آداب النفوس
أبو عبد الله حارث بن أسد المحاسبي
معاملة الله
دلائل معرفة الله
روى عن بعض الحكماء أنه قال
أوصيك ونفسي ومن سمع كلامي بتقوى الله الذي خلق العباد وإليه المعاد وبه السداد والرشاد
فاتقه يا أخي تقوى من قد عرف قرب الله منه وقدرته عليه
وآمن به إيمان من قد اقر له بالوحدانية والفردانية والأزلية لما ظهر من مشاهدة ملكوته وشواهد سلطانه وكثرة الدلائل عليه والآيات التي تدل على ربوبيته ونفاذ مشيئته وإحكام صنعته وبيان قدرته على جميع خلقه وحسن تدبيره ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين
وثق به يا أخي ثقة من قد حسن ظنه به وقلت تهمته له وصدق بوعده ووثق بضمانه وسكن قلبه عن الاضطراب إلى وعده وعظم وعيده في قلبه
واشكره يا أخي شكر من قد عرف فضله وكثرت أياديه عنده وبره به
وتعرف نعمه الظاهرة والباطنة الخاصة منها والعامة واخلص له إخلاص من قد
عرف أنه لا يقبل له عملا إلا بعد تخليصه من الآفات وإخلاصه لله لا شريك له
ولا يشرك في عمله أحدا سواه
وأعلم يا أخي أن إشراك المخلوقين في العمل أن يتزين لهم العبد في مواطن
الامتحان فيكذب في عمله أو يرائي ليكرم ويعظم لجميل قوله ومحاسن ما يظهر
من عمله وهو يعرف ذلك من نفسه أو يجهله منها
ولا يسلم يا أخي من شره إلا من هرب من مواطنه وعمل وهو لا يحب أن يطلع له
مخلوق على عمل وإن اطلع له مخلوق على عمل وهو لا يحب اطلاعه فمن صدقه ألا
يحب أن يحمده ذلك المخلوق على ما اطلع عليه من عمله وإن حمده أحد وهو لا
يحب حمده فلا يسر بحمده له على عمله فإن سره فلا يسرن لمعنى الدنيا بسبب
من الأسباب
ثم أصدق يا أخي في قولك وفعلك صدق من قد عرف أن الله مطلع على دخيلة أمره
وسره وعلانيته وما طوى عليه ضميره
وتوكل عليه يا أخي توكل من قد وثق بوعده واطمأن إلى ضمانه
ثقة منه بوفائه ورضا منه بقضائه واستسلاما منه لأمره
وإيمانا بقدره ويقينا صادقا منه بجنته وناره
وخفه يا أخي خوف من قد عرف سطوته وشدة نقمته وأليم عذابه ومثلته وآثاره
ووقائعه لمن خالف أمره وعصاه
وتعرف يا أخي انه لا تمسك لأحد خذله ولا صنيعة على أحد وفقه وسدده وحاطه
وحفظه وأنه لا صبر لأحد على عقوبته ونكاله وتغير نعمه
وارجه يا أخي رجاء من قد صدق بوعده وعاين ثوابه
واشكره يا أخي شكر من قد قبل منه محاسنه واصلح عمله وحباه من مزيد أياديه
وأناله من مزيد كراماته ما لم يستأهله بعمله
واستحيه يا أخي حياء من قد تعرف كثرة تفضله وجزيل مواهبه وعرف من نفسه
التقصير في شكره وقلة الوفاء منه بعهده والعجز عن القيام بأداء ما لزمه من
حقه ثم لا يتعرف من خالقه إلا جميل ستره وعظيم العافية وتتابع النعم ودوام
الإحسان إليه وعظيم الحلم والصفح عنه
ثم اعلم يا أخي أن الله جل ذكره قد افترض فرائض ظاهرة وباطنة وشرع لك
شرائع دلك عليها وأمرك بها ووعدك على حسن أدائها جزيل الثواب وأوعدك على
تضييعها أليم العقاب رحمة لك وحذرك نفسه شفقة منه عليك
فقم يا أخي بفرائضه والزم شرائعه ووافق سنة نبيه صلى الله عليه وسلم واتبع
آثار أصحاب نبيه والزم سيرتهم وتأدب بآدابهم واسلك طريقهم واهتد بهداهم
وتوسل إلى الله بحبهم وحب من أحبهم فهم الذين أنابوا اليه وقصدوا قصده
واختارهم لصحبة نبيه فجعلهم له أحبابا وأخدانا
حقيقة التوسل بحب الصالحين
واعلم يا أخي أن علامة حبك إياهم لزومك محجتهم مع استقامة قلبك وصحة عملك وصدق لسانك وحسن سريرتك لأمر دنياك وآخرتك كما كان القوم في هذه الأحوال فهذا يحقق منك صدق دعواك لحبهم والتمسك بسنتهم
فإذا صحت فيك ومنك هذه الخلال كصحتها منهم وفيهم كنت صادقا في حب القوم وحسن الاتباع لهم
وإن كنت مدعيا لحبهم وأنت مخالف لأفاعيلهم عادل عن سبيل الاستقامة لطريق
المحجة التي كانوا عليها فأنت مائل الى موافقة هواك عادل عن مسيرتهم ولست
بصادق في دعواك
فلا تجمعن على نفسك الخلاف لمحجتهم والدعوى أنك على سبيلهم فمتى فعلت ذلك
صح منك جهل وكذب وتعرضت للمقت من اللطيف الخبير
ولكن إقرارا واستغفارا فذلك أولى بمن كانت هذه صفته
وليكن لك يا أخي في الحق نصيب فإنه قد قيل ليأتين على الناس زمان يكون
المقر فيه بالحق ناجيا
سياسة النفس
فإذا أنت عرفت الحق فأقررت به ودلك الحق على أن لله عليك مع الفرائض الظاهرة فرضا باطنا هو تصحيح السرائر واستقامة الإرادة وصدق النية ومفاتشة الهمة ونقاء الضمير من كل ما يكره الله وعقد الندم على جميع ما مضى من التواثب بالقلب والجوارح على ما نهى الله عنه
وهذا أمر جعله الله مهيمنا على أعمال الجوارح فما كان من أعمال العبد من عمل ظاهر قوبل به من الباطن فما صح ووافق باطنه صلح وقبل ظاهره وما خالف وفسد باطنه ردت عليه أعمال ظاهرة وإن كثرت وخسر ظاهرها لفساد باطنها
ويحقق ذلك كله قول الله تعالى { وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون }
وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( ( إنما العمل بالنية وإنما لامرئ ما نوى ) )
وقوله في ابن آدم مضغة إذا صلحت صلح سائر جسده وإذا فسدت فسد سائر جسده
يريد عمله الا وهي القلب
وقوله إن الملك ليكثر أعمال العبد بعد وفاته عند الله تعالى فيقول عبدك لم
أزل معه حتى توفيته ثم يذكر محاسن عمله فيكثرها ويطيبها ويحسن الثناء عليه
فيقول الله تعالى أنت كنت حفيظا على عمل عبدي وأنا كنت رقيبا على قلبه وإن
عمله الذي كثرته وطيبته لم يكن لي خالصا ولست أقبل من عبدي إلا ما كان لي
خالصا
فاعرف يا أخي نفسك وتفقد أحوالها وابحث عن عقد ضميرها بعناية منك وشفقة
منك عليها مخافة تلفها فليس لك نفس غيرها فإن هلكت فهي الطامة الكبرى
والداهية العظمى
فأحد النظر إليها يا أخي بعين نافذة البصر حديدة النظر حتى تعرف آفات
عملها وفساد ضميرها وتعرف ما يتحرك به لسانها ثم خذ بعنان هواها فاكبحها
بحكمة الخوف وصدق الخلاف عليها وردها بجميل الرفق الى مراجعة الإخلاص في
عملها وتصحيح الإرادة في ضميرها وصدق المنطق في لفظها واستقامة النية في
قلبها وغض البصر عما كره مولاها مع ترك فضول النظر الى ما قد أبيح النظر
إليه مما يجلب على القلب اعتقاد حب الدنيا
وخذها بالصمم عن استماع شئ مما كره مولاها من الهوى والخنا وفي تناولها
وقبضها وبسطها وفي فرحها وحزنها
وخذها بتصحيح ما يصل الى بطنها من غذائها وما تستر به عورتها
وخذها بجميع همها كلها
وامنع فرجها عن جميع ما كره مولاها
وليكن مع ذلك منك تيقظ وإزالة للغفلات عن قلبك عند كل حركة تكون منك وسكون
وعند الصمت والمنطق والمدخل والمخرج والمنشط والحب والبغض والضحك والبكاء
فتعاهدها يا أخي في ذلك كله فإن لها في كل نوع ذكرناه من ذلك كله سبب
لهواها وسبب لطاعتها وسبب لمعصيتها
فإن غفلت و وافقت هواها وغفلت عن مفاتشة هممها كان جميع ما ذكرت لك من ذلك
كله معاصي منها وإن انت سقطت بالغفلة ثم رجعت بالتيقظ إلى خلاف هواها فكان
معك الندم على غفلتك وسقطتك رجع ذلك كله إحسانا وطاعات لك
فتفقدها يا أخي بالعناية المتحركة منك لها مخافة تلفها فإنك تقطع عن إبليس
طريق المعاصي وتفتح على نفسك باب الخيرات وما التوفيق إلا بالله العلي
العظيم
بين اللسان والقلب
خطر اللسانوخف يا أخي من لسانك اشد من خوفك من السبع الضاري القريب المتمكن من أخذك فإن قتيل السبع من اهل الايمان ثوابه الجنة وقتيل اللسان عقوبته النار إلا أن يعفو الله
فإياك يا اخي والغفلة عن اللسان فإنه سبع ضار و أول فريسته صاحبه
فأغلق باب الكلام من نفسك بغلق وثيق ثم لا تفتحه إلا فيما لا بد لك منه فإذا فتحته فاحذر وخذ من الكلام حاجتك التي لا بد لك منها وأغلق الباب
وإياك والغفلة عن ذلك والتمادي في الحديث وأن يستمد بك الكلام فتهلك نفسك فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم
وسأله رجل فقال ما أتقي فقال هذا يعني لسانه
وقال له رجل ما أخوف ما تخاف علي فقال هذا وأخذ رسول الله صلى الله عليه
وسلم بلسان نفسه
وقال له آخر ما النجاة فقال امسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك
وقال صلى الله عليه وسلم من صمت نجا
وقال من سره ان يسلم فليلزم الصمت
و ورد عمر بن الخطاب على ابي بكر رضي الله عنهما وهو آخذ بطرف لسانه
يبصبصه فقال ما تصنع فقال هذا أوردني الموارد
وقال عبدالله بن مسعود ليس شئ أحق بطول سجن من لسان
الى أخبار كثيرة في اللسان
فإياك يا أخي والغفلة عنه فإنه اعظم جوارحك عليك جناية وأكثر ما تجد في
صحيفة أعمالك يوم القيامة من الشر ما املاه عليك لسانك وأكثر ما
تجده في صحيفتك من الخير ما اكتسبه قلبك
فضل عمل القلب على عمل اللسان
وذلك ان اكتساب قلوب الحكماء واهل البصائر للخير اعمال خفية تخفى على إبليس وعلى الحفظة فهي اعمال نقية من الفساد زاكية قد حصلت مع خفة مؤنة على أهلها جزيلة الثواب مخلصات من عوارض العدو ومن هوى النفس
وذلك لأنها أعمال مستورة عن أعين العباد خاملة لان العبد يصل إليها قائما وقاعدا ومضطجعا فأولئك هم أولو الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم وأكثر ذكرهم التفكر قال تعالى { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض }
فهم اهل الإخمال من المؤمنين الذين عبدوا الله عبادة لم تظهر منهم
سياسة القلب
تصفية القلب عن الحرص على الدنياوتعاهد يا أخي قلبك بأسباب الآخرة وعرضه لذلك وصنه من أسباب الدنيا ومن ذكر يجر الى الحرص والرغبة
ولا تأذن لقلبك في استصحاب ما يعسر طلبه وينطفئ نور القلب من اجله وكن في تأليف ما بينه وبين محمود العواقب حريصا وخوف نفسك عقوبة ما في يديه من الدنيا وقلة ادائك لما يجب عليك فيه من الشكر
واستكثر ما في يديك لما تعلم من ضعف شكرك فتشتغل النفس بما في يديها عن الفكر في أمر الدنيا والمحبة للزيادة منها
فإذا اجممتها من ذكر الزيادة من الدنيا وحملتها على درجة الخوف
مما في يديها قنعت ورضيت وعفت عن طلب الدنيا بالحرص والرغبة ورجعت الى الآخرة بالحرص عليها والرغبة فيها فإن النفس مبنية على أساس الطمع
أخطار الطمع على القلب
ومخرج الحرص والرغبة من الطمع وبناء الانفس قائم على قواعد الطمع أما الطمع في الدنيا فيستعمل أداة الطمع في طلب الزيادة من الدنيا أما الطمع في الاخرة فيستعمل أداة الطمع في طلب الزيادة من أعمال الاخرة بالحرص عليها والرغبة فيها
قيل لحكيم فما آله الطمع وجماع آفاته
قال الشرة والحرص وهيجان الرغبة فعلى ايها اوقعت النفس طمعها احضرت أداتها وجمعت آلتها وجدت في طلبها
فإذا قهرت صاحبها على موافقة هواها استعبدته فأذهلته وأذلته وأدهشته وأتعبته وطيشت عقله ودنست عرضه وأخلقت مروءته وفتنته عن دينه وإن كان عالما لبيبا عاقلا كيسا فطينا فصيحا حكيما فقيها لوثته واسقطته وفضحته فاحتمل لها ذلك كله وهو الاريب العالم الاديب فصيرته بعد العلم جاهلا سفيها أحمق خفيفا
وذلك أنها سقته من موافقة هواها كأسا سما صرفا فاستمالته فمال بعلمه وعقله
وفهمه ونفاذ حكمته وبصره فاجراه مجرى هوى نفسه فعجلت له الفضيحة في عاجل
الدنيا عند حكمائها وعقلائها وأسقطته من عين الله واعين عباده أمن أهل
البصائر وأخرت له آجل الندامة الطويلة عند مفارقة الدنيا وفي عرصات
القيامة
قهر النفس على طلب الآخرة
فإذا قطع عليها العبد الطمع من أسباب الدنيا وغلب بعقله هواها رجعت بطمعها إلى أسباب الآخرة لا محالة لأنها بنيت على الطمع
فإذا تجردت من أسباب الدنيا وأقلبت على نفسها بالإياس من المخلوقين رجعت برغبتها وطمعها الى اسباب الآخرة فجدت في طلبها واجتهدت وعزفت عن الدنيا وباينت الهوى وخالفت العدو وتبعت العلم وكانت مطية للعقل صابرة على مر ما يدل عليه الحق فنجت وأنجت
الخوف والحزن
وسيلة تحصيل الخوف والحزنوتعاهد يا أخي قلبك عند هممه وألزمه الفكرة في أمر المعاد فلا تفارق قلبك وتوهم بقلبك هول المطلع عند مفارقة الدنيا وترك ما قد بذل اهلها فيه مهج نفوسهم وتدنيس أعراضهم وإخلاق مروءاتهم وانتقاص أديانهم ثم تركوا ذلك كله وقدموا على الله فرادى آحاد مع ما قد وردوا عليه من وحشة القبر وسؤال منكر ونكير وأهوال القيامة والوقوف بين يدي الله والمساءلة عن جميع ما كان منهم من قول أو فعل من مثل مثاقيل الذر وموازين الخردل
وسؤاله عن الشباب فيم أبلى شبابه وعن العمر فيم أفنى عمره وعن المال من أين اكتسب وعمن منع وفيم انفق وعن العلم ماذا عمل فيه وعن جميع الأعمال التي صدقوا فيها والتي كذبوا فيها
فإنك يا أخي إن شغلت قلبك بذلك وأسكنته إياه وكان فيك شئ
من صحة تركيب العقل فإنه سيكل منك لسانك ولا يعدمك الخوف اللازم مع الحزن الدائم والشغل المحيط بقلبك
إبليس يهوى القلوب الخربة
وإن إبليس إنما يسور عليك في الآثام من وسوسة نفسك وخراب قلبك
وخرابه إنما يكون اذا كان فارغا من الخوف اللازم والحزن الدائم فحينئذ ينفث فيه بالوسوسة لآمال الدنيا والجمع لها مخافة فقرها مع لزوم طول الأمل لقلبك وإعراضه عن الله تعالى وانقطاع مواد عظمة الله منه وفراغه من الهيبة والحياء منه
فإذا وجد القلب عامرا خنس ونفر منه ولم يجد فيه مساغا ولا من جوانبه مدخلا لأن القلب عامر بالخوف والأحزان والفكر فهو منير مضيء
يرى العبد بنور قلبه مداخل إبليس فيرميه بالإنكار لما يدعو إليه ويعتصم بما أيده الله به من نور قلبه فيدحره عنه فولى الخبيث الى قلب قد فقد الخوف فخرب وأظلم فلا نور فيه
فلا شيء أثقل على الخبيث من النور فإذا وجده خنس ونفر منه
فلا يقدر عليه إلا من قبل الغفلة من العبد
ونور القلب إنما هو من يتعظه وحياته فإذا غفل مات وأظلم وطفىء نوره فيلتبس
على العبد ما يدخله عليه العدو او يكدر عليه فاختلس إبليس من العبد
واستدام القلب بالغفلة فتسور عليه بالآثام فإذا اصر على الاقامة عليها
ورضي بها علاه الرين فاظلمه واستقر إبليس فيه ثم سلك به سبيل الآثام إلى
ان يوصله ويوقعه في الكبائر
ولا شيء اعجب إلى إبليس من ظلمة القلب وسواده وانطفاء نوره وتراكب الرين
عليه ولا شيء أثقل على الخبيث من النور والبياض والنقاء والصفاء وإنما
مأواه الظلمة وإلا فلا مأوى له ولا قرار في النور والبياض
ولقد بلغني ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره ان يدخل البيت المظلم
حتى يضاء له فيه بمصباح
مراقبة الله تعالى
ما يعين على المراقبةيروي عن بعض الحكماء أنه قال إن من أشرف المقامات وأفضلها المراقبة لله
ومن احسن المراقبة أن يكون العبد مراقبا بالشكر على النعم والاعتراف بالإساءة والتعرض للعفو عن الإساءة فيكون قلبه لازما لهذا المقام في كل أعماله فمتى ما غفل رده إلى هذا بإذن الله
ومما يعين على هذا ترك الذنوب والتفرغ من الاشغال والعناية بالمراجعة
ومن أعمال القلب التي يزكو بها ولا يستغني عنها الإخلاص والثقة والشكر والتواضع والاستسلام والنصيحة والحب في الله تعالى والبغض فيه
وقال أقل النصح الذي يحرجك تركه ولا يسعك إلا العمل به فمتى قصرت عنه كنت مصرا على معصية الله تعالى في ترك النصيحة لعباده
فأقل ذلك ألا تحب لاحد من الناس شيئا مما يكره الله عز وجل ولا تكره لهم
ما أحب الله عز وجل
فهذه الحال التي وصفنا واجبه على الخلق لا يسع تركها طرفة عين بضمير ولا
بفعل جوارح
وحال أخرى فوق هذه وهي فضيلة للعبد أن يكره لهم ما كره الله وأن يحب لهم
ما أحب الله تعالى
قال وجاء رجل الى عبدالله بن المبارك فقال له أوصني فقال راقب الله فقال
الرجل وما مراقبة الله فقال أن يستحيي من الله
المراقبة والمناجاة من اليقين
قال فالمناجاة والمراقبة من حيث تضع قلبك وهو أن تضعه دون العرش فتناجي من هناك
وفي رد القلب الى المراقبة مراجعتان
اولاهما مراقبة النظر مع تذكر العلم قال تعالى { إنه عليم بذات الصدور }
وقال تعالى { يعلم ما في أنفسكم فاحذروه }
ثم تذكر العظمة لوجود الحلاوة
والقول الآخر يروى ان الله سبحانه أوصى الى ابراهيم عليه السلام يا
ابراهيم تدري لم أتخذتك خليلا قال لا يا رب قال لطول قيامك بين يدي قال
فقيل إنما كان قيامه بالقلب وليس بالصلاة
وهذا يوافق القرآن قال تعالى { إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار }
وقول حارثة كأني انظر الى عرش ربي بارزا
من آداب المراقبة
وقال أعلا الأعمال في الدرجات ان تعبد الله على السرور بمولاك ثم على التعظيم له ثم على الشكر ثم على الخوف وآخر الاعمال التي
تكون بالصبر
والصبر على وجوه تصبر وصبر جميل ثم تخرج الى الخوف والشكر ثم الى التعظيم
ثم السرور
ومن أراد الزهد فليكن الكثير مما في أيدي الناس عنده قليلا وليكن القليل
عنده من دنياه كثيرا وليكن العظيم منهم اليه من الاذى صغيرا وليكن الصغير
منه إليهم عنده عظيما
وقال إذا دعتك نفسك الى ما تنقطع به عند حظك فاجعل بينك وبينها حكما من
الحياء من الله تعالى
وقال إن الاكياس إذا دعتهم النفوس الى ان تقطهم بخدائعها عن سبيل نجاتهم
حاكموها الى الحياء من الله تعالى فأذلها حكم الحياء
وقال مخرج الاغترار من حسن ظن القلب ومخرج حسن ظن القلب من القيام لله على
ما يكره ثم من كذب النفس
وقال من النصح ان تحب ان يكون الناس كلهم خيرا منك
وقال ذكر عند ابن المبارك عابد تعبد بلا فقه فقال ليت بيني وبينه بحرا
وقال من انقطع الى الله لم يصبر على الناس ومن انقطع الى غير الله لم يصبر
عن الناس
وقال كرز من قرأ القرآن ما له ولكلام الناس
وقال إنما هي ايام قلائل فما على الإنسان لو وهب نفسه لله
وقال التواضع لله ذل القلب
وقال اول النعم معرفة العلم الذي به تؤدي فرائض الله ثم الصحة والغنى ثم
العقل
وقال ليس للعبد أن يرد على مولاه شيئا من أحكامه وعليه ان يرضى بما ورد
عليه من حكم مولاه فإن لم يرض صبر فللعبد حالان حال يوافق منه رضا على ما
يحب وحال يوافق منه صبرا على ما يكره
العدل والفضل
شرائع العدل وشرائع الفضلبسم الله الرحمن الرحيم يروى عن بعض الحكماء أنه قال طريق الآخرة واحد والناس فيه صنفان فصنف اهل العدل وصنف أهل الفصل
والعدل عدلان عدل ظاهر فيما بينك وبين الناس وعدل باطن فيما بينك وبين الله
وطريق العدل طريق الاستقامة وطريق الفضل طريق طلب الزيادة
والذي على الناس لزوم العمل به طريق الاستقامة وليس عليهم لزوم طريق الفضل
والصبر والورع مع العدل وهما واجبان والزهد والرضى مع الفضل وليسا بواجبين والانصاف مع العدل والاحسان مع الفضل
ومن شغله العدل عن الفضل فمعذور ومن شغله الفضل عن العدل فهو
مخدوع متبع لهوى نفسه وعلى الانسان معرفة العدل وليس
عليه معرفة الفضل إلا تبرعا
وهكذا كل عمل لا يجب على العبد فعله لا يجب عليه علمه
صفات اهل العدل
ولا يكون العبد من أهل العدل إلا بثلاث خصال بالعلم حتى يعلم ما له مما عليه وبالفعل وبالصبر
فمفتاح العدل واولاه بالعبد و اوجبه عليه ان يعرف قدر نفسه فلا يكون لها عنده قدر فوق منزلتها و ان الشبه سريرته علانيته
