كتاب : الأمة الوسط والمنهاج النبوي في الدعوة إلى الله
المؤلف : عبد الله بن عبد المحسن التركي


الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.. أما بعد:
فإنَّ هُنَاكَ الْكَثِيرَ منَ الْقضَايَا الَّتِي تتعلقُ بالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، والأمْر بالمعرُوفِ وَالنَّهْي عنِ المنْكر، تَتَطَلَّبُ الْبَحْثَ والْمُنَاقَشَةَ والحوَارَ، منَ المتخصصِينَ، في وَسَائِلِ الإعْلام، وَفِي الْجَامِعَاتِ وَدُورِ العلْمِ، ومؤسَّسَاتِ رِعَايَةِ الشَّبَابِ، وتثقيفِهِ، وتوجيهِهِ.
ومن تلْكَ القَضَايَا المهمَّةِ، والموضُوعَات الكبيَرة مَا نَتَنَاوَله في هَذَا الكتَاب منْ بَيَان وَسطية الأمةِ الإسلاميةِ في المسائِلِ العقديةِ، والقَضَايَا الفقهيةِ والتشريعيةِ، وفي منهاجِ الدعوةِ إِلَى الله، وتوضِيح أهمية الاستقَامة عَلَى تلكَ الوسطيةِ التي أرَادَهَا اللَّهُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ.
والكتاب كَانَ في الأصل مُحَاضرة بعنوان: "الأمة الوسط، والمنهاج النبوي في الدعوة إلى الله " ألقيتها في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في الظهران في 17/ 6/ 1418 هـ.

تلكم الجامعة التي قطعت مراحل متقدمة في العلم والمعرفة، وأهَّلت أعدادًا كبيرة من أبناء وطننا الغالي، المملكة العربية السعودية، وثلة من أبناء الدول العربية والإسلامية.
لَقَدْ أَسْهَمَ خِرِّيجُو هَذِهِ الْجَامِعَةِ الْمُبَارَكَةِ منْ أَبْنَاءِ الْمَمْلَكَةِ، فِي تَنْمِيَةِ بِلَادِهِمْ، وتقدمها علميًا وحضاريًا، دون أن يفرطوا فيما يوجبه عليهم دينهم.

وذلك انسجامًا مع ما تسير عليه المملكة العربية السعودية، تخطيطًا وتنفيذًا، من التوازن والاعتدال، والتمسك بالثوابت الإسلامية والوطنية، والأخذ بما يجدُّ من العلم والمعرفة، مما تستدعيه نهضة المملكة، وأخذها بأسباب القوة والتقدم؛ لتمثل في واقعها المجتمع المسلم المهتدي بالإسلام، الذي لا يتصادم مع العلم، ولكنه يوجهه، ويستفيد منه، في تحقيق الخير والنفع، وعبادة الله سبحانه، التي خلق الله من أجلها الجن والإنس: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } . (الذاريات الآية 56) كانت المناسبة فرصة لأثير بعض القضايا التي تحتاج إلى تذكير ومتابعة، مما يهمنا جميعًا أن يكون عليه شباب الأمة الإسلامية جمعاء، وشبابنا في المملكة العربية السعودية على وجه الخصوص، لما للمملكة من واقع إسلامي متميز، في تكوينها ونشأتها، وتطبيقها للإسلام، وتعاونها مع المسلمين أينما كانوا، نشرًا للدين، ودعوة إلى الاهتداء بهديه.
ولما ينبغي أن يكون عليه شبابها من استقامة واعتدال، وفق منهاج الإسلام؛ لكي يؤدوا ما ينتظرهم من مهمات جسيمة، في خدمة دينهم ووطنهم وأمتهم.

والجامعات، هي محضن الشباب، ومكان إعدادهم وتأهيلهم، لما ينبغي أن يكونوا عليه.
وَجَامِعَاتُنَا فِي الْمَمْلَكَةِ الْعَرَبِيَّةِ السَّعُودِيَّةِ بِفَضْلٍ مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةٍ، ثُمَّ بِمَا تُولِيهِ حُكُومَتُنَا الرَّشِيدَةُ مِنِ اهْتِمَامٍ وَعِنَايَةٍ، تَبْذُلُ جُهُودًا كَبِيرَةً فِي رِعَايَةِ أَبْنَائِهَا، وَتَرْبِيَتِهِمُ التَّرْبِيَةَ الصَّالِحَةَ عِلْمِيًّا وَسُلُوكِيًّا وَتَوْجِيهِيًّا.
وَمَادَةُ التَّوْجِيهِ الْأَسَاسِيَةُ فِي جَامِعَاتِ الْمَمْلَكَةِ الْعَرَبِيَّةِ السَّعُودِيَّةِ، هِيَ نُصُوصُ الْقُرْاَنِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا اسْتَنْبَطَهُ الْعُلَمَاءُ الْمُسْلِمُونَ مِمَّا اسْتندَ إِلَيْهِمَا.
إِنَّ الشَّبَابِ الْمُسْلِمَ فِي كُلِّ شُعُوبِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، هُوَ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ الْعِبْءُ الْأَكْبَرُ فِي مُسْتَقْبَلِ حَيَاتِهَا، فِي إِقَامَةِ الدِّينِ، وَالْقِيَامِ بِالْأَمَانَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَحَمَّلَهَا الْإِنْسَانُ:

{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } . (الأحزاب الآية 72). من أجل إقامة الدين وتأدية الأمانة، ينبغي للمسلم أن يعرف المنهاج الأعدل والأكمل في القيام بهذه الأمانة.
والشباب أحوج ما يكون إلى معرفة المنهاج الرباني الذي اختص الله به هذه الأمة، وهو منهاج تفرد به الإسلام دون سواه.
لقد جعل الله هذه الأمة أمةً وسطًا، ومن الضروري أن نتعرف على منهاج الوسطية، وهو منهاج عام للأمة الإسلامية كلها.
والشباب المسلم أحوج ما يكون إلى اتباع هذا المنهاج في فهم أحكام الشريعة، وفي الدعوة إلى الله على أساسه ؛ لأن الأمة الإسلامية، هي الشاهدة على غيرها من الأمم يوم القيامة، ولأنها - بما هي عليه من الحق- شاهدةٌ على الخلق في هذه الدنيا، وقادرة على إصلاح نفسها، وإصلاح غيرها بما لديها من هدي الكتاب والسنة.
أسأل الله أن ينفع بهذا الكتاب، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
الرياض في 1 / 7 / 1418هـ عبد الله بن عبد المحسن التركي

الأمة الوسط في القرآن الكريم
يُعَد الوحي الإلهي من الكتاب والسنة أساس التشريع، ومصدر الفكر الإسلامي.
ومنذ نزول القرآن الكريم، وختم الرسالات الإلهية بالإسلام، تمت صياغة فكر المسلمين في أصوله وثوابته على هدي القرآن الكريم والسنة النبوية.
وهذه الأصول والثوابت، ظلت أهم مرتكزات فكر المسلمين في جميع العصور، على اختلاف الزمان والمكان، وتنوع البيئات والأعراف والثقافات في البلاد التي ساد فيها الإسلام، منذ القرن الأول الهجري، وما تلاه من انتشار للإسلام في أقطار واسعة، كان لبعضها ثقافات مميزة.
وإذا كانت الأمة الإسلامية، قد بدأ بزوغها في المدينة المنورة بعد الهجرة النبوية، وبدت ظاهرة قوية في حجة الوداع، حين خاطب النبي صلوات الله وسلامه عليه عشرات الألوف من المسلمين.
فإن هذه الأمة لم تعد قاصرة على العرب، أو سكان شبه الجزيرة العربية، التي توحدت لأول مرة في تاريخها تحت سلطان المسلمين.
لقد بدأت الأمة الإسلامية بالعرب، سكان شبه الجزيرة، ثم امتدت فيما بعد لتضم إليها شعوبًا أخرى في المشرق والمغرب، لا سيما في القرنين الثاني والثالث الهجريين.

ومعلوم أن وحدة الأمة الإسلامية، ولزوم جماعة المسلمين، وعدم التفرق من أجلِّ المقاصد الإسلامية، وأسمى الغايات الدينية، قال الله تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } . (آل عمرن الآية 103). وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: « إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا: فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تُشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيلَ وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال » . (رواه مالك، وأحمد، ومسلم ).
قال النووي - رحمه الله-: (وأما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ولا تفرقوا، فهو أمر بلزوم جماعة المسلمين، وتأليف بعضهم ببعض، وهذه إحدى قواعد الإسلام).
وفي حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه- أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال: « ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصح لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم » . (رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، والدارمي ).

ولما كانت تلك الوحدة التي تعد من قواعد الإسلام تقتضي توحد الأمة في منهاج التفكير. فقد كان القرآن الكريم، هو الأساس الأولى في صياغة العقل المسلم على المستوى الفردي، وعلى المستوى الجمعي أيضًا، في شعوب تختلف أصولها العرقية، وبيئاتها، وأعرافها، وتراثها الحضاري والثقافي.
وكان انتشار اللغة العربية، وسيادتها في كثير من البلاد التي فتحها المسلمون، من أهم العوامل التي ساعدت على توحد منهاج التفكير؛ إذ اللغة وعاء الفكر، ووسيلة التعبير عنه، وطريق انتقاله وذيوعه.

الأمة في القرآن الكريم
:
ورد لفظ (الأمة) في القرآن الكريم مرات عديدة، نحو خمسين مرة:
منها قول الله تعالى:
{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } . (البقرة الآية 128). وقوله تعالى:
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (البقرة الآيتان 134، 141). وقوله تعالى:
{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . (البقرة الآية 213). وقوله تعالى:

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ } . (المائدة الآية 66). وقوله تعالى:
{ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي } . (يوسف الآية 45). وقوله تعالى:
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } . (النحل الآية 12) وقوله تعالى:
{ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ } . (الزخرف الآية 22). وقوله تعالى:
{ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } . (المؤمنون الآية 52). وقوله تعالى:

{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } . (البقرة الآية 143).

وكلمة (أمة) في القرآن لها معانٍ عدةٌ : فدعوة إبراهيم وإسماعيل أن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة، قيل: يعني العرب.
قال ابن كثير : (والصواب أنه يعم العرب وغيرهم؛ لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل ). وفي قول الله تعالى: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } . (البقرة الآية 134).
الأمة: بمعنى السلف الماضي.
وفي قوله تعالى:
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } . (الشورى الآية 8). ليس الخطاب هنا لهذه الأمة، بل لجميع الأمم التي أرسل إليها رسلًا بشرائع عدة، حتى اختتمت الشرائع بالشريعة الخاتمة، شريعة الإسلام.
وقوله تعالى:
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } . (النحل الآية 120). الأمة هنا: بمعنى الإمام الذي يقتدى به، أو الذي يعلِّم الخير.
وقيل: أمة وحده، أي: كان مؤمنًا وحده.
وقوله تعالى:
{ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } . (يوسف الآية 45) الأمة هنا: بمعنى المدة، أو النسيان. أي: ذكر صاحب يوسف وصيته له بعد مدة، أو بعد نسيان.

