كتاب : الإعلام والخطاب الدعوي
إعداد الدكتور حسين أبوشنب


الإعلام والخطاب الدعوي
إعداد
الدكتور حسين أبوشنب
مقدمة
منذ بدايات بشائر ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال والبث الفضائي المباشر و الإعلام العربي بعامة والفلسطيني بخاصة يعيش صدمة إعلامية على مختلف المستويات السياسية والتنظيمية والفنية والتعددية في المنابر الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية مما أوقعنا في شباك الإعلام والاتصال الدولية، شبكة الأقمار الاصطناعية، وشبكة الانترنت، وشبكة التكتلات الإعلامية متعددة الجنسية، وأصبح إعلامنا العربي بوجه عام يشكو من التناقض الجوهري في سياساته ومهماته فبعد أن كانت مهمته الأساسية التنمية بأشكالها المختلفة أصبح الترفيه والإمتاع وظيفة أساسية بأشكاله المختلفة.
أصبح العالم اليوم يشهد صراعا بين التكتلات الإعلامية العالمية متعددة الجنسيات والأهداف والثقافات وهو ما يهدد مؤسساتنا الإعلامية متباينة السياسات والأهداف بالرغم من هذا الكم الهائل من الفضائيات العربية برسائلها الإعلامية المتنوعة والمتخصصة ومن ذلك بالطبع هذه الفضائيات ذات الاهتمام الكامل بالأغاني المصورة والبرامج الترفيهية غير المألوفة والتي تجد استجابة واضحة بين الشباب بوجه خاص والجمهور بوجه عام، فقد جاء دافع التسلية والتخلص من الملل بين الجمهور العربي في مصر 78.3% وفي السعودية بنسبة 100% في القنوات العربية، وفي الأجنبية بنسبة 63.3% في مصر، وبنسبة 77% في المغرب وبنسبة 93% في السعودية وذلك حسب دراسة سوزان القليني، عن استخدام الجمهور العربي للقنوات الفضائية.
وتبين من نتائج مسح الشباب لعام 2003م في فلسطين وفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن الشباب يهتمون بالبرامج الترفيهية والفنية أكثر من اهتمامهم بالبرامج الدينية، فالشباب يشاهدون البرامج الترفيهية والفنية بنسبة 66.4% وإن نسبة استخدام الشباب للانترنت بغرض المراسلة 56.8% وللدراسة 38.7%.

لقد أدى دخول التقنية الرقمية إلى مضاعفة عدد القنوات الفضائية التي يحملها القمر الصناعي الواحد لأكثر من ثماني مرات حيث بدأ أسلوب البث التناظري في التراجع والاختفاء ليحل محله الأسلوب الرقمي "الديجتال" في كل جوانب العمل الإذاعي والتليفزيوني وهو ما يتفق مع رؤية ريتشارد سومرست RICHEARD SOMEREST القائلة بزحف عصر الرقميات وانتشاره مع حلول عام 2003م وهو ما نشهده فعلاً في هذه الأيام، وينعكس على مجمل الثقافات الوطنية والقومية سلبا وإيجابا وبات يسود مصطلحات جديدة مثل ثقافة الميديا، وثقافة التكنولوجيا، وثقافة الوسائط المتعددة.