وأحزم الناس فيه واقربهم منه مأخذا المراجع لنفسه في كل خطرة تهواها نفسه أو تكرهها فينظر في ذلك ان لو اطلع الناس على حالته هذه فاستحيا أو كرهها تحول من تلك الحالة الى حالة لا يستحيا منها فإن الذي لا يستحيا منه ضد الذي يستحيا منه
فإذا تحول واستمر فلينظر فإن اشتهت نفسه أن يطلع الناس عليه تحول منه الى ما لا تشتهيه نفسه فإن الذي تشتهيه ضده فيكون أبدا في
ضد ما تشتهيه نفسه
أبعد الناس من العدل
وأبعد الناس من العدل اشدهم غفلة عن هذا واقلهم محاسبة لنفسه وأبعد الناس من العدل وأطولهم غفلة عن هذا اشدهم تهاونا به
ولو عقلت من الذي تراقب ثم تقطعت أعضاؤك قطعا وانشق قلبك او سحت في الارض لكنت بذلك محموقا
فلما لم تعقل لم تجد مس الحياء والخوف في مراقبة الله تعالى ومطالعته على ضميرك وعلمه بما تجلبه حواسك على قلبك وقدرته المحيطة بك ثم أعرضت بعد ذلك كالمتهاون به الى مراقبة من لا يطلع على سرك ولا علم له بما في ضميرك فقلت لو اطلع الناس على ما في قلبي لقلوني ومقتوني فمسك الحياء والخوف منهم حذرا من نقصان جاهك وسقوط منزلتك عندهم فكنت لهم مراقبا ومنهم خائفا ومن مقتهم مشفقا إذ لم تجد مقت الله لك وسقوط منزلتك وجاهك عنده ومقت الله اكبر
ثم إذا عملت شيئا من الطاعات التي تقرب الى الله زلفى فإن هم اطلعوا
عليها عقدت بقلبك حب حمدهم على ذلك وأحببت اتخاذ
المنزلة عندهم بذلك
وإن كان شيئا يتقرب به الى الله من طاعة بعقد ضمير او اكتساب جوارح فإن
كان ذلك سرا أحببت أن يطلعوا عليه ليحمدوك ويقوم به جاهك
فلم تقنع باطلاع الله عز وجل ولا بثوابه في عمل السر ولا في عمل العلانية
وانت قانع بذلك راض به غافل متماد معتز مخدوع وكانت هذه الحالة عندك احسن
احوالك واحزم امورك
ولو استغنيت بالله وحده وباطلاعه عليك وبجزيل ثوابه لاهل طاعته ومحبته لهم
وتوفيقه لهم وتسديده إياهم و راقبته لاغناك ذلك عمن لا يملك لك ولا لنفسه
ضرا ولا نفعا
وقد رضي منك بذلك وليتك تضبطه
فاولى الفضائل بك وانفعها لك ان تكون نفسك عندك دون قدرها وأن تكون سريرتك
افضل من علانيتك وأن تبذل للناس حقوقهم ولا
تأخذ منهم حقك وتتجاوز عما يكون منهم وتنصفهم من نفسك
ولا تطلب الإنصاف منهم
وإنما هو التطهير ثم العمل والتطهير أولى بنا من العمل
التطهير والعمل
أهمية التطهر من الافات قبل العملوالتطهير هو الانتقال عن الشر الى الاساس الذي يبنى عليه الخير وقد يمكن ان يسقط البناء ويبقى الأساس ولا يمكن ان يسقط الاساس ويبقى البناء
ومن لم يتطهر قبل العمل فإن الشر يمنع العبد من منفعة الخير فترك الشر أولى بالعبد ثم يطلب الخير بعد
والنفس تجزع من التطهير وتفر الى اعمال الطاعات لثقل التطهير عليها وخفة العمل بالطاعات بلا طهارة
فإذا كانت الطهارات متقدمة امام العمل بالطاعات بعد خفته عليها
لمكان الطهارة فالحاجة الى معرفة الاسباب التي يطلب
منها الخير وتوصل الى الله شديدة
فمن كانت له عناية بنفسه وخاف عليها التلف طلب لطائف الاسباب بدقائق الفطن
وغائص الفهم حتى يصل اليها فإذا وصل اليها تمسك بها وعمل عليها لان
المعرفة لآفات العمل تكون قبل العمل ومعرفة الطريق قبل سلوكه وحاجة العبد
الى معرفة نفسه وهواها وعدوه ومعرفة الشر أشد إن كان كيسا وهو الى ذلك
افقر إن كان فطنا معنيا بنفسه
لانه ليس العمل بكل الخير يلزم العبد والشر كله لازم للعبد تركه ومن ترك
الشر وقع في الخير وليس كل من عمل بالخير كان من أهله
ومعرفة العبد للشر فيها علم الخير والشر وليس في معرفة الخير العلمان
جميعا لان كل من ميز الخير من الشر فعزله واعتزله فكل ما بقي بعد ذلك فهو
خير كله وقد يمكن أن يعلم الخير ولا يحسن ان يميز ما فيه من الشر من
الافات التي تفسده وتبطله لان الخير مشوب ممازج بالشر والشر شر كله
الشيطان يضل الناس بالخير وبالشر
وقد اضل العدو الخبيث عن الله كثيرا من الناس بالخير واضل كثيرا منهم بالشر وإنما اضل من أضل منهم بالخير لقلة معرفتهم بما يمازج الخير من الشر فجهلوا معرفة ذلك و أوهمتهم انفسهم أنهم على خير وهدى وطريق محبة وسبيل واستقامة وهم ضالون عن الله عادلون عن طريق محبته وسبيل الاستقامة اليه
وإنما ذلك من كثرة الافات التي تلحق الاعمال وقلة علم العمال بها فإنا لله
وإنا اليه راجعون
الطلب على قدر المعرفة
ما أغفل الناس عن أنفسهم وعن اهوائهم وعن عدوهم فنعوذ بالله من الغفلة والسهو والنسيان الذي يردي ويفسد الأعمال
والحري أن تارك الشر يكون تركه له على قدر ما يعرف من ضرره وهو قائم بفرض تقرب إقامته من الله زلفى وطالب الخير يكون طلبه على قدر ما يرجو ويعرف من منفعته ومن أن العلم شئ والعمل شئ والمنفعة شئ وربما كان علم ولم يكن صاحبه به عاملا وربما كان علم وعمل ولم تكن منفعة وربما كان علم وعمل ومنفعة ثم يكون بعد ذلك إبطال وإحباط وربما علم العبد وعمل وانتفع وسلم وتم
الخصال التي يطلب منها الخير
وطالب الخير لا يستغني عن خمس خصال سوى ما يحتاج فيه الى علم حدود الاعمال واحكامها وادائها الى الله تعالى خالصة مخلصة مشوبة بالصدق كما امر وفرض وسن في الاوقات التي امر وفرض
صاحب الخير العامل به لا يستغني عن الصدق والصواب والشكر والرجاء والخوف
الصواب
اما الصواب فالسنة والسنة ليس بكثرة الصلاة تدرك ولا بكثرة الصيام والصدقة ولا بالعقل والفهم ولا بغرائب الحكمة ولا بالبلاغ والموعظة ولكن بالاتباع والاستسلام لكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والائمة الراشدين من بعده
وليس شيء اشد تهمة ولا اكثر ضررا على السنة من العقل فمتى
اراد العبد ان يسلك سبيل السنة بالعقل والفهم خالفها واخذ في غير طريقها
الصدق
واما الصدق ففي اربعة اشياء
تعمل العمل ثم لا تريد على ذلك جزاء ولا شكورا الا من الله تعالى ولا تبطله بالمن والاذى ومنه صدق اللسان في الحديث وقد يصدق في حاله بلسانه وهو عاص لله تعالى في صدقه وهو المغتاب والنمام
الشكر
واما الشكر فمعرفة البلوى فإذا عرف ان كل نعمة فهي من الله
لا غيره وانما هي بلوى يختبر بها عبده شكر ام كفر وكل
سوء صرف عن العبد فالله تعالى صرفه ليشكره عبده او يكفره فهذا من الشكر
فإذا عرف العبد هذا انه من الله وعده من نعمه عليه ولم يدخل فيه احدا نفسه
لا غيرها فقد شكره فالشكر متفاوت والناس فيه متباينون متصاعدون وهذا ادناه
واما اعلاه فلا يبلغه احد وليس له حد
ومنه ايضا وهو يشبه ما وصفنا الا انه اصل الشكر ان يعرف العبد ان ما به من
نعمة فمن الله بقلبه علم يقين لا تخالطه الشكوك فإذا عرف بقلبه ذلك ذكره
بلسانه فحمده عليه ثم لم يستعن بشيء من نعم المنعم على شيء مما يكره
المنعم
واعلا من ذلك من الشكر ان تعد كل بلاء نزل بك نعمة لان لله من البلاء ما
انزله بغيرك اشد واعظم من الذي انزله بك
والناس يحتاجون عند ذلك الى الصبر وهو قائم بالشكر
الرجاء
واما الرجاء فهو ان ترجو قبول الاعمال وجزيل الثواب عليها
وتخاف مع ذلك ان يرد عليك عملك او يكون قد دخلته آفة
أفسدته عليك
والراجون ثلاثة
رجل عمل حسنة وهو صادق في عملها مخلص فيها يريد الله بها ويطلب ثوابه فهو
يرجو قبولها وثوابها ومعه الاشفاق فيها
ورجل عمل سيئة ثم تاب منها الى الله فهو يرجو قبول توبته وثوابها ويرجو
العفو عنها والمغفرة لها ومعه الاشفاق الا يعاقبه عليها
واما الثالث فهو الرجل يتمادى في الذنوب وفيما لا يحبه لنفسه ولا يحب ان
يلقى الله به ويرجو المغفرة من غير توبة وهو مع ذلك غير تائب منها ولا
مقلع عنها وهو مع ذلك يرجو
فهذا يقال له مفتر متعلق بالرجاء الكاذب والاماني الكاذبة والطمع الكاذب
والقيام على هذا يقطع مواد عظمة الله من قلب العبد فيدوم اعراضه عنه ويأنس
بجانب مكر الله ويأمن تعجيل العقوبة وهذا هو المفتر المخدوع المستدرج
واما امثالنا من الناس فينبغي ان يكون الخوف عندهم اكثر من الرجاء لان
الرجاء الصادق انما يكون على قدر العمل بالطاعات
الخوف
والخوف على قدر الذنوب فلو كان الرجاء يستقيم بلا عمل لكان المحسن والمسيء في الرجاء سواء وقد قال الله تعالى { الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله } وقال { إن رحمة الله قريب من المحسنين }
ومعنى الحديث الذي جاء لو وزن رجاء المؤمن وخوفه لاعتدلا ينبغي ان يكون خاصا بين اهله وهو قبل الحديث الاخر المؤمن كذي قلبين قلب يرجو به وقلب يخاف به فإنما هو اذا احسن رجا واذا اساء خاف مع التوبة والندم والاقلاع
فأما من عرف نفسه بكثرة الاساءة فينبغي ان يكون خوفه على قدر ذلك ورجاؤه على قدر ما يعرف من نفسه من الاحسان لان الرجاء على قدر الطلب والخوف على قدر الهرب
البلوي والاختبار
القرآن يقرر الابتلاء بالدنيا كلهاواعلم أيقن أن الدنيا كلها كثيرها وقليلها حلوها ومرها وأولها وآخرها وكل شيء من أمرها بلوى من الله تعالى للعبد واختبار
وبلواها وان كثرت وتشعبت واختلفت فهو مجموع كله في خلتين في الشكر والصبر فإما ان يشكر على نعمة او يصبر على مصيبة
قال الله تعالى { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا }
وقال { ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض }
وقال { ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم }
وقال { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون }
وقال { خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم
أحسن عملا }
وقال { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم }
واكثر من ذلك في كتاب الله تعالى
وانما كانت بلوى آدم عليه السلام أقل من آية في كتاب الله تعالى { ولا
تقربا هذه الشجرة } وهو كله لك بلوى
اكثر الفتنة في الناس
وان اكثر ما بلي به العبد من اهل الدنيا الناس وافتن الناس لك واكثرهم لشغلك انما هو بمعارفك منهم واشغل معارفك لك واكثرهم عليك فتنة من انت بين ظهرانيهم ينظرون اليك وتنظر اليهم ويكلمونك وتكلمهم
فإنك من لم يعرفك من أهل زمانك ولم تعرفه ولم تسمع به كأنك
لم تبتل بهم وكأنهم لم يبتلوا بك وكأنهم لم يكونوا من
هذه الدنيا التي انت فيها
فأرجع في صبرك إلى الله واستعن به وانقطع اليه واستانس بذكره وأقلل من
الخلطاء ما استطت بل اترك القليل أيضا تسلم لقول الله تعالى { وجعلنا
بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا } فاهرب من الفتنة
فرجع صبرك الى معارفك ومن انت بين ظهرانيهم فنظرك اليهم فتنة ونظرهم اليك
فتنة وكلامك معهم فتنة وكلامهم معك فتننة وجفاؤك لهم فتنة وجفاؤهم لك فتنة
وكرامتهم لك فتنة وكرامتك لهم فتنة لك
واعتبر من ذلك بموضع تمر فيه فيه معارفك وموضع تمر فيه ليس فيه احد يعرفك
وهكذا شهوات المطعم والملبس وشهوات العين ما يحل النظر اليه وما لا يحل
النظر اليه مما كان من ذلك في غير البلدة التي انت فيها فأنت منها سليم
وفتنتها مصروفة عنك ان شاء الله تعالى لان مؤنتها ساقطة وهكذا انت في جميع
امورك
الابتلاء في العمل
وعملك الذي تعمل انما هو فتنة انت فيه تريد ان توقي اعين الناس واكثرهم من يعرفك بالخير فأعمالك لك فتنة
ان حججت فكنت خاليا ليس معك من يعرفك بالخير وتعرفه كان اسلم لك والا فهو فتنة فانظر كيف تسلم منها
وان خرجت من بلدة انت فيها معروف بالخير فخرجت منها وهم لا يعلمون اين تريد فهو اسلم لك وان علموا فهو فتنة فانظر كيف تسلم منها
وكذلك الغزو وبلوى اهل الغزو وما ينوبهم في مغازيهم من الفتنة والبلية اعظم من بلية غيرهم من الذين يعملون اعمال البر وهم قبل ان يدخلوا في هذه الاشياء في عافية فإذا دخلوها جاءت الفتنة من التحاسد بعضهم لبعض وطمعهم فيما يرجون من السهام وطمعهم في الحملان وما يجعل للناس في سبيل الغزو
ولقد سمعت رجلا من المذكورين من اهل الغزو وممن له غناء عند لقاء العدو واسم عظيم في المطوعة يقول الخيل قد خرجت ولم
يقض لي الخروج فيها أما السلامة فأحب ان يسلموا ولكني
أكره أن يغنموا وليس أنا فيهم
ولقد رأيت من يغار على ما يقوى به بعض الغزاة حيث لم يعط هو وأعطي غيره
كما يغار الرجل على بعض حرمه ولقد رأيت من غزا ولم يغنم ود ان لم يكن غزا
ولا يؤمن يا أخي على كل من دخل في عمل من أعمال الدنيا والاخرة جميعا إذا
لحقتهم في عملهم الآفات التي تفسد الاعمال ان يدخل عليهم الشيطان فيها من
العيوب والفتن مثل هذا وأكثر من هذا
فليحذر الرجل على كل عمل يعمله من أعمال الدنيا والاخرة وليراقب الله فيه
ويعامله بضمير خالص ويحذر اطلاع الله على فساد ضميره ويحذر اطلاع
المخلوقين على عمله فإن كناس الحشوس أكرم من هذا الصائم وهذا المصلي وهذا
القائم وهذا الغازي الذي يكره ان ينال المسلمون من غنائم الروم والجالس في
بيته ببغداد يحب ان يغنموا منهم
فاحذر رحمك الله من قرب منك وقربت منه فإن الذين بعدوا منك وبعدت منهم
سلموا منك وسلمت منهم
يود أقوام غدا انهم لم يكونوا سمعوا بآذانهم كثيرا من أعمالهم التي هي
في رأي العين يرجى لصاحبها عليها الثواب الجزيل والدرجات الرفيعة ويغيطون من لم يكن عمل مثل ما عملوا كثيرا من حسناتهم وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحسبون
كيف يهلك العبد بأعمال البر
يقال إنها أعمال من البر كانوا يرون انها منجيتهم فكانت هي مهلكتهم لما مازجها من الرياء وحب المحمدة من المخلوقين واتخاذ المنازل بالطاعات وإقامة الجاه وحب القدر والميل الى ثواب المخلوقين
فلما وردوا على الله عز وجل وجدوه قد أحبط أعمالهم وهم لا يشعرون لأنهم كانوا قد تعجلوا ثواب اعمالهم من المخلوقين في الدنيا فافتضحوا وفضيحة ما هناك باقية ولم يجدوا من ثواب اعمالهم إلا كما وجد صاحب السراب وصاحب الرماد
فليس اسم الأعمال يراد ولا تزيين ظاهرها ولكن تقوى الله وما يقرب اليه زلفى فليت بين العبد وبين كل عمل يباعد من تقوى الله ومن الله بعد المشرقين
قال العدو الخبيث ثم لآتينهم من بين ايديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم فلو لم يكن في
الكتاب من صفات إبليس إلا هذا قد كان ينبغي للناس أن
يحذروه
ولو نظرت في اكثر الناس لوجدت أن أكثرهم إنما يؤتى من قبل البر وقلة
العناية بتصفية الاعمال وما قد استحلت النفس من حب المحمدة من المخلوقين
وقد يؤتى قوم كثير من قبل الآثام إلا أن علامة الفتنة في الناس جميعا
مختلفة وأكثر الناس إنما يعرفون من قد فتن بالآثام ولا يعرفون من فتن
بالبر إلا القليل من الناس من أهل النور والفطن والفراسة والتوسم والكياسة
وذلك ان الذي يعمل بأعمال البر وهو يحب فتنتها أكثر من الذي يخاف فتنتها
والذي يجهل فتنتها اكثر من الذي يعلم فتنتها
ومن الناس من يعلم فتن الاعمال ومبطلاتها ثم يغلبه الهوى ومنهم من يعلم
وتقل عنايته فيغفل
واعلم ان الذي يعمل وقد علم الافات التي تفسد الاعمال ومعه العناية بنفسه
وعمله ومعه التيقظ وإزالة الغفلة وهو مع ذلك مشفق خائف من الافات ما يكاد
يسلم إلا من عصم الله تعالى فكيف الذي يجهل ويغفل ويغلبه الهوى ويحب دخول
الافة
شمول الفتنة وخطرها
وقد طلبت الدنيا في زماننا خاصة بكل جهة بالبر والاثم جميعا افتتانا فاحذر فتنة البر والاثم جميعا لئلا ينزل بك ما نزل بغيرك في الترك والطلب
فلتكن همتك في النظر في مرآة الفكر كالهمة بالعمل وأكثر من ذلك فإنه ليس شهوات الذنوب والسيئات وشهوات المطاعم والمشارب والملابس والبناء والمراكب والمناكح والذهب والفضة بأغلب على اصحابها من شهوات الجاه وحب الرئاسة وإقامة القدر واتخاذ المنزلة وقبول الامر والنهي وقضاء الحوائج وحب العدالة عند الجيران والاصحاب والاخوان والمدحة على اصحاب البر في حسناتهم
وقد تجد الرجل يغلب شهوة الذنب فيترك الذنوب ويصير الى اعمال البر فيضعف عند تصفيتها وتغلبه شهوة ما فيها فيعمل حسنات كثيرة بقوة واقتدار عليها وظمأ شديد وسهر فلا يقدر على ان يغلب شهوته على تصفيتها فإنا لله وإنا إليه راجعون مما قد نزل بنا وما اعظم خطرنا
وما أغفلنا عن عظيم الخطر
أحذر خداع الشيطان وهوى نفسك
ثم اعلم أني لست أزهدك في طلب اعمال البر لأن كل عمل لا تعمله اليوم لا تجد ثوابه غدا ولكني احذرك خداع الشيطان وهوى نفسك الأمارة بالسوء
وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه وقد قال تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم }
وقال { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير }
وقال { إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم وقال }
{ وكذلك سولت لي نفسي } وقال { فطوعت له نفسه قتل أخيه
فقتله فأصبح من الخاسرين } وقال { بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل }
وقال { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } وقال { ولا تتبع
الهوى فيضلك عن سبيل الله } وقال { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من
الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين } وقال { واتبع هواه وكان أمره فرطا
} وقال { وكذبوا واتبعوا أهواءهم }
مع اشياء كثيرة في ذكر عداوة إبليس وذم النفس والهوى
كيف يعرف الانسان سلامته من الافات
قلت ارى من الناس أشياء يعاب مثلها واحب ان أسلم من التعبير والازدراء والعيب فلا أدرى اسلمت منه نفسي أم لا
فقال إن الانسان عند معرفة عيب نفسه أبله وعند معرفة عيب غيره جهبيذ فيحتقر عيب اهل كل صناعة وأهل كل عمل من اعمال الدنيا والاخرة ويحتقر عيب من هو في مثل مرتبته ويستعظم ذلك من كل من رآه منه فإذا اتى على عيب نفسه جازه الى عيوبهم كأنه أعمى عنه لم يره
وهو يطلب العذر لنفسه ولا يطلبه لغيره فهو في طلب عذرها جهبيذ وفي طلب عذر غيرها ابله وهو يضمر عند ذلك لصاحبه ما يكره أن يضمر له غيره لو رأى منه مثل ذلك العيب
فإذا رأيت عيبا أو زلة أو عثرة من غيرك فاجعل نفسك مكانه ثم انظر الذي كنت تحب ان يستقبلك به لو رأى منك مثل الذي رأيت منه وأضمر ذلك له في نفسك فإنه يحب منك مثل ما كنت تحبه منه
وهكذا إذا رأيت ما يستحسن فأردت ان تعرف علم السلامة من
الحسد له
وبالحري أن يكون أخف الناس عليك عند الزلة من يطلب لزلتك عذرا ومخرجا فإذا
لم يجد للعذر موضعا ساءه ذلك وأخفى مكانه وعند حسنتك يسر فإن لم يسر لم
تسؤه
فهكذا فكن لهم عند الزلة وعند الحسنة فإذا كنت كذلك فلا تحب إزالة نعمة
أنعمها الله على أحد في دين ولا في دنيا ولا تحب أن يقيم أحد على معصية
الله تعالى ولا تحب ان يهلك ستره عند زلته فإنك إذا فعلت ذلك بقلبك زال عن
قلبك الحسد عن الدين والدنيا جميعا
ومتى غلبت عليك المسابقة الى ضميرك بسوء المحضر فلا تغلبن على مشاهدته
بحسن المراجعة من جميع أمورك
علم السلامة بالمراجعة والتفتيش
وأعلم أنك مسبوق الى ضميرك بالحسد وسوء الظن والحقد فاجعل المراجعة شغلا لازما وكن وقافا كما قال الاول المؤمن وقاف وليس كحاطب ليل