والمعنى الغالب لكلمة (أمة) في القرآن الكريم، هو معنى الجمع من الناس في مكان وزمان معين، وقد تكون بمعنى الجماعة من أي خلق من مخلوقات الله تعالى، كما في قوله عز وجل:
{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } . (الأنعام الآية 38). أي: أصناف مصنفة.
قال قتادة : الإنس أمة، والجن أمة، والطير أمة.

وأما في اللغة، فإن لكلمة (أمة) معاني كثيرة، أشهرها وأشيعها أنها بمعنى الجماعة؛ إذ لا يكاد يفهم عند الإطلاق إلا هذا المعنى، قال ابن منظور في اللسان: وأمة الرجل: قومه، والأمة: الجماعة. ولفظ الأمة مفرد، ومعناه الجمع، كما نص عليه الأخفش، فإن أريد جمع لفظه قيل: أمم، قال الله تعالى:
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } . (الأنعام الآية 42). وقال تعالى:
{ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } . (الرعد الآية 35).
وهذا المعنى الغالب للكلمة، هو المعنى السائد في تعريف (الأمة) في اللغات الأجنبية، الذي يدل عليه لفظ (NATION) بالإنجليزية، وهو نفس اللفظ في اللغة الفرنسية مع اختلاف النطق.
والأمة أسبق من الدولة التي لم تظهر قبل التاريخ المدون، بينما سبقت الأمم بالظهور.

فالأمة: جماعة كبيرة من الناس، تختمي إلى أصل عرقي واحد، يوجد بين أفرادها لغة مشتركة، أو تاريخ مشترك ومصالح كبرى، فضلًا عن الوجود الجغرافي والتاريخي، لقرون طويلة في أرض بعينها.
وهي تختلف عن الدولة، التي هي كيان قانوني يشتمل على ثلاثة عناصر، هي: الشعب، والأرض، وسلطة السيادة.
فالأمة: كائن حي عبر العصور. أما الدولة: فهي كيان قانوني اقتضاه الواقع. والدولة قد تضم عدة أمم؛ إذ قد تتوسع دولة، وتضم أقاليم تختلف عنها في الأصل العرقي، أو في اللغة، أو في العقيدة، فتكون تلك الدولة قد ضمت أممًا مختلفة، مثل الإمبراطوريات القديمة في التاريخ، كالإمبراطورية الفارسية، والرومانية، ومثل المد الاستعماري في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين.
فقد كانت الدول الاستعمارية، تضم أجناسًا من أعراق شتى، وعقائد مختلفة، ولغات متعددة، تنتمي لأمم معينة، ولكنها تخضع لسلطة الدولة المستعمِرة، التي تختلف عنها أو عن بعضها عرقيًا ولغويًا وحضارة وتاريخًا.

الوسط في القرآن الكريم
:
ورد لفظ (الوسط) ومشتقاته في القرآن الكريم في مواضع عدة: منها قول الله تعالى: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } . (البقرة الآية 238).
قيل: إن معنى الوسطى: الفضلى ، وسميت بذلك ؛ لتوسطها بين صلاتي الليل وصلاتي النهار.
وقوله تعالى في كفارة اليمين:
{ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } . (المائدة الآية 89).
وأوسط الطعام هنا: هو الطعام الجيد الذي يأكل منه الإنسان.
وقيل في (الأوسط): ما بين القلة والكثرة. ويظهر من أقوال المفسرين: أن معنى الأجود والأفضل، هو المعنى الغالب.
وقوله تعالى:
{ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ } . (القلم الآية 28). قيل: الأوسط، هو الأعدل، وهو ظاهر لما قاله من طلب التسبيح والنصح بالمعروف. وقيل: أوسطهم عمرًا. والأول هو الأقرب للصواب.
وقوله تعالى:

{ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا } . (العاديات الآية 5). الوسط هنا: بمعنى التوسط بين طرفين، وهو المعنى المناسب، والموقع الوسط، هو الأفضل في الغالب.
إن لفظ (الوسط) لغة: هو ما يكون بين طرفين. ويأتي الوسط بمعنى الاعتدال، والبعد عن الغلو. والوسط بطبيعته محمي من العوارض والآفات التي قد تصيب الطرفين. وهذا الوصف نظرًا لأصله، لا يتغير بتغيير موصوفه، يقال: رجل وسط، وأمة وسط. أما ما وصف الله به الأمة الإسلامية في قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } . (البقرة الآية 143).
فقد ذكر للوسطية في الآية الكريمة ثلاثة معانٍ:
1- العدالة:
قال صلى الله عليه وسلم بعد تلاوته للآية الكريمة: « والوسط: العدل » . (رواه البخاري في كتاب التفسير).
2- الخيار والأجود:
قال ابن كثير - رحمة الله- في تفسير الآية : (والوسط هاهنا: الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسبًا ودارًا، أي: خيرها).
3- الاعتدال والتوسط:

قال ابن جرير رحمه الله: (وأرى أن الله تعالى ذكره، إنما وصفهم بأنهم وسط، لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غُلُوٍّ فيه، غُلُوَّ النصارى الذين غلوا بالترهب، وقِيلِهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصيرٍ فيه، تقصيرَ اليهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك؛ إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها، وأما التأويل، فإنه جاء بأن الوسط العدل وذلك معنى الخيار؛ لأن الخيار من الناس عدولهم).
ولا تزاحم بين هذه المعاني الثلاثة، فكلها صحيحة، والآية صالحة، وهي متلازمة مترابطة.
فالآية تعني: أن الله جعلهم خيارا عدولا؛ ليشهدوا على الأمم أن رسلهم بلغتهم، ولا يشهد إلا العدل من الناس.
ووسط الشيء، خيره وأعدله.
قال الشاعر يمتدح الرسول صلى الله عليه وسلم:
يا أوسط الناس طرا في مفاخرهم ... وأكرم الناس أُمًّا برَّةً وأَبَا

فمعنى الأمة الوسط: أنها خير الأمم، وأعدلها بالشهادة على غيرها من الأمم.
والمعني: أن الأمة الوسط تحميها وسطيتها من الآقات والعوارض التي تلم بالأمم التي تغلو وتجانب الوسطية.

والشهادة على الأمم، ميزة تتمتع بها الأمة الإسلامية، وهي ميزة مرتبطة بسببها، وهي أنها خير الأمم، وأعدلها، وأبعدها عن الغلو الذي يصيب العقول والأفهام، فينحرف بها إلى الفسوق أو الابتداع.
إِنَّ الْوَسَطِيَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ، تَتَمَيَّزُ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي شرُفت بنزول القرآن، وحَفظَها القران بعد ذلك من أن تضمحل أو تنزوي، أو تصبح من اللغات القديمة، كاللغة الآرامية، والإغريقية، واللاتينية.
فمعنى الوسطية الواردة في القرآن وصفا للأمة الإسلامية بجعل الله لها كذلك، يرتبط ارتباطا وثيقًا بدلالة اللغة، وباللسان العربي المبين الذي نزل به القرآن الكريم.
والوسطية، إسلامية، وَلَيْسَتْ عَرَبِيَّةً؛ لأن المقصود بالأمة في قول الله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } . (البقرة الآية 143).
هو الأمة الإسلامية، التي تعتبر الأمة العربية أهم مفرداتها.

إن الوسطية هنا، ليست فلسفية، وليست خصيصة عرقية، ولكنها تتبع الإسلام، وهي خصيصة إسلامية، وميزة دينية أيضًا.
فهي ليست وسطية فلسفية، كما هي عند أرسطو الذي تعني الوسطية عنده، تداخل الشيئين؛ لكي يتكون منهما في النهاية شيء آخر ثالث، يلغيهما، ويقف بدلًا منهما.
وقد ظهرت وسطية أرسطو في مباحث الأخلاق.
فالشجاعة مثلًا: حد جديد، مقتضاه إلغاء حدين آخرين: الجبن والتهور، ولكنه غيرهما، وهو فضيلة ووسط بين رذيلتين.
وقد انتُقدت الوسطية الفلسفية في مجال الأخلاق بالذات، بأنها تحاول أن تضع للأخلاق موازين حسابية أو هندسية.
وَهَذَا الْمِقْيَاسُ لا يصحُّ، كَمَا ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ محمود عباس العقاد - رحمه الله- إلا إذا كان مفروضًا على الإنسان أن يختار بين رذيلتين محققتين، فيختار التوسط بينهما.
إِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْكَرَمِ لا تُعَدُّ فِي كُل حال إسرافًا، والزيادة في الشجاعة لا تعد دائمًا تهورًا.
إذ إن ذلك يتوقف على ظروف عديدة، وبواعث نفسية، ومصالح عامة، بحيث تصبح زيادة الشجاعة، أو المبالغة في الكرم، زيادة في الفضل، دعت إليها ظروف أو بواعث، أو مصالح اجتماعية.

إِنَّ الْمَفْهُومَ الْإِسْلَامِيَّ لِلْوَسَطِيَّةِ، لا يلغِي الطَّرَفَيْنِ ؛ لِيَتَكَوَّنَ مِنْهُمَا حدٌّ ثَالِثٌ، وَإِنَّمَا يَبْقَى فِيهِ الطَّرَفَانِ مُتَجَاوِرَيْنِ، وَيَحْتَفِظُ كُلُّ طرفٍ بوجُودِهِ، وذلك مما يتفق مع الطبيعة البشرية، التي ينتقل فيها الإنسان من حال إلى حال، ويختار بين المفترقات أو المتناقضات، بحسب دوافعه النفسية وحاجات الزمان أو المكان وظروفهما.
وَلَعَلَّ مِنْ خَصَائِصِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْوَحْيُ الْإِلَهِيُّ، القرآن الكريم، أنها في معنى الوسطية، لا تنحو منحى ماديًا في اعتبار الوسط موقعًا بين طرفين، أو درجة بين الأعلى والأدنى.

بل يظهر في معنى الوسطية اللغوية، أنها الفضل والعدل والأجود، كما يظهر فيها أيضًا بدلالة اللغة، أنها الوسط بين طرفين، وبذلك يكون اللفظ جامعًا لمعان عديدة، مما يسهم في فهم شامل لمعنى الوسطية الإسلامية، وفي بيان مجالات تطبيقها، بحيث تصبح الأمة الوسط في الآية الكريمة: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } . (البقرة الآية 143). هي أمة الخير، والعدل، والشهادة، والتوسط بين الأمور.

