كتاب : مجمل اعتقاد أئمة السلف
المؤلف : عبد الله بن عبد المحسن التركي

مقدمة
الحمد لله ، رب العالمين ، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إِلى يوم الدين . أما بعد فإِن المُتَتبع لما أُثِر عن سلفنا الصالح في أصول الدين ، يجد اتفاقًا في جُلِّ مسائِله ، ويجد اعتناءً خاصا بقضايا العقيدة ، واهتمامًا بها في التعليم والتوجيه والدعوة . على خلاف ما نراه اليوم في كثير من بلاد العالم الإِسلامي ، مما أحدث شيئًا من الاختلاف والتَّخبّطِ لدى بعض الجماعات والطوائف الإِسلامية .

وقد كنت أثرت ذلك الفرق بين منهج السلف وما عليه كثير من المدارس العلمية والتوجُّهات الفكرية في غالب أوطان المسلمين ، أثرتُه في مناسبات عدة ، ولقاءات وندوات ، وكان البعض يستغرب حديثي عن منهج السلف في الاعتقاد واتفاقهم في غالب مسائله ، ويود لو جمعت بعض النصوص في ذلك ، وبخاصة عن الأئمة الأربعة : أبي حنيفة النعمان ، ومالك بن أنس ، ومحمد بن إِدريس الشافعي ، وأحمد بن محمد بن حنبل ، رحمهم الله تعالى ، مما جعلني أجمع في هذه الرسالة بعضًا من هذه النصوص ، مضيفًا إِليها نصوصا أخرى لأئمةٍ آخرين معتبرين ، كالإِمام البخاري ، والطحاوي ، وابن تيمية ، ومحمد بن عبد الوهاب ، وغيرهم ، رحمهم الله جميعًا ، مقدمًا لهذه النصوص بمقدمةٍ عن أهمية توحيد الله في رُبوبيَّتِه ، وألوهيَّته ، وأسمائه ، وصفاته ، وكيف بَيَّن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ذلك أتمَّ بيانٍ وأكمله ، وكيف خدم علماءُ المسلمين جيلًا بعد جيلٍ العقيدةَ الإِسلامية ، وأثر ذلك في مجتمعاتهم إِلى وقتنا الحاضر ، حيث قامت الدولة السعودية الأولى على يد مؤسسها الإِمام المجاهد محمد بن سعود ، رحمه الله تعالى ، على أساس من دعوة الإصلاح ؛ التي دعا

إليها الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، رحمه الله ، واستمرت هذه الدولة في أحقابها التالية على ذات المنهج ، والذي تجلى في أوضح صورة فيما قام به الإِمام عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود ، رحمه الله ، حيث وحَّد المملكة العربية السعودية ، ونهض بها على أساس من عقيدة التوحيد وشريعة الإِسلام .
ورأيتُ من المناسب ختم هذه الرسالة بذكر قواعد عامة مستقاة من منهج أئمة سلف هذه الأمة في دراستهم لمسائل العقائد والتوحيد ، واعتمادهم في ذلك على كتاب الله تعالى وسنة رسول صلى الله عليه وسلم أولًا وقبل كل شيء ، وهذه القواعد منقولة من مقدمة " شرح العقيدة الطحاوية " لابن أبي العز ، في طبعته المحققة الصادرة في عام ( 1408 هـ ) .
سائلا الله تبارك وتعالى أن ينفع بهذه النقول كل من اطلع عليها ، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم ، وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
عبد الله بن عبد المحسن التركي

لا إله إلا الله أساس الوجود
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، نبينا محمد ، وآله وصحبه ومن والاه . أما بعد فإِن : " لا إِله إِلا الله " هي أساس الوجود فما خَلَق الله الجنَّ والإِنس إِلا لتوحيده وعبادته { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .
وما أرسلَ الله الرسل إِلا لتوحيده وعبادته { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] .
وما خلق الله في هذا الكون من شيء إلا لتوحيده وتسبيحه { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] .
ومن لُباب التوحيد : أن يُحمَد الإِلهُ العليّ العظيم الجليل الرحيم على ذلك .
فَنحمدُ الله الذي جعل توحيده أولَ أمرٍ ، وأعظم مسألة ، وأبقى حقيقة :

{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }{ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [ الفاتحة ] .
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ }{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ }{ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } [ الأنعام : 1 - 3 ] .

{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا }{ قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا }{ مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا }{ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا }{ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } [ الكهف : 1 - 5 ] .
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ } [ سبأ : 1، 2 ] .
{ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الجاثية : 26 ، 37 ] .

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له * شهادة الموقن بوحدانية الله في ربوبيته :

{ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }{ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ }{ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ

وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ }{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }{ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }{ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ الأنعام : 95 - 103 ] .
* وشهادة الموقنِ بوحدانيةِ الله في ألوهيته { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }{ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } [ الزمر : 1، 2 ] .
{ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ غافر : 65 ، 66 ] .

{ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [ البينة : 5 ] .
{ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ الشورى : 10 ] .
{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [ المائدة : 50 ] .
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } [ البقرة : 165 ] .
* وشهادة الموقن بوحدانية الله في أسمائه { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [ الإسراء : 110 ] .
{ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [ طه : 8 ] .

{ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الحشر : 24 ] .
* وشهادةَ الموقن بوحدانيةِ الله في صفاته وأفعاله { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [ البقرة : 255 ] .
{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } [ طه : 5، 6 ] .
{ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ } [ غافر : 15 ] .

{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }{ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }{ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }{ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ }{ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ الحديد : 1 - 6 ] .
{ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ }{ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ }{ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ }{ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ }{ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } [ البروج : 12 - 16 ] .

{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }{ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ }{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }{ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ }{ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ }{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ }{ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } [ القمر : 49 - 55 ] .
{ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ }{ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ }{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }{ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ فصلت : 9 - 12 ] .

{ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ }{ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ }{ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الذاريات : 47 - 49 ] .
{ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ الأنعام : 115 ] .
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ الشورى : 51 ] .
{ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } [ الأعراف : 144 ] .
{ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا } [ الكهف : 27 ] .
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] .

ونشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله ومُصطفاه ومُجتباه :

* شهادةَ المؤمن بأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم مَنْ استقر في قلبه توحيدك يا ربنا .
* وشهادةَ المؤمن بأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم من دعا إِلى توحيدك يا إِلهنا .
* وشهادة المؤمن بأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم من نطق لسانه بتوحيدك فقال - صلى الله عليه وسلم - « الحمدُ لله الذي وسِعَ سمْعُهُ الأصواتَ » (1) .
« اللهُمَّ إِنِّي أَسْتَخيركَ بعِلمِكَ ، وأَستقْدِرُكَ بقُدْرَتِكَ » (2) .
« ارْبَعوا على أَنفسكم ، إِنكم لا تَدْعون أَصمَّ ولا غائبًا ، إِنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم » (3) .
« اللهمَّ لك الحمدُ ، أنتَ ربُّ السماواتِ والأرضِ ، لك الحمدُ أنت قيمُ السماوات والأرض ومن فيهنّ ، لك الحمدُ ، أنت نورُ السماواتِ والأرض ، قولك الحقُّ ووعدُك الحقُّ ، ولقاؤكَ حقّ ، والجنة حقٌ ، والنارُ حق ، والساعة حقٌ ، اللهمًّ لك أسلمتُ ، وبكَ آمنتُ ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت ، فاغفرْ لي ما قَدّمتُ وما أخَّرت وأسررْت وأعلنت ، أنتَ إِلهي لا إِله لي غيرك » (4) .
_________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الطلاق ، باب الظهار : ( 3460 ) ، وابن ماجه في المقدمة ، باب فيما أنكرت الجهمية : ( 188 ) ، وأحمد في مسنده : ( 6 / 46 ) من قول عائشة رضي الله عنها .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات ، باب الدعاء عند الاستخارة : ( 6382 ) ، وأبو داود في كتاب الصلاة ، باب في الاستخارة : ( 1538 ) ، والترمذي في كتاب الصلاة ، باب ما جاء في صلاة الاستخارة : ( 480 ) ، والنسائي في كتاب النكاح ، باب كيف الاستخارة : ( 3253 ) .
(3) أخرجه البخاري واللفظ له ، في كتاب المغازي ، باب غزوة خيبر : ( 4205 ) ، ومسلم في كتاب الذكر ، باب استحباب خفض الصوت بالذكر : ( 2704 ) ، وأبو داود في كتاب الصلاة ، باب الاستغفار : ( 1526 ) .
(4) أخرجه البخاري واللفظ له ، في كتاب التوحيد ، باب قول الله تعالى : ( وهو الذي خلق السماوات . . . ) : ( 7385 ) ، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل : ( 2717 ) .

« أَصبَحْنَا على فِطرةِ الإِسلامِ ، وعلى كلمة الإِخلاص ، وعلى دِين نبيِّنَا محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى ملَّةِ أَبِيَنَا إِبراهيمَ حَنيفًا مُسلمًا ، وما كَانَ مِنَ المُشرِكينَ » (1) .
« أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِله إِلا الله ، وأَن محمدًا رَسولُ الله . . . » (2) .
« لا إِله إِلا الله وحدَه ، لا شريكَ لهُ ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وهو على كلِّ شيءٍ قَدير . . . » (3) .
« اللهُمَّ ربَّ السَّماوات وربِّ الأرضِ ربَّ العرش العظيم ، ربَنَّا وربَّ كلِّ شيء فالِقَ الحبِّ والنَّوى ، ومُنزِلَ التَّوراةِ والإِنجيل والفرقان أَعوذ بك من شرِّ كلِّ شيءٍ أنتَ آخذٌ بناصيَته ، اللهمّ أنتَ الأول فليسَ قبلكَ شيءٌ ، وأنت الآخِرُ فَليَسً بعدك شيءٌ ، وأنتَ الظاهرُ فليسَ فوقكَ شيءٌ ، وأنت الباطنُ فليسَ دونكَ شيءٌ ، اقض عنَّا الدَّيْنَ وأغْننا مِنَ الفَقْر » (4) .
« إِنكم سَتَرَونَ رَبَّكم كما تَرَوْنَ هذا القمر ، لا تُضامون في رُؤيته ، فإِن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ، وقبل غروبها فافعلوا . . . » (5) .
_________
(1) رواه أحمد في مسنده واللفظ له : ( 3 / 406 ) ، والدارمي في كتاب الاستئذان ، باب ما يقول إِذا أصبح : ( 2691 ) ، وابن السني في عمل اليوم والليلة ، باب ماذا يقول إِذا أصبح : ( 33 ) .
(2) أخرجه البخاري واللفظ له في كتاب الإِيمان ، باب ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة . . ) : ( 25 ) ، ومسلم في كتاب الإِيمان ، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إِله إِلا الله محمدًا رسول الله : ( 22 ) ، وابن حبّان في كتاب الإِيمان ، باب فرض الإِيمان : ( 175 ، 219 ) ، والبغوي في كتاب الإِيمان ، باب البيعة على الإِسلام وشرائعه وقتال من أبى : ( 33 ) من حديث ابن عمر ، وله طرق أخرى كثيرة .
(3) أخرجه البخاري في كتاب العمرة ، باب ما يقول إِذا رجع من الحج أو العمرة أو الغزو ؟ : ( 1797 ) ، ومسلم في كتاب الحج ، باب ما يقول إِذا قفل من سفر الحج وغيره : ( 1344 ) .
(4) أخرجه مسلم واللفظ له ، في كتاب الذكر والدعاء . . ، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع : ( 2713 ) ، وأبو داود في كتاب الأدب ، باب ما يقال عند النوم : ( 5051 ) ، والترمذي في كتاب الدعوات ، باب ما جاء في الدعاء إِذا أوى إِلى فراشه : ( 3400 ) .
(5) أخرجه البخاري واللفظ له ، في كتاب مواقيت الصلاة ، باب فضل صلاة العصر : ( 554 ) ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب فضل صلاتي الصبح والعصر : ( 633 ) ، وأبو داود في كتاب السُّنَّة ، باب في الرؤية : ( 4729 ) ، والترمذي في كتاب صفة الجنة ، باب ما جاء في رؤية الرَّبِّ تبارك وتعالى : ( 2554 ) ، وابن ماجه في المقدمة ، باب فيما أنكرت الجهمية : ( 177 ) ، وأحمد في مسنده : ( 3 / 16 ) ، ( 4 / 11، 12 ) .

« احْفَظ الله يَحْفَظْكَ ، احفَظ الله تجدْهُ تُجاهَكَ ، إِذا سأَلْتَ فَاسألِ الله ، وإذا استَعَنْتَ فاستَعِنْ بالله ، واعلمْ أَنَّ الأمَّةَ لو اجتمَعَتْ على أَنْ يَنْفَعوكَ بشيءٍ ، لم يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بشيء قَدْ كَتَبَه الله لَكَ ، ولو اجتَمعُوا على أَنْ يَضرُّوكَ بشيء ، لم يَضُرُّوكَ إِلاَّ بشيءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله عَليكَ ، رُفِعَت الأَقلامُ ، وجَفّتِ الصحُف » (1) .
« إِنَّ الله تعالى يَبْسُط يدَه بالليل ليَتوبَ مُسِيءُ النهار ، ويَبسُط يده بالنهار ليتوبَ مُسيءُ الليل حتى تَطلعَ الشمسُ من مَغرِبها » (2) .
« سُبْحانَ الله عَدَدَ خَلْقِه ، سُبْحان الله رِضاءَ نَفْسهِ ، سُبحانَ الله زِنَةَ عَرْشِهِ ، سُبحاَنَ الله مِدَادَ كَلِماتِهِ . . . » (3) .
« . . اللهم بِاسمِكَ أَموتُ وأحيا . . (4) » .
« لا إِله إِلا الله العَظيمُ الحليمُ ، لا إِله إِلا الله ربّ العرش العظيمُ ، لا إِله إِلا الله ربُّ السمواتِ ، وربُّ الأرضِ ، وربُّ العرش الكريم » (5) .

ونشهد أنّ حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت كلها توحيدًا خالصًا لله تعالى .
_________
(1) رواه الترمذي واللفظ له ، في كتاب صفة القيامة ، باب ما جاء في صفة أواني الحوض : ( 2516 ) ، وأحمد في مسنده : ( 1 / 293 ) ، والطبراني في « الكبير » : ( 12 / 12988 ، 12989 ) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب التوبة ، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت : ( 2759 ) ، وأحمد في مسنده : ( 4 / 395 ) .
(3) رواه أحمد في مسنده : ( 1 / 353 ، ( 6 / 325 ، 430 ) .
(4) رواه البخاري واللفظ له في كتاب الدعوات ، باب وضع اليد اليمنى تحت الخد الأيمن : ( 6314 ) ، وأبو داود في كتاب الأدب ، باب ما يقال عند النوم : ( 5049 ) ، والترمذي في كتاب الدعوات ، باب ما جاء في الدعاء إذا انتبه من الليل : ( 3417 ) ، وأحمد في مسنده : ( 5 / 385 ) .
(5) رواه البخاري واللفظ له ، في كتاب التوحيد ، باب وكان عرشه على الماء . . . : ( 7426 ) ، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء . . ، باب دعاء الكرب : ( 2730 ) ، والترمذي في كتاب الدعوات ، باب ما جاءَ ما يقول عند الكرب : ( 3435 ) .

كان إِيمانُه توحيدًا ، وكانت نيتُه توحيدًا ، وكانت عبادتُه توحيدًا ، وكان عملُه توحيدًا ، وكان خُلُفه توحيدًا .
{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }{ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [ الأنعام : 161 - 164 ] .
ونشهد أن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير من جاهد في سبيل كلمة التوحيد حتى أتاه اليقين .
ونشهد أن كل توحيدٍ تحقق - بعد مبعثه - كان هو - صلى الله عليه وسلم - سببه بتوفيق المُسبِّبِ ونَصرِه سبحانه .
فصلِّ اللهم على نبيك ورسولك محمد ما عَمرَ قلبٌ بتوحيدك ، وما استضاءَ مُجتمع بنور الإِيمان بك .

وارْضَ اللهم عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين ما دار الفَلَك على شاهِدين بالوحدانية لك خير منهم بعد الأنبياء والمرسلين .
أما بعد فهذا مفتحٌ توحيديّ ذو دلالة مقصودة .
ووجه الدلالة فيه * أن العقيدة هي جِماع الأمر ومِلاكه ، فليس يسبق العقيدة شيء في منهج الدين ، وليس يقوم مقام التوحيد شيء في سلوك التديّن ، وصلاح القلب والعمل .
وما من نبي ولا رسول إِلا كانت العقيدة عمادَ دعوته ، وأول أمره ، وباكورة منهجه { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ الأعراف : 59 ] .
{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ } [ الأعراف : 65 ] .
{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [ الأعراف : 73 ] .
{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [ الأعراف : 85 ] .

{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] .
وما من داعيةٍ ناجحِ إِلا بدأ بما بدأ بهِ الرُّسل ، وكان التوحيد قِوام علمه ودعوته .
يعزز هذه الحقيقة - حقيقة أن العقيدة هي جِماع الأمر ومِلاكه - عبرة التاريخ ، واستقراء الواقع .
فكل بناء لا تكون العقيدة أسّه ، إِنما هو بناء بلا أساس ، وبلا قرار وإِنْ بَدا للناس أنه قد استطالَ .
لقد فسر الناس انهيار الحضارات ، وبوار الأمم ، واضطراب المجتمعات وضنكها بأسباب بلغت المئين عدًّا ، لكن هؤلاء المفسرين غفلوا عن السبب الأسّ وهو : انحراف العقيدة وفسادها بالكفر والشرك والزيغ والضلال والإِعراض .
وهو السبب الذي جَلاّه الله في كتابه الكريم ، ودعا إِلى الاعتبار بنتائجه قال تعالى { وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } [ البقرة : 108 ] .

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا }{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا }{ إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } [ النساء : 167 - 169 ] .
{ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } [ النساء : 136 ] .
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ }{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } [ محمد : 8 - 10 ] .
{ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [ الحج : 31 ] .

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } [ النساء : 116 ] .
{ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ الصف : 5 ] .
{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [ النحل : 36 ] .
{ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ }{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 13، 14 ] .
ووجه الدلالة في ذلك المَفْتح * أننا - نحن المسلمين - لا نعبد مجهولًا ، بل نعبد إِلهًا نعرفه بأسمائه وصفاته .
* ووجه الدلالة فيه - كذلك - أن للعلم بالله تعالى - وهو أعظم العلوم وأشرفها وأنفعها - منهجًا توقيفيًا .

وطريق العلم بهذا المنهج التوقيفي هو : الوحي ، وهو كلام الله الذي أوحاه إِلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو سنّة الرسول في التعريف بالله عز وجل .
إِن الله تعالى أخبر - في كتابه الكريم - بدلائل ربوبيته ، وخصائص ألوهيته ، وأخبر بأسمائه وصفاته .
وآمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما أخبر به الله على مراد الله .
وبيَّن - صلى الله عليه وسلم - ما أراده الله من توحيد وإِخلاص . وعلَّم أصحابه هذا الإِيمان { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [ البقرة : 285 ] .
لبث الرسول - صلى الله عليه وسلم - من لْدُنْ مبعثِه إِلى أن انتقل إِلى الرفيق الأعلى ، يُعلِّم أصحابه التوحيد الخالص ، ويزكيهم به . فما انقطع خبر السماء ، وما اختار رسول الله ما عند الله إِلا بعد أن انتصر التوحيد ، واستقر الإِيمان الخالص ، ورسخت دعائمه ، وعلت راياته البهية .

لقد كان صَحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم جُند التوحيد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهم دعاته وحرّاسه ، فقد لزموا منهج نبيهم الكريم الذي رباهم على توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات ، وهم الموصوفون - ابتداءً - في قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ }{ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ }{ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ }{ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } [ المؤمنون : 57 - 60 ] .
وفي قوله جلَّ شأنُهُ :

{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ }{ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ }{ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [ آل عمران : 7 - 9 ] .
وفي قوله سبحانه :

{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ }{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }{ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }{ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ }{ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ }{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ

وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } [ آل عمران : 190 - 195 ] .
وهم المقصودون بالأولية في خير القرون في حديث : « خَيرُ الناس قَرْني ، ثم الذين يَلونهم ، ثم الذين يَلونهم . . . » (1) .
فمقياس الأولية في هذه الخيرية العظيمة هو : التوحيد العظيم المكين الخالص .
فما يُخَيَّرُ قوم على قوم إِلا بصدق التوحيد ، والعمل بمقتضاه .
يقول الحافظ أبو القاسم اللالكائي " فإِنّ أوجب ما على المرء ، معرفة اعتقاد الدين ، وما كلّف الله به عباده من فَهم توحيده وصفاته ، وتصديق رسله بالدلائل واليقين ، والتوصل إِلى طرقها ، والاستدلال عليها بالحجج والبراهين ، وكان من أعظم مقول ، وأوضح حجةِ ومعقول : كتاب الله الحق المبين ، ثم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وَصحابته الأخيار المتقين ، ثم ما أجمع عليه السلف الصالحون ، ثم التمسك بمجموعها والمقام عليها إِلى يوم الدين ، ثم الاجتناب عن البدع والاستماع إِليها مما أحدثها المضلون .
_________
(1) أخرجه البخاري واللفظ له ، في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، باب فضائل أصحاب النبي : ( 3651 ) ، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة ، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم . . : ( 2533 ) ، وأبو داود في كتاب السنّة ، باب فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( 4657 ) ، والترمذي في كتاب الفتن ، باب ما جاء في القرن الثالث : ( 2221 ) ، والنسائي في كتاب الأيمان والنذور، باب الوفاء بالنذر : ( 3809 ) .

فهذه الوصايا الموروثة المتبوعة ، والآثار المحفوظة المنقولة ، وطرائق الحق المسلوكة ، والدلائل اللائحة المشهورة ، والحجج الناهرة المنصورة ، التي عمل عليها الصحابة والتابعون ، ومن بعدهم من خاصة الناس وعامتهم من المسلمين ، واعتقدوها حجة فيما بينهم وبين الله رب العالمين " (1) .
ثم يقول " فلم تزل الكلمة مجتمعة (2) والجماعة متوافرة على عهد الصحابة الأول ومن بعدهم من السلف الصالحين ، حتى نبغت نابغة بصوت غير معروف ، وكلام غير مألوف في أول إِمارة المروانية تُنازع في القدر وتتكلم فيه " (3) .
ولقد تأذن الله تعالى أن يَختار من أوليائه وخاصته من يكر على أصوات الباطل بحقائق التوحيد فيدفعها ، ويعيد التوحيد نقيًا قويًا . وقد قال الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - « لا تزالُ طائفة من أُمتي ظاهِرينَ على الحقَّ لا يَضُرُّهمْ مَنْ خَذَلهم حتى يأتيَ أمر الله وهُمْ كذلك » (4) .
إِنَّ دلالة هذا الحديث تحققت في كل عصر ولله الفَضْلُ والمَنُّ .
_________
(1) « شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة » لأبي القاسم اللالكائي : ( 1 / 9 ) .
(2) المقصود بالكلمة ، كلمة العقيدة المنجية .
(3) أي في إِمارة عبد الملك بن مروان ، ففي عهده خرج معبد الجهني ، وهو أول من أظهر القول بالقدر . « شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة » : ( 1 / 16 ) .
(4) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تزال طائفة من أًمتي . . » : ( 7311 ، 7312 ) ، ومسلم واللفظ له ، في كتاب الإِمارة ، باب قوله صلى الله عليه وسلم : « لا تزال طائفة من أمتي . . » : ( 1920 ) ، والترمذي في كتاب الفتن ، باب ما جاء في الأئمة المضلين : ( 2229 ) ، وابن ماجه في المقدمة ، باب اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم : ( 10 ) .