فقف وطالع زوايا ضميرك بعين حديدة النظر نافذه البصر فإذا
رأيت أمرا محموداص فاحمد الله وامض وإذا رأيت مكروها
داركته بحسن المراجعة واستقصيت فيه فإن الذي دخل بيتك ولم يستأذنك سوف
يختبئ فيه وإن كان مظلما فأنت لا تشعر إلا أن يكون معك سراج من العلم مضئ
واضح ويكون معك من العناية بأخذه والإنكار لما دخل فيه ما لا صبر له عليه
ولا طاقة له به
ولو قد جربت لعرفت ان الذي أقول لك كما أقول
يدخل داخل منزلك بغير إذنك وهو داخل لا يؤمن أن يخرب المدخول عليه فإن رأى
الداخل منك توانيا وتهاونا كان هو المقيم بالمنزل المدبر له فاستولى على
حر بيتك وعلى حرمتك وإن رأى منك إنكارا فيه ضعف اختفى لك ليمس سهوتك
وغفلتك فإذا وجد فرصة خرب عليك ما كنت اصلحت وهدم ما بنيت فافهم إن كنت
تفهم واقبل النصح من الناصحين إن كنت تقبل
فلو رحلت فيما اخذت المطايا فبلغت حيث تبلغ من البعد وأنفقت في سبيل ذلك
حر بيتك كان الذي أخذت اكثر من الذي انفقت وتعبت فإنك تجد الخير الكثير في
ميزانك يوم القيامة بصدق المراجعة ومبادرتها قبل أن تبرد عنك حلاوتها
فإنها موهبة عظيمة من مواهب الله تعالى اكرم
بها اهل خاصته وعظم النعمة عليهم فيها فإن عظم النعمة
على قدر الحاجة
فانظر هل راجعت نفسك وامرك الا وقد وجدت فيه موضع مرمة ومصلحة او وجدت
مفسودا بعينه فلو لم تلحقه بالمراجعة لكان ذاهبا الى يوم القيامة
المراجعة اساس السلوك الصحيح
واعلم اني انما اكثر عليك وعلى نفسي من ذكر المراجعة لما قد استبان لي من الاضطرار والحاجة اليها فلو قد تعلقت بشيء من الخير فيها يكون ونسبتها والا فلا وما تركك لها الا كالمستأنس لعدوه والمسلم نفسه اليه فهلكت وانت لا تشعر
وان كنت متهاونا بما اقول لك فإن اكثر حاجتك اليها في صلاة الفريضة ثم بعدها وهلم جرا في جميع امورك
ولو كنت ممن يتفقد امره لعلمت ماذا دخل عليك من الندامة والحسرة حيث فارقتك المراجعة في صلاة الفريضة فلم تدر ماذا قرأ امامك ولم تدر أفي فرض كنت ام في نافلة في صلاة كنت ام في غيرها وانت في رأي العين ممن يناجي ربه
قد اصغيت بأذنيك الى امامك وتخشعت بوقوفك وفرغت قلبك لاستماع ما يقرا
امامك من كلام ربك في صلاة فريضتك التي ليس شيء اوجب عليك منها فرجعت منها
وقد ظهر منك ما وصفنا وانت كمن لم يشهدها لقلة ضبطك بالمراجعة لنفسك فيها
ولعل الذي حضرت منها بقلبك او عقلته فلم تسه عنه لو قيل لك اتحب ان يكون
ذلك منك كما كنت ساهيا ولك مائة الف دينار لقلت لا
فاعتن الآن بتعاهد هذه المراجعة على قدر ما عرفت من حاجتك اليها فإنما لك
من عمرك تيقظك وتيقظك مراجعة ما فيه منفعك وقربتك والمصير اليه بالعقل وما
سوى ذلك غفلة وسهو يؤديان الى شهوة فيها غليان قلبك وفي ذلك موافقة نفسك
الامارة بالسوء والهوى المضل عن سبيل الله العادل بأهله عن طريق محبته وفي
ذلك توثب العدو الخبيث الذي لا يألوك خبالا الذي يجري منك مجرى الدم الذي
يراك هو وقبيله من حيث لا تراهم
قال مالك بن دينار قلوب الابرار تغلي بأعمال البر وقلوب الفجار تغلي
بأعمال الفجور فتعاهد أمرك بالمراجعة فإن دأبت مكروها
أصلحته وتحولت عنه وإن رأيت غير ذلك حمدت الله وكانت
عنايتك بذلك زيادة لك أو قربة
وإذا رأيت لك عناية بالمراجعة فاعلم أنها نعمة وقربة من أعظم نعم الله
واحق من أحسنت صحبته نعم الله التي مفتاح خزائنها رحمه الله فالتمس
الزيادة منها بالشكر عليها وأحق من أسأت صحبته نفسك الامارة بالسوء
والاساءة اليها مخالفتها فإن في مخالفتها موافقة مرضاة الله
التهاون في اليسير يوقع في الكبير
قلت فمن أهل الارادة
من لم يتخط عيبا ولا عورة الى نافلة
فما حفظ اللسان
الصمت
فما الاحتياط في التحفظ عند الكلام
قال ترك ذكر عيب من غيرك ترجو على ذكره إذا ذكر به الثواب لكيلا يخرجك ذلك
الى ذكر عيب من غيرك تخاف على ذكره العقاب وخذ نفسك بهذا الباب اشد الاخذ
واحمل عليه من الناس من استرشدك وأراد مثل الذي تريد
فإن العبد إنما يؤتى من قبل التهاون باليسير وهو الذي يوقع في الاثم
الكبير والتهاون باليسير هو الاساس الذي يبنى عليه الكثير فيكون أوله كان
تحفظا ثم صار انبساطا ثم صار من الانبساط الى ذكر اليسير ثم صار من اليسير
الى ما هو اكثر منه فلا تشعر حتى ترى نفسك حيث كنت تكره ان ترى فيه غيرك
ففي ترك اليسير ترك اليسير والكثير
وأقوى الناس على ذلك واصدقهم عزما هو الذي إذا عزم امضى عزمه ولم يلو
وأضعف الناس في ذلك أضعفهم عزما وهو الذي يعزم ثم يحل عزمه ولا يكاد يمضي
عزما
فهذا الذي يتلاعب به الشيطان والهوى والنفس ليس له عندهم قدر لكثرة
معرفتهم يتناقص عزمه وقلة استعماله وأولو العزم من الناس افاضل الخلق من
كل طبقة
القريب من التوبة والبعيد منها
صدق الندم وعلامتهقلت فمن أرجا الناس لقبول التوبة منهم
قال اشدهم خوفا وأصدقهم ندامة على ما كان منه وما شاهده الله واطلع عليه من زلله وخطله وطول غفلته ودوام إعراضه وأحسنهم تحفظا فيما يستقبل وإن استووا في ذلك فاشدهم اجتهادا في العمل
لأن علامة صدق الندم على ما مضى من الذنوب شدة التحفظ فيما بقي من العمر ومواثبة الطاعة بالجد والاجتهاد واستقلال كثير الطاعة واستكثار قليل النعمة مع رقة القلب وصفائه وطهارته ودوام الحزن فيه وكثرة البكاء والتفويض الى الله تعالى في جميع الامور والتبري إليه من الحول والقوة ثم الصبر بعد ذلك على أحكام الله عز وجل والرضا عنه في جميعها والتسليم لاموره كلها
الخطأ في طريق التوبة ونتائجه
وقال لي قد علمت من أين غلطت أحسنت الظن بنفسك فتاقت الى درجات المحسنين بخلاف سيرتهم من غير إنكار منك عليها لمساويء أعمالا ولا دفع لما ادعته من اعمال الصادقين
وأسأت الظن بغيرك فانزلتهم في درجة المسيئين إغفالا منك لشأنك وتفرغت للنظر في عيوب غيرك
فلما كان ذلك منك كذلك عوقبت بأن غارت عيون الرأفة والرحمة من قلبك وانفجرت إليه أنهار الغلظة والقسوة فأحببت أن تنظر الى الناس بالإزراء عليهم والاحتقار لهم وقلة الرحمة وأردت أن ينظروا اليك بالتعظيم والمهابة والرحمة فمن وافقك منهم على ذلك نال منك قربا ومحبة ونلت أنت من الله تعالى بعدا وسخطا ومن خالفك فيه ازداد منك بعدا وبغضا وازددت انت من الله بعدا وسخطا
وأطلت في ذلك كله أملك فطاب لك المسير في طريق التسويف ومدارج الحيرات فاشتدت رغبة نفسك واستمكن الحرص من قلبك فعظمت لذلك في الدنيا رغبتك وشحت فجمحت الى شهواتها واحتوشت قلبك لذاتها فحال ذلك بينك وبين ان تجد حلاوة سلوك طريق الاخرة
فقلبك حيران على سبيل حيرة قد اشتبهت عليك سبل النجاة وشقق حجاب الذنوب
فأنست لقربها وطاب لك شم ريحها فوصلت بذلك الى محض المعصية فادعيت ما ليس
لك وتناولت ما يبعد مرامه من مثلك
ثم أخرجك ذلك الى ان تكلمت لغير الله ونظرت الى ما ليس لك وعملت لغير الله
فكنت مخدوعا مسبوعا عند حسن ظنك بنفسك وانت لا تشعر ومستدرجاص من حيث لا
تعلم فكان ميراث عملك الخبث والجريرة والغش والخديعة والخيانة والمداهنة
والمكروه وترك النصيحة وانت في ذلك كله مظهر لمباينة ذلك
فمن كانت هذه سيرته فلا ينكر ان يبدو له من الله ما لم يكن يحتسب
فلو كان لك يا مسكين أدنى تخوف لبكيت على نفسك بكاء الثكلى المحبة لمن
أثكلت ونحت عليها نياحة الموتى حين غشيك شؤم الذنوب
ولو بكى عليك أهل السموات واهل الارض لكنت مستوجبا لذلك لعظم مصيبتك
ولو عزاك عليها جميع الخلق تعزية المحروب المسلوب لكنت مستحقا لذلك لأنك
قد حرمت دينك وسلبت معرفتك بشؤم الذنوب فركبك
ذل المعصية وأثبت اسمك في ديوان العاصين واستوحش منك
أهل التقوى إلا من كان في مثالك
فاخذ الذين أرادوا الله وحده في طريق المحبة له وسلكوا سبيل النجاة إليه
وأخذت في غير طريقهم فملت حين خالفت طريقهم الى غيره فبقيت متحيرا وعن وجع
الاصابة متبلدا
ويمثل هذه الاسباب التي اشتملت عليها طريقتك يستدل على خسران القيامة
وبالله نعوذ واياه نسأل عفوا وتقريبا مع المحسنين انه لطيف خبير
المعرفة بلا عمل وسيلة للعمل
قلت اما تخاف ان تكون هذه المعرفة حجة عليك والاشتغال بوصفها خدعة من الشيطان طويلة وصدا عن نفعها
فقال واسواتاه من غفلة واصفها عن محاستها ومن رام رمي فلم يخطىء حيث اراد فأما الامن فمحرم واما الخوف ففرض على من يؤمن بالله واليوم الآخر وبالوعد والوعيد
وقد علمت ان القصد الى نفس المحبة والعناية بها ابلغ لصاحبها واكثر له في المنفعة منه بوصف المحبة لان طللب نفس المنفعة غير طلب وصف المنفعة وانما اشتغلت بالوصف اضطرارا حيث رايت نفسي خارجا منهما جميعا فاعتنيت بمعرفة وصفها والهداية اليها رجاء ان
يوصلني ذلك الى نفس المنفعة والهداية اليها والله المستعان على ما نقول وما نضمر
خلاصة المعارف
وان العبد بين تسع مخاوف
فأولاها ان يخاف ويدعو الله ويتضرع إليه الا يكله الى حسناته التي يتعزز بها في عباد الله ظلما وعدوانا
والثانية ان يخاف من كفران النعم التي قد غلب عليه البطر بها فأشغله عن الشكر عليها
والثالثة خوف الاستدراج بالنعم وتواترها
والرابعة خوف الله ان يبدو له غدا من الله ما لم يكن يحتسب في طاعاته التي يرجو ثوابها ولم يعدها من ذنوبه
والخامسة الذنوب التي عملها واستيقن بها فيما بينه وبين الله تعالى
والسادسة تبعات الناس قبله
والسابعة انه لا يدري ما يحدث له في بقية عمره
والثامنة ان يخاف تعجيل العقوبة في الدنيا والنكال فيها قبل الفوت
والتاسعة الخوف من علم الله تعالى فيه وفي أي الدارين اثبت اسمه في ام
الكتاب
فاحذر الذنوب فإن شؤمها قريب وظلمتها شديدة واحذر الحسنات التي تباعد بينك
وبين طريق الصالحين فما اقرب القارىء المتعبد بغير معرفة ان يتكبر على
عباد الله عز وجل ويمن على الله سبحانه وتعالى بالحسنات التي لو وكله
اليها كان فيها هلاكه وما اقربه من ان يطلب الناس بما اراده الله منهم من
الطاعة له عز وجل والاجلال والاعظام والقدر العظيم
ولا يؤمن على القارىء غير الفقيه ان يسيء اليهم ويطلب منهم الاقرار
بالاحسان ويعطيهم من نفسه ما اراد الله منه
ان الله تعالى اراد منه ان يتزين له ويتعبد له ويخلص له العمل وحده فأعطى
هو للمخلوقين ذلك من نفسه
المدح والذم
الفرق بين الرياء وحب المدح وكراهة الذم
قلت الرجل يقول انه ممن لا يريد بعمله جزاء ولا شكورا وهو معروف بأعمال البر بالصلاة والصدقة والصيام وغير ذلك وقد مدحه قوم فسره ذلك جدا وفرح به وذمه آخرون فساءه ذلك جدا وكرهه حتى عرف من نفسه التغير لكلا الفريقين جميعا كيف يعرف هذا نيته وحب المحمدة وكراهية المذمة ثابت في قلبه والمرائي يحب الثناء ويكره المذمة
قال انه لا يجب على الناس ان يكرهوا الثناء الحسن والمحمدة ولا يجب عليهم ان يحبوا المذمة عملوا الحسنات او لم يعملوا اذا لم يكن ذلك منهم من معنى فاسد لأن المرائي وان كان يريد العمل على ان يحب المحمدة ويكره المذمة فإن الصادق لا يجب عليه ان يكره الثناء ويحب المذمة
وان اكثر الصادقين قد مدحوا واثني عليهم ولم يضرهم ذلك شيئا
وانما الفرق بييننهما ان المرائي ارادته وأمله في عمله جاه الدنيا والمنزلة عند اهلها فأفسد عمله بنيته وارادته نال الذي اراد من ذلك او لم ينله حمدوه على عمله او لم يحمدوه ذموه او لم يذموه
وغير المرائي انما كره المذمة لحال ما فيها من الكراهية مثل السقوط من
اعين الناس والبغضة والمقت من المؤمنين واشباه ذلك والثناء الحسن والقول
الجميل احبه لموضع ستر الله ولما جاء من الرجاء في الثناء الحسن والقول
الجميل والمحبة من الناس ومودتهم له وكان اعتقاد نيته وعزمه في اول امره
وآخره الا يريد بذلك إلا وجه الله وحده والدار الآخرة حمدوه او ذموه احبوه
او ابغضوه
الخوف من تحول النية
وربما كان اعتقاد الرجل عند عمله ارادة الآخرة ثم ينتقل قليلا قليلا الى ارادة الدنيا وذلك انه شيء خفي والعامة تقل معرفتهم به وعنايتهم بذلك وتكثر غفلتهم وسهوتهم عنه وقد كان ينبغي ان تكون عناية المؤمن بذلك اكثر من عنايته بما يعمل من الاعمال الظاهرة لان اعمال الجوارح لا يمكنه ان يقلبها ولا يغيرها عن حالها والنية لا يأمن عليها الفساد وان كانت صادقة صحيحة ان تتحول من احسن ما كانت عليه الى اقبح ما تكون عليه وافسده لعمل صاحبها
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم الاعمال بالنية وانما لامرىء ما نوى
فالاعمال بالنية تكون وعن النية تكون فالعبد احوج الى معرفة النية ومعرفة
فسادها اذ كانت الاعمال انما تصح بتصحيحها وتفسد بفسادها وان جميع ما
نذكره انما هو وصف للعمل وللحقيقة والصحة علامات غير هذا
وان الاعمال كلها عملان عمل تمكن فيه النية وعمل لا تمكن فيه النية والعمل
لغير طاعة الله او على غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تمكن فيه
النية والذي تمكن فيه النية عمل في طاعة الله على السبيل والسنة والناس
فيه صنفان
صنف يعرفون النية وصنف لا يعرفون النية
والذين يعرفونها صنفان
صنف يقنعهم النظر فيها بالجزاف والاماني وصنف لا يأتمنون انفسهم عليها ولا
يعنون الا بما يصح لهم من ذلك عند الميزان وهو المحنة محنة نفسك
وجوب الدقة في مراقبة القلب
ومن الناس من يرى أنه يكره المحمدة والثناء اشفاقا على عمله وخوفا
من فتنته فلا يعبأ بما يخيل إليه من ذلك ويظن لأن كثرة
ما يظن الناس من ذلك ليس كما يظنون حتى ينظروا الى تحقيق صدقه عند البيان
فليراجع العبد نفسه اذا اثني عليه او مدح او ذموه او نسبوه الى ما يكره
فإن كان ما اعجبه من الثناء والمدحة انما أعجبه لمعنى ما قلنا من الستر
والرجاء في الثناء الحسن والقول الجميل لمثل قوله تعالى { وألقيت عليك
محبة مني } { وآتيناه أجره في الدنيا } قال الثناء وقال { وآتيناه في
الدنيا حسنة } قال الثناء الحسن وقوله { واجعل لي لسان صدق في الآخرين }
قال الثناء الحسن
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل يعمل العمل يريد به وجه الله
فيحمده عليه الناس ويثنون عليه به فقال تلك عاجل بشرى المؤمن وقوله صلى
الله عليه وسلم في العبد اذا احبه الله لم يخرجه من الدنيا حتى يملا
مسامعه مما يحب وقوله انتم شهداء الله في الارض واشباه ذلك في الكتاب
والسنة
فإن كان سروره بما ذكر به من الخير شكرا لستر الله عليه وحمدا
منه لله اذ جعله الله عز وجل ممن يذكر بعلامة الخير
فليس ذلك بسرور فاسد ولكنه شكر وطلب لامزيد
وعلامة سلامة نيته في ذلك ان يزداد لله تواضعا ولآلائه شكرا وفي طاعته
اجتهادا ومع ذلك ينبغي ان يرد نفسه الى طريق المخافة من الاستدراج ويكون
ما خفي من عمله احب إليه مما ظهر مخافة ما يلحق اهل الصلاح من الفتنة فيما
يستمعون من المدحة والثناء ولما جاء من النهي والكراهة والتزكية والمدحة
ان يسمع صاحبه وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم من مدح اخاه في وجهه
فكأنما أمر على حلقه موسى رميضا ومثل قوله عليه السلام لو سمعك ما أفلح
ومثل قوله صلى الله عليه وسلم عقرت الرجل عقرك الله وهذا نحوه كثير
فإذا كان مذهبه ونيته شكر الله على ستره وحمد الله على نعمته ويكون ما سبق
من السرور الى قلبه في ثناء اذا سمعه رجاء القدوة به اذا كان ممن يصلح ان
يقتدى به لقول الله عز وجل { واجعلنا للمتقين إماما } يقول أئمة في الخير
يقتدى بنا
فإن كان كذلك رجوت الا يضره ذلك ولا يفسد عليه عمله
وقد ذكر عن مطرف انه قال ما سمعت ثناء او مدحة الا تصاغرت الي نفسي
وقال زياد بن ابي مسلم ليس احد مسمع ثناء او مدحة الا تراءى له شيطان ولكن
المؤمن يراجع فقال ابن المبارك صدق كلاهما
اما ما ذكر زياد فذلك قلب العوام واما ما ذكر مطرف فذلك قلب الخواص
وان كان مذهبه ونيته اذا سمع ذلك وسر به طلب الرفعة والمنزلة عند الناس
فما أسوأ حاله في احباط عمله
مذهب الصالحين وأهل الرياء في المدح والذم
وأما المرائي فهو الذي يكون مذهبه ونيته في أول عمله وآخره طلب الثناء والمحمدة والرفعة والتكرمة عند الناس واحراز المنافع به فذلك الذي جاءه الويل والثبور في الدنيا والآخرة
فإن كان يعرف معرفة حق أن ما أعجبه لهذا المعنى ولم يعجبه ذلك لما نال من الجاه عندهم فلا جناح عليه
وعلامته أن يزداد تواضعا ويحدث خوفا من الاستدراج وما يخفى من عمله فهو أحب مما يظهره لأنه طمع في طريقة الصالحين فعلى قدر ذلك ينبغي أن يرغب في أعمالهم وما نالوا به اسم الصلاح وصاروا من أهله مع ما يلزمه من الخوف من الفتنة مما يلزم أهل الثناء والمحمدة اذا اثني عليهم او مدحوا مثل قوله عليه السلام عقرت الرجل
ومثل قوله لو سمعك ما افلح وقوله قطعت عنق اخيك وقوله
اياكم والمدح فإنه الذبح وقوله اذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوهم التراب
وقوله لو مشى رجل الى رجل بسكين مرهف كان خيرا له من ان يثني عليه في وجهه
ومثل هذا كثير
وصاحب المدحة الخوف عليه اكثر من الرجاء لأن الخوف لا يضره والرجاء لا
تؤمن فتنته
وعلامة اصحاب الجاه في الدنيا واصحاب الرياء المحبين لذلك انهم اذا سمعوا
الثناء والمحمدة احبوا ذلك وازدادوا عزة وإعجابا بأنفسهم وغفلة عن
الاستدراج وتمادوا وتمنوا وطمعوا ان ما ظهر عليهم من اعمالهم كان احب
اليهم ما خفي ولم يخافوا من فتنة ولا من آفة
وكذلك اذا كره المذمة انما كرهها لأنه احب ان يكون مكانها مدحة وثناء
لينال بذلك الجاه والقدر والمنزلة والرفعة عند الناس فهي كراهية سقيمة
مذمومة وصاحبها مغرور مخدوع
وان كان انما هي حب منه لستر الله عليه وكراهية هتك الستر عنه لأنه لم
يمقته الناس حتى جاءه المقت من عند الله قبل مقت الناس فإن كانت الكراهية
انما هي من هذه الجهة فإن هذا يكرهه الصادق وغير الصادق فلا يلام عليه
وعلامته التضرع والاستكانة والمراجعة والنظر في التخلص الى طريق محبة الله
تعالى وسبيل الاستقامة ومحجة الايمان والجد فيه
زيادة بيان لعلامات الفريقين
وأبين من ذلك ان كل من زعم انه يريد بعمله وجه الله ولا يريد من احد على عمل يعمله من الاعمال الصالحات جزاء ولا شكورا ثم عرفه الناس بعمله وذكر به وصار معروفا عندهم ونال منهم الرفعة فإن كان يعرف من نفسه أنه عرض عليها ان يتحول اسمه وما نال بعمله من الناس من الثناء والمحمدة الى غيره ويبقى هو عند الناس كمن لا يعرف له عمل من اعمال البر ذكر ولا غيره فكان هذا احب إليه فأمره مرجو
وان كره ان يتحول ذكره الذي كان عليه الى غيره ويبقى هو كمن لا يعرف له عمل من اعمال البر فدعواهه حينئذ باطلة
لأن الذي يقوله انه يريده بعمله ولا يريد غيره فإذا تحول ذكره الى غيره لم يحول الذي عمل له العمل الثواب الى غيره ولم ينقصه من ثوابه شيئا ولعله ان يكون اكثر له عنده واقرب مثوى
والذي كان يزعم انه لا يريدهم به كره ان يزول عنه الاسم الذي ثبتت له عندهم به المنزلة وكره ان يبقى عند من زعم انه لا يريدهم بلا ذكر عمل يعرفونه به
