياس فاسد - سواء كان قياس شمول أو قياس تمثيل - أو تقليد لمن لا يجب اتباع قوله وعمله ؛ فإن

الله ذم في كتابه الذين يتبعون الظن وما تهوى الأنفس ويتركون اتباع ما جاءهم من ربهم من الهدى .
فصل إذا تبين ذلك فاعلم أن " مسائل التكفير والتفسيق " هي من مسائل " الأسماء والأحكام " التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدار الدنيا ؛ فإن الله سبحانه أوجب الجنة للمؤمنين وحرم الجنة على الكافرين وهذا من الأحكام الكلية في كل وقت ومكان قال الله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } وقال تعالى - لما ذكر قول اليهود والنصارى - : { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } . فأمر أن يطالبهم بالبرهان على هذا النفي العام وما فيه من الإثبات الباطل ثم قال : { بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } . فأخبر سبحانه عمن مضى ممن كان متمسكا بدين حق من اليهود والنصارى والصابئين وعن المؤمنين بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم أنه من جمع " الخصال الثلاث " التي هي جماع الصلاح وهي الإيمان بالخلق والبعث : بالمبدأ والمعاد ؛ الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح ؛ وهو أداء المأمور به وترك المنهي عنه . فإن له حصول الثواب وهو أجره عند ربه واندفاع العقاب . فلا خوف عليه مما أمامه ولا يحزن على ما وراءه ؛ ولذلك قال : { بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن } إخلاص الدين لله وهو عبادته وحده لا شريك له وهو حقيقة قوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } وهو محسن . ف " الأول " وهو إسلام الوجه هو النية وهذا " الثاني " - وهو الإحسان - هو العمل . وهذا الذي ذكره في هاتين الآيتين هو الإيمان العام والإسلام العام الذي أوجبه الله على جميع عباده من الأولين والآخرين . وهو " دين الله العام

" الذي لا يقبل من أحد سواه وبه بعث جميع الرسل كما قال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وقال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال تعالى : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } وقال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } وقال تعالى لبني آدم جميعا : { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } وقال في الآية الأخرى { فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } . فكان من أول البدع والتفرق الذي وقع في هذه الأمة " بدعة الخوارج " المكفرة بالذنب فإنهم تكلموا في الفاسق الملي فزعمت الخوارج والمعتزلة أن الذنوب الكبيرة ومنهم من قال : والصغيرة لا تجامع الإيمان أبدا بل تنافيه وتفسده كما يفسد الأكل والشرب الصيام قالوا : لأن الإيمان هو فعل المأمور وترك المحظور فمتى بطل بعضه بطل كله كسائر المركبات . ثم قالت " الخوارج " : فيكون العاصي كافرا ؛ لأنه ليس إلا مؤمن وكافر ثم اعتقدوا أن عثمان وعليا وغيرهما عصوا ومن عصى فقد كفر فكفروا هذين الخليفتين وجمهور الأمة . وقالت المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين إنه يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر . وقابلتهم " المرجئة " و " الجهمية " ومن اتبعهم من الأشعرية والكرامية . فقالوا : ليس من الإيمان فعل الأعمال الواجبة ولا ترك المحظورات البدنية والإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان ؛ بل هو شيء واحد يستوي فيه جميع المؤمنين : من الملائكة والنبيين والمقربين والمقتصدين والظالمين . ثم قال فقهاء المرجئة : هو التصديق بالقلب واللسان وقال