خيرية هذه الأمة:
وثمة حقيقة ينبغي الالتفات إليها، وهي أن أي أمة من الأعم السابقة، لم توصف بأنها الأمة الوسط؛ لأن تلك الصفة إنما تتفق وتتمشى مع خيرية هذه الأمة، التي جاءت وصفًا آخر لها في قول الله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } . (آل عمران الآية 110).
و

خيرية هذه الأمة
من وجوه عدة:
1- أمرها بالمعروف، ونهيها عن المنكر، وإيمانها بالله، كما في الآية الكريمة السابقة.
2- كونها أكثر الأمم نفعًا للناس، كما فسر أبو هريرة - رضي الله عنه- الآية الكريمة بقوله: « خير الناس للناس ، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام » . 3- كونها أكثر الناس استجابة للأنبياء، قال صلى الله عليه وسلم: « أنا أول شفيع في الجنة، لم يصدَّق نبي من الأنبياء، ما صُدقت، وإن من الأنبياء نبيًا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد » . (رواه مسلم ).
4- كونها لا تجتمع على ضلالة.

5- كون كتابها خير الكتب السماوية، ونبيها أفضل الأنبياء، وتقديمها على الأم في الحشر، كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نحن الآخِرون السابقون يوم القيامة » .
(متفق عليه).
6- كونها أكثر أهل الجنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: « إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة » .
(رواه مسلم ).
لقد كان الهدف من بسط القول في لفظ (الأمة)، ولفظ (الوسط)، أن يتبين المعنى، وينجلي المقصود من اللفظين في لغة القرآن الكريم.
فالأمة لا تقتصر على جماعة من الناس أو المخلوقات، كالطير مثلًا، وإنما يشير اللفظ إلى التفرد بخصائص وميزات.
وهكذا لفظ (الوسط) الذي يكاد ينحصر معناه، في غير لغة القرآن الكريم، في أنه موقع بين طرفين، أو درجة بين الأعلى والأدنى، فإنه يمتد في لغة القرآن الكريم إلى معنى الفضل والخير والعدل، فيصل إلى الدرجة الأعلى في الكمال أو الاكتمال.
وبذلك يتوافق معنى الوسطية في قول الله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } . (البقرة الآية 143).
مع معنى الخيرية في قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } . (آل عمران الآية 110).

الوسطية في المنهاج الإسلامي إجمالا
جاء وصف الأمة الإسلامية بالأمة الوسط، في قول الله تعالى:
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } . (البقرة الآية 143).
وفي الحديث الشريف، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: « يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه، فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال لنوح من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمّته، قال: فذلك قوله: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } . قال: والوسط: العدل، فتدعون فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم » .
(رواه البخاري ).
وفي تفسير ابن كثير عند تفسير الآية :

(أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام، هو اختبار للأمة وامتحان لها، ليعلم من يتبعُ عن يقين وإيمان، ومن ينقلب على عقبيه؛ لتكون خير الأمم شهيدةً على الأمم كلها، ولما جعل الله الأمة وسطًا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج، فالوسط هو العدل).
تبدو وسطية الإسلام واضحة وظاهرة، في منهاجه الأعدل والأقوم.
فالمنهاج الإسلامي القائم على الإيمان بالله، ووحدانيته، وتنزيهه، وإفراده سبحانه وتعالى بالعبادة، هو وحده الذي يضمن للبشر أن يتخلصوا من عبادة غير الله عز وجل.
فهو المنهاج الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصير، فلم تتخذ الأمة الإسلامية، السائرة على صراط الله المستقيم، أندادًا لله سبحانه، ولم يصفوا الله بأوصاف لا تليق به، كما فعلت اليهود، حين وصفوه بالفقر، وأن يده مغلولة.
ولم تضل كما ضلت النصارى، الذين شبهوا المخلوق بالخالق، وأضفوا على عيسى - عليه السلام- خصائص الألوهية، فغلت فيه، وجعلته شريكًا لله.

إن منهاج الأمة الإسلامية، هو المنهاج الوسط المعتدل في أنبياء الله ورسله، حيث آمنوا بهم جميعًا، ولم يفرقوا بين أحد منهم، أو ينقصوه، أو يقتلوا أنبياء الله، كما فعلت اليهود: { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ } ( المائدة الآية 70 ) .
ولم يغلوا في أحد منهم، كما فعلت النصارى معِ عيسى ابن مريم - عليه السلام- وإنما قدَّروهم حق قدرهم.
قال صلى الله عليه وسلم: « لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله » . (رواه البخاري ).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى-: (فالمسلمون وسط في أنبياء الله وعباده الصالحين، لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله... ولا جَفَوْا عنهم كما جفت اليهود، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق... ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في المنهاج، فلم يقولوا: هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة، كما تقول النصارى، ولا كفروا به، وقالوا على مريم بهتانًا عظيمًا، حتى جعلوه ولد بغية، كما زعمت اليهود، بل قالوا: هو عبد الله، وكلمته ألقاها إلى مريم . . . وكذلك المؤمنون وسط في شرائع دين الله).

ووسطية أهل الإسلام المستقيمين على هديه، تبدو في الاعتدال والتوازن بين مطالب الدنيا والنظرة إليها، ومطالب الآخرة والعمل لها، والأخذ بالأسباب المؤدية إلى ذلك، دون إفراط أو تفريط، ودون إسراف أو تقتير، قال الله تعالى: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } . (القصص الآية 77). يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية : (أي: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل، والنعمة الطائلة في طاعة ربك، والتقرب إليه بأنواع القربات.... ولا تنس نصيبك من الدنيا، أي: مما أباح الله لك فيها من المآكل والمشارب والملابس والمناكح، فإن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا).
فالإسلام وسط بين من غلا في أمر الدنيا، ولم يهتم بالآخرة، وبين من غلا في أمر الآخرة، ونظر إلى الدنيا نظرة ازدراء وابتعاد. وهكذا التوازن بين مطالب البدن ومطالب القلب.

فقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أن ثلاثة رهط، أراد أحدهم أن يصلي الليل أبدًا، وأراد ثانيهم أن يصوم الدهر ولا يفطر، وعزم الثالث على أن يعتزل النساء، فقال صلى الله عليه وسلم : « أنتم قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أنا أصلي، وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني » . (متفق عليه).
ومن ذلك الاعتدال في تناول الطيبات:
{ يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } . (الأعراف الآية 31).
والاعتدال والتوازن في الإنفاق:
{ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } . (الإسراء الآية 29).
{ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } . (الفرقان الآية 67).

الوسطية في العقيدة
لقد خلص التوحيد في عقيدة المسلمين لله سبحانه مما شابه- بفعل تقادم العهد- من الشرك بالله، واتخاذ الأوثان والأصنام آلهة.
كما خلص من كل دعوات التشبيه والتعطيل، التي ابتدعها أصحاب المذاهب التي استمدت من ثقافات غير إسلامية.
وخلص من كل الأفكار الضالة والمنحرفة عن كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
لقد سادت بين أهل السنة والجماعة عقيدة التوحيد الخالص، ولم يتأثروا بما واجهوه من انحرافات وأباطيل، وقاوم فقهاء أهل السنة وعلماؤها التيارات المنحرفة، وهم أهل الاستقامة، وأصحاب الصراط المستقيم، والفرقة الوسط.
لقد كان لهؤلاء العلماء أكبر الأثر في الحفاظ على وسطية الأمة وفكرها العقدي المستمد من القرآن الكريم ومن السنة النبوية، وقد لقي بعضُ الفقهاء في ذلك عنتًا وشدة، كما حدث للإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله- الذي تصدى لفتنة القول بخلق القرآن التي ثارت في عهد المأمون .
لقد كانت الوسطية بمعناها القرآني، هاديًا وسراجا للدعاة والفقهاء، وسط تيارات عقدية تريد أن تزحزح الوسطية بمعناها القرآني عن مكانتها في الفكر الإسلامي.

لقد ساد في الفكر الإسلامي الصحيح، التوازن الظاهر بين الدين والدنيا، وبين العقل والنقل، وبين عَالَم الغيب وعَالَم الشهادة، وبين النفس والبدن.
يقول الغزالي - رحمه الله- في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد: (إن نظام الدين لا يكتمل إلا بنظام الدنيا، وإن نظام الدنيا شرط لنظام الدين).
فالوسطية الإسلامية، ليست سمة لفكر علماء معينين، ولكنها سمة العقيدة الإسلامية التي تمسَّك بها أهل السنة والجماعة في عصور المسلمين المختلفة، واعتبروا كل من يخرج عن هذه الوسطية في الاعتقاد أو السلوك، خارجًا عن الأعدل والأوسط، وذَمَّ هؤلاء العلماء كل غلو أو تطرف يريد الإخلال بصفة الوسطية بمعناها القرآني، ويفرض الانحراف الفكري أو السلوكي في المجتمع الإسلامي.
لقد سادت الوسطية في التفكير الإسلامي، سواء تعلق ذلك بالعقائد أم بالتشريع، وهو مجال رحب لظهور وسطية الإسلام.
وقد استدل علماء المسلمين على مقولاتهم في العقيدة، أو الفقه، بالنقل الذي لا يخالفه العقل السليم، وميزوا بين الواقع والمثال، وبين الغايات والوسائل، واستدلوا بما في القرآن الكريم من الحوار والحِجَاج العقلي والمنطقي، وقياس الأمور على أشباهها وأمثالها.

إننا نجد في القرآن الكريم في الإيمان بالله ووحدانيته، ووجوب إفراده بالعبادة سبحانه، توجيهًا للإنسان للنظر في الكون المشهود، للاستدلال به، إلى جانب عَالَم الغيب الذي وردت في القرآن حقائق عنه، وكثير من مشاهده، يقول الله تعالى: { وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ }{ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } . (الداريات الآيتان 20، 21).
ويقول سبحانه:
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } . (البقرة الآية 164).
والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا.
وفي مجال النبوات والوحي، ترد الأدلة في القرآن الكريم بما تخضع له العقول السوية والمنطق السليم.

وفي تصديق الرسول والرسالة الخاتمة، والتدليل على صدقه صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مخاطبًا المنكرين:
{ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } . (يونس الآية 16).
ويأخذ على الكفار فساد حجتهم في قولهم: إنما يعلِّمه بشر، فيقول تعالى: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } . (النحل الآية 103).
وهذا التدليل، يجمع بين الفطرة الإنسانية السليمة القابلة للإيمان بالله، وبين الدليل العقلي أو الحِجَاج المنطقي.
وهي وسطية، تخلو من التطرف والغلو الذي عابه ابن حزم على من أوجبوا لصحة الإيمان اصطناع الدليل العقلي بمقدمات ونتائج.
فلم يترك أهل السنة والجماعة التدليل العقلي، مع ما في أيديهم من حجة الكتاب والسنة، وهي الحجة البالغة.