ويأتي البث المباشر في سياق الثورة التكنولوجية ظاهرة إعلامية متميزة لها دلالاتها وتأثيراتها المتعددة حيث القنوات التليفزيونية العربية الأجنبية بأنواعها وسياساتها المختلفة، دون حدود أو قيود وهو ما ساعد على تدفق المعلومات والثقافات المتنوعة التي قد تهدد الثقافات الوطنية وتجذب الجمهور إليها ويجعل مؤسساتنا الإعلامية مجرد ناقل للمعلومات والثقافات، ولعل هذا ما دفع "شيمون بيرز" ليقول عند توقيع اتفاقية القاهرة مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1995م "المعلومات أهم من المدفع" وهو ما دعا نتنياهو من بعده إلى التباهي والتفاخر بالتطور التكنولوجي المتواصل بعظمة وادي السيلكون الإسرائيلي الذي يربط بين مراكز البحث والتطوير المعلوماتي في مثلث (تل أبيب، القدس، حيفا) والذي لا يفوقه سوى وادي السيكلون الأمريكي حسب نتنياهو، وذلك للخروج من القلعة المحاصرة إلى دولة إسرائيل الكبرى بأعمدتها الأربعة: العقول الإسرائيلية، ونفط الخليج، والأيدي العاملة العربية وصناعاتهم التقليدية القذرة، والمياه التركية، وهو ما يتم ترويجه هذه الأيام في السياسة الأمريكية وهو ما يعرف بمشروع الشرق الأوسط الكبير من الغرب إلى باكستان وهو ما كان دعا إليه شيمون بيرز في كتابه الشرق الأوسط الجديد ولعل هذا ما يفسر سيطرة الأموال اليهودية على الصناعة الإعلامية واحتكارها للمؤسسات الإعلامية الكبرى التي تسعى جاهدة لاحتكار مضمون الرسالة الإعلامية وتوجيهها للأسرة والشباب ومن ذلك القنوات الفضائية المتخصصة بالأغاني المصورة والبرامج الترفيهية المفتوحة بغير حدود أو قيود.

تقع المنطقة العربية في نطاق البث التليفزيوني للعديد من أقمار الاتصالات التي يمكنها من استقبال هذه القنوات التليفزيونية الفضائية بهوائيات صغيرة أو كبيرة للأفراد أو الجماعات أو للتوزيع الشامل. وبخاصة أن "إسرائيل" تطلق أقماراً صناعية "عاموس" مما يزيد من حجم التأثير. فالرسالة الإعلامية عبر البث المباشر لا تحتاج إلى وسيط وهو ما كان تنبأ به "مارشال ماكلوهان" حول القرية الكونية VILLAGE Global. وهذا بالتالي ينعكس على مضمون الرسالة الإعلامية التي تتأثر بهذا الواقع المفتوح، فالمادة المعروضة إما مستوردة من الدولة الأجنبية أو من الإنتاج الخاص الذي في الغالب ما يكون إنتاجه لإشباع رغبات المشاهدين المستهلكين دون أن يكون ذلك متفقا مع احتياجات الدول التي تستوردها، وهو ما يحدث واقعا ملموسا ومشاهدا هذه الأيام عبر الإنتاج الغزير للأغاني المصورة والبرامج الترفيهية المتنوعة بأشكال مختلفة وهو موضوع هذه الدراسة.
انعكس هذا الواقع الإعلامي الجديد على المجتمع الفلسطيني الجديد الذي تحاصره قوات الاحتلال الإسرائيلية من كل جانب ولعل إقامة الجدار العنصري على الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية وما تنوي إقامته على الحدود المصرية الفلسطينية وغيرها حيث تقوم المستوطنات، وبالرغم من ذلك فإن البث التليفزيوني الوافد من كل اتجاه أجنبيا وعربيا ومحليا كغزو الأسرة الفلسطينية، فبالإضافة إلى القنوات الفضائية العربية والأجنبية بأنواعها وسياساتها، هناك ما يزيد عن خمسين إذاعة ومحطة تليفزيونية معظمها في الضفة الغربية ويقل عن عشرة في قطاع غزة والتي بدأت مسيرتها الأولى بعد تدمير وتفجير إذاعة صوت فلسطين في رام الله وغزة خلال الانتفاضة وبالتحديد 19/1/2003م.