وتأتلق هذه الدلالة أشد ما تأتلق في مقام عقيدة التوحيد ، وخلوص الإِيمان ، فقد برز في كل قرن من القرون رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، قاموا بالذبِّ عن العقيدة الصحيحة السليمة خير قيام ، وجاهدوا في سبيل تثبيت أُسسها وترسيخ قواعدها خير جهاد ، وكان نَهجهم الدعوة والعلم والعمل ، فكان خير نهج ، فأعطى خير ثمار .
ففي أواخر القرن الأول وبدايات القرن الثاني برز من هؤلاء الرجال - على سبيل المثال لا الحصر - : القاسم بن محمد بن أبي بكر ، وسليمان بن يسار .
وفي القرن الثاني ظهر : مالك بن أنس ، وسفيان الثوري ، ووكيع بن الجراح .
وفي القرن الثاني وأوائل القرن الثالث برز : أبو عبد الله محمد بن إِدريس الشافعي ، والفَضْل بن دُكين .
وفي القرن الثالث برز : أحمد بن حنبل ، ومحمد بن إِسماعيل البخاري ، وأبو داود سليمان بن الأشعث .
وفي أواخر القرن الثالث ظهر : محمد بن جرير الطبري .
وفي القرن الرابع ظهر : عبد الرحمن بن أبي حاتم ، وعلي بن عمر الدارقطني .
وفي القرن الخامس برز : هبة الله بن الحسن بن منصور اللالكائي .
وفي القرن السادس ظهر : الحسين بن مسعود البغوي ، وعبد الغني بن عبد الواحد بن سرور الحنبلي .

وفي أواخر القرن السابع ، وأوائل القرن الثامن ، ظهر الإِمام الجليل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وكان لظهوره ما بعده .
فقد جمع ابن تيمية منهج أهل السنة والجماعة ؛ في العلم ، والاعتقاد ، والفهم ، والعمل ، والسلوك ، وأحياه ، وحرّره تحريرًا بديعا ، اتسم بسعة العلم ، وقوة الأمانة ، وحسن العرض ، ودقة الضبط .
ولكن الإِمام ابن تيمية - رحمه الله - سُبِقَ ولُحقَ - في هذا الميدان - بجهاد علمي ، صادق ومتصل من الكَثير من رجالات أهل السنة والجماعة ، كما ذكرنا .
" وخليق بنا أن نذكرها هنا حقيقتين مهمتين (1) _________
(1) هذه الفقرة مقتطفة من مقدمة كتاب « شرح العقيدة الطحاوية » للإِمام ابن أبي العز الدمشقي ، تحقيق د عبد الله التركي ، والشيخ شعيب الأرنؤوط : ( ص35 ، 36 ) .

الأولى : أن أهل السنة والجماعة ، وهم يبينون العقيدة المنجية في توحيد الله تعالى ، وما يلحق بها من شُعب الإيمان الأخرى ، يُجلون في الوقت نفسه ، ووفق المنهج المعتمد ، وفي ذات السياق ، الاعتقاد العاصم في مسائل : عدالة الصحابة ، وتَفضيل الخلفاء الأربعة الراشدين : أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وخَيرية القرون الأولى ، والإِمامة ، وعدم مُنازعة الأمر أهله ، ومُضي الجهاد ، والكف عن تكفير المسلم بالمعاصي والذنوب ، إِذا لم يستَحلها ، إِلا بدليل يدل على كفر مرتكبها ؛ كترك الصلاة متعمدًا ، فقد دل الدليل على كفر من فَعله ، ووحدة الجماعة ، والتزام المنهج الصحيح في فهم الدين .
إِن هذا الترابط الموضوعي والمنهجي بين التوحيد ، وبين هذه المسائل يدل على أ - أن التوحيد هو المنهج الحاكم الذي يجب أن تُفهم كل مسألة في هُداه .
ب - أن الانحراف في هذه المسائل ، ذريعة إِلى جرح التوحيد وإِمراضه .
مثال ذلك : عَدالة الصحابة ، فإِن القَدح في هذه العدالة ، ذريعة إِلى رد آياتٍ قرآنية ، أَخبرت بفضل الصحابة وعدالتهم ، ورد القرآن إِلحاد من الإِلحاد .

ج - أن الذين جادلوا بالباطل ، في القديم والحديث ، في هذه المسائل لم يُعرفوا بصحة العقيدة .
الثانية : أن جمهور علماء أهل السنة والجماعة ، وأئمتهم من المذاهب الأربعة وغيرها ، على عقيدة واحدة ، وإِن اختلفوا في الفروع الاجتهادية .
وقد كتب في ذلك علماء مشهورون من مختلف المذاهب ، كالإِمام أبي حنيفة في رسالته ( الفقه الأكبر ) ، والإِمام الطحاوي الحنفي في عقيدته ، وشرحها لابن أبي العز ، والإِمام أحمد بن حنبل فيما نُقل عنه من رسائل وإِجابات في العقائد ، والإِمام البخاري ، وابن أبي زيد القيرواني المالكي في رسالته المشهورة وغيرهم " .
ولتَسْتَبينَ هذه الحقائق وتتضح ، سنورد نماذج مما نُقل عن بَعض أئمة أهل السنة والجماعة في مجال العقيدة .

الإمام أبو حنيفة : (1)
قال الإِمام أبو حنيفة (2) - رحمه الله تعالى - : اعلموا يا أصحابي وإِخواني ، أنَّ مذهب أهلِ السنة والجماعة على اثنتي عشرة خصلة الأولى : الإِيمان ، وهو إِقرارٌ باللسان وتصديقٌ بالجَنان (3) .
والإِقرار وحده لا يكون إِيمانًا ، لأنه لو كان إِيمانًا لكان المنافقون كلهم مؤمنون .
وكذلك المعرفة وحدها لا تكون إِيمانًا ، لأنها لو كانت إِيمانًا لكان أهل الكتاب مؤمنين .
والمؤمن مؤمن حقًا ، والكافر كافر حقًا ، وليس في الإِيمان شك ، كما أنه ليس في الكفر شَك ، قال الله تعالى : { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } [ الأنفال : 4 ] .
وقال : { أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } [ النساء : 151 ] .
والعاصون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلهم مؤمنون حقًا (4) وليسوا بكافرين .
وتقدير الخير والشر من الله تعالى ، لأنه لو زعم أحد أن قدير الخير والشر من غيره ، لصار كافرًا بالله تعالى ، وبطل توحيده .
والثانية : نُقر بأن الأعمال ثلاثة ؛ فريضة ، وفضيلة ، ومعصية فالفريضة بأمر الله ومَشيئتِه ورضائِه وقدره وتَخليقه وكتابته في اللوح المحفوظ .
_________
(1) النعمان بن ثابت بن زوطى الكوفي ، ولد سنة ( 80 هـ ) ، وتوفي سنة ( 150هـ ) ببغداد ، « سير أعلام النبلاء » : ( 6 / 390 - 404 ) .
(2) « الطبقات السنية في تراجم الحنفية » : ( 1 / 156 - 160 ) .
(3) لا يكتمل التعريف الصحيح للإِيمان ، إِلا بإِضافة عمل الجوارح ، وهو الذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة من دخول الأعمال في مسمى الإيمان .
(4) ولا ينفي عنهم ذلك كونهم عصاة ، فهم مؤمنون عصاة .

والفضيلة ليست بأمر الله ، ولكن بمشيئتِه ومحبته ورضائه وقدره وتخليقه وكتابته في اللوح المحفوظ .
والمعصية ليست بأمر الله ، لكن بمشيئته لا بمحبته ، وبقضائه لا برضائه ، وبتقديره لا بتوفيقه ، وبخذلانه وعلمه وكتابته في اللوح المحفوظ (1)
والثالثة : نُقرّ بأن الله سبحانه وتعالى على العرش استوى ، وهو حافظ للعرش ، وغير العرش ، من غير احتياج ، فلو كان محتاجًا لما قدر على إِيجاد العالم وتدبيره .
والرابعة : نُقِرّ بأن القرآن كلامُ الله تعالى ، غير مخلوق ، ووحيه وتنزيله ، لا هو ولا غيره ، بل هو صفته على التحقيق ، مكتوب في المصاحف ، مقروءٌ بالألسنة ، محفوظ في الصدور ، غير حالٍّ فيها . والحِبر والكاغَدُ والكتابة مخلوق ، لأنها أفعال العباد ؛ لأن الكتابة والحروف والكلمات والآيات آلة (2) القرآن ، لحاجة العباد إِليها .
الخامسة : نُقرّ بأن أفضل هذه الأمة بعد نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ؛ أبو بكر الصدِّيق ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي رضوان الله عليهم أجمعين ، لقول الله تعالى : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ }{ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ }{ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } [ الواقعة : 10 - 12 ] .
_________
(1) الأمر قسمان : 1 - كوني ، كقوله تعالى : ( إنما أمره إذا أراد شيئَاَ أن يقول له كن فيكون ) ، وقوله : ( وكان أمر الله مفعولا ) ، وهو مختص بالإِيجاد والخلق . 2 - شرعي ديني ، بقوله : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) ، وقوله : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إِلى أهلها ) وهو أمر تخييري ابتلائي ، وليس هو بمعنى القضاء والقدر . انظر « شفاء العليل » لابن القيم : ( 587 - 588 ) . وقال الشيخ علي القاري : ( والطاعات كلها واجبة بأمر الله تعالى وبمحبته ، لقوله تعالى : ( والله يحب المحسنين ) ، وبرضائه ، لقوله تعالى في حق المؤمنين : ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) ، وعلمه وقضائه وتقديره ، أي : بمقدار قدَّره . والمعاصي كلها ، أي : صغيرها وكبيرها ، بعلمه وقضائه وتقديره ومشيئته ، إِذ لو لم يردها لما وقعت ، لا بمحبته ، لقوله تعالى : ( فإِن الله لا يحب الكافرين ) ، ولا برضائه ، لقوله تعالى : ( ولا يرضى لعباده الكفر ) ، ولأن الكفر يوجب المقت الذي هو أشد الغضب ، وهو ينافي رضى الله المتعلق بالإيمان وحسنِ الأدب ، ولا بأمره ، لقوله تعالى : ( قل إن الله لا يأمر بالفحشاء ) ، وإِذاَ فهي داخلة في ذلك الأمر استحسانا . انظر « شرح الفقه الأكبر » : ( 83 - 84 ) .
(2) في « الطبقات السنية » : ( دلالة ) ، والمثبت : من شرح الفقه الأكبر . قال الشيخ علي القاري : « ونحن نتكلم بالآلات ، أي : من الحلق واللسان والشفة والأسنان ، والحروف ، أي : الأصوات المعتمدة على المخارج المعهودات بالهيئات المعروفات ، والله تعالى يتكلَم بلا آلة ولا حروف ، والحروف مخلوقة ، أي : كالآلات » . انظر « شرح الفقه الأكبر » : ( 51 ) .

وكل من كان أسبق إِلى الخير فهو أفضل عند الله تعالى ، ويحبهم كل مؤمن تقي ، ويبغضهم كل منافق شقيّ .
والسادسة : نُقر بأن العبدَ معِ أعماله وإِقراره ومعرفته مخلوق ، فلما كان الفاعل مخلوقاَ ، فأفعاله أولى أن تكون مخلوقة .
والسابعة : نُقرّ بأن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ولم يكن لهم طاقة ، لأنهم ضُعفاء عاجزون ، فالله تعالى خالقهم ورازقهم ، لقوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ الروم : 40 ] . والكسب بالعلم والمال من الحلال حلال ، ومن الحرام حَرام .
والثامنة : نُقر بأن الاستطاعة مع الفعل ، لا قبل الفعل ، ولا بعد الفعل ، لأنه لو كان قبل الفعل لكان العبد مستغنيًا عن الله تعالى وقت الحاجة ، فهذا خلاف حكم النص ، لقوله تعالى : { وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ } [ محمد : 38 ] .
ولو كان بعد الفعل لكان من المحال ، لأنه حصول بغير استطاعة ولا طاقة .
والتاسعة : نُقرّ بأن المسحَ على الخُفين واجب للمقيم يومًا وليلة (1) ، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها ، لأن الحديث ورد هكذا .
_________
(1) المقصود بالوجوب ، هو على من يريد بقاء الخفين على والرجلين ، فإنه يجب عليه المسح ، فلو صلى من غير مسح لم تصح صلاته .

فمن أنكر فإِنه يُخشى عليه الكفر ، لأنه قريب من الخبر المتواتر .
والقصر والإِفطار في السفر رخصةٌ بنص الكتاب .
والعاشرة : نُقرُّ بأن الله تعالى أمر القلم أن يكتب ، فقال القلم : ماذا أكتب يا ربِّ ؟ فقال الله تعالى : اكتب ما هو كائن إِلى يوم القيامة ، لقوله تعالى : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ }{ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ } [ القمر : 52 ، 53 ] .
والحادية عشرة : نُقرّ بأن عذاب القبر كائنٌ لا محالة ، وسُؤالَ مُنكر ونكير حَقٌ ، لورود الأحاديث .
والجَنَّة والنارَ حَقٌ ، لقوله تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [ الأنبياء : 47 ] .
وقراءةَ الكتب حق ، لقوله تعالى : { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } [ الإِسراء : 14 ] .
والثانية عشرة : نُقرُّ بأن الله تعالى يُحيي هذه النفوسَ بعدَ الموت ، ويَبعثهم في يوم كان مقدارُه خمسين ألف سنة ، للجزاء والثواب وأداء الحقوق ، لقوله تعالى : { وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ } [ الحج : 7 ] .
ولقاء الله تعالى لأهلِ الحقِّ حقُّ بلا كَيْفية (1) ولا تشبيه ولا وَجْه (2) .
_________
(1) يعني : لا نعلمهما ، وإلا فله كيفية.
(2) لعله يقصد الجهة ، وفيها تفصيل .

وشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لكل من هو من أهل الجنة ، وإِن كان صاحب الكبيرة .
وعائشة - رضي الله عنها - بعد خديجة الكبرى أفضل نساء العالمين ، وأم المؤمنين ، ومطهرة من الزنى بريئة عما قال الروافض ، فمن شهد عليها بالزنى فهو ولد الزنى .
وأهل الجنة في الجنة خالدون ، وأهل النار في النار خالدون ، لقوله تعالى في حق المؤمنين : . . . { أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ الأعراف : 42 ] ، وفي حق الكفار : . . . { أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 39 ] ، والله تعالى أعلم .

الإمام مالك : (1)
قال الإمام مالك - رحمه الله تعالى - : الإِيمان قول وعمل ، يزيد وينقص ، وبعضه أفضل من بعض .
وسئل عن الإيمان فقال : قول وعمل . قيل : أيزيد وينقص ؟ قال : قد ذكر الله سبحانه في غير آيٍ من القرآن أن الإيمان يزيد ، فقيل : أَينقص ؟ قال : دع الكلام في نقصانه وكُفّ عنه ، فقيل : فبعضه أفضل من بعض ؟ قال : نعم (2) .
وكان يقول : القرآن كلام الله ، وكلام الله من الله ، وليس من الله شيء مخلوق ، ومن قال : القرآن مخلوق ، فهو كافر ، والذي يقف ، أشد منه ، يُسْتَتاب وإِلا ضُربت عنقه (3) .
وسأله أبو السَّمح قال : أيُرى الله يوم القيامة ؟ فقال : نعم ، يقول الله عز وجل : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ }{ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 ، 23 ] ، وقال لقومٍ آخرين : { كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ] (4) .
وسأله الوليد بن مسلم عن هذه الأحاديث التي فيها ذكر الرؤية فقال : أَمِرّوها كما جاءت بلا كيف (5) .
_________
(1) مالك بن أنس بن مالك ، أبو عبد الله الأصبحي الحميري ، إِمام دار الهجرة ، توفي في المدينة المنورة سنة ( 179هـ ) . « سير أعلام النبلاء » : ( 8 / 43 - 120 ) .
(2) « الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء » : ( 33 ) .
(3) « ترتيب المدارك » : ( 1 / 174 ) .
(4) « الانتقاء » : ( 36 ) .
(5) « ترتيب المدارك » : ( 1 / 170 - 171 ) ، و « شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة » : ( 1 / 398 ) . وانظر بعض أحاديث الرؤية في « حادي الأرواح » لابن القيم : ( 296 - 330 ) ، و « شرح العقيدة الطحاوية » لابن أبي العز تحقيق د عبد الله التركي ، والشيخ شعيب الأرنؤوط : ( 1 / 215 - 218 ) .

وقال له رجل مرةً : يا أبا عبد الله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] ، كيف استوى ؟ فقال : الاستواء منه معلوم ، والكيفُ منه غير معقول ، والسؤال عن هذا بدعة ، والإِيمان به واجب ، وإِني لأظنك ضالًا ، أخرجوه عني (1) .
وكان يقول : الله في السماء ، وعلمه في كل مكان ، لا يخلو منه شيء (2) .
وسُئِل الإِمام مالك : مَنْ أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أبو بكر ، فقيل : ثم مَنْ ؟ قال : عمر ، قيل : ثم مَنْ ؟ قال : عثمان ، قيل : ثمَّ ؟ فقال : هاهنا وقف الناس ، رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّرَ أبا بكر على الصلاة ، واختار أبو بكر عُمرَ ، وجَعلها عمرُ إِلى ستةٍ فاختاروا ، فوقف الناس هاهنا (3) .
وكان يقول : إِن أهل السنة ، الذين ليس لهم لقب يعرفون به ؛ لا جَهْمي ولا قَدَري ولا رافضيّ .
_________
(1) « الانتقاء » : ( 35 ) .
(2) « الانتقاء » : ( 35 ) .
(3) « ترتيب المدارك » : ( 1 / 175 ) .

وليس لمن سبَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفيء حقٌّ ، قد قسم الله الفيءَ على ثلاثة أصناف ، فقال : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ } [ الحشر : 8 ] ، وقال : { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ } . . . [ الحشر : 9 ] ، وقال : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } . . . [ الحشر : 10 ] وإِنما الفَيْء لهؤلاء الثلاثة الأصناف (1) .
وقال : أهل الأهواء بئس القوم ، لا يُسَلَّم عليهم واعتزالهم أحب إِلي (2) .
وكان رحمه الله كثيرًا ما يتمثل بقول الشاعر
وخَيُر أمورِ الدِّينِ ما كَانَ سُنَّةً ... وشرُّ الأُمور المُحدَثَاتُ البَدائعُ (3) .
_________
(1) « الانتفاء » : ( 36 ) .
(2) نفس المصدر : ( 34 ) .
(3) نفس المصدر : ( 37 ) .

الإمام الشافعي : (1) .
قال الإِمام الشافعي - رحمه الله تعالى - : " الإِيمان قول وعمل ، ويزيد وينقص .
وسأله رجل : أي الأعمال عند الله أفضل ؟ فقال ما لا يقبل عملًا إِلا به . قال : وما ذاك ؟ قال : الإِيمان بالله الذي لا إِله إِلا هو ، أعلى الأعمال درجة ، وأشرفها منزلة ، وأسناها حظًا ، قال الرجل : ألا تخبرني عن الإِيمان ؛ قول وعمل أو قول بلا عمل ؟
فقال : الإيمان عمل لله ، والقول بعض ذلك العمل .
وإن الإيمان حالات ودرجات وطبقات ، فمنها التام المنتهي تمامُه ، والناقص البَيِّن نقصانُه ، والراجح الزائد رجحانُه .
فقال الرجل : وإِن الإِيمان ليتمّ وينقص ويزيد ؟
قال الشافعي : نعم .
قال : وما الدليل على ذلك ؟
قال : إِن الله جلَّ ذكره فرض الإِيمان على جوارح بني آدم فقسمه فيها ، وفرقه عليها ، فليصر من جوارحه جارحة إِلا وقد وُكلت من الإِيمان بغير ما وكلت به أختها بفرضٍ من الله تعالى .
فمن لقي الله حافظًا لصلواته حافظًا لجوارحه ، مؤديًا بكل جارحة من جوارحه ما أمر الله به وفرض عليها ، لقي الله مستكملَ الإِيمان من أهل الجنة .
ومن كان لشيءٍ منها تاركًا متعمدًا ، مما أمر الله به لقي الله ناقص الإِيمان .
_________
(1) محمد بن إِدريس بن العباس بن عثمان ، أبو عبد الله الهاشمي القرشي ، أحد الأئمة الأربعة ، توفي في القاهرة سنة ( 204 هـ ) ، « سير أعلام النبلاء » : ( 10 / 5 - 99 ) .

قال الرجل : قد عرفت نقصانه وإِتمامه ، فمن أين جاءت زيادته ؟
فقال الشافعي : قال الله جلَّ ذكره : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا } [ التوبة : 124 ] .
ولو كان هذا الإِيمان كله واحدًا لا نقصان فيه ولا زيادة ، لم يكن لأحدٍ فيه فضل ، واستوى الناس وبطل التفضيل .
ولكن بتمام الإِيمان دخل المؤمنون الجنة .
وبالزيادة في الإِيمان تفاضَل المؤمنون بالدرجات عند الله في الجنة .
وبالنقصان من الإِيمان دخل المُفرِّطون النار (1) .
وقال - رحمه الله تعالى - في قوله عزَّ وجلَّ : { كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ] هذا دليل على أن أولياءَه يرونه يوم القيامة ، فلما حجبهم بالسخط ، كان هذا دليلًا على أنهم يرونه في الرضا (2) .
_________
(1) « مناقب الشافعي » للبيهقي : ( 1 / 387 - 393 ) .
(2) نفس المصدر : ( 1 / 420 ) .

وقال : لله أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيّه صلى الله عليه وسلم أُمّته ، لا يَسَع أحدًا قامت عليه الحجة رَدّها ، لأن القرآن نزل بها ، وصَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها ، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه ؛ فهو كافر ، فأما قبل ثبوت الحجة فمعذور بالجهل ؛ لأن علم ذلك لا يُدرَكُ بالعقل ، ولا بالروية والفِكر . ولا نُكَفِّر بالجهل بها أحدًا إِلا بعد انتهاء الخبر إِليه بها .
ونُثبتُ هذه الصفات وننفي عنها التَّشبيه كما نَفاه عن نفسه ، فقال : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (1) [ الشورى : 11 ] .
_________
(1) « سير أعلام النبلاء » : ( 10 / 79 - 80 ) .

والقرآن كلام الله تعالى غير مخلوق (1) ، ومشيئةُ العباد هي إِلى الله تعالى ، ولا يَشاؤون إِلا أنْ يَشاء الله ربُّ العالمين ، فإِن الناس لم يخلقوا أعمالهم ، وهي خَلقُ مِنْ خَلْقِ الله تعالى ، وإِن القدرَ خيرَه وشرّه من الله عزَّ وجلَّ ، وإِن عذابَ القبر حق ، ومُساءَلَةَ أهل القبور حق ، والبعثَ حق ، والحسابَ حق ، والجنة والنار ، وغير ذلك مما جاءت به السُّنن فظهر على ألسنة العلماء وأتباعهم من بلاد المسلمين ، حق (2) . وأفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي رضوان الله عليهم . (3) .
وقد أثنى الله على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن ، وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحدٍ بعدهم ، وهم أدّوا إِلينا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشاهدوه والوحي ينزل عليه ، فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم عامًّا وخاصًّا وعزمًا وإِرشادًا ، وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا ، وهم فوقنا في كل علمٍ واجتهاد ، وآراؤهم لنا أحمد ، وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا (4) .
_________
(1) « مناقب الشافعي » : ( 1 / 407 ) .
(2) نفس المصدر : ( 1 / 415 ) .
(3) نفس المصدر : ( 1 / 433 ) .
(4) نفس المصدر : ( 1 / 442 ) .

