الإقناع والتأثير
الدكتور/ إبراهيم بن صالح الحميدان
مقدمة :
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين , نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فإن الدعوة إلى الإسلام تعمد إلى إمالة الإنسان إلى الخير وجذبه عن الشر , والرسالات الإلهية في إطارها العام الذي بعث الله به الرسل جميعاً قامت على مادة عظيمة تمثلت في بيان مراد الله من خلقه في اعتقادهم وأحكامهم وأخلاقهم لكي تنير للإنسان مسيرته في هذه الدنيا وتقدم له الحكمة من خلقه وإيجاده , ثم في الدار الآخرة يسعد برضوان الله وجنته .
ثم جاءت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بختم تلك الرسالات لتتوجه إلى الإنسان - أي إنسان - بمسؤولية تمتد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها , فكانت المسؤولية في الدعوة كما في قوله تعالى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (1) وكان بيان أسلوبها كما في قوله تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (2) وقد فصل علماء الإسلام في ذلك وكانت لهم مدارس متعددة، منها ما بنى عليه الباحث أساس هذا البحث وإطاره بأن الدعوة إلى الله تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، أما الجدل فهو شأن مستقل لا يعد في سياق ما سبقه في هذه الآية بل عند الحاجة إليه مع فئة محددة من المدعوين .
__________
(1) سورة آل عمران , الآية 104 .
(2) سورة النحل , الآية 125 .
ثم لحظ الباحث تعاضد بعض الأفهام لدى مفسرين كبار من أن الحكمة هنا تعني الحجة القطعية والدليل الصحيح وأن الموعظة الحسنة تعني الترغيب والترهيب , وهذان الطريقان هما أساس الإقناع والتأثير في الإنسان من خلال الإقناع العقلي والعاطفي .
والإقناع والتأثير ممارسة بين طرفين أحدهما يريد التأثير في الآخر , ولما كانت هذه الممارسة أمراً قائماً في الحياة البشرية منذ نشأتها وعلى اختلاف أماكن وجودها وتنوعها , وفي مختلف أطرها وتركيباتها الاجتماعية , فإن الاهتمام به جاء على قدر ذلك , إذ نلحظ تناوله في علوم وتخصصات متعددة .
وبالنظر المتأني إلى بعض التناولات والاهتمامات العلمية والبحثية في أساليب الإقناع والتأثير وممارساته فإننا نجد أن الخلفيات الفكرية والعقدية والثقافية تؤثر تأثيراً بالغاً في ذلك .
ويغلب على النتاج العلمي حول الإقناع والتأثير كونه ينحو إلى إحداث أثر في الآخر وتحقيق أهداف طرف على حساب الآخر دون الالتزام دائماً بالمصداقية في المحتوى , أو المراعاة للقيم في الأساليب , أو التحمل للمسؤولية في النتائج , وذلك منذ العصر اليوناني الذي برزت فيه الكتابة حول الجدل والخطابة وطرق الاحتجاج والاستدلال بالحجج الخمس المعروفة ؛ إلى كثير من الدراسات المعاصرة، وتحديداً الغربية منها أو المتأثرة بها .
وما نراه اليوم من الأساليب الإعلانية والدعائية التي وظف فيها المنطق تارة أو الغرائز تارة أخرى في الإقناع والتأثير ومخاطبة الجماهير لخدمة أمم ومؤسسات وأفراد على حساب أولئك وقيمهم وأذواقهم إلا دليل عملي على ذلك .
بل قد اقترنت بعض دراسات الإقناع والتأثير في بعض المجالات - السياسة والإعلام مثلا - بغسيل الدماغ والتأكيد على ذلك في عناوين المصنفات والدراسات ثم توظيف ذلك في طمس الحقائق وتشكيك الأمم في أسسها ومعتقداتها , وتوجيه أسلوبها في التفكير والتعامل ؛ بل والاستهلاك ونمط المعيشة بما يخدم مصالح آخرين على حساب الشعوب والأمم المستهدفة .
لذلك كله يأتي هذا البحث محاولة متواضعة للنظر في المرجعية الإسلامية حول جوانب من مسائل الإقناع والتأثير , فهي المرجعية الأوثق والأصدق والأعدل , وهي الأرحم بالإنسان - أي إنسان - والأعظم تكريماً له .
كما يحاول هذا البحث المتواضع تبين أساليب الإقناع والتأثير في إطار الدعوة إلى الإسلام , فهي الأحوج إلى استبصار معالم النبوة في ذلك بدلاً من الاتكاء على نتاج معرفي بشري هو في الغالب مترجم عن الأمم الأخرى يشوبه شيء من الخطأ والخطل المشار إليه آنفاً .
وقد جاء في ثلاثة فصول شملت ثمانية مباحث على النحو الآتي :
الفصل الأول : تعريف الإقناع والتأثير والصلة بينهما.
المبحث الأول تعريف الإقناع والتأثير.
المبحث الثاني : الصلة بين الإقناع والتأثير .
الفصل الثاني : أهمية الإقناع والتأثير ومقومات نجاحه :
المبحث الأول : أهمية الإقناع والتأثير .
المبحث الثاني : تفاضل الناس في القدرة على الإقناع والتأثير .
المبحث الثالث : مقومات النجاح في الإقناع والتأثير .
الفصل الثالث : أساليب الإقناع والتأثير في مجال الدعوة .
المبحث الأول : الإطار الدعوي لأساليب الإقناع والتأثير.
المبحث الثاني : أسلوب الإقناع والتأثير بالحجج القطعية .
المبحث الثالث : أسلوب الإقناع والتأثير العاطفي .
ثم خاتمة حوت خلاصة البحث وأهم توصياته.
وعلى الله قصد السبيل , ومنه العون والتوفيق , والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً .
الفصل الأول : تعريف الإقناع والتأثير والصلة بينهما:
المبحث الأول: تعريف الإقناع والتأثير :
أولا : تعريف الإقناع :
يرى ابن فارس في معجم مقاييس اللغة أن الثلاثي ( قنع ) له أصلان صحيحان وثالث شاذ على النحو الآتي :
الأول : الإقبال على الشيء وهو الإقناع .
الثاني : يدل على استدارة في شيء، وهو القِنْع - بكسر القاف وسكون النون - والقناع .
والثالث : - ويرى أنه شذ عن الأصل - ( الإقناع ) بمعنى ارتفاع الشيء، ليس فيه تصوب .(1)
أو كما في لسان العرب : " رفع الرأس في اعوجاج"(2) .
وقريب منه " رفع الرأس والنظر في ذل وخشوع "(3).
ولا شك أن المعنى الألصق بفكرة هذا البحث هو ما يدور في فلك المعنى الأول , مما يجعلنا نوجه النظر إليه دون غيره .
وهذا الأصل في معنى هذه الكلمة له عدد من الاستعمالات اللغوية منها :
1-" الإقناع : مد البعير رأسه إلى الماء ليشرب قال يصف ناقة :
تقنع للجدول منها جدولا : شبه حلق الناقة وفاها بالجدول تستقبل به جدولا في الشرب "(4).
2-" الإقناع : الإقبال بالوجه على الشيء، يقال: أقنع له يقنع إقناعاً .
3-ومد اليد عند الدعاء ,وسمي بذلك عند إقباله على الجهة التي يده إليها .
4-والإقناع : إمالة الماء للماء المنحدر "(5).
5-" والقانع : السائل , وسمي قانعاً لإقباله على من يسأله "(6) " ويجوز أن يكون السائل سمي قانعاً لأنه يرضى بما يعطى قل أو كثر، ويقبله ولا يرده " (7).
__________
(1) معجم مقاييس اللغة مادة ( قنع )ص 864 , 865 .
(2) لسان العرب مادة ( هطع ) 8 / 372 .
(3) المرجع السابق مادة ( قنع ) 8 / 299 .
(4) العين مادة ( قنع ) 1 / 170 , وانظر : معجم مقاييس اللغة مادة ( قنع ) 864 , ولسان العرب مادة ( قنع ) 8 / 299
(5) معجم مقاييس اللغة مادة ( قنع ) ص 864.
(6) معجم مقاييس اللغة مادة ( قنع ) ص 864 .
(7) مختار الصحاح مادة ( ق ن ع ) 1 / 231.
6-و" القناعة : الرضا بالقسم، وبابه سلم فهو قنع و قنوع، وأقنعه الشيء أي أرضاه "(1) و" قنعت به قنعاً من باب تعب وقناعة : رضيت وهو قنع , وقنوع , ويتعدى بالهمزة فيقال: أقنعني "(2)" و " أقنعه الشيء أي : أرضاه"(3).
ومن الواضح أن الاستعمال الأخير هو الأقرب إلى مفهوم الإقناع المقصود هنا , بيد أننا نجد لابن فارس ملحظاً دقيقاً يزيد فيه على تعريف القناعة بالرضا بأنها سميت كذلك لأن صاحبها يقبل على ما رضيه فهو إقبال برضا، يقول : " قنع قناعة : إذا رضي وسميت قناعة لأنه يقبل على الشيء الذي له راضياً "( (4) .
كما نجد في المعجم الوسيط تحديداً أكثر لمعنى الاقتناع، بأنه القبول بالفكرة أو الرأي والاطمئنان إليه. وهذا أدق من مجرد الرضا :
" اقتنع : قنع - بالفكرة أو الرأي - وقبله واطمأن إليه "(5).
أما في الاصطلاح فنجد من التعريفات للإقناع :
-أنه " عمليات فكرية و شكلية يحاول فيها أحد الطرفين التأثير على الآخر، و إخضاعه لفكرة ما "(6) .
-وأنه " أي اتصال مكتوب أو شفوي أو سمعي أو بصري يهدف بشكل محدد إلى التأثير على الاتجاهات والاعتقادات أو السلوك. كما أنه القوة التي تستخدم لتجعل شخصاً يقوم بعمل ما عن طريق النصح والحجة والمنطق "(7) .
ويمكن القول بشكل مبسط وشامل بأنه :
" فعل متعدد الأشكال يسعى لإحداث تأثير أو تغيير معين في الفرد أو الجماعة " .
وقد شمل هذا التعريف ثلاث جمل :
__________
(1) المرجع السابق 1 / 231 , وانظر لسان العرب مادة ( قنع ) 8 / 297.
(2) المصباح المنير مادة ( قنع ) 2 / 517.
(3) مختار الصحاح مادة ( ق ن ع ) 2 / 231 والقاموس المحيط 1 / 978 .
(4) معجم مقاييس اللغة مادة ( قنع ) ص 864 .
(5) المعجم الوسيط مادة ( قنع ) 2 / 763 .
(6) كيف تقنع الآخرين ص 26 .
(7) الاتصال الاجتماعي ودوره في التفاعل الاجتماعي ص 189 .
الجملة الأولى : " فعل متعدد الأشكال" : يعني أنه فعل يتم بأكثر من شكل، وإن كانت الفكرة الأساسية أو الأسلوب واحداً .
فباعتبار الوسيلة بشكل عام هناك الكلام بالحديث أو ما في حكمه من الكتابة أو الإشارة وهناك الممارسة العملية بالتصرفات والمواقف أو غير ذلك .
وباعتبار الأسلوب يكون بالإقناع بالحجة أو بالتأثير في العاطفة وذلك بالنظر إلى التكوين العقلي والعاطفي للإنسان .(1)
وباعتبار الوضوح يكون مباشراً وغير مباشر.
وباعتبار القائم به يمكن أن يصدر من فرد ويمكن أن يصدر من جماعة.
وباعتبار الغاية يمكن أن تكون سلبية، ويمكن أن تكون إيجابية، والحكم في ذلك مسألة نسبية فقد يحكم طرف بأنها سلبية والطرف الآخر بأنها إيجابية.
ومدخل التناول والتوسع في هذا البحث هو الاعتبار الثاني مع عدم إهمال باقي الاعتبارات .
الجملة الثانية : " يسعى لإحداث تأثير أو تغيير معين " :
ويعني هذا أن الإقناع يسعى للتأثير في الآخر بشكل عام أو جزئي سواء كان ذلك في الفكر والسلوك أو في أحدهما .
الجملة الثالثة : " في الفرد أو الجماعة " :
ويعني أن ممارسة الإقناع والتأثير قد يكون موجهاً إلى فرد بعينه كما في الدعوة الفردية وكما بين الزوجين أو الوالدين لأحد أبنائهم أو الطبيب لمريضه , أو تكون موجهة إلى مجموعة تمثل مجتمعاً نوعيّاً كمجتمع التجار , أو جنساً - كالرجال أو النساء أو الأطفال - أو أمة ونحو ذلك .
ثانياً : مفهوم التأثير :
أما التأثير فهو أعم من الإقناع إذ هو في اللغة : " إبقاء الأثر في الشيء . وأثر في الشيء : ترك فيه أثراً "(2) .
__________
(1) انظر النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم لدراز ص 113 .
(2) لسان العرب مادة ( أثر ) 4 / 5 وانظر المصباح المنير مادة ( أثر ) 1 / 4 ومختار الصحاح مادة ( أثر ) 1 / 2 والمعجم الوسيط 1 مادة ( أثر ) / 5.
إلا أنه يقرب بدرجة كبيرة من الإقناع إذا تأثر من قصد بالتأثير , قال في المصباح المنير : " أثرت فيه تأثيراً : جعلت فيه أثراً وعلامة ؛ فتأثر أي : قبل وانفعل " (1).
وهنا نلاحظ أن القبول أقرب للإقناع لكن الانفعال قد يكون موافقة للمؤثر وقد يكون بعكسه , وحتى يتضح الأمر بدرجة أكبر نشير في المبحث الآتي إلى أبرز الجوانب في الصلة بين الإقناع والتأثير .