وبالرغم من خصوصية الحالة الفلسطينية الصعبة والتدفق الإعلامي المتعدد والاستجابة الطبيعية للمشاهدة والتفاعل مع البث الفضائي بأنواعه فلم يتأثر الانتماء الوطني للأسرة الفلسطينية، فقد أظهرت نتائج مسح الشباب لعام 2003م تمسك الشباب الفلسطيني بالعمق العربي والإسلامي بنسبة 51.6% وأن الانتماء بالدرجة الأولى للأرض الفلسطينية بنسبة 59.2% وعدم الرغبة في الهجرة ومغادرة الأرض 7937% وأنهم ما يزالون على درجة عالية من التفاؤل بالمستقبل الأفضل بنسبة 88.6% في الضفة الغربية 91.5% في قطاع غزة. وهذه النتائج تلقي بالمسؤولية على أجهزة الإعلام الفلسطينية ووزارة الإعلام من جديد وبإلحاح لتدعيم الوحدة الوطنية والانتماء الوطني في مواجهة الأخطار المحتملة نتيجة هذا التدفق الإعلامي المتنوع في ظل قسوة الحياة اليومية والممارسات الإسرائيلية الوحشية، والحواجز المرعبة والمانعة للاتصال والتواصل والانتظام في التعليم والعمل والتنقل في أمن واطمئنان بالإضافة إلى سياسة هدم البيوت واقتحام المنازل والشوارع ليلاً ونهاراً، وهذا تأكيد على إصرار الشعب الفلسطيني بفئاته المختلفة على تشكيل حياة يومية جديدة تجمع بين مواجهة العدوان والاحتلال وممارسة حياة عادية متنوعة، أسوة بالمجتمعات العالمية وهو ما سنلاحظه في الدراسة التطبيقية، فقد دلت الدراسات على أن الشخصية الفلسطينية تميزت بهذه المواءمة بين الأمرين، الأرض والتراث، في مواجهة التحدي الصهيوني وبناء المجتمع وفق مرتكزات وطنية وعلمية وتربوية قادرة على خلق الإنسان الفلسطيني القادر على المساهمة الفعالة في البناء والتحرر.

لقد أسفرت تكنولوجيا الاتصال وثورة المعلومات بعد تتابع التطورات التقنية عن واقع جديد يفرض نفسه على عالمنا المعاصر ولعل أهم علامات هذا الواقع احتكار الدول الغربية المتقدمة لتكنولوجيا الاتصال وتقنياته والتحكم في مصادر الإعلام والمعلومات وأصبحت حرية تدفق المعلومات من أعلى إلى أسفل واقعاً لا جدال فيه، وخلق حالة من عدم التوازن أثرت سلباً على الدول النامية بعامة وعلى المنطقة العربية خاصة، ولعل أخطر قضايا الإعلام المعاصر في الوطن العربي، أننا ما نزال في موقف المتلقي، وأن صوتنا العربي غير مسموع في ظل النظام الإعلامي الدولي غير المتوازن، وأن ما يخص قضايانا العربية يأتي معظمه من الدول الغربية وما تزال صورة العرب في وسائل الإعلام الغربية هي الصورة النمطية للعربي المسلم، بكل جوانبها وأبعادها السلبية.

لقد أصيح العالم من حولنا خريطة إعلامية أكثر من كونها خريطة جغرافية أو تاريخية وأصبح الإعلام اللاعب الأساسي في صياغة الترتيبات العالمية والمتغيرات السياسية، وللإعلام دوره في تشكيل العقل والسلوك البشري وحسب عالم الاجتماع الأمريكي (س.رايت ميلز) أن معظم التصورات والأخيلة المكتنزه في عقولنا عن العالم بوجه عام تصل إلينا عن طريق وسائل الإعلام بأنواعها وبالتالي فإن المتحكمين في الإعلام هندسة وتمويلاً وصياغة هم الأكثر قدرة على تشكيل خريطة العالم وفقاً لمصالحهم الخاصة وهو ما يتفق مع واقع الإنتاج التكنولوجي، فقد أتضح أن معظم الوسائل الإعلامية الحديثة يتم إنتاجها برعاية وزارات الدفاع في أوروبا وأمريكا وخاصة أجهزة الكمبيوتر والأقمار الصناعية وبرامج المعلومات وشبكات الانترنت وهو ما كان قائماً في الحربيين العالميتين، وهو ما نشاهده في الحرب على أفغانستان والحرب على العراق وما عرف آنذاك بالحرب التلفزيونية وما نشاهده كذلك في الحرب الإسرائيلية الجوية على المقاومة الفلسطينية وشبان الانتفاضة والملاحقة الدقيقة للمقاومين، وهو ما خلق حالة من المواجهة الجديدة في الفضاء الالكتروني عبر شبكة الإنترنت بين الفلسطينيين وأنصارهم من جهة، والإسرائيليين وأنصارهم من جهة أخرى منذ انطلقت انتفاضة الأقصى في 28/9/2000 عقب زيارة شارون لساحة الحرم القدسي في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي باراك وقد أدت هذه الحرب إلى إصابة الكثير من الرسائل المتبادلة من الجانبين.

