كتاب : أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات
المؤلف : مرعي بن يوسف الكرمي المقدسي

بسم الله الرحمن الرحيم
قال العبد الفقير إلى الله تعالى مرعي بن يوسف الحنبلي المقدسي
الحمد لله المنزه عما يخطر بالبال أو يتوهم في الفكر والخيال المحتجب برداء العز والجلال لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير تحيرت العقول في حقيقة ذاته وتخبطت الأفهام في أسمائه وصفاته واندهشت الأبصار في جلال حضراته ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
والصلاة والسلام على من منحته بغاية تكرمتك وخصصته بمشاهدة رؤيتك وهو مع ذلك يقول سبحانك ما عرفناك حق معرفتك يا من لا مثل له ولا نظير وعلى آله وأصحابه الذين سلكوا طريق الأدب مع الله ورسوله وسلموا فسلموا من مزلة القدم ومذلة التقصير
وبعد فإن العلم بالتفسير أمر مهم والعلم بالتأويل أهم وتصفية القلب من شوائب الأوهام أسنى وأتم ومن السلامة للمرء

في دينه اقتفاء طريقة السلف الذين أمر أن يقتدي بهم من جاء بعدهم من الخلف فمذهب السلف أسلم ودع ما قيل من أن مذهب الخلف أعلم فإنه من زخرف الأقاويل وتحسين الأباطيل فإن أولئك قد شاهدوا الرسول والتنزيل وهم أدرى بما نزل به الأمين جبريل ومع ذلك فلم يكونوا يخوضون في حقيقة الذات ولا في معاني الأسماء والصفات ويؤمنون بمتشابه القرآن وينكرون على من يبحث عن ذلك من فلانة وفلان
وإنكار الإمام مالك على من سأله عن معنى الإستواء أمر مشهور وهو في عدة من الكتب منقول مسطور

هذا وقد أحببت أن أذكر بعض كلام