ومثل هذا ينظر ان كانت له خصلة عند الناس من خصال البر فنسبوه اليها ويظنون انه صاحبها غلطا منهم بها وجهالة فكره ان يعرفوا ذلك او يطلعوا عليه وكره ان يعرفوا انه ليس ممن يعمل بتلك الخصلة او له عمل من البر وعند الناس ان ما يعمله من البر اكثر فيكره ان يطلع الناس عليه فلا يعبأ بمحبة نفسه عند الذي يعمل من اعمال البر فإنه ممن يحب ان يحمد بما لم يفعل
ولا يمكن ان يكون واحد يحب ان يحمد بما لم يفعل ولا يحب ان يحمد بما قد
فعل حتى يحبهما جميعا
كذلك ان صحب رجلا معروفا بالصلاح والعبادة عند الناس او له سبب قد نال به
ذكرا من غيره فكره ان يسقط ذلك عند الناس ولم يعبأ بمحبة نفسه عندما يعمل
من أعمال البر فإنه ممن يحب ان يحمد بانتسابه الى غيره ولا يمكن ان يحب
الذكر بعمل غيره ولا يحب ان يذكر بعمل نفسه الذي يعمله حتى يحبهما جميعا
فإن وجد نفسه في هذه المواضع صادقة على ما يجب عليها فيه الصدق فأرجو أن
يكون من أهل الصدق إن شاء الله تعالى
اليقين والعز
صدق اليقين
واما اليقين فعند العمل والصدق فيه مشاهدة الثواب والعقاب فليس بكثرة النفقة ولا بكثرة الكلام ولا يحتاج فيه الى تحريك الشفتين ولكن بالايمان وبالعقل وبالمعرفة وحسن التدبير في ظاهر امر العبد وباطنه
فتعرف الصدق وتعرف ضده من الكذب وتعرف الخير وتعرف ضده من الشر فتعمل في اثبات الصدق ونفي ضده وتعلم الاصل من الفرع فيكون الشغل في اثبات الصدق من وجه الاصل وانتفاء ضده من وجه الاصل فإن الاصل يأتي على الفروع
وما دام العبد يشتغل بالفرع عن الاصل فليس لشغله فناء ما دام الاصل ثابتا كلما ذهب فرع اخلف فرعا آخر بدله
العز في النفس أصل مرض القلوب
وحب العز اصل ومنه مخرج حب الرئاسة والجاه عند الناس ومنه الكبر والفخر ومنه الغضب والحسد ومنه الحقد والحمية والعصبية والنفس عاشقة له وهو قرة عينها وهو احب اليها من ام واحد لواحدها
وبلغني انه آخر ما يبقى في قلوب تاركي الدنيا للآخرة وذلك لصعوبة تمكنه من النفس
فالعمل الصالح من غير المريد المستحكم من اهل القراءة سلاحه الذي يقوى به سلطانه هو العز في النفس والفخر بالعمل والازراء على الناس
وقد رأينا من يعمل اعمال الصالحين من الصلاة والصيام والصدقة والحج والجهاد وعزه في نفسه زائد نعم وقد رأينا من يتواضع لطمع زيادة في العز
ولا اعلم أني رأيت احدا من اهل النسك خاليا منه يعني من العز
فإن كان يجد بقاء حلاوة طعمه لم يفلح معها عابدا كان او زاهدا
وكيف يكون زاهدا والزهد لا يأوي معه في مأوى واحد
فمن عالج نفي العز من نفسه ووفقه الله لذلك فنال نفيه سهل عليه المسير في
طريقة محبة الله عز وجل ومحجة الايمان وسبيل الاستقامة ومدارج الصالحين
وهان عليه معالجة الصدق في عمله واطمأنت نفسه الى التذلل والتواضع وطاب له
طريق العدل
لانه لا يقدر ان يحب للناس ما يحب لنفسه وفيه العز ولا يقدر على كظم الغيظ
وفيه العز ولا يقدر على قبول الحق وفيه العز ولا يقدر على التواضع الذي هو
شرف التقوى وحليتها وفيه العز ولا يقدر ان يدوم على الصدق وفيه العز ولا
يقدر على ترك الحسد وفيه العز ولا يقدر على ترك الحقد وفيه العز ولا يقدر
على ترك العصبية وفيه العز ولا يقدر على سلامة القلب وفيه العز ولا يقدر
على النصح وفيه العز ولا يسلم من الازراء على الناس وفيه العز
فما اكثر ضرره واعظم فساده واظهر امره واقل رشده وابين غيه عند الخاص
والعام وما اغفل الناس عنه واقل معرفتهم به واشد متابعتهم له
فالهوى حكمه والكبر اخوه وعضده والجور سيرته والغضب سلطانه والرياء عون من
اعوانه له يكسب واليه يؤدي والعجب اضعف عون له والحسد امير جنوده والغل
صاحب مشورته
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبر والحسد يأكلان الحسنات كما تأكل
النار الحطب وقال بعضهم الغل والحسد
العز عام في الخلق وخاص في القراء
والعز في الخلق عام في العبيد والاماء والفقراء والاغنياء والضعفاء والاقوياء والقراء والعلماء و كل واحد منهم يظهر منه على قدر ما يمكنه اظهاره ومن لم يمكنه الاظهار عامل الناس به سرا في نفسه لانه ما دام في الانسان لا يترك حظه منه سرا ولا علانية
اما تراه كيف يتغيظ في نفسه على غيره وكيف يحسده ويدور حوله يطلب عوراته وكيف يحكم فيه بحكم الهوى
ولو ملك من ذلك في الظاهر ما ملك في الباطن لأظهر مثل الذي اضمر من ذلك في الباطن
واقبح امره وافسده له واشده فضيحة اذا كان في القارىء لانه لا يكاد يتعزز على غيره بسبب من الاسباب الا بأسباب الدين والا رأيت فيه اثر ذلك
فسبحان الله ماذا يلقى القراء خاصة من العز ومن اعوانه
يدلك على ذلك سرعة حقدهم وكثرة غضبهم لانفسهم من طريق الاعزاز لها وما يجدون على الناس فيه مما لا خطر له وذلك كله من داء العز وحركته امر لم يجز لاهل الجنة ولا للملائكة ولا للنبيين يريد القارىء ان يجوزه لنفسه وان يجعله فوق رأسه
وانما كان ينبغي للصادق في قراءته العمل في اطفاء العز من قلبه من اول
امره وان يجعله تحت قدميه ولو ان رجلا صلى الغداة ثم اقبل على نفسه واصلح
خصلة من خصال العز ليس العز كله وآخر تصدق بوزن نفسه ذهبا على اكباد جائعة
من وجه طيب لكان الاول اغبط وكانت النعمة عليه اكبر والشكر عليه اكثر عند
اهل المعرفة والعلم
فكيف اذا اصبح وهو لم تكن له همة الا العناية بالعز لنفسه لتجربته له
ومعرفته له
وآخر اصبح ولم تكن همته ولا محبته الا العناية بنفي العز من قلبه ولزوم
التواضع وذل النفس لتجربته لنور التواضع ومعرفته بفوائده
فهنيئا لمن شغله مثل شغله ما انفعه من شغل وارضاه عند مليكه واروحه للقلب
فاعتبر برجلين امرا بالعبودية واحدهما احب ان يجعل نفسه عبدا كما امر واحب
الآخر ان يجعل نفسه ملكا أي هذين اولى بالجائزة من المولى وايهما يستأهل
العقوبة الموجعة
وسائل علاج العز
قلت قد وصفت من فساد العز وضرره وشره ما قد وصفت فصف
لي طريق التحرز والامتناع منه فإن المريض اذا عرف داءه
احب ان يعرف دواءه وهكذا من احب ان يعرف عيب نفسه يحب ان يعرف الذي يصلح
به عيبه
فقال إن ابن آدم تكلف نزول الطير من جو السماء فأنزله
وتكلف خروج الحوت من قعر البحر فأخرجه
وتكلف إخراج الذهب والفضة من بطن الأرض فأخرجها
وتكلف اخذ الدواب والأنعام والوحوش والسباع من البراري والغياض فأخذها
وذللها وسخرها
وتكلف اخذ الأفاعي والحيات فأخذها
وتكلف معالجة الشياطين فعالجها
وتكلف معرفة النجوم في السماء وأسماءها ومجاريها ومطالعها ومغاربها وتكلف
منازل الشمس والقمر ومجاريهما ومطالعهما ومغاربهما
وتكلف معرفة الولد اذا لم يكن من ابيه فعرف ذلك كله لما تكلفه
وتكلف مرض المريض واسباب علله بالنظر الى بوله من غير ان ينظر اليه فعرف
داءه وعرف دواءه فعرف كل ذلك
وتكلف تعلم سير الملوك الماضية من القرون الأولى فكتبها ودرسها
وكل ما تكلف من ذلك فإنما حمل نفسه على تكلفه لطلب الزيادة من الدنيا وليس
في هذا من امر دينه الذي كلفه شيء
وكلف تقويم نفس واحدة فلم يقم بتقويمها وليس عليه من فساد غيرها شيء لم
يكلف إلا بإصلاح فساد نفسه وحدها فلم يقم بإصلاح فسادها فجهل بعض الصلاح
وعلم بعضا فما جهل فهو جاهل به لا يتكلف علمه وما علمه من فسادها فهو مضيع
لاصلاحه
ولم يكلف احد ان يصوم ولا يصلي ولا يزكي ولا يحج ولا يتوضأ ولا يغتسل عن
احد انما كلف نفسه ليس لاحد من صلاح احد شيئا وانما صلاح كل امرىء وتقواه
لنفسه وفي ميزانه ليس في ميزان غيره منه شيء
وهكذا النية في الاعمال لا تنفع نيتي عملك ولا تنفع نيتك عملي اذا كانت
صحيحة ولا تضره اذا كانت سقيمة وانما المنفعة والمضرة على صاحب النية
وصاحب العمل وانما هي نفس واحدة فإذا صار الى أمر نفيسته لم يعرف خيرها من
شرها ولا اقبالها من ادبارها
يعمل الخير فلا يدري مقبل هو فيه ام مدبر الا بظاهر العمل والدعوى ولا
يدري أي شيء يعمله للدنيا او للآخرة ليس يميز بين الامرين ولا يفاتش الهمة
فيه والمحبة له ولا الخشية فيه ولا يتوقف ولا يحسن أن يطالع ضميره فهو
يفسد الخير بالشر ولا يشعر
هو في ظاهرة مقبل وهو في باطنه مدبر وهو في ظاهره آبق الى الله وهو في
باطنه آبق من الله
فسبحان الله ماذا تكلف المسكين من معرفة ما لم يكلف فشغل
عنايته فيه وشغل فهمه به وأما الذي جهل فضيع من معرفته
فهو ما قد كلف وأخذ عليه فيه المواثيق
يدخل عليه الشر والفساد فلا يدري من اين دخل وانى اتاه وكيف هو وما السبيل
الى التخلص منه فبقي عند ذلك تائها حيران وقد عالج ما في الهواء وما في
قعر البحار فعرفه لما شغل عنايته به لمعنى دنياه الذي قد تكفل الله له
منها بما قدر له وضمن له الوفاء بها أقبل عليها أو أدبر عنها
فغلب المسكين الخلق وغلبته نفسه ولو عني بمعرفة فساد نفسه وصلاحها وخيرها
وشرها وخاف التلف عليها كما عني بمعرفة ما ذكرنا من امر دنياه المضمونة له
لعرف من فسادها وصلاحها مثل ما عرف من ذلك وقدر منه على ما قدر من ذلك
ولكنه رضي ان يسلك طريق الدين بالجهالة ولم يرض ان يسلك طريق الدنيا الا
بعلم وبصيرة ومتى شئت رأيته في طريق الدنيا وهو يحسب أنه في طريق الآخرة
ومع ذلك فإن بعض المدبرين عن الله تعالى المعرضين عنه قد تسموا علماء
ونصبوا أنفسهم للدلالة على الله وهم حيارى متصنعة مدخولون متشبهة يحسبهم
الجاهل أدلاء وهم عمى حيارى فإنا لله وإنا إليه راجعون
واعلم أن العز والتعزز ليس بغائب قادم عليك فتريد التحرز منه والامتناع
عليه ولكنه شيء قد حل بك ونزل وتمكن من المنزل واستوى
وجلس في صدر المجلس وأخذ منك خيرك وغلب أخير موضع فيك واتكأ على متكئه
واستخدم أعوانه بما يوافق هواه في اقبالهم وادبارهم
ولا اكثر عليك من صفات فروع دوائه فتمل وتعرض ولكن ادلك على الاصل الذي
اذا عالجته أتى على الاغصان كلها وهو الاياس من جميع المخلوقين أن يضروا
أو ينفعوا أو يعطوا أو يمنعوا أو يحيوا أو يميتوا فألزمه قلبك فإنه أصل
الاصول ورأس الامر وسنامه
فإن كنت مريدا صادقا تحب النظر في عواقب الامور فأغلق على نفسك باب الطمع
وافتح لها باب الاياس وانفرد لذلك بإرادتك كلها وتجرد في طلبه كالذي ليس
له من حوائج الدنيا كلها الا حاجة واحدة
وتعزم عزما صحيحا على ان تهب نفسك لله في بقية عمرك ان كنت تراه لذلك أهلا
سبحانه وتعالى ما أغناه عن اهل السموات وأهل الارضين وما أشد اضطرارهم
اليه
فاجعل يا أخي نفسك كهيئة الاسير في ايدي أهل زمانك أيام حياتك في اتباع
مرضاة الله عز وجل و التخلص من بلية العز فإن الاسير مملوك لا يملك ولا
يطمع ان يظلم احدا ولا ينتصر من ظالم ثم تجد حلاوة طعم ذكر الله ولذاذة
المناجاة في عبادة الله
وانما قلت لك استخراج العز وقطعه عن قلبك باليأس من الناس لانه يردك الى
الله ورجوعك الى الله سكون قلبك عليه وفي سكون قلبك
عليه الازدياد من طاعته والوصول الى خاصية عبادته وفي
الوصول الى خاصية عبادته النزول عند درجة العبيد وفي النزول عند درجة
العبيد اصابة شرف العبودية ومن اصابة شرف العبودية اكتساب القلب المذلة
لله عز وجل فأعزك بطاعته وخضعت له فشرفك بعبادته قال الله عز وجل
{ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } وقال في المذموم من العز { كذلك يطبع
الله على كل قلب متكبر جبار }
قلت وكيف يميز بين العزين
قال اما المذموم منهما فينبو عن طاعة الله والمحمود منهما يزيدك تذللا في
طاعة الله عز وجل
واعلم ان الامر اذا انتهى في الضيق اتسع وما هو الا قطع الطمع واستعمال
الاياس فإذا انت قد صرت في وادي الروح والراحة والفرح فتنعمت مع اهل هذه
الدرجات بذكر الله والتلذذ بحلاوة المناجاة والبكاء من خشيته ذقت حلاوة
اليقين وفرح الرضا وراحة التفويض وخفة محمله ثم صرت تنظر الى من يتعذب
ويجول في سلطان العز وملكه
فهنيئا لك حينئذ تصبح وتمسي ليس لك هم ولا حزن الا فيما انت
وارد عليه من امر آخرتك والله ينظر الى همتك و ارادتك في واد والناس في واد غيره
فقه التجارب والعناية بالنفس
واعلم انه من كان من اهل العناية بنفسه ورزق فهم التجربة بلغ معرفة الخير والشر وعرف من اين وكيف وعبر ووصف وفهم وفطن ونطق بالحكمة وكان ما يسمع من الموعظة زيادة له في فهمه ومعرفته ووصفه ودقائق فطنته وسر حاجته
ومن كان من اهل العناية ولم يرزق فهم التجربة عرف من معرفة الخير والشر على قدر عنايته ووصف عن صفتها وعبارتها ومن اين وكيف وضعف عن النطق بالحكمة وكانت الموعظة زيادة له في معرفة خيره وشره
ومن لم يرزق الفهم وليست له عناية فهو لا ينطق بلسانه عند الكلام ولا يعقل بقلبه عند السماع
ويروى ان الحكمة تقول من طلبني فلم يقدر علي فليعمل بأحسن ما يعلم وليدع اشر ما يعلم
وقال الامور منافعها متفاوتة وضررها متفاوت فمنفعة بعضها
اكثر من بعض وضرر بعضها اكثر من بعض ونجد اكثر الناس
انما عنايتهم بإصلاح ما هو اقل ضررا فهم في اصلاح ذلك اكثر من اصلاح ما هو
اكثر ضررا وطلبهم لما هو اقل منفعة اكثر من طلبهم لما هو اكثر منفعة
وبعض الامور تركها اشد على العبد من بعض وصاحب الارادة لا ينبغي ان يغلط
في هذا ولكن يفاتش اموره كلها مفاتشة شديدة بالعناية وغائص الفهم ودقائق
لطائف الفطن حتى يعلم ما هو اشد عليه في الترك ويعلم ما هو اسلم له وانفع
له فيجعل جده وجديده ومعرفته وعلمه وفهمه وكياسته وعنايته وفطنته فيما هو
اشد عليه في الترك واكثر ضررا عليه
والناس في ذلك مختلفون فرب رجل يهون عليه ترك شيء يشتد على غيره ويشتد
عليه ترك شيء يهون على غيره تركه ويشتد عليه طلب ما يهون على غيره ويهون
عليه طلب ما يشتد على غيره لانه حبب الى هذا من الاشياء ما لم يحبب الى
غيره وبغض اليه من الاشياء ما لم يبغض الى غيره
وربما كان امران ضاران كلاهما واحدهما اكثر ضررا من الآخر ومؤنه تركه ليست
بأشد على صاحبه من تركه الآخر ولكن المعرفة تقصر بالعبد عن حسن المأخذ له
والترفق فيه فهو لما هو اشد عليه تركه واقل ضررا اقوى واترك له مما هو
اكثر ضررا واهون عليه تركه وهو عن ذلك اضعف وأعجز عنه
ولا يعرف هذا الا من يقلب الامور تقليبا ويفاتشها تفتيشا فينظر هذا الذي
يؤتى منه ما سببه ثم لم ير على نفسه من ترك ذلك السبب كبير
مؤنة فيقول لا اترك هذا ولكن اترك هذا الذي يشتد على نفسي تركه وليس فساد هذا الامر الذي قد عزم على تركه وهو اشد عليه كفساد هذا الامر الذي لم يعزم على تركه
الغفلة واليقظة
خصائص الغفلة واليقظة
قلت فما الذي بطأ بالخاصة والعامة عما هو اكثر لهم ضررا واشد عليهم
قال قد اخبرتك ان الناس فيه مختلفون فرب شيء هو اسلم من شيء آخر ورب شيء هو اضر عليهم من الآخر
واما انا فلا اعرف خصلة اكثر في الناس ولا اغلب عليهم ولا اكثر ضررا ولا اشد عليهم تركا على الخاص والعام والعالم والمتعلم والجاهل من الغفلة
وأشد الغفلة الذي أنت عنه غافل وبه جاهل
وأشد ذلك على الناس وأكثر عندي فيهم الاعجاب
انظر هل ترى احدا هو عند نفسه جاهل في امر الآخرة وأمر
الدنيا
انظر هل ترى احدا يتعرض لشيء لا يعلمه وليس هو حرفته الا يقول انا به عالم
وانما اتي هذا الجاهل المغتر المدعي لعلم الآخرة من قلة قدر الآخرة في
قلبه وقلة تعظيم حرمات الله عز وجل
وانظر هل ترى احدا عند هذا الغافل المغتر الجاهل ارفع عند نفسه منه واعلم
منه فيقر بذلك على نفسه الا ما لا يجد منه بدا ولا يستطيع دفعه
قلت فما الذي ترجو ان يكون اصلح لهم وانفع
قال التيقظ اصل كل خير كما ان الغفلة اصل كل شر فما اكثر من يكون عند نفسه
متيقظا وهو غافل وما احب اليه التغافل عن التيقظ وآنسه بالغفلة
واعلم ان أبين علامات التيقظ الهم والحزن ثم حسن الاستعداد لما اهتم له
وحزن عليه
وابين علامات الغفلة البطر والمرح لانهما يسهيان وينسيان التيقظ وفي ترك
التيقظ ترك الاستعداد لما بعد الموت
قلت فما التيقظ وما الغفلة
قال التيقظ تقريب الاجل ومراقبة الموت والفكر فيما يصير اليه العبد من بعد
الموت ومن هذا يفتح لك باب العمل فتبتدر اليه قبل ان يبتدر اليك الموت
وتستغنم كل ساعة من حياتك قبل انقضاء الاجل
فإن رزق العبد الدوام عليه نبع من ذلك ينابيع الخير ان شاء الله عز وجل
واما الغفلة فطول الامل ونسيان ذكر المعاد الا بالخاطر ولا يدوم عليه
العبد
ولا يدوم عليها العبد الا رمى بالخير وراء ظهره ومنها يتولد التسويف
والوقوع في بحر الآثام
كيف تكون القوة على اليقظة وترك الغفلة
قلت فهل من شيء يقويني على التيقظ وترك الغفلة
قال نعم اخلاص الدعاء ومصاحبة من يريد ما تريد ومفارقة من لا يريد ما تريد فإن صحبة من لا يريد ما تريد تضرك وانت لا تشعر وصحبة من يريد ما تريد تنفعك ولا تضرك وان كنت لا تشعر
وانما الناس يؤتون من ثلاثة اشياء من الغفلة والغلبة والجهالة ورب رجل تجتمع فيه الثلاث خصال وان قلت اني لا اعلم من ابرئه منها لكنت صادقا
وقال كن ممن يحب على الخير ويحب عليه ولا تكن ممن يريد
ان يحب على الخير
وقال كل شيء ليس فيه نفع ولا مرفق فلا تمكن فيه النية وكل شيء فيه نفع
ومرفق لا يجوز الا بنية
وقال عجبت ممن ضعفت نيته في حسناته وصحت نيته في شهواته ولا يكون ذلك كذلك
الا من المخدوعين المموه عليهم او من الخادعين المموهين
وقال من صحح خصلتين فقد استحكم اموره كلها من صحح لم ولم يقول لم لم اعمل
ولم عملت ولم لا أعمل ومن ضيع أو جهل فعلى حسب ذلك
وقال اعزل من اخلاقك ثماني خصال التكلف في القول والعمل والمراء والمداهنة
والجريرة والخب والخداع والمزاح والتغيظ
وقال التغافل عما يكره الله قسوة في القلب وفي قساوة القلب ذهاب حلاوة
الاعمال وفي ذهاب حلاوة الاعمال قلة الطاعات وفي قلة الطاعات قلة الشكر
وفي ترك الشكر فساد ما عملت وحرمان ما طلبت وانقطاع الزيادة
وقال انك في زمان اسلم الناس فيه جائع مستوحش من الناس محزون مهموم
وقال الجوع يكسر النفس والشبع يهيج البطر وفي الجوع قوة الهم والحزن وفي
الهم والحزن قوة على الجوع والهم والحزن يقطعان الشهوة والرغبة
وقال الانسان محارف للتفريط معتاد للبغي شغوف بالتسويف مجبول على الملل
والنسيان وهو موصوف بعدم العزم مطبوع على الامل منعوت بالجزع عند الشدة
وبقلة الشكر عند النعمة مولوع بالانخداع والاغترار
وقال معرفتك بعيبك وعيب غيرك سواء فمن لم يعرف عيب غيره يعرف عيب نفسه
فإذا ظهر لك من عيوب الناس ما خفي عليك من عيبك استدللت بعيوب الناس على
عيبك واذا ظهر لك من عيبك ما خفي عليك مثله من عيوب غيرك فلا توقع ذلك
بغيرك حتى يظهر لك منه مثل ما ظهر لك من نفسك وتجسس عليها وفاتشها وواقفها
وحاسبها وخذها بأداء ما عليها أشد الاخذ ولا تطلبن ذلك من غيرها
فإذا ظهر لك من غيرها شيء فأمكن طلب العذر له فأطلبه
واما نفسك فلا تطلبن لها عذرا وان اعتذرت فلا تقبلن منها
وقال اعمال البر كلها على وجهين سر وعلانية فمن لم يقدر على تصحيح السر
فيما يعمل من السر كان للتصحيح فيما يعمل من العلانية ابعد ومن قوي على