مثل هذه الحروب الالكترونية تجعل الباب مفتوحاً للتطور الهائل في نظم الاتصال التزامنية واللاتزامنية وقد يؤدي ذلك خلال السنوات العشر القادمة إلى تلاشي الصيغ الإعلامية الحالية وظهور الصيغ الجديدة بوسط (ويب web) متكامل تصبح بمقتضاها الوسائل الحالية المطبوعة والمسموعة والمرئية من التراث وهو ما يتم تداوله في هذه الأيام، فقد فاق الانترنت الراديو في الفورية والخبر العاجل و أصبحت الصورة في الحواسب الآلية وشبكات النت أنقى وأصفى وأصبحت شبكة النت أقدر من الصحيفة المطبوعة في القصة الخبرية.
مثل هذه التحديات التقنية والفكرية والمتغيرات السياسية تفرض على المؤسسات الإعلامية العربية والجهات المعنية بالتخطيط للإعلام العربي استدراك الوعي واليقظة والعمل على وضع استراتيجية إعلامية عربية تقوم على الأسس العلمية وبعيدة عن المضغ المتكرر للمفردات الكبيرة دون مضمون أو فعل وإعادة النظر في السياسات العربية الرسمية والابتعاد عن الوصاية الفوقية على المجتمع، وسياسة إخفاء الحقائق والمعلومات واحتكار أجهزة الإعلام وإتاحة الفرصة للتعددية الإعلامية في إطار نظام إعلامي له قواعده وقوانينه وضوابطه، فالإعلام المعاصر من خلال مؤسساته ووسائله المختلفة أحد المؤسسات الرئيسية في عملية التنشئة الاجتماعية والسياسية political socialization وذلك بحكم قدرته غير المحدودة في التأثير على الفرد معرفياً وسلوكياً واتجاهياً في ضوء صناعة الإعلام والاتصال والأساليب التفاعلية والقدرة على الوصول بسهولة ويسر.

لقد فاجأت الاندفاعة التكنولوجية الجديدة الأنظمة العربية وأفقدتها السيطرة الكاملة على وسائل الإعلام فقد وفرت التقنيات الحديثة إمكانية توصيل البث التلفزيوني مباشرة إلى المستقبل بدون وسيط ودون إذن من الدولة وهو ما جعل الإعلام العربي يعيش أزمة حقيقة تعكس أزمة النظام السياسي العربي ولا يمكن مواجهة هذه الأزمة إلا بسياسة إعلامية واضحة واستراتيجية إعلامية متكاملة تتوافق فيها الاتجاهات والأيديولوجيات والتيارات المتواجدة على الساحة العربية وفق الأحوال العلمية ويؤدي إلى تأهل كادر إعلامي قادر على التعامل مع القضايا والمستجدات.
وفي هذا السياق فإن البيئة الاتصالية بوجه عام تؤثر على نظم الاتصال القومية والوطنية والمحلية وأتاحت هذه الثورة الاتصالية من خلال وفرة المعلومات فرصة مناسبة للعمل بجدية إلى إعادة هيكلة وسائل الإعلام وتوفير فرصة للتنافس وتحسين الأداء والاتجاه نحو نظام جديد يعتمد على التعددية الإعلامية بعيداً عن احتكار الحكومات لوسائل الإعلام والسماح للقطاع الخاص بتشغيل القنوات الإذاعية والتلفزيونية وفق نظام وإشراف ومتابعة.
ومن الطبيعي أن يتأثر الإعلام الفلسطيني بالاندفاعة التكنولوجية وان ينعكس ذلك على الواقع الفلسطيني فظهرت الإذاعات المحلية ومحطات التلفزة الخاصة بالضفة الغربية قبيل اتفاق أوسلو وبعد الاتفاق، وانتقلت هذه الحالة الإذاعية الخاصة إلى قطاع غزة خلال انتفاضة الأقصى وبعد تدمير إذاعة صوت فلسطين وتجريفها، وفي ظل انهيار المؤسسات الإعلامية بحكم الاحتلال وسياسة البطش والقتل والتجريف الإسرائيلية التي أصابت الشجر والحجر والأرض والأثاث والمؤسسات والمقرات المختلفة.
الإطار النظري للبحث