أكثر متكلميهم : هو التصديق بالقلب وقال بعضهم : التصديق باللسان . قالوا : لأنه لو دخلت فيه الواجبات العملية لخرج منه من لم يأت بها كما قالت الخوارج ونكتة هؤلاء جميعهم توهمهم أن من ترك بعض الإيمان فقد تركه كله . وأما " أهل السنة والجماعة " من الصحابة جميعهم والتابعين وأئمة أهل السنة وأهل الحديث وجماهير الفقهاء والصوفية مثل مالك والثوري والأوزاعي وحماد بن زيد والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم . ومحققي أهل الكلام فاتفقوا على أن الإيمان والدين قول وعمل . هذا لفظ السلف من الصحابة وغيرهم وإن كان قد يعني بالإيمان في بعض المواضع ما يغاير العمل ؛ لكن الأعمال الصالحة كلها تدخل أيضا في مسمى الدين والإيمان ويدخل في القول قول القلب واللسان وفي العمل عمل القلب والجوارح . وقال المفسرون لمذهبهم : إن له أصولا وفروعا وهو مشتمل على أركان وواجبات - ليست بأركان - ومستحبات ؛ بمنزلة اسم الحج والصلاة وغيرهما من العبادات ؛ فإن اسم الحج يتناول كل ما يشرع فيه من فعل وترك مثل الإحرام وترك محظوراته والوقوف بعرفة ومزدلفة ومنى والطواف ببيت الله الحرام وبين الجبلين المكتنفين به وهما الصفا والمروة . ثم الحج مع هذا مشتمل على أركان متى تركت لم يصح الحج كالوقوف بعرفة . وعلى ترك محظور متى فعله فسد الحج وهو الوطء ومشتمل على واجبات : من فعل وترك يأثم بتركها عمدا ويجب مع تركها - لعذر أو غيره - الجبران بدم كالإحرام من المواقيت المكانية والجمع بين الليل والنهار بعرفة وكرمي الجمار ونحو ذلك وكترك اللباس المعتاد والتطيب والصيد وغير ذلك . ومشتمل على مستحبات من فعل وترك يكمل الحج بها ؛ فلا يأثم بتركها ولا يجب دم مثل رفع الصوت بالإهلال والإكثار منه وسوق الهدي وذكر الله ودعائه في الطواف والوقوف وغيرهما . وقلة الكلام إلا في أمر بمعروف ونهي عن منكر أو ذكر الله تعالى فمن فعل الواجب وترك المحظور فقد أتم الحج والعمرة لله وهو مقتصد

من أصحاب اليمين في هذا العمل . لكن من أتى بالمستحب فهو أكمل منه وأتم منه حجا وهو سابق مقرب ومن ترك المأمور وفعل المحظور لكنه أتى بركنه وترك مفسده فهو حاج حجا ناقصا يثاب على ما فعله من الحج ويعاقب على ما تركه وقد سقط عنه أصل الفرض بذلك مع عقوبته على ما تركه ومن أخل بركن الحج أو فعل مفسد فحجه فاسد لا يسقط به فرض ؛ بل عليه إعادته مع أنه قد يتنازع في إثابته على ما فعله وإن لم يسقط به الفرض والأشبه أنه يثاب عليه . فصار " الحج ثلاثة أقسام " كاملا بالمستحبات وتاما بالواجبات فقط وناقصا عن الواجب . والفقهاء يقسمون الوضوء والغسل إلى كامل ومجزئ ؛ لكن يريدون بالكامل ما أتى بمفروضه ومسنونه وبالمجزئ ما اقتصر على واجبه . فهذا في " الأعمال المشروعة " . وكذلك في " الأعيان المشهودة " فإن الشجرة مثلا اسم لمجموع الجذع والورق والأغصان وهي بعد ذهاب الورق شجرة وبعد ذهاب الأغصان شجرة ؛ لكن كاملة وناقصة فليفعل مثل ذلك في مسمى الإيمان والدين أن " الإيمان ثلاث درجات " : إيمان السابقين المقربين . وهو ما أتى فيه بالواجبات والمستحبات : من فعل وترك . وإيمان المقتصدين أصحاب اليمين . وهو ما أتى فيه بالواجبات من فعل وترك . وإيمان الظالمين . وهو ما يترك فيه بعض الواجبات أو يفعل فيه بعض المحظورات . ولهذا قال علماء السنة في وصفهم " اعتقاد أهل السنة والجماعة " : إنهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب إشارة إلى بدعة الخوارج المكفرة بمطلق الذنوب فأما أصل الإيمان الذي هو الإقرار بما جاءت به الرسل عن الله تصديقا به وانقيادا له ؛ فهذا أصل الإيمان الذي من لم يأت به فليس بمؤمن ؛ ولهذا تواتر في الأحاديث " { أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان } { مثقال حبة من إيمان } . وفي رواية الصحيح أيضا " { مثقال حبة من خير } " " { مثقال ذرة من خير } وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة {

الإيمان بضع وستون - أو بضعة وستون أو بضع وسبعون شعبة - أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان } " فعلم أن الإيمان يقبل التبعيض والتجزئة وأن قليله يخرج الله به من النار من دخلها ليس هو كما يقوله الخارجون عن مقالة أهل السنة : إنه لا يقبل التبعيض والتجزئة ؛ بل هو شيء واحد : إما أن يحصل كله أو لا يحصل منه شيء . ومما يتصل به أن يعرف أن الإيمان هو من الأسماء الكتابية القرآنية النبوية الدينية الشرعية ؛ فيتنوع مسماها قدرا ووصفا بتنوع الكتب الإلهية ؛ فمنه ما هو متفق عليه بين جميع المؤمنين من الأولين والآخرين وجميع الكتب الإلهية : مثل الإقرار بالله واليوم الآخر وعبادة الله وحده لا شريك له والصدق والعدل . واعلم أن عامة السور المكية التي أنزلها الله بمكة هي في هذا الإيمان العام المشترك بين الأنبياء جميعهم والمؤمنين جميعهم . وهذا القدر المشترك هو في بعض الملل أعظم قدرا ووصفا فإن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من أسماء الله وصفاته ووصف اليوم الآخر أكمل مما جاء به سائر الأنبياء . ومنه ما تختلف فيه الشرائع والمناهج كالقبلة والمنسك ومقادير العبادات وأوقاتها وصفاتها والسنن والأحكام وغير ذلك فمسمى الإيمان والدين في أول الإسلام ليس هو مسماه في آخر زمان النبوة ؛ بل مسماه في الآخر أكمل كما قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } وقال في السورة : { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } ولهذا قال الإمام أحمد كان بدء الإيمان في أول الإسلام ناقصا فجعل يتم وهكذا مسمى الإيمان والدين قد شرع في حق الأشخاص بحسب ما أمر الله به كلا منهم وبحسب ما فعله مما أمر الله به . ولهذا كان المؤمنون من الأولين والآخرين ؛ من الذين هادوا والنصارى والصابئين والمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مشتركين في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح كما دل عليه القرآن . مع أن اليهود

كان يجب عليهم الإقرار بما لا يجب علينا الإقرار به ؛ مثل إقرارهم بواجبات التوراة وبمحرماتها مثل السبت وشحم الثرب والكليتين . ولا يجب عليهم التصديق المفصل بما لم ينزل عليهم من أسماء الله وصفاته وصفات اليوم الآخر . ونحن يجب علينا من الإيمان بذلك ما لم يجب عليهم ويجب علينا من الإقرار بالصلوات الخمس والزكاة المفروضة وحج البيت وغير ذلك مما هو داخل في إيماننا وليس داخلا في إيمانهم ؛ فإن الإقرار بهذه الأشياء داخل في الإيمان باتفاق الأمة . وكذلك الإقرار بأعيان الأنبياء كان الإقرار بأعيانهم داخلا في إيمان من قبلنا ونحن إنما يدخل في إيماننا الإقرار بهم من حيث الجملة . والمنازعون لأهل السنة منهم من يقول : الإيمان في الشرع مبقى على ما كان عليه في اللغة ؛ وهو التصديق . ومنهم من يقول : هو منقول إلى معنى آخر . وهو أداء الواجبات . وأما أهل السنة فقد يقول بعضهم : هو منقول كالأسماء الشرعية : من الصلاة والزكاة . وقد يقول بعضهم : بل هو متروك على ما كان وزادت عليه الشريعة أشياء . ومنهم من يقول : بل هو باق على أصله من التصديق مع دخول الأعمال فيه فإن الأعمال داخلة في التصديق فالمؤمن يصدق قوله بعمله كما قال الحسن البصري : ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ؛ ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم { والفرج يصدق ذلك أو يكذبه } " . ومنهم من يقول : ليس الإيمان في اللغة هو التصديق ؛ بل هو الإقرار وهو في الشرع الإقرار أيضا والإقرار يتناول القول والعمل . وليس هذا موضع بسط ذلك فقد بسطته في غير هذا الموضع . وإذا عرف مسمى الإيمان فعند ذكر استحقاق الجنة والنجاة من النار وذم من ترك بعضه ونحو ذلك - يراد به الإيمان الواجب كقوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } وقوله { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله

وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } الآية . وقوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } . وقوله في الجنة : { أعدت للذين آمنوا بالله ورسله } . وقوله صلى الله عليه وسلم { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن } " فنفي عنه الإيمان الواجب الذي يستحق به الجنة ولا يستلزم ذلك نفي أصل الإيمان وسائر أجزائه وشعبه . وهذا معنى قولهم : نفي كمال الإيمان لا حقيقته أي الكمال الواجب ليس هو الكمال المستحب المذكور في قول الفقهاء : الغسل كامل ومجزئ . ومن هذا الباب : قوله صلى الله عليه وسلم " { من غشنا فليس منا } " ليس المراد به أنه كافر . كما تأولته الخوارج ولا أنه ليس من خيارنا . كما تأولته المرجئة ؛ ولكن المضمر يطابق المظهر والمظهر هو المؤمنون المستحقون للثواب السالمون من العذاب والغاش ليس منا لأنه متعرض لسخط الله وعذابه . وإذا تبين هذا فمن ترك بعض الإيمان الواجب لعجزه عنه إما لعدم تمكنه من العلم : مثل أن لا تبلغه الرسالة أو لعدم تمكنه من العمل لم يكن مأمورا بما يعجز عنه ولم يكن ذلك من الإيمان والدين الواجب في حقه وإن كان من الدين والإيمان الواجب في الأصل ؛ بمنزلة صلاة المريض والخائف والمستحاضة وسائر أهل الأعذار الذين يعجزون عن إتمام الصلاة فإن صلاتهم صحيحة بحسب ما قدروا عليه وبه أمروا إذ ذاك وإن كانت صلاة القادر على الإتمام أكمل وأفضل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير } " رواه مسلم عن أبي هريرة في حديث حسن السياق . وقوله : " { صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد } " ولو أمكنه العلم به دون العمل لوجب الإيمان به علما واعتقادا دون العمل .