ولم يستسلموا للعقل وحده في قضية الإيمان والوحدانية وعَالَم الغيب، كما فعلت الفلسفات القديمة، أو العلمانية الحديثة، حين اقتصرت على الدليل العقلي أو المنطقي، أو القياس الفاسد بين عَالَم الغيب وعَالَم الشهادة، في قضايا الإيمان والوحي والرسالات السماوية، فجاء فكرها منقوصًا ومنقوضًا ومتصفا بالغلو والتطرف، في تقديس العقل وإهمال النقل، وقصور المنهاج، وكذلك لم يسلكوا مسلك الأشاعرة الذين ألغوا دلالة العقل في الأحكام الشرعية، ولا مسلك المعتزلة الذين قالوا باستقلالية العقل في التشريع، وهو ما يسمونه التحسين والتقبيح العقلي.
إن المسلمين هم أول من سعى لإزالة التعارض الظاهري بين العقل والنقل، وأفردوا تلك القضية بمؤلفات عظيمة تدل على رسوخ قدمهم في المسائل العقلية، والحجج المنطقية، إلى، جانب حيازتهم قصب السبق في العلوم النقلية، على غرار ما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الفريد (درء تعارض العقل والنقل).
وبذلك لم يدخل علماء المسلمين في متاهات الفلسفة الإغريقية، التي لم تنتج شيئًا له قيمة في قضية الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وشَبَّهها بعض فلاسفة الغرب المحدَثين بأنها حرث في الماء.

توسط أهل السنة والجماعة بين الفرق الإسلامية
أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية من بين الفرق الإسلامية، وهم أصحاب المنهاج الحق، الذي يمثل وسطية الأمة الإسلامية.
يقول الإمام ابن تيمية - رحمه الله-: (وهذه الفرقة الناجية هم وسط في النِحل، كما أن الإسلام وسط في الملل).
ويقول: (وكذلك في سائر أبواب السنة هم وسط؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان).
فأهل السنة وسط في مبحث الإيمان، والوعد والوعيد، ومرتكب الكبيرة، فلم يقولوا: إن مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، لا يضره ارتكاب الكبيرة شيئًا، كما قالت المرجئة، ولم يقولوا: إنه كافر مخلد في النار، كما قالت الخوارج، ولم يقولوا: إنه يخرج من الإسلام ولا يدخل في الكفر، بل في منزلة من المنزلتين، كما قالت المعتزلة .

بل توسَّط أهل السنة في ذلك، فقالوا: إنه مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، وهو تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذَّبه، ولا يخلد في النار، بل يدخل الجنة. وتوسط أهل السنة في مبحث القضاء والقدر، فلم يقولوا: إن العبد مجبور على فعله، لا قدرة له، ولا إرادة، كقول الجبرية، ولا أنه يخلق فعل نفسه، وأن الله ليس بخالق لأفعال العباد، كقول المعتزلة .
بل قالوا: إن للعبد إرادة، وهو فاعل لأفعاله في الحقيقة ومسؤول عنها، والله سبحانه خالق للعبد وأفعاله.
وأهل السنة وسط في باب صفات الله، بين المعطلة النفاة، والمشبهة الممثلة، حيث يصف أهل السنة ربهم- سبحانه وتعالى- بما وصفه به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، يثبتون لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله، وينفون عنه مماثلة المخلوقات، وينزهونه عن أي نقص: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } . (الشورى الآية 11).

وتوسط أهل السنة في القول في الصحابة رضوان الله عليهم، فلم يكفروا أحدا منهم، كما فعلت الخوارج، أو يفسقوه، كما فعلت المعتزلة، ولم يروا العصمة لأحد منهم، أو يغلوا فيه، بل هم بشر يخطئون ويصيبون، وحملوا أعمالهم على أفضل المحامل.
وتوسط أهل السنة والجماعة في تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرفعوه عن مقام الرسالة، ويدَّعوا له شيئًا من خصائص الألوهية، مثل طائفة البريلوية، ولم يتخذوا قبره عيدًا، ولم يفرطوا في حقه، مثل: غلاة الرافضة، فيفضلوا أحدًا من الناس مهما كان عليه.
بل يعتقدون أنه عبد الله ورسوله، وأنه أفضل المرسلين، وسيد الخلق أجمعين، ويرون وجوب محبته، وأنها من الإيمان، ومن لوازمها طاعته فيما أمر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأنه خاتم النبيين، ولا يعلم من الغيب إلا ما علَّمه الله، وأنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، ويحذرون من الغلو فيه.
وكذلك لم يرفع أهل السنة الصالحين فوق منزلتهم، ويفرطوا في تعظيهم، كما هو شأن بعض الفرق، مثل: الرافضة والصوفية، ولم يقصروا في هذا الجانب، كما هو شأن طوائف أخرى، مثل: المعتزلة والجهمية .

بل رأوا موالاة الصالحين، وذكر محاسنهم، والدعاء لهم، وأنهم أولياء الله، وأن لهم كرامات، ولا يفضلونهم على الأنبياء، أو يقولون بعصمة أحد منهم، ولا يجيزون بناء المساجد والقباب على قبورهم.
ومن صفات أهل السنة والجماعة، العمل بالعلم، فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: « طوبى لمن عمل بعلمه » . (رواه الطبراني والبيهقي ).
وتوسطوا بين من لا يعملون بعلمهم، ومن يعملون بلا علم.
كما لا يُزهِّدون الناس في العلم ويُنفِّرونهم منه، كما نُقل عن بعض الصوفية .
هذا هو منهاج أهل السنة والجماعة في الاعتقاد، المنهاج الوسط الذي جاء من عند الله، وبيَّنه رسوله صلى الله عليه وسلم، ودعا إليه، وسار عليه الصحابة- رضوان الله عليهم-، ومن تبعهم بإحسان.

الوسطية في التشريع الإسلامي
لا شك أن التشريع الإسلامي، هو التشريع الوسط والأكمل بين الشرائع.
ولذلك أهميته الكبرى؛ لأن الشريعة الملزمة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هي الأساس في وحدة الأمة الفكرية والنفسية والعملية.
وينبغي التمييز الحاسم والواضح بين أحكام الشريعة، متمثلة في نصوص الكتاب والسنة، وبين الاجتهاد والنظر في هذه النصوص.
ولذلك، فإن الوسطية تبدو في حقيقتها، وفي أكمل صورها في النصوص الشرعية ذاتها.
والفقه الإسلامي في جملته، والاجتهاد في أحكام الشرع،. يستلهم تلك الوسطية المثلى القائمة في النصوص.
وقد كانت الوسطية الإسلامية بمعناها القرآني، غائبة تمامًا عن كل القوانين الوضعية، ولا سيما في أصولها القديمة، وحتى إذا كانت هذه القوانين تنشد العدالة، فإن العدل بوصفه قيمة ، تتغير صورته بحسب الزمان والمكان.

وعلى سبيل المثال، فقد كان القانون الروماني، يحرم الأرقاء من كل مشاركة في الحياة العامة، وكان يجيز قتل كل الأرقاء الذين في خدمة النبيل إذا ثبت تآمر واحد منهم عليه، وكان من حق الدائن قتل المدين العاجز عن السداد، أو استرقاقه إلى الأبد، وطبقا لأحكام ذلك القانون، كانت المرأة تدخل بيت زوجها عن طريق البيع أو وضع اليد، فيشتري الزوج زوجته بإجراءات البيع والشراء، وظل ذلك فترة طويلة.
أما الوسطية القرآنية، فإنها تتجلى في منهاج التشريع الإسلامي كله.
ويبدو ذلك وأضحًا في تنظيم المال والملكية، والاعتراف بملكية الفرد للمال، إلى جانب أنه يملكه استخلافا من الله عز وجل؛ لكي يؤدي رسالته في الحياة:
{ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } . (الحديد الآية 7).
كما يبدو المنهاج الوسط، في الإقرار بحق الفرد في المال ، إلى جانب الاعتراف بأن للجماعة فيه حقًّا مقدرًا أو محددًا، يخصص لفقراء الجماعة، وهو الزكاة: { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } . (الذاريات الآية 19). { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ }{ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } .

(المعارج الآيتان 24، 25).
وقد أضيف المال في القراَن الكريم إلى صاحبه، كما في الآيتين السابقتين، وأضيف ملك السماوات والأرض وما فيهن إلى الله عز وجل، قال تعالى:
{ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . (المائدة الآية 120).
كما أضيف المال بخصوصه إليه تعالى، قال سبحانه:
{ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } . (النور الآية 33).
وهذا المنهاج في النظر إلى المال، والهدف منه، وكيفية اكتسابه، وكيفية إنفاقه، هو المنهاج الأكمل والأعدل، في تنظيم أمر هام وجوهري في حياة الإنسان، وهو يتفق مع فطرة الإنسان وغريزته في حب التملك والاستئثار، ويوازن بينها وبين حق المجتمع في مال الله، وأن المال - ولو كان مملوكًا للفرد- فيه حقوق لله أو للجماعة.
ذلك هو المنهاج الأمثل الذي يحفظ مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، ويوازن بينهما موازنة عزَّت على أصحاب المذاهب والنظريات البشرية قديمَاَ وحديثًا.
إن الموازنة واضحة في التشريع الإسلامي بين حقوق الله وحقوق العباد، مع أن الله تعالى هو المالك لكل شيء، وإليه يرجع الأمر كله.

ورحمة من الله بالإنسان، قضى بأن يتمكن من التصرف في بعض الحقوق كما يريد؛ لأنه يحتاج إلى ذلك في حياته ومعاشه، بينما هناك حقوق لا تتعلق به وحده، حتى وإن كان ظاهرها يومئ إلى ذلك.
ففي حد السرقة مثلًا، لا يصح للإنسان المسروق ماله أن يطلب إعفاء السارق من عقوبة الحد، إذا توافرت شروطه الشرعية، مع أن المال المسروق ملكه، وكان يستطيع أن يهبه للسارق قبل أن تقع الجريمة، وتستكمل أركانها، وشروط توقيع الحد؛ لأن التنازل عن حد السرقة يدعو إلى شيوعها في المجتمع، وهو ما يقف دونه الشرع.
وفي جريمة القتل العمد، وهي تقع على القتيل، ويقع ضررها على أقرب الناس للمقتول، وتضر بأمن المجتمع، نجد لأولياء القتيل حق العفو نظير دية، أو بغير مقابل، ونجد حق الولي أيضا في طلب القصاص، أخذًا بالعدل وشفاء للنفوس.
هذا المنهاج التشريعي الأكمل والأعدل، يوازن بين الحقوق، ولا يضيف حقاَ لأحد على حساب الآخر، ويتلافى عيوب مناهج أخرى عديدة، جعلت أولياء الدم لا سلطان لهم على الإطلاق، أو جعلت عقوبة القتل لازمة في كل حال، أو ألغت عقوبة القتل كلية، دون سند من عدل أو مصلحة، تعود على الفرد أو على المجتمع.