المبحث الثاني : الصلة بين الإقناع والتأثير :
بالنظر إلى الاستقراء اللغوي والاستخدام الواقعي للإقناع والتأثير نلاحظ أن هناك جوانب اشتراك واختلاف بينهما , ويمكن أن نجمل هذه الجوانب فيما يلي :
أولاً :قد تشترك اللفظتان في المقصود فتكون من باب الترادف , والترادف المقصود هنا هو الترادف النسبي أي الاشتراك الجزئي في المعنى , ذلك أن اللغة يقل بين ألفاظها ترادف بالمعنى الكامل , فلكل لفظة ما تختص به من المعاني وإن اشتركت مع لفظة أو ألفاظ أخرى في حمل بعض المعاني (2).
ثانياً : محل الإقناع يكون في الفكر والعاطفة ( القبول , الرضا , الاطمئنان ) أما محل التأثير ففي الغالب يلحظ في السلوك ( الإتيان أو الترك ), فرؤية الأثر في سلوك معين - كالمحافظة على الصلاة مثلاً - يدل على قناعة بوجوبها وأهميتها، لكن هذه القناعة قد لا تعرف أو تلحظ بمجرد وجودها فكرة في ذهن صاحبها .
ثالثاً : قد يؤدي الإقناع والقناعة إلى التأثير , فاقتناع المدخن بحرمة التدخين وخطره الصحي والاقتصادي قد يكون سبباً في تركه , وهذا ما تهدف إليه الدعوة إلى الإسلام بكل جوانبه العقدية والتشريعية والأخلاقية فليس المقصود العلم والقناعة بصحتها بل مع ذلك تطبيقها والتزامها سلوكاً وواقعاً ترى آثاره وتشهد مظاهره .
__________
(1) المصباح المنير مادة ( أثر ) 1 / 4.
(2) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 13 / 341 .
رابعاً :قد تحصل قناعة وإقناع بحجج قطعية دون أن يكون لها أثر عملي , مثاله قناعة المدخن بحرمته وخطره الصحي والاقتصادي , مع بقائه عليه , أو يقتنع إنسان بصحة الإسلام وصدق محمد عليه الصلاة والسلام ومع ذلك لا يكون لذلك أثره في دخوله الإسلام .
خامساً :وقد يتسبب التأثر - الانفعال- في حصول قناعة ما ؛ فرؤية حادث سيارة تتسبب في الشعور بأهمية ضبط السرعة والقناعة بضرورة تخفيفها , ورؤية صور الفقراء والبائسين والمشردين, قد تدفع إلى قناعة بأهمية مساعدتهم وعونهم، وإشراك الناشئة في المناشط الاجتماعية والدعوية يولد قناعة لديهم بأهميتها وقيمتها .
سادساً :قد يحصل تأثير سلوكي بالإتيان أو الترك دون إقناع أو قناعة , مثلا فرض التغيير على الآخر بالإكراه , فقد يترك إنسان ما منكراً لخوفه من العقوبة، وفي أي فرصة يأمن فيها يأتيه , وهنا تأكيد على أهمية التأثير المرتبط بالإقناع لأنها أبقى وأرسخ حتى لو زالت أو غابت المؤثرات الدافعة أو المانعة .
سابعاً : قد يراد بالتأثير حصول قناعة فيحصل التأثير العكسي للمقصود الأصلي , فالضغط غير المنضبط لإتيان مأمور أو ترك منهي مع عدم سلوك سبل الإقناع في ذلك قد يؤدي إلى عكس المراد , مثاله دفع الطلاب إلى التعليم في المدارس أو غيرها بالضرب والإيذاء قد يؤدي بالطالب إلى الترك والإعراض مع أهمية الأمر وقيمته .
لذلك كله جاء الربط بين هاتين اللفظتين في عنوان هذا البحث باعتباره دراسة دعوية تقصد إلى الإقناع الفكري الذي ينتج الأثر، وأظهر ما يكون ذلك الأثر في التزام الدين وتطبيق أحكامه, أو بعبارة أخرى إلى التأثير الإقناعي الذي يولد أثراً فكريّاً وسلوكيّاً إيجابيّاً في آن واحد .
الفصل الثاني : أهمية الإقناع والتأثير ومقومات نجاحه:
المبحث الأول : أهمية الإقناع والتأثير :
سنتناول أهمية الإقناع والتأثير في حياة الإنسان من جهتين :
الأولى : أهمية الإقناع والتأثير في الدعوة إلى الدين الحق .
والثانية : أهمية الإقناع والتأثير في التعامل والتواصل بين البشر .
وإلى شيء من التفصيل فيهما :
أولاً : أهمية الإقناع والتأثير في الدعوة إلى الدين الحق :
خلق الله البشر لعبادته وجعلهم محلاً لأمره ونهيه، كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (1) ،ولذلك لم تخل أمة من نذير يبلغها الرسالة الربانية : { وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ } (2).وجعل سبحانه وتعالى رسالة رسله واحدة في هدفها وغايتها , وإن تعددت الأمم واختصت كل أمة برسولها قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (3).
ثم جعل العموم والشمول للناس كافة بالرسالة الخاتمة التي بعث بها محمداً صلى الله عليه وسلم : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } (4) وأمر نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام بالدعوة فقال : { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ... } (5) ، وبين مهمته في مثل قوله: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (6) ، وفي مثل قوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا } (7).وأمر أتباع رسوله الخاتم بهذه المهمة فقال :
__________
(1) سورة الذاريات , الآية 56 .
(2) سورة فاطر , الآية 24 .
(3) سورة النحل , الآية 36 .
(4) سورة سبأ , الآية 28 .
(5) سورة الشورى , الآية 15 .
(6) سورة النحل , الآية 44 .
(7) سورة الأحزاب , الآية 45 , 46 .
{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (1).
وقال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } (2).
كل ذلك يحتاج إلى الإقناع والتأثير وإمالة المدعو إلى الحق وإيضاحه والاستدلال عليه بما يكون سبباً في قبوله ورضاه به واطمئنانه إليه ومن ثم تأثره بذلك في معتقده ومقاله وسلوكه .
ونجد أن الخالق جل وعلا يتفضل على عباده ببيان الحجج الصحيحة للحق الذي أرسل به الرسل عليهم الصلاة والسلام , بل ويستميلهم إليه بما يسهل عليهم قبوله والتزامه , فكل ما في القرآن والسنة من دعوة إلى معتقد أو تشريع أو خلق يقوم على الإقناع ومحاولة التأثير وليس الإكراه .
بل إنه سبحانه يتلطف برسله الذين اصطفاهم واختارهم على العالمين فنجد الإقناع والتأثير في تثبيتهم وتطمينهم بالحق الذي هم به أصلاً مؤمنون وإليه يدعون وفي سبيله يجاهدون , وهذا الملحظ بين فيما ورد من سؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لربه أن يريه كيف يحيي الموتى واستجابة الله تعالى له , قال تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ...الآية } (3)
__________
(1) سورة آل عمران , الآية 104 .
(2) سورة يوسف , الآية 108 .
(3) سورة البقرة , الآية 260
وانظر : مقال الإدارة بالإقناع , مهيوب خضر محمود ,مجلة حطة , مجلة إماراتية تصدر على الإنترنت www.hetta.com .
, ونلاحظ ما جاء في قوله: { ليطمئن قلبي } ، وإذا نظرنا إلى معنى الإقناع وجدنا الاطمئنان أحد أشكاله ومظاهره في معناه اللغوي ابتداء , وذلك من فضل الله تعالى وكرمه .
أما الدعوة إلى دين الله تعالى فقد بين سبحانه في مواضع كثيرة من كتابه أن وظيفة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وحدود مسؤوليته تنحصر في البلاغ قال تعالى: { وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ } (1), وقال سبحانه : { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } (2) .
ووجَّه جل وعلا بأن يكون الأسلوب المتبع مع المدعوين - مهما اشتدت مخالفتهم - بليغاً { وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا } (3) ، ومن ذلك أن يكون مقنعاً مؤثراً داعياً بأسلوبه وصفته إلى قبول الآخر واستجابته .
قال الراغب الأصفهاني في مفردات غريب القرآن : " والبلاغة تقال على وجهين : أحدهما أن يكون بذاته بليغاً , وذلك بأن يجمع ثلاثة أوصاف :
*صواباً في موضوع لغته .
*وطبقاً للمقصود به .
*وصدقاً في نفسه .
ومتى اخترم وصف من ذلك كان ناقصاً في البلاغة .
والثاني : أن يكون بليغاً باعتبار القائل والمقول له , وهو أن يقصد القائل أمراً ما فيرده على وجه حقيق أن يقبله المقول له وقوله: { وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً } يصح حمله على المعنيين "(4) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 20 .
(2) سورة النور الآية 54 , وسورة العنكبوت الآية 18 .
(3) سورة النساء , الآية 63 .
(4) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص 60 , 61 وانظر : التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي 1 / 143 .
وقال أبو السعود : " { قولاً بليغاً } مؤثراً واصلًا إلى كنه المراد مطابقاً لما سيق له من المقصود، فالظرف على التقديرين متعلق بالأمر، وقيل: متعلق بـ"بليغاً " على رأي من يجيز تقديم معمول الصفة على الموصوف، أي قل لهم قولاً بليغاً في أنفسهم مؤثراً في قلوبهم يغتمون به اغتماماً، ويستشعرون منه الخوف استشعاراً "(1).
وقال الألوسي : " { وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً } مؤثراً ليرتدعوا أو كلمهم على مقادير عقولهم ومتحمل طاقتهم "(2).
أما في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته فإن الإقناع واستمالة المدعوين بشتى السبل ظاهر في كثيرمما أثر عنه صلى الله عليه وسلم , وقد أخرج الإمام أحمد في المسند " عن أبي أمامة قال: إن فتى شابّاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله : ائذن لي بالزنى , فأقبل القوم عليه فزجروه , وقالوا : مه مه , فقال : " ادنه " ، فدنا منه قريباً , قال : فجلس , " قال : أتحبه لأمك ؟ " قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : " ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال : " أفتحبه لابنتك ؟ " قال : لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك . قال : " ولا الناس يحبونه لبناتهم " , قال : " أفتحبه لأختك ؟ " قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : " ولا الناس يحبونه لأخواتهم " , قال : " أفتحبه لعمتك ؟ " قال , لا والله جعلني الله فداءك . قال : " ولا الناس يحبونه لعماتهم " , قال: " أفتحبه لخالتك ؟ " قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : " ولا الناس يحبونه لخالاتهم " , قال : فوضع يده عليه وقال : " اللهم اغفر ذنبه , وطهر قلبه , وحصن فرجه " , قال : فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء "(3).
__________
(1) إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ( تفسير أبي السعود ) 2 / 196 .
(2) روح المعاني 5 / 83 .
(3) مسند الإمام أحمد 5 / 256 .وقال في مجمع الزوائد : " رجاله رجال الصحيح "1 / 129 .
فانظر إلى تلطفه صلى الله عليه وسلم مع هذا الشاب الذي يتناول مسألة ظاهرة للمسلمين، وقد كان بإمكانه أن يزجره أو يذكره بالحكم فقط، لكنه عليه الصلاة والسلام أقنعه إقناعاً عقليّاً وعاطفيّاً بما جعله يتأثر تأثراً حقيقيّاً بحيث لا يلتفت إليه بعد ذلك .
ثانياً : أهمية الإقناع والتأثير في التعامل والتواصل بين البشر:
فإن الله تعالى ميز البشر بالعقل، وجعله محلاً للتكليف وبتسخيره يكتسبون معاشهم فيتعاملون فيما بينهم ويتصلون ببعضهم بشتى أنواع التعامل والاتصال , كما أن لهم عواطف تستجيب لدواعي الخير ومحفزاته , كما تحذر من دواعي الشر وعواقبه , ومتى استثيرت هذه العواطف كان التأثر والتأثير , وهو ملحوظ في جميع مظاهر الحياة ومناشطها المختلفة من التجارة والتعليم والسياسة وغيرها، وكل ذلك لا يُسْتغنى فيه عن ممارسة الإقناع والتأثير بل يقوم عليه في كثير من المواقف والأحوال .
ويمكننا القول بأن كل من كان طرفاً في نشاط اتصالي هادف - في عموم النظر إلى الإنسان - فهو ممارس للإقناع والتأثير غالباً , ومن ذلك :
الوالدان مع أولادهما .
الزوجان فيما بينهما .
المدرس مع طلابه .
التاجر مع زبائنه.
الطبيب مع مرضاه.
الكاتب مع قرائه .
الخطيب مع مستمعيه.
الداعية مع المدعوين.
كل أولئك وغيرهم لديهم نشاط اتصالي هادف , وهم ممارسون للإقناع والتأثير في الغالب، شعروا بذلك أم لم يشعروا .
…ومن هنا ندرك شيئاً من سبب اهتمام الأمم على اختلاف مللها ونحلها بهذا الأمر , وكثرة الدراسات التي تجرى حوله استقلالاً أو بأطر مختلفة فهو محل اهتمام في دوائر العلوم والتخصصات المختلفة كما في :
مجال الإدارة (1).
__________
(1) انظر أساليب الإقناع الإداري , كيت كينان، ترجمة مركز التعريب والترجمة ص 7 .
ومجال الاتصال(1) بعامة أو الإعلام (2) بخاصة.
ومجال التربية (3).
ومجال السياسة (4).
ومجال الإلقاء والخطابة (5)وغيرها .
ومن فضل الله تعالى في هذا الدين الذي ارتضاه الله لعباده أنه جعل مسالة الإقناع والتأثير به على المدعوين إليه مسالة لا تناقض الفطر السوية ولا تخالف العقول الصحيحة بل تزكيها وتوجهها بأسهل منطق وأقوم حجة وأوضح دلالة، مع العدل والمصداقية وبناء ذلك كله على رغبة الخير والنصح للناس .
ويبقى أن تبذل الجهود في استجلاء المنهج الإسلامي في معرفة طرق الإقناع والتأثير مع الاستفادة من التراث الإنساني الصحيح في هذا المجال ليرتفع شأن الدعوة والداعي في الوصول إلى المدعو بالهدي الذي جاء به كتاب الله وسنة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام .
المبحث الثاني: تفاضل الناس في الإقناع والتأثير :
القدرة على الإقناع والتأثير مهارة مرغوبة وصفة محبوبة يتفاضل الناس في القدر الذي وهبهم الخالق سبحانه وتعالى منها , كما يتفاضلون في حسن استخدام هذه القدرة وتوجيهها فيما فيه مرضاة الله تعالى أو في غيره .
وتدل النصوص الشرعية كما يدل الواقع المشاهد على ذلك .
__________
(1) انظر فن الاتصال , برت دكر , ترجمة د. عبد الرحمن بن هادي الشمراني ص 7 .
(2) انظر الإقناع في حملات التوعية الإعلامية , د. عبد اللطيف دبيان العوفي ص 67 , ومبادىء علم الاتصال ونظريات التأثير د. محمود حسن إسماعيل ص 232 وما بعدها .
(3) انظر الإقناع في التربية الإسلامية، لسالم بن سعيد بن مسفر بن جبار كاملا. و الإنصات الانعكاسي، محمد راشد ديماس ص 15 , 16 وهو موجه للتأثير في تربية الطفل .
(4) انظر : المتلاعبون بالعقول , هربرت أ . شيلر ترجمة عبد السلام رضوان ص 7 .
(5) انظر فن التحدث والإقناع , ويليام ج. ماكولاف , ترجمة وفيق مازن ص 6 وفن الخطابة د. أحمد محمد الحوفي ص 56 .
قال تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } (1) .
قال الإمام القرطبي رحمه الله " { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم } تلك إشارة إلى جميع احتجاجاته حتى خاصمهم وغلبهم بالحجة "(2) .
وقال العلامة ابن سعدي رحمه الله : " { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } أي علا بها عليهم وحاجهم بها { نرفع درجات من نشاء } كما رفعنا إبراهيم عليه السلام في الدنيا والآخرة فإن العلم يرفع الله به صاحبه فوق العباد درجات, خصوصاً العالم العامل المعلم فإن الله يجعله للناس إماما بحسب حاله " (3).
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً بقوله فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها "(4) .
وأخرج الإمام مسلم عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال: " إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضهم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له , فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها "(5) .
قال ابن عبد البر : " وفيه أن بعض الناس أدرى بموقع الحجة وتصرف القول من بعض قال أبو عبيد معنى قوله:" ألحن بحجته" يعني أفطن لها وأحدى بها "(6).
__________
(1) سورة الأنعام الاية 83 .
(2) الجامع لأحكام القرآن 7 / 30.
(3) تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي ص 263 .
(4) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الشهادات , باب من أقام البينة بعد اليمين 3 / 162 ومسلم في كتاب الأقضية , باب الحكم بالظاهر واللحن في الحجة 3 / 1337.
(5) صحيح مسلم كتاب الأقضية باب الحكم بالظاهر واللحن في الحجة 3 / 1337 .
(6) التمهيد لابن عبد البر 22 / 216.
وقال في عون المعبود : " " وإنكم تختصمون إلي " أي ترفعون المخاصمة إلي " أن يكون " قال الطيبي زيد لفظة (أن) في خبر لعل تشبيهاً له بعسى " ألحن بحجته " أفعل تفضيل من لحن بمعنى فطن ووزنه أي أفطن بها قال: في النيل ويجوز أن يكون معناه أفصح تعبيراً عنها وأظهر احتجاجاً حتى يخيل أنه محق وهو في الحقيقة مبطل والأظهر أن معناه أبلغ كما وقع في رواية في الصحيحين أي أحسن إيراداً للكلام "(1).
وأخرج الإمام البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما يقول: جاء رجلان من المشرق فخطبا، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان سحراً "(2).
وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحراً , أو إن بعض البيان سحر "(3).
قال ابن عبد البر : " وأبى جمهور أهل الأدب والعلم بلسان العرب إلا أن يجعلوا قوله صلى الله عليه وسلم : "إن من البيان لسحراً" مدحاً وثناءً وتفضيلاً للبيان وإطراءً وهو الذي تدل عليه سياقة الخبر ولفظه "(4).
وقال أيضاً: " وفي هذا دليل على مدح البيان وفضل البلاغة والتعجب بما يسمع من فصاحة أهلها "(5) .
وقال الصنعاني : " وإن من البيان لسحراً " فشبه الكلام العامل في القلوب الجاذب للعقول بالسحر لأجل ما اشتمل عليه من الجزالة وتناسق الدلالة وإفادة المعاني الكثيرة ووقوعه في مجازه من الترغيب والترهيب ونحو ذلك "(6).
وفي هذا كله دليل على تفاوت الناس في القدرة على الإقناع والتأثير واختلافهم في حسن استعمال ذلك في الحق أو ما سواه .
__________
(1) عون المعبود 9 / 362 , وانظر سبل السلام 4 / 121 .
(2) صحيح البخاري كتاب النكاح , باب الخطبة 6 / 162 .
(3) المرجع السابق كتاب الطب , باب إن من البيان سحراً 7 / 30 .
(4) التمهيد 5 / 171 .
(5) المرجع السابق 5 / 174 .
(6) سبل السلام 2 / 49 .وانظر فيض القدير 2 / 524 وشرح الزرقاني 4 / 518 .
كما أن مما لا يخفى وجود ذلك في واقع الناس بما يكون في بعضهم فطرة وجبلة يتفوق بها على المتعلمين فيقنع أو يؤثر بحجته ومنطقه وأسلوبه أضعاف ما يستطيعه غيره .
وهذه القدرة تنمى بالممارسة وتزكى بالعلم وتضبط بأخلاق الوحي وثوابت الشريعة ولذا كان حريّاً أن تنال مزيداً من الاهتمام والتناول من الدارسين لعلوم الشريعة الإسلامية ؛ فهم أقدر على توجيهها , وأهدى سبيلاً بما لديهم من الوحي المعصوم في ضبط أساليبها وأهدافها .
المبحث الثالث : مقومات النجاح في الإقناع والتأثير :
يمكن القول بأن مقومات النجاح في الإقناع والتأثير تتمثل في عدد من الجوانب أبرزها :
1-حسن العلاقة بالله تعالى .
2- الخلق الحسن .
3- الإعداد الجيد لمشروع الإقناع والتأثير .
4- التدرج في ممارسة الإقناع والتأثير.
وسنتناولها في النقاط الآتية :
أولا : حسن العلاقة بالله تعالى :
العلاقة الحسنة بالله تعالى أظهر ما تكون في أمرين : الإخلاص , ومتابعة هدي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم .
والإخلاص كما هو معلوم بالضرورة لدى جماهير المسلمين شرط من شروط قبول العمل ؛ كما جاء عن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في قوله : " إنما الأعمال بالنيات "(1) ، وهو سبب هام في نجاح الإقناع والتأثير في الغير، فهو أبعد عن الرياء والسمعة والذي ينتج مصداقية يلحظها الناس في صاحب الإخلاص , وبالتالي قبول ما يقوله ويوجه إليه .
__________
(1) صحيح البخاري , كتاب بدء الوحي , باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 1 / 2 .
كما أن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم سبب في مرضاة الله تعالى عن العبد وطريق لمحبته كما قال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } (1) ومن ثمرات محبة الله تعالى للعبد أن يكتب بها له القبول في الأرض، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إني أحب فلاناً فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض الله عبداً دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض "(2) ، ولربما رأينا أناساً ليس لهم من أساليب الإقناع والتأثير أو البلاغة والبيان الكثير مما يؤثرون به على الناس، وإنما هو القبول الذي كتبه الله لبعض عباده بسبب صدقهم معه وإخلاصهم له وحسن علاقتهم به لِلَّهِ .
ثانياً : الخلق الحسن :
الخلق الحسن تعبير شامل لعدد من السلوكيات المحبوبة، ومقياس صحتها ما ورد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مثل الصدق والأمانة والكرم وطيب الكلام وحسن العشرة وغيرها .
ولا شك أن لصاحب الخلق الحسن درجة عالية وقيمة رفيعة .
__________
(1) سورة آل عمران , الآية 31 .
(2) صحيح مسلم , كتاب البر والصلة والآداب , باب إذا أحب الله عبداً حببه إلى عباده 4 / 2030 وانظر روضة المحبين 1 / 411
أخرج الإمام أحمد عن أبي ثعلبة الخشني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أحبكم إلي وأقربكم مني في الآخرة محاسنكم أخلاقاً وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة أساوئكم أخلاقاً الثرثارون المتفيهقون المتشدقون "(1) .
وفي الصحيحين عن مسروق قال : " كنا جلوساً مع عبد الله بن عمر ويحدثنا إذ قال : لم يكن رسول الله فاحشاً ولا متفحشاً وإنه كان يقول : " إن خياركم أحاسنكم أخلاقاً " (2).
كما أن من المشاهد أن حسن الخلق سبب رفعة ومحبة عند الناس وبالتالي نجاح الإقناع والتأثير الذي يمارسه صاحب الخلق الحسن أكثر من غيره .
ومن جوانب حسن الخلق المؤثرة في هذا الإطار الإحسان إلى المراد إقناعه والتأثير عليه بكافة أنواع الإحسان الحسية والمعنوية، فذلك سبب لفتح قلبه وإيجاد جسر يسهل انتقال الحق إليه , كما أن الإنصات وحسن الاستماع مع يسره وبساطته وانعدام تكلفته فيه من معاني التكريم وحسن الخلق مع الآخر شيء كثير وله أثر كبير .
ثالثاً : الإعداد الجيد لمشروع الإقناع والتأثير :
الإقناع والتأثير عمل بشري يرتفع بدرجة إتقانه وحسن الإعداد له , ولا نعني بذلك التحفز الذي يذهب طبيعة الممارسة ولكن نقصد أن يرتب الداعية نفسه ويعدها بحسب مقدار الحاجة ونوع الإقناع وموضوعه وظروفه والموجه إليه, ويتحقق من قدراته في ذلك ومناسبة الموضوع ومداخل الإقناع التي سيستخدمها فيه , ومن ذلك أن يرتب أفكاره ويعد البدائل المناسبة , ولو استعان بورقة وقلم ليسطر تلك الأفكار ويعاود النظر فيها قبل الدخول في هذا المشروع لكان أمكن له وأقدر على تحقيق درجات عالية من النجاح فيه .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 4 / 193 قال في مجمع الزوائد : " رجال أحمد رجال الصحيح " 8 / 21 .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأدب باب حسن الخلق 7 / 82 ومسلم في صحيحه كتاب الفضائل , باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم 4 / 1809 .
كما أن من الإعداد الجيد لمشروع الإقناع التعرف على المستهدف بهذا الإقناع وما يناسبه من أسلوب نقلي أو عقلي أو ترغيب أو ترهيب , وكيف يستفيد من مصادره التي يعتقد صحتها, بالإضافة إلى معرفة مستوى الإقناع والتأثير الذي ينبغي أن يتوجه به إلى ذلك المدعو .
رابعاً : التدرج في ممارسة الإقناع والتأثير :
ونقصد بذلك أن يكون الداعية متدرجاً فيما يريد الإقناع به بحسب أهميته أثره في إحداث التغيير , كما يكون إيجابيّاً تجاه تدرج المدعو في التأثر والاقتناع والتغيير ومستوى النجاح الذي تحقق الإقناع به , وذلك يتضح من خلال الجوانب الآتية :
*البدء بالأمور المشتركة المتفق عليها , وبخاصة ما يمثل أهمية لدى المدعو ؛ فهذا تدرج للإقناع والتأثير ينتج كسراً للحواجز المتوقعة عند المدعو تجاه الداعية أو موضوعه , كما ينتج كسباً لعقله وعاطفته , فعلى سبيل المثال يظن كثير من النصارى أن المسلمين يكرهون المسيح عليه الصلاة السلام وأنهم أعداؤه ومحاربو ملته , ولك أن تتصور أثر البدء ببيان موقف المسلمين من المسيح عليه الصلاة والسلام وبيان أنه ليس مسلماً من لم يؤمن به وبمعجزة مولده وبعظيم قدره ومنزلته عند الله عز وجل وعند المؤمنين وغير ذلك من المسائل المتصلة بهذا الموضوع مما هو عقيدة لازمة عند المسلم ابتداء .
*بيان أن الحق يمكن أن يكون في كلام أحد الطرفين ,كما أن الباطل يمكن أن يكون عند أحدهما كذلك , وهذه درجة عالية في الإنصاف والعدل والتدرج مع المخالف، وهي مظهر إيجابي في التناول للقضية المختلف فيها وبخاصة في الإقناع والتأثير الذي يكون في إطار حوار أو مناظرة , ودليل ذلك قوله تعالى : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } (1) .
__________
(1) سورة سبأ , الآية 24 .
قال الإمام الطبري : " وقد علم أنه على هدى وأنهم على ضلال مبين ولكنه رفق بهم في الخطاب فلم يقل أنا على هدى وأنتم على ضلال "(1) .
وقال الإمام القرطبي : " هذا على وجه الإنصاف في الحجة "(2).
*التدرج في هدف الإقناع والتأثير وقبول التجاوب الذي يلمس عند الآخر وإن قل , والتعامل مع ذلك بإيجابية وتفاؤل باعتبار ذلك تدرجاً في الدعوة إلى الحق فالتارك للصلاة إذا مورس معه الإقناع والتأثير في ترك هذا الخطأ ونجح الداعية في حمله على اعتقاد خطأ هذا الفعل فهذه درجة في النجاح , ثم حمله على أدائها فهذه درجة أخرى ؛ ثم أداؤها مع الجماعة فهذه درجة ثالثة , ثم التزامها والمحافظة عليها فهذه درجة أرفع مما قبلها وهكذا , فينبغي أن يقدر تأثره وقربه من الخير , ويثني عليه به تيسيراً لاستقامته وثباته بإذن الله .