منذ اندلعت انتفاضة الأقصى في 28/9/2000م، والمتغيرات السياسية الدولية تعكس نفسها على الوضع الفلسطيني سواء في السياق الفكري أو الاجتماعي أو الثقافي أو الإعلامي وكان أبرز هذه المتغيرات ما عرف بأحداث 11/9/2001م، والاحتلال الأمريكي لدولة أفغانستان والاحتلال الأمريكي لدولة العراق في 20/3/2003م، وهي المتغيرات التي أدت إلى انهيار الأنظمة الشرقية الاشتراكية والأنظمة الغربية الرأسمالية الأوروبية وصعود القطب الواحد إلى واجهة إدارة العلم والمحاولات المتواصلة لتشكيل نظام دولي جديد بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
وانعكس ذلك على المنطقة العربية التي سادتها التباينات الطائفية والجهوية والسياسية والقطرية مما أدى إلى خلخلة البناء العربي الرسمي وتهديد الجامعة العربية التي فقدت حيويتها ورمزيتها، وساعد ذلك على الهجمة الإسرائيلية الوحشية على الشعب الفلسطيني ومؤسساته وهيئاته ومقراته وأفراده وأرضه وشجره وحجره، والالتفاف على اتفاقات السلام التي تم توقيعها في أوسلو عام 1993م وهذا الواقع الدولي والعربي انعكس على الحياة الفلسطينية بوجه عام ومن الطبيعي أن يتأثر الإعلام الفلسطيني بهذا الواقع شأنه شأن المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وسادت حالة الفلتان الأمني وقضايا الفساد والإصلاح والحاجة إلى الانتخابات والتغير والتجديد وتهددت حياة المواطنين وازدادت حدة الاشتباكات الدامية بين الفلسطينيين والإسرائيليين وتراجع الدعم الدولي والعربي أيضاً ووسط هذه الحالة الدامية غاب ياسر عرفات الرمز النضالي الوطني الفلسطيني الذي احتفلت به الجماهير الفلسطينية والعربية والأنصار في العالم ويشكل غيابه مرحلة فلسطينية كاملة لتبدأ مرحلة جديدة بقيادة جديدة ولغة إعلامية جديدة، طالب بها الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء أحمد قريع والمعنيون في ذلك.

وفي هذا السياق برزت الحاجة إلى أهمية الإعلام ومصداقيته وقدرته على التأثير وخدمة قضايا الشعب، وما زالت هذه المصداقية للإعلام موضع جدل وحوار منذ أزمة أحداث 11/9/2001م، وما تلاها وبخاصة الحالة العراقية والفلسطينية في ظل التحكم في مصادر الإعلام والمعلومات والهيمنة المطلقة من الدول الكبرى والحكومة الإسرائيلية وبرزت أهمية إدارة الأزمة الإعلامية كجزء من الاستراتيجية السياسية والعسكرية الأمريكية والإسرائيلية لتحقيق أهدافها ومصالحها.
الإعلام والخطاب الدعوي
1- الإعلام: اصطلاحاً لدى المختصين: هو تزويد الناس بالأخبار الصحيحة والمعلومات السليمة والحقائق الثابتة التي تساعدهم على تكوين رأي صائب في واقعة من الوقائع أو مشكلة من المشكلات (إبراهيم إمام) وهو في اللغة الإظهار كما جاء في لسان العرب، أي أنه لا يتوقف عند الأخبار وإنما يتجاوز ذلك إلى كونه عملية اتصالية كاملة ترتبط بالمجتمع والحياة اليومية والمستقبلية، ولذلك كانت نظريات الإعلام والاتصال التي أعانت الإعلاميين على أداء دورهم ومسئوليتهم.
وللإعلام تأثير كبير في المجتمع وهو سلاح ذو حدين، إن أحسنت قيادته كان لك ما تريد منه، وإن أسأت قيادته انقلب عليك، وهذا مؤشر بالغ الأهمية في خطورة هذا الدور، وهو موضوع هذه المداخلة. أي: كيف يكون الإعلام سلاحنا لخدمة دعوتنا وقضيتنا في المجالات المختلفة وبخاصة في ظل هذه الاندفاعة التكنولوجية الهائلة التي تضعنا في موقف الحائر والمتردد؟ أي: هل نتفاعل مع الإعلام وأجهزته وميادينه واتجاهاته أم نقف عند مجالنا وفي حدود الماضي وأجهزته وأساليبه تحت دعوى مقاطعة الوافد غرباً أو شرقاً؟!