وفي التشريع الإسلامي، موازنة دقيقة بين التكليف وبين الاستطاعة، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، والمشقة تجلب التيسير، والضرورات تبيح المحظورات.
وفي مجال العبادات اعتبر الشرع أعذارًا عديدة تعفي المكلف، وإن لم تكن المشقة متحققة؛ نظرًا إلى أن العذر يؤدي إليها غالبًا، أو أن العذر مظنة للمشقة.
ومن تلك الأعذار، السفر في قصر الصلاة وإباحة الفطر، وكذلك الحيض في إعفاء المرأة من الصلاة أيامًا، يرجح فيها مشقة القيام بالتكليف بالصلاة أثناء حيضها، الذي هو من فطرتها التي فطرها الله عليها.
لقد بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } . (الأنبياء الآية 107).
وقال تعالى:
{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } . (التوبة الآية 129).
وقال صلى الله عليه وسلم:
« إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا » . (رواه مسلم).
فمنهاج الإسلام مبني على اليسر، ورفع الحرج، قال الله تعالى:

{ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } .
(البقرة الآية 184).
وقال سبحانه:
{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } . (الحج الآية 76).
وكان صلى الله عليه وسلم يترك بعض الأفعال خشية المشقة على أمته، وكان إذا خُيِّر بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا.
ولما بَعث صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل، وأبا موسى الأشعري إلى اليمن قال لهما: « يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا » . (متفق عليه).
ومن أقواله المشهورة- صلى الله عليه وسلم-: « إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا.. » الحديث ". (رواه البخاري ).
وللإنسان أن يأخذ بالأشد من المشروع، كأن يصلي صلاة طويلة، ولكن ليس له أن يُلزم الناس بذلك، فقد كان صلى الله عليه وسلم أطول الناس صلاة إذا صلى لنفسه، ولكنه كان يخفف صلاته إذا صلى بالناس، مراعاة لأحوالهم.
ولما سمع صلى الله عليه وسلم بعزم نفر من أصحابه على الانقطاع للعبادة، قال: « إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني » . (متفق عليه).

إن منهاج الإسلام هذا وسط بين اليهود الذين فرطوا في جنب الله، وحرصوا على الدنيا وملذاتها، كما قال الله تعالى عنهم: { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } . (البقرة الآية 96).
والنصارى الذين غلوا وابتدعوا رهبانية لم يشرعها الله، كما قال الله عنهم: { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } . (الحديد الآية 27).
لقد ذمهم الله لابتداعهم في دينه ما لم يأذن به، وفي عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة تقربهم إلى الله.
إن تشريع الله في العبادة، تشريع متوسط معتدل، بين الإفراط والتفريط، والغلو والتقصير: { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } . (الإسراء الآية 110).
وعن جابر بن سمرة - رصي الله عنهما- قال: « كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات، فكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا » . (رواه مسلم ).
أي: كانت معتدلة، وسطًا بين الطول والقصر.

ولا نستطيع في هذا المجال، أن نفصِّل وسطية التشريع الإسلامي، وعدله، وأفضليته في الأحكام الشرعية كلها، في العبادات، وفي المعاملات، وفي قواعده العامة، وأصوله الكلية، فهذا يحتاج إلى دراسة مقارنة دقيقة، بين منهاج التشريع الإسلامي، وبين ما هو موجود في قصور المناهج الوضعية كلها، قديمًا وحديثًا.
إن وسطية التشريع الإسلامي، تعني أنه الأكمل والأقوم والأعدل لحياة الإنسان بالمعنى القرآني للوسطية.
فتشريع العبادات في هيآتها ومقاديرها وتكاليفها ومراتب وجوبها على المكلف، تتفق مع الأعدل والأقوم، وفطرة الإنسان، في الجمع بين الدنيا والآخرة.
وفي أحكام المعاملات كما أشرنا، لا سيما في النظر إلى المال وملكيته، وحق الفرد وحق الجماعة فيه، تحصيلًا وكسبًا وإنفاقًا، نجد الوسطية ظاهرة.
وذلك لكي يدوم هذا التشريع الإلهي، صالحًا للناس في كل زمان ومكان، مما يجنب الأمة الإسلامية مخاطر التطرف والغلو والشطط، وغير ذلك مما نراه في كثير من شرائع البشر التي تختلف وتتعارض بحسب الزمان والمكان، والظروف والأهواء.

الوسطية في الدعوة
من فضل الله على الأمة الإسلامية، أن الرسالة الخاتمة جاءت شاملة لكل ما يحتاجه المسلمون في حياتهم الدينية والدنيوية، موجهة لكل الثقلين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ذلك أن الهدف هو هداية الله للإنسان، دون قصر الدعوة على جنس بذاته، أو مكان معين؛ إذ إن دعوة الرسول- صلى الله عليه وسلم- موجهة إلى الناس كافة، قال الله تعالى: { قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } .
(الأعراف الآية 158)
وقال تعالى:
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } . (الأنبياء الآية 107).
وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } . (سبأ الآية 28).
وعلى ذلك إجماع المسلمين في كل العصور.
وقد وَضُحَ في القرآن الكريم، والسنة النبوية، كيف يؤدي المسلمون واجبهم في الدعوة إلى الله، وهو جانب من المنهاج الإسلامي الكامل.
وإن واجب المسلم لا يقتصر على نفسه فحسب، دون أن تكون له صلة بالمجتمع من حوله، ودون محاولة لهداية غيره إلى الله، متى كان قادرًا على ذلك.

بل تمتد رسالة المسلم إلى إصلاح غيره، مع إصلاح نفسه، وإلى رعاية حق الآخرين في معرفة طريق الهداية والفلاح.
ويُقصد بوسطية الدعوة، أن منهاج الدعوة إلى الله، هو أوسط المناهج وأعدلها وأقومها، وهو الجدير وحده بالاتباع في كل زمان ومكان، وأن هذا المنهاج جانب من التشريع الإلهي، يجب أن يلتزم به المسلم إزاء الآخرين، سواء أكانوا مسلمين يحتاجون إلى تنمية المعارف، أو تزكية النفوس، حتى يكون اتباعهم للشريعة صحيحًا، أم كانوا غير مسلمين تطلب لهم الهداية.
ويمكن أن نحدد بعض الملامح المهمة في منهاج الدعوة، التي وردت في القرآن الكريم أو في السنة النبوية.
وهي أمور ينبغي للدعاة جميعًا التقيد بها، لا سيما الشباب من الدعاة إلى الله؛ إذ يتميز هؤلاء بفرط حماسهم إلى جانب إخلاصهم، وقد يرغبون في استعجال الثمرة والشعور بالنجاح في أداء رسالتهم، مما يدفع بعضهم إلى مجاوزة المنهاج الوسط، وهو الأقوم والأعدل في الدعوة إلى الله.
من أبرز الملامح في منهاج الدعوة، أن هداية الناس بيد الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، قال تعالى:

{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } . (القصص الآية 56).
وأن مهمة الدعاة التبليغُ والبيان، قال الله تعالى:
{ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } . (التغابن الآية 12).
وقال تعالى:
{ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ } . (الشورى الآية 48).
فإذا بذلوا جهدهم في ذلك، فقد قاموا بالواجب، وأدوا الأمانة:
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } . (الشعراء الآية 3).
والإنسان يؤمن ويهتدي باختياره، ويكفر ويعصي باختياره كذلك، وسيجازى على عمله، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، قال الله تعالى:
{ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } .
(البقرة الآية 255).
وقال سبحانه في حق الرسول صلوات الله عليه وسلامه:
{ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } . (يونس الآية 99) .

ومن سنن الله القائمة، اختلاف الناس بين الإيمان والكفر: { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } . (السجدة الآية 13).
{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ }{ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } . (هود الآية 118).
وهذا من أهم ما يجب أن يعرفه الداعي إلى الله، فهو يدعو ويبذل جهده، ويبسط علمه أمام المدعوين، والله سبحانه يهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم.
ومن أهم ملامح منهاج الدعوة إلى الله، وضوح طريقه ووسائله في القرآن الكريم، والسنة النبوية.
وأن الدعوة تكون عبر وسائل ثلاث: الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، كما قال الله تعالى:
{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } . (النحل الآية 125).
وهذه الوسائل الثلاث، تشمل كل أصناف المدعوين:
فالحكمة: وهي ما أنزل الله على رسوله من الكتاب والسنة، تجذب أصحاب العقول والفطر السوية.

والموعظة الحسنة: أي ما في الكتاب والسنة من الزواجر والوقائع بالناس، يذكرهم بها ليحذروا بأس الله تعالى.
والداعية بهذه الوسيلة يستميل أولئك الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والذين تلين قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق.
أما من يحتاج فهمه إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب، كما قال الله تعالى:
{ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } . (العنكبوت الآية 46).
لقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، ومِن بعده الدعاة على طريقته، بالجدال بالوجه الحسن، وبلين الجانب، كما أمر به موسى وهارون - عليهما السلام- حين بعثهما إلى فرعون في قوله تعالى:
{ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } . (طه الآية 44).
وهذه الأساليب الثلاثة، أهم أساليب الدعوة التي لا يخرج عن نطاقها والتأثر بها من المدعوين إلا من قال الله تعالى فيهم:
{ وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } .
(الأعراف الآية 146).

ومنهاج الإسلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو باب من أبواب الدعوة إلى الله، منهاج الوسط والاعتدال.
فمن أوصاف الأمة الإسلامية التي استحقت بها الخيرية على الأمم، كونها تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، قال الله تعالى:
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } . (آل عمران الآية 110).
وقد استحق بنو إسرائيل اللعن بتركهم لهذه الشعيرة، قال الله تعالى:
{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }{ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } . (المائدة الآيتان 78، 79).
وعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، أن يبدأ بنفسه، فيكون قدوة للآخرين، فقد عاب الله من يقول ولا يفعل:
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ }{ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } . (الصف الآيتان 2، 3).
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يختلف من حال إلى حال.