وانظر إلى ملمح ذلك في هذا الحديث العظيم الذي يظهر فيه عظيم فضل الله وكرمه وقبوله سبحانه من عباده ومجازاتهم على نية الحسنة وإن لم يعملها وعلى نية ترك السيئة إذا هم بها :
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال : " قال إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة "(3).
الفصل الثالث : أساليب الإقناع والتأثير في مجال الدعوة .
المبحث الأول : الإطار الدعوي لأساليب الإقناع والتأثير:
__________
(1) جامع البيان 2 / 14 .
(2) الجامع لأحكام القران 14 / 298 .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الرقاق باب من هم بحسنة أو بسيئة 5 / 187 ومسلم في صحيحه عن أبي هريرة , كتاب الإيمان , باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب 1 / 117.
الإقناع بصفته الفطرية المبسطة جزء من منطق الإنسان الذي فضله الله به على كثير من المخلوقات , فهو موجود منذ وجوده , أما الدعوة به فهي قرينة لتكليفه على هذه الأرض، وقد نزل التكليف عليه - الإنسان - بالتزام أحكام الخالق جل وعلا منذ أهبط أبا البشر آدم عليه السلام إلى الأرض , قال تعالى: { قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (1) وفي ذلك دلالة على التكليف من جهة وعلى أن هذه الرسالة التي سيقودها الرسل عليهم صلوات الله وسلامه ويبينوها للناس ويحاولون إقناعهم والتأثير عليهم باعتناقها سيستجيب لها البعض وسيردها البعض الآخر .
كما أن سلوك الإنسان مع غيره وممارسته الإقناع والتأثير بغض النظر عن إيمانه أو كفره يدل بداهة على أن هذا السلوك جبلة وطبيعة مشتركة أيّاً كان وحيثما وجد زماناً ومكاناً .
ونجد أن الإقناع موضوع تتناوله عدد من العلوم فهو في علم النفس والتربية والإعلام والاتصال والسياسة والإدارة والمنطق , وأعتقد أن علم المنطق أقدم هذه العلوم تناولاً له , وقد بدأ التدوين في المنطق - بحسب ما وصلنا - منذ العصر اليوناني .
ونشير إلى أن مباحث المنطق اليوناني تناولت الإقناع والتأثير في إطار الحجج المعروفة عند اليونان وهي ( البرهانية والخطابية والجدلية والشعرية والأغلوطات أو السوفسطائية )(2) فكلها - بغض النظر عن صوابها وخطئها - مع ما كتب في الجدل والخطابة تتوجه إلى الإقناع والتأثير على الآخر بأشكال وأساليب متغايرة تتركز حول التكوين العقلي والعاطفي للإنسان .
__________
(1) سورة البقرة الآية 38 , 39 .
(2) انظر الفتاوى الكبرى 5 / 44 , وانظر ضوابط المعرفة ص 305 - 322.
وقد تأثر فريق من المسلمين بالفكر اليوناني ومفاهيمه للحجج في تفسيرهم لقوله تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (1) فجعلوا الحكمة بمنزلة الحجة البرهانية , وجعلوا الموعظة الحسنة بمنزلة الحجة الخطابية , وجعلوا الجدل الوارد في الآية مقابلاً للحجة الجدلية , وليست المشكلة في رؤيتهم المشابهة في أسماء الحجج الثلاث وأقسامها , ولكن المشكلة تكمن في التأثر بالمعنى الذي تصوره اليونان لتلك الحجج وتفسير مراد الله تعالى في تلك الآية به لِلَّهِ
وقد تناول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذلك ونقده وبين الفروق بينها , ومما قاله رحمه الله : " وإنما قلت إن هذه الثلاثة تشبه من بعض الوجوه الأقيسة الثلاثة التي هي البرهانية والخطابية والجدلية وليست هي بل أكمل من وجوه كثيرة "(2) ، وهو ما سيتبين بعد ذلك بإذن الله .
ولهذا فإنه يمكن القول بأن الإقناع كونه علماً أو فناً تناوله علم المنطق منذ نشأ التدوين فيه في العصر اليوناني في شكل الحجج الخمس المشار إليها , وذلك يعطيه بعداً تاريخياً في التصنيف في العلوم يتصل بالمنطق، إن لم نقل ابتداء إنه أساس فيه حتى لو تناولته علوم أخرى .
ولما جاء الإسلام كان له شأن آخر مع الإقناع والتأثير , ولعل استكشاف الوجهة الإسلامية في الإقناع والتأثير أفضل ما يكون في النظر في الآيات التي توجه إلى أساليب الدعوة , مع النظر إلى التطبيقات القرآنية والنبوية في ذلك .
ولقد تحدث علماء المسلمين وبينوا ما جاء في قوله تعالى :
__________
(1) سورة النحل الآية 125 .
(2) مجموع الفتاوى 2 / 44 وانظر , 45 , 46 و 9 / 147 و 19 / 164 والرد على المنطقيين 444 , 445 440 , 468.
{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... } (1) وهو الأساس الذي سنبني عليه تأصيل أسلوب الإقناع والتأثير في هذا الإطار وذلك في الجوانب الآتية (2) :
الجانب الأول : الدعوة تكون بأسلوب الإقناع والتأثير بالحكمة والموعظة الحسنة .
يقول الفخر الرازي : " ومن لطائف هذه الآية أنه قال: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } فقصر الدعوة على هذين القسمين ... أما الجدل فلا يدعى به بل المقصود منه غرض آخر مغاير للدعوة ...
فلهذا السبب لم يقل: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل الحسن , بل قطع الجدل عن باب الدعوة , وإنما الغرض منه شيء آخر والله أعلم "(3) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وأما الجدل فلا يدعى به بل هو من باب دفع الصائل فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن .
ولهذا قال: { وجادلهم } فجعله فعلاً مأموراً به مع قوله ( ادعهم ) فأمره بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وأمره أن يجادل بالتي هي أحسن وقال في الجدال: "بالتي هي أحسن" ولم يقل: بالحسنة، كما قال في الموعظة، لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن حتى يصلح ما فيه من الممانعة والمدافعة , والموعظة لا تدافع كما يدافع المجادل فما دام الرجل قابلاً للحكمة أو الموعظة الحسنة أو لهما جميعاً لم يحتج إلى مجادلة "(4) .
__________
(1) سورة النحل الآية 125 .
(2) انظر أسلوب المناظرة في دعوة النصارى إلى الإسلام ص 47 .
(3) التفسير الكبير 139 / 140 - بتصرف - وانظر غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري 14 / 131 .
(4) الرد على المنطقيين ص 468 . وانظر تفسير القرآن، العظيم لابن كثير 2 / 591 .
الجانب الثاني : للحكمة بالنظر إلى ورودها في كتاب الله عز وجل عدة معان , وقد ذكرها الفيروزأبادي في ستة (1) , أما معناها في سياق هذه الآية { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } فإن للمفسرين فيه أقوالاً يمكن إجمالها في ثلاثة أقوال :
الأول : أنها " اسم يجمع العلم والعمل به "(2) والمقصود علم الكتاب والسنة العمل بهما .
الثاني : مراعاة مقتضى الحال، أو دعوة كل أحد على حسب حاله وقبوله وانقياده .(3)
الثالث : الدليل الصحيح المحكم والحجة القطعية .(4)
والذي يظهر لي أن أكثرها مناسبة للسياق وتحديداً للمقصود الخاص في سياق الأساليب الواردة في الآية ما جاء في المعنى الثالث .
أما المعنى الأول فإن صفة العلم والعمل به ينطبق على الأساليب الثلاثة كلها .(5)
وأما المعنى الثاني فإنه أقرب إلى المعنى العام الشائع للحكمة - وضع الشيء في موضعه - ولذلك هو صحيح من هذا الوجه لكنه في سياق الآية يحتاج إلى تحديد أكثر .
ومن ثم يمكن أن نقول بأن أسلوب الحكمة في مقام الدعوة هو أسلوب الإقناع والتأثير بالحجج القطعية وسيأتي تفصيل ذلك لاحقاً بمشيئة الله .
__________
(1) انظر بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز 2 / 487 .
(2) الرد على المنطقيين ص 477 , وانظر مجموع الفتاوى 2 / 45 .
(3) انظر : تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 1 / 452 وانظر في ظلال القرآن 4 / 2202 .
(4) انظر التفسير الكبير للرازي 20 / 138 , وغرائب القرآن للنيسابوري 14 / 131 , ولباب التأويل للخازن 4 / 124 , ومحاسن التأويل للقاسمي 10 / 3877 , وفتح القدير للشوكاني 3 / 203 .
(5) انظر مجموع الفتاوى 2 / 45 , 46 .
الجانب الثالث : الموعظة الحسنة الواردة في قوله تعالى : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } تعني الدعوة إلى الله بالترغيب والترهيب(1) , ويرد هذا المعنى في عدد من كتب التفسير بعبارات مختلفة , إلا أن الذي ينبغي التأكيد عليه أن هذه الموعظة أو الترغيب والترهيب إذا كانت بما جاء في كتاب الله فهي حق وصدق لأن كتاب الله كذلك حق وصدق , وعلى الداعي بها أن لا يدعو إلا بما هو حق وصدق , ويبدو أن ما ورد عند البعض بأنها الأمارات الظنية والدلائل الإقناعية(2) مشابه لمعنى الحجة الخطابية عند اليونان , وما جاء عن الله ورسوله سواء كان أمراً ونهياً أم خبراً فلا يجوز أن يوصف بأنه ظني بل هو حق وصدق .(3)
الجانب الرابع : بالنظر إلى التطبيقات العملية لأساليب الإقناع والتأثير في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فإننا نجد أنها تخاطب عقل الإنسان وتستثير عاطفته للالتزام والتطبيق, ومن الأفهام القاصرة الظن بأن كتاب لله أو سنة نبيه لا تحوي حججاً عقلية، بل هو مليء بالحجج العقلية اليقينية(4) وسنتبين لاحقاً بإذن الله مفهوم الحجة القطعية وهو التعبير الأدق لمفهوم الحجة الشرعية , واتفاق العقل الصريح مع النقل الصحيح .
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى 19 / 164 معالم التنزيل للبغوي 4 / 124 , ولباب التأويل للخازن 4 / 124 , وتيسير الكريم الرحمن لابن سعدي 452 .
(2) انظر التفسير الكبير للرازي 20 / 138 , وفتح القدير للشوكاني 3 / 203 .
(3) انظر الرد على المنطقيين ص 445 , ومجموع الفتاوى 2 / 45 , 46 وروح المعاني 14 , 255 .
(4) انظر درء تعارض العقل والنقل : 6 / 361 , ومجموع الفتاوى 14 / 62 , و19 / 163 , والصواعق المرسلة 2 / 793 واستخراج الجدل من القرآن الكريم لابن نجم الحنبلي 73 - 112 وتطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم للمنهج العقلي في الدعوة ص 7 .
وبذلك يمكن القول بأن أسلوب الإقناع والتأثير الذي ينبغي أن يكون في دعوة الناس إلى الإسلام أظهر ما يكون في هذه الإطارين :
الأول : أسلوب الإقناع والتأثير بالحجج القطعية .
الثاني : أسلوب الإقناع والتأثير العاطفي.
بل إن كثيراً من الدراسات النفسية والاجتماعية والإعلامية والتربوية والإدارية و غيرها لا تخرج عن هذين الإطارين في تناول أساليب الإقناع والتأثير وإن تعددت المفردات والتفريعات والنماذج أو اختلفت الاصطلاحات والألفاظ وذلك عائد - كما أسلفنا - إلى التكوين العقلي والعاطفي لدى الإنسان ..
المبحث الثاني : أسلوب الإقناع والتأثير بالحجج القطعية :
كثيراً ما يقال هذا دليل شرعي، ويشار إلى آية من القرآن الكريم أو حديث نبوي , كما يقال : هذا دليل شرعي ويقابل بالدليل العقلي , والصواب أن المشروعية في الاحتجاج والاستدلال والإقناع لا تكون فقط من كون الدليل آية أو حديثاً , كما أن الصحة والخطأ لا تأتي من كون الدليل عقليّاً أو نقليّاً ولا يقتضي ذلك المدح أو الذم ابتداء وإنما الصحة تكون من كون الدليل قطعيّاً أي صحيحاً فهو الدليل أو الحجة الشرعية أو الحجة القطعية .
والحجة الشرعية - بمعنى المشروعة أو التي يعتد بها شرعاً - من حيث المقابلة والتضاد، تقابل بغير الشرعية أو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تقابلها البدعية .
قال رحمه الله : " كون الدليل عقليّاً أو سمعيّاً ليس هو صفة تقتضي مدحاً ولا ذمّاً ولا صحة ولا فساداً بل ذلك يبين الطريق الذي به علم وهو السمع أو العقل وإن كان السمع لابد معه من العقل وكذلك كونه عقليّاً أو نقليّاً .
وأما كونه شرعيّاً فلا يقابل بكونه عقليّاً وإنما يقابل بكونه بدعيّاً إذ البدعة تقابل الشرعة وكونه شرعيّاً صفة مدح وكونه بدعيّاً صفة ذم وما خالف الشريعة فهو باطل "(1).
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل 1 / 198 .
والحجة الشرعية - المقبولة شرعاً - هي الحجة القطعية سواء كانت نقلية أو عقلية .
والحجة القطعية هي الحجة الصحيحة الثابتة ويقابلها ( الحجة الظنية ) .
وفي الدعوة إلى دين الله تعالى بل في العبادة بشكل عام فإن المعول عليه والمأمور به هو ما كان مبنيّاً على الحجة القطعية .
والحجة القطعية يمكن أن تكون نقلية وتسمى أحياناً سمعية ويمكن أن تكون عقلية أو واردة نقلاً ويدرك صحتها بالعقل فهي عقلية نقلية .