الرسول الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - بُعث معلماً منطلقاً من معين الوحي مستخدماً كل الوسائل والأساليب المتاحة في البيئة، لكنه لم ينعزل عن الأمم السابقة، فكثيراً ما كان يقول: (كان فيمن كان قبلكم...) [حسن بن علي البشاري]، ويتأمل في المستقبل والتحضير له بقوله: (سيأتي على الناس...)، وكان يقول: (أرأيتم لو أن...)، ولعلّ الدعوة الإسلامية حسب القرآن الكريم مفتوحة على الزمان والمكان دون حدود، وصدق الله العظيم القائل: { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } (الكهف:109).
وهذه المعاني الجليلة في القرآن تقرّبنا من القائلين بالطريق السريع الالكتروني للمعلومات وأنظمة الاتصال والإعلام ومستحدثات التقنيات المتسارعة، وهي دعوة لأهل الدعوة إلى التأمل والتدبر للانطلاق نحو سَبْر أغوار هذا العالم الجديد للإعلام والاتصال والتفكير الجاد لوضع استراتيجية إعلامية عربية وإسلامية وفق الأصول العلمية والموضوعية المقنعة والمتفاعلة مع مستحدثات العلوم والتكنولوجيا والاتصال تضع قواعد ثابتة ينطلق منها.. الإعلام الإسلامي.
ما هو الإعلام الإسلامي؟
هو الإعلام العام بأشكاله وقوالبه وفنونه ووظائفه ويتميز الإعلام الإسلامي عن الإعلام العام في أنه يقوم على قاعدة (الحلال والحرام) ولأن الأصل في الأشياء الإباحة وفق أصول الفقه، ولأن الإعلام نتاج حضاري أسهمت فيه البشرية جميعاً، فنحن لا نحرّم منه شيئاً إلاّ ما خالف الآداب الإسلامية وشريعة الإسلام. [حسن علي محمد]. ولذلك فإن أدوات هذا الإعلام هي (المذياع، الميكرفون، الكاميرا، الأجهزة بأنواعها، الأخبار والتطبيقات، والحوارات) فالوسائل في حد ذاتها ليست حراماً وإنما الحرام في المضمون إن كان مخالفاً للأصول والشرع.

الإعلام الإسلامي ليس إذاعة لتلاوة القرآن والحديث وحسب، أو أن تكون الصحافة مجرد تسجيل للمواعظ الدينية والأحكام الشرعية، وإنما تذيع الإذاعة وتنشر الصحافة كل ما فيه الخير والعلم وما يخدم المجتمع وينقل الحقائق والعلوم والتجارب الإنسانية، ليظل المجتمع على تواصل مع العالم ومع التطور.
الإعلام الإسلامي صادق يعتمد على التوثيق والتحقق من المصدر، وهو إعلام منهجي هادف يقوم على قاعدتين أساسيتين، هما كتاب الله وسنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- لذلك جماهيره قلوبهم مفتوحة وآذانهم صاغية { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (النحل:125).
وفي هذه الآية الكريمة دعوة واضحة للتعامل مع التيارات الفكرية الوافدة، وأبرزها اليوم (العولمة) وهي شكل من أشكال السيطرة والهيمنة واستعراض القوة، ودعوة إلى دمج المجتمعات والثقافات والمؤسسات والأفراد في بوتقة واحدة محكومة للنظام الرأسمالي والسوق العالمية متسحلة بالثورة الاتصالية والتكنولوجية والمعلوماتية في عالم بلا حدود يسيطر فيه القوي على الضعيف وتخلق واقعاً متصارعاً غير متكافئ، وهو ما يدعونا من جديد إلى التدبر والتأمل ومواجهة هذه التيارات الفكرية الوافدة والمهاجمة وفق آلية واضحة ووسائل متعددة، في مقدمتها وسائل الإعلام.
2- الدعوة في اللغة: هي الفداء والطلب للاجتماع أو الاشتراك في شيء، وهي في لسان العرب: الدعاء، والداعية الذي يدعو إلى دين أو فكر، والدعوة الإسلامية بيان الحق وإبلاغه [وفق د. محمد عمارة]، بهدف اشتراك الناس في خير الإسلام وهداه، وقد يراد به الإسلام نفسه { لَهُ دَعْوَةُ الْحَق } (الرعد: من الآية14)، والدعوة والإعلام متفقتان على أنهما البيان والكشف عن الأنباء وفق الوسائل والأساليب.