ولا يَلْزَمُ قولٌ بكل حالٍ إِلا بكتاب الله أو سنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإِن ما سواهما تَبعٌ لهما ، وكلّ مُتكلمٍ على الكتاب والسنة فهو الحد الذي يجب ، وكل متكلمٍ على غير أصل كتابٍ ولا سُنة فهو هَذَيان ، والله أعلم " (1) .
_________
(1) نفس المصدر : ( 1 / 470 ، 475 ) .

الإمام أحمد بن محمد بن حنبل : (1)
قال الإِمام أحمد ابن حنبل رحمه الله تعالى : (2)
" أصول السُّنَّةِ عندنا : التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والاقتداء بهم ، وترك البدع ، وكل بدعة فهي ضلالة ، وترك الخصومات ، والجلوس مع أصحاب الأهواء ، وترك المراء والجدال ، والخصومات في الدين .
والسنة عندنا : آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والسنة تفسر القرآن ، وهي دلائل القرآن .
ومن السنة اللازمة التي مَن ترك منها خصلة لم يَقبلها ويؤمن بها ، لم يكن من أهلها : الإيمان بالقدر خيره وشره ، والتصديق بالأحاديث فيه ، والإِيمان بها ، لا يقال : لم ؟ ولا كيف ؟ إِنما هو التصديق بها والإيمان بها .
ومن لم يعرف تفسير الحديث ويبلغه عقله ، فقد كُفي ذلك وأحكم له ، فعليه الإِيمان به ، والتسليم له ، مثل حَديث الصادق المصدوق (3) ، وما كان مثله في القدر ، ومثل أحاديث الرؤية كلها ، وإِن نَبت عن الأسماع ، واستوحش منها المستمع ، فإِنما عليه الإِيمان بها ، وألا يردَّ منها حَرفًا واحدًا ، وغيرها من الأحاديث المأثورات عن الثقات .
_________
(1) أحمد بن محمد بن حنبل ، أبو عبد الله الشيباني ، أحد الأئمة الأربعة ، توفي ببغداد سنة ( 241 هـ ) ، « سير أعلام النبلاء » : ( 11 / 177 - 357 ) .
(2) انظر : « شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة » للالكائي : ( 1 / 156 - 164 ) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب القدر ، باب في القدر : ( 6594 ) ، ومسلم في كتاب القدر ، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه . . . : ( 2643 ) ، وأبو داود في كتاب السنة ، باب في القدر : ( 4708 ) ، والترمذي في كتاب القدر ، باب ما جاء في أن الأعمال بالخواتيم : ( 2137 ) ، وابن ماجه في المقدمة ، باب في القدر : ( 76 ) ، من حديث عبد الله بن مسعود ، قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : « إِنَّ أحدَكُم يُجمع خَلقُه في بطنِ أمه أربعين يوما ، ثم يكون في ذلك عَلقةً مثل ذلك ، ثم يكون في ذلك مُضغةً مثل ذلك ، ثم يُرسل الملَك فيَنفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد . فوالذي لا إِله غيره إِن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إِلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها . وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إِلا ذراع ، فيَسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها » .

وأن لا يخاصم أحدًا ولا يُناظره ، ولا يتعلم الجدل ، فإِن الكلام في القدر والرؤية والقرآن ، وغيرها من السنن ، مكروه منهي عنه ، ولا يكون صاحبه إِن أصاب بكلامه السنة : من أهل السنة حتى يدع الجدل ويسلم ، ويؤمن بالآثار .
والقرآن كلام الله ، وليسَ بمخلوق ، ولا تضعف أن تقول : ليس بمخلوق ، فإِن كلام الله منه ، وليس منه شيء مخلوق ، وإِياك ومناظرة من أحدث فيه ، ومن قال باللفظ وغيره ، ومن وقف فيه ، فقال : لا أدري مخلوق أو ليس بمخلوق ، وإِنما هو كلام الله ، وليس بمخلوق .
والإِيمان بالرؤية يوم القيامة ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحاح .
والإِيمان بالميزان كما جاء ، وتوزن أعمال العباد كما جاء في الأثر .
وأنَّ الله تبارك وتعالى يكلم العباد يوم القيامة ليس بينهم وبينه ترجمان .
والإِيمان بالحوض ، وأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضًا يوم القيامة ترد عليه أُمته ، عرضه مثل طوله مَسيرة شهر ، آنيته كعدد نجوم السماء على ما صحت به الأخبار من غير وجه .

والإِيمان بعذاب القبر ، وأن هذه الأمة تُفتن في قبورها وتُسأل عن الإِيمان ، والإِسلام ، ومن ربه ، ومن نبيه ؟ ويأتيه منكر ونكير كيف شاء الله عز وجل ، وكيف أراد .
والإِيمان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبقوم يخرجون بعدما احترقوا وصاروا فحمًا ، فيؤمر بهم إِلى نهر على باب الجنة كما جاء في الأثر ، كيف شاء الله ، وكما شاء .
والإِيمان أن المسيح الدجال خارج ، مكتوب بين عَينيه : كافر ، والأحاديث التي جاءت فيه ، والإِيمان بأن ذلك كائن ، وأن عيسى ابن مريم ينزل فيقتله بباب لُد .
والإِيمان قولٌ وعمل يزيد وينقص ، كما جاء في الخبر : « أكمل المؤمنين إِيمانًا أحسنهم خلقًا » (1) .
وخيرُ هذه الأمة بعد نبيها ، أبو بكر الصديق ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم عثمان بن عفان ، نقدم هؤلاء الثلاثة ، كما قدمهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا في ذلك .
ثم بعد هؤلاء الثلاثة أصحاب الشورى الخمسة : علي بن أبي طالب ، وطَلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد ، كلهم يصلح للخلافة ، وكلهم إِمام .
_________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب السنة ، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه : ( 4682 ) ، والترمذي في كتاب الرضاع ، باب حق المرأة على زوجها : ( 1162 ) ، وأحمد في مسنده : ( 2 / 250 ، 472 ) ، وصححه ابن حبان في كتاب البر والإحسان ، باب حسن الخلق : ( 4176 ) ، والحاكم في كتاب الإيمان : ( 1 / 3 ) ، ووافقه الذهبي .

ثم من بعد أصحاب الشورى ، أهل بدر من المهاجرين ، ثم أهل بدر من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على قدر الهجرة والسابقة أولًا فأول .
ثم أفضل الناس بعد هؤلاء ، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم القرن الذي بعث فيهم .
كل من صحبه سنة ، أو شهرا ، أو يوما ، أو ساعة ، أو رآه ساعةً فهو من أصحابه ، له من الصّحْبَةِ على قدر ما صحبه ، وكانت سابقته معه ، وسمع منه ، ونظر إِليه .
فأدناهم صحبة هو أفضل من القَرن الذين لم يروه ولو لقوا الله بجميع الأعمال .
كان هؤلاء الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه وسمعوا منه .
ومن رآه بعينه وآمن به ولو ساعة (1) أفضل بصحبته من التابعين ولو عملوا كل أعمال الخير .
والسمع والطاعة للأئمة .
وأمير المؤمنين ، البَر والفاجر ، من ولي الخلافة فاجتمع الناس عليه ورضوا به ، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسُمي أمير المؤمنين .
والغزو ماضٍ مع الأمراء إِلى يوم القيامة ، البَر والفاجر لا يترك .
وقسمة الفَيء ، وإِقامة الحدود إِلى الأئمة ماضٍ ليس لأحد أن يطعن عليهم ولا ينازعهم ، ودفع الصدقات إِليهم جائزة ونافذة ، من دفعها إِليهم أجزأت عنه ، برًا كان أو فاجرًا .
_________
(1) المقصود : أي رآه ولو ساعة .

وصلاة الجُمعة خلفه وخلف من ولي جائزة تامة ، ركعتان من أعادهما فهو مبتدع ، تارك للآثار ، مخالف للسنة ، ليس له من فضل الجمعة شيء إِذا لم ير الصلاة خلف الأئمة من كانوا ، برهم وفاجرهم ، فالسنة أن تصلي معهم ركعتين ، من أعادهما فهو مبتدع ، وتدين بأنها تامة ولا يكن في صدرك من ذلك شك .
ومن خرج على إِمام المسلمين ، وقد كان الناس اجتمعوا عليه ، وأقروا له بالخلافة ، بأي وجه كان ، بالرضى أو بالغلبة ، فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين ، وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإِن مات الخارج عليه ، مات ميتة جاهلية .
ولا يَحل قتال السلطان ، ولا الخروج عليه لأحدٍ من الناس ، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق .
ولا يشهد على أهل القبلة بعمل يعمله بجنةٍ ولا نار ، يرجو للصالح ويخاف عليه ، ويخاف على المسيء المذنب ويرجو له رحمة الله .
ومن لقي الله بذنب تجب له به النار ، تائبًا غير مُصِرٍّ عليه ، فإِن الله عز وجل يتوب عليه ، ويقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات .
ومن لقيه وقد أقيم عليه حدّ ذلك الذنب في الدنيا فهو كفارته كما جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
_________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإِيمان ، باب علامة الإِيمان حب الأنصار : ( 18 ) ، ومسلم في كتاب الحدود ، باب الحدود كفارات لأهلها : ( 1709 ) ، والترمذي في كتاب الحدود ، باب ما جاء أن الحدود كفارةٌ لأهلها : ( 1439 ) ، والنسائي في كتاب البيعة ، باب البيعة على فراق المشرك : ( 4178 ) ، وأحمد في مسنده : ( 5 / 314 ، 320 ) ، والدارمي في كتاب السير ، باب في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم : ( 2457 ) ، عن عبادة بن الصامت قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال : « بايعونى على أن لا تشركوا بالله شيئًا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوا في معروف ، فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله ، فهو إِلى الله ؛ إِن شاء عفا عنه ، وإن شاء عاقبه » ، فبايعناه على ذلك . ( واللفظ للبخاري ) .

ومن لقيه مُصرًّا غير تائب من الذنوب التي قد استوجبت بها العقوبة ، فأمره إِلى الله عز وجل إِن شاء عذّبه ، وإِن شاء غفر له ، ومن لقيه كافرًا عذّبه ولم يَغفر له .
والرجم حق على من زنى وقد أُحصن إِذا اعترف ، أو قامت عليه بينة . وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد رَجم الأئمة الراشدون .
ومن انتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو أبغضه لحدثٍ كان منه ، أو ذكر مساوئه ، كان مبتدعًا حتى يترحم عليهم جميعًا ويكون قلبه لهم سليمًا .
والنفاق هو الكفر ، أن يكفر بالله ، ويعبد غيره ، ويظهر الإِسلام في العلانية ، مثل المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذه الأحاديث التي جاءت نرويهِا كما جاءت ولا نفسرها .
مثل : « لا تَرجعوا بعدي كفاراَ يَضرب بعضكم رقابَ بعض » (1) .
ومثل : « إِذا التَقى المسلمان بسيفيهما فالقاتِل والمَقتول في النار » (2) .
ومثل : « سباب المسلم فُسوق وقِتاله كفر » (3) .
ومثل : « أَيما رجل قال لأخيه : يا كافر فقد باءَ بها أحَدهما » (4) .
ومثل : « . . . كُفْرٌ بالله تَبرؤٌ من نَسَب وإنْ دَقّ » (5) .
_________
(1) أخرجه البخاري واللفظ له ، في كتاب الأدب ، باب ما جاء في قول الرجل « ويلك » : ( 6166 ) ، ومسلم في كتاب الإيمان ، باب بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم « لا ترجعوا بعدي كفارًا . . » إِلخ : ( 66 ) ، وأبو داود في كتاب السنة ، باب الدليل على زيادة الإِيمان ونقصانه : ( 4686 ) ، والنسائي في كتاب تحريم الدم ، باب تحريم القتل : ( 4125 ) ، وأحمد في مسنده : ( 2 / 85 ، 87 ، 104 ) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الإِيمان ، باب ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا . . . ) : ( 31 ) ، ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة ، باب إِذا تواجه المسلمان بسيفيهما : ( 2888 ) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان ، باب خوف المؤمن . . . إِلخ : ( 48 ) ، ومسلم في كتاب الإيمان ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم « سباب المسلم . . » إِلخ : ( 64 ) ، والترمذي في كتاب البر والصلة ، باب ما جاء في الشتم : ( 1983 ) ، والنسائي في كتاب تحريم الدم ، باب قتال المسلم : ( 4105 ) .
(4) أخرجه البخاري واللفظ له في كتاب الأدب ، باب من أكفر أخاه . . إِلخ : ( 6104 ) ، ومسلم في كتاب الإيمان ، باب بيان حال إِيمان من قال لأخيه : يا كافر : ( 60 ) .
(5) رواه الدارمي في كتاب الفرائض ، باب من ادعى إِلى غير أبيه : ( 2864 ) ، وأبو بكر المروزي في « مسند أبي بكر الصديق » برقم : ( 90 ) ، وأورده الهيثمي في « مجمع الزوائد » ، كتاب الإِيمان ، باب فيمن ادعى غير نسبه . . . إِلخ : ( 1 / 97 ) .

ونحوه من الأحاديث مما قد صح وحُفظ ، فإِنا نسلم له ، وإِن لم يعلم تفسيرها ، ولا يتكلم فيه ، ولا يجادل فيه ، ولا نُفسر هذه الأحاديث إِلا مثل ما جاءت ولا نردها إلا بأحقّ منها .
والجنة والنار مخلوقان قد خُلِقتا كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن زعم أنهما لم تخلقا فهو مكذب بالقرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أحسبه يؤمن بالجنة والنار .
ومن مات من أهل القبلة موحدًا يُصلَّى عليه ، ويستغفر له ، ولا تترك الصلاة عليه لذنب أذنبه صغيرًا كان أو كبيرًا ، وأمره إِلى الله عز وجل " (1) .
_________
(1) « شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة » للالكائي : ( 1 / 156 - 164 ) .

الإمام البخاري : (1)
قال الإِمام البخاري رحمه الله تعالى : (2)
" لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم : أهل الحجاز ، ومكة ، والمدينة ، والكوفة ، والبصرة ، وواسط ، وبغداد ، والشام ، ومصر ، لقيتهم كَرّات ، قرنًا بعد قرن ، ثمِ قرنًا بعد قرن ، أدركتهم وهم متوافرون منذ أكثر من ستَ وأربعين سنة ، أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين ، والبصرة أربع مرات في سنين ذوي عدد ، بالحجاز ستة أعوام ، ولا أحصي كم دخلتُ الكوفة وبغداد مع محدثي أهل خراسان منهم : المكي بن إِبراهيم ، ويَحيى بن يَحيى ، وعلي بن الحسن بن شقيق ، وقُتيبة بن سعيد ، وشهاب بن معمر .
وبالشام : محمد بن يوسف الفريابي ، وأبا مُسهر عبد الأعلى بن مسهر ، وأبا المغيرة عبد القُدوس بن الحجاج ، وأبا اليَمان الحكم بن نافع ومن بعدهم عدة كثيرة .
وبمصر : يحيى بن كثير ، وأبا صالح كاتب الليث بن سعد ، وسعيد بن أبي مريم ، وأصبغ بن الفرج ، ونُعيم بن حَماد .
وبمكة : عبد الله بن يزيد المقرئ ، والحُميدي ، وسليمان بن حرب قاضي مكة ، وأحمد بن محمد الأزرقي .
_________
(1) محمد بن إِسماعيل بن إِبراهيم ، أبو عبد الله البخاري الحافظ ، صاحب « الجامع الصحيح » ، توفى سنة ( 256 هـ ) في إحدى قرى سمرقند . « سير أعلام النبلاء » للذهبي : ( 12 / 391 - 471 ) .
(2) « شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة » : للالكائي ( 1 / 172 - 176 ) .

وبالمدينة : إِسماعيل بن أبي أويس ، ومطرف بن عبد الله ، وعبد الله بن نافع الزبيري ، وأحمد بن أبي بكر أبا مصعب الزهري ، وإِبراهيم بن حمزة الزبيري ، وإِبراهيم بن المنذر الحزامي .
وبالبصرة : أبا عاصم الضحاك بن مَخلد الشيباني ، وأبا الوليد هشام بن عبد الملك ، والحجاج بن المنهال ، وعلي بن عبد الله بن جعفر المديني .
وبالكوفة : أبا نُعيم الفضل بن دُكين ، وعبد الله بن موسى ، وأحمد بن يونس ، وقبيصة بن عقبة ، وابن نمير ، وعبد الله وعثمان ابني أبي شيبة .
وببغداد : أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وأبا معمر ، وأبا خيثمة ، وأبا عُبيد القاسم بن سلام .
ومن أهل الجزيرة : عمرو بن خالد الحراني .
وبواسط : عمرو بن عون ، وعاصم بن علي عاصم .
وبمرو : صدقة بن الفضل ، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي .
واكتفينا بتسمية هؤلاء كي يكون مختصرا ، وألا يطول ذلك .
فما رأيت واحدا من هؤلاء مختلف في هذه الأشياء أن الدين قول وعمل ، وذلك لقول الله : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [ البينة : 5 ] .

وأن القرآن كلام الله غير مخلوق ، لقوله : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } [ الأعراف : 54 ] .
قال أبو عبد الله محمد بن إسماعيل : قال ابن عيينة : فبين الله الخلق من الأمر بقوله : { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 54 ] .
وأن الخير والشر بقدر ، لقوله : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ }{ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } [ الفلق : 1 ، 2 ] ، ولقوله : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 96 ] ، ولقوله : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [ القمر : 49 ] .
ولم يكونوا يُكفِّرون أحدًا من أهل القبلة بالذنب ، لقوله : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } [ النساء : 48 ] .

وما رأيتُ فيهم أحدًا يتناول أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم ، قالت عائشة : " أمروا أن يستغفروا لهم " ، وذلك قوله : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ الحشر : 10 ] .
وكانوا ينهون عن البدع مما لم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، لقوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } [ آل عمران : 103 ] ، ولقوله : { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } [ النور : 54 ] .
ويَحثّون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، لقوله : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأنعام : 153 ] .

وألا نُنازع الأمر أهله ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلمِ : إِخلاص العمل لله ، وطاعة ولاة الأمر ، ولزوم جماعتهم ، فإِنَّ دعوتهم تحيط مَن وَرائهم » (1) . ثم أكد في قوله : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } [ النساء : 59 ] .
وألا يُرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال الفضيل : " لو كانت لي دعوة مستجابةٌ لم أجعلها إِلا في إِمام ، لأنه إِذا صلح الإِمام أمن البلاد والعباد " (2) .
_________
(1) هو في « مسند الإِمام أحمد » ( 5 / 183 ) ، ولفظه في المسند : « . . . ثلاث خصال لا يغل عليهن قلب مسلم أبدًا ، إِخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم الجماعة ، فإِن دعوتهم تحيط من ورائهم . . . » من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه ، « الترغيب والترهيب » للمنذري ، باب الترغيب في الإخلاص والصدق . . إلخ : ( 1 / 23 ) ، « مسند الشافعي » : ص ( 240 ) ، « مجمع الزوائد » للهيثمي : كتاب العلم ، باب في سماع الحديث وتبليغه : ( 1 / 137 ) .
(2) « شرح أصول اعتقاد أهل السنة ، الجماعة » للالكائي : ( 1 / 172 - 176 ) .

الإمام أبو جعفر الطحاوي الحنفي : (1)
يقول الإمام أبو جعفر الطحاوي - رحمه الله تعالى - في أول رسالته عن العقيدة المنجية " هذا ذكر بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة : أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ، وأبي يوسف يَعقوب بن إِبراهيم البَجلي ، وأبي عبد الله مُحمد بن الحسن الشيباني ، رضي الله عنهم أجمعين . وما يَعتقدون في أصول الدين ، وما يَدينون به لرب العالمين .
نقول في توحيد الله مُعتقدين بتوفيق الله : إِن الله تبارك اسمه ، وتعالى جدّه ، وجلَّ ثناؤه ، واحدٌ لا شريك له ، ولا شيء مثله ، ولا شيء يُعجزه ، ولا إِله غيره ، قديمٌ بلا ابتداء ، دائمٌ بلا انتهاء ، لا يَفْنى ولا يَبيد ، ولا يكونُ إِلا ما يُريد ، لا تَبلغه الأوهام ، ولا تُدركه الأفهام ، ولا يُشبه الأنام ، حَيّ لا يَموت ، قيّوم لا ينام . . . " .
وقال _________
(1) أحمد بن محمد بن سلامة المصري ، أبو جعفر الطحاوي ، انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر ، وله التصانيف الكثيرة ، توفي بالقاهرة سنة ( 321 هـ ) ، « سير أعلام النبلاء » : ( 15 / 27 - 32 ) .

" وإن القرآن كلام الله ، منه بَدأ بلا كيفية ، قولًا ، وأنزله على رسوله وحيًا ، وصدقه المؤمنون على ذلك حقًا ، وأيقنوا أنه كلامُ الله تعالى بالحقيقة ، ليس بمخلوقٍ كَكلامٍ البريَة . فمن سمعه ، فزعم أنه كلام البشر ، فقد كفر . . . ، ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر ، فقد كفر ، فمن أبصر هذا اعتبر ، وعن مثل قول الكفار انزجر ، وعلم أن الله بصفاته ليس كالبشر . . . ، والرؤية حقّ لأهل الجنة ، بغير إِحاطةٍ ولا كيفية ، كما نطق به كتاب ربنا { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ }{ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 ، 23 ] .
وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعَلِمَه ، وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو كما قال ، ومعناه على ما أراد ، لا ندخل في ذلك مُتأولين بآرائنا ، ولا متوهمين بأهوائنا ، فإِنه ما سلم في دينه إِلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالِمه . . . " إِلى آخر ما نَصَّتْ عليه الطَحاوية (1)
_________
(1) « متن العقيدة الطحاوية » لابن أبي العز الحنفي ص : ( 7 ) .

الإمام ابن أبي زيد القيرواني المالكي : (1)
قال ابن زَيد القيرواني المالكي - رحمه الله تعالى - تحت باب : " ما تَنطقُ به الألسنةُ ، وتعتقِدُهُ الأفئدةُ من واجب أُمورِ الدياناتِ " " من ذلك : الإيمان بالقلب ، والنطق باللسان أنَّ الله إِلهٌ واحدٌ لا إِله غيرهُ ، ولا شبيه له ، ولا نَظير له ، ولا ولد له ، ولا والد له ، ولا صاحبةَ له ، ولا شريك له ، ليس لأوَّليَّتِهِ ابتداءٌ ، ولا لآخريَّتِهِ انقضاءٌ ، لا يبلغُ كنه صفَتِهِ الواصفون ، ولا يحيط بأمره المتفكرون ، يعتبر المفكرون بآياته ، ولا يتفكرون في ماهية ذاته { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [ البقرة : 255 ] .
العالم الخبير ، المدبر القَدير ، السميع البصير ، العلي الكبير .
وأنه فوق عرشه المجيد بذاته ، وهو في كل مكان بعلمه .
خلق الإِنسان ويعلم ما تُوسوسُ به نفسه وهو أقرب إِليه من حبل الوريد _________
(1) عبد الله بن عبد الرحمن القيرواني النَّفزاوي ، أبو محمد ، فقيه من أعيان القيروان ، كان إِمام المالكية في عصره ، من أشهر كتبه : « الرسالة » ، توفى سنة ( 386 ) ، « سير أعلام النبلاء » : ( 17 / 10 - 13 ) .

{ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] .
على العرش استوى ، وعلى الملك احتوى (1) .
وله الأسماءُ الحُسنى ، والصِّفاتُ العُلا ، لم يَزل بجميع صفاته وأسمائه ، تعالى أن تكون صفاتُهُ مَخلوقةً ، وأسماؤه مُحدثَةً .
كلَّم موسى بكلامه الذي هو صفةُ ذاتِه ، لا خلقٌ من خَلقِه ، وتجلّى للجبل فصَار دكًا من جلاله .
وأن القرآن كلام الله ، ليس بمخلوقٍ فيَبِيد ، ولا صِفَةً مخلوق فَيَنْفَد .
والإِيمانُ بالقدرِ : خيرهِ وشرِّهِ ، حُلوِه ومُرّهِ . وكل ذلك قَدَّرهُ الله رَبّنا ، ومقاديرُ الأمور بيده ، ومصدَرها عن قضائه ، عَلِمَ كُلَّ شيءٍ قبل كونِهِ ، فَجَرى على قدرِه ، لا يكونُ مِن عباده قولٌ ولا عملٌ إِلاَ وقد قضاهُ وسبق علْمُه به { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ الملك : 14 ] .
يضل من يشاء فيخذُلُه بعدلِه ، ويهدي من يشاءَ فَيوفِّقه بفضله ، فكلٌّ مُيسَّرٌ بتيسيره إِلى ما سَبقَ من عِلمِهِ وقدره من شَقيٍ أو سعيدٍ .
_________
(1) يعني : ملكه ودبره وسخره.

تعالى أن يكون في مُلكه ما لا يريد أو يكون لأحد عنه غِنى ، أو يكونَ خالقٌ لشيءٍ إِلاَ هُوَ ، ربُّ العبادِ ، وربُّ أعمالِهم ، والمقدِّر لحركاتهم وآجالهم ، الباعث الرّسل إِليهم لإِقامة الحُجَّةِ علَيهم ، ثم ختم الرسالةَ والنِّذارةَ والنبوةَ بمحمدٍ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فجعلهُ آخرَ المرسلينَ بشيرًا ونذيرًا ، وداعيًا إِلى الله بإِذنه وسِراجًا مُنيرًا ، وأنزل عليه كتابه الحكيم ، وشَرَحَ به دينه القويم ، وهدى به إِلى الصراط المستقيم .
وأن الساعة آتيةٌ لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من يموت ، كما بدأهم يعودون .
وأن الله سبُحانَهُ ضاعفَ لعبادهِ المؤمنينَ الحسنات ، وصَفَحَ لهم بالتوبة عن كبائر السيئات ، وغفر لهم الصغائر باجتناب الكبائر ، وجعل من لم يتب من الكبائر صائرًا إِلى مشيئته { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 ] .
ومن عاقبَهُ الله بنارِهِ ، أخرجه منها بإِيمانه ، فأدخله به جنته { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] .

ويَخْرُجُ منها بشفاعةِ النبي صلى الله عليه وسلم ، من شَفَعَ له من أهل الكبائِرِ من أُمته .
وأن الله سبحانه قد خلق الجنة ، فأَعدَّها دار خُلُودٍ لأوليائِهِ ، وأكرمَهم فيها بالنَّظِر إِلى وجهِهِ الكريم ، وهي التي أهبط منها آدم نبيَّهُ وخليفَتَهُ إِلى أرضِهِ ، بما سَبق في سابق علمه .
وخلق النار ، فأعدها دار خلودٍ لمن كَفَر به وأَلحدَ في آياته وكتبه ورسله ، وجعلهم محجوبين عن رؤيته .
وأن الله تبارك وتعالى يجيء يوم القيامة والمَلَكُ صفًّا صفًّا ، لعرض الأمم وحسَابها وعُقُوبَتها وثَوَابها .
وتوضع الموازين لوزن أعمال العباد { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ الأعراف : 8 ] .
ويؤتون صحائفهم بأعمالهم { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ }{ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } [ الانشقاق : 7، 8 ] ، { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ }{ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا }{ وَيَصْلَى سَعِيرًا } [ الانشقاق : 10 - 12 ] .
وأن الصراط حقّ يَجوزه العباد بقدر أعمالهم ، فناجون متفاوتون في سرعة النجاة عليه من نار جهنم ، وقوم أوبقتهم فيها أعمالهم .

والإِيمان بحوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ترده أمته ، لا يظمأ من شرب منه ، ويُذاد عنه من بَدَّل وغَيَّر .
وأن الإِيمان قول باللسان ، وإِخلاص بالقلب ، وعمل بالجوارح ، يزيد بزيادة الأعمال ، وينقص بنقصها ، فيكون بها النقص ، وبها الزيادة .
ولا يكمل قول الإِيمان إِلا بعمل ، ولا قول ولا عمل إِلا بنية ، ولا قول وعمل ونية إِلا بموافقة السنّة .
وأنه لا يُكفَّر أحد بذنب من أهل القبْلَة .
وأن الشهداء أحياء عند ربهم يُرزقون .
وأرواح أهل السعادة باقية ناعمة إِلى يوم يبعثون ، وأرواح أهل الشقاوة معذبة إِلى يوم الدين .
وأن المؤمنين يفتنون في قُبورهم ويُسألون { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } [ إبراهيم : 27 ] .
وأن على العباد حَفَظةً يكتبون أعمالهم ، ولا يسقط شيء من ذلك من علم ربهم .
وأن ملك الموت يقبض الأرواح بإِذن ربه .
وأن خير القرون الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ثم الذين يلونهم .
وأفضل الصحابة : الخلفاء الراشدون المهديّون : أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي - رضي الله عنهم - أجمعين .

وألا يُذكر أحد من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إِلا بأحسن ذكر ، والإِمساك عما شَجر بينهم ، وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم المخارج ، ويظن بهم أحسن المذاهب .
والطاعة لأئمة المسلمين من ولاة أمورهم وعلمائهم ، واتباع السلف الصالح ، واقتفاء آثارهم ، والاستغفار لهم .
وترك المراء والجدال في الدين ، وترك ما أحدثه المحدثون " (1) .
_________
(1) « الثمر الداني في تقريب المعاني » ، شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني : ص ( 9 - 24 ) بتصرف .

الإمام ابن تيمية : (1)
ومن الأئمة الأعلام ، الذين وَفقهم الله تعالى لندب أنفسهم للدعوة للتوحيد الخالص ، ونصرة العقيدة المنجية ، شيخ الإِسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية - رحمه الله - .
يبتدر ابن تيمية القول ليبين المنهج الحق في الاعتقاد الصحيح ، وذلك بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
يقول - رحمه الله - : (2)
" فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة ، أهل السنة والجماعة ، وهو الإِيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ورسله ، والبعث بعد الموت ، والإيمان بالقدر : خيره وشرّه .
ومن الإِيمان بالله : الإيمان بما وَصف به نفسه في كتابه ، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، من غير تَحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تَمثيل ، بل يؤمنون بأن الله سبحانه : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] .
وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسَمّى به نفسه بين النفي والإِثبات .
فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون ، فإِنه الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين ، والصدِّيقين والشهداء والصالحين .
_________
(1) أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحرّاني الدمشقي ، أبو العباس ابن تيمية ، شيخ الإِسلام ، وإمام الأئمة الأعلام الغني عن التعريف . توفي سنة ( 728 هـ ) بدمشق.
(2) انظر « مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية » : ( 3 / 129 ) وما بعدها .

وقد دخل في هذه الجملة ما وصف به نفسه في سورة الإِخلاص التي تعدل ثلث القرآن ، حيث يقول : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }{ اللَّهُ الصَّمَدُ }{ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ }{ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } .
وما وصف به نفسه في أعظم آيةٍ في كتابه ، حيث يقول { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [ البقرة : 255 ] .
ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ، ولا يَقْرَبه شيطان حتى يصبح .
وقوله سبحانه : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } [ الفرقان : 58 ] .
وقِوله سبحانه : { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الحديد : 3 ] .

وقوله : { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [ لقمان : 34 ] .
وقوِله : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } [ سبأ : 2 ] .
وقوله : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] .
وقوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] .
وقوله : { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } [ المائدة : 119 ] .
وقوله : { كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا }{ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } [ الفجر : 21، 22 ] .
وقوله : { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } [ الرحمن : 27 ] .
وقوله : { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] .
وقوله : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } [ الطور : 48 ] .

وقوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] .
وقوله : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] .
وقوله : { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } [ الكهف : 27 ] .
وقوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ }{ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 ، 23 ] .
وهذا الباب في كتاب الله تعالى كثير ، مَن تدبر القرآن طالبًا للهدى منه تبين له طريق الحق " .
وبعد الاعتصام بمنهج القرآن الكريم في تبيين الإيمان الحق ، يُمَسِّكُ ابن تيمية - رحمه الله - المسلمين منهج السنة الذي يوضح مراد الله تعالى فيما يريده من عباده من إِيمان واعتقاد .
يقول شيخ الإسلام " فالسُّنَّة تفسِّر القرآن وتُبيِّنه ، وتدُّل عليه ، وتُعبر عنه ، وما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم به ربه عَزَّ وجلَّ من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول ، وجب الإِيمان بها كذلك .

مثل قوله صلى الله عليه وسلم : « يَنْزل ربُّنا إِلى السماءِ الدُّنْيا كلَّ ليلة ، حين يَبْقى ثلث الليل الآخر ، فيقول : من يَدعوني ، فأستجيب له ؟ مَنُ يسألني ، فأعطيه ؟ من يَستغفرني ، فأغفرَ له ؟ » (1) .
وقوله صلى الله عليه وسلم : « لله أَشدّ فَرحًا بِتوبةِ عبدِه من أَحدِكم براحِلتِه » (2) .
وقوَله صلى الله عليه وسلم : « يَضحَكُ الله إِلى رَجلينِ يَقتل أَحدُهما الآخر ، كِلاهما يَدخُلُ الجنَّةَ » (3) .
وقوله : « ألا تَأْمنوني وأنا أمين مَنْ في السَّماء » (4) .
وقوله صلى الله عليه وسلم للجارية : « أينَ الله ؟ قالت : في السماء ، قال : مَنْ أنا ؟ قالت : أنتَ رسول الله ، قال : أعتِقها فإِنَّها مؤمِنةٌ » (5) .
وقوله صلى الله عليه وسلم : « ارْبعوا على أنفسكم إِنكم لا تدعونَ أصمَّ ولا غائبًا ، إِنَّكم تَدْعُون سَميعًا قَريبًا وهو معكم » (6)
وقوله صلى الله عليه وسلم : « إِنكم ستَرون ربكم كما تَرون هذا القمر لا تُضامون في رُؤيته ، فإِن استَطعْتم أن لا تُغلَبوا على صلاةٍ قبلَ طُلوعِ الشمَسِ ، وقبلَ غرُوبِها فافعلوا . . » (7) .
إِلى أمثال هذه الأحاديث التي يُخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رَبه بما يخبر به " (8) .
_________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التهجد ، باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل . . . : ( 1145 ) ، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإِجابة فيه : ( 758 ) ، وأبو داود في كتاب السنة ، باب في الرد على الجهمية : ( 4733 ) ، والترمذي في كتاب الدعوات ، باب ما جاء في عقد التسبيح باليد : ( 3498 ) ، وابن ماجه في كتاب إِقامة الصلاة والسنة فيها ، باب ما جاء في أي ساعات الليل أفضل : ( 1366 ) ، وأحمد في مسنده : ( 2 / 264 ، 267 ) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب التوبة ، باب في الحض على التوبة والفرح بها : ( 2746 ) من حديث البراء بن عازب ، وله طرق أخرى كثيرة .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد ، باب الكافر يقتل المسلم ثم يسلم . . . إِلخ : ( 2826 ) ، ومسلم في كتاب الإِمارة ، باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر . . . إِلخ : ( 1890 ) ، والنسائي في كتاب الجهاد ، باب اجتماع القاتل والمقتول . . . إِلخ : ( 3165 ) ، ومالك في كتاب الجهاد ، باب الشهداء في سبيل الله : ( 991 ) .
(4) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد ، باب قول الله تعالى : ( تعرج الملائكة . . ) : ( 7432 ) ، ومسلم في كتاب الزكاة ، باب ذكر الخوارج وصفاتهم : ( 1064 ) ، وأحمد في مسنده : ( 3 / 4 ) .
(5) أخرجه مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب تحريم الكلام في الصلاة . . . إِلخ : ( 537 ) ، وأبو داود في كتاب الصلاة ، باب تشميت العاطس . . . إِلخ : ( 930 ) ، والنسائي في كتاب السهو ، باب الكلام في الصلاة : ( 1218 ) ، وأحمد في مسنده : ( 5 / 447 ) .
(6) تقدم تخريجه في الصفحة ( 17 ) .
(7) تقدم تخريجه في الصفحة ( 19 ) .
(8) « مجموع الفتاوى لابن تيمية » : ( 3 / 129 - 140 ) .

وفي هدي هذا المنهج العلمي اليقيني ، ترسخ أصول العقيدة وتأتلف شعبها ، ويتكامل ضياؤها .
يَقول شيخ الإِسلام - رحمه الله - " ومن الإِيمان بالله وملائكته وكتبه ، الإِيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، منه بدأ وإِليه يعود ، وأن الله تعالى تكلم به حقيقة ، وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ، هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره ، ولا يجوز إِطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله ، أو عبارة عنه ، بل إِذا قرأه الناس أو كتبوه بذلك في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقةً ، فإِن الكلام إنما يضاف حقيقة إِلى من قاله مبتدئًا ، لا إِلى من قاله مُبلِّغًا مؤدِّيًا .
وهو كلام الله ، حروفه ومعانيه ، ليس كلام الله الحروف دون المعاني ، ولا المعاني دون الحروف " (1) .
وبعد أن تحدث عن الإِيمان بأن المؤمنين يرون ربهم عيانًا بأبصارهم يوم القيامة ، وعن الإِيمان بفتنة القبر ، وعذابه ، ونعيمه ، وعن الإِيمان بالميزان ، والحساب ، والحوض المورود ، والصراط المنصوب ، والشفاعة ، والجنة ، والنار ، وبالقدر خيره وشرّه ، وباللوح المحفوظ ، وبأن الله خلق أفعال العباد .
_________
(1) المرجع السابق ص ( 144 ) .

بعد أن تحدث عن الإِيمان بذلك كله قال " ومن أصول أهل السنة والجماعة : أن الدين والإِيمان قول وعمل ؛ قول القلب واللسان ، وعمل القلب واللسان والجوارح ، وأن الإِيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .
ومع ذلك لا يكفِّرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر ، كما يفعله الخوارج ، بل الأخوة الإِيمانية ثابتة مع المعاصي ، كما قال سبحانه وتعالى في آية القصاص { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } [ البقرة : 178 ] .
وقال : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الحجرات : 9 ،10 ] .

ولا يسلبون الفاسق المِلِّي اسم الإِيمان بالكلية ، ولا يخلدونه في النار كما تقول المعتزلة ، بل الفاسق يدخل في اسم الإِيمان في مثل قوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } [ النساء : 92 ] .
ويقولون : هو مؤمن ناقص الإِيمان ، أو مؤمن بإِيمانه ، فاسق بكبيرته ، فلا يعطى الاسم المطلق ، ولا يسلب مطلق الاسم .
ومن أصول أهل السنة والجماعة : سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما وصفهم الله به في قوله تعالى { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ الحشر : 10 ] .
ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإِجماع من فضائلهم ومراتبهم ، فيفضلون من أنفق من قبل الفتح ، وهو صلح الحديبية ، وقاتل ، على من أنفق من بعده وقاتل ، ويقدمون المهاجرين على الأنصار ، ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر، وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر : « اعملوا ما شئتم فَقد غفرتُ لكم » .

وبأنه لا يدخل النار أحدٌ بايعَ تحت الشجرة ، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، بل قد رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة .
ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة كالعشرة ، وكثابت بن قيس بن شماس ، وغيرهم من الصحابة .
ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وعن غيره ، من أن خير هذه الأمة بعد نبيها ، أبو بكر ، ثم عمر ، ويُثلِّثون بعثمان ، ويربِّعون بعلي - رضي الله عنهم - كما دلت عليه الآثار .
وذلك أنهم يؤمنون بأن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي ، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله .
ويُحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث قال يوم غدير خُم : « أذَكِّركم الله في أهل بَيتي ، أذكركم الله في أهل بَيتي » (1) .
_________
(1) حديث غدير خم أخرجه أحمد في مسنده : ( 5 / 419 ) ، وابن ماجه في المقدمة ، باب فضل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : ( 116 ) ، وجمع الهيثمي طرقه في « مجمع الزوائد » ، في كتاب المناقب ، باب قوله صلى الله عليه وسلم « من كنت مولاه فعلي مولاه » : ( 9 / 103 ) ، وقوله : « أذكركم الله في أهل بيتي » ، لم يرد إِلا عند ابن أبي عاصم في « السنة » برقم : ( 1551 ) .

ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين ، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة ، خصوصًا خديجة رضي الله عنها أم أكثر أولاده ، وأول من آمن به وعاضده على أمره وكان لها منه المنزلة العالية .
والصدّيقة بنت الصديق رضي الله عنهما ، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم « فَضل عائشة على النساء كفضل الثريدِ على سائر العام » (1) .
ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم .
ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل .
ويمسكون عما شجر بين الصحابة .
ومن نَظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة ، وما مَنَّ الله به عليهم من الفَضائل ، علم يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء ، لا كان ولا يكون مثلهم ، وأنهم هم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله تعالى .
ومن أصول أهل السنة والجماعة : التصديق بكرامات الأولياء ، وما يُجري الله على أيديهم من خوارق العادات ، في أنواع العلوم والمكاشفات ، كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها ، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة ، وهي موجودة فيها إِلى يوم القيامة .
_________
(1) رواه البخاري في كتاب المناقب ، باب فضل عائشة رضي الله عنها : ( 3769 ، 3770 ) ، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها : ( 2431 ) ، وباب فضائل عائشة رضي الله عنها : ( 2446 ) ، والترمذي في كتاب الأطعمة ، باب ما جاء في فضل الثريد : ( 1834 ) ، وأحمد في مسنده : ( 6 / 159 ) .

ثم من طريقة أهل السنة والجماعة : اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا ، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال « عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخُلفاء الراشدين المَهدييِّن من بَعدي ، تَمسَّكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإِيَّاكم ومُحدثات الأمور ، فإِن كل مُحدَثةٍ بِدعةٌ ، وكلّ بِدعةٍ ضلالة » (1) .
ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله ، وخَير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ويُؤثِرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس . ويقدمون هَدْي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد وبهذا سموا أهل الكتاب والسنة .
وسُمُّوا أهل الجماعة ؛ لأن الجماعة هي الاجتماع ، وضدّها الفرقة ، وإِن كان لفظ الجماعة قد صار اسمًا لنفس القوم المجتمعين .
والإِجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين .
وهم يَزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين ، والإجماع الذي ينضبط ، هو : ما كان عليه السلف الصالح ، إِذ بعدهم كثر الاختلاف ، وانتشرت الأمة " (2) .
_________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب السنة ، باب لزوم السنّة : ( 4609 ) ، والترمذي في كتاب العلم ، باب ما جاء في الأخذ بالسُّنَّة واجتناب البدع : ( 2676 ) ، وابن ماجه في المقدمة ، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين : ( 42 ) ، وأحمد في مسنده : ( 4 / 126 ، 127 ) ، وابن حبان في المقدمة ، باب الاعتصام بالسنة : ( 5 ) ، والحاكم في مستدركه بنحوه : ( 3 / 75 ) ، وصححه ووافقه الذهبي .
(2) « مجموع الفتاوى لابن تيمية » : ( 3 / 151 - 157 ) .

أثر المنهج في استقامة الاعتقاد وتوسطه
لصحة المنهج أثرها في استقامة الاعتقاد وتوسطه ، فما من امرئ ، أو ما من جماعة التزمت المنهج القويم في التلقي والفهم ، إِلا استقام اعتقادها واعتدل بتوفيق الله .
ولقد وضّح ابن تيمية - رحمه الله - أثر المنهج الحق - في الاعتقاد - وجلاه بقوله " هم الوسط - أي الفرقة الناجية - في فرق الأمة ، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم فهم وسط في باب ( صفات الله ) سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجَهمية ، وأهل التمثيل المُشبِّهة .
وهم وسط في باب ( أفعال الله تعالى ) بين القَدَرية والجَبْرية .
وفي باب ( وعيد الله ) بين المرجِئة والوَعيديّة من القدريّة وغيرهم .
وفي باب ( أسماء الإِيمان والدين ) بين الحَرورية والمعتزلة ، وبين المُرجئة والجَهمية .
وفي ( أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ) بين الرَّوافض والخوارج " (1) .
_________
(1) المرجع السابق : ص ( 141 ) .
النتائج العملية للمنهج الصحيح
وللمنهج الصحيح نتائج عملية صالحة تهدي واقع الأمة العملي بحقائق الدين ، وتمكن لعزائم الإِيمان وأخلاقه في حياة المسلمين .
ولقد برزت هذه النتائج العملية في وصف ابن تيمية - رحمه الله - للحياة العملية لأهل السنة والجماعة . حيث قال " ثم هم من هذه الأصول ، يأمرون بالمعروف ويَنهَون عن المُنكر على ما توجبه الشريعة ، ويَرون إِقامة الحَج ، الجهاد ، والجُمع والأعياد مع الأمراء ، أبرارًا كانوا أو فجارًا ، وتحافظون على الجماعات .
ويدينون بالنصيحة للأمة ، يعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم : « المؤمن للمؤمن كالبُنيان يشُدُّ بعضُه بعضا » (1) ، وشَبك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم .
وقوله صلى الله عليه وسلم : « مَثَلُ المؤمنينَ في تَوادِّهم وتَراحُمهم وتَعاطفِهم كمَثلِ الجَسد إِذا اشْتَكى مِنْه عُضو تَداعَى له سائِر الجسد بالسَّهر والحُمَّى » (2) .
ويأمرون بالصبر عند الابتلاء ، والشكر عند الرخاء ، والرضا بمُرِّ القضاء .
ويدعون إِلى مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم : « أكملُ المؤمنين إيمانَاَ أحسنهم خُلقَا » (3) .
_________
(1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة ، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم . . إِلخ : ( 2585 ) ، والنسائي في كتاب الزكاة ، باب أجر الخازن إِذا تصدق بإذن مولاه : ( 2560 ) ، أحمد في مسنده : ( 4 / 404 ) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأدب ، باب رحمة الناس والبهائم : ( 6011 ) ، ومسلم في كتاب البر والصلة ، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم . . : ( 2586 ) ، وأحمد في مسنده : ( 4 / 270 ) .
(3) تقدم تخريجه في الصفحة ( 54 ) .

ويندبون إِلى أُن تصل مَنْ قَطعَك ، وتُعطي من حَرمك ، وتَعفو عمَّن ظَلمك .
ويأمرون ببرِّ الوالدين ، وصِلَةِ الأرحام ، وحُسنِ الجوار ، والإِحسان إِلى اليتامى ، والمساكين وابن السبيل .
ويَنهون عن الفَخْر والخُيَلاء والبغي والاستطالة على الخَلق بحقِّ أو بغَير حقٍّ .
ويأمرون بمعالي الأخلاق ، وينهون عن سَفسافها .
وكل ما يقولونه أو يفعلونه من هذا أو غيره ، فإِنما هم متبعون للكتاب والسنة " (1) .
_________
(1) « مجموع الفتاوى لابن تيمية » : ( 3 / 158 - 159 ) .