فصل فهذا أصل مختصر في " مسألة الأسماء " وأما " مسألة الأحكام " وحكمه في الدار الآخرة فالذي عليه الصحابة ومن اتبعهم بإحسان وسائر أهل السنة والجماعة . أنه لا يخلد في النار من معه شيء من الإيمان ؛ بل يخرج منها من معه مثقال حبة أو مثقال ذرة من إيمان . وأما " الخوارج " ومن وافقهم من المعتزلة فيوجبون خلود من دخل النار وعندهم من دخلها خلد فيها ولا يجتمع في حق الشخص الواحد العذاب والثواب وأهل السنة والجماعة وسائر من اتبعهم متفقون على اجتماع الأمرين في حق خلق كثير . كما جاءت به السنن المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم . و " أيضا " : فأهل السنة والجماعة لا يوجبون العذاب في حق كل من أتى كبيرة ولا يشهدون لمسلم بعينه بالنار لأجل كبيرة واحدة عملها ؛ بل يجوز عندهم أن صاحب الكبيرة يدخله الله الجنة بلا عذاب إما لحسنات تمحو كبيرته منه أو من غيره ؛ وإما لمصائب كفرتها عنه وإما لدعاء مستجاب منه أو من غيره فيه وإما لغير ذلك . و " الوعيدية " من الخوارج والمعتزلة : يوجبون العذاب في حق أهل الكبائر ؛ لشمول نصوص الوعيد لهم . مثل قوله : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا } وتجعل المعتزلة إنفاذ الوعيد أحد " الأصول الخمسة " التي يكفرون من خالفها ويخالفون أهل السنة والجماعة في وجوب نفوذ الوعيد فيهم وفي تخليدهم ؛ ولهذا منعت الخوارج والمعتزلة أن يكون لنبينا صلى الله عليه وسلم شفاعة في أهل الكبائر - في إخراج أهل الكبائر من النار . وهذا مردود بما تواتر عنه من السنن في ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم { شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي } وأحاديثه في إخراجه من النار من قد دخلها . وليس الغرض هنا تحرير هذه الأصول وإنما الغرض التنبيه عليها وكان ما أوقعهم في ذلك أنهم سمعوا نصوص الوعيد فرأوها عامة فقالوا : يجب أن يدخل فيها كل من شملته وهو خبر وخبر الله صدق فلو أخلف وعيده كان

كإخلاف وعده والكذب على الله محال فعارضهم غالية المرجئة بنصوص الوعد فإنها قد تتناول كثيرا من أهل الكبائر فعاد كل فريق إلى أصله الفاسد . فقال الأولون : نصوص الوعد لا تتناول إلا مؤمنا وهؤلاء ليسوا مؤمنين . وقال الآخرون : نصوص الوعيد لا تتناول إلا كافرا وكل من القولين خطأ . فإن النصوص - مثل قوله . { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } لم يشترط فيها الكفر ؛ بل هي في حق المتدين بالإسلام . وقوله : " { من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة } " لم يشترط فيه فعل الواجبات ؛ بل قد ثبت في الصحاح " { وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر } " . فهنا اضطرب الناس فأنكر قوم من المرجئة العموم وقالوا : ليس في اللغة عموم وهم الواقفية في العموم من المرجئة وبعض الأشعرية والشيعية وإنما التزموا ذلك لئلا يدخل جميع المؤمنين في نصوص الوعيد . وقالت المقتصدة : بل العموم صحيح والصيغ صيغ عموم ؛ لكن العام يقبل التخصيص ؛ وهذا مذهب جميع الخلائق من الأولين والآخرين إلا هذه الشرذمة . قالوا : فمن عفي عنه كان مستثنى من العموم . وقال قوم آخرون : بل إخلاف الوعيد ليس بكذب وإن العرب لا تعد عارا أو شنارا أن يوعد الرجل شرا ثم لا ينجزه كما تعد عارا أو شنارا أن يعد خيرا ثم لا ينجزه وهذا قول طوائف من المتقدمين والمتأخرين وقد احتجوا بقول كعب بن زهير يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول قالوا : فهذا وعيد خاص وقد رجا فيه العفو مخاطبا للنبي صلى الله عليه وسلم فعلم أن العفو عن المتوعد جائز وإن لم يكن من باب تخصيص العام . والتحقيق أن يقال : الكتاب والسنة مشتمل على نصوص الوعد والوعيد كما أن ذلك مشتمل على نصوص الأمر والنهي وكل من النصوص يفسر الآخر ويبينه فكما أن نصوص الوعد على الأعمال الصالحة مشروطة بعدم الكفر المحبط ؛ لأن القرآن قد دل على أن من ارتد فقد حبط عمله فكذلك نصوص الوعيد