وللدعوة قواعدها كما هو الإعلام، التي تفرض على أهل الدعوة أن يتدبروها ويعملوا على الالتزام بها والارتقاء من أجل تخفيف الرسالة الدعوية أو الإعلامية والوصول إلى جمهورها لتحقيق الأهداف التي يسعى الدعاة إلى تحقيقها.. فما هي هذه القواعد؟
قواعد الدعوة:
1- التفاعل بين الداعية والجمهور { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } (الجمعة:2). والجمهور اليوم حيوي متفاعل وليس متلقياً سلبياً.
2- المسئولية { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ } (الصافات:24)، { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } (الإسراء: من الآية34).
3- الصدق في القول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } (التوبة:119).
4- الترويح والترفيه دون إخلال بالنظام والأصول ودون إغراق، (روّحوا القلوب فإنها تملُّ كما تملّ الأبدان) وفي الحديث (ساعة وساعة). أما اللهو فهو الذي ينشر الفحش والبذاءة فهو محرم { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْم } (لقمان: من الآية6).
5- حرية التعبير والرأي في إطار النظام والحوار والجدل الذي يخدم المجتمع والدعوة وليس الغوص في المجهول الذي لا يؤدي إلى نتيجة.
6- القدوة في القول والعمل كما حددها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (إن الله لم يبعثني مُعنِّتاً ولا متعنّتاً، ولكن بعثني معلماً ميسّراً) [أخرجه مسلم].
القائم بالدعوة: هو القائم بالاتصال أي المسئول عن توصيل رسالة الدعوة وتحقيق الأهداف وذلك وفق شروط وقواعد يتحلى بها القائم بالدعوة أو الاتصال، ولعل أهمها:
- شخصية القائم بالدعوة وثقافته وأداؤه وقبوله وقدرته على التوصيل.

- قيمة الداعية في المجتمع من حيث التنشئة والتعليم والاتجاهات والميول والانتماءات.
- قيم المجتمع وتقاليده وقدرته على التفاعل مع هذه القيم وإجادة تمثيلها.
- العلاقة مع المهنة والوسائل والأساليب بحيث يكون قادراً على جذب الجمهور وأن يعكس سياسة المؤسسة التي ينتمي إليها.
تجديد الخطاب الدعوي:
قضية مثارة في محافل الرأي والإعلام والحوار الدائر بين الثقافات وتحتاج إلى عمق في القراءة والتأمل وهذا يدعونا دائماً إلى الإجابة عن التساؤلات الخمسة الأساسية التي تقوم عليها عملية الاتصال لضمان سلامة الوصول إلى الهدف، وهي:
- من يقول؟
- ماذا يقول؟
- لمن يقول؟
- كيف يقول؟
- أي تأثير لهذا القول؟
ولضمان سلامة التحقيق لابد وأن يضع القائمون على الدعوة والإعلام والاتصال عدداً من العوامل المساعدة مثل:
- القدرة على الإقناع والتأثير.
- الاستمالات العاطفية والوجدانية.
- الاستمالات العقلية.
- استخدام الشعارات والرموز.
- استخدام الأساليب اللغوية (التشبيه والاستعارة...).
- دلالات الألفاظ وإيحاءاتها المتوقعة.
- وضوح الأهداف.
- القدرة على ضبط تدفق المعلومات (حارس البوابة).
وأخيراً...
- الإعلام الإسلامي والدعوة .. رسالة ومسئولية واجبة لبيان الحق وتفنيد الباطل وبلورة الرسالة.
- الإعلام والدعوة رسالة وليست تجارة، أداة بناء وعمل هادف وليس أداة هدم وتحريض.
- الإعلام والدعوة رسالة محبة وتفاعل وخير وليست إثارة للنعراث والقبليات والطائفيات والجهويات .. بل رسالة تفاهم وتقدم.