فإذا تعارض العقل والنقل قدم القطعي منهما لكونه قطعيّاً سواء كان نقليّاً أم عقليّاً , ولا يمكن أن يتعارض دليلان قطعيان .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " إذا قيل تعارض دليلان سواء كانا سمعيين أو عقليين أو أحدهما سمعيّاً والآخر عقليّاً فالواجب أن يقال لا يخلو إما أن يكونا قطعيين أو يكونا ظنيين وإما أن يكون أحدهما قطعيّاً والآخر ظنيّاً .
فأما القطعيان فلا يجوز تعارضهما سواء كانا عقليين أو سمعيين أو أحدهما عقليّاً والآخر سمعيّاً، وهذا متفق عليه بين العقلاء لأن الدليل القطعي هو الذي يجب ثبوت مدلوله ولا يمكن أن تكون دلالته باطلة .
وحينئذ فلو تعارض دليلان قطعيان وأحدهما يناقض مدلول الآخر للزم الجمع بين النقيضين وهو محال بل كل ما يعتقد تعارضه من الدلائل التي يعتقد أنها قطعية فلابد من أن يكون الدليلان أو أحدهما غير قطعي أو أن لا يكون مدلولاهما متناقضين , فأما مع تناقض المدلولين المعلومين فيمتنع تعارض الدليلين .
وإن كان أحد الدليلين المتعارضين قطعيّاً دون الآخر فإنه يجب تقديمه باتفاق العقلاء سواء كان هو السمعي أو العقلي فإن الظن لا يرفع اليقي وأما إن كانا جميعاً ظنيين فإنه يصار إلى طلب ترجيح أحدهما فأيهما ترجح كان هو المقدم سواء كان سمعيّاً أو عقليّاً "(1).
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل 1 / 79 وانظر 1 / 87 و 1 / 185 وانظر الصواعق المرسلة 3 / 797 .
والأدلة الشرعية الواردة في الكتاب والسنة مشتملة على العقليات ودالة ومنبهة عليها , ولذلك هي الأَوْلى بالاستخدام دون أن يلزم من ذلك الإشارة إلى كونها نقلية وخاصة مع المخالف في أصل النقل مثل الكفار ومن نحا نحوهم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ثم الشرعي قد يكون سمعيّاً وقد يكون عقليّاً فإن كون الدليل شرعيّاً يراد به كون الشرع أثبته ودل عليه ويراد به كون الشرع أباحه وأذن فيه فإذا أريد بالشرعي ما أثبته الشرع فإما أن يكون معلوما بالعقل أيضاً ولكن الشرع نبه عليه ودل عليه فيكون شرعيّاً عقليّاً .
وهذا كالأدلة التي نبه الله تعالى عليها في كتابه العزيز من الأمثال المضروبة وغيرها الدالة على توحيده وصدق رسله وإثبات صفاته وعلى المعاد، فتلك كلها أدلة عقلية يعلم صحتها بالعقل وهي براهين ومقاييس عقلية وهي مع ذلك شرعية "(1).
وهذا يقودنا إلى تصنيف الحجج والاستدلالات القطعية إلى ثلاثة أصناف :
الصنف الأول : الحجة القطعية المركبة من النقلية والعقلية .
وهي الوارد ة نقلاً، المدركة عقلا فمع دلالة النقل عليها فهي مدركة عقلا , وعلى هذا معظم أدلة القرآن الكريم كما أسلفنا ومزاياها في الدعوة عديدة جدّاً منها :
1- أنها التي يستدل بها مع الموافق والمخالف لأنها مقبولة عند من عنده عقل فلا تقتصر على الموافق في الدين والملة .(2)
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل 1 / 198 , 199 .
(2) انظر الموافقات للشاطبي 3 / 32 .
2 - أن دلالة القرآن على مسائل الاعتقاد هي التي مكنت العقول من معرفة حقائقها كصفات الله تعالى وأفعاله وحقائق اليوم الآخر من بعث وحساب وجزاء وما في الجنة والنار , وعموم مسائل الغيب التي هي حق، ضرب الله تعالى لها الأمثال في كتابه لتقريرها تنبيهاً للعقول على وجودها مثل الاستدلال على النشأة الآخرة بالنشأة الأولى وعلى خلق الإنسان بخلق السموات والأرض وعلى البعث بعد الموت بإحياء الأرض الميتة بعد إنزال الماء وغير ذلك من الأمثال المدركة في العقل السليم , فقد بين الله تعالى من الأدلة العقلية فيها ما يحتاج إلى العلم بها بما لا يقدر أحد على مثله .(1)
قال ابن القيم رحمه الله : " الأدلة السمعية نوعان : نوع دل بطريق التنبيه والإرشاد على الدليل العقلي فهو عقلي سمعي ومن هذا غالب أدلة النبوة والمعاد والصفات والتوحيد ما تقدم التنبيه على اليسير جدّاً منه، وإذا تدبرت القرآن رأيت هذا أغلب النوعين عليه وهذا النوع يمتنع أن يقوم دليل صحيح على معارضته لاستلزامه مدلوله وانتقال الذهن فيه من الدليل إلى المدلول ضروري وهو أصل للنوع الثاني الدال بمجرد الخبر فالقدح في النوعين بالعقل ممتنع بالضرورة "(2).
وقال رحمه الله : "أدلة القرآن والسنة التي يسميها هؤلاء "الأدلة اللفظية" نوعان : أحدهما يدل بمجرد الخبر , والثاني يدل بطريق التنبيه والإرشاد على الدليل العقلي .
والقرآن مملوء من ذكر الأدلة العقلية التي هي آيات الله الدالة عليه وعلى ربوبيته ووحدانيته وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته "(3).
3- أن هذه الأدلة هي الأولى والأجدر عند الإقناع والتأثير بموضوعاتها في الدعوة إلى دين الله تعالى، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
__________
(1) انظر درء تعارض العقل والنقل 1 / 28 - 38 وانظر منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة 1 / 178
(2) الصواعق المرسلة 3 / 908 .
(3) المرجع السابق 3 / 793
" والأقيسة العقلية التي اشتمل عليها القرآن هي الغاية في دعوة الخلق إلى الله كما قال : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ } (1) في أول سبحان وآخرها وسورة الكهف والمثل هو القياس ولهذا اشتمل القرآن على خلاصة الطرق الصحيحة التي توجد في كلام جميع العقلاء من المتكلمة والمتفلسفة وغيرهم ونزه الله عما يوجد في كلامهم من الطرق الفاسدة ويوجد فيه من الطرق الصحيحة ما لا يوجد في كلام البشر بحال"(2) .
الصنف الثاني : الحجة القطعية النقلية .
والدليل النقلي له معنيان: عام، وخاص .
فالمعنى العام للدليل النقلي - من وجهة نظري - هو : كل كلام ينقل عن الغير بأي وسيلة كالكلام الشفهي أو المكتوب أو ما يقوم مقامهما بقصد الاستدلال به .
أو هو : كل دليل منقول بقصد الاحتجاج والاستدلال به .
وهو بهذا المعنى موجود في كل العلوم والتخصصات والمناشط الإنسانية , فأرباب العلوم ينقلون على وجه الاستدلال بالنقل عن كبار أساتذتهم وعلمائهم، وأهل البلدان يبلغهم الخبر عن الحاكم بواسطة نوابه فيسمعون ويطيعون , وعامة الناس أو التجار يبلغهم النبأ المنقول فيما بينهم أو من غيرهم عن زيادة في سلعة أو قرب خطر أو غير ذلك فيتصرفون تبعاً لذلك بما يرونه محققاً للمصلحة أو دافعاً للفساد .
أما المعنى الخاص فهو المعنى المقصود في الإطار الشرعي الذي يحدد مصادر يعتد بها للاحتجاج والاستدلال بما ينقل عنها فالدليل النقلي هنا :
هو " الدليل النصي من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو إجماع أهل العلم "(3) .
وللدليل النقلي مزايا من أبرزها :
__________
(1) سورة الإسراء , الآية 89 .
(2) مجموع الفتاوى 2 / 46 , 47 .
(3) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية رقم ( 8803) 5 / 12.
1- إذا كان النقل صحيحاً فهو الذي يدل العقل ويرشده سواء في الأصول والتصورات أم في الفروع والتفاصيل .
2 - الدليل النقلي الوارد في الكتاب والسنة مشتمل في الغالب على العقليات التي يحتاج الناس إليها وخاصة في أبواب الاعتقاد - كما أشرنا إلى ذلك سابقاً في الصنف الأول - , قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " الطريق الشرعي هو النظر فيما جاء به الرسول والاستدلال بأدلته والعمل بموجبها فلا بد من علم بما جاء به وعمل به لا يكفي أحدهما .
وهذا الطريق متضمن للأدلة العقلية والبراهين اليقينية فإن الرسول بين بالبراهين العقلية ما يتوقف السمع عليه والرسل بينوا للناس العقليات التي يحتاجون إليها كما ضرب الله في القرآن من كل مثل وهذا هو الصراط المستقيم الذي أمر الله عباده أن يسألوه هدايته "(1).
3 - لا يمكن للعقل أن يدرك كل شيء " وقد جعل الله تعالى للعقول في إدراكها حدّاً تنتهي إليه لا تتعداه , ولم يجعل لها سبيلاً إلى الإدراك في كل مطلوب " (2) وهناك أمور لا تعلم إلا بالخبر الصادق عن الله تعالى مثل العلم بالله وصفاته ومسائل البعث والجزاء وأحوال الجنة والنار وعامة الغيبيات(3).
4 - الاستدلال بالنقل إذا جاء من مصدر صحيح موثوق سواءً بالمعنى العام أو الخاص الذين أشرنا إليه آنفاً سلوك صحيح يختصر على الإنسان مهمة التحقق وإنشاء النظر في القضية الصحيحة المثبتة بالنقل .
5 - الاستدلال بالنقل ليس من مسائل الأديان فقط بل هو أمر موجود بمعناه العام في كل العلوم والتخصصات مثل الرياضيات والفيزياء والطب , بل وفي كل المناشط الإنسانية .
__________
(1) منهاج السنة النبوية 5 / 428 .
(2) الاعتصام للشاطبي 2 / 318 .
(3) انظر منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة 1 / 176 , 178 .
6 - لا يقتصر الاستدلال بالنقل في مجال الإقناع والتأثير في الدعوة إلى الله على المعنى الخاص فكل ما يخدم الدلالة على الحق أو بيان بطلان الباطل ولوٍ كان من غير تلك المصادر الشرعية وأتي به على وجه صحيح فهو مقبول شرعا وعقلا , فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستدل على صحة الحكم بالرجم في الزنا الذي يريد إقامته على اليهودي بما ورد في التوراة(1) , وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستدل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في مقام إقامة الحجة على اليهود بتقريرهم بما ورود عندهم وفي كتبهم .(2)
وهو طريق نافع جدّاً مع الخصم بإقناعه والتأثير عليه من مصادره المقبولة عنده .
وقد يرد سؤال هنا عن معنى القطعية في الحجة النقلية فنقول: إنها تتمثل في قطعية الرواية والدراية , أي صحة الإسناد وصحة الفهم .
الصنف الثالث : الحجة القطعية العقلية.
الدليل العقلي هو : " ما أدركه العقل في الموضوع الذي هو محل الاستدلال " (3).
و" الدليل العقلي عند من يطلق هذا اللفظ جنس تحته أنواع فمنها ما هو حق ومنها ما هو باطل باتفاق العقلاء، فإن الناس متفقون على أن كثيراً من الناس يدخلون في مسمى هذا الاسم ما هو حق وباطل "(4) .
__________
(1) انظر الحديث في صحيح مسلم كتاب الحدود , باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا 3 / 1326 .
(2) انظر جامع البيان 1 / 434 .
(3) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية رقم ( 8803 ) 5 / 12 .
(4) درء تعارض العقل والنقل 1 / 191 .
ومن فضل الله تعالى أن إقناع الناس والتأثير فيهم في مقام الدعوة إلى دين الله عز وجل فيه مراعاة لحال المخاطب واعتبار أنه قد لا يكون مؤمناً بمصادر الداعي ومرجعيته بادي الأمر , ولذلك كانت الدعوة إلى حقائق هذا الدين لكونها صريحة صحيحة مدركة عقلاً كما هي ثابتة نقلاً , لا يمكن أن يحصل تناقض بينهما ما داما صحيحين قطعيين - أي النقل والعقل - , فمن لم يثبت له النقل فإنه لا يخاطب به من حيث هو نقل بل يخاطب بمضمونه المدرك عقلا , وله أن يخاطب بما هو قطعي عقلاً دون أن يكون له أصل في النقل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وأما إذا كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره والبيان له وفي مقام النظير أيضاً فعليه أن يعتصم أيضاً بالكتاب والسنة ويدعو إلى ذلك وله أن يتكلم مع ذلك ويبين الحق الذي جاء به الرسول بالأقيسة العقلية والأمثال المضروبة فهذه طريقة الكتاب والسنة وسلف الأمة فإن الله سبحانه وتعالى ضرب الأمثال في كتابه وبين بالبراهين العقلية توحيده وصدق رسله وأمر المعاد وغير ذلك من أصول الدين وأجاب عن معارضة المشركين كما قال تعالى: { وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } (1) .
وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مخاطباته ولما قال ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر , قال له أبو رزين العقيلي كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن كثير ؟ فقال سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر آية من آيات الله كلكم يراه مخلياً به فالله أعظم ولما سأله أيضاً عن إحياء الموتى ضرب له المثل بإحياء النبات .
__________
(1) سورة الفرقان , الآية 33 .
وكذلك السلف فروي عن ابن عباس أنه لما أخبر بالرؤية عارضه السائل بقوله تعالى: { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } (1) فقال له: ألست ترى السماء، فقال: بلى، قال: أتراها كلها، قال: لا . فبين له أن نفي الإدراك لا يقتضي نفي الرؤية ... "(2) .
ويقول رحمه الله : " في القرآن من بيان أصول الدين التي تعلم مقدماتها بالعقل الصريح مالا يوجد مثله في كلام أحد من الناس، بل عامة ما يأتي به حذاق النظار من الأدلة العقلية يأتي القرآن بخلاصتها وبما هو أحسن منها .