للكفار والفساق مشروطة بعدم التوبة ؛ لأن القرآن قد دل على أن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب وهذا متفق عليه بين المسلمين فكذلك في موارد النزاع . فإن الله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن السيئات وأن من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وأنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه وأن مصائب الدنيا تكفر الذنوب وأنه يقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر وأنه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء كما بين أن الصدقة يبطلها المن والأذى وأن الربا يبطل العمل وأنه إنما يتقبل الله من المتقين ؛ أي في ذلك العمل ونحو ذلك . فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها كما جعل للحسنات ما قد يبطل ثوابها لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة . وبهذا تبين أنا نشهد بأن { الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا } على الإطلاق والعموم ولا نشهد لمعين أنه في النار ؛ لأنا لا نعلم لحوق الوعيد له بعينه ؛ لأن لحوق الوعيد بالمعين مشروط بشروط وانتفاء موانع ونحن لا نعلم ثبوت الشروط وانتفاء الموانع في حقه وفائدة الوعيد بيان أن هذا الذنب سبب مقتض لهذا العذاب والسبب قد يقف تأثيره على وجود شرطه وانتفاء مانعه . يبين هذا : أنه قد ثبت : أن النبي صلى الله عليه وسلم { لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وآكل ثمنها } . وثبت عنه في صحيح البخاري عن عمر { أن رجلا كان يكثر شرب الخمر فلعنه رجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تلعنه ؛ فإنه يحب الله ورسوله } " فنهى عن لعن هذا المعين وهو مدمن خمر ؛ لأنه يحب الله ورسوله وقد لعن شارب الخمر على العموم .

فصل إذا ظهرت هذه المقدمات في اسم المؤمن والكافر والفاسق الملي وفي حكم الوعد والوعيد والفرق بين المطلق والمعين وما وقع في ذلك من الاضطراب ف " مسألة تكفير أهل البدع والأهواء " متفرعة على هذا الأصل . ونحن نبدأ بمذهب أئمة السنة فيها قبل التنبيه على الحجة فنقول : المشهور من مذهب الإمام أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية وهم المعطلة لصفات الرحمن ؛ فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل من الكتاب وحقيقة قولهم جحود الصانع ففيه جحود الرب وجحود ما أخبر به عن نفسه على لسان رسله ؛ ولهذا قال عبد الله بن المبارك : إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية وقال غير واحد من الأئمة إنهم أكفر من اليهود والنصارى يعنون من هذه الجهة ولهذا كفروا من يقول : إن القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة وإن الله ليس على العرش وإن الله ليس له علم ولا قدرة ولا رحمة ولا غضب ونحو ذلك من صفاته . وأما " المرجئة " : فلا تختلف نصوصه أنه لا يكفرهم ؛ فإن بدعتهم من جنس اختلاف الفقهاء في الفروع وكثير من كلامهم يعود النزاع فيه إلى نزاع في الألفاظ والأسماء : ولهذا يسمى الكلام في مسائلهم " باب الأسماء " وهذا من نزاع الفقهاء لكن يتعلق بأصل الدين ؛ فكان المنازع فيه مبتدعا . وكذلك " الشيعة " المفضلون لعلي على أبي بكر لا يختلف قوله إنهم لا يكفرون ؛ فإن ذلك قول طائفة من الفقهاء أيضا وإن كانوا يبدعون . وأما " القدرية " المقرون بالعلم و " الروافض " الذين ليسوا من الغالية والجهمية والخوارج : فيذكر عنه في تكفيرهم روايتان هذا حقيقة قوله المطلق مع أن الغالب عليه التوقف عن تكفير القدرية المقرين بالعلم والخوارج مع قوله : ما أعلم قوما شرا من الخوارج . ثم طائفة من أصحابه يحكون عنه في تكفير أهل البدع مطلقا روايتين حتى يجعلوا المرجئة داخلين في ذلك وليس الأمر كذلك وعنه في تكفير من لا يكفر روايتان أصحهما لا