ومنهاج الإسلام فيه، منهاج الوسط والاعتدال، وتقدير الأحوال والظروف والنتائج، ومراعاة الاستطاعة والقدرة.
لقد قامت الدعوة إلى الله على منهاج الوسطية، وكانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم مثلا أعلى في تطبيق هذا المنهاج، الذي سار على هديه الخلفاء الراشدون، والتابعون لهم بإحسان.
وفي هذه الفترة القليلة من الزمن في حياة الأمم، دخل الناس في دين الله أفواجًا، وتكوَّن المجتمع المسلم الواحد في عقيدته وشريعته وسلوكه الاجتماعي، على الرغم من امتداد، الإسلام إلى أقاليم خارج شبه الجزيرة العربية، مثل: مصر والعراق والشام .
وكانت الدعوة إلى الله وفق منهاج الوسطية القرآنية، هي السبيل الأول لانتشار الإسلام ودعوته.

المنهاج النبوي في الدعوة إلى الله
إن المنهاج النبوي في الدعوة إلى الله، وهو المنهاج الوسط، يستدعي أن يتوفر في الدعاة إلى الله أمران مهمان:
الأمر الأول: الإخلاص لله، بحيث تكون نية الداعي في دعوته متجردة عن الهوى وحب الشهرة أو مغالبة الآخرين، أو تكثير الأتباع والأنصار، أو الحصول على مكاسب دنيوية.
أي: تكون خالصة لله وحده، باعتبار الدعوة عبادة لله سبحانه، وتبليغًا عن رسوله صلى الله عليه وسلم مراده سبحانه من رسالة الإسلام.
الأمر الثاني: متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله علمًا وعملًا، فهمًا وتطبيقًا. وهذان الأمران هما المرادان من قوله الله تعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } . (الكهف الآية 110).
قال ابن كثير : (وهذان ركنا العمل المتقبل، لا بد أن يكون خالصًا لله، صوابًا على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم).

ومتابعة الداعي لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، تتطلب منه التفقه في دين الله، ومعرفة ما دل عليه الكتاب والسنة فيما يدعو إليه، وما سار عليه السلف الصالح، باعتبارهم جماعة الحق والفرقة الناجية، التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: « افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا ملة واحدة، قالوا، من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي » . (رواه الترمذي ).
لقد ضلت كثير من الفرق والطوائف في التاريخ الإسلامي قديمًا وحديثًا بسبب عدم التفقه في الدين، وعدم متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم معرفة ما كان عليه السلف الصالح.

وبذلك لم تتبع هذه الفرق سبيل المؤمنين، بل شاقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجت عن الفرقة الناجية التي تمثل أمة الإسلام، الأمة الوسط، فاستحقت وعيد الله في قوله سبحانه { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } . (النساء الآية 115).
إن علامة الفرقة الناجية، هي متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولزوم طريق المسلمين، من صحابته رضوان الله عليهم، ومن تبعهم وتابعهم بإحسان إلى يوم الدين.

ومن مقتضى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، متابعته وطاعته فيما أمر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، والاستمساك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، كما قال عليه الصلاة والسلام في موعظته البليغة لأصحابه، التي أوصاهم فيها بالسمع والطاعة، وأخبرهم بأنه من يعش منهم فسيرى اختلاقًا كثيرًا ، وأن العاصم من الفتن والمرجع عند الاختلاف، هو العمل بسنته وسنة خلفائه الراشدين: « أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن ولي عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ » . (رواه الإمام أحمد ).
وقال الله تعالى في هذا المعنى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } . النساء الآية 59)

وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } . (آل عمران الآية 31). وهكذا: إذا أراد أي مسلم النجاة، وعلى وجه الخصوص العالم والداعية، فلا بد أن يتوافر في عمله أمران:إخلاص العمل لله وحده، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام، وسلف الأمة الصالح. وبهذا يكون من الفرقة الناجية المعتصمة بالكتاب والسنة.

الانحراف عن منهاج الواسطية
في آخر عهد الخليفة عثمان - رضي الله عنه- ظهرت الفتنة بالانحراف عن هذا المنهاج الوَسَطيِّ في الدعوة، وأطلت الفتنة برأسها، وانتهت بمقتل الخليفة عثمان - رضي الله- عنه ظلمًا وعدوانًا.
وكانت هذه بداية الفتنة الكبرى في تاريخ الإسلام، وذلك حينما انحرفت دعوة الإصلاح أو الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن الوجه الشرعي الصحيح، وظهر الخوارج عن منهاج الوسطية في الدعوة إلى الله، فكان ظهورهم انحرافًا عن منهاج الإسلام في الدعوة إلى الإصلاح، وذكَّرهم الخليفة الراشد علي - رضي الله عنه- بهذا المنهاج الأقوم والأرشد، ولكنهم تنكبوا الطريق، وعَدَوا على ولي الأمر وخليفة المسلمين بعد أن بايعه الناس ورضوه إمامًا لهم، وكان مسلكهم فيما يتظاهرون به من الدعوة إلى الله، على ما تحكي كتب التاريخ الإسلامي، واضح البطلان والزيف.
كانوا يتمسكون لفظًا بشعارات الإسلام، ويرتكبون عمدًا ما تنكره فرائض الإسلام وشريعته، فلم يصلوا إلى أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر، وتفرقت جموعهم إلى فرق شتى، بعضها خرج من الإسلام كما يخرج السهم من الرمية.

تحكي كتب التاريخ أن جماعة من الخوارج التقوا عبد الله بن خباب بن الأرت - رضي الله عنه- وامرأته حامل متم، فجادلوه وقتلوه وامرأته، وشقوا بطنها عدوانا وظلمًا، ووضع أحدهم تمرة في فمه، فذكَّره زميل له بأنها لا تحل له؟ لأنها من نخل رجل كتابي، فأسرع الخارجي بلفظ التمرة من فمه، كأنه يرى ذلك ذنبًا عظيمًا أكبر في الإثم من قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق.
وكفى بذلك وما ذكره المؤرخون من تعسفهم في الفهم، وتأويلهم الباطل، وانحرافهم في القصد، دليلا على مجانبتهم وزيغهم عن الحق، والمنهاج الأوسط والأقوم.
لقد ظل اسم الخوارج منذ انحرافهم الأول يطلق على كل فئة ضالة، تخرج عن منهاج القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في إصلاح القلوب، وتزكية النفوس، وتشق عصا الطاعة، وتخرج على ولي أمر المسلمين، وتفارق الجماعة.
وقد ابتلي العالم الإسلامي في مناطق مختلفة منه بالابتعاد عن منهاج الوسطية في الدعوة، فأضر ذلك كثيرًا بانتشار الإسلام، والتزام المسلمين بأحكامه.
فهناك من فرطوا في الدين، وسعوا إلى تبديل حكم الله، واتباع ا لأهواء، والابتعاد عن جماعة المسلمين.

وهناك من الدعاة من ظنوا أن ذلك لا يصلحه إلا التشدد والغلو، واتهام الأولين بالكفر والمروق من الدين، وإباحة دمائهم وأموالهم دون دليل شرعي سليم.
وبدأت تنتشر في العصر الحديث، دعوات وفرق وجماعات من المسلمين، تجانب الوسطية في دعوتها إلى إصلاح القلوب وتزكية النفوس، وهي تجاهر بعدائهما لأمتها، وأولياء الأمر فيها، وسائر الناس، وتخلع الطاعة التي يقوم عليها نظام المجتمع وسلامته، وأمن أفراده، وحرمة أموالهم وأنفسهم.
ومن الغريب أنهم يذهبون في ذلك مذاهب أهل الضلال والغلو من أتباع الأديان الأخرى مما عرف بالأصولية، يستهدفون التشدد والبعد عن إعمال العقل، ويهتمون بمقاصد سياسية ظاهرة، بقصد السيطرة على المجتمع.
ومع الأسف سرعان ما نسب هذا الغلو والتطرف إلى الإسلام، وكأنه منه، فأصبحت كلمة الأصولية- وهي كلمة أوروبية المنشأ والأصل- وصفا للجماعات الإسلامية التي يعيبها التشدد والغلو، وتكفير الناس، واستباحة الدماء والأموال، والمسارعة إلى الخروج عن الطاعة.
وهذا كله مما يرفضه الإسلام ويدينه، ويرفضه أهل العلم فيه، جرى على ذلك فقه السلف والخلف، منذ ظهر الخوارج في العالم الإسلامي.

وهكذا ساعدت بعض جماعات المسلمين بمسلكها المجانب للوسطية والمخالف لشرع الله، في إلصاق مذاهب أهل الضلال بالإسلام واستيرادها إلى بلاده؛ لتقطع عليها طريق أمنها واستقرارها.

فتنة التكفير
:
ومن أخطر صور الانحراف عن منهاج الوسطية، والبعد عن طريق رسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، ومن تبعهم بإحسان، القول بتكفير أصحاب الكبائر وخروجهم من الإسلام، تلك الفتنة القديمة الجديدة: قديمة؛ إذ قالت بها فئة ضالة خرجت على جماعة المسلمين في عهد الخلفاء الراشدين، فسماها المسلمون ( الخوارج )، وترتب على ضلالها في التكفير، والقول على الله وعلى رسوله بغير علم، فتن وخلافات بين المسلمين، سُفكت فيها الدماء، وانتهكت فيها الحرمات، وقاسى المسلمون من آثارها المدمرة منذ بدأت إلى الآن، آلامًا عظيمة، ومحنًا كبيرة.
وجديدة؛ لأن بعض الجماعات الإسلامية في الوقت الحاضر تقول بتكفير الحكام المسلمين والمجتمعات ا لإسلامية، وتدعو للخروج عليهم.
وهذه الجماعات بهذا المسلك تلتقي مع الخوارج في تكفير أصحاب الكبائر، والدعوة إلى الخروج على ولاة الأمر، وإثارة الفتن في صفوف المسلمين.
ومن أسباب ضلال أصحاب هذه الأقوال، فهمُهم الخاطئ لقول الله تبارك وتعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } (المائدة الآية 44) .

فقد فسَّروا الكفر هنا بالخروج من الدين، وأنه لا فرق بين من وقع فيه، وبين أصحاب الملل الأخرى الخارجة عن ملة الإسلام، ولم يرجعوا إلى فهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقوال الأئمة المعتبرين في هذا المجال، ولا إلى معنى لفظ الكفر في اللغة العربية.
وهذا مما يؤكد على ضرورة أن يكون الدعاة على علم بكتاب الله الكريم، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأقوال السلف الصالح في ذلك، ومدلولات اللغة العربية في نصوص الكتاب والسنة.
إن لفظ الكفر في هذه الآية ، لا يدل على معنى واحد فقط، وهو الخروج عن الدين، شأنه شأن الظلم والفسق في الآيتين الكريمتين، وهما قول الله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } .
(المائدة الآية 45).
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } .
(المائدة الآية 47).
فالوصف بالظلم، أو الفسق لا يعني خروج المتصف به عن الإسلام، فكذلك وَصْفُ من وصف بالكفر لا يعني خروجه عن الدين.
وقد بيَّن علماء السلف- رحمهم الله- هذا الموضوع أحسن بيان، إذ قسَّموا الكفر إلى كفر عملي، وكفر اعتقادي.