قال تعالى: { وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } (3).
وقال : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ } (4).
وقال : { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (5) "(6).
ويقول ابن القيم رحمه الله : " وقد تدبر أنصار الله ورسوله وسنته هذا فما وجدوا بحمد الله العقل الصريح يفارق النقل الصحيح أصلاً بل هو خادمه وصاحبه والشاهد له وما وجدوا العقل المعارض له إلا من أفسد العقول وأسخفها وأشدها منافاة لصريح العقل وصحيحه "(7).
وقد مرت الإشارة إلى هذا الأمر سابقاً في الصنف الأول , ونضيف هنا إلى ذلك أن قطعية الحجة العقلية تكمن في الجوانب التالية أو بعضها :
__________
(1) سورة الأنعام , الآية 103
(2) درء تعارض العقل والنقل 1 / 235 , 236 . والحديث في مسند الإمام أحمد 4 / 11 , 12 , والمستدرك للحاكم 4 / 605 وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي . وانظر : تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3 / 209 .
(3) سورة الفرقان , الآية 33 .
(4) سورة الروم , الآية 58 وسورة الزمر , الآية 27 .
(5) سورة الحشر , الآية 21 .
(6) مجموع الفتاوى 12 / 81 .
(7) الصواعق المرسلة 2 / 679.
1 - موافقتها للفطرة السليمة , فالناس مفطورون على العلم بالقوانين العقلية التي لا ينازع فيها أحد من عقلاء بني آدم، لأن مبنى العقل على صحة الفطرة وسلامتها .(1)والعلوم الضرورية التي تعلم بالفطرة كثيرة منها أن الحادث لابد له من محدث يحدثه , كالبنيان مثلاً لا بد له من بان والكتابة لا بد لها من كاتب بل الطفل الصغير إذا ضربه أحد من خلفه التفت باحثاً عمن ضربه لعلمه أن الضربة لا بد لها من ضارب والعلم بأن الجزء أكبر من الكل وغير ذلك (2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "إن الله تعالى نصب على الحق الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والنور وبين الباطل والظلام وجعل فطر عباده مستعدة لإدراك الحقائق ومعرفتها ولولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق لم يكن النظر والاستدلال ولا الخطاب والكلام . كما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب ولولا ذلك لما أمكن تغذيتها وتربيتها , وكما أن في الأبدان قوة تفرق بين الغذاء الملائم والمنافي ففي القلوب قوة تفرق بين الحق والباطل أعظم من ذلك "(3).
2 - موافقتها للنقل الصحيح وبخاصة عندما يكون الموضوع في مسائل الأديان وعقائدها .
3 - كونها مما يجمع عليه العقلاء وإن اختلفت مللهم , ومن أوضح الأمثلة توافق علماء العلوم المتنوعة على حقائق تلك العلوم وقواعدها التي بنوها على التجارب والمشاهدات والنظر العقلي في الرياضيات والفيزياء والكيمياء وغيرها .
__________
(1) انظر : الرد على المنطقيين ص 323.
(2) انظر درء تعارض العقل والنقل 3 / 118 ومنهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد 1 / 206 - 218 .
(3) درء تعارض العقل والنقل 5 / 62 .
ومع التأكيد على أن الإقناع والتأثير في مجال الدعوة إلى الدين الحق لا يحتاج كثيراً إلى مصادر غير المصادر الشرعية لكونها قد حوت أطراً وقياسات عقلية كافية مع المخالف أيّاً كان إلا أن قصد الإقناع والتأثير في مقام الدعوة يدعونا إلى التأكيد على أمور أهمها :
1- من المفيد جداً استثمار وتوظيف الحجة القطعية العقلية التي دل عليها النقل المعصوم وإبرازها مع من لا يقبل بالنقل في المرحلة الأولى على الأقل ثم إن تسليمه بها سبيل إلى الدعوة إلى التسليم بالقبول بالمصدر الذي جاءت فيه .
بل إن الحجة العقلية الصحيحة من غير المصادر الشرعية وخاصة في مجال نفي حجج الخصوم ومواجهتها كما هو الحال في استخدام المسلمين للاستدلال العقلي في مواجهة العقائد النصرانية(1) لها أثرها الكبير متى تحقق من صحتها وقطعيتها .
2- التأكيد على الحاجة إلى بذل الجهد والطاقة في استظهار الأدلة العقلية الواردة في الكتاب والسنة على مسائل الاعتقاد خاصة تسهيلاً للدعوة بها وقد بذل المفسرون وعلماء العقيدة وشراح الحديث والذين كتبوا في الردود على المخالفين جهوداً في ذلك على تفاوت فيما بينهم في ملاحظة ذلك , ولعل ما قام به ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم المعروف بابن الحنبلي ( ت 634 هـ ) من جهود في ذلك لما ورد القرآن والسنة من خلال كتابيه ( استخراج الجدل من القرآن الكريم )(2) و ( أقيسة النبي المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم )(3) يمكن أن يعد عملاً متميزاً متخصصاً في ذلك .
__________
(1) الرد على النصارى ص 37 .
(2) حققه الدكتور زاهر بن عواض الألمعي 1401 هـ .
(3) حققه أحمد حسن جابر وعلي أحمد الخطيب ط1، 1393 هـ .
3- ما يبذل من قبل المشتغلين بالإعجاز العلمي في القرآن الكريم في هذا العصر شكل من أشكال استخراج الحجج القطعية العقلية النافعة جداً في هذا المجال وأثرها في الدعوة إلى الإسلام , ولا شك أن اهتمام عدد من العلماء غير المسلمين بنتائج أبحاث الإعجاز العلمي ودخولهم في الإسلام شاهد على ذلك .
4- لا بد أن يكون النظر العقلي لحجج القرآن مبنيّاً على استنباط وتدبر القرآن الكريم ذاته وليس وفق أطر منطقية مسبقة , وقد كان لشيخ الإسلام ابن تيمية ولتلميذه ابن القيم وللإمام الشاطبي رحمهم الله ولغيرهم جهود سابقة في ذلك وهي جديرة بالعناية والمتابعة لصياغة المنطق القرآني واستنباطه بدلا من المنطق اليوناني الذي ما يزال مؤثراً في مدارس الفكر الغربي بل والإسلامي وبخاصة في بعض الفرق أو الأفراد بقدر بعدهم عن هدي الكتاب والسنة وفق فهم المصطفى صلى الله عليه وسلم وفهم صحابته الكرام رضوان الله عليهم وعلماء الأمة المحققين .
وهذه الصياغة يمكن أن تكون بالنظر إلى القضايا من جهة ورودها في القرآن الكريم أو من جهة حدوثها في المجتمعات الإسلامية وقياسها في أطر النصوص الشرعية أو من جهة أصول المنطق الحق وقواعد التفكير والاستدلال المنضبط بالوحي المعصوم ومحاولة استنباط وصياغة تلك الأصول والضوابط .
ولنا في قوله تعالى: { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } (1) هداية ودلالة عظيمة
قال الإمام الجصاص في أحكام القرآن :
__________
(1) سورة النساء , الآية 83 .
"وقوله تعالى: { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } فإن الاستنباط هو الاستخراج ومنه استنباط المياه والعيون فهو اسم لكل ما استخرج حتى تقع عليه رؤية العيون أو معرفة القلوب والاستنباط في الشرع نظير الاستدلال والاستعلام وفي هذه الآية دلالة على وجوب القول بالقياس واجتهاد الرأي في أحكام الحوادث وذلك لأنه أمر برد الحوادث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته إذا كانوا بحضرته وإلى العلماء بعد وفاته والغيبة عن حضرته صلى الله عليه وسلم وهذا لا محالة فيما لا نص فيه لأن المنصوص عليه لا يحتاج إلى استنباطه فثبت بذلك أن أحكام الله ما هو منصوص عليه ومنها ما هو مودع في النص قد كلفنا الوصول إلى الاستدلال عليه واستنباطه "(1).
ومن الأمثلة التي ينبغي أن تحتذى ما كان من جهود شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله في نقد المنطق ومخالفته للمناطقة حصر الاستدلال بقياس الشمول والتمثيل والاستقراء فهو يضيف نوعين آخرين هما الاستدلال بقياس الأولى والاستدلال بالآيات .(2)
ويرى أن العلم بالله لا يستخدم فيه قياس شمول منطقي تستوي أفراده في الحكم , ولا قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع بل يستدل على ذلك بقياس الأولى وهو الطريق الذي جاء به القرآن .(3)
وأنكر قول المنطقيين بأن الاستدلال لابد فيه من وجود مقدمتين بلا زيادة أو نقصان , ويرى أن ذلك مما يبنى على احتياج المستدل أو المستدل له فمن الناس من يحتاج إلى مقدمة واحدة ومنهم من يحتاج إلى مقدمتين ومنهم من يحتاج إلى ثلاث ومنهم من يحتاج إلى أربع وأكثر .(4)
__________
(1) أحكام القرآن 3 / 183 .
(2) الرد على المنطقيين ص 162 - 165.
(3) انظر درء تعارض العقل والنقل 7 / 362 والرد على المنطقيين ص 150 , 350 .
(4) الرد على المنطقيين 1 / 167 , 168 .
وهذا مؤكد لما قلناه آنفاً من الحاجة إلى متابعة مسيرة أمثاله من العلماء الربانيين لتقييد أصول هذا العلم واستنباط مسائله النافعة في دعوة الخلق إلى الحق وإقناعهم بهم وفق هدي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم .
المبحث الثالث : أسلوب الإقناع والتأثير العاطفي :
للنفس الإنسانية قوتان : قوة تفكير فتحتاج إلى إقناع عقلي , وقوة وجدان فتحتاج إلى إقناع عاطفي(1) , ويعد التوجه إلى العاطفة مؤازراً في أساليب الإقناع والتأثير في القرآن الكريم للتوجه إلى العقل , فإذا كان العقل لا يسهل قياده في بعض الأحيان مهما وضحت الحجة وعلت في صحتها وقطعيتها فإن العاطفة تكون حينئذ عوناً على استمالة المدعو واجتذابه فهما أسلوبان يدخل منهما نور الهداية ومعاني الخير والرشاد لكن بطريقين مختلفين شكلاً متفقين هدفاً (2).
وقد سمينا هذا الأسلوب بالعاطفي لأثره على العاطفة التي هي لدى علماء النفس :" استعداد نفسي ينزع بصاحبه إلى الشعور بانفعالات معينة والقيام بسلوك خاص حيال فكرة و شيء "(3).
كما يمكن تسميته بالوجداني لأثره في الوجدان الذي هو : " ضرب من الحالات النفسية من حيث تأثرها باللذة أو الألم في مقابل حالات أخرى تمتاز بالمعرفة والإدراك "(4).
وأيّاً كان الأمر فإن المقصود هو الإقناع والتأثير العاطفي في مجال الدعوة هو محاولة الدفع إلى الخير والإبعاد عن الشر باستثارة العاطفة التي تحكم في ذلك محبة أو كرها رغبة أو رهبة مقابل القرار العقلي أو الحكم العقلي .
__________
(1) انظر النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم، للدكتور محمد عبد الله دراز ص 113 .
(2) انظر مجلة الأزهر مجلد 27 الجزء الأول ص 6 - 7 محرم 1375 هـ .
(3) المعجم الوسيط مادة ( عطف ) 2 / 608 .
(4) المعجم الوسيط مادة ( وجد ) 2 / 1013 .
وهذه المقابلة ليست حدّاً مانعاً من التقاء الجانبين - أي العقل والعاطفة -وإنما هي مقابلة نسبية لإيضاح مدخل الإقناع والتأثير وليس مستقره أو إدراكه .
وسند هذا الأسلوب واتخاذه أسلوباً في الإقناع والتأثير في مجال الدعوة مأخوذ من قوله تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } (1)
فالوعظ : " أمر ونهي بترغيب وترهيب "(2) .
والموعظة الحسنة : " هي المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل "(3).
أما الصنف الذي توجه إليه فإنها توجه إلى من عنده هوى يصده عن الحق (4) أو نوع غفلة وتأخر في التزامه .(5)
أهمية أسلوب الإقناع والتأثير العاطفي :
يمكن أن نجمل أهمية الإقناع والتأثير في الجوانب الآتية :
- تكمن أهمية الإقناع والتأثير العاطفي بالترغيب والترهيب في أنه أسلوب يستخدم في كافة المناشط الإنسانية من تجارة وسياسة وإدارة وتربية وغيرها لا يكاد تخلو من علاقة إقناعية أو تأثيرية بين طرفين .
__________
(1) سورة النحل , الآية 125 .
(2) مجموع الفتاوى 19 / 164 .
(3) مجموع الفتاوى 19 / 164 ., وانظر معالم التنزيل 4 / 124 , ولباب التأويل 4 / 124 , وتيسير الكريم الرحمن 452 .
(4) انظر مجموع الفتاوى 19 / 164 و 16 / 338.
(5) انظر مفتاح دار السعادة 1 / 153 .
- كما تكون أهمية الإقناع والتأثير العاطفي بالترغيب والترهيب من أن الإنسان - أي إنسان - قد يدعوه هوى أو غفلة إلى ترك خير أو ارتكاب شر دون معاندة للحق أو جحود له , قال ابن القيم رحمه الله : " إنما يشتد افتقار العبد إلى العظة وهي الترغيب والترهيب إذا ضعفت إنابته وتذكره وإلا فمتى قويت إنابته وتذكره لم تشتد حاجته إلى التذكير والترغيب والترهيب ولكن تكون الحاجة منه شديدة إلى معرفة الأمر النهي و العظة يراد بها أمران الأمر والنهي المقرونان بالرغبة والرهبة ونفس الرغبة والرهبة فالمنيب المتذكر شديد الحاجة إلى الأمر والنهي والمعرض الغافل شديد الحاجة إلى الترغيب والترهيب "(1).