تصحيحه في العلانية كان فيما يسر من أعماله أقوى
وهكذا في القليل والكثير من لم يقدر على تصحيح النية في القليل من العمل
كان في الكثير منه أبعد
وقال الرياء على وجهين رجل قد عمل اعمالا من البر فنال بها ثناء وجاها
وقدرا وهو يريد فيما يستقبل من الاعمال الاخلاص فمن لم يقدر على ترك
الرياء فيما يستقبل كان فيما عمل ونال به الجاه والقدر والمحمدة من الناس
من الاخلاص أبعد
وهكذا في كل شيء ترك ما لم تملكه أيسر من ترك ما قد ملكته
النية بين الصدق والغفلة
قلت فمن احق الناس بصدق النية
قال اشدهم لها حبا
قلت فمن أبعد الناس من صدق النية
قال ازهدهم فيها وازهد الزاهدين فيها انساهم لها وانسى الناس لها اجهلهم بها
وقال اول علامات الرياء رضا الرجل بجهالة صدق النية في اعماله واول علامات صدق الرجل عنايته بمعرفة صدق النية واخلاص العمل
وقال النبي صلى الله عليه وسلم العمل بالنية
وقال اخوف ما اخاف عليكم الشهوة الخفية
فما بال العبد يتعلم كيف يعمل ويتحمل مؤنة العمل فيعمل بما قد علم ولا يتعلم كيف ينوي فيتعلم من العلم ما يعمل به وما لا يعمل ولا يتعلم صدق النية لا فيما يعمل به ولا فيما لا يعمل
يعيش ما عاش ويموت اذا مات ولم ينتبه لذلك والرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده الائمة واهل العلم والمعرفة يحذرون من الرياء حتى ان بعضهم قال ادخل البيت المظلم فأصلي فيه ركعتين لعلها تخلص لي وقال الثوري ما كنت اعتد بعمل يراه الناس
ولو كتبنا في هذا الكتاب مثل هذا لاحتجنا الى دفاتر
فالذي قد عرف من الرياء ما جهله غيره وعني به واهتم له في ليله ونهاره
ولعل ما يخدع فيه ويغلب عليه اكثر من الذي يصير الى ما يريد منه فكيف
بالجاهل به المعرض عنه
علوم النجاة
جماع ما يجب من العلم
وثلاثة ابواب من العلم على الناس ان يعرفوا ما خفي منها وما ظهر بابان فيما بينهم وبين الله تعالى وباب بينهم وبين الناس
فأما الذي بينهم وبين الناس فالنصح لقول النبي صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة فيما خفي من الاشياء وفيما ظهر وما قل وما كثر للقريب والبعيد والعدو والصديق
والذي بينهم وبين الله تعالى باب النية وتصحيحها والارادة في الاعمال فيما خفي وما ظهر وما قل وما كثر لقول النبي صلى الله عليه وسلم الاعمال بالنية
والباب الثاني معرفة الرجل نفسه
حقيقة النصح
واما باب النصح فتكون نيته وسيرته ومذهبه في السر والعلانية ان امور الامة كلها لو اجريت على ما في ضميره وسريرته لاحب انها رشدت امورها واطاعت ربها وصار الى كل واحد منهم حظه من الحق والعدل
فإن كانت هذه سيرته في خاصته وعلى هذا نيته في العامة رجوت انه في كل امر جليل ونعمة عظيمة لا يعلم قدرها الا الله تعالى
وان خالفت سيرته في خاصته وعامته هذا الوصف فلا حظ له في النصح الخاص ولا العام وكان ما يدعي انه يضمر وينوي في سريرته من نصح الخاصة والعامة مردودا عليه غير مقبول منه
ولا نعرف في ابواب العلم حديثا اجمع في الاشياء كلها من هذا الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة ولا اقرب ولا اقصد قصدا ولا احسن في اعمال البر كلها حسنا ولا بطريق الصالحين اشد اتباعا من هذا الحديث ولا احوط في الحق والعدل ولا ارضى عند الخاصة والعامة وهو ان تحب للناس ما تحب لنفسك وتكره للناس ما تكرهه لها
والنصح اصله من اعمال القلوب وفروعه من اعمال الجوارح فربما اجري بالقلب ولربما لم يجر الا باللسان وربما لم يجر الا بالقلب واللسان والجوارح
آداب لا بد منها
وقال ان الشيء يغلب الشيء والشيء يشغل عن الشيء والشيء ينسي الشيء والشيء يهيج الشيء والشيء يزيد الشيء والمحاسب نفسه قد عرف هذا وادناه التيقظ واعلاه النسيان
واعلم ان الشر شهوة والخير كراهية والشهوة سابقة على الكراهية وغالبة عليها حتى يجيء العلم والصدق فيزيلان الشهوة ويجعلان الكراهة مكانها فمن لم يفقه ولم يفهم هذا حين يسمعه لم يحسن مراجعة سريرته ولا يجيء على اصلاحها حتى يتعلمه ممن يحسنه ويحسن وصفه ولولا كثرة القول فيه لكتبناه
وقال نعم الصاحبان الهم والحزن بأمر الآخرة ونعم الشغل
المحاسبة وصاحب الهم والحزن والمحاسبة يجعل الساعة التي
ليس فيها هم ولا حزن ولا محاسبة ساعة بطالة واقل قليل الغفلة عنده كأكثر
الذنوب عند غيره
ومن علامة اليقين في العبد ادامة الحزن فيه
يا أخي ولو لم يحزن العبد الا لما يكون فيما يستقبل من الاعمال من الجفاء
والسهو والغفلة وقلة الصدق في فرضه ونافلته مثل الذي قد عمل ولما يجد فيها
من قلة الحياء والمراقبة لكان جديرا ان يحزن ويهتم
ولو لم يحزن ويهتم الا لانه لو جاء من الاعمال بمثل اعمال الملائكة والجن
والانس والعالمين كلهم لم يكن عنده علم في ذلك انه في المقبول او في
المردود ولا يدري ايقبل من ذلك كله مثقال ذرة او يرد عليه لكان ينبغي له
ان يحزن
ولو لم يحزن الا لانه لو قيل له اختر من عمرك أي ساعة شئت لم تعص الله
فيها لسبب من الاسباب لما كان يجد ذلك لقد كان ينبغي له ان يحزن
ولو لم يحزن الا لانه لو قيل له هل تعرف ساعة واحدة من عمرك اديت الى الله
سبحانه فيها جميع ما اوجبه عليك كما اوجبه لقال ما اعرفها لقد كان ينبغي
له ان يحزن
النفس واختبارها في المعرفة والسلوك
قلت كيف احاسب نفسي في معرفتها
قال ان الاشياء تعرف بالدلالات والعلامات والامثال وسأضرب لك في ذلك مثلا
يكون علما لما سألت عنه
ان مثل الناس في جملتهم وفي تفرقهم بعد المعرفة بهم والخبرة لهم وتفاوتهم
وتفاضلهم مثل سفط موضوع في طريق فيه قوارير مملوءة موكاة الرءوس يمر به
الناس لا يدرون ما فيه فعرض له من الناس عارض من المارة فقال لاكشفن عن
هذا السفط فلأنظرن ما فيه فكشف عنه فراى قوارير مملوءة لا يدري ما فيها
فحل اوكيتهن كلهن فبدا له من هذه رائحة المسك ومن هذه رائحة العنبر ومن
هذه رائحة البان ومن هذه رائحة الخلوف ومن هذه رائحة الغالية ومن هذه
رائحة الياسمين ومن هذه رائحة الورد وسائر الطيب والادهان
ومن هذه رائحة الكبريت ومن هذه رائحة النفط ومن هذه رائحة القطران وما لا
طاقة له بالقيام عندها من شدة نتن ريحها
فالناس في جملتهم مثل السفط والقوارير وهم في معرفتهم والبحث عن اخلاقهم
متفرقون على قدر القوارير
ومثل السفط ايضا في جملته مثلك انت وحدك والقوارير اخلاقك وآدابك وريحها
الطيب خير اخلاقك وآدابك الحسنة المرغوب فيها والرائحة المنتنة شر اخلاقك
وآدابك السيئة القبيحة
ولا تعرف النفس حتى تمتحن وتختبر
فاختبر نفسك حتى تعلم ما فيها وان اردت ذلك فعاملها بالموافقة لها
والمفاتشة لهمتها في وقت الهمة و أحد اليها النظر حتى تعرف حلمك في الوقت
الذي عرض لك فيه سفيه فسفه عليك ليس في الوقت الذي وافق هواك
واعرف تواضعك في وقت ما جفاك جاف واكرمك مكرم فإن فيهما الفتنة فإن العبد
ربما اظهر التواضع عند الكرامة ليزداد منها وربما تواضع عند الجفاء ليثبت
له بالتواضع عند ذلك منزلة بين الناس فتوقف عند ذلك كله وفاتش الهمة
واعرف صمتك عند الخوف من سقوط جاهك عند من لك عنده الجاه والقدر
واعرف صدقك عند الحالة التي يتصنع ويتزين في مثلها المتزينون والمتصنعون
واعرف نصحك عند حبك لنفسك ولصديقك وعدوك حتى تعلم هل تحب لغيرك ما تحب
لنفسك ام لا
واعرف صبرك عند ترك شهوة قد ملكها هل تستطيع تركها على ذلك ام لا
واعرف ورعك عند الحالة التي استمكنت منها هل تستطيع الوقوف عندها اذا
التبست عليك ام لا
واعرف عقلك عند ترك ما لا نفع لك فيه في الدنيا ولا في الاخرة ولا ثواب لك
فيه عند الله تعالى هل تستطيع ترك ذلك ام لا
واعرف امانتك عند هواك في الوقت الذي تهواه هل تضبط اداء امانتك في ذلك
الوقت ام لا
واعرف طمعك في وقت هيجان رغبتك هل تستطيع عند ذلك الاياس ام لا
فإن كنت في هذه الحالات والاوقات محمودا فما احسن خيرك واحمد الله واسأله
الزيادة من فضله وامض فإنك على سبيل الاستقامة وطريق المحبة و محجة
الايمان
وان كنت في هذه الحالات مذموما فأخلاقك وسيرتك اولى بك ان تصلحها فإن فيك
فسادا عظيما ولست على سبيل الاستقامة ولا على طريق المحبة ولا محجة
الايمان
فاتق الله وراجع مفاتشة نفسك واصلاح فسادها
قلت يجيء مني في بعض احوالي ما امقت نفسي عليه وتشتد عليه ندامتي
قال مقتك لها من معرفتك بها وندامتك عليها دواؤها فإذا نظرت الى عثرة غيرك
فاذكر عثرتك ومقتك لنفسك ولو ان مصلحة النفس ومنفعتها كانت فيما تهوى او
تشتهي لكان الناس كلهم صالحين ولكن جعل صلاحها فيما تكره وفسادها فيما تحب
وتشتهي
اما انها لا تكره الصلاح والخير ولكن تكره المكروه الذي به تنال الصلاح
والخير ولو امكنها درجة الابرار بأعمال الفجار لقبلتها فأما الشر فإنها
تحبه وتحب خصاله وطرائقه وكل شيء منه
ومن محاسبتك لها ان تخلو بها وترد عليها فعالها فتقول يا نفس انك لا
تقدرين ان تخادعي الله ولا تغالبيه فلا تقبلي مخادعة الشيطان ولا مغالبته
ولا تبتغي هواك فيرديك ويهلكك
واني لست احملك على ما لا طاقة لك به ولا علم لك فيه واني اراك تحب لنفسك
ما تمقت عليه غيرك وتكره لنفسك ما تحب عليه غيرك
قمة الخداع النفسي وحقيقة التوسل بالصالحين
اراك تحب اهل التواضع والصدق والامانة حتى لو رأيت قبورهم وآثارهم لاحببتها فيما تزعم وتكره خصالهم التي بها نالوا الحب منك حتى لو قدرت ان تكون في اعدى عدوك بعد ان تزول عنك لكان ذلك منيتك
فإما ان تكون تريد مخادعة الله اذ علمت انه يطلع منك على ذلك واما ان تكون
لا تحسن ان تطلب الخير
يا أخي ان الجائع يحب الخبز وان العطشان يحب الماء ولو جعل الخبز والماء
بين ايديهما على مائدة او علق في اعناقهما ما نفعهما علمهما بأن الخبز
والماء معهما ولا ينفعهما قربهما منهما دون ان يأكلا من الطعام ويشربا من
الشراب
وهكذا انت لا ينفعك علمك بالخير ولا قربه منك ولا حبك له حتى يكون فيك
وتكون من اهله بل لا ازعم انك تحبه ولكنك مخدوع او مخادع في دعواك انك
تحبه
يا أخي هل رأيت عطشان استمكن من الماء البارد فلم يشربه الا مدع للعطش ليس
بعطشان
أو هل رأيت جوعان وجد طعاما قد امكنه فلم يأكله الا مدع للجوع ليس بجوعان
فما ابين ابطال دعواك فيما تزعم انك تحب الخير واهله اذا قست ما تحب من
الدنيا بما تحب من الآخرة لاني اراك اذا احببت شيئا من الدنيا احببت الا
يكون له مالك غيرك هذا هو الحب الصادق بعينه فإذا احببت شيئا من اعمال
الصالحين فيما تزعم فليس شيء اثقل عليك من ان تكون انت صاحبه ولو كنت محبا
له لاحببت الا يكون احد سبقك ولا يملك منه اكثر من الذي تملك
يا أخي اما آن لك ان تمل وتشبع من الكذب والاغترار بالله تعالى اما آن لك
ان تحب ان يكون اسمك يوما واحدا من جميع عمرك مع
اسماء الصالحين المتواضعين المخلصين الناصحين الشاكرين
الراضين الصابرين المسلمين الواثقين المتوكلين المفوضين الخائفين
المشتاقين العارفين العالمين الموقنين
بحق اقول لك لو مات احد من العجب كان ينبغي لك ان تموت مكانك اذا نظرت
فيما انت فيه من ايثارك للدنيا واقبالك عليها مع استيقانك بأنها لا شيء
ورضاك بترك طريق الصالحين واهل الخير وصحبة محمد صلى الله عليه وسلم
ومجاورته في الجنة
فلو كانت صحبته في الدنيا ثم تركت الدنيا كلها واثرت صحبته لكان الذي تركت
حقيرا عند الذي نلت فكيف الصحبة في الجنة مع دوام الملك في جوار الله
وجوار احبابه مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين وحسن اولئك رفيقا في الحبرة والنعمة والسرور الدائم الابدي
فراجع نفسك يا أخي وانظر ما في هذه المخادعة وما الذي قد غلبك وغلب يقينك
او ما هذه الخدعة التي دخلت عليك
وفكر فيما تصير اليه من موازنة عملك وسؤال الله اياك عن مثاقيل الذر
والخردل وما فوق ذلك ودون ذلك
وفكر في سرعة انقضاء الاجل وعليك بقصر الامل فلا تفارقه ولا يفارقك طرفة
عين لا في ليل ولا في نهار
يا سبحان الله كيف لا تدهش ولا يذهب عقلك تعجبا من امرك
فراجع امرك وانظر ما يراد منك فإنما يراد منك اذا عملت
عملا ان تريد به وجه الله او لا تعمله فهل تكون اقل من هذا هذا في ذوفلك
واما فرائضك فإنك غير معذور في تضييع مثقال ذرة منها حتى تعمل بما امرت به
وتنتهي عما نهيت عنه وما كلفت امرا لا تطيقه وما كلفت ما لم يكلف به غيرك
ويراد منك مع ذلك ان تريد للناس الخير وان لم ترد لهم الخير فلا ترد لهم
الشر فهل تكون اقل من هذا او ترضى لنفسك ان الناس يريدون لك الخير وانت
تريد لهم الشر
ويراد منك الا تجعل نفسك فوق الناس في نفسك لا بقلبك ولا بلسانك افتكون
اقل من هذا وقد دعيت انت والناس الى هذا لا انت وحدك
المخادعون المتاجرون بالدين
وقال اخبرني ان انت خالفت هذا الامر واردت بعملك غير الله واردت ان ترفع نفسك فوق الناس او لم تحب لهم ما تحب لنفسك اتدرك او تنال ما تأمل من ذلك
اولست تعلم انك ابعد ما تكون من الله اذا كنت كذلك
ومع هذا لا اراك تطلب الدنانير والدراهم فتنتفع بها وترتفق بها في ايامك هذه وانما تطلب بذلك الثناء والجاه والقدر وقد اخترت سيرة
تستوجب بها البغض من خالفك وتستوجب البغض ايضا ممن
وافقك عليها لو ظهر من امرك ما خفي ولا بد من ان يظهر يوما ما
وقال الصبر ما ترك للناس عذرا ولا حجة فمن لم يلق الله بما امره بحلاوة
الرضا فليلقه بالصبر وكراهته ومن لم يلق الله ببغض ما نهاه عنه فلا يلقاه
بالحب له بل بالصبر فما ترك الصبر للناس حجة
وقال من القليل ما يعتبر به الكثير وان اهل الدنيا اذا ارادوا ان يعملوا
شيئا بدأوا بالطلب فطلبوا اداة ما يعمل به ذلك العمل والا فلا سبيل لهم
الى ذلك العمل البتة
ولو اجتمع اهل الدنيا كلهم ومعهم اداة كل صناعة هل قدروا ان يثقبوا ابرة
الا بأداتها التي هي اداتها وهكذا جميع الاشياء
هل رأيت بيطارا قط قدر على صناعته بأداة خياط
او قدر الخياط على صناعته بأداة البيطار
وهكذا كل عمل لا يقدر الحداد على عمله بأداة النجار ولا النجار بأداة
الاسكاف
وهكذا اعمال الآخرة لا يقدر عليها الا بأداتها وأصل أداة أعمال الآخرة
العلم والمعرفة والاعتبار فإنها من دلالات الاداة
حب الدنيا رأس كل بلاء
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حبك الشيء يعمي ويصم
ويروى عن عيسى عليه السلام انه قال حب الدنيا راس كل خطيئة
وانفع ما عالج به المؤمن في امر دينه قطع حب الدنيا من قلبه فإذا فعل ذلك هان عليه ترك الدنيا وسهل عليه طلب الآخرة ولا يقدر على قطعه الا بأداته اما اني لا اقول اداته الفقر وقلة الشيء وكثرة الصيام والصلاة والحج والجهاد ولكن اصل اداته الفكر وقصر الامل ومراجعة التوبة والطهارة واخراج العز من القلب ولزوم التواضع وعمارة القلب بالتقوى وادامة الحزن وكثرة الهم بما هو وارد عليه
وما اكثر من يعمل هذه الاعمال التي وصفنا وحب الدنيا في قلبه زائد وكثير من الناس من لا يكثر من هذه الاعمال وحبه للدنيا في نقص لانه اخذه من وجهه وجهه ان يلزم نفسه الفكر ويقصر عليه من الامل ولكن الاشياء من حيث اباحها الله فيضعها حيث امره الله ويلزم قلبه ذكر قرب مفارقتها ومفارقة ما فيه وما يصير اليه من الشدائد من القبر والوقوف بين يدي الله عز وجل وطول الحساب ولا يدري في أي الصنفين عدده
ولا في أي الزمرتين اسمه افي الذين يحشرون الى الجنة
زمرا ام في الذين يحشرون الى جهنم وردا
وتفكر في ذنوبه التي لو اخذ اهل الدنيا بذنب منها لهلكوا وطول خلود اهل
النار في النار
واشد من ذلك غضب الله على اهل النار
ولما يخاف ان يفوته من رضى الله عن اهل الجنة
ويقل الفكر في الدنيا وفي نعيمها فإن القلب مع الفكر يحيا ان كانت الفكرة
في الآخرة ويموت ان كانت الفكرة في الدنيا
وقال وما على العبد ان يعزم على ان يجعل حظه من بقية عمره في الدنيا ما
كان من جاه او ثناء او محمدة من الناس او قدر عندهم وما كان من فضول
النعمة فيها فيعزم على ان يجعل ذلك كله لأعدى عدو له ولأحسد حاسد له لا
يقسم على اقاربه واصدقائه منها شيئا بعد ان يرجو ان يكون ذلك كله فكاكه من
النار حتى لو دعى اليه وحبس في الحبس الضيق ليقبله لم يقبله واختار الحبس
عليه ولحذره ونفر منه كما كان يطلبه قبل ذلك
فلعمري لو لم يكن فيه الا ما يرجو ان يدرك به صلاح ما افسد فيما مضى من
عمره فليصلحه وليتخلص مما مضى ويجعل الحزن والهم وقلة ملاقاة الناس عدة له
مع الدعاء والتضرع ويجعل الموت نصب عينيه
ويستعين بسرعة الخروج من الدنيا فما اهون عند من نزل منزلا وهو يريد الارتحال منه تركه لجاره وما اقل شفقته عليه وما اشفق من نزل منزلا وهو يريد المقام فيه واحرص على عمارته
جماع صلاح النفوس
وقال ان الناسك ان لم يقبل الحكمة ولا الموعظة ولا النصيحة من العدو والصديق والسفيه والحليم فنسكه نسك الملوك
قلت ذكرت شيئا ينسي شيئا فمثل أي شيء هذا من الاشياء
قال مثل الشبع فإنه يهيج الشهوة ويورث القسوة والبطر والثقل والنوم
ومثل كثرة الكلام فإنه يقسي القلب ويقل البهاء والمهابة ويعقم الحكمة ويكثر السقط
ومثل طول الامل فإنه ينسي الآخرة ويذكر الدنيا ويحسنها ويحببهما اليك ويورث الحسد والتسويف ويقوي الهوى ويكثر الشهوات
وفي هذا ما تستدل به على اضداده فإذا فكرت فيه عرفت من الاشياء ما يورث الخير وما يورث الشر وكل شغل يشغل عن غيره من الاشغال لان القلب واحد لا يمكنه ان يشتغل الا بشيء واحد
الارادة والصدق والهوى
اتفاق الهوى والصدق على عمل البرقلت الصدق والهوى متفقان على عمل البر
قال ان الله قادر على ان يسخر الهوى للصدق وان كان فقليل والذي يعرف هذا القليل في الناس هم قليل والذي يجهله كثير لان الارادة للعمل قبل العمل والهوى والشهوة مما يلي العمل والنية والصدق من ورائهما
فكلما اراد العبد او هم بالعمل من قريب او بعيد ابتدر الهوى والشهوة والنية الصادقة فيهما الى القلب بذكر ما يرجى وما يؤمل من مثل ذلك العمل من حاجات الدنيا وشهواتها ومنافعها ومرافقها ولذاتها وما يؤنس بمثله من الاشياء وما حسن موقعه من الناس وذكرهم له بالثناء والمحمدة والقدر والجاه والرفعة والرئاسة
والارادة الصادقة بعد غائبة وما دامت غائبة فالقلب يقبل هذه
الاشياء لا يرد منها شيئا لانه لا بد ان يكون للقلب امل
في هذا العمل الذي اراده وهم به والانسان اكثر شيء نسيانا واكثر النسيان
في ذلك الوقت لأن هذه الاشياء التي جاءت بها النفس والهوى الى القلب مما
ذكرنا من الثناء والمحمدة والرفق والقدر والجاه والرئاسة والمنزلة كلها
مما يتحلى به القلب ويشتهيه ويرغب فيه فلذلك تكثر الغفلة والنسيان للارادة
الصادقة
ولو كان مكان الذي يستحليه القلب ويشتهيه مرارة وكراهية لما كان يقبل
النسيان والغفلة ولكن حيث جاءت الموافقة سكن القلب الى هذه الخلال
فمن شاء الله عز وجل ان ينعم عليه حتى تكون الارادة الصادقة امام الهوى
وشهوة النفس وحتى يريد بالعمل وجه الله والدار الآخرة ففي هذا يكون شغل