يكفر . وربما جعل بعضهم الخلاف في تكفير من لا يكفر مطلقا وهو خطأ محض . والجهمية - عند كثير من السلف : مثل عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم - ليسوا منه الثنتين والسبعين فرقة التي افترقت عليها هذه الأمة ؛ بل أصول هذه عند هؤلاء : هم الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية وهذا المأثور عن أحمد وهو المأثور عن عامة أئمة السنة والحديث أنهم كانوا يقولون ؛ من قال : القرآن مخلوق فهو كافر ومن قال : إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر ونحو ذلك . ثم حكى أبو نصر السجزي عنهم في هذا قولين : " أحدهما " أنه كفر ينقل عن الملة . قال : وهو قول الأكثرين . و " الثاني " أنه كفر لا ينقل . ولذلك قال الخطابي : إن هذا قالوه على سبيل التغليظ وكذلك تنازع المتأخرون من أصحابنا في تخليد المكفر من هؤلاء ؛ فأطلق أكثرهم عليه التخليد كما نقل ذلك عن طائفة من متقدمي علماء الحديث ؛ كأبي حاتم ؟ وأبي زرعة وغيرهم وامتنع بعضهم من القول بالتخليد . وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم ثم إنهم يرون من الأعيان الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافرا فيتعارض عندهم الدليلان وحقيقة الأمر أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع كلما رأوهم قالوا : من قال كذا فهو كافر اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتقي في حق المعين وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة : الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه . فإن الإمام أحمد - مثلا - قد باشر " الجهمية " الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفي الصفات وامتحنوه وسائر علماء وقته وفتنوا المؤمنين والمؤمنات

الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل والعزل عن الولايات وقطع الأرزاق ورد الشهادة وترك تخليصهم من أيدي العدو بحيث كان كثير من أولي الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم : يكفرون كل من لم يكن جهميا موافقا لهم على نفي الصفات مثل القول بخلق القرآن ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر فلا يولونه ولاية ولا يفتكونه من عدو ولا يعطونه شيئا من بيت المال ولا يقبلون له شهادة ولا فتيا ولا رواية ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة والافتكاك من الأسر وغير ذلك . فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان ومن كان داعيا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه وحبسوه . ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب . ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره . ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم ؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون : القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قوما معينين فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر أو يحمل الأمر على التفصيل . فيقال : من كفره بعينه ؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه ومن لم يكفره بعينه ؛ فلانتفاء ذلك في حقه هذه مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم . والدليل على هذا الأصل : الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار . أما الكتاب : فقوله سبحانه وتعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } وقوله تعالى { ربنا لا تؤاخذنا

إن نسينا أو أخطأنا } . وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم { أن الله تعالى قال : قد فعلت لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بهذا الدعاء } . وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش } " و " { أنه لم يقرأ بحرف منها إلا أعطيه } " . وإذا ثبت بالكتاب المفسر بالسنة أن الله قد غفر لهذه الأمة الخطأ والنسيان فهذا عام عموما محفوظا وليس في الدلالة الشرعية ما يوجب أن الله يعذب من هذه الأمة مخطئا على خطئه وإن عذب المخطئ . من غير هذه الأمة . و " أيضا " قد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إن رجلا لم يعمل خيرا قط فقال لأهله : إذا مات فأحرقوه ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فلما مات الرجل فعلوا به كما أمرهم فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه فإذا هو قائم بين يديه . ثم قال : لم فعلت هذا ؟ قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم ؛ فغفر الله له } " . وهذا الحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أصحاب الحديث والأسانيد من حديث أبي سعيد وحذيفة وعقبة بن عمرو وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة يعلم أهل الحديث أنها تفيدهم العلم اليقيني وإن لم يحصل ذلك لغيرهم ممن لم يشركهم في أسباب العلم . فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة ابن آدم ؛ بعد ما أحرق وذري وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك وهذان أصلان عظيمان : " أحدهما " متعلق بالله تعالى وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير . و " الثاني " متعلق باليوم الآخر . وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت ويجزيه على أعماله ومع هذا فلما كان مؤمنا بالله في الجملة ومؤمنا باليوم