وقد يراد بهذه الآية الكريمة الكفر العملي، الذي لا يُخرج من الدين بالكلية، ولكنه يدل على المخالفة في هذه الأعمال.
وقد قال ترجمان الأمة الصحابي الجليل عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما- في هذه الآية : (ليس الكفر الذي تذهبون إليه، إنه ليس كفرًا ينقل عن الملة، هو كفر دون كفر).
وهذا التفسير هو الذي ينسجم مع النصوص الأخرى، التي وردت فيها كلمة الكفر، وهي لا تعني الخروج من الدين، كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر » .(متفق عليه). فالكفر هنا هو المعصية، والخروج عن الطاعة، وليس الخروج من الملة.
يؤكد ذلك وصف الله تعالى الطائفتين المتقاتلتين بالإيمان في قوله سبحانه: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } . (الحجرات الآية 9).
فوصف الله سبحانه وتعالى الطائفة الباغية بكونها من المؤمنين، وإن كانت تقاتل الطائفة التي على الحق.

ومثل ذلك ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم: « اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في النسب، والنياحة على الميت » . (رواه مسلم).
وقوله صلى الله عليه وسلم: « لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض » . (متفق عليه).
فجماعات التكفير التي تطلق الكفر على الحكام، أو على المجتمعات، دونما تفصيل ومعرفة للأحوال والواقع، تتابع ما قالته وفعلته الخوارج منذ القدم، في مرتكبي الكبائر وتكفيرهم بذلك.
وقد استغل هذه الأقوال الخاطئة أصحاب الأهواء والمصالح، من أجل تنفير المسلمين من حكامهم، ودعوتهم للخروج عليهم.
إن على الدعاة أن يكونوا على بصيرة فيما يدعون إليه، وما يتعرضون له، من تفسير لآيات كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن قضية التكفير خطيرة لا يجوز بحال التساهل فيها، أو القول فيها بغير علم وبصيرة.
فالكفر والفسق والظلم، منه ما يخرج من الملة، ومنه ما يكون كفرًا عمليًّا ومعصيةً لله ورسوله.
فإذا ثبت للإنسان أن أحدًا استحل ما حرم الله، واعتقد في نفسه ذلك، حكم عليه بالكفر المخرج من الملة.

وإذا لم يثبت ذلك، فإن إطلاق الكفر المخرج من الملة عليه بمجرد ارتكاب الكبيرة، أو فعل المعاصي، خلاف منهاج أهل السنة والجماعة، وصاحبه متوعد بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال، وإلا رجعت عليه » . (متفق عليه).
وقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد - رضي الله عنه- قتله مشركًا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، معتقدًا أنه قالها خوفًا من القتل، حيث قال له صلى الله عليه وسلم: « أفلا شققت عن قلبه » . (رواه مسلم).
فالإنسان لا يعرف ما في قلوب عباد الله الذين يرتكبون المعاصي والكبائر التي هي دون الشرك والكفر، ما لم يفصحوا عما في قلوبهم من استحلال ما حرم الله.
إن المتأمل لما عليه أهل الضلال من المسلمين فرقًا وأشخاصًا- وإن أظهروا حماسًا للإسلام، واهتمامًا بأمور المسلمين - يدرك أن سبب ضلالهم، هو تنكبهم عن الطريق الصحيح، وفهمهم السقيم للإسلام، والعمل به، وبعدهم عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.

وهم حينما يثيرون عواطف كثير من الناس يؤلبونهم على حكامهم، وولاة أمرهم، دونما تفريق بين حاكم وحاكم ومجتمع وآخر، ودونما استناد صريح وواضح إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يخالفون طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته، فقد مكث صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر عامًا يدعو الناس إلى توحيد الله، والدخول في دينه، وإفراده بالعبادة، ويعلِّم أحكام الدين، بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، والصبر على ذلك.
وهذا هو الطريق الصحيح للدعوة إلى الله سبحانه.

إننا نجد كثيرًا ممن يكفِّرون الحكام، ويدعون إلى الخروج عليهم، وتأليب الناس عليهم، يقعون في أخطاء شنيعة في حياتهم الخاصة، وتعاملهم مع الناس، وفهمهم لأحكام دينهم، بل قد يتساهلون في أمور لها مساس بالعقيدة، وإفراد الله سبحانه بالعبادة، فيدعون مع الله غيره، ويبنون القباب والمساجد على القبور، ويفعلون ما يُنكر، من تمسح بها، وطواف حولها، وتقديم النذور والقربات لها، مما قد يصل إلى الإشراك بالله، عياذًا بالله من ذلك. وخلاصة القول فيما يتعلق بفتنة التكفير التي وقعت فيها بعض الجماعات والطوائف في الوقت الحاضر، امتدادًا لما كان عليه الخوارج منذ القدم: أنه ينبغي أن يحذر كل أحد من الدعاة الوقوع فيها، وأن يحرص كل داعية على معرفة طريقة السلف الصالح، والضوابط التي يجب أن تراعى عند إطلاق كلمة الكفر على أحد من الناس.
ومن أهمها: عدم تكفير المسلم بمجرد ارتكاب الكبائر والمعاصي، فلا يحكم بردته حتى يظهر منه ما يناقض الشهادتين، وأنه تجب إقامة الحجة على المسلم إذا ظهر منه ما يوجب الحكم بردته، وأن علامة إسلام المرء الكافر، نطقه بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقراره بمقتضاهما.

وأن يفرَّق بين النوع والشخص، فيقال: من قال كذا فهو كافر، يُحكم على النوع والعمل، دون الشخص.
أما الشخص المعيَّن، فيجب التثبت والاحتياط في وصفه بذلك.
ومما ينبغي الانتباه إليه في هذا المقام، أن أحكام الناس تجرى على ما يظهر منهم، أما سرائرهم فالله يتولاها.
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-: (إن ناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع ، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا أمَّنَّاه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة).
وليس معنى هذا أنه يُحكم بكفره، ما لم يرتكب مكفرًا عليه من الله برهان.
وهكذا كان طريق السلف الصالح، يحكمون على الظاهر، والله يتولى السرائر.
يحتاطون في أمر التكفير أشد الاحتياط، يجمعون النصوص بعضها إلى البعض، ويفسرون مدلولاتها، دونما تطرف أو غلو أو شطط.

إنهم يحكمون بالكفر والردة على من جحد توحيد الله سبحانه وتعالى، في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته، أو استحل ما أجمع المسلمون على تحريمه، أو جحد فريضة ثبتت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك مما هو مقرر في مباحثه.

وجوب التزام الدعاة منهاج الوسطية في الدعوة
إن منهاج الوسطية، هو أعدل المناهج في نشر دعوة الإسلام، والحفاظ على تماسك المجتمع المسلم، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.
وفي السنة النبوية، بيان للكثير من أحكام الدعوة، فقد بينت لنا آداب الدعوة، وأخلاق الدعاة والمصلحين.
فالداعية لا ينال الأجر إلا من الله عز وجل، ولا يطلبه من غيره، وهو يقصد نفع المدعوين بتعريفهم بالدين، وتنمية معارفهم، وإرشادهم لنفع أنفسهم في دينهم ودنياهم، ولا يسعى الداعي إلى الله إلى نفع نفسه خاصة، أو أن يجمع الناس حوله، أو حول شخص آخر غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يتقوى بأحد، وإنما يجمع الناس على الهدى، لمصلحتهم هم ونفعهم هم، وأجره على الله وحده سبحانه، كما قالت الأنبياء والرسل لقومهم.
وفي العصر الذي نعيش فيه، تبدو حاجة المجتمع ماسة إلى جهد الدعاة في الدعوة إلى الله، حفاظًا على الدين، وعلى أحكام الشريعة والأخلاق الإسلامية التي يتعامل الناس بها في المجتمع.

ومع هذه الحاجة كثرت وسائل الإعلام بالدعوة، وزادت منابرها، وعلا صوتها، وبرزت مشكلات تحتاج للمزيد من العناية والمراجعة، من العلماء والدعاة.
ومن أهم المشكلات التي تواجه الدعاة في هذا العصر، مشكلة الغلو في الدين والتطرف والانحراف عن منهاج الوسطية الذي تحدثنا عنه سابقًا.
إن بعضًا من الشباب، لا سيما من تقل معرفتهم بالأحكام الشرعية، تدفعهم حماستهم ورغبتهم في خدمة الإسلام، إلى الانضمام إلى أية جماعة تعلن على الناس أنها تقوم بواجب الدعوة إلى الله، وتتعاون في سبيل ذلك مع من ينضم إليها.
يُقبل هؤلاء الشباب أحيانًا على هذه الجماعات، دون أن يتبينوا حقيقة أهدافها، ودون أن يكون لديهم معرفة كاملة بصلاح من يوجهون أمورها وعدالتهم، كذلك دون أن يتحققوا من أسلوبها في تبليغ كلمة، الله إلى الناس.
وقد دلت المشاهدة والتجارب في العديد من البلاد الإسلامية على وجود أهداف خفية وراء ممارسة بعض المناشط الدعوية.
قد تكون هذه الأهداف سياسية أو مذهبية منحرفة، وقد يكون فيها خروج على المسلك الصحيح الذي يجب أن يسلكه المسلم تجاه مجتمعه الذي يعيش فيه، وأولي الأمر الذين ينهضون بمصالحه، وغير ذلك.

فالشباب، مطالب بأن يتحرى الأمور قبل أن يبذل من إخلاصه وجهده وماله في مكان، أو تجمع، أو جماعة لم يتحقق من عدالة من يتولون أمورها، ويتبين اتفاق أسلوبها الدعوي مع منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن العلم طريقها، والعلماء الصادقين هم القائمون بها على بصيرة: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } . (يوسف الآية 108).
ومن أخطاء بعض الدعاة، تنكب المنهاج الأوسط في الدعوة، فيعدل عن الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، إلى إيذاء بحض المدعوين بالقول أو الفعل، ظنًّا منه أن ذلك أسرع وأنجح في البلاغ، وأدعى للاتباع، وينسى هؤلاء أن الدعوة في الأعم الأغلب، لا توجه إلا للمخطئ والعاصي والجاهل، وأن هؤلاء أحوج ما يكونون إلى الكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، والبيان الشافي من الداعي.
وهكذا كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وطريقة صحابته الكرام- رضوان الله عليهم- ومن تبعهم بإحسان، والمصلحين من الدعاة.
لا شيء أضرَّ بالشباب من أن يحاول أحد أن يستخدمهم، بدل أن يخدمهم بتقديم ما ينفعهم، من علم وقدوة وتبصير بالأمور.