القلب عند ذلك وفيما يؤمل فيه من رضى الله عز وجل وثوابه وما جاءت به
النفس والهوى مما ذكرناه لم يقبله القلب ورده عليهم ففي هذا اعظم النعم
وعلى صاحبه اكثر الشكر
سبق الهوى على الارادة الصادقة في العمل
وان كانت النفس والهوى والشهوة سابقات على الارادة الصادقة فلا بد لصاحبها من الوقوف والنظر والفكر حتى ينقي قلبه مما عرضت به النفس والهوى والشهوة ويجعل ارادة الله مكان ذلك وامامه فيقبله
القلب ساءه او سره ثم يتحفظ ويتعاهد حتى يختم العمل
الذي افتتحه بالارادة الصادقة بمثل ذلك وبعد فراغه من العمل ما دام الروح
في جسده
واعلم ان احكام هذا اعز واشد من نقل الصخر وركوب الاسنة الا من رزقه الله
احكام ذلك والعناية به مخافة تلف نفسه واحباط عمله لان العدو ملح مجد
محتال له في ادخال الآفات التي تفسد الاعمال فهو يرصده قبل دخوله في العمل
وبعدما يدخل فيه وبعد ما يخرج منه
عروض الهوى بعد تقديم الإرادة الصادقة
فإن قدم الإرادة والنية الصادقة الصحيحة التي بلا سقم فيها ودخل بها العمل ونفى الهوى ودفع النفس وخالف الشهوة وجاهد العدو فإن صده بعد دخوله في العمل فعرض له بما ذكرنا من الآفات التي تفسد الاعمال فإن قبلها حتى يختم العمل بقبولها فسد عليه أصله الصحيح الذي كان قد أصل ودخل بها في العمل
وإن هو لم يقبل ما عرض له به في العمل ونفاه ودفعه لم يضره ذلك شيئا
وإن هو قبله ثم انتبه قبل ان يفرغ من العمل فندم ورجع وتيقظ وأزال الغفلة ثم ختم العمل بالندم لم يضره ذلك شيئا
وإن هو ختم العمل بالصدق والصحة فإنه يطالبه في ذلك العمل ليفسده عليه ولو
بعد حين
فينبغي للعبد أن يتقي الله وأن يخلص له العمل ويقدم له النية أمام كل عمل
وبعد كل عمل الى الممات حتى تكون أعماله كلها لله وحده ولا يطلب الثواب
إلا من الله وحده ويجاهد هذا العدو المسلط ويخالف هذا الهوى ويكابد هذه
النفس ويتقي هذه الشهوة الهائجة في قلبه ويعلم من يعامل ولمن يعمل له
وثواب من يطلب
ويعمل العمل بهيجان الرغبة في ثواب الله تعالى وهيجان الرهبة من عقاب الله
تعالى وانه إن عمل على ذلك عمل العمل بشهوة وخفة ومحبة لما قد هاج من
رغبته ورهبته فأزال عنه ما ذكرنا من الآفات التي تفسد الأعمال
فإذا عمل على ذلك فكأنما جمع له الهوى والصدق جميعا ولا يبالي إذا كان
هكذا موافقة الهوى أو مخالفته وما عليه من مخالفة الهوى إذا سلم من شره
وكان ذلك لا يضره فكأنما وافقه
فلا بد أن يوقف العبد ويسأل عما عمل ولمن عمل وماذا أراد بما عمل
الرياء والاخلاص وأحكامهما
والارادة إرادتان إحداهما الدنيا والاخرى للآخرة
فالصدق والاخلاص إنما هو إذا أراد العبد بعمله وجه الله وليس فيه شئ من معاني الدنيا
والرياء إنما هو أن تكون الارادة كلها للدنيا
فمنه ما يكون العبد يريد بعمله في أصل العمل المحمدة والثناء
ومنه ما يكون العبد يريد به في اصل عمله وجه الله والدار الاخرة ويحب ان يحمد بعمله ويثنى عليه
ومنه ما يكون العبد يريد بعمله وجه الله وحده والدار الآخرة فإذا دخل في العمل على ذلك الإخلاص عرض له بعض ما ذكرنا من الآفات فقبلها وأحب أن يحمد على عمله وان يتخذ به منزلة عند أحد من المخلوقين
ومنه ما يكون العبد يريد بعمله وجه الله والدار الاخرة ويختم عمله بذلك ويطالب بالآفات بعد الفراغ من العمل ولو بعد حين حتى يخبر بذلك العمل يريد ان يحمد عليه ويتخذ به الجاه والمنزلة عند المخلوقين فهذا اسهل من جميع ما ذكرنا
والناس في هذا مختلفون
ففرقة تقول هذا من الذنوب ولا يفسد العمل لأن العمل قد مضى وختم بالصحة فلا يفسد بعد الخاتمة وما لحق العبد بعد ذلك فقبله من هذه الآفات فلله في ذلك على العبد مقام ومطالبة والعمل لا يبطل
وقالت فرقة يبطل العمل ولو بعد حين إذا قبل الآفة واحب المحمدة وأدخل
المخلوقين في عمله وأحب عندهم الثناء والمنزلة والجاه
العمل الخالي من ذكر الإرادة الصادقة
قلت فأخبرني إذا هم العبد بعمل البر وعمله وفرغ منه ولم يذكر قبل عمله ولا بعد إرادة الاخرة وكان ناسيا ساهيا عنها أليس هذا عمل بلا نية ولا صدق
قال بلى
قلت وكيف يكون عمل من أعمال البر مما يراد الله بمثله بلا نية ولا صدق وقد عمله العبد
قال إذا لم يكن الصدق ولم يقدم النية فليس بشئ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما الاعمال بالنية فإن قلت إني نسيت النية وسهوت عنها فهذا إقرار وليس لك حجة وإنما أنساك النية الدنيا وإرادتك الغالبة لها
اوليس بليه آدم كانت من النسيان وقلة العزم أولا تسمع الى قول الله تعالى { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما }
وأنا أقول إن العمل لا يكون عملا كما أمر الله أن يعمل إلا بصدق
نية وصحة إرادة وتقديمهما أمام كل عمل فهذا عندي هو العمل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم الاعمال بالنية
وجوب العناية بجواهر الاعمال بأسمائها
وأعلم أن وقوفك عند افتتاح العمل وذكر الصدق وتصحيح النية والارادة ونفورك من الرياء وذكرك الجنة والنار ليس يزيد في صدقك ولا ينقص من ريائك حتى تستعمل التقوى وتقدم النية وتصدق في الارادة
فلا تفتر في ذلك الوقت فإن الانسان يحب اسم الخير ويكر نفس الخير ويكره اسم الشر ويحب نفس الشر
فما أحب الى الانسان اسم الصدق وما أثقل عليه نفس الصدق ما اشد بغض الانسان لاسم الرياء وما أحبه إليه وأخفه عليه واشد استعماله له
فلا تتساهل في ذلك الوقت عن ذكر النية فإن الصدق والنية اسمان
ونفسهما الارادة الصادقة وإن النفس والهوى يجتثان ثمرة
العمل بحلاوتهما
واعلم أن لذتك فيما تجد من حلاوة طعم الحلوى وغير ذلك إنما تجدها عند أكلك
إذا أكلتها وحلاوة الهوى والشهوة في الفكر إذا تابعته على ما تريد ليس له
طعام ولا شراب إنما لذته من الاشياء ان يتابع في فكره وأصله
واعلم أن لذة الرياء وحلاوته لذة تخالط القلوب وتجري في العروق فاحذر ذلك
في ابتداء اول العمل وفاتش الهمة وتقص تصحيح الارادة وكن في ذلك كله
مراقبا لله وحده
معرفة الصدق في نقل الارادة من الرياء إلى الصحة
قلت إذا اردت أن اعمل العمل وقفت قبل الافتتاح فراجعت نيتي وإرادتي فرأيت الرياء قد سبق الصدق ورأيت الصدق غائبا عني فأردت أن انقل الاراة بحقيقتها الى الصدق والصحة وحسن النية وأن اتقي الهوى بحليته وريائه وشهوته فمتى أعلم أني قد فعلت ذلك واتيت منه على ما أردت وقد ذكرت أن ذكر النية والصدق لا ينفعني حتى يكون بتحقيق الارادة
قال لأنهما لا يجتمعان في قلب واحد ثم قال ربما اجتمع اسمهما
ولا يجتمع انفسهما فإذا لم ترد النفس وتشتهي ما كنت انت
تريد وتشتهي من إرادة الله تعالى بذلك العمل والدار الآخرة فقد علمت أن
هذا قد حضر وذاك قد غاب كما كنت تعلم ان الرياء حاضر والنية غائبة
وإن اشتبه عليك الذي وصفت لك فانقض الامر كأنك لا تريد أن تعمله البتة
واصدق فيه فإن علمت أنك قد صدقت بنقضك له فابتدئه من الرأس فإن وجدت من
نفسك الرضا والسكون بنقض العمل والترك له فاعلم أنه علامة حضور الصدق
وغيبة الهوى والرياء وإن وجدت كراهية والنقض والترك فاعلم أن الهوى بعد
فيه
قلت اضرب لي فيه مثلا يكون أبين من هذا
قال مثل رجل هم أن يتخذ طعاما يدعو اليه اقواما فراجع نفسه وعزمه فإذا هو
يريد أن يدعو فلانا لشئ كان وافقه منه وإذا هو يريد أن يدعو الآخر يريد
ضربا من الاستطالة وأن يستخدمه ويخضع له وإذا هو يريد أن يدعو الآخر
ليستعين به على ظلم وإذا هو يريد أن يدعو الآخر ليصيب منه عرضا من الدنيا
وإذا هو يريد ان يدعو الاخر فيحمده ويثني عليه ويبسط ذكره وإذا هو يريد أن
يدعو الاخر ليجالسه ويزاوره ويدع مجالسة ومزاورة غيره وإذا هو يريد أن
يدعو الاخر لحسن لقاء يلقاه به وأشباه ذلك مما ليس لله سبحانه وتعالى فيه
شئ وإنما هو كله للدنيا
فلما استبان له من نفسه هذا ولم تكن إرادته وجه الله وما يرجو من ثواب
الله على طعامهم قال في نفسه لما تبين له ذلك لا ولكني اترك الارادة
الاولى واحضر إرادة ثانية أريد بها وجه الله تعالى وحده والدار الاخرة
ثم قال فلعلي اخدع في هذا وأنا لا اشعر ولكني أدعو مكان هؤلاء قوما اخرين
اقدم فيهم النية والارادة الصحيحة امام الطعام أو لا ادعو احدا
فإن رأى نفسه عند ذلك تنازعه الى ان يدعوهم فكراهية النفس لترك دعوتهم
ومحبتها لدعوتهم علامة انه غير صادق وأنه مخدوع
وإن سكنت الى الترك ورضيت به فهو من علامة الخير فينبغي له حينئذ ان يعمله
وان يمضي فيه فإن شاء دعاهم وإن شاء دعا غيرهم بنية جديدة
كثرة الخطأ وخفاء الخداع في هذا الباب
وإن الخداع والغلط والخطأ والعمد والنسيان والفتن والبلايا في هذا الباب من إخلاص العمل وصدق الارادة وتقدم النية شديد والبلاء فيه كثير
ولشدته أعطي العبد على العمل القليل بالاخلاص الثواب الكثير
وآفاته اكثر من ان يضبطها الكتاب وصحته أعز من ان يبلغها الآمن المخدوع
المغتر بظاهر الكتاب وظاهر العلم وإنما يدرك ذلك كله ويعرفه اهل العناية
بانفسهم الذين خافوا على اعمالهم ان تبطل وخافوا على انفسهم ان تتلف
ولا ينبغي لعاقل ان يفتر عن مفاتشة همته ومحاسبة نفسه ونقاء ضميره ومراقبة
الله سبحانه وتعالى عند كل عمل يريد ان يعمله وإلا فهو مخدوع
والله نسأل التوفيق والفهم والعزم الصحيح والارادة الصادقة
وأعلم ان السهو والغفلة عن هذا العلم الذي به تصفو الاعمال جهل شديد
واغترار وقلة عناية بالنفس وقلة مبالاة باطلاع الله تعالى على فساد العمل
ومن بين هذه الصفات المذمومة التي ذكرناها نتجت الهلكة
ونحن نسأل الله سبحانه الرشاد والسداد والعون على القيام بما قد علمنا
والشكر على ما قد فهمنا ونسأله ان يزيدنا من فضله إنا اليه راغبون ولا حول
ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
دلائل وعلامات
بسم الله الرحمن الرحيم يروى عن بعض الحكماء انه قال
إذا ظن بك الناس انك تعمل عملا من الخير ولست تعمله ى او كنت تعمل عملا من الخير وظنوا انك تعمل اكثر منه ورفضت ان يطلعوا على حقيقة عملك فأنت ممن يحب أن يحمد بما لم يفعل
وان احببت ان يطلعوا عليه فأنت تحب ان تحمد بما قد فعلت
وقال علامة حب الله حب جميع ما احب الله
وعلامة الخوف من الله ترك جميع ما كره الله
وعلامة الحياء من الله الا تنسى الورود على الله وان تكون مراقبا لله في جميع امورك على قدر قرب الله تعالى منك واطلاعه عليك
ومن علامة حسن الظن بالله شدة الاجتهاد في طاعة الله
وعلامة الناصح لله شدة الاقبال على الله وفهم كتابه والعمل به
واتباع سنن نبيه صلى الله عليه وسلم وان يحب ان يطاع
فلا يعصى وان يذكر فلا ينسى
وعلامة النصح للناس ان تحب لهم ما تحب لنفسك من طاعة الله تعالى وان تكره
لهم ما تكره لنفسك من معصية الله تعالى
وعلامة الصبر الا تشكو من جميع المصائب الى احد من المخلوقين شيئا
والصبر هو الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية والصبر على كتمان المصيبة
وهو من كنوز البر والصبر على كتمان الطاعة والصبر حبس النفس عن ذلك كله
ومن علامة الرضا عن الله الرضا بقضاء الله وهو سكون القلب الى احكام الله
والتفويض الى الله قبل الرضا والرضا بعد التفويض
ومن علامة صدق الرجاء شدة الطلب والجد والاجتهاد ليدرك ما رجا
ومن علامة معرفة النفس سوء الظن بها
ومن علامة الشكر معرفة النعمة بالقلب انها من الله لا من غيره والحمد
عليها باللسان والا يستعان بها على شيء مما يكره المنعم
قلت فما تصديق معرفتي هذه
قال القيام بالمكافأة بها وان كانت لأنكأ ولكن اعطاء المجهود في شكرها
ومن علامة معرفة الدنيا الترك لها والزهد فيها والوحشة منها وممن ركن
اليها واحبها وآثرها عظم قدرها
ومن علامة معرفة الآخرة هيجان الرغبة فيها وشدة الشوق اليها والانس بكثرة
ذكرها ومؤانسة من صدق في العمل لها
ومن علامة العقل حسن التدبير ووضع الاشياء مواضعها من القول والفعل وتصديق
ذلك ايثار الاكثر على الاقل
ومن علامة العدل الا تجعل الحكم حكمين فتحكم لنفسك بحكم وللناس بآخر حتى
يكون الحكم في نفسك وفي غيرها حكما واحدا وانصاف الناس من نفسك
ومن علامة التواضع الا يدعوك احد الى حق الا قبلته ولم ترده ولا ترى احدا
من المسلمين الا رأيت نفسك دونه
والناس يتفاضلون في المعرفة بالايثار والرضا والشكر والحب والثقة
والخوف واليقين والصبر وادنى الدرجات الصبر واكثرها
كلها اليقين
ومن علامة حسن الخلق احتمال الاذى في ذات الله وكظم الغيظ وكثرة الموافقة
لاهل الحق على الحق والمغفرة والتجافي عن الزلة
ومن علامة سوء الخلق كثرة الخلاف وقلة الاحتمال
ومن علامة الالفة قلة الخلاف وبذل المعروف
وعلامة الصدق ارادة الله وحده بالعمل والقول وترك التزين وحب ثواب
المخلوقين والصدق في المنطق
واطيب العيش القناعة والعلم خشية الله وهي ايثار الآخرة على الدنيا ومعرفة
الطريق الى الله
وصلاح القلب الرأفة والرقة وفساد القلب القسوة والغلظة
والذ العيش الانس بالله
والانس اجتماع الهمة
واشر الشر الذي لا خير فيه ولا قوام لخير معه الكبر وخير الخير الذي لا شر
فيه التواضع وهو ان تضع نفسك دون الناس
والكبر ان ترفعها فوق الناس وما خير لعبد آثر على التواضع شيئا
والحزم الفرار من كل موضع فيه محنة
والصبر مخالفة المحبة ولا يصعب مع قوة الصبر شيء من العبادة حتى ترتفع من
درجة الصبر الى درجة الخوف ثم من درجة الخوف الى درجة المحبة
وكما لا يطيب لعبد شيء اعطيه من الدنيا الا بالقنوع كذلك لا يطيب له عمل
الآخرة الا بالخوف والمحبة فإذا صار العبد الى ذلك سقطت عنه مؤنة الصبر
وتنعم بالخوف والشوق
نعيم الخوف والشوق
المعرفة ونعيم الخوف
قلت فبأي شيء ينتقل من درجة الصبر الى درجة النعيم
قال بحسن المعرفة
قلت مما حسن المعرفة
قال افتقار القلب الى الله واقترابه منه ومن دار الآخرة حتى كأنهما رأي العين ويجعل الذنوب التي سلفت منه فيما بينه وبين الله نصب عينيه ويجعل النعمة التي قد انعم الله عليه بها والتي لا يحصيها ولا يقدر على شكرها في اقرار قلبه بذلك واجلال الله وتعظيمه وقدرته و وعيده واهوال القيامة وما بعدها وما قبلها من البرزخ والموت
فإذا استقر ذلك في قلبه وسكن القلب الى ذلك كذلك انار القلب وعمر بعد الخراب واضاء بعد الظلمة ثم لانت المفاصل عند ذلك
وتوثبت الجوارح الى الطاعات فعند ذلك تسقط مؤنة الصبر
ويصير في درجة الخوف والمحبة للعبادة وعند ذلك يجد حلاوة ما هو فيه فتلك
العبادة بحسن المعرفة
فلا يزال كذلك حتى يعرض له من دواعي الدنيا و وساوس النفس ما ان مال اليه
قطعه عن تلك الحلاوة ورده الى درجة الصبر
ولساعة واحدة من تلك الساعات خير من ايام كثيرة من ايام الصبر لان فيها
الخوف وفيها الحب وفيها الشكر وفيها الندم وهو التوبة وتعظيم ما عظم الله
وتصغير الدنيا والانس بالله
فلا يلحق صاحب هذه الدرجة صاحب الصوم الكثير والصلاة الكثيرة والحج والغزو
وهكذا العمل اذا كان بالمعرفة القوية
كيف غفل الناس عن هذه الدرجة
قلت فأين المريدون عن هذه الدرجة ولم لا يكون اهتمامهم وعنايتهم بها اكثر من عنايتهم بغيرها من الدرجات
فقال هذه الدرجة في الدرجات كالجوهرة في الاشياء وكاللؤلؤة الفائقة في الف لؤلؤة والجنس واحد وانما قل اهل هذه الدرجة وعزوا لان من الاشياء ما صعوبته في المسلك اليه فإذا صرت اليه صرت الى سهولة ورخاء وانس ومن الاشياء ما سهولته وشهوته في طريقه وصعوبته وشدته في نفس ذلك الشيء اذا صرت اليه
والعامة يعنون بالشيء الذي فيه السهولة فإذا صاروا الى الشدة والمرارة
كاعوا وتحيروا وخسروا وقد كانوا قبل ذلك يسرعون اليه لما فيه من السهولة
اولا تراهم يطلبون العلم فإذا صاروا الى استعمال العلم والورع لا ترى من
يستعمله ولا من يريده الا الواحد بعد الواحد
اولا اولا تراهم يتعلمون السير وفضائل الجهاد فإذا صاروا الى شروط الجهاد
لا ترى من يقوم بعمله
هذه الدرجة شديدة في الطريق اليها ولا ترى في طريقها الا الواحد بعد
الواحد من الكثير فلذلك قل اهل هذه الدرجة وكثر طلاب غيرها من الدرجات
لانها هي الدرجة التي استعبدت العباد وهي درجة الصدق وصار علمها مهجورا
وصار الناس انما يريدون من العمل ما خف محمله وقلت فيه مفاتشة الهمة ونقاء
الضمير والتوقف ومحاسبة النفس ومخالفة الهوى ومجاهدة العدو
واعلم ان رضا العبد بالحالة التي هو عليها مقيم ضعف وبلية نزلت به
المحب مسارع الى القربات
وقال المحب ينازع الى القربة ابدا ما عاش والخائف يتعرض للنجاة فلما استيقن بالرحيل صار مخادعا لنفسه ومؤثرا لما قدم على ما خلف
ولا اعلم في الناس شيئا اقل من الغضب لله والرضا لله والحب لله والبغض لله واقل من ذلك الرضا عن الله تعالى والتسليم لأمره وتفويض الامور الى الله
واكثر سلامة الناس من الشر بالصبر واكثر طلبهم للخير بما وافق الهوى والانسان في اكثر النعم مخالف الشكر واقرب خصال الخير من الله اثقلها على العبد ولو قبلها بشكر كان اقربها الى الله احبها اليه
فهذا العبد يرجو رحمة الله باليسير من البر كما يرجوه بالكثير من البر سواء ويخاف سخط الله باليسير من الذنوب كما يخاف سخطه بالكثير من الذنوب سواء ولا يكون حسن الرغبة في كثير من الحسنات الا كان في القليل كذلك
وقال اذا اردت ان تصلح من امرك شيئا فاشتد عليك فخل عن جميع اعمال البر من التطوع كلها واجعل شغلك كله فيه فإنك تعان عليه ان شاء الله
مراتب العمل لله
وقال الناس يعملون على اربعة وجوه
فأشرفها وافضلها قوم عملوا لله على التعظيم له فحسنت اعمالهم وكرمت فعالهم على وجه عظمته في صدورهم وعظم قدره في قلوبهم فلم يكن شيء احب اليهم ولا الذ عندهم من شيء يتقربون به اليه
وآخرون عملوا على وجه الرغبة والحرص على جواره فلم تكن لهم همة الا ترك ما نهاهم عنه لعظيم ثوابه وخافوا فوات خير ما عنده من عظيم ما اعد من الثواب لاهل ولايته
وآخرون عملوا مخافة منه ومن عقابه فكانت همتهم في الرهبة من العقاب قد حالت بينهم وبين الرغبة في الثواب وكانت الاعمال منهم على وجه الفرار من العقاب وليس يخطر الثواب على قلوبهم لعظم العقاب في صدورهم ويقولون في انفسهم ان بلغتنا اعمالنا الى الخلاص من العقاب لقد ظفرنا بالفوز العظيم
فخرجت الرغبة من قلوبهم من كثرة الرهبة فما تخطر الجنة بقلوبهم من عظم العقاب في صدورهم
وآخرون عملوا على وجه الحياء من الله سبحانه استحيوه في ليلهم ونهارهم اذا
غلقت الابواب وارخيت الستور عليهم لما ايقنوه انه هو الذي يلي عرضهم
ومساءلتهم
فاستحيوا من كل قبيح يعملونه في سرائرهم حتى كأنهم ينظرون اليه ولما
استيقنوا بنظره اليهم قالوا سواء علينا نظر الينا او نظرنا اليه وايقنوا
انه اقرب اليهم من حبل الوريد
فلما ايقنوا بذلك حال يقينهم بينهم وبين مثاقيل الذر وموازين الخردل مما
يكره المطلع عليهم وكان الحائل بينهم وبين اعتقاد القلب على شيء مما يكره