الآخر في الجملة وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت وقد عمل عملا صالحا - وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه - غفر الله له بما كان منه من الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح . وأيضا : فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم { إن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان } " وفي رواية : { مثقال دينار من خير ثم يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان } " وفي رواية " من خير " " { ويخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان أو خير } " وهذا وأمثاله من النصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل أنه لا يخلد في النار من معه شيء من الإيمان والخير وإن كان قليلا وأن الإيمان مما يتبعض ويتجزأ . ومعلوم قطعا أن كثيرا من هؤلاء المخطئين معهم مقدار ما من الإيمان بالله ورسوله إذ الكلام فيمن يكون كذلك . وأيضا فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل واتفقوا على عدم التكفير بذلك مثل ما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة وأنكر بعضهم رؤية محمد ربه ولبعضهم في الخلافة والتفضيل كلام معروف وكذلك لبعضهم في قتال بعض ولعن بعض وإطلاق تكفير بعض أقوال معروفة . وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ : { بل عجبت } ويقول : إن الله لا يعجب ؛ فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال : إنما شريح شاعر يعجبه علمه . كان عبد الله أفقه منه فكان يقول : { بل عجبت } فهذا قد أنكر قراءة ثابتة وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة وكذلك بعض السلف أنكر بعضهم حروف القرآن مثل إنكار بعضهم قوله : { أفلم ييأس الذين آمنوا } وقال : إنما هي : أو لم يتبين الذين آمنوا وإنكار الآخر قراءة قوله : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } وقال : إنما هي : ووصى ربك . وبعضهم كان حذف المعوذتين وآخر يكتب سورة القنوت . وهذا خطأ معلوم

بالإجماع والنقل المتواتر ومع هذا فلما لم يكن قد تواتر النقل عندهم بذلك لم يكفروا وإن كان يكفر بذلك من قامت عليه الحجة بالنقل المتواتر . وأيضا فإن الكتاب والسنة قد دل على أن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إبلاغ الرسالة فمن لم تبلغه جملة لم يعذبه رأسا ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية . وذلك مثل قوله تعالى { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وقوله : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي } الآية . وقوله : { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير } وقوله : { وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم } الآية . وقوله : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وقوله : { وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا } وقوله : { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير } { قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء } وقوله : { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى } وقوله " { ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين } ونحو هذا في القرآن في مواضع متعددة . فمن كان قد آمن بالله ورسوله ولم يعلم بعض ما جاء به الرسول فلم يؤمن به تفصيلا ؛ إما أنه لم يسمعه . أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها أو اعتقد معنى آخر لنوع من التأويل الذي يعذر به . فهذا قد جعل فيه من الإيمان بالله وبرسوله ما يوجب أن يثيبه الله عليه وما لم يؤمن به فلم تقم عليه به الحجة التي يكفر مخالفها . وأيضا فقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن من الخطأ في الدين ما لا يكفر مخالفه ؛ بل ولا يفسق ؛ بل ولا يأثم ؛ مثل الخطأ في الفروع العملية ؛ وإن كان بعض المتكلمة والمتفقهة يعتقد أن المخطئ

فيها آثم وبعض المتكلمة والمتفقهة يعتقد أن كل مجتهد فيها مصيب فهذان القولان شاذان ومع ذلك فلم يقل أحد بتكفير المجتهدين المتنازعين فيها ومع ذلك فبعض هذه المسائل قد ثبت خطأ المنازع فيها بالنصوص والإجماع القديم مثل استحلال بعض السلف والخلف لبعض أنواع الربا واستحلال آخرين لبعض أنواع الخمر واستحلال آخرين للقتال في الفتنة . وأهل السنة والجماعة متفقون على أن المعروفين بالخير كالصحابة المعروفين وغيرهم من أهل الجمل وصفين من الجانبين لا يفسق أحد منهم فضلا عن أن يكفر حتى عدى ذلك من عداه من الفقهاء إلى سائر أهل البغي فإنهم مع إيجابهم لقتالهم منعوا أن يحكم بفسقهم لأجل التأويل كما يقول هؤلاء الأئمة : إن شارب النبيذ المتنازع فيه متأولا لا يجلد ولا يفسق . وقد قال تعالى : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين } { ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } وقال تعالى : { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله } . وثبت في الصحاح من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر } " . وثبت في الصحيح { عن بريدة بن الحصيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم } " وأدلة هذا الأصل كثيرة لها موضع آخر . وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن من بلغته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن به فهو كافر لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة ؛ ولأن العذر بالخطأ حكم شرعي فكما أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر والواجبات تنقسم إلى أركان وواجبات ليست أركانا : فكذلك الخطأ ينقسم إلى مغفور وغير مغفور والنصوص إنما أوجبت رفع