- عندما يقترن العلم الصحيح بمعرفة منافعه ومضاره فإن ذلك أعظم وقعاً في النفس وأرسخ في المعرفة وأدعى إلى الاستقامة على الحق قولاً وعملاً من مجرد حصول العلم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :" فالحاجة التي يقترن مع العلم بها ذوق الحاجة هي أعظم وقعاً في النفس من العلم الذي لا يقترن به ذوق ولهذا كانت معرفة النفوس بما تحبه وتكرهه وينفعها ويضرها هو أرسخ فيها من معرفتها بما لا تحتاج إليه ولا تكرهه ولا تحبه ولهذا كان ما يعرف من أحوال الرسل مع أممهم بالأخبار المتواترة ورؤية الآثار من حسن عاقبة اتباع الرسل وسوء عاقبة المكذبين أنفع من معرفة صدق الرسول واتباعه مما يفيد العلم فقط , فإن هذا يفيد العلم مع الترغيب والترهيب , فيفيد كمال القوتين العلمية والعملية "(2) .
__________
(1) مدارج السالكين 1 / 445
(2) درء تعارض العقل والنقل 3 / 134 .
ومنفعة الأمر والنهي المقترن بالترغيب والترهيب تتجاوز المقصر والغافل إلى العالم والمؤمن الذي بلغ شأناً في العلم والإيمان - كما أشار ابن القيم آنفاً - وها هو محمد عليه الصلاة والسلام يرغب أصحابه في الخير وينفرهم من الشر ولو أغنى أحد عن ذلك علمه ويقينه وعلو شأنه لكان أغنى الناس هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .(1)
- الإقناع والتأثير الدعوي الذي يستخدم فيه الترغيب والترهيب بما ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كله حق وصدق بذاته ومآلاته سواء أدركه الإنسان إدراكاً كاملاً أو جزئيّاً و" من اعتقد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم يمدح عملاً على سبيل الترغيب أو يذمه على سبيل الترهيب بمجاوزة في موضعه وزيادة في نعته فقد قال قولاً عظيماً بل قد كفر بالله ورسوله إن فهم مضمون كلامه و أصر عليه "(2).
وقد صنف العلماء كتباً حوت كثيراً من النصوص الشرعية وخاصة من السنة النبوية المتصلة بالترغيب والترهيب(3) .
- نلمح في أسلوب الثواب والعقاب - الذي هو شكل من أشكال الترغيب والترهيب - أساساً وركيزة عامة في صياغة الشخصية الإسلامية السوية خاصة والإنسانية التي توجه إليها الدعوة بعامة واعتماد تنميتها وترقيتها والتزامها للحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم على هذا الأسلوب (4).
الترغيب والترهيب :
يعرف الترغيب بأنه : " كل ما يشوق المدعو إلى الاستجابة وقبول الحق والثبات عليه "(5).
ويمكن أن يكون ذلك بالوعد بالثواب والتحبيب في الفعل.
أو في ذكر الثواب والتنبيه على المنافع.
__________
(1) انظر تأملات دعوية في السنة النبوية ص 147 - 155 .
(2) شرح العمده 4 / 81 .
(3) من ذلك كتاب الترغيب والترهيب للإمام المنذري وغيره بالإضافة إلى الأبواب والفصول التي توجد ضمن كتب السنة النبوية .
(4) انظر مشكلات الشباب والمنهج الإسلامي في علاجها ص 138 .
(5) أصول الدعوة 437 .
أما الترهيب فإنه : " كل ما يخيف ويحذر المدعو من عدم الاستجابة أو رفض الحق أو عدم الثبات عليه بعد قبوله "(1).
ويمكن أن يكون ذلك بالوعيد بالعقاب والتنفير من الفعل .
أو في ذكر العقاب والتنبيه على المساوئ.
وهناك أمثلة كثيرة من الكتاب والسنة ومن ذلك :
في الترغيب :
قوله تعالى في الحث على الدعوة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (2).
وقوله تعالى في الحث على العمل الصالح : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا } (3).
وقوله تعالى في الحث على التقوى والترغيب بها : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } (4).
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم في الحث على تآخي المؤمنين : "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه , ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة , ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة "(5) .
__________
(1) المرجع السابق والصفحة نفسها .
(2) سورة التوبة , الآية 71 .
(3) سورة النساء , الآية 124 .
(4) سورة الطلاق , الآية 3 .
(5) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المظالم , باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه 3 / 98 .
وقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه في الحث على الاجتهاد في الدعوة : " ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من أن تكون لك حمر النعم "(1).
وقوله عليه الصلاة والسلام في الترغيب في الدعاء آخر الليل : " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه ومن يستغفرني فأغفر له "(2).
فانظر إلى أثر ذلك في النفس المؤمنة الموفقة واستجابتها لما جاء في تلك النصوص .
وفي الترهيب :
قوله تعالى في التحذير من الإعراض عن الحق : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } (3).
وقوله تعالى في التحذير من عدم الاستجابة لله تعالى: { لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَن لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } (4).
وقوله تعالى في الترهيب من التهاون في الصلاة الصدقة والخوض في الباطل والتكذيب بيوم القيامة : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) ).
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجهاد والسير باب فضل من أسلم على يديه رجل 3 / 20.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين وقصرها , باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه 1 / 521 .
(3) سورة فصلت , الآية 13 .
(4) سورة الرعد الآية 18 .
(5) سورة المدثر , الآية 42 - 46 .
ومن السنة ماجاء في التحذير من ترك الجمعة قوله صلى الله عليه وسلم : " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين "(1).
وقوله عليه الصلاة والسلام في التحذير من منع الماء عن ابن السبيل ونقض البيعة الشرعية والحلف كاذباً : " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بطريق يمنع منه ابن السبيل ورجل بايع رجلاً لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه ما يريد وفى له وإلا لم يف له ورجل ساوم رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف بالله لقد أعطى بها كذا وكذا فأخذها "(2).
وقوله عليه الصلاة والسلام في التحذير من عدم النصح للرعية: "ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة "(3).
والقرآن والسنة مليئان بالترغيب والترهيب سواء في مستوى الدعوة إلى الدين بعامة والترغيب في اعتناقه والتزامه والتحذير من رفضه والتقصير فيه , أو في مستوى الترغيب في عقائده وأحكامه وأخلاقه , والترهيب من تركها أو إهمالها أو التقصير فيها ؛ مما يؤكد أهمية هذا الأسلوب ونفعه في الإقناع والتأثير الدعوي المستخدم مع المسلمين وغير المسلمين .
ضوابط استخدام أسلوب الإقناع والتأثير العاطفي :
يمكن أن نجمل أبرز الضوابط الشرعية لاستخدام أسلوب الإقناع والتأثير العاطفي في مجال الدعوة بالنقاط الثلاث الآتية :
أولاً : الصحة ( في الدعوى ) .
ثانياً : الصدق ( في الوعد والوعيد ) .
ثالثاً : العدل ( في مستوى التأثير ) .
أولاً : الصحة في ( الدعوى) :
__________
(1) أخرجه مسلم فيي صحيحه كتاب الجمعة باب التغليظ في ترك الجمعة 2 / 591.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الشهادات , باب اليمين بعد العصر - وفي غيره - 3 / 160 .
(3) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه كتاب الأحكام , باب من استرعى رعية فلم ينصح 8 / 107
سبقت الإشارة إلى أن مما يميز الموعظة الحسنة الواردة في قوله تعالى : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } هي كونها حقّاً وصدقاً وبما هو حق وصدق , فلا يكون الترغيب أو الترهيب بشيء ليس له أصل في الشريعة , كما في الخيالات والتصورات والأساطير حتى لو كان القصد حسناً .
وعلى الرغم من اهتمام علماء الإسلام بصحة الإسناد لروايات السنة النبوية وعدم التساهل فيها في بناء الأحكام الشرعية إلا أنهم تساهلوا في الأحاديث الضعيفة الواردة في باب الترغيب والترهيب لكنهم ضبطوا ذلك ووجهوه بأربعة أمور :
الأول : أن لا يثبت كونه الحديث موضوعاً .
الثاني : أن يثبت في أصل العمل الوارد في الترغيب به أنه مما يحبه الله وإذا كان في الترغيب أنه مما يكرهه الله بنص أو إجماع .
الثالث : أن لا يقصد به الاستحباب أو الكراهية الشرعية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ذلك : " قول أحمد بن حنبل إذا جاء الحلال والحرام شددنا في الأسانيد , وإذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد , وكذلك ما عليه العلماء من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال ؛ ليس معناه إثبات الاستحباب بالحديث الذي لا يحتج به , فإن الاستحباب حكم شرعي فلا يثبت إلا بدليل شرعي , ومن أخبر عن الله أنه يحب عملا من الأعمال من غير دليل شرعي فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله , كما لو أثبت الإيجاب أو التحريم , ولهذا يختلف العلماء في الاستحباب كما يختلفون في غيره بل هو أصل الدين المشروع .
وإنما مرادهم بذلك أن يكون العمل مما قد ثبت أنه مما يحبه الله , أو مما يكرهه الله بنص أو إجماع ؛ كتلاوة القرآن والتسبيح والدعاء والصدقة والعتق والإحسان إلى الناس وكراهة الكذب والخيانة ونحو ذلك ، فإذا روي حديث في فضل بعض الأعمال المستحبة وثوابها وكراهة بعض الأعمال وعقابها فمقادير الثواب والعقاب وأنواعه إذا روي فيها حديث لا نعلم أنه موضوع جازت روايته والعمل به "(1) .
الرابع: أنه خير من ترك المدعو على الخطأ وخاصة الكفر فانتقاله إلى الإسلام بذلك خير من بقائه على الكفر وشبهوه بالرجل يسلم رغبة في الدنيا أو رهبة من السيف فإذا أسلم وطال مكثه بين المسلمين دخل الإيمان في قلبه (2) .
ثانياً : الصدق في ( الوعد والوعيد ):
الوعد أو الوعيد الذي يمارس ترغيباً أو ترهيباً , لا بد أن يكون صادقاً .
فإذا وعد إنسان ابنه بمكافأة له عند حفظ القرآن الكريم أو المواظبة على الصلاة مع الجماعة أو نحو ذلك ؛ فإن المصداقية المتمثلة بالوفاء بالوعد لازم عليه قطعاً بدلالة النقل والعقل , فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربع من كن فيه كان منافقاً أو كانت فيه خصلة من أربعة كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ؛ إذا حدث كذب , وإذا وعد أخلف , وإذا عاهد غدر , وإذا خاصم فجر "(3).
ومن المعلوم عقلاً أن الوفاء له بذلك سبب في الاستمرار والنشاط وكسب الثقة وإلا فيحتمل أن ينقلب الأمر على خلاف مراد الأب فلا يكون حفظ للقرآن الكريم ولا محافظة على الصلاة بسبب ما يراه الابن من الإخلاف في الوعد , وربما كان ذلك سبباً في اكتساب الابن هذا السلوك السيء ممن يراه قدوة له .
__________
(1) مجموع الفتاوى 18 / 65 , 66 .
(2) المرجع السابق 13 / 96 . .
(3) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه كتاب المظالم باب إذا خاصم فجر 3 / 101 .
وكذلك لا بد من الصدق في الوعيد فإذا رأى الناس أن العقوبات المعلنة لا تطبق تهاونوا في الانضباط بالأحكام والأنظمة لما يرونه من ضعف أو عدم مصداقية ذلك الوعيد سواء في ذلك ما تعلق بالمسائل والواجبات الشرعية أم في غيرها من الأنظمة والأعراف العامة من نظم المرور والتجارة والبناء وغير ذلك .
ثالثاً : العدل ( في مستوى التأثير ):
ليس للإنسان مهما بلغ من حسن النية والرغبة في الخير أن يسيء إلى الآخرين بالترغيب أو الترهيب , وتتمثل الإساءة في ذلك بأحد أمرين :
الأول : الظلم ومجاوزة الحد الشرعي , وترك العدل الذي هو التوسط والاعتدال مما يحدث أثراً سيئاً في المدعو , وبخاصة في الترهيب , الذي قد يلحظ فيه تجاوز الحد بدرجة أكبر , وضابط العدل هنا هو ما جاء في الكتاب والسنة من حيث المحتوى والمناسبة , كما أنه ليس كل ما جاء في الكتاب والسنة يتوجه به إلى كل أحد بنفس القدر , بل يراعى فيه حال المدعو، فالعاصي غير المطيع , والعالم غير الجاهل , والصغير غير الكبير, والوجيه غير العامي , والمسلم غير الكافر , والمحارب غير المستأمن أو الذمي وهكذا .
الثاني : ضعف أو عدم التوازن بين الترغيب والترهيب بأن يقدم أحدهما في حين ينفع الآخر بدرجة أكبر , أو أن يجعل كلامه ترهيباً وتخويفاً باستمرار فيصاب الإنسان باليأس والقنوط , أو يجعل كلامه ترغيباً وبشارة على الدوام فيتكل الناس على الرجاء ويضعفون عن العمل , قال ابن كثير رحمه الله : "وقوله: { إن ربك لسريع العقاب } أي لمن عصاه وخالف شرعه { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } (1) أي تاب إليه وأناب وهذا من باب قرن الرحمة مع العقوبة لئلا يحصل اليأس فيقرن تعالى بين الترغيب والترهيب كثيراً لتبقى النفوس بين الرجاء والخوف "(2).
__________
(1) سورة الأعراف الآية 167 .
(2) تفسير القرآن العظيم 2 / 260
ولذلك نجد الترغيب والترهيب كثيراً ما يقترن ورودهما في كتاب الله تعالى , قال ابن كثير رحمه الله : " وكثيراً ما يقرن الله تعالى بين الترغيب والترهيب في القرآن كما قال تعالى في آخر هذه السورة: { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } (1) وقال: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } (2) وقال تعالى: { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (3) وقال تعالى: { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } (4) وقال: { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } (5) والآيات في هذا كثيرة جداً "(6).