سيدهم معرفتهم بأنه مطلع في ضمائرهم وينظر اليهم في كل حركة تكون منهم وكل
سكون وكل خطرة وكل طرفة عين وكل همة وكل ارادة وكل نية وكل محبة وكل شهوة
واما نحن فلم يهيجنا على عملنا التعظيم له ولم تهيجنا رغبتنا في عظيم
الثواب فنتقرب بحسن الفعال ولم تدعنا الرهبة من العقاب الى ترك مساوىء
الاعمال ولم يحل الحياء منه بيننا وبين قبيح الاعمال فيما بيننا وبينه
فنسأل الله المنان الذي من عليهم ان يمن علينا بما من به عليهم وان يهب
لنا مثل فعالهم فإنه فعال لما يريد
وقال الصدق عند العبد على قدر ارادته والشكر عنده على قدر موقع النعمة منه
السلوك السلفي
ذكر الآخرة
بسم الله الرحمن الرحيم يروى عن بعض الحكماء انه كتب الى اخ له
سلام عليك اما بعد فاذكر ما انت عنه زائل وعليه قادم واليه صائر كذكر من نظر فاعتبر واخذ حذره فازدجر وتعوذ بالله من موت القلب عن شدة العناية للسداد والرشاد وحسن الاستعداد للمعاد
فلو فكر العباد وعلموا انهم لا يسعهم ان يردوا على الله الا بما له فيه رضا علموا او جهلوا والا يطلع الله على ضمائرهم فيرى فيها شيئا مما يكره وان يكونوا نادمين على ما كان منهم ما لم يكن فيه رضاه مما علموا او جهلوا اذن لاجتهد من كان يخاف الله منهم بالغيب ان يكون مجهولهم معلوما ومعلومهم معمولا به وان يكونوا نادمين على ما فات منهم من ذلك
واعلم يا أخي ان الله سبحانه جعل نجاة العباد برحمته في المعرفة ثم في الارادة ثم في ترك ما امرهم بتركه ثم في العمل بما امرهم به ثم في شكر نعمه التي انعم بها عليهم قديما وحديثا ظاهرا وباطنا
معرفة الله
فأول ما اراد الله تعالى من العباد ان يعرفوه عن الوجوه التي تعرف اليهم منها فإنه قد تعرف اليهم من خلقه للخلق وتدبيره في الخلق ومن قدرته على الخلق وتكفله بأرزاق الخلق واماتته الخلق واحيائه الخلق ألا له الخلق والامر تبارك الله احسن الخالقين
ارادة الله بالعمل
واراد منهم بعد المعرفة ان يريدوه بكل ما عملوا من اعمال البر ولا يروا غيره ولا يطلبون الثواب الا منه فلو كان يمكن ان يكون قبل المعرفة شيء لكانت الارادة قبل المعرفة ولو استغنى عن المعرفة بشيء لاستغنت الارادة عن المعرفة
فالمعرفة قبل كل شيء واصل كل شيء ثم الارادة وهي منها وهي تحقيق الترك وتحقيق العمل والاخذ والاعطاء والحب والكره في الاعمال كلها
وهي ولية عقد منافع اهل الاعمال في اعمالهم
شكر النعم
والشكر على قدر المعرفة فمفتاح النعم وأفضلها كلها وأولها هي
نعمة المعرفة ولا أعلم بعد نعمة المعرفة أعظم قدرا من
نعمة العقل ونعمة الإرادة نعمة يعصر مبلغ شكرها
وآخر النعم نعمة الحكمة فنسأل الله خاتمة خير ونسأله أن يعرفنا جميع نعمه
وأن يوزعنا الشكر على ذلك فقد ينال العبد بالمعرفة والارادة من الخير
والقرب من الله سبحانه وتعالى ما لا يناله صاحب العمل الكثير
معرفة ما يحب الله وما يكره
وإنه ليس شئ أولى بالعبد بعد معرفة الله من معرفة ما يكره الله وهو الذي نهاه عنه وتقدم فيه بالوعيد والزجر والتحذير
ثم معرفة ما أحب الله وهو الذي أمر به ورغب فيه
فأبلغ الاعمال إلى رضوان الله مفارقة ما يكره الله ثم مباشرة ما يحب الله تعالى وما رغب فيه
فانظر يا أخي إذا اصبحت فلا يكن شئ أهم اليك من أن تميت خصلة
تهواها نفسك مما يكره الله تعالى فإنه يحيا لك مكانها
خصلة مما يحب الله ولك بعد ذلك التضعيف من النور الساطع في قلبك والفهم
واعلم يا أخي ان الدنيا منها حلال مباح ومنها شبهات ومنها حرام
فإذا كان في قلب العبد عقدة متمكنة من عقد حب الحلال المباح لم تنقطع عنه
مواد نوازع الشبهات والمكروهات
وإذا كان في قلبه عقدة متمكنة من عقد حب الشبهات والمكروهات لم تنقطع عنه
مواد نوازع الحرام وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال من وقع في
الشبهات فأوشك ان يواقع الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك ان يقع فيه
فكل من تمكنت الشبهات من قلبه واطمأن إلى اخذها وقع في الحرام لان الشبهات
اقرب الى الحرام منها الى الحلال
قلت فكيف يصنع الناس بمرافقهم وحوائجهم
فقال إني لم أنهك عن كسبك وحوائجك وما تحتاج إليه منها وإنما أحذرك أخذ ما
لا تحتاج إليه منها ونهيك عن اعتقاد الحب لما تحتاج اليه منها حتى تكون
تأخذها من المباح وهي راغمة وأنت عالم بها وبصغر قدرها عند خالقها إذ يقول
لنبيه صلى الله عليه وسلم { قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى }
وإذ يقول نبيه صلى الله عليه وسلم لو عدلت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما
سقى كافرا منها شربة ماء
واعلم ان المعتقد لحبها وهو عالم بها لا يؤمن عليه أن تستولي على قلبه
فتملكه فيأخذ بعد الحلال الشبهات وبعد الشبهات الحرام
واعلم أن المعتقد لحبها وغير المعتقد يأتيان على حاجتهما واعتقاد حب
الدنيا من الحلال وهن في قلوب العارفين ولا يزيد ذلك في رزق المعتقد ولا
ينقص من رزق الذي لا يعتقد المحبة
واعلم ان العباد إنما أمروا بالاشتغال بالعلم من الجهل وبالعمل بالاخلاص
ولا تنال هذه الدرجة حتى تكون بحالة لو قدرت ان تترك ما تحتاج اليه منها
لتركته
آفة حب الجاه عند المخلوقين
وأما الشبه الاخرى التي يكرهها الله سبحانه وتعالى فطمعك في القدر والجاه والثناء عند المخلوقين وخوفك من سقوط منزلتك عند المخلوقين وذلك مما يسقط منزلتك عند الله عز وجل
فاهل المعرفة بالله وأهل الإرادة يكرهون أن يراهم الله سبحانه وقد اعتقدوا من ذلك شيئا
حملتهم المعرفة بالاجلال لله وإيثار محبته على ألا ينظر اليهم سيدهم
وفيهم شئ مما يكرهه في مبلغ علمهم فهم يكرهون ما يكره
الله في غيرهم فكيف يرضون به في انفسهم
أبت معرفة الله أن يساكنها شئ من مكارة الله وأبت الارادة ان تشتغل بغير
ما احب الله قد شغلتهم المعرفة بالفكر في كثرة نعم الله عز وجل عليهم
وعجزهم عن أداء شكرها مع عجزهم عن إحصاء عددها وباستكثار ذنوبهم وكثرة
ذكرهم للحياء من الله أن يسألوا الجنة فليس تخطر الجنة لهم على بال قد حال
بينهم وبين مسألتها الحياء من الله والخوف منه ومصيبتهم في انفسهم مما
يخافون من فوت رضوان الله عنهم وسخطه عليهم أعظم في انفسهم وأوجع لقلوبهم
من فوت الجنة وخوف النار ومن الذي يجدون مما يلقي الشيطان من الخطرات
وعوارض الدنيا وحب التزين لأهلها عند عبادتهم وطاعتهم وكثرة فساد النية
والآفات التي تعارضها فهم بذلك مغموصون مكروبون مخافة ان يراهم الله وقد
تزينوا لأحد غيره
فلا تكن يا أخي بشيء أعنى منك بالمعرفة والارادة فإن الخير تبع لهما وهما
علامة نظر الله لعبده وبالله التوفيق
السمع عن الله والعقل عن الله
ثم أوصيك يا أخي بعد مراقبة الله عند همتك إذا هممت وعند كل
حركة تكون منك وكل سكون أن تستمع من الله وتعقل عنه فإن
في هذا القرآن الذي انزل علينا تبيان كل شيء وعلم كل شيء
فعليك بتدبره وتأمله في الليل والنهار وأعمل نفسك في فهمه والعمل به أولا
تسمع الى قوله تعالى { وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون
من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة
في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر }
فلا تغفل عن مراقبة من لا يغرب عنه أصغر من مثقال ذرة ولا تشبع ولا تمل
منها فإنه تعالى لا يغفل عنها ينظر اليك ويطلع على ضميرك ويحصي عليك
مثاقيل الذر وموازين الخردل حتى يجزيك بذلك أولا تسمع الى قول الله { إن
الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما }
كمال المراقبة
واعلم يا أخي أنه لا يكاد يحسن الشيء إلا بشيء قبله وشيء بعده
فأما ما تحسن به المراقبة قبلها فالانقطاع الى الله ولزوم طاعته بالمراقبة له في السر والعلانية
وأما ما يحسن به الانقطاع الى الله قبل الانقطاع فأربعة أشياء
التوبة وإيثار ما يحب الله على ما يكره وأن تكون به انس
منك بخلقه ولا تفرح بما زادك من الدنيا ولا تحزن على ما نقصك منها وهي
درجة اهل الورع والقنوع
والذي يقويك على ذلك التصديق بوعد الله تعالى والثقة بضمانه والترجي بما
يكفيك منها ولزوم سرعة الانتقال عن الدنيا
وأما إيثار ما يحب الله على ما يكره فسبحانه ليس أحد أحق ولا اولى بذلك
منه تبارك اسمه وهو إيثار محبته على هواك وهو فرض على المدبرين عنه
والاباق أن يرجعوا اليه ويعاملوه وكيف لا يؤثره من تعود القرب منه
والانقطاع اليه
أما الانس به فهو أن تكون به أشد انسا منك بخلقه فمن عرفه وعرف لطفه وكثرة
اياديه وحكمه وبره وعطفه وتفضله أنس به
وكيف يراقب العبد من لا يعرفه وكيف ينقطع الى من لا يثق به ولا يأنس به
وأما الذي يحسن الشيء بعده فالشكر وأشهد انك لو عقلت ما تقرأ وكنت مريدا
لهذه المنزلة لنظرت اليه بعين المحزونين الخائفين ألا يقبلك وأن يستقذر
إرادتك وسيرتك وأن يردك عن بابه وأن تقدم عليه وانت كذلك
الاعتبار
واستعن في امرك كله بالاعتبار فإن الامر لا يزال مستورا منك او غائبا عنك فإذا نظرت إليه نظر المعتبر كاد ان يقوم لك الاعتبار مقام المخبر المعاين لما قد غاب عنك ومقام الكاشف لك عن المستور عنك حتى تنظر الى زين الامور وشينها وحسنها وقبيحها وتعرف من اين صار الحسن حسنا والقبيح قبيحا فتتبع من ذلك ما فيه نجاتك وتجتنب ما فيه هلكتك وتعرف الناس بالاعتبار على منازلهم في لحن القول ولحن الفعل وتعرفهم وتعرف منازلهم ومذاهبهم بنور الاعتبار ومواهب الالهام إن شاء الله تعالى
الاقتصاد والحزم
وعليك يا أخي بالاقتصاد والحزم في أمورك كلها فإن الاقتصاد أرجا
للثبات وأسلم من الآفات والحزم ينفع أهله عند الشدة ولا
يضرهم عند الرخاء
فاستكثر من المعرفة ما قدرت فليست المعرفة كالعمل للعمل حد ينتهي اليه
وليس للمعرفة حد تنتهي اليه لأنك تريد بالمعرفة استكمال امر الله وإقامة
حقه ولا يبلغ ذلك أحد لأنه سبحانه وتعالى أجل وأعظم من أن يبلغ الآدميون
كنه حقه
غير أنهم يتباينون فيه بزيادة المعرفة ونقصانها مع المعرفة والانس والروح
والفرح والراحة لزيادتها نعمة من الله ونقصانها عقوبة من الله بذنب او
تضييع شكر
إحذر صغائر الذنوب وارغب في صغائر الخير
واحذر ما يكره الله من عملك ونيتك وسرك وعلانيتك في الصغير كما تحذره في الكبير وإن كل شيء يفسد عليك مثقال ذرة قدمته لله يفسد عليك مائة الف دينار والدنيا كلها مثل ما افسد عليك مثقال ذرة فسادا سواء لا فضل بينهما
ثم هكذا في سائر الاعمال يأتي الفساد على كثرتها كما يأتي على قلتها سواء و ارغب في الصغير من الخير كما ترغب في الكبير رغبة واحدة
لأنه يقبل القليل من العبد كما يقبل الكثير قبولا واحدا
سواء وهكذا في سائر الاعمال
وكفى بقبول الله الصغير من عبده لعبده فوزا مع ان أعمال بني آدم كلها
صغارا إلا ما قبل الله منها فإذا قبل منها شيئا صار عظيما وإن كان قبل ذلك
صغيرا
واعلم ان صغارها أسلم من كبارها في الرياء والاعجاب والامتنان فانتبه لذلك
ولا تغفل عنه
واعلم ان لك في عملك إرادة وأملا فانظر إرادتك في أعمالك كلها كإرادة أهل
الشكر والرضا وأملك فيه كأول المسرفين على انفسهم فليس شيء احب الى أهل
الرضا من شيء يرضى الله به ولا شيء أحب الى أهل الشكر من شيء يشكرون الله
عليه ولا شيء اولى بأهل الاسراف على انفسهم من شيء يرجون به عفو الله
وأعلم أني لست من قلة العمل اخاف عليك وعلى مثلك ولكن أخاف عليك من قلة
المعرفة وضعف الارادة
لا أجدني اخاف عليك وعلى مثلك من قلة التطوع ولست اخاف من الورع ألا تنظر
فيه كما ينظر غيرك أو لا تترك شهوات أحلها الله لك توثر بها عليك غيرك
إلا أني أخاف عليك ان تنازع في أمر يكرهه الله ولا ينفعك قد خفي عن الناس
وهو عند الله ظاهر فيفسد عليك جميع ما أردت او ترى ان لك فضلا على غيرك
فيحبط ذلك جميع ما كنت فيه
وأخاف عليك ألا تقوم بصيانها كما قمت بعلمها فيهدم ذلك جميع ما كنت فيه
وما بنيت عليه او لا تؤدي ما يجب عليك من الشكر فيها فيلزمك من الذم في
كفران النعم أكثر مما رجوت من الحمد فيها
أو تكون تدل على الله عز وجل بعملك فيسقطك ذلك من عين الله
أو تمن به على أحد او تؤذي بسببه احدا فقد علمت ما قال الله عز وجل في ذلك
{ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله
رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب
فأصابه وابل فتركه صلدا }
وربما يعزم على العلم الذي أراده فلا يجده كما وجده بغير عزم عزم عليه
كمال العزم
قلت فما بال الرجل يأتيه الامر مما يحب من غير طلب ولا عزم عليه حتى ربما أخاف من عزمه ان يكون عليه أكثر مما يكون له
قال هذا من الذي قلنا لا يصلح الشيء إلا بشيء قبله وشيء بعده فإذا لم يكن عزم بمعرفة كان عاقبته نحو الذي ذكرت
ومعرفته أن يكون بدؤه بالافتقار الى الله سبحانه وتعالى ولا يكون كالتألي
على الله
والتوكل أن ينفرد بإشعار قلبه في تفويض المقدرة الى الله سبحانه وتعالى
والتبري من الحول والقوة أولا تسمع الى قوله تعالى { ولا تقولن لشيء إني
فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } فهذا زيادة على التوكل امر أمرك الله به
وقوله تعالى { وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله } والمشورة من
الحاجة لا من الغنى أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستعين بمن ليس
هو مثله وأن تبقى سنته سنة لمن هو بعده
فكيف بمن هو مثلي ومثلك إذا سها عن الله فيما لا يسعه إلا التضرع اليه
أولا تسمع الى قوله عز وجل في قصة يعقوب { إن الحكم إلا لله عليه توكلت }
فكان عاقبة يعقوب تمام ما أراد
وقول يوسف { قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن
أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن } وتم له أمره
حين أخرج نفسه من القدرة واقر بالافتقار وفوض الامر الى ربه
وقول الآخر { لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين } فسألوه ولم يفرضوا
اليه امرهم لا قبل المسألة ولا بعدها قال { فلما أنجاهم إذا هم يبغون في
الأرض بغير الحق } ولم يتمم لهم امرهم
وقول الاخر أيضا { لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا
جعلا له شركاء فيما آتاهما }
ثم انظر الى قول آدم حين تقدم على حمل الامانة بغير افتقار ولا استكانة
فلم يتمم له امره وعير بالجهل والظلم
وماذا يغني العزم من الذي ليس بيده الامر
من فرائد الحكمة
قال ومن لا يكون عالما بما ورد عليه من الله يوشك ألا يكون عالما بما ورد على الله تعالى منه
اعلم يا أخي انه من اطاع الله ولم يخفه فقد أطاعه في العمل وعصاه في ترك الخوف فكيف بمن يعصيه ولا يخافه
وقال لو أنك لم تأخذ من الدنيا إلا قوتك غير انك لم ترد الله به قطع بك ولو تركت قوتك من الدنيا ولم ترد الله به قطع بك
وقال لو عقلت عن الله امرين لنظرت اليه بعظيم الشكر له حيث لم يجعل دعاءه الى الجنة في ترك ما تحتاج اليه من الدنيا ولم يجعل دعاءه الى النار في حاجتك منها
وقال اعرف النعمة تكن من أهلها فإن البهيمة لا تجد رائحة المسك وإن حشى به منخراها
وقال كن من أبناء الحق يحبك الحق
وقال اجعل نفسك تابعا في طريق الهدى ولا تجعلها قائدا الى طريق الهوى
وقال احذر شهوة لا تبقى وندامة لا تفنى
وقال أنيسك اليوم هو انيسك غدا في قبرك وعملك اليوم هو عملك غداص فانظر من
أنيسك وما عملك
وقال احفظ الله عند هواك يحفظك عند لقاك
تعوذ بالله من عمل ظاهره طاعة وباطنه معصية
وقال ما ترك الحق لأهله سرورا ولا أبقى الباطل لأهله من الاخرة نصيبا
وقال من علم ما بين يديه هان عليه ما في يديه
إذا اكملت معرفة الرجل بالدنيا تعجب من أبنائها وإذا عمي عن معرفة الاخرة
تعجب من ابنائها
وقال من عرف الدنيا قاطعها ومن لم يعرفها انقطع اليها ومن عرف الاخرة
انقطع اليها ومن لم يعرفها قاطعها
وقال اقل الشهوات لك نفعا في الدنيا أضرها عليك في الاخرة وأقل شهوات
الاخرة مؤنة عليك في الدنيا أردها عليك في الآخرة
وقال ما أيسر الامر على من أحتسب بنفسه عن منافسة اهل العز في عزهم فقد
هدي الى المرتقى الذي ارتقى منه المحبون لقرب الله عزوجل
وقال اختيار العبد للعبودية شفاء وبرد على الفؤاد وجلاء للبصر
وقال طلب العبد للحرية بلاء يعشى منه البصر
وقال العامل الناظر عمله على المحبة والعامل السامع غير الناظر عمله على
الاستثقال فاعمل عمل من سمع ففهم ونظر فأبصر ولا تعمل عمل من سمع ولم ينظر
وقال رب نعمة تصير عقوبة ونقمة ورب عقوبة تصير نعمة
وقال إذا أردت أن تحب شيئا فأكثر ذكره فإن الذكر والنسيان لا يجتمعان
وقال الحسنة الصادقة المشكورة يثاب عليها صاحبها في الاخرة ويزاد منها في
الدنيا يزاد للشكر ويثاب للصدق
وقال من انفع العبادة ان يعامل العبد نفسه باستصغار الدنيا عندها
وقال ومن أحسن العبادة ان يمتلئ قلب العبد من حب الطاعة فإذا فاض عملت
الجوارح على قدر ما رأت من القلب فربما كانت الجوارح في العبادة والقلب في
البطالة
قلت وكيف عبادة القلب دون الجوارح وكيف يفيض القلب بالعبادة الى الجوارح
قال أن يصير وعاء للهم والحزن والافتقار والخوف والندامة والتواضع
والاضطرار الى الله عز وجل والنصح له وحب ما يحب الله وبغض ما يبغض الله
فإذا عامل الله على هذا بقلبه هاجت الجوارح بمثل ما رأت من القلب فانبعث
على الطاعة وإنما يكون ذلك من القلب إذا خالط سويداءه ما تأتي به القيامة
والباب الاخر ان يمتلئ قلبه من معرفة نعم الله عز وجل وسروره بالله وأنسه
بعبادة الله وشوقه الى محاب الله وحبه للشكر لله ورجائه مغفرة الله
فإذا عامل الله بهذا من قلبه اشتاق الى عبادة الجوارح معه فيكون عاملا وفي
عمله أنس وسرور وحلاوة
وقال ومن أشرف العبادة ان تراقب الله بما يحب الله فإذا فترت عن ذلك
راقبته فيما يكره ملتمسا العود الى الحالة الاولى التي كنت عليها حريصا
على ذلك فيحدث لك حينئذ اليها حنين شديد فإنه إذا رآك كذلك تحن وتحرص رد
عليك ما سلبك
قال وفي هذه المسألة والتي قبلها وفي جميع الاعمال على العامل ان يعقل ما
على القلب وما على جوارح فيبدأ بما على القلب ثم بما على الجوارح فإن
القلب هو الاصل والجوارح أغصان ولا تقوم الاغصان إلا بالاصل
قال ومن أحسن الاخلاق ان تكون سجية العبد التواضع ومن أحسن الفعال الاحسان
الى من أساء إليك
وقال اجتهد ولا تيأس ولا تقل عند ذكر الصالحين لولا ذنوبي لرجوت طريقة
الصالحين فيفترك ذكر ذنوبك عن العمل فإن صاحب الحمل الثقيل أولى ان يجتهد
في إسقاط ما قد حمل من المخف الذي ليس على ظهره شيء
وقال إن اردت ان ينظر الله اليك بالرحمة فانظر انت الى الصالحين بالغبطة
والى العاصين بالرأفة
وقال إذا وقع في قلب العبد الاهتمام بالنفس اشتد خوفه عليها وعظم رجاؤه
للناس واذا خلا قلبه من هم نفسه حسن ظنه بها وعظم رجاؤه لها وخاف على
الناس
وقال من طالت فكرته في اربعة اشياء اورثته الحزن والهم وهي تؤدي بعضها الى