الجهاد الصادق في سبيل العقيدة
يعتبر الإِمام ابن تيمية من مُجددي الدين والإِيمان في نفوس الناس ، وحياة الأمة .
ولقد اقترن هذا التجديد ، بجهادٍ طويلٍ صبور صادق ، لقي ابن تيمية - رحمه الله - في أثنائه ما لقي من صنوف الأذى والضرّ ، بيد أنه ثبت ، وتحمل ، ومضى يدعو إلى ما يعرفه من حق ويقين .
يقول - رحمه الله - في وصف ما حصل بينه وبين خصومه ، وهو مثال واحد من مواقفه رحمة الله عليه " فلما كان المجلس الثاني يوم الجمعة في اثنى عشر رجب وقد أحضروا أكثر شيوخهم ممن لم يكن حاضرا في ذلك المجلس ، وأحضروا معهم زيادة " صفي الدين الهندي " وقالوا : هذا أفضل الجماعة وشيخهم في علم الكلام ، وبحثوا فيما بينهم ، واتفقوا وتواطؤا ، وحضروا بقوة واستعداد ما كانوا عليه ، لأن المجلس الأول أتاهم بَغتة وإِن كان أيضًا بغتة للمخاطب الذي هو المسؤول والمجيب والمناظر . فلما اجتمعنا ، وقد أحضرتُ ما كتبته من الجواب عن أسئلتهم المتقدمة الذي طلبوا تأخيره إِلى اليوم .
حمدت الله بخُطبة الحاجة ، خطبة ابن مسعود رضي الله عنه ، ثم قلت :

إِن الله تعالى أمرنا بالجماعة والائتلاف ، ونَهانا عن الفرقة والاختلاف ، وقال لنا في القرآن : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } [ آل عمران : 103 ] ، وقال : { الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } [ الأنعام : 159 ] ، وقال : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } [ آل عمران : 105 ] .
وربّنا واحد ، وكتابنا واحد ، وأصول الدين لا تَحتمل التفرق والاختلاف ، وأنا أقول ما يُوجب الجماعة بين المسلمين ، وهو متفق عليه بين السلف ، فإن وافق الجَمَاعةُ فالحمد للّه ، وإِلا فمن خالفني بعد ذلك كشفت له الأسرار ، وهَتكت الأستار ، بَيَّنْتُ المذاهب الفاسِدة ، التي أفسدت الملَل والدول ، وأنا أذهب إِلى سُلطان الوقت على البريد ، وأعرفه من الأمور ما لا أقوله في هذا المجلس ، فإِن للسلم كلامًا ، وللحرب كلامًا " (1) .
وقال _________
(1) المرجع السابق : ص ( 181 - 182 ) .

" ومعلوم أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين من كانوا ، وقد قال تعالى : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 139 ] ، فمن كان مؤمنًا فهو الأعلى كائنًا من كان ، ومن حادَّ الله ورسوله فقد قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ } (1) " [ المجادلة : 20 ] .
إِلى أن قال " فلما ذهبوا بي إِلى الحبس حكم بما حكم به ، وأثبت ما أثبت ، وأمر في الكتاب السلطاني بما أمر به ، فهل يقول أحد من اليهود ، أو النصارى - دع المسلمين - : إن هذا حبس بالشرع ، فضلًا عن أن يقال : شرع محمد بن عبد الله ، وهذا مما يَعلم الصبيان الصغار بالاضطرار من دين الإِسلام أنه مخالف لشرع محمد بن عبد الله " (2) .
إِلى أن قال _________
(1) المرجع السابق : ص ( 252 ) .
(2) المرجع السابق : ص ( 253 ) .

" وأخذ يقول لي : هذه المحاضر ، ووجدوا بخطك ، فقلت : أنت كنت حاضرًا ذلك اليوم ، هل أراني أحد ذلك اليوم خَطًا ، أو محضرًا ؟ أو قيل لي : شَهد عليك بكذا ، أو سُمع لي كلام ؟ بل حين شرعت أحمد الله ، وأثني عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أَجذم » (1) مَنعوني من حمد الله وقالوا : لا تَحمد الله ، بل أجب " (2) .
" فقلت لابن مَخلوف : ألكَ أُجيب ، أو لهذا المدعي ؟ - وكان كلّ منهما قد ذكر كلامًا أكثره كذب - فقال : أجب المدعي ، فقلت فأنتَ وحدك تحكم أو أنت وهؤلاء القضاة ؟ فقال : بل أنا وحدي ، فقلت : فأنت خَصمي فكيف يَصح حُكمك علي ؟ فلم تطلب منيِ الاستفسار عن وجه المخاصمة ! فإِن هذا كان خصماَ من وجوه متعددة معروفة عند جميع المسلمين .
ثم قلت : أما ما كان بخطي فأنا مُقيم عليه . وأما المحاضر فالشهود فيها فيهم من الأمور القادحةِ في شهادتهم وجوه متعددة تمنع قبول شهادتهم بإِجماع المسلمين ، والذي شهدوا به ، فقد علم المسلمون ، خاصتهم وعامتهم بالشام وغيره ضد ما شَهدوا به " (3) .
_________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب ، باب الهدي في الكلام : ( 4840 ) ، وابن ماجه في كتاب النكاح ، باب خطبة النكاح : ( 1894 ) ، وأحمد في مسنده : ( 2 / 359 ) .
(2) « مجموع الفتاوى لابن تيمية » : ( 3 / 255 ) .
(3) المرجع السابق : ص ( 256 ) .

" فإنِّي أنا من أي شيء أخاف ؟ إِن قُتِلت كنت من أفضل الشهداء ، وكان ذلك سعادة في حقي ، يترضى بها علي إِلى يوم القيامة ، ويلعن الساعي في ذلك إِلى يوم القيامة ، فإِن جميع أمة محمد يعلمون أني أُقتل على الحق الذي بَعث الله به رسوله ، وإِن حُبست فوالله إن حبسي لمن أعظم نعم الله عليّ ، وليس لي ما أخاف الناس عليه لا مدرسة ، ولا إِقطاع ، ولا مال ، ولا رئاسة ، ولا شيء من الأشياء " (1)
" ولكن هذه القصة ضررها يعود عليكم ، فإِن الذين سعوا فيها من الشام ، أنا أعلم أن قصدهم فيها كيدكم ، وفساد ملتكم ، ودولتكم ، وقد ذهب بعضهم إِلى بلاد التتر ، وبعضه مُقيم هناك ، فهم الذين قصدوا فساد دينكم ودنياكم ، وجعلوني إِمامًا بالتستر ، لعلمهم بأني أُواليكمُ وأنصح لكم ، وأريد لكم خير الدنيا والآخرة ، والقضية لها أسرار كلما جاءت تنكشف ، وإِلا فأنا لم يكن بيني وبين أحد بمصر عداوة ، ولا بغضًا ، وما زلت محبًا لهم ، مواليا لهم : أمرائهم ، ومشايخهم ، وقضاتهم " (2) .
داعية وَحدة على أصل العقيدة ما صدق أحد في الدعوة إِلى التوحيد الخالص ، والعقيدة المنجية إلا صدق في الدعوة إلى وحدة الجماعة المسلمة .
_________
(1) المرجع السابق : ص ( 259 ) .
(2) المرجع السابق : ص ( 260 ) .

وهذا من المسائل العظيمة التي يجب أن يتحراها العلماء والدعاة في كل عصر ، وكل مكان ، مسألة : أن الوحدة والائتلاف قرينَتا التوحيد الحق ، وأن الفرقة والاختلاف قرينتا الزيغ ، والهوى ، والبدعة .
وكان ابن تيمية داعية إِلى التوحيد الخالص ، والعقيدة العاصمة من الضلال ، وكان - في الوقت نفسه - داعية إلى ائتلاف المسلمين واتحادهم ، وجمع كلمتهم على الأصول الجامعة .
ومما قاله - رحمه الله - وعمل به في هذا المجال " والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة ، وأنا كنت من أعظم الناس تأليفا لقلوب المسلمين ، وطلبا لاتفاق كلمتهم اتباعا لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله ، وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة ، وبينت لهم أن الأشعري كان من أجل المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد - رحمه الله - ونحوه ، المنتصرين لطريقه ، كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه " (1) .
_________
(1) المرجع السابق : ص ( 227 - 228 ) .

" ولما أظهرت كلام الأشعري - ورآه الحنبلية - قالوا : هذا خير من كلام الشيخ الموفق (1) ، وفرح المسلمون باتفاق الكلمة ، وأظهرت ما ذكره ابن عساكر (2) في مناقبه : أنه لم تزل الحنابلة والأشاعرة متفقين إِلى زمن القشيري (3) ، فإنه لما جرت تلك الفتنة ببغداد تفرقت الكلمة ، ومعلوم أن في جميع الطوائف من هو زائغ ومستقيم .
مع أني في عمري ، إِلى ساعتي هذه لم أدع أحدًا قط في أصول الدين إِلى مذهب حنبلي وغير حَنبلي ، ولا انتصرتُ لذلك ، ولا أذكره في كلامي ، ولا أذكر إِلا ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ، وقد قلت لهم غير مرة : أنا أمهل من يخالفني ثلاث سنين ، إِن جاء بحرف واحد عن أحد من أئمة القرون الثلاثة يخالف ما قلته فأنا أقر بذلك ، وأما ما أذكره فأذكره عن أئمة القرون الثلاثة بألفاظهم ، وبألفاظ من نقل إِجماعهم من عامة الطوائف " (4) .
_________
(1) عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي ، موفق الدين الدمشقي الحنبلي ، مصنف « المغني » ، توفي بدمشق سنة ( 620 هـ ) ، « سير أعلام النبلاء » : ( 22 / 165 - 173 ) .
(2) علي بن حسن بن هبة الله ، أبو القاسم ابن عساكر الدمشقي ، المؤرخ الحافظ ، توفي بدمشق سنة ( 571 هـ ) ، « سير أعلام النبلاء » : ( 20 / 554 - 571 ) .
(3) عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن ، أبو نَصْر القشيري النيسابوري الواعظ ، زار بغداد ووعظ بها ، فبالغ في التعصب للأشاعرة ، وغَضَّ من الحنابلة ، فوقعت بسببه فتنة عظيمة ، فاستدعاه نظام الملك إِلى أصبهان إِطفاءً للفتنة ببغداد ، توفي بنيسابور سنة ( 514 هـ ) ، « سير أعلام النبلاء » : ( 19 / 424 - 426 ) .
(4) « مجموع الفتاوى لابن تيمية » : ( 3 / 228 - 229 ) .

الأثر المبارك لجهاد ابن تيمية
بارك الله في جهاد ابن تيمية ، فجعل له أثرًا صالحًا باقيًا ماثَلاَ في " مدرسة علمية وفكرية متكاملة " لها منهجها ، وأسلوبها ، وطابعها .
فمن هذا الأثر : تلاميذه ، وفي مقدمتهم : شيخ الإِسلام ابن قيِّم الجوزية .
قال الحافظ ابن حَجر العسقلاني " فالواجب على من تلبس بالعلم وكان له عقل : أن يتأمل كلام الرجل من تصانيفه المشهورة ، أو من ألسنةِ من يوثق به من أهل النقل ، ولو لم يكن للشيخ تقي الدين إلا تلميذه الشيخ شمس الدين ابن قيّم الجوزية -صاحب التصانيف النافعة السائرة ، التي انتفع بها الموافق والمخالف - لكان غاية في الدلالة على عظم منزلته " (1) .
وقال شيخ الإِسلام التفهني الحنفي " والإِنسان إِذا لم يخالط ولم يعاشر ، يستدل على أحواله ، وأوصافه بآثاره ، ولو لم يكن من آثاره - أي ابن تيمية - إلا ما اتصف به تلميذه ابن قَيِّم الجوزية من العلم ، لكفى ذلك دليلًا على ما قلناه " (2) .
ومن هذا الأثر ، كتبه الكثيرة العدد ، النفيسة القيمة ، الواسعة الانتشار .
ومن هذا الأثر ، ثناء المؤمنين عليه في كل زمان ومكان .
_________
(1) « الشهادة الزكية في ثناء الأمة على ابن تيمية » لمرعي بن يوسف الكرمي الحنبلى : ص ( 74 ) .
(2) المرجع السابق : ص ( 82 ) .
من أعظم الآثار وأظهرها
دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب
بين عصر ابن تيمية ، وعصر ابن عبد الوهاب -رحمهما الله تعالى - أربعة قرون تقريبًا ، ولم تخل هذه القرون الأربعة من داعية للحق ، قائم بعقيدة أهل السنة والجماعة ، بيد أنه لم ينهض أحد بمنهج ابن تيمية ، كما نهض به - بقوة ووضوح - شيخ الإِسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - خصوصًا في الناحية العملية .
فقد كانت كتب ابن تيمية وسيرته الجهادية منهجًا متكاملًا بين يدي الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي عزم - بحول الله وقوته - على تجديد شُعب الإِيمان في منطلق الرسالة ، وكنف الحرمين الشريفين .
اعتقاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب
ظهر الإِمام محمد بن عبد الوهاب في عصر ، يوصف بأنه : " عصر الجهالة والخرافة " في كثير من بلاد العالم الإسلامي ، فهو عصر وهت فيه صلة المسلمين بأصولهم العلمية والاعتقادية ، وكان من آثار ذلك جهالة فاشية ، سببها ، قلة العلم ، وتلوثه بالمعكرات .
وانحرافًا في العقيدة ، سببه ، سيطرة الخرافة والوهم ، وانتشار البدع .
واضطراٍبًا في الأعمال ، سببه ، فقدان المنهج العلمي .
وتأجُّجا في الخلافات ، سببه ، ضعف الإِيمان ، ووهن عُرى الأخوة ، وتدني الوعي بمصالح الأمة .
وإِعجابًا بالأجنبي ، سببه ، التزاور عن الأصالة ، وعدم الثقة بالنفسِ .
وتعرُّضاَ لمطامع خارجية ، سببه ، كل ما تقدم .
ولقد أيقن شيخ الإِسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - بألا مخرج لهذه الأمة من هذه الظلمة المطبقة إِلا بنور الكتاب والسنة .
وأيقن أن القاعدة الأولى في الإِصلاح ، هي إِصلاح العقيدة وتجديد شعب الإِيمان .
وصدع شيخ الإِسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - بما أيقن به ، وبدأ بما هو مفتاح الإِصلاح وعمدته وهاديه وحاديه ، بدأ بالعقيدة .
وللشيخ أسلوبه المتميز في الاختصار المفيد ، والتلخيص السديد .

قال - رحمه الله - " أُشْهِدُ الله ومن حضرني من الملائكة ، وأُشهِدُكُم : أني أعتقد ما اعتَقَدَته الفرقة الناجية ، أهل السنة والجماعة ، من الإِيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، والبعث بعد الموت ، والإِيمان بالقدر خيره وشره .
ومن الإِيمان بالله ، الإِيمان بما وصف به نفسه في كتابه ، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ، ولا تعطيل ، بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليسَ كمثله شيءٌ وهو السميع البصير . فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه ، ولا أُحرِّف الكلم عن مواضعه ، ولا أُلحد في أسمائه وآياته ، ولا أُكَيِّف ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خَلْقه ، فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره ، وأصدق قيلا ، وأحسن حديثًا ، فنَزَّه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل ، وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل ، فقال : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ }{ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ }{ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الصافات : 180 - 182 ] .

وأعتقد أن القرآن كلام الله ، مُنزل غير مخلوق ، منه بدأ وإِليه يعود ، وأنه تكلم به حقيقة ، وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه ، وسفيره بينه وبين عباده ، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
وأومن بأن الله فعّال لما يريد ، ولا يكون شيء إلا بإِرادته ، ولا يخرج شيء عن مشيئته ، وليس شيءٌ في العالم يخرج عن تقديره ، ولا يصدر إِلا عن تدبيره ، ولا مَحيد لاتحد عن القدر المحدود ، ولا يتجاوز ما خطَّ له في اللوح المسطور .
وأعتقد الإِيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت ، فأومن بفتنة القبر ونَعيمه ، وبإِعادة الأرواحِ إِلى الأجساد ، فيقوم اَلناس لرب العالمين حفاةً عَراةً غُرلاَ ، تَدنو منهم الشمس ، وتنُصب الموازين ، وتوزن بها أعمال العباد { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 102 ، 103 ] .
وتنشر الدواوين ، فآخِذٌ كِتابه بيمينه ، وآخِذٌ كتابه بشماله .

وأومن بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعَرصَة القيامة ، ماؤه أشدُّ بياضًا من اللبن ، وأحلى من العسل ، آنيته عدد نجوم السماء مَنْ شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا .
وأومن بأن الصراط منصوب على شَفير جهنم ، يمر به الناس على قدر أعمالهم .
وأومن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه أول شافع ، وأول مُشفَّع ، ولا يُنكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إِلا أهل البدع والضلال . لكنها لا تكون إِلا من بعد الإذن والرضى ، كما قال تعالى { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [ النجم : 26 ] .
وهو لا يرضى إِلا التوحيد ، ولا يأذن إِلا لأهله .
وأما المشركون فليس لهم من الشفاعة نصيب ، كما قال تعالى { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } [ المدثر : 48 ] .
وأومن بأن الجنة والنار مخلوقتان ، وأنهما اليوم موجودتان ، وأنهما لا يفنيان .
وأن المؤمنين يَرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر لا يُضامون في رؤيته .

وأومن بأن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتَم النبيين والمرسلين ، لا يصح إِيمان عبد حتى يؤمن برسالته ، ويشهد بنبوته . وأن أفضل أمته ، أبو بكر الصديق ، ثم عمر الفاروق ، ثم عثمان ذو النورين ، ثم علي المرتضى ، ثم بقية العشرة ، ثم أهل بدر ، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان ، ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم .
وأتولَّى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأذكر محاسنهم ، وأترضى عنهم ، وأستغفر لهم ، وأكف عن مساويهم ، وأسكت عما شجر بينهم ، وأعتقد فضلهم ، عملًا بقوله تعالى : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ الحشر : 10 ] .
وأترضَّى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء ، وأُقر بكرامات الأولياء وما لهم من المكاشفات ، إِلا أنهم لا يَستحقون من حق الله تعالى شيئًا ، ولا يُطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله .

ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار ، إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكني أرجو للمحسن ، وأخاف على المسيء .
ولا أكفر أحدا من المسلمين بذنب ، ولا أخرجه من دائرة الإسلام .
وأرى الجهاد ماضيا مع كل إمام برا كان أو فاجرا ، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة .
والجهاد ماض منذ بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأئمة الدجال ، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل .
وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين ، برهم وفاجرهم ، ما لم يأمروا بمعصية الله .
ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به ، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعتهم ، وحرم الخروج عليهم .
وأرى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتوبوا ، وأحكم عليهم بالظاهر وأكل سرائرهم إلى الله ، وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة .
وأعتقد أن الإِيمان قولٌ باللسان ، وعمل بالأركان ، واعتقاد بالجنان ، يزيد بالطاعة ، وينقص بالمعصية ، وهو بضع وسبعون شُعبة ، أعلاها : شهادة لا إِله إِلا الله ، وأدناها إِماطة الأذى عن الطريق .
وأرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة .

فهذه عقيدة وجيزة حرَّرتها وأنا مشتغل البال لتطلعوا على ما عندي والله على ما نقول وكيل " (1) .
وما برح الشيخ يدعو إِلى هذه العقيدة الصافية المنيرة ، ويصدع بالتوحيد ضدّ الشرك ، وبالعلم ضد الخُرافة .
وما برح يستعمل في دعوته وسائل الاتصال الشخصي ، والكتاب العام ، والرسالة العامة والخاصة ، والرحلة ، والدرس .
وما برح خصومه يَضيقَون به ذرعًا ، ويُضيقون عليه المقام والطريق حتى أذن الله بالنصر والتمكين .
_________
(1) « الدرر السنية في الأجوبة النجديّة » جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم : ( 1 / 28 - 30 ) .

أهمية الدولة في التمكين للدعوة
تهيأ للداعي إِلى الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - سبب لم يتهيأ لدعاة وأئمة كثيرين قبله وبعده ، وهذا من فضل الله عليه ، وعلى الناس في هذه الجزيرة ، وفي العالم الإِسلامي كله ، تهيَّأ له سبب الدولة أو السلطة ، وبهذا السبب ، الذي سبَّبه الله تعالى ، قويت دعوة الشيخ ، وتمكنت وانتصرت .
استقبله أمير الدِّرعية ، الإِمام محمد بن سعود رحمه الله ، خير استقبال ، وعضد دعوته بالسلطان ، وتعاون الرجلان على إعزاز التوحيد ، وإحياء مقتضياته . وإزالة ما يخالفه .
وأخذ الإِمام محمد بن سعود يُكاتب أمراء نَجد وزُعماءها ، ويطلب إِليهم أن يتقبلوا دعوةَ الشيخ المجاهد ، وأن ينصروها في ربوعهم وبين قبائلهم .
وتحت راية دعوة التوحيد ، نَشط الإِمام محمد بن سعود وبنوه في نجد كلها ، حتى استّقر الأمر للدعوة فيها ، وفي الأحساء .
فلما وَلي الأمر الإِمام عبد العزيز بن محمد بن سعود ، نَهَجَ نَهْجَ والده في نصر دعوة التوحيد والتمكين لها .
ومن نماذج هذا النصر والتمكين 1 - توجيه رسائل مشتركة للدعوة ، باسم رجل الدولة ، ورجل الدعوة ، إِلى من يتحرى رشدًا :

" الحمد لله الذي نزَّل الحق في الكتاب ، وجعله تذكرة لأولي الألباب ، ووفق مَنْ مَنَّ عليه من عباده للصواب ، لعنوان الجواب ، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّه ورسوله وخيرته من خلقه محمد ، وعلى آله وشيعته وجميع الأصحاب ، ما طلع نجم وغاب ، وانهلَّ وابل من سحاب .
من عبد العزيز بن محمد بن سعود ، ومحمد بن عبد الوهاب إِلى الأخ في الله أحمد بن محمد العدبلي البكلي سلمه الله من جميع الآفات ، واستعمله بالباقيات الصالحات ، وحفظه من جميع البليات ، وضاعف له الحسنات ، ومحا عنه السيئات .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته . أما بعد وافانا كتابكم ، وسُرّ الخاطر بما ذكرتم فيه من سؤالكم ، وما بلغنا على البعد من أخباركم ، وسؤالكم عما نحن عليه ، وما دعونا الناس إليه . فأردنا أن نكشف عنكم الشبهة بالتفصيل ، ونوضح لكم القول الراجح بالدليل ، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يسلك بنا وبكم أحسن منهج وسبيل .
أما ما نحن عليه من الدين ، فعلى دين الإِسلام الذي قال الله فيه { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ آل عمران : 85 ] .