فقد يُستعمل حماس الشباب، وإخلاصه، وقدراته في الإساءة إلى الدعاة الذين يقومون بواجبهم العلمي والدعوي بأمانة وإخلاص، ووفق منهاج النبوة.
وقد يتصدى بعض الشباب بدافع من الحماس أو الغلو، لعلماء أفنوا عمرهم في تحصيل العلم الشرعي من مظانه الأصلية.
وهذا من العيوب التي شابت مسلك بعض الشباب في مجتمعات إسلامية عديدة، وفيه ما فيه من إساءة الظن بالعلماء، وترك التقدير والاحترام لهم.
هذا بعض مما يقع فيه بعض الشباب في بلاد إسلامية عديدة، مما يسيء إلى الدعوة والدعاة أمام غير المسلمين ، بل وفي نظر كثير من المسلمين.
والسبب في ذلك ترك المنهاج الوسط الذي تضمَّن الأقوم والأعدل في كل عمل.
إن على العلماء والدعاة إلى الله، أن يخاطبوا الناس بمنهاج الوسطية في كافة أمور الدين علمًا أو إفتاء أو دعوة؟ لأن الدين في أصله يرفض الغلو، والتطرف في كل جوانبه.
إن منهج الإسلام وسط بين من يحبون الدنيا ويذرون الآخرة، وبين من يعتزلون الدنيا كلها: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } . (القصص الآية 77).

وهو وسط بين الإفراط في حكم الشرع، أو التفريط فيه، يقول صلى الله عليه وسلم: « لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قومًا شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم » (رواه أبو داود).

الدولة السعودية والدعوة
إن التاريخ الإنساني بعد ظهور الإسلام لم يعرف في بلاد المسلمين (عصور الظلام) كما عرفها الأوروبيون في القرون الوسطى من القرن التاسع إلى القرن الرابع عشر الميلادي، وهي التي يعرفها الأوروبيون بأنها عصور التخلف الديني والحضاري.
إن التقسيم السائد في التاريخ غير الإسلامي، يجعل من القرون الستة السابقة مرحلةً تاريخيةً وسطًا بين التاريخ القديم والنهضة الحديثة في العالم غير الإسلامي، فلم يبدأ التجديد إلا بعد انقضاء هذه القرون، بما فيها من جهالة دينية وتخلف حضاري، وحروب، ومعارك، واستعباد للناس.
لكن هذه القرون في التاريخ الإسلامي، ابتداء من القرن الأول للهجرة النبوية الشريفة، إلى القرن السابع الهجري، كانت أزهى عصور التاريخ الإسلامي، وكانت دولة الإسلام في الجملة تتمتع بالقوة والنفوذ العالمي، لأن النظام الإسلامي في هذه الفترة، خَلَف النظام الروماني القديم، الذي انهار أمام الحضارة الإسلامية.
وكانت الدولة الإسلامية تتميز بمستوى حضاري عال، من أهم مكوناته انتشارُ العلوم الدينية والطبيعية، والنمو الثقافي، وازدهار التجارة، وقيام علاقات سياسية مهمة بين الدول الإسلامية وبلاد العالم .

ولا ينكر كثير من الغربيين أن الصلات بين الدول الإسلامية وبين كثير من دول الغرب، حتى مع قيام المنازعات والحروب في أوقات معينة، كان لها أثرها الكبير في البدايات الأولى للنهضة الأوروبية الحديثة.
لكن الدولة الإسلامية ضعفت بانهيار الدولة العباسية سنة 656 هـ على يد التتار، وما خلفوه من دمار، وساد التفرق والانقسام أجزاء كبيرة من الدولة الإسلامية الواسعة، وأصبحت الخلافة الإسلامية شكلا ورسمًا فحسب، دون أن يكون لها أثر حقيقي في وحدة الأمة، أو نشر الدعوة إلى الله.
وابتداء من القرن التاسع الهجري ، بدأ العالم الإسلامي في المشرق ثم في المغرب العربي يقع تحت سلطان العثمانيين، وظل كذلك حتى آل الأمر إلى الضعف أيضًا، بسبب الاستبداد من السلاطين، والانصراف عن اتخاذ أسباب القوة وحماية الأمة الإسلامية، وانتهى أمر الدولة العثمانية سنة 1342 هـ.
وفي فترة ضعف العثمانيين، وتخلف المسلمين حضاريًّا، وانصرافهم عن كثير من أحكام الشرع، وقعت معظم بلاد العالم الإسلامي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين في قبضة الاستعمار الغربي.

وكان من أثره وتأثيره خلال عشرات السنين في المشرق والمغرب العربي، أن زاد انفصال المجتمعات الإسلامية عن أصولها العقدية والتشريعية والاجتماعية، بسبب هجمة التغريب الثقافي والاجتماعي، التي كانت شديدة الوطأة في بعض البلاد.
لقد حمى الله المملكة العربية السعودية من الوقوع في قبضة الاستعمار الغربي، أو التأثر بحركة التغريب الثقافي والاجتماعي، الذي ساد المنطقة العربية.
وكان ذلك راجعًا في المقام الأول إلى فضل الله سبحانه وتعالى على بلاد الحرمين الشريفين، ثم إلى جهود الدولة السعودية وقادتها الأشاوس، بدءًا من الإمام المجاهد محمد بن سعود - رحمه الله- الذي ناصر دعوة الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله-.
تلك الدعوة التي ترمي إلى إنقاذ المسلمين من الضلال، وتخليص عقائدهم من الشوائب، وسلوكهم من الانحراف، حتى يعبدوا الله حق العبادة، مخلصين له الدين، ويسلموا قيادهم له، ويرجعوا إلى كتابه الكريم، وسنة نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه سلفهم الصالح.
فأحيت تلك الدولة والدعوة معًا الإيمان الحق في نفوس المسلمين، وردتهم إلى دين الله وتطبيق شريعته.

ولقد تُوجت تلك الجهود بما قام به الإمام المجاهد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله- في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري، من توحيد للمملكة العربية السعودية، رسخ قواعدها على عقيدة الإسلام وشريعته، وحقق لها الأمن على دينها وعروبتها وتراثها وثقافتها، وبدأت المملكة تقدمها ونهضتها؛ لكي تحتل مكانتها في العالم الإسلامي، وعلى المستوى الدولي أيضًا.
وعلى هذا الأساس المتين من توحيد المملكة على يد الملك عبد العزيز - رحمه الله- ومن ترسيخ قواعدها بحفظ الدين، ونشر الأمن في ربوعها، وإقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجتمعها، انفتح أمام أبناء المملكة الإسهام في خدمة الدين والوطن على مصراعيه بالدعوة إلى الله والعمل الصالح.

ويسَّر قادة المملكة كل العقبات في طريق الدعوة إلى الله، في عهد الملك عبد العزيز - رحمه الله-، ومن خَلَفه من أبنائه الكرام، حتى العهد الحاضر، عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، وسمو ولي عهده الأمين، حفظهما الله ورعاهما، ونصر بهما دينه، وأعلى بهما كلمته، حيث أقيمت المؤسسات التعليمية والدعوية والتثقيفية لخدمة أبناء المملكة، وإعدادهم إعدادًا يمكِّنهم من خدمة دينهم ودولتهم ووطنهم، والإسهام في ذلك بما يجعل أداء هذه الدولة المباركة لرسالتها الإسلامية في الداخل والخارج، أداء قويًّا مستمرًّا ، وفق الأسس التي قامت عليها.

وهذا يؤكد علينا، وفي مختلف المناسبات، أن نبين ما ينبغي أن يكون عليه شبابنا، من صدق في الانتماء للدين والوطن، وطاعة لولاة الأمر، وقوة فيما هم عليه من الحق، وسلامة فيما يتخذونه من وسائل في التثقيف والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مستمدين ذلك كله من كتاب الله الكريم، وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وما سار عليه سلفنا الصالح، وما أحياه وجدده علماء الدعوة وأئمتها في هذه البلاد، بدءًا من الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله- وتلامذته، ومن تبعهم على ذات المنهاج والطريق.
إن من فضل الله على هذه المملكة، أن أمور الدعوة فيها من أول اهتمامات أولي الأمر، ومن أعظم واجباتهم، وقد قامت على أسس مستمدة من الكتاب والسنة، ووضع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الصورة التي تحقق الهدف منه.

والباب مفتوح أمام أبنائها للإسهام في خدمة دينهم ووطنهم بالعلم والعمل في جميع المجالات، دون غلو أو تطرف، أو خروج على منهاج الوسطية الأقوم والأعدل، الذي جعله الله حقيقة هذه الأمة، التي تمثل المملكة العربية السعودية به اليوم، الواقع الحي لها، حيث تطبق الشريعة، وتلتزم الفضيلة، وتدعو إلى الخير والبر والإحسان، دونما شطط ولا غلو ولا تطرف، ولا انتماءات حزبية أو سياسية.
بل كيان الدولة والمجتمع، كيان قائم للإسلام، وعلى الإسلام، ومن أجل رسالة الإسلام.
والخشية أن يتأثر أحد من شبابنا في المملكة بما حدث في مجتمعات أخرى، من انتماءات مذهبية أو سياسية، كانت مُفرّقة للصف ومُضعفة للجماعة.
وبلادنا لا تقاس على غيرها من الدول والمجتمعات، فدستورها الكتاب والسنة، ونظام الحكم فيها قام عليها، التزم بهما، وطبق أحكامهما، فلا يصح فيها وجود التجمعات أو التكتلات، معلَنة أو خفية، مما يتعارض مع ما قامت عليه الدولة، وما تدعو إليه وتعمله من خلال مؤسساتها القائمة.

ولا يصح أن يسلك أحد من شبابها مسلكًا، يكون له أثر قريب أو بعيد في تفريق الكلمة، أو إضعاف كيان الدولة أو الأمة، أو يتخذ وسيلة من الوسائل التي لا تتلاءم مع الطريق الصحيح للدعوة، والأسلوب الأنفع فيها، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطاعة ولي الأمر، والاقتداء بالعلماء الثقات المعتبرين، واحترامهم، والتتلمذ عليهم، والنصح لله ولأئمة المسلمين وعامتهم، نصحًا يجلب المصالح ويرعاها، ويدرأ المفاسد ويتجنبها.
نسأل الله أن يهدينا جميعًا إلى التي هي أقوم، وأن يوفق ولاة أمرنا إلى ما يحبه ويرضاه، وأن ينصر بهم دينه، ويعلي بهم كلمته، وأن يوفق شبابنا إلى الطريق المستقيم، طاعة لله، ومتابعة لرسوله، وابتعادًا عن مواطن الزلل والانحراف، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. عبد الله بن عبد المحسن التركي وزير الشؤون الإِسلامية والأوقاف والدعوة والإِرشاد