وقال رحمه الله : "وقوله : { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم } إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأكلها وعذابها والقيامة وأهوالها، وتارة بهما لينجع في كل بحسبه، جعلنا الله ممن أطاعه فيما أمر وترك ما عنه نهى وزجر وصدقه فيما أخبر إنه قريب مجيب سميع الدعاء جواد كريم وهاب "(7) .
الخاتمة :
خلاصة البحث :
تضمن هذا البحث الموسوم بـ ( الإقناع والتأثير : دراسة تأصيلية دعوية ) ثلاثة فصول، حوت ثمانية مباحث .
__________
(1) سورة الأنعام , الآية 165 .
(2) سورة الرعد , الآية 6 .
(3) سورة الحجر , الآية 49 .
(4) سورة غافر , الآية 3 .
(5) سورة البروج ، الآية 12 - 14 .
(6) تفسير القرآن العظيم 2 / 187 .
(7) المرجع السابق 2 / 201.
جاء الفصل الأول لبيان مفهوم الإقناع والتأثير والصلة بينهما , وجاء الثاني لتوضيح أهمية الإقناع والتأثير وتفاضل الناس فيه وأبرز عوامل نجاحه، ثم جاء الفصل الثالث ليتناول أساليب الإقناع والتأثير في مجال الدعوة، وذلك ببيان الإطار الدعوي لأساليب الإقناع والتأثير ثم شرح أسلوب الإقناع التأثير بالحجج القطعية وأسلوب الإقناع والتأثير العاطفي في مجال الدعوة إلى الله تعالى .
وقد خرجت من هذا البحث بعدد من النتائج كان من أبرزها :
- الصلة الكبيرة بين لفظتي "الإقناع والتأثير" لغة وممارسة، وتأكيدها في إطار الاستخدام الدعوي .
- أهمية الإقناع والتأثير في الحياة والمناشط الإنسانية كلها , وتناوله في علوم وتخصصات عدة .
- أهمية الإقناع والتأثير في مجال الدعوة إلى الإسلام واعتباره في النصوص الشرعية توجيهاً واستخداماً .
- سمو الأصول الشرعية للإقناع والتأثير وظهور ذلك في التطبيقات والأهداف والأساليب .
- انضباط أساليب الإقناع والتأثير، الدعوي وتميزه عن غيره بضوابط الكتاب والسنة، وأثر ذلك ونفعه وبخاصة في إطار التوجه إلى التكوين العقلي والعاطفي للإنسان .
أما التوصيات والمقترحات التي يراها الباحث فهي :
-أهمية القيام بالتوسع في دراسة وتتبع التطبيقات العملية في الكتاب والسنة لأساليب الإقناع والتأثير في مجال الدعوة، وتقديمها بصورة تيسر للدعاة استخدامها والاستفادة منها سواء بالنظر إلى الموضوعات والمسائل الدعوية أو استقراء عام للنصوص وفقهها أو بالنظر إليها بحسب نوع المدعو ونحو ذلك .
-الحاجة إلى قيام دراسات نقدية لأساليب الإقناع والتأثير ونظرياتها في العلوم والتخصصات المختلفة، وبخاصة من قبل أصحاب تلك التخصصات من المسلمين النابهين، وتأكيد الحاجة إلى تجنب الأسس النظرية والممارسات التطبيقية الخاطئة في هذا المجال، وتجنيب المجتمعات الإسلامية شرورها بنشر الوعي بمداخلها النظرية وأساليبها التطبيقية السيئة، سواء منها ما كان في مجال الإعلام أو السياسة أو الاقتصاد أو التربية أو غيرها .
أسأل الله تعالى أن يجعله خالصاً لوجهه نافعاً لعباده , وأن يتجاوز عن ما فيه من الخطأ والزلل , والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .
قائمة المصادر والمراجع :
1-القرآن الكريم.
2-الاتصال الاجتماعي ودوره في التفاعل الاجتماعي , د إبراهيم أبو عرقوب , مجدلاوي للنشر والتوزيع , عمان , الأردن .
3-أحكام القرآن , أحمد بن علي الرازي الجصاص , تحقيق محمد الصادق قمحاوي , دار إحياء التراث العربي , بيروت , 1405 هـ .
4-إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم , محمد بن محمد العمادي ( أبو السعود ) , دار إحياء التراث العربي , بيروت .
5-أساليب الإقناع الإداري , كيت كينان ترجمة مركز التعريب والترجمة , الدار العربية للعلوم , بيروت , ط1 , 1417 هـ .
6-استخراج الجدل من القرآن، الكريم , ناصح الدين ؛ عبد الرحمن بن نجم المعروف بابن الحنبلي , تحقيق د. زاهر الألمعي , ط 2 , 1401 هـ .
7-أسلوب المناظرة في دعوة النصارى إلى الإسلام , دراسة تحليلية تقويمية للمناظرات التي جرت في أمريكا الشمالية في المدة من 1400 - 1410 هـ , إبراهيم بن صالح الحميدان , رسالة دكتوراه غير منشورة , قسم الدعوة والاحتساب , كلية الدعوة الإعلام , جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض 1416 هـ .
8-أصول الدعوة , د. عبد الكريم زيدان , مؤسسة الرسالة , بيروت ط8 , 1418 هـ .
9-الاعتصام , للإمام الشاطبي , إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي, دار المعرفة , بيروت , 1406 هـ .
10-الإقناع في حملات التوعية الإعلامية , د. عبد اللطيف دبيان العوفي , 1415 هـ .
11-الإقناع في التربية الإسلامية، لسالم بن سعيد بن مسفر بن جبار , دار الأندلس الخضراء , ط2 , 1422 هـ .
12-أقيسة النبي المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم , ناصح الدين عبد الرحمن ابن نجم المعروف بابن الحنبلي , تحقيق أحمد حسن جابر وعلي أحمد الخطيب , دار الكتب الحديثة , القاهرة , ط1 , 1393 هـ .
13-الإنصات الانعكاسي , محمد راشد ديماس , دار ابن حزم بيروت , ط1 , 1420 هـ .
14-بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز , مجد الدين , محمد بن يعقوب الفيروزأبادي , تحقيق الأستاذ عبد العليم الطحاوي , المكتبة العلمية , بيروت .
15-تأملات دعوية في السنة النبوية , د. عبد الله بن وكيل الشيخ , دار إشبيليا للنشر والتوزيع , الرياض , ط1 , 1419 هـ .
16-تطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم للمنهج العقلي في الدعوة , محمد ابن عبد الله العثمان , بحث مكمل لنيل درجة الماجستير - غير منشور -كلية الدعوة بالمدينة المنورة 1409 هـ
17-التوقيف على مهمات التعاريف , محمد بن عبد الرؤوف المناوي , تحقيق د. محمد رضوان الداية ,دار الفكر المعاصر, بيروت , دار الفكر, دمشق , ط 1, 1410 هـ
18-تفسير القرآن العظيم , إسماعيل بن عمر بن كثير , دار الفكر , بيروت , 1401 هـ
19-التفسير الكبير , فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي , الناشر عبد الرحمن محمد , القاهرة , ط1 , 1357 هـ .
20-التمهيد لابن عبد البر , أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري , وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية , المغرب , 1387 هـ .
21-تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان , عبد الرحمن بن ناصر السعدي , تحقيق عبد الرحمن بن معلا بن لويحق , مؤسسة الرسالة , بيروت , ط1 , 1423 هـ .
22-جامع البيان , محمد بن جرير بن يزيد الطبري , دار الفكر , بيروت , 1405 هـ .
23-الجامع لأحكام القرآن , محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي , تحقيق أحمد عبد العليم البردوني , دار الشعب , القاهرة , ط2 .
24-درء تعارض العقل والنقل , أحمد بن عبد الحليم بن تيمية , تحقيق د. محمد رشاد سالم , دار الكنوز الأدبية , الرياض , 1391 هـ .
25-الرد على المنطقيين , أحمد بن عبد الحليم بن تيمية , دار المعرفة , بيروت .
26-الرد على النصارى لأبي البقاء صالح بن الحسين الجعفري , تحقيق د. محمد محمد حسانين , مكتبة وهبة , القاهرة , ط1 , 1409 هـ .
27-روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني , محمود الألوسي , دار إحياء التراث العربي , بيروت .
28-روضة المحبين ونزهة المشتاقين , ابن قيم الجوزية , دار الكتب العلمية, بيروت, 1412 هـ .
29-سبل السلام , محمد بن إسماعيل الصنعاني , تحقيق محمد عبد العزيز الخولي , دار إحياء التراث العربي , بيروت , ط4 , 1379 هـ .
30-شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك , محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني , دار الكتب العلمية , بيروت , ط1 , 1411 هـ .
31-شرح العمدة في الفقه , شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني , تحقيق د. سعود صالح العطيشان , ط1 , 1413 هـ .
32-صحيح البخاري , الإمام محمد بن إسماعيل البخاري , المكتبة الإسلامية , استانبول .
33-صحيح مسلم , الإمام مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري , رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء , الرياض , 1400 هـ .
34-الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة , ابن قيم الجوزية , تحقيق د. علي ابن محمد الدخيل الله , دار العاصمة , الرياض , ط 3 , 1418 هـ .
35-ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة , للشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني , دار القلم , دمشق وبيروت , ط2 , 1401 هـ .
36-عون المعبود , محمد شمس الحق العظيم أبادي أبو الطيب, دار الكتب العلمية، بيروت , ط2 , 1415 هـ .
37-العين , أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي , تحقيق د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائي , دار ومكتبة الهلال .
38-غرائب القرآن ورغائب الفرقان , الحسن بن القمي النيسابوري , تحقيق إبراهيم عطوة عوض , شركة مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر , ط1 , 1384 هـ .
39-فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية , الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء , الرياض , ط1 , 1413 هـ .
40-فتح القدير , محمد بن علي بن محمد الشوكاني , دار الفكر , بيروت .
41-فن الاتصال , برت دكر , ترجمة د. عبد الرحمن بن هادي الشمراني , دار المعرفة للتنمية البشرية , الرياض , ط1 , 1421 هـ .
42-فن التحدث والإقناع , ويليام ج. ماكولاف , ترجمة وفيق مازن , دار المعارف , القاهرة , ط2 .
43-فن الخطابة د. أحمد محمد الحوفي , نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع , 1996 م.
44-فيض القدير شرح الجامع الصغير , عبد الرؤوف المناوي , المكتبة التجارية الكبرى , القاهرة , ط1 , 1356 هـ .
45-في ظلال القرآن , سيد قطب , دار الشروق , بيروت والقاهرة , ط8 , 1399 هـ .
46-القاموس المحيط , محمد بن يعقوب الفيروزأبادي .
47-كيف تقنع الآخرين , عبد الله بن محمد العوشن , دار العاصمة بالرياض , ط1 , 1413 هـ .
48-لسان العرب , محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري , دار صادر , بيروت , ط1 .
49-لباب التأويل في معاني التنزيل , علاء الدين علي بن إبراهيم الخازن , مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي , القاهرة , ط2 , 1375 هـ .
50-مبادىء علم الاتصال ونظريات التأثير د. محمود حسن إسماعيل , مكتبة الدار العالمية , القاهرة , ط1 , 1998 م .
51-المتلاعبون بالعقول , هربرت أ . شيلر ترجمة عبد السلام رضوان , سلسلة كتاب عالم المعرفة , المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب , الكويت , 1419 هـ .
52-مجلة الأزهر مجلد 27 الجزء الأول محرم 1375 هـ .
53-مجلة حطة , مجلة إماراتية تصدر على الإنترنت
54-مجمع الزوائد, علي بن أبي بكر الهيثمي , دار الريان للتراث , القاهرة , دار الكتاب العربي , بيروت , 1407 هـ .
55-مجموع الفتاوى , أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني , 1404 هـ .
56-محاسن التأويل , محمد جمال الدين القاسمي , عيسى البابي الحلبي وشركاه .
57-مختار الصحاح , محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي , تحقيق محمود خاطر , مكتبة لبنان , بيروت , 1415 هـ .
58-مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين , ابن قيم الجوزية , تحقيق محمد حامد الفقي , دار الكتاب العربي , بيروت, ط2 , 1393 هـ .
59-المستدرك على الصحيحين , محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري , تحقيق مصطفى عبد القادر عطا , دار الكتب العلمية , بيروت , ط1 ,1411 هـ.
60-مسند الإمام أحمد بن حنبل , مؤسسة قرطبة , مصر .
61-مشكلات الشباب والمنهج الإسلامي في علاجها , وليد شلاش شبير , مؤسسة الرسالة , بيروت , ط1 .
62-المصباح المنير , أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي , المكتبة العلمية, بيروت
63-معالم التنزيل , الحسين بن مسعود الفراء البغوي , تحقيق خالد العك ومروان سوار , دار المعرفة , بيروت , ط2 , 1407هـ
64-معجم مقاييس اللغة, أبو الحسين أحمد بن فارس , تحقيق شهاب الدين أبي عمرو , دار الفكر , بيروت , ط1 , 1415 هـ .
65-المعجم الوسيط , د. إبراهيم أنيس وزملاؤه , دار الباز ,مكة المكرمة , ط,2 1393 هـ .
66-مفتاح دار السعادة , ابن قيم الجوزية , دار الكتب العلمية , بيروت .
67-منهاج السنة النبوية , أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني , تحقيق د. محمد رشاد سالم , مؤسسة قرطبة , ط1 , 1406 هـ .
68-منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة , عثمان ابن علي بن حسن , مكتبة الرشد , الرياض , ط1 , 1412 هـ .
69-الموافقات في أصول الشريعة , للإمام الشاطبي , إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي , تحقيق عبد الله دراز , دار المعرفة , بيروت .
70-النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم , د .محمد عبد الله دراز , دار القلم , الكويت , ط3 .