المؤاخذة بالخطأ لهذه الأمة وإذا كان كذلك فالمخطئ في بعض هذه المسائل : إما أن يلحق بالكفار من المشركين وأهل الكتاب مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان . وإما أن يلحق بالمخطئين في مسائل الإيجاب والتحريم مع أنها أيضا من أصول الإيمان . فإن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة ؛ : هو من أعظم أصول الإيمان وقواعد الدين والجاحد لها كافر بالاتفاق مع أن المجتهد في بعضها ليس بكافر بالاتفاق مع خطئه . وإذا كان لا بد من إلحاقه بأحد الصنفين : فمعلوم أن المخطئين من المؤمنين بالله ورسوله أشد شبها منه بالمشركين وأهل الكتاب فوجب أن يلحق بهم وعلى هذا مضى عمل الأمة قديما وحديثا في أن عامة المخطئين من هؤلاء تجري عليهم أحكام الإسلام التي تجري على غيرهم هذا مع العلم بأن كثيرا من المبتدعة منافقون النفاق الأكبر وأولئك كفار في الدرك الأسفل من النار فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة منافقون بل أصل هذه البدع هو من المنافقين الزنادقة ممن يكون أصل زندقته عن الصابئين والمشركين فهؤلاء كفار في الباطن ومن علم حاله فهو كافر في الظاهر أيضا . وأصل ضلال هؤلاء الأعراض عما جاء به الرسول من الكتاب والحكمة وابتغاء الهدى في خلاف ذلك فمن كان هذا أصله فهو بعد بلاغ الرسالة كافر لا ريب فيه مثل من يرى أن الرسالة للعامة دون الخاصة كما يقوله قوم من المتفلسفة وغالية المتكلمة والمتصوفة أو يرى أنه رسول إلى بعض الناس دون بعض كما يقوله كثير من اليهود والنصارى . فهذا الكلام يمهد أصلين عظيمين : " أحدهما " أن العلم والإيمان والهدى فيما جاء به الرسول وأن خلاف ذلك كفر على الإطلاق فنفي الصفات كفر والتكذيب بأن الله يرى في الآخرة أو أنه على العرش أو أن القرآن كلامه أو أنه كلم موسى أو أنه اتخذ إبراهيم خليلا كفر وكذلك ما كان في معنى ذلك وهذا معنى كلام أئمة السنة وأهل الحديث . و "

الأصل الثاني " أن التكفير العام - كالوعيد العام - يجب القول بإطلاقه وعمومه . وأما الحكم على المعين بأنه كافر أو مشهود له بالنار : فهذا يقف على الدليل المعين فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه . ومما ينبغي أن يعلم في هذا الموضع أن الشريعة قد تأمرنا بإقامة الحد على شخص في الدنيا ؛ إما بقتل أو جلد أو غير ذلك ويكون في الآخرة غير معذب مثل قتال البغاة والمتأولين مع بقائهم على العدالة ومثل إقامة الحد على من تاب بعد القدرة عليه توبة صحيحة فإنا نقيم الحد عليه مع ذلك كما أقامه النبي صلى الله عليه وسلم على ماعز بن مالك وعلى الغامدية مع قوله : { لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له } " ومثل إقامة الحد على من شرب النبيذ المتنازع فيه متأولا مع العلم بأنه باق على العدالة . بخلاف من لا تأويل له فإنه لما شرب الخمر بعض الصحابة واعتقدوا أنها تحل للخاصة تأول قوله : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا } اتفق الصحابة مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا وإن أصروا على الاستحلال قتلوا . وكذلك نعلم أن خلقا لا يعاقبون في الدنيا مع أنهم كفار في الآخرة مثل أهل الذمة المقرين بالجزية على كفرهم . ومثل المنافقين المظهرين الإسلام فإنهم تجري عليهم أحكام الإسلام وهم في الآخرة كافرون كما دل عليه القرآن في آيات متعددة كقوله : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا } الآية . وقوله : { يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب } { ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله

الغرور } { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا } الآية . وهذا لأن الجزاء في الحقيقة إنما هو في الدار الآخرة التي هي دار الثواب والعقاب . وأما الدنيا فإنما يشرع فيها من العقاب ما يدفع به الظلم والعدوان كما قال تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين } وقال تعالى : { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق } وهذا لأن المقصود بإرسال الرسل وإنزال الكتب هو إقامة القسط كما قال تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز } . وإذا كان الأمر كذلك فعقوبة الدنيا غير مستلزمة لعقوبة الآخرة ولا بالعكس . ولهذا أكثر السلف يأمرون بقتل الداعي إلى البدعة الذي يضل الناس لأجل إفساده في الدين سواء قالوا : هو كافر أو ليس بكافر . وإذا عرف هذا فتكفير " المعين " من هؤلاء الجهال وأمثالهم - بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار - لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر . وهكذا الكلام في تكفير جميع " المعينين " مع أن بعض هذه البدعة أشد من بعض وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة . ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك ؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة . وهذا الجواب لا يحتمل أكثر من هذا . والله المسئول أن يوفقنا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه ...
والله سبحانه أعلم .