بعض وكل خصلة منها كافية اذا فكرت في علم الله فيك واين اسمك في ام الكتاب
وبم يختم لك وذكرت ذنوبك
وقال من طالت فكرته في اربعة اشياء اورثته الخوف والخشية وهي تؤدي بعضها
الى بعض وكل واحدة منها كافية من فكر في الموت وسرعة انقضاء الاجل والمصير
الى القبر والوقوف للحساب والنار التي لا صبر لأحد عليها
وقال لا تنازع الله في محبته فتكون قد عاملته بالغلبة
وقال لا تؤثر على الله احدا فيكلك الى من آثرته عليه
وقال الى متى تعد الشغل عونا
وقال ان لم تترك ما يرديك اقبل عليك من يغويك
وقال اذا اردت ان تقسم صدقة او معروفا في الناس او في سواك
قريب منك فإنما تبدأ اقربهم منك منزلا و اشدهم الى
صدقتك فقرا ثم الذي يليه ولم تذكر بصدقتك من بعد منك او استغنى عن صدقتك
فقرب يا أخي منزلتك من الله واكشف له عن فقرك اليه ينلك معروفه في اول من
ينال فافهم يا اخي ان كنت تفهم
وقال لو كان لك عبيد اردت عتق بعضهم اليس كنت تبدأ بأعدلهم سيرة وانصحهم
لك واخدمهم
وقال انك ان لم تترك ما يكرهه الله لم يذكرك فيمن يحبه
وقال ابذل الله ما اغناك عنه يبذل لك لا غنى بك عنه
وقال من كان يحب القرب من الله فليترك ما يباعد من الله تعالى
وقال اجعل بصرك بين يديك فإن الذي وراءك قد جزته
وقال انك لو رأيت من باع نصيبه من الآخرة بنصيب غيره من الدنيا لعجبت منه
فبع انت نصيب غيرك من الدنيا بنصيبك من الجنة فإن الذي يبقى منك انما هو
رزق غيرك
وقال لا تطلب المحمدة ممن يموت فلتلحقك المذمة ممن لا يموت
وقال اترك خوف الدنيا تأمن الآخرة واطلب أمن الآخرة بخوف الدنيا
وقال اذا عرضت لك شهوة فاذكر العاقبة فكم من شهوة ذهبت عنك لذتها وبقيت
عليك حسرتها
وقال ان الذي يفسد عليك الآخرة هو الذي لا تحتاج اليه في الدنيا فما راحتك
اليه
وقال لو رأيت رجلا بين جماعة وكل واحد يكيده بألوان المكايد ثم لم تره
يتضرع ويستكين وينقطع الى من يرجو نجاته لسفهت رأيه وعقله فلا تكونن انت
هو
وقال ما وجد احد من صاحبه رائحة اطيب رائحة اطيب من رائحة حسن الخلق
وقال ان لك في خصال ثلاث شغلا عما سواها في مراقبتك ربك ومحاسبتك نفسك
ومذاكرتك ذنبك
وقال اصرف عنك عوارض الشهوات بالحزن والندامة على الشهوات الماضية التي قد
انقضت عنك لذتها وبقيت عليك تبعاتها والق عن قلبك الهم تصديق بوعد الله
تعالى والزم قلبك الخوف حذر الوعيد لله تعالى وتواضع له افتقارا الى رحمته
واستصغارا لنفسك عند ذكر عظمته وانف عنك التزين للناس ايثارا لمحبته
واستوجب اسم الشكر له على احسانه اليك بالمحبة منك لعبادته واستوجب اسم
الخوف منه بالكراهة منك لمعاصيه واستوجب نعمة معرفته بحبك لمراقبته
واستوجب اسم الحب لمراقبته بالانس به دون خلقه
وقال ان للناس منازل ودرجات فمن نظر بعيني قلبه ابصر درجاتهم ومنازلهم في
طريق الآخرة كما ابصر بعيني رأسه منازل ودرجات اهل الدنيا
ولا يستحق احد منزلة من منازل الدنيا والآخرة بمعرفة قلبه ولا بذكر لسانه
ولكن بعمل اهلها والقيام بشروطها وكما لا ينفع الفقير معرفته بيسار الموسر
وما يملك من النعيم والوان الاطعمة والافرشة واللباس كذلك لا تنفعك معرفتك
بأعمال الصالحين وانت غير عامل بمثل عملهم بل هو حجة عليك والله نسأل
التوفيق برحمته
من عيون المعرفة
اختبار النفسيروى عن حكيم انه سئل عن امتحان النفس في الصدق حتى يعلم العبد اصادقة هي ام غير صادقة فقال
اذا علم العبد ان احسد حاسد له واعدى عدو له نال بعلمه ثناء وجاها في الناس ويكون مستورا على الناس عمله ويلزمه هو بعمله الخالص رياء عند الناس وسقوط منزلته عندهم فإن سخت نفسه بذلك واحبت انفاذ العمل فهو علامة الصدق حتى يرد عليه من ذم الناس له واقامة جاه حاسده وعدوه ما يعلم بطلانه
فإن لم تحدث النفس عند ذلك خواطر الندامة ومضت على محبتها للعمل فبارك الله فيها وهو والله الصدق بعينه وهو عامل لله حقا وعمله لما بعد الموت مخلصا
كيف يكون شكر النعم
قلت اخبرني عن قول الناس شكر النعمة معرفتها
قال شكرها معرفتها على قدر موقعها من قلبه بتعظيمها وتعظيم
احسان المنعم عليه بها ولا يكون معظما لها حتى يكون
راغبا فيها ولا يكون راغبا فيها حتى يعرف حاجته اليها ولا يعقل حاجته
اليها الا بتدبر عواقب الامور وسرعة المصير اليها وشدة حاجته الى ما يقدم
عليه
فعند ذلك تعظم النعمة عنده من المنعم عليه بها ويعرف امتنانه واحسانه اليه
فيها فعند ذلك يشتهي الزيادة منها واذا علم الله تبارك وتعالى ذلك منه
زاده منها
وفي الجملة انه من رزق شيئا يرجو به مرضاة ربه والنجاة من النار عظم في
عينه وتشوق القلب الى المعطي
ولا يكون شاكرا لنعم الدنيا كلها حتى يكون شاكرا لنعم الآخرة ولا لما تحب
نفسه حتى يكون شاكرا لما يحب الله ولا يكون شاكرا للناس وليس بشاكر لله
الاعتبار بما قبل الولادة وما بعد الموت
من علم انه لا يملك من نفسه الا كما كان يملك قبل ان يولد وكما يملك بعد ان يموت فقد انزل نفسه منزلة الضعف والفقر في التواضع والاستكانة ومن لم ينزل نفسه ذلك المنزل ولم يعلم ان ذلك كذلك علما يقينا فقد استحق طريقة الجاهلين واستوجب عقوبة المستدرجين
استحي من الله وحده
وقال اذا حملت وعاء من اوعية الشر فإنك ترتعد خوفا ان يبدو للناس شيء مما فيه من الشر فمتى يصلح ما بينك وبين الله هيهات
اذكر الموت كالعبد السوء الذي لا يستحيي من مولاه ولا يرجع عن مساويه ولا يعرف احسانه اليه الا عند الحساب والعقاب واذكر الموت وما بعد الموت
وقال ما ظنك بمن يكره ان يطلع الناس منه على ما يكره الله ولا يستحيي ان يطلع الله منه على ما يكره
سوءة لمن كان هكذا وعجبا له حيث يترك ويضيع الفرص ويركب من الاشياء ما كره الله ثم يتقرب الى الله بما لم يفرضه عليه ويتعاطى النوافل من الحج والعمرة ويأمر وينهى ويدعو الناس بزعمه الى الله ويأبق منه ويأمر ولا يعمل وينهى ولا ينتهي
اترى من كان هكذا عرف الله او يعتد بنظره اليه او صدق في ان عند الله ثوابا للمطيعين وعقابا للعاصين
سوءة لمن كان هكذا
حقيقة التواضع
قلت اخبرني عن قول القائل التواضع هو ان تكون اذا خرجت من بيتك فكل من استقبلك رأيت ان له عليك الفضل فإذا كان الرجل يدعي
هذا ويقربه بلسانه غير أنه اذا صار الى احتمال شروطه
ومحنه لم يتحملها الا بالكره من نفسه ايكون هذا متواضعا
قال اذا كانت تلك الشروط من الحقوق الواجبة فلم يقبلها الا بالكر من نفسه
فلم يبلغ هذا درجة المتواضعين
وان كانت شروطا دون الحقوق الواجبة مما لا يحرج العبد ترك قبولها من احد
وكان طيبا بقبول الواجب منها فهو طريق المتواضعين وعلى منهاجهم
اصلح ما بينك وبين الله
ويروى عن بعض الحكماء انه كتب الى اخ له اوصيك يا أخي بإصلاح ما بينك وبين الله وايثار محبته على هواك والاقبال على عمل من اليه معاملتك وقبله حاجتك
واعلم ان ايامك قليلة ونفسك واحدة فإن فنيت ايامك فلا رجعة لك فيها ولا عوض لك منها وان عطبت نفسك فلا نفس لك سواها
وهل تدري يا أخي ما اصلاح ما بينك وبين الله
الا يأتيه منك شيء الا كان فيه له رضى ولا يأتيك منه شيء الا كان لك به رضى فإن ضعفت عن الرضى بكل ما يأتيك من حكم الله وامره
فلا تضعفن عن الصبر فإن له الرضا بحال عبده ما دام
العبد راضيا بحكمه
و له الرضى بصبر عبده على امره و حكمة ما دام العبد صابرا على ذلك فله
فيهما الرضى جميعا
واما عملك فالوفاء بعهده والشكر على نعمه
واما حاجتك فمغفرته وعفوه فان الله سبحانه خلق آدم وذريته وخلق الجنة
ثوابا لأهل طاعته ورحمته وخلق النار عقابا لأهل معصيته وسخطه فنعوذ بالله
من سخطه وعقابه
فتعاهد يا أخي ايامك فى ليلك ونهارك وجميع احوالك ما انت فيه وما انت عليه
وتعاهد ضميرك فنقه و خلصه وسلمه حتى يكون نقيا مما تخاف عليه العقاب فارغا
لما تؤمل من الثواب فإنك غير غائب عن الله طرفة عين يراك ويحصي عليك
مثاقيل الذر وموازين الخردل ليجزيك بذلك يوم القيامة ان خيرا فخير وان شرا
فشر
فلا يغيبن عنك ذكره فإن حاجتك اليه اذ لا حاجة له اليك
واعلم يا أخي ان اصل كل قول العمل واصل كل عمل العلم واصل كل ذلك التوفيق
مع صحة تركيب العقل وكثرة الفكر فإن قدرت الا تكون بشيء اعلم منك بالله
فافعل فإن القول والعلم والعمل
وغير ذلك هو المراد به تبارك وتعالى وان افضل الناس
اقربهم من الله واقربهم منه اعلمهم به
وقد بلغنا ان النبي صلى الله عليه وسلم قال يتفاضل الناس بالمعرفة
وقال ابن مسعود ذهب عمر بتسعة اعشار العلم وانما يعني بذلك العلم بالله
واعلم يا أخي أن الناس انما يخلصون في اعمالهم على قدر معرفتهم به
ويتواضعون لله على قدر معرفتهم به ويشكرون الله على نعمه على قدر معرفتهم
به ويرجون الله ويخافون على قدر معرفتهم به ويحسنون الظن على قدر معرفتهم
به ويصبرون على طاعته وعن معصيته وعلى كتمان طاعته وعلى المصائب التي تنزل
بها احكامه على قدر معرفتهم به ويحبون ما احب ويبغضون ما ابغض على قدر
معرفتهم به
فمن فاتته المعرفة بالله دخله النقص في جميع ما ذكرنا على حسب ما فاته من
المعرفة وعلى حسب ما رزق منها فكذلك حظه من الخير والشر
فالتمسها يا اخي من مليكها التماس من لا يستأهل ان يعطاها فإن العلماء قد
صاروا إليه من العلم على قدر ما احسنوا من الطلب و وضع الأشياء مواضعها
فإذا اصبحت واردت شيئا من الخير فانظر كيف شكرك على ما انعم به عليك ربك
في ليلتك وكيف توبتك مما يتاب منه فقد قال تبارك وتعالى { لئن شكرتم
لأزيدنكم } وقال { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون }
واذا دخلت في شيء من الخير فانظر ممن كان بدؤه وعلى من إتمامه وانه لو قيل
لك من احب اليك ان تعمل له لقلت الله فليحقق ضمير قلبك ما عبر واقر به
لسانك
واعلم يا اخي ان اهل الدنيا والآخرة بين سرور وهموم
فأهل سرور الآخرة اهل الجنة وإن افضل سرورهم النظر إلى الله وأن افضل سرور
المؤمن في الدنيا سروره بربه وبأنه عبده وتصديق ذلك انه بمراقبته ومناجاته
وبكل ما يعمل له وعلامة انسه بعمله وجود حلاوة العمل له وشدة الحب لخدمته
ومحال ان يستأنس العامل بعمله وهو غير مستأنس بمن يعمل له او غير خائف منه
واعلم يا أخي لو ان الذي تطلب وتعالجه من نفسك من الطاعة والاستقامة لله
كنت تعالجه من جميع انفس ولد آدم لكان في الله قليلا فكيف وهي نفيسة واحدة
في ايام قليلة
فالزم يا أخي المحافظة والمداومة على التعاهد في المراقبة فلو كانت الدنيا
كلها لك فبذلتها ونفسك معها شكرا لما انعم عليك من معرفة وانه ربك وانت
عبده وانه هو امرك بعبوديته ونهاك عن عبودية غيره لكان ذلك كله قليلا
حقيرا في جنب نعمته عليك في ذلك فلا تضيعها بشغل ما لا حاجة لك فيه فإنه
لا غنى بك عن معرفة إحسانه إليك كما لا غنى بك عن اساءة فإن العبد بين ذنب
ونعمه وبين شكر واستغفار والحمد لله على ما أنعم علينا وعلمنا وكان فضل
الله علينا عظيما
حقائق التوكل
ويروى عن بعض الحكماء انه قال احمد الله اليكم حمد من لا يعرف احسانا الا منه ولا يعرف معبودا غيره واسأله توكل المنقطعين بصدق الانقطاع اليه
اما بعد
فإن الله تعالى خص اهل ولايته بغبطة الانقطاع اليه ليعرفهم تواتر نعمه ودوام احسانه وفضله فانصرفت هموم الدنيا من قلوبهم وعظم شغل الآخرة في صدورهم لما سكنها من هيبة ربهم فألزموا قلوبهم ذل العبودية وطرحوا انفسهم في محجة التوكل على الله
واعلم يا أخي انك لا تكون متوكلا على الله الا بقطع كل مؤمل دون الله
وكيف لا تسخو نفسك بقطع كل علاقة من قلبك وتفرغ قلبك للاقبال على الله وصدق التوكل عليه والله حسب من توكل عليه
والمتوكل الصادق في توكله لا يجد قلبه يخضع لمخلوق لان قلبه مملوء بالثقة بضمان الله
والمتوكل الصادق في توكله القليل من عطايا الله عظيم عنده عند صغر
قدره لمعرفته بعظيم قدر الله فهو ساكن الى روح اليقين
وهي المنزلة التي يغبطه بها اهل الحرص على الدنيا
فمن سكن قلبه الى انه ليس نعمة في السماء والارض الا وهي لله استراح قلبه
من عذاب الحرص اما سمعته يقول { هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء
والأرض } وقال { ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين }
فإذا الزمت الثقة قلبك فإنما انت ناظر الى الله لان الملك لله دون خلقه
وبقدر تركك الثقة يعظم حرصك على الدنيا
فخالف حرصك على الدنيا بالقنوع بما قسم لك فإنك تسرع في عداوة الحرص على
الدنيا لان الحرص لا يعطي ولا يمنع
والمتوكل على الله استغنى بالمعطي المانع عمن ليس بمانع ولا معط فهو غني
بالله عمن سواه فقير الى الله قد سكن قلبه عن الاضطراب فليس لمخلوق في
قلبه خطر فمن وثق بغير الله لا يغنيه
فمن وثق بغير الله لا يغنيه والمتوكل لزم التقوى فجعل الله له مخرجا ورزقه
من حيث لا يحتسب ولم يقل من حيث يحتسب وقال ومن يتوكل على الله فهو حسبه
ان الله بالغ امره قد جعل الله لكل شيء قدرا
فالمتوكل توكل على الله في حاجاته كلها من امور آخرته ودنياه
وقطع رجاءه ممن سواه ولم ير نفسه موضعا لاختيار نفسه
لان الله حسبه ومن كان كذلك فقد سكن الى روح اليقين
وهذه المنزلة التي لا منزلة ارفع منها في سكون القلب الى الله والطمأنينة
بموعود الله لأنه قد جعل الله حسبه من جميع خلقه ومن كان الله حسبه فلا
يجد فقد شيء لان الله قد ضمن له وهو بالغ امره
واعلم انك والخلق جميعا مضطرون الى الله في كل حال وفي كل حركة وكل سكون
لأنه الغني وحده ومن وثق بغير الله فقد راى ان ملكا اكبر من ملك الله ومن
وثق بالله استغنى به لان الله حسبه وفي الله خلف من جميع الخلق وليس في
احد من الخلق خلف من الله لان الله هو الغني وحده
فإذا علمت ان الله حسب من توكل عليه فكيف لا تطلب الكفاية بالتوكل على
الله عز وجل
ألست تعلم ان الرزاق قد قسم بين عباده معايشهم وقد فضل بعضهم على بعض في
الرزق وقد فرغ مما قضى وقدر من ذلك
فكيف تعنى بعد علمك بطلب ما قد فرغ لك من مقداره
الا تسمع الى قول الله عز وجل { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو
وإن يردك بخير فلا راد لفضله } فكيف تطلب كشف الضر من غير الله او تطلب
المنفعة من عند غير الله
وكيف لا يكون الغالب على قلبك طلب كشف الضر وطلب النفع من عنده وحده اذ
علمت ان ذلك كله انما هو بيده وحده
وكيف تخاف فوت شيء من الخير يريده الله بك وان لم يرده بك فمن يعطيك ذلك
او ينيلك اياه
والمتوكل على الله لا يلتفت الى الدنيا لانه لا يراها لنفسه خطرا ولا
يراها ونفسه وجميع ما فيها الا لله ويستوي عنده ركوب البحر والمشي في البر
والانس والوحشيه والعمل والجلوس لان الله تعالى كاف من توكل عليه اولا
تسمع لقوله تعالى { أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه }
فالمتوكل على الله اكتفى بعلمه بالله عن الاشتغال بغيره لانه علم ان الذي
يوصل اليه المنافع هو الله وحده لا شريك له
وايضا اذا سكن قلبك الى الله لم تخف غيره لان الله حسب من توكل عليه
ومن علامة المتوكل انه يؤثر الصدق حيث يضره على الكذب حيث ينفعه لانه لم
يصح لمن توكل عليه ان يخاف غيره
وكذلك اذا امر بالمعروف ونهى عن المنكر لم يخشى الا الله لان رجاؤه من
الله اكثر من خوفه من توعد المخلوقين لان المتوكل على الله اخرج من قلبه
كل مخوف ومحذور ومحزون دون الله حتى اتصل خوفه ورجاؤه بالله
واعلم ان المعاون انما تحضر عند اخراج العالم من قلبك فتنحاش عند ذلك
الى مسالك العز والغنى بالله لأنك تعلم انه لا مانع ولا
معطي ولا ضار ولا نافع الا الله وحده
ولا ترغب عن الله بجهلك فتخضع لمن دونه عند تخويف الشيطان فيستولي عليك
عند ذلك اولا تسمع قوله { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله
يعدكم مغفرة منه وفضلا }
فما يضرك من مواعيد الشيطان مع ضمان الرحمن
واعلم انك لا تكون متوكلا على الله تعالى حتى تسلك منهاج المضي اليه على
السكون والاطمئنانية الى الله وحتى تعبد الله راضيا بما صيرك اليه لانك لا
تعرف غيره
فأذا صرت الى هذه المنزلة غلبت على قلبك عظمة الله وجلاله واحتقرت دءوب
الملائكة الذين لا يفترون لان الخلق كلهم مقصرون عن حقه عليهم جل جلاله
واعلم ان الله سبحانه خص المتوكلين عليه بمنازل السلامة وحجب عنهم كل
ندامة فهم ينظرون الى الله فيما يأملون
قد حجب قلوبهم عما سواه لما يرجون من احسانه واستغنوا بذكره عن ذكر غيره
واعلم انك لا تكون متوكلا حتى تصفو من كل ملك لنفسك مع ملك
الدنيا وحتى لا تثق الا في الله وحده لا شريك له وحتى
ترى مؤنتك على الله وحده فلا يذهبن بك الطمع الى غير الله
الا ترى ان الذي طمعت فيما في يديه اليس هو في ملك الله
هل في السماء حاجز يحجزك عن الله
فاعلم انك لا تقدر ان تفرض رزقك كما لا تقدر ان تفرض الموت اما سمعت الله
يقول { الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم }
فاسكن يا أخي الى موعود الله تعالى في رزقه كما تسكن الى انك ميت واقطع
الاشتغال بذكر الاسباب من قلبك
واعلم ان الله يرزقك لسبب وبغير سبب وكل سبب فهو ثابت لا تعلم متى يأتيك
رزقك كما لا تعلم متى يأتيك الموت
الا ترى ان الله وعدك ان يرزقك وغيب رزقك عنك بالقضاء وله وقت ينزل فيه
فلو احتلت بكل حيلة ان يأتيك قبل وقته لم تقدر على ذلك حتى ينزل في وقته
أما سمعت الله عز وجل يقول { وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء
والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون }
واعلم ان الواثق بالله نفى عن قلبه التهمة لله وان كنت في ظل سبب فلا
يميلن قلبك الى السبب وليكن قلبك مع الله عز وجل
واعلم ان القهرمان لا ينفق الا بإذن السيد فاعقد قلبك لسيدك لانه ان اعطاك
لم يقدر اهل الارض ان يمنعوك وان منعك لم يقدر اهل الارض ان يعطوك لان
سلطانه عظيم وبتوكلك عليه يكفيك
فالمتوكل ساكن القلب الى المضمون فمن قطع تعلق القلب بالاسباب لم ير شيئا
الا الله لان قدر الله جار على المتوكل وغيره الا تسمع الى قوله تعالى {
وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم }
وقد علم المتوكل علما يقينا وسكن قلبه الى ذلك ان ما قسم له وقدر لو كان
في مهب الريح لأدركه وان ما لم يقسم له ولم يقدر لو كان بين يديه وجهد اهل
السموات والارض ان يوصلوا اليه مثل ذرة او خردلة لم يقدروا على ذلك وقد
قال { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم } وقال { وعلى
الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } فلم يحق لهم ايمانا الا بتوكلهم عليه
وقالوا { على الله توكلنا } وقالوا { وما لنا ألا نتوكل على الله وقد
هدانا سبلنا }
فالتوكل محض الايمان لانه فريضة على العباد ولا يكون الايمان الا بتوكل
والتوكل يزيد وينقص كما ان الايمان يزيد وينقص والناس يتفاضلون في التوكل
والايمان على قدر اليقين