وأما ما دعونا الناس إِليه ، فندعوهم إِلى التوحيد الذي قال الله فيه خطابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ يوسف : 108 ] ، وقوله : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [ الجن : 18 ] .
وأما ما نَهينا الناس عنه ، فنهيناهم عن الشرك الذي قال الله فيه { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } [ المائدة : 72 ] .
إِلى أن قالا " وحَقيقة اعتقادنا ، أنها تصديق بالقلب ، وإِقرار باللسان ، وعمل بالجوارح ، وإِلا فالمنافقون في الدرك الأسفل من النار مع أنهم يقولون : لا إِله إِلا الله ، بل ويُقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، ويصومون ويَحجّون .
وأما ما ذكرتم من حقيقة الاجتهاد ، فنحنُ مقلّدون للكتاب والسنّة ، وصالح سلف الأمة ، وما عليه الاعتماد من أقوال الأئمة الأربعة : أبي حنيفة النعمان بن ثابت ، ومالك بن أنس ، ومُحمد بن إِدريس ، وأحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى .

وأما ما سألتم عنه من حقيقة الإِيمان ، فهو التصديق ، وأنه يزيد بالأعمال الصالحة ، وينقص بضدّها ، قال تعالى { وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا } [ المدثر : 31 ] .
وما جئنا بشيء يُخالف النقل ولا ينكره العقل ، ولكنهم يقولون ما لا يفعلون ، ونحن نقول ونفعل { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } [ الصف : 3 ] .
نقاتل عُبّاد الأوثان ، كما قاتلهم صلى الله عليه وسلم ، ونقاتلهم على ترك الصلاة وعلى منع الزكاة ، كما قاتل مانعها صدّيق هذه الأمة ، أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، ولكن ما هو إِلا كما قال وَرقَة بن نوفل : ما أتى أحد بمثل ما أتيت به إِلا عودي وأوذي وأُخرج .
وما قَلَّ وكفى خير مما كثر وألهى .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته " (1) .
2 - توجيه رسائل الدعوة التي كان يرسلها الإِمام عبد العزيز بن محمد بن سعود - بوصفه إِمامًا لدولة تقوم على الدعوة - إِلى الناس كافة . . مثل من عبد العزيز بن سعود إلى من يَراه من أهل بلدان العجم والروم ، أما بعد _________
(1) المرجع السابق : ص ( 61 - 64 ) .

فإِنا نحمد إِليكم الله الذي لا إِله إِلا هو وهو للحمد أهل ، ونسأله أن يصلي ويُسلّم على حبيبه من خلقه ، وخليله من عبيده ، وخيرته من بَرِيَّته ، محمد عليه من الله أفضل الصلاة ، وأزكى التحيات ، وعلى إِخوانه من المرسلين ، وعلى آله وأصحابه صلاة وسلامًا دائمين إِلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وهو خير الوارثين .
ثم نخبركم : أن " محمدًا خَلفًا النواب " قدم علينا مع الحاج ، وأقام عندنا مدة طويلة ، وأشرف على ما نحن عليه من الدين ، وما ندعو إِليه الناس ، وما نقاتلهم عليه ، وما نأمرهم به ، وما ننهاهم عنه . وحقائق ما عندنا يخبركم به أخونا محمد من الرأس .
ونحن نذكر لكم ذلك على سبيل الإِجمال أما الذي نحن عليه ، وهو الذي ندعو إِليه من خالَفنا ، أنَّا نعتقد أن العبادة حق لله على عبيده ، وليس لأحدٍ من عبيده في ذلك شيء لا مَلك مقرب ، ولا نبي مرسل ، فلا يجوز لأحد أن يدعو غير الله لجلب نفع أو دفع ضُر ، وإن كان نبيًا أو رسولًا أو ملكًا ، أو وليًا ، وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز :

{ قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا }{ قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا } [ الجن : 21 ، 22 ] . إلى آخر ما قال " (1) .
3 - ما قاله الإِمام محمد بن عبد الوهاب في رسالته للشيخ فاضل آل مزيد ، حيث قال " إِن هذا الأمر الذي أنكروا عليَّ وأبغضوني وعادوني من أجله ، إِذا سألوا عنه كل عالم في الشام واليمن أو غيرهما يقول : هذا هو الحق ، وهو دين الله ورسوله ، ولكن ما أقدر أظهره في مكاني ، لأجل أن الدولة ما يرضون ، وابن عبد الوهاب أظهره لأن الحاكم في بلده ما أنكره . بل لما عرف الحق اتبعه ، هذا كلام العلماء وأظنه وصلك كلامهم " (2) .
وحينما دخل الأمير سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود ، مكة المكرمة بيَّن للعلماء أنَّ الهدف الأول الذي يسعى إِليه ، هو إِخلاص التوحيد لله ، وإفراده سبحانه وحده دون من سواه بأنواع العبادة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمهما الله تعالى - " الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين ، وعلى آله وصحبه والتابعين .
أما بعد _________
(1) المرجع السابق : ص ( 143 ) .
(2) « الدرر السنية في الأجوبة النجدية » جمع عبد الرحمن بن قاسم ص ( 59 ) .

فإِنا مَعاشِر غزو الموحدين ، لما مَنَّ الله علينا ، وله الحمد ، بدخول مكة المشرفة نصف النهار يوم السبت في ثامن شهر محرم الحرام سنة ( 1218 هـ ) ، بعد أن طلب أشراف مكة وعلماؤها وكافة العامة من أمير الغزو سعود ، الأمان ، وقد كانوا تواطؤا مع أمراء الحجيج ، وأمير مكة على قتاله ، أو الإقامة في الحرم ليصدوه عن البيت ، فلما زحفت أجناد الموحدين بذل الأمير حينئذ الأمان لمن بالحرم الشريف ، ودخلنا وشعارنا التلبية ، آمنين محلّقين رءوسنا ومقصّرين ، غير خائفين من أحدٍ من المخلوقين ، بل من مالك يوم الدين ، ومن حين دخل الجند الحرم وهم على كثرتهم مضبوطون متأدِّبون ، لم يعضدوا بها شجرا ، ولم ينفروا صيدًا ، ولم يريقوا دمًا إِلا دم الهَدي ، أو ما أحل الله من بَهيمة الأنعام على الوجه المشروع .
ولما تمت عمرتنا جمعنا الناس ضحوة الأحد ، وعرض الأمير - رحمه الله - على العلماء ما نطلب من الناس ، ونقاتلهم عليه ، وهو إِخلاص التوحيد لله تعالى وحده . وعرفهم أنه لم يكن بيننا وبينهم خلاف إِلا في أمرين :

الأول : إِخلاص التوحيد لله تعالى ، ومعرفة أنواع العبادة ، وأن الدعاء من جملتها ، وتحقيق معنى الشرك الذي قاتل الناس عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
الثاني : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الذي لم يبق عندهم إِلا اسمه ، وانمحى أثره ورسمه .
فوافقونا على استحسان ما نحن عليه جملةً وتفصيلًا ، وبايعوا الأمير على الكتاب والسُنَّة ، وقبل منهم ، وعفا عنهم كافة ، فلم يحصل على أحد منهم أدنى مشقة ، ولم يزل يرفق بهم غاية الرفق ، لا سيما العلماء .
وعرّفناهم بأن الأمير صرح لهم حال اجتماعهم وحال انفرادهم لدينا بأنا قابلون ما وضحوا برهانه من كتاب أو سنة ، أو أثر عن السلف الصالح كالخلفاء الراشدين المأمورين باتباعهم . . . "
إِلى أن قال " ثم رفعت المكوس والرسوم ، وكُسرت آلات التنباك ، ونودي بتحريمه ، وأحرقت أماكن الحشاشين ، والمشهورين بالفجور ، ونودي بالمواظبة على الصلوات في الجماعات ، وعدم التفرّق في ذلك ، بأن يجتمعوا في كل صلاة على إِمام واحد ، ويكون ذلك الإِمام من أحد المقلدين للأربعة رضوان الله عليهم .

واجتمعت الكلمة حينئذ ، وعُبدَ الله وحده ، وحَصلت الألفة ، وسقطت الكُلفة ، وأمر عليَهم ، واستتب الأمر من دون سفك دم ، ولا هتك عرض ، ولا مشقة على أحد ، والحمد لله رب العالمين " (1) .
_________
(1) المرجع السابق : ص ( 123 - 125 ) .

جهود الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود في الدعوة
ولا يزال الأئمة من آل سعود ينصرون دعوة التوحيد في عهودهم جميعًا ، على تفاوت بين عهد وآخر من حيث القوة والضعف ، مُثبتين أن للدولة أهمية عظيمة في التمكين للدعوة .
ولا يقتضي هذا القول : أن الدعوة تخمد مطلقًا حين لا تجد سلطة تنصرها ، ولكن يقتضي : أن الدولة حين تحمل الدعوة بإِخلاص وعلم وهمّة ، فإِن التوحيد يكون أوسع سيادة ، وأعظم هيبة .
ويتضح ذلك من نصرة التوحيد ، وإِعزازه ، ونشره في عهد الإِمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله - .
يقول المشايخ محمد بن عبد اللطيف ، وسعد بن حمد بن عتيق ، وعبد الله بن عبد العزيز العنقري ، وعمر بن محمد بن سليم ، ومحمد بن إِبراهيم بن عبد اللطيف - رحمهم الله - :

" ثم لما وقع الخلل من كثير من الناس من عدم القيام بشكر هذه النعمة ورعايتها ، ابتلوا بوقوع التفرق والاختلاف وتسلط الأعداء ، والرجوع إِلى كثير من عوائدهم السالفة ، حتى مَنَّ الله في آخر هذا الزمان بظهور الإِمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل أيده الله ووفقه ، وما مَنَّ الله به في ولايته من انتشار هذه الدعوة الإِسلامية ، والملة الحنيفية ، وقمع من خالفها ، وإِقبال كثير من البادية والحاضرة على هذا الدين ، وترك عوائدهم الباطلة ، وكذلك ما حصل بسببه من ردع أهل المعاصي والمخالفات ، وإقامة دين الله في الحرمين الشريفين - زادهما الله تعالى تشريفًا وتكريما - " (1) .
وكان أمر العقيدة جليًا لدى الملك عبد العزيز ، إذ يقول - رحمه الله - " يسمّوننا بالوهابيّين ، ويسمون مذهبنا بالوهابي باعتبار أنه مذهب خاص ، وهذا خطأ فاحش ، نشأ عن الدعايات الكاذبة التي كان يبثها أهل الأغراض .
نحن لسنا أصحاب مذهب جديد ، وعقيدة جديدة ، فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح ، ونحن نحترم الأئمة الأربعة ، ولا فرق عندنا بين مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة ، وكلهم محترمون في نظرنا .
_________
(1) « الدرر السنية في الأجوبة النجدية » جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم ( 7 / 284 - 285 ) .

هذه هي العقيدة التي قام شيخ الإِسلام محمد بن عبد الوهاب يدعو إِليها ، وهذه هي عقيدتنا ، وهي عقيدة مبنية على توحيد الله عز وجل ، خالصة من كل شائبة ، منزهة عن كل بدعة " (1) .
وإِذ يستعمل الملك عبد العزيز سلطانه في التمكين للتوحيد والعقيدة المنجية في بلاده ، فإِنه ينشرها خارج بلاده بوسيلتين اثنتين 1 - بعث الدعاة .
2 - نشر كتب التوحيد الخالص وعقيدة أهل السنة والجماعة .
وممّا أمر بنشره من كتب العقائد العقيدة الواسطية ، والتوسل والوسيلة ، ومنهاج السنة ، والعبودية ، وهي من مؤلفات شيخ الإِسلام ابن تيمية .
ومجموعة التوحيد ، وهي مجموعة لشيخ الإِسلام ابن تيمية ، والشيخ محمد بن عبد الوهاب ، والشيخ عبد الرحمن بن حسن ، والشيخ سليمان آل الشيخ - حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - ، والشيخ عبد الله العنقري ، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن ، والشيخ سليمان بن سحمان .
ولمعة الاعتقاد لابن قدامة . . .
وغير ذلك الكثير من الكتب المبينة لعقيدة أهل السنة والجماعة .
_________
(1) « الملك الراشد » لعبد المنعم الغلامي : ص ( 369 ) .

ولهذا السبب ، سبب تسخير سلطة الدولة في نصرة الإسلام ، وجدت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وهي الدعوة الباعثة لعقيدة أهل السنة والجماعة ، والمحيية لشُعَبها ، والمستجيبة لمقتضياتها ، وجدت من الانتشار والتمكن ، ما لم تجده دعوات أخرى كثيرة : فردية وجماعية .
فمنذ أن نهض هذا الداعية الإِمام ، يدعو إِلى الله على بصيرة ، وهذه الدعوة المباركة لا تزال تترسخ في جزيرة العرب ، وتنتشر في العالم الإِسلامي كله بحمد الله وفضله .
وبرز هذا الانتشار في مدارس فكرية ، ونشاط دعوي ، وجهود متصلة لإِحياء تراث السلف الصالح .
إِن لانتشار الدعوة الإِسلامية في تاريخِ المسلمين الحديث ، وحياتهم المعاصرة سببا ، أو أسباباَ ، ويأتي في مقدمة هذه الأسباب : دعوة الإِحياء العامة لمنهج أهل السنة والجماعة التي نهض بها شيخ الإِسلام محمد بن عبد الوهاب ، والتي نصرها آل سعود ، دولةً بعد دولة ، وإماما بعد إِمام ، منذ محمد بن سعود إِلى يوم الناس هذا .
فلا يزال المنهج الإِسلامي يحكم حياة المملكة العربية السعودية وشعبها في الاعتقاد والاجتهاد ، والسلوك .

العقيدة التوقيفية الجامعة
(1)
لماذا هذا التتبع للعقيدة ، في مصادرها العلمية ، ومسارها التاريخي ، القرون الأولى ، ثم القرون : الرابع ، والخامس ، والسادس ، ثم عصر ابن تيمية ، ثم ما بعد ابن تيمية إِلى يوم الناس هذا ؟
ولماذا الاستشهاد بنصوص اختلفت أزمانها ، وتنوعت الخيارات الفقهية لقائليها ؟
والجواب عن ذلك 1 - أنَّ أصول الحق هي التي تجمع الناس ، مهما تعددت أمكنتهم ، ومهما باعدت بينهم الأزمنة ، ومهما اختلفوا في فروع الفقه .
إِنَّ النصوص التي سقناها ، والتي نقلت مفهوم العقيدة الإسلامية لدى الحنفية ، والحنبلية ، والمالكية ، والشافعية ، وابن تيمية ، ومحمد بن عبد الوهاب ، هذه النصوص لم تتطابق في المفهوم فحسب ، وإِنما تطابقت في اللفظ كذلك .
وهذا برهان على أ - الصدور عن الأصلين المعصومين : الكتاب والسنة .
ب - صحة المنهج العلمي في الاعتقاد والفهم .
ج - دقة الالتزام بالمنهج .
فالحق هو الحق في كل زمان ومكان ، فإِذا صح منهج التلقي ، ومنهج الفهم ، وحصل الصدق في الالتزام ، اجتمع الناس على الحق ، وإِن فصلت بينهم التخوم والقرون .
_________
(1) الفقرات التالية مُقتطفة من مقدمة « شرح العقيدة الطحاوية » لابن أبي العز تحقيق د / عبد الله التركي ، والشيخ شعيب الأرنؤوط ، الطبعة ( 1408 هـ ) ص ( 41 - 45 ) .

فالأنبياء والمرسلون ، صلى الله عليهم وسلم اجتمعوا على أصل الديانة وإِن لم ير بعضهم بعضا ، وإِن ظهروا في عصور تطاولت بينها الآماد { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [ الشورى : 13 ] .
والمسلمون مأمورون بالاقتداء بالأنبياء في الاجتماع على الأصول .
2 - أنَّ العقيدة ليست مذهبًا اجتهاديًا ، بل هي الميزان الثابت الذي لا يضطرب ولا يطيش .
إنَّ العقيدة هي معرفة مراد الله تعالى من الديانة ، ومن بعث الرسل ، وإِنزال الكتب ، وخلق الجن والإِنس ، ثم الاستقامة على ذلك والعمل بمقتضاه .
والرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة في العلم بمراد الله ، وفي العمل بمقتضاه .
ولقد اقتدى الصحابة ، ثم سائر القرون المشهود لها بالخيرية بالرسول صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد الحق .
وندب الله الأئمة في كل عصر لتبيين الاعتقاد الصحيح ، الذي هو العقيدة التوقيفية الجامعة .
ومن القول الفصل الدالّ على أن الاعتقاد الصحيح هو الفرقان بين الحق والباطل :

أن الذين التزموا هذه العقيدة استقاموا على الطريقة ، وصلحوا وأصلحوا في العلم ، والدعوة ، والحكم ، والعمل ، والجهاد .
وأن الذين شذوا عن هذه العقيدة تفرقت بهم السبل ، وعقم فهمهم ، واضطربت أقوالهم وأفعالهم ، وفسدوا ، وأفسدوا { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ } [ يونس : 32 ] .
يقول ابن تيمية ، رحمه الله " وطريقتهم - أي أهل السنة والجماعة - هي دين الإسلام الذي بَعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم ، لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم : أن أمته « تَفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إِلاّ واحدة » (1) ، وهي الجماعة ، وفي حديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « هم مَنْ كان على مِثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي » (2) صار المتمسكون بالإِسلام المحض الخالص عن الشوب ، هم أصحاب السنة والجماعة ، وفيهم الصدِّيقون ، والشهداء والصالحون ، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى ، وأولو المناقب المأثورة ، والفضائل المذكورة ، وفيهم الأبدال ، الأئمة الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم .
وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم _________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب السنة ، باب شرح السنة : ( 4597 ) ، والترمذي في كتاب الإيمان ، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة : ( 2640 ، 2641 ) ، وابن ماجه في كتاب الفتن ، باب افتراق الأمم : ( 3993 ) ، وأحمد في مسنده : ( 4 / 102 ) ، والدارمي في كتاب السير ، باب في افتراق هذه الأمة : ( 2521 ) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان ، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة : ( 2641 ) ، والطبراني في الصغير ، باب من اسمه عيسى : ( 711 ) .

« لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق ظاهرين ، لا يضرُّهم من خَذلهم ولا من خَالفهم حتى تَقوم الساعة » (1) .
ويقول ثم سأل نائب السلطان عن الاعتقاد ، فقال أي ابن تيمية " ليس الاعتقاد لي ، ولا لمن هو أكبر مني بل الاعتقاد يؤخذ عن الله سبحانه وتعالى ، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وما أجمع عليه سلف الأمة ، يؤخذ من كتاب الله تعالى ومن أحاديث البخاري ومسلم وغيرهما من الأحاديث المعروفة ، وما ثبت عن سلف الأمة " (2) .
ويقول " فقلت : لا والله ، ليسَ لأحمد بن حنبل في هذا اختصاص ، وإنما هذا اعتقاد سلف الأمة ، وأئمة أهل الحديث .
وقلت أيضًا : هذا اعتقاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكل لفظ ذكرته ، فأنا أذكر به آية أو حديثًا ، أو إِجماعًا سلفيًا ، وأذكر من ينقل الإِجماع عن السلف من جميع طوائف المسلمين ، والفقهاء الأربعة ، والمتكلمين ، وأهل الحديث والصوفية " (3) .
_________
(1) « مجموع الفتاوى لابن تيمية » ( 3 / 159 ) ، وتقدم تخريج الحديث الأخير في الصفحة : ( 31 ) .
(2) المرجع السابق : ص ( 203 ) .
(3) المرجع السابق : ص ( 189 ) .

3 - أن التوجه الإِسلامي المعاصر نحو العودة إِلى الدين يجب أن يؤسس على هذه العقيدة التوقيفية الجامعة ، وأن يُرد ردا جميلًا إِلى الأصول العاصمة من كل زيغ وضلال ، فإِن البنيان مهما علا ، فإِنه سينهار ، وإن الأفق مهما اتسع ، فإِنه سيعتكر ويظلم ، ما لم يؤسس البنيان على العقيدة المنجية ، وما لم يستضئ الأفق المتسع بنورها .
إِن هذه العقيدة الحقة هي التي تُري الانبعاث الإِسلامي الجديد : كيف يؤمن ؟ وكيف يَفهم ؟ وكيف يعمل ؟
وهي التي تُريهم كيف يدعون إِلى الإِسلام وفق المنهج الصحيح ، فيُفتون بعلم ، ويدعون برفق ، ويُوقرون من سبقهم من العلماء والأئمة ، ويقتدون بهم ويترضون عنهم .
وكيف يحافظون على وحدة الجماعة ، فما أكثر ما كان الإِمام الداعية ابن تيمية - رحمه الله - يقول - في كل مجلس حوارٍ ومناقشة تقريبًا - " إن الله تعالى أمرنا بالجماعة والائتلاف ، ونهى عن الفرقة والاختلاف . وربنا واحد ، ورسولنا واحد ، وكتابنا واحد ، وأصول الدين ليس بين السلف وأئمة الإسلام فيها خلاف ، ولا يحل فيها الافتراق ، لأن الله تعالى يقول { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } (1) [ آل عمران : 103 ] .
_________
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية « : ( 3 / 205 ) .

ويقول : " فالواجب على المسلم إِذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ، ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم ، وإن رأى بعضهم ضالا أو غاويا ، وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك ، وإِلا فلا يكلف الله نفسًا إِلا وسعها " (1) .
والعلاقة وثيقة في منهج الإِسلام بين توحيد الله ، ووحدة الجماعة .
فقد تابع الرسول صلى الله عليه وسلم بين توحيد الله ، ووحدة الجماعة ، فقال « إِن الله يرضى لكم ثلاثًا ، ويكره لكم ثلاثًا ؛ يرضى لكم : أن تعبدوا الله ولا تُشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا ، وأن تُناصحوا من وَلاه الله أمركم ، ويسخطُ لكم : قيل وقال ، وإِضاعة المَال ، وكثرة السؤال » (2) .
_________
(1) المرجع السابق : ص ( 286 ) .
(2) رواه أحمد في مسنده : ( 2 / 367 ) .

قواعد مهمة في دراسة مسائل العقيدة
يتضح للمهتمين بكتب السلف في أصول الدين ، والذين لهم تمرس بها ، منهج أئمة السلف - رحمهم الله - في دراسة مسائل العقيدة ، ومناقشات المخالفين والرد عليهم ، وقد رأيت مناسبة ختم هذه الرسالة بإِيراد أهم القواعد والأسس في ذلك المنهج ، وهي منقولة من مقدمة كتاب " شرح العقيدة الطحاوية " لابن أبي العز (1) ، أرجو أن يكون فيها فائدة للمهتمين بهذا الموضوع .
1 -
القرآن مصدر الأدلة النقلية والعقلية
تَضَمَّن القرآن الدعوةَ إِلى توحيد الله ، وبَثَّ في الأنفس والآفاق دلائل التوحيد ، ولَفَتَ نَظَرَ الإِنسان إليها ، وحَثَّه على النظرِ والتفكير فيها ، وبَيَّنَ بالبراهين العقلية إثباتَ صفاته ، وصدقَ رُسُلِه ، وأمْرَ المعاد ، وغيرَ ذلك من أصول الدين ، وأجاب عن مُعارضَةِ المشركين ، وكَشَفَ شُبَهَهُم ، ونَقَضَ أقوالهم ، وفَنَّد مزاعمهم .
وهذه الأدلة شرعيةٌ ، لأن الشرعَ دلَّ عليها ، وأرشد إليها .
وعقليةٌ ، لأنها تُعْلَمُ صحتُها بالعقل .
_________
(1) « شرح العقيدة الطحاوية » ص ( 14 - 34 ) الطبعة الأولى ( 1048 هـ ) ، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي ، والشيخ شعيب الأرنؤوط .

فإِذا أخبر الله بالشيء ، ودَلَّ عليه بالدلالات العقلية ، صار مدلولًا عليه بخبره ، ومدلولًا عليه بالدليل العقلي الذي يُعْلَمُ به ، فيصير ثابتًا بالسمع والعقل ، وكلاهما دَاخِلٌ في دلالةِ القرآن التي تُسمى الدلالةَ الشرعية .
ونقدُ السلف لعلم الكلام ، لم يصدر عن انتقادهم المنهج العقلي ، ولكنَّهم فَضَّلُوا المقاييس الشرعية ، لأنها عقلية أيضًا ، وهي أبلغُ وأكملُ من أدلة المتكلمين ، مع تنزهها عن الأغاليط التي تشتمل عليها أدلتهم .
وقد جاءت هذه الأدلةُ بأسلوبٍ باهر متدفِّقٍ بالحيوية ، وضربِ الأمثلة المستمدة من حياةِ الإِنسان ، وما يُحيط به مهما اختلف جنسُه ، أو بيئتُه ، أو عصرُه ، فهي أبلغُ من كل أُسلوبٍ ، وأشدُّ تأثيرًا في النفس من أيِّ أسلوب آخر ، وفيها مجالٌ واسعٌ للعقل يقضي فيها رغبتَه ، ويُشْبعُ نهمتَه ، مع ضمانِ السير في المسارِ الصحيح دونَ تعثر أو انحِرَاف .
وقد أعَدَّ الله العقولَ بصفة عامة لإِدراك ما هو مطلوب شرعا ، وأعدّ لها ما يُسدِّدُها فيه من الفطرة التي لم تُفْسِدْهَا الأهواء ، والآياتِ الظاهرِة في الأنْفُسِ والآفاقِ ، ثم أكمل بالشرع المتمثِّلِ بالكتاب وناطقِ السنة .

وقد اكتفى السلفُ الصالحُ بالقرآن الكريم إِلى جانب السنة في اتخاذه دليلًا وهاديا ، وقد استنبطوا من آياته قواعدَ النظر العقلي ، فكانوا من أقدر الناس على توضيح مسائل الاعتقاد ، وتوثيقها بالحجة والبرهان والإِجابة عن كل تساؤل أو تشكيك في الاعتقاد .

2 -

اتباع السلف الصالح في تفسير النصوص
ونعني بالسلف الصالح ، الصحابةَ والتابعين مِنْ أهل القرون الثلاثة الممتدحة الذين يَتقيَّدونَ بالكتاب والسنةِ نصا ورُوحًا ، دُونَ مَنْ وصف بالبدعة ، كالخوارج ، والقدرية ، والمعتزلة ، وغيرهم منَ الفِرَق .
وإِنما يُؤخذُ برأيهم ، ويُعتَدُّ به ، لكونهم أبَرَّ قلوبًا ، وأعمقَ علمًا ، وأقل تكلّفًا ، وأقربَ إِلى التوفيق ، لما خَصَّهم الله به من توقّدِ الأذهانِ ، وسَعَةِ العلم ، وقوةِ الإِدراك ، وحسنِ القصدِ ، وتَقوى الله ، وقُرب العهد بنور النبَّوِة ، فكانت طريقتُهم لذلك ، هي الطريقة المحمودة ، وطريقة غيرهم لا تُساويهم ، ولا تدنو منهم .

3 -

الإيمان بمسائل الغيب محصور في الخبر الصادق
إِن المسائل التي لا يتناوَلها الحِسّ ، ولا مَحَلَّ فيها للتَّجربَةِ ، وليس ثمة مقدماتٌ عقلية يَصِلُ بها العقل إِلى معرفة واقعها ، كمسائل الغيب ، يَنحصِر مَصدَرُ العلم بها في خصوص الخبر الصادق المؤيَّد بالمعجزات الواصِلِ إِلى الناس مِن عالِمِ الغيب ، ومُبْدع الأكوان والمخلوقات .
فما أخبرَ الله عنه أو رسولُه من شؤون الغيب ، نؤمِنُ به على القدر الذي أخبرَ الله به أو رسولُه دونَ صرفِ اللفظ عن معناه ، ودونَ زيادة عمَّا تضمَّنَهُ الخبرُ الصادق ، ودونَ استبعاد أو إِنكارٍ .
وَمِن التكلّفِ المنهيِّ عنه ، البحثُ في أمور غيبية وَرَدَ الشرعُ بالإِيمانِ بها مع تَرك كيفيتِها . ومنها ما لا يكونُ له شاهد في عالم الحس ، كالسؤال عن وقت الساعة ، وعن الروح ، وعن مُدَّةِ هذه الأمة ، إِلى أمثال ذلك مما لا يُعلمُ إِلا بالنقل الصِّرف ، فهذا النوع يجبُ الإِيمانُ به من غير بحثٍ .

4 - تقسيم التوحيد إلى توحيد الرُّبوبية ، وتوحيد الألوهية ، ووجوب التّصديق بها التوحيدُ عند السلف نوعان الأول : توحيدُ الربوبية : وهو الاعتقادُ بأن ربَّ العالَم وخالقه واحدٌ وليس اثنين ، وهو الربّ سبحانه الذي جُبلت الفِطَرُ السليمةُ على الإِقرار به ، والخضوع له ، والإِيمان بما له من الأسماء والصفات على وفق ما جاء في الكتاب والسنّة ، فتوحيد الأسماء والصفات داخل في توحيد الربوبية عند الإِجمال ، وأما عند التفصيل فيكون قسمًا ثالثًا ، خصوصًا إِذا قصد الرد على من يُقر بالربوبية وينكر الصفات ، كالجهميَّة والمعتزلة .
الثاني : توحيد الألوهية : ومعناه : أن يُعبَدَ الله وحدَه ، ويكفر بعبادة ما سواه ، وبهذا النوع يتحقَّقُ معنى كلمة التوحيد : " لا إِله إِلا الله " .
وهذا النوع من التوحيد ، هو دعوة كل رسول إلى قومه منْ لَدُنْ آدم إِلى محمدٍ عليه الصلاة والسَّلامُ ، ومِنْ أجله خَلَقَ الله الخلقَ ، وجَعَلَ الجنةَ والنارَ ، وفَرَّقَ الناس إِلى شقي وسعيدٍ ، ولا يُقبلُ إِيمانُ المرءِ إِلا بالإِقرارِ به قولًا وعملا وهو يَتَضَمَّنُ توحيدَ الربوبية .

وقد عُنِيَ القرآنِ بتقريرِ هذا النوع من التوحيد ، والبرهنة عليه بالأدِلَّةِ العقلية والبراهين الصحيحة ، لأن الشِّرْكَ الذي وَقَعَ في جميع الأمم كان في هذا النوع ، فإن عامة مشركي الأمم كانوا مُقِرِّينَ بربوبيته سبحانه ، ولكنهم مع إِقرارِهم بربوبيته قد أشْرَكُوا بعبادتِه غَيْرَهُ .

5 -

إثبات الأسماء والصفات مع الإقرار بمعناها وعدم التعرض لكيفيتها
تُعَدُّ مسألةُ الصفات من أجلِّ وأعظم ما تُكُلِّمَ فيه من أصول الاعتقاد ، وقد اضطَرَبَتْ فيها أقوالُ الفلاسفة والمتكلِّمين ، فمنهم مَنْ قال بالنفي المَحْضِ ، ومنهم من أقرَّ بأسماء الله في الجملة ونَفَى الصفات ، ومنهم من أقر بالأسماء والصفات ، لكنه رَدَّ طائفةً منها ، وتأوَّلَها ، وصَرَفَها عن ظاهرها .
ومَذْهَبُ السلف في هذه المسألة : هو الإِيمانُ بكل ما وَرَدَ في كتاب الله وناطِقِ السنة من الأسماء والصفات من غير زيادة عليها ، ولا نُقصانٍ منها ، ولا تجاوُزٍ لها ، ولا تأويلٍ لها بما يُخالِفُ ظاهرهَا ، وقدِ انقضى عَصْرُ الصحابة والتابعين من السلف والأئمة على التسليم المُطْلَقِ بما جاءَ في الكتاب والسنة عن الذاتِ الإِلهية وصفاتها ، ولم يتنازَعُوا في مسألةٍ واحدةٍ من مسائل الأسماءِ والأفعالِ ، بل كلُّهم على إِثبات ما نَطَقَ به الكتابُ والسنة ، كَلِمَتُهم واحدةٌ من أولِهم إِلى آخرهم ، لم يَسُومُوها تأويلًا ، ولم يُحَرِّفوها عن مواضعها تبديلًا .

وهم يعتقدون أن أسماء الله تعالى وصفاته تَوقيفيَّةٌ ، لا يجوزُ إِطلاقُ شيءٍ منها على الله في الإِثبات أو النَّفي إِلا بإِذنِ الشرع ، فلا يُثْبتونَ له سبحانه من الأسماء والصفات إلا ما أثبَتَهُ هو لنفسه ، أو أثبَتَه له رسولُه صلى الله عليه وسلم ، وأنَّ كل ما ثبتَ له من الأسماء والصفات لا يماثِل شيئًا من خلقه ، ولا يُماثلُه شيءٌ ، بل كل ما ثبتَ له من صفات الكمَال التي وَردَت في النصوص الصريحة ، فهو مُختص به لا يَشْرَكُهُ فيه أحدٌ من خلقه ، وإِذا كان هناك من الأسماء ما يُطْلَقُ على صفاتِ الله كما يُطْلَقُ على صفات خَلْقه ، فإن هذا ليس إِلا مَحْضَ اشتراكٍ في الاسم والمعنى العام ، فلا يَلْزَمُ من اتفاقِهما في مسمَّى الصفة ومعناها العام اتفاقُهما في حقيقة الصفة ، فإِذا كانت ذاتُه سبحانه لا تُمَاثِلُ الذوات ، فكذلك صفاتُه لا تماثِلُ الصفاتِ ، لأنه سبحانه لا تُضْرَب له الأمثالُ بخَلقِه لا في ذاته ، ولا في صفاته .

ولم يَقُلْ أحدٌ منهم : إِن آيات الصفات لا يَعْلَمُ معناها إِلا الله ، بدليل أنهم كانوا يثبتون لله ما تضمنته من صفات ، ولو كان معنى الآيات والأحاديث غير مفهوم لهم ألبَتَّة ، لما صَحَّ منهم الإثباتُ ، إِذ كيف يثبتَون شيئًا لا يُعْقَل معناه ، غايةُ الأمر أنهم لم يكونوا يبحثُون وراءَ هذه الظواهر عن كُنْهِ هذه الصفات ، أو عن كيفية قيامِها بذاته تعالى ، لأنَّ معرفةَ ذلك فوقَ مستوى العقل البشري ، وهو من الغيب الذي استأثَر الله بعلمِه ، فهو سبحانه أجلُّ من أن يُدرَكَ كُنْهُ ذاته وصفاته ، أو يحاطَ بها علمًا : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] .
وبهذا يُعلَمُ أنّ السلف الصالح كانوا أكثرَ فطنةً ، وأحد ذكاءً من أصحاب الفِرَق ، لأنهم عَرَفُوا أنه لا سبيل إِلى إِدراك كُنْه الصفات بالعقل ، لأنه من شؤون الغيب التي لا تدخل في نطاقِ قُدرته .

6 -

الجمع بين الإثبات والتنزيه
فإِنَّ القرآن جمع فيما وَرَدَ فيه عن الصفات بينَ الإِثباتِ والتنزيه في آية واحدة حين قال : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] ، فالله سميع بصير ، ولا يُشْبِهُهُ أحد من خلقه ، مع أنهم يسمعون ويبصرون ، وكذا في بقية الصفات ، لأن التماثلَ في الصفات فرعٌ عن التماثل في الذواتِ ، والذاتان هنا مختلفتان تمامًا ، فكذا صفاتُهما .
فتسميتُه تعالى قادرًا وتسمية العبد قادرًا لا تُوجبُ مماثلة قدرة الله لِقُدْرَة العبد ، وكذا تسميتُه عالمًا ، ومُريدًا ، وحيًّا ، وسميعًا ، وبصيرًا ، ومتكلمًا ، مع تسمية عباده بهذه الأسماء لا يَستلزمُ أنَّ علمَهُم كعلمِه ، ولا إِرادتهم كإِرادتِهِ ، ولا حياتَهم كحياتِه .
وما يوجد في الخارج من الأسماء لا يوجد مطلقا كليًّا ، وإِنما يُوجد معينًا مختصًا ، وهذه الأسماء إِذا سمُي الله بها ، كان مُسمَّاه معينًا مختصًا به ، وإِذا سُمِّيَ بها العبد ، كان مسمّاه معيِنًا مختصًا به ، فما يُوصف الله به ، ويُوصَفُ به العبادُ ، يوصفُ الله به على ما يليقُ به ، ويُوصَفُ العبادُ على ما يَليقُ بهم من ذلك .

7 -

رفض التأويل الكلامي
إِن التأويل عند المتكلمين عامةً يقتضي اتخاذَ العقل أصلًا في التفسير مقدمًا على الشرع ، فإِذا ظَهَرَ تعارض بينهما ، فينبغي تأويلُ النصوص إِلى ما يُوافِقُ مقتضى العقل ، كتأويل أدلة الرؤية ، وأدلة العلو ، وآيات الصفات ، وما إِلى ذلك ، والسلفُ يرفُضُون هذا النوع من التأويل ، ويُخَطِّئُون القائل به ، ويَشْتَدُّونَ في النكير عليه ، لأنه يُفْضِي إلى تعطيل النصوص ، والتجاوز بها إِلى معانٍ وآراء مدخولة ، تستهدفُ هدمَ الشريعة ، وإِضلالَ معتَقِدِيها ، وبلبلةَ مَا استقرَّ في قلوبهم ، وامتَزَجَ بنفوسهم من عقائد واضحة لا لَبْسَ فيها ، ولا شائبة من غموضٍ ، والتأويل الصحيحَ المقبولُ عندهم هو الذي يُوافق ما دَلَّتْ عليه النصوصُ ، وجاءَتْ به السنةُ ، وغيرُه هو الفاسدُ .

8 - تقييد العقل وعدَمُ الاعتداد به في غير مجاله إِنَّ العقل وسيلةٌ محدودة من وسائل المعرفة ، لا يُدرك غير الأمور المحسوسة على سبيل التّيَقُّن ، ويدرك الأمور الغيبية على سبيل فهم المعنى فقط ، دون الكيفية ، فالسلف يؤمنون بإِثبات ما أخبر به النص في ما يتعلق بالأمور الغيبية ، ويصدقون به ، ولا يتعرضون للبحث في كيفيته ، لأن ذلك مما يعز على العقل مَرَامُه .
وليس عدم الاعتداد بالعقل فيما لا يدخل في مجاله إلغاء للعقل بالكلية ، فقد أجمع المسلمون على أنه لا تكليف على صبيٍّ ولا مجنون ، وأنه لا بُدَّ من نظر العقل ، ولذلك أمر الله بتدبر كتابه ، ولا يمكن أن يتحقق هذا التدبر إِلا بالعقل ، وإِنما الممنوع أن يستخدم العقل في غير موضعه ، أو أن يخضع في الاستدلال لمنهجِ يخالف المنهج الذي جاء في القرآن والسنة .

فهم لا يُعلُونَ من شأن العقل ، ولا يُغالون في أحكامه ، ولا يحكمون باستقلاله وكفايته ، وإِنما يضعونه في موضعه اللائق به ، فَيستَعملونَه في نطاق قُدَرتِه وإِمكاناته في النظر في ملكوت السمَّاوَات والأرَض ، وفي الاجتهاد فيَ القضايا العملية ، وفي اكتشافِ العلومِ المادِّيَّة ، التي تهدفُ إِلى ترقية المجتمع وتطويرِه ، وهذا من تمام علمهم ، وبُعْد نظرِهم ، وسلامةِ تفكيرهم ، ولو كان العقل يفسَّرُ بواسطتهَ كُلّ الأشياء ، لما كان هناك حاجةٌ إِلى إِرسال الرسل ، وإِنزال الكتب السماوية .
يقول ابن خلدون في " مقدمته " (1)
" العقلُ ميزان صحيحٌ ، فأحكامُه يقينيّةٌ لا كَذِب فيها ، غير أنك لا تَطْمُعُ أن تَزِنَ به أمورَ التوحيد ، والآخرة ، وحقيقة النبوة ، وحقائِقَ الصفات الإِلهية ، وكلَّ ما وراءَ طًوره ، فإنِ ذلك طمعٌ في محال ، ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب ، فطمع أن يزن به الجبال ، وهذا لا يدل على أن الميزان في أحكامه غير صادق ، لكن العقل قد يقف عنده ، ولا يتعدى طوره حتى يكون له أن يحيط بالله وبصفاته ، فإِنه ذرة من ذرات الوجود الحاصل منه " .
ويقول السرهندي : (2)
_________
(1) الصفحة : ( 364 - 365 ) .
(2) في الرسالة رقم ( 36 ) المجموعة الثالثة .

" إِن طور النبوة وراء العقل والتفكير ، فالحقائق التي يعجز العقل عن إِدراكها ، تأتي النبوة لتثبيتها وتحققها ولو كان العقل كافيًا وحده ، لما بعث الأنبياء صلوات الله وتسليماته عليهم أجمعين ، ولما ربط عذاب الآخرة ببعثتهم { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } [ الإِسراء : 15 ] .
والعقلُ حجةٌ ، ولكنه ليس بحجةِ بالغة ، وليس في حجته بكامل ، وقد تحققت الحجة البَالغة ببعثة الأنبياء والرسل عليهم الصلوات والتسليم ، فقطعت ألسنة المكلفين ، وقضت على معاذيرهم ، يقول الله تعالى { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [ النساء : 165 ] .
ولما ثبت عجز العقل وقصوره في بعض القضايا ، فليس من المستحسن أن توزن جميع الأحكام الشرعية في ميزان العقل ، وإن محاولة التطبيق بين العقل وبين الأحكام الشرعية بصفة دائمة ، والتزام ذلك ، والتقيد به ، حكم بكفاية العقل وغناه ، وإنكارٌ للنبوة . أعاذنا الله تعالى منه " .
ويقول أيضًا :

" إِن إِخضاع أخبار الأنبياء الصادقة للطريقة العقلية للبحث والتأمل ، والتحقيق والتوفيق بينهما ، إِنكار في الحقيقة للنبوة ، فالاعتماد في هذه القضايا التي هي وراء طور العقل على الاتباع الكامل ، والإِيمان الصادق بالأنبياء عليهم الصلوات والتسليمات من غير طلب الدليل والبرهان .
ولا يظن ظان أن طريقة النبوة تعارض طريق العقل ، لا ، بل إِن طريق العقل ، وهو النظر والاستدلال ، لا يؤدِّي بدون تقليد الأنبياء واتباعهم إِلى هذا المقصِد الرفيع ، المعارضة شيء ، والعجز والقصور شيء آخر ، لأن المعارضة لا تتصور إِلا بعد القدرة والتمكن " .

9 - الأخذ بقياس الأوْلى (1) في الإثبات والنفي في حقه سبحانه فإِن لله المثل الأعلى ، وقد أثبت الله تعالى ذلك لنفسه في ثلاثة مواضع من القرآن أحدها : قوله تعالى : { لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ النحل : 60 ] .
الثاني : قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الروم : 27 ] .
الثالث : قوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] .
فقياس الأوْلى : هو طريق إِثبات الكمال لله ، فما كان كمالًا لغيره ، فهو أحق به منه ، لأن له المثل الأعلى في كل كمال لا نقص فيه .
والكمال والنقص هما قطب الرحى في موقف السلف من الصفات نفيًا وإِثباتًا .
فكل ما تضمن كمالًا لا نقص فيه ، فالله أحق به .
وكل ما كان نقصًا من صفات المخلوقين ، أو كان كمالًا متضمنا لنقص بوجه من الوجوه ، فالله أولى بأن يُنزَّه عنه ، كالنوم والولد والأكل .
_________
(1) ويسمى عند الأصوليين : القياس الجلي ، وهو ما يكون الفرع أولى من الأصل بالحكم ، لوضوح العلة وظهورها فيه ، كتحريم الضرب للوالدين ، قياسًا على تحريم التأفيف ، وأما قياس التمثيل والشمول ؛ فالأول : إلحاق الشيء بنظيره ، والثاني : إدخال الشيء تحت حكم المعنى العام الذي يشمله . « الوجيز في أصول التشريع الإسلامي » : ( 373 ) ، « أصول مذهب الإمام أحمد » : ( 613 ، 643 ) .

ومعنى الكمال والنقص ، يجب أن يؤخذ من الشرع ، حتى لا نصفه بما قد يظن أنه كمال في حقه بالمقايسة على المخلوقين ، وهو ليس كمالًا بالنسبة له سبحانه .
فما سكت عنه الشرع نفيًا وإِثباتًا ، ولم يكن في العقل ما يثبته أو ينفيه ، سكتنا عنه ، ونثبت ما علمنا ثبوته من ذلك ، وننفي ما علمنا نفيه .

10 -

تحديد الألفاظ المتنازع عليها وتعيين مدلولاتها
لقد اشتدت عناية السلف في تحديد الألفاظ ، وتعيين مدلولاتها ، لأن كثيرًا من الفرق يحتجون بألفاظ متشابهة مجملة يعارضون بها نصوص الكتاب والسنة ، وتلك الألفاظ قد وردت في الكتاب ، والسنة ، وكلام الناس بمعانٍ أُخر غير المعاني التي قصدوها هم بها ، فمثلًا التوحيد عند المتكلمين : هو الإِقرار بأن الله واحد في ذاته لا قسيم له ، وواحدٌ في صفاته لا شبيه له ، وواحد في أفعاله لا شريك له .
وهذا التعريف لا يتعدى توحيد الربوبية .
والتوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، هو إِثبات الإلهية لله وحده ، بأَن يشهد أن لا إِله إِلا الله ، ولا يعبد إِلا إِياه ، ولا يتوكل إِلا عليه ، ولا يوالي إلِا له ، ولا يُعادي إِلاَ فيه ، ولا يعملَ إِلاَ لأجلِه .
وذلك يتضمن توحيد الربوبية ويتضمن ما أثبته لنفسه .
والألفاظُ نوعان : نوعٌ جاء به الكتاب والسنة ، فيجب على كلِّ مؤمن أن يقِرَّ بموجب ذلك ، فيثبت ما أثبته الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن تمام العلم أن يَبْحَثَ عن مرادِ رسوله بها ، ليُثبتَ ما أَثْبَتَه ، وينفي ما نفاه من المعاني .

وأما الألفاظُ التي ليست في الكتاب والسنة ، ولا اتفق السلف على إِثباتها ونفيها ، فهذه ليس على أحد أن يوافق من نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده ، فإِن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول ، أقر به ، وإِن أراد بها معنى يخالف خبر الرسول ، أنكره .
يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية (1) - رحمه الله - " وإِذا كان المتكلم في مقام الإِجابة لمن عارضه بالعقل ، وادعى أن العقل يعارض النصوص ، فإِنه قد يحتاج إِلى حل شبهته ، وبيان بطلانها ، فإِذا أخذ النافي يذكر ألفاظا مجملة ، مثل أن يقول : لو كان استوى على العرش لكان جسمًا أو مركَّبًا ، وهو منزَّهٌ عن ذلك ، ولو خَلَقَ واستوى ، وأتى لفصل القضاء ، لكانت تحُلُّة الحوادثُ وهو منزَّهٌ عن ذلك ، ولو قامت به الصفات لحلَّته الأعراض وهو منزَّهٌ عن ذلك .
فهنا يستفصلُ السائل ويقول له : ماذا تريد بهذه الألفاظ المُجملة ؟
_________
(1) « درء تعارض العقل والنقل » لابن تيمية : ( 1 / 238 - 239 ) .

فإِن أراد بها حقًا وباطلًا ، قُبِلَ الحقُّ ، ورُدَّ الباطل ، مثل أن يقول : أنا أريد بنفي الجسم نفيَ قيامه بنفسه ، وقيام الصفات به ، ونفي كونِه مركبًا ، فنقول : هو قائم بنفسه ، وله صفات قائمة به ، وأنتَ إِذا سَمَّيتَ هذا تجسيمًا ، لم يَجُز أن أدَعَ الحق الذي دل عليه صحيح المنقول ، وصريح المعقول ، لأجل تسميتك أنت له بهذا .
وأما قولك : " ليس مركَّبًا " ، فإن أردتَ به أنه سبحانه رَكَّبَهُ مركِّب ، أو كان متفرِّقًا ، فَتَركَّب ، وأنه يمكنُ تفرُّقُه وانفصالُه ، فالله تعالى منزَّهٌ عن ذلك ، وإِن أردت أنه موصوفٌ بالصفات مباينٌ للمخلوقات ، فهذا المعنى حقٌ ، ولا يجوز رده لأجل تسميتك له مركَّبًا ، فهذا ونحوه مما يجاب به " .
ويقول أيضًا " فليس لأحدٍ أن يقول : إِن الألفاظ التي جاءت في القرآن موضوعة لمعان ، ثم يريد أن يفسر مراد الله بتلك المعاني ، هذا من فعل المفترين ، فإِن هؤلاء عمدوا إِلى المعاني ، وظنوها ثابتة ، فجعلوها هي معنى الواحد ، والوجوب ، والغنى ، والقدم ، ونفي المثل .

ثم عمدوا إِلى ما جاء في القرآن من تسمية الله تعالى بأنه أحدٌ وواحدٌ ، ونحو ذلك من نفي المثل والكُفْءِ ، فقالوا : هذا يَدُلّ على المعاني التي سميناها بهذه الأسماء ، وهذا من أعظم الافتراءِ على الله " (1) .
_________
(1) « مجموعة الفتاوى لابن تيمية » : ( 6 / 111 ) .

11 -

تحديد معنى المتشابه وبيان أن القرآن كله واضح يمكن تفسيره
المُحْكَمُ أقسامٌ ثلاثة ، ويقابل كلَّ واحد منها نوعٌ من المتشابه فالإِحكام تارة يكون في التنزيل ، ويقابله ما يلقيه الشيطان مما نسخَهُ الله وأزالَهُ .
وتارةً يكون في إِبقاء التنزيل ، ويقابلُهُ المنسوخُ الذي هو رَفع ما شُرعَ .
وتارةً يكونُ في التأويل ، ومعناه تمييز الحقيقةِ المقصودة حتى لا تَشتَبهَ بغيرها ، ويُقابلُها الآياتُ المتشابهات ، أي : التي تشبه هذا ، وتشبه ذاك ، فتكون محتملة للمعنيين . قال الإِمام أحمد (1) " المحكَمُ : الذي ليس فيه اختلافٌ ، والمتشابه : الذي يكون في موضعِ كذا ، وفي موضعِ كذا " .
_________
(1) « العدة في أصول الفقه » لأبو يعلى محمد بن الحسين الفراء : ( 2 / 685 ) .

والتشابه أمرٌ نسبي إِضافي ، فقد يَشْتَبِهُ على إِنسان ، ما لا يَشتبِهُ على غيره ، وقد يكون في القرآن آياتٌ كثيرة لا يَعْلَمُ معناها كثيرٌ من العلماء ، فضلًا عن غيرهم ، وليس ذلك في آية معينة ، بل قد يُشكِلُ على هذا ما يَعْرِفُه ذلك ، وذلك تارة قد يكون لغرابة في اللفظ ، وتارة لاشتباه المعنى بغيره ، وتارة لشبهَةٍ في نفس الإِنسان تَمنَعُه من معرفة الحق ، وتارة لعدم التدبّر التام ، وتارة لغير ذلك من الأسباب ، ولكن ذلك لا يعني أن معرفة المعنى المقصود من هذه الآيات مستحيلٌ لا يمكن دركُهُ كما يدَّعي ذلك من يدَّعيه مِن المتكلمين .
ولفظُ التأويل في عُرْف السَّلَف له معنيان أحدهما : تفسير الكلاَم وبيانُ معناه ، سواءٌ أوافقَ ظاهره أو خالَفه ، فيكون التأويل والتفسير بهذا المعنى متقاربين أو مترادفين ، وهذا هو الذي عَنَاه مجاهد حينما قال : إِنَّ العلماء يعلمون تأويله .

ومحمد بن جرير الطبري يقول في " تفسيره " : القولُ في تأويل قوله كذا وكذا ، واختلف أهلُ التأويل في هذه الآية ونحو ذلك ، ومرادُه التفسير ، والقرآن كله بهذا المعنى ، محكمه ومتشابهه يمكن تأويله ، ليس فيه شيء لا يفقه معناه ، ورسول الله لم يمُتْ حتى كان صحابتُه على علم تام بجميع معاني الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية .
قال مجاهد : عَرَضْتُ المصحف على ابن عباس من فاتحته إِلى خاتمته أقِفُ عند كُلِّ آية أَسأَلهُ عنها .
وقال ابنُ مسعود : ما في كتاب الله آيةٌ إِلاَ وأنا أعلم فيم أنِزلَتْ .
وقال الحسن : ما أَنزَلَ الله آيةً إِلا وهو يُحِبُّ أن يُعْلَمَ ما أراد بها .
ولهذا كانوا يجعلون القرآن محيطًا بكل ما يُطلب من علم الدين ، كما قال مسروق ، ما نسأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمُهُ في القرآن ، ولكن عِلْمُنا قَصَرَعنه .

ويعارضون من يقول : إِن التشابه يكون في معنى اللفظ بحيث لا يَعْلَمُ المراد به إِلا الله تعالى ، ويَرَوْنَ أن لازم هذا القول أن الله أنزل على نبيِّه كلامًا لم يكن يَفهم معناه لا هو ولا جبريل ولا غيرهما ، وهذا قدحٌ في النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي القرآن ، إِذ كان الله أنزل القرآن ، وأخبر أنه جعله بيانًا وهدى ونورًا وشفاءً ، وأمرنا أن نتدبره ونعقله كله ، لم يستثن منه شيئًا لا يُتدبر ولا يُعقل ، وأمر الرسول أن يبين للناس ما نُزِّلَ إِليهم ، وأن يبلِّغَهم البلاغَ المبين .
فلو كان في القرآن شيءٌ لا يُفُقَه معناه ، لم يكن هناك معنى للأمر بتدبّره وعقله ، ولم يكن الرسول حينئذٍ بَيَّنَ للناس ما نُزِّلَ إِليهم ، ولا بَلَّغَ البلاغ المبين .
وأما المعنى الثاني للتأويل ، فهو نفس المراد بالكلام ، فإِن كان الكلامُ أمرًا أو نهيًا ، فتأويلُه نفسُ فعل المأمور به ، وترك المحظور ، كما قالت عائشة رضي الله عنها :

« كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول في ركوعِه وسجوده : " سبحانَكَ اللهمّ ربَّنا وبِحَمْدِكَ ، اللهمّ اغْفِرْ لي " يتأوًّلُ القرآن » (1) . تعني أن هذا هو تأويلُ قوله تعالى : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ } [ النصر : 3 ] .
وإِن كان الكلام خبرًا ، فتأويله نفسُ الشيء المُخبرِ عنه ، فتأويل ما أخبر الله به عن نفسه ، وعن اليوم الآخر ، هو نفس الحقيقة التي يُخبر عنها ، وذاك في حق الله هو كُنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره ، وتلك هي المتشابه الذي لا يَعْلَمُ تأويله إِلا الله ، فإِنَّ أحدًا لا يعرفُ كيفيةَ ما أخبر الله به عن نفسه ، ولا يقف على كنه ذاته وصفاته غيره ، وهذا هو الذي يجبُ تفويضُ العلم فيه إِلى الله عزَّ وجلَ (2) .
_________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير ، سورة ( إذا جاء نصر الله والفتح ) ( 4967 ، 4968 ) ، ومسلم في كتاب الصلاة ، باب ما يقال في الركوع والسجود : ( 484 ) ، وأبو داود في كتاب الصلاة ، باب في الدعاء في الركوع والسجود : ( 877 ) ، والنسائي في كتاب التطبيق ، باب نوع آخر من الذكر في الركوع : ( 1047 ، 1122 ، 1123 ) ، وابن ماجه في كتاب إِقامة الصلاة . . ، باب التسبيح في الركوع والسجود : ( 889 ) ، وأحمد في مسنده : ( 1 / 388 ، 392 ) .
(2) انظر « مجموع الفتاوى لابن تيمية » : ( 6 / 434 ) .

12 - تأثير الأسباب الطبيعيّة في مسبباتها بإذن الله إِن الله يخلق السحاب بالرياح ، وينزل الماء بالسحاب ، ويُنْبِتُ النباتَ بالماء ، ونحو ذلك .
والقولُ بأن الله يَفْعَلُ عند الأسباب لا بِها يُفضي إلى إِبطال حِكمةِ الله في خلقه ، وأنه لم يجعل في العين قوةَ تمتاز بها عن الخدِّ تُبصِرُ بها ، ولا في النار قوةً تمتازُ بها عن التراب تَحْرِقُ بها ، فضلًا عمَّا في هذا القول من مخالفةٍ للكتاب والسنة ، فإِن الله تعالى يقول { فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } [ الأعراف : 57 ] .
ويقول { وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [ البقرة : 164 ] .
ويقول { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } [ التوبة : 14 ] .
ويقول { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا } [ التوبة : 52 ] .
ويقول { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ } [ ق : 9 ] .
ويقول :

{ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ }{ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } [ المائدة : 15، 16 ] .
ومثل هذا في القرآن كثير ، وكذلك في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كقوله : « لا يموتن أحدٌ منكم إِلا آذَنْتُمونيِ حتى أُصلِّي عليه ، فإِنَّ الله جاعلٌ بصلاتي عليه بركةً ورحمةَ » (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم : « إِن هذه القبور مملوءةٌ على أهلها ظُلْمَةً ، وإِنَّ الله جاعلٌ بصلاتي عليهم نورًا » (2) .
فالله سبحانه خلق الأسباب والمسببات وجعل هذا سببًا لهذا ، فإِذا قال القائل : إِن كان مقدورًا ، حصل بدون السبب ، وإِلا لم يحصل . جوابه أنه مقدورٌ بالسبب ، وليس مقدورًا بدون السبب .
وقولهم : إِن الله تعالى أجرى العادة بهذه الأسباب ، وأنه ليس لها تأثير في المسببات بإِذنه ، قولٌ بعيدٌ جدًا عن مُقْتَضى الحكمة ، بل هو مُبطلٌ لها ، لأنَّ المسببات إِنْ كان يمكن أن تُوجَدَ من غير هذه الأسباب ، فأي حكمةٍ في وجودها عن هذه الأسباب .
_________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الجنائز ، باب الصلاة على القبر : ( 2022 ) ، وابن ماجه في كتاب الجنائز ، باب ما جاء في الصلاة على القبر : ( 1528 ) .
(2) أخرجه البخاري بنحوه في كتاب الجنائز ، باب الصلاة على القبر بعدما يدفن : ( 1337 ) ، وأخرجه مسلم واللفظ له في كتاب الجنائز ، باب الصلاة على القبر : ( 956 ) .

13 - الحسنُ والقبْحُ في الأفعال عقْليّان وشرعيان وقد ذهبوا في هذه المسألة مذهبًا وسطًا ، وهو أن الأفعال في نفسها حسنةٌ وقبيحةٌ ، كما أنها نافعةٌ وضارةٌ ، وأنَّ العقلَ يُدركُ الحسْنَ والقُبْحَ في الأشياء ، والله قد فطر عباده على استحسان الصدق ، والعدل ، والعفة ، والإِحسان ، ومقابلة المنعم بالشكر ، وفطرهم على استقباح أضدادها ، لكنَّ الثواب والعقاب شرعيّان يتوقفان على أمر الشارع ونهيه ، ولا يَجِبانِ عن طريق العقل .

14 - إثبات العقيدة بخبر الواحد المتلقى بالقبول عملًا وتصديقًا فقد احتجُّوا بخبر الواحد المتلقى بالقبول في مسائل الصفات والقدر ، وعذاب القبر ونعيمِه ، وسؤال الملكين ، وأشراط الساعة ، والشفاعة لأهل الكبائر ، والميزان ، والصراط ، والحوض ، وكثير من المُعجزات ، وما جاء في صفة القيامة والحشر والنشر ، والجزم بعدم خلود أهل الكبائر في النار .

15 -

موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول
فكُلّ ما ثبت من مسائل العقيدة في الكتاب ، والسنة ، يصدقها العقل الكامل الصحيح الذي يُستخدم بدقةِ وإِمعانٍ ، لأن العقل الصريح في دلالته على المراد ، لا يمكن أن يخالف المنقول الصحيح الثابت ، لأن العقل والنقل وسيلتان لغايةٍ واحدةٍ ، هي الوصولُ إِلى الله ، والوسائل التي تؤدِّي إِلى غايةٍ واحدةٍ لا يمكن لها أن تتعارض .
يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية " المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط ، وقد تأملت ما تنازع فيه الناس ، فوجدت ما خالف النصوص الصريحة شبهات فاسدة يُعلم بالعقل بطلانها ، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع ، وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار ، كمسائل التوحيد والصفات ، ومسائل القدر ، والنبوات ، والمعاد ، وغير ذلك .
ووجدت ما يعلم بصريح العقل لم يخالفه السمع ، الذي يقال إِنه يخالفه : إِما حديثٌ موضوعٌ ، أو دلالةٌ ضعيفةٌ ، فلا يصلح أن يكون دليلًا لو تجرد عن معارضة العقل الصريح ، فكيف إِذا خالفه صريح المعقول !

ونحن نعلم أن الرسل لا يُخبِرون بمحالات العقول ، بل بمحارات العقول ، فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه ، بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته .
16 - عدم جواز تكفير المسلم بذنب فعله إذا كان دون الشرك الأكبر ، وكان هذا الذنب مما اختلف فيه ، ولا بخطأ أخطأ فيه يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية (1) - رحمه الله - وهو بصدد الحديث عن قاعدة أهل السنة والجماعة في أهل الأهواء والبدع " ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ، ولا بخطأ أخطأ فيه ، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة ، فإن الله تعالى قال _________
(1) « مجموعة الفتاوى لابن تيمية » : ( 3 / 282 - 285 ) .

{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [ البقرة : 285 ] ، وقد ثبث في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء ، وغفر للمؤمنين خطأهم (1) والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين ، واتفق على قتالهم أئمةُ الدين من الصحابة والتابعين من بعدهم ، ولم يُكَفِّرهم عليُّ بن أبي طالب ، وسعدُ بن أبي وقاص ، وغيرهما من الصحابة ، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم ، ولم يقاتلهم عليّ حتى سفكوا الدم الحرام ، وأغاروا على أموال المسلمين ، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم ، لا لأنهم كفارٌ ، ولهذا لم يسبِ حريمهم ، ولم يَغْنَمْ أموالهم .
وإِذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإِجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم ، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلِط فيها من هو أعلم منهم !
_________
(1) أخرج مسلم في صحيحه في كتاب الإِيمان ، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إِلا ما يطاق : ( 126 ) ، والترمذي في كتاب تفسير القرآن ، باب « ومن سورة البقرة » : ( 2992 ) عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية : ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) [ البقرة : 284 ] ، قال : دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « قولوا : سمعنا وأطعنا وسلّمنا » قال : فألقى الله الإِيمان في قلوبهم فأنزل الله عز وجل : ( لا يكلف الله نفسًا إِلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إِن نسينا أو أخطأنا ) ، قال : قد فعلت ، ( ربنا ولا تحمل علينا إِصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) ، قال : قد فعلت ، ( واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا ) ، قال : فعلت [ الآية من سورة البقرة : 286 ] . كما أخرجه مسلم من طريق آخر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ( 125 ) .

فلا يحلُّ لإِحدى هذه الطوائف أن تُكفِّرَ الأخرى ولا تستحل دمها ومالها ، وإِن كانت فيها بدعة محققة ، فيكف إِذا كانت المكفرة لها مبتدعةً أيضًا !
وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ . والغالب أنهم جميعًا جُهالٌ بحقائق ما يختلفون فيه .
والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمةٌ من بعضهم على بعض ، لا تَحِلّ إِلا بإِذن الله ورسوله .
قال النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا خطبهم في حجة الوداع « إِن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا » (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم : « كلُّ المسلم على المسلم حرامٌ : دمُهُ ، وماله ، وعِرضُه » (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم : « من صلى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله ، وذمة رسوله فلا تُخفروا الله في ذمته » (3) .
وقال : « إِذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " قيل : يا رسول الله ، هذا القاتل ، فما بالُ المقتول ؟ قال : " إِنه أراد قتل صاحبه » (4) .
وقال : « لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض » (5) .
وقال : « أيما رجل قال لأخيه : يا كافر ، فقد باء بها أحدهما » (6) .
_________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : « رب مبلغ أوعى من سامع » : ( 67 ) ، ومسلم في كتاب القسامة ، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال : ( 1679 ) ، والترمذي في كتاب الفتن ، باب ما جاء دماؤكم وأموالكم . . إِلخ : ( 2159 ) ، وابن ماجه في كتاب المناسك ، باب الخطبة يوم النحر : ( 3055 ، 3057 ، 3058 ) ، وأحمد في مسنده : ( 1 / 230 ) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة ، باب تحريم ظلم المسلم وخذله . . إِلخ : ( 2564 ) ، وأبو داود في كتاب الأدب ، باب في الغيبة : ( 4882 ) ، والترمذي في كتاب البرّ والصلة ، باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم : ( 1927 ) ، وابن ماجه في كتاب الفتن ، باب حرمة دم المؤمن وماله : ( 3933 ) ، وأًحمد في مسنده : ( 2 / 277 ، 360 ) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة ، باب فضل استقبال القبلة . . إِلخ : ( 391 ) ، والنسائي في كتاب الإيمان وشرائعه ، باب صفة المسلم : ( 4997 ) .
(4) تقدم تخريجه في الصفحة ( 59 ) .
(5) تقدم تخريجه في الصفحة ( 58 ) .
(6) تقدم تخريجه في الصفحة ( 59 ) .

هذه الأحاديث كلها في الصحاح .
إِذا كان المسلم متأولا في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك ، كما قال عمر بن الخطاب في حاطب بن أبي بلتعة : « يا رسول الله ، دعني أضرب عُنُقَ هذا المنافق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إِنه قد شهد بدرا ، وما يدريك ، لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم » وهذا في " الصحيحين " (1) .
وفيهما أيضًا من حديث الإِفك : « أن أُسيدَ بن الحُضير قال لسعد بن عبادة : إِنك منافقٌ تُجادلُ عن المنافقين ، واختصم الفريقان ، فأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم » (2) ، فهؤلاء البدريون فيهم مَنْ قال لآخر منهم : إنك منافق ، ولم يكفِّر النبي صلى الله عليه وسلم لا هذا ، ولا هذا ، بل شَهِدَ للجميع بالجنة .
وكذلك ثَبَتَ في " الصحيحين " (3) عن أسامة بن زيد « أنه قتل رجلًا بعدما قال : لا إِله إِلاَ الله ، وعظَم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبره ، وقال : " يا أسامة ، أَقَتَلْتَهُ بعدما قال : لا إِلى إِلا الله ! " وكرر ذلك عليه حتى قال أسامةُ : تمنَّيتُ أني لم أكن أسلمتُ إِلا يومئذ » .
_________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب من شهد بدرًا : ( 3983 ) ، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنه . . . إلخ : ( 2494 ) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب حديث الإفك : ( 4141 ) ، ومسلم في كتاب التوبة ، باب في حديث الإفك . . إلخ : ( 2770 ) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الديات ، باب قول الله تعالى : ( ومن أحياها . . ) : ( 6872 ) ، ومسلم في كتاب الإيمان ، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال : لا إله إلا الله : ( 96 ، 97 ) .

ومع ذلك لم يوجب عًليه قَوَدًا ولا ديةً ولا كفّارة ، لأنه كان متأولًا ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوّذًا .
وهكذا السلفُ قاتل بعضُهم بعضًا من أهل الجمل وصفِّين ونحوهم ، وكلّهم مسلمون مؤمنون ، كما قال تعالى { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [ الحجرات : 9 ] .
فقد بيَّن الله تعالى أنهم مع اقتتالهم وبغي بعضهم على بعض إِخوة مؤمنون ، وأمَرَ بالإِصلاح بينهم بالعدل ، ولهذا كان السلفُ مع الاقتتال يوالي بعضُهم بعضًا موالاةَ الدِّين ، لا يُعادُون كمعاداة الكفَّار ، فيقبلُ بعضُهم شهادة بعضٍ ، ويأخذ بعضهم العلم عن بعض ، ويتوارثون ، ويتناكحون ، ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض ، مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك .

خاتمة
وهكذا أيّها المسلم مررنا - بإِيجاز - على مجمل اعتقاد سلفنا الصالح وأئمتنا المعتبرين ، ورأينا كيف أنهم - في الجملة - متفقون ، وأنهم ينزعون من منزعٍ واحد ، كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، لم يكن بينهم اختلاف في المنهج .
وإِذ كُنَّا نقلنا عن كل منهم مجمل اعتقاده في أصول الدين ، تحت عنوان مجمل عقيدة ذلك الإِمام ، فليس المقصود أن له عقيدة تخالف معتقد الآخرين ، ولكن المقصود ذكر ما أُثر عنه بلفظه في هذه المسائل .
والمقصود - أيضًا - أن نتأَسَّى - وخاصة العلماء والدعاة منا - بهؤلاء الأئمة ، وأن لا نختلف حيث لم يختلفوا ، وأن لا نُقدم على أمر العقيدة أي شيء ، وأن يكون في منهج كل داعية ، وكل جماعة تدعو إِلى الإِسلام الاهتمام بالعقيدة الإِسلامية ، تأصيلًا وتحقيقًا ، وفق ما نزل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما سار عليه أئمة السلف .
فإِذا كان ذلك ، فإِن النتائج ستكون مباركةً في صلاح الأمة الإِسلامية واستقامتها على المنهج الحق .وإن لم يكن ذلك - كما هو المُشاهد في كثير من الدعوات والجماعات في الوقت الحاضر - فإِن الشتات والفرقة وغلبة الهوى ، هي التي ستسود الناس ، وبالتالي لن تكون نهضة إِسلامية ، وستَتَعثر الصحوة الإِسلامية التي تُعلق الآمال عليها ، بفضل الله وتوفيقه في عودة المسلمين إِلى كتاب ربهم ، وسنة نَبيهم صلى الله عليه وسلم ، واعتصامهم بحبل الله ، والتزامهم حكمه ، وتطبيقهم شرعه .
نسأل الله بأسمائه الحسنى ، وصفاته العليا أن يوفقنا لصالح العمل ، ويهدينا للتي هي أقوم ، وأن يُجنبنا كل زَلَل في ديننا ودنيانا ، فهو القادر على ذلك ، وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إِلى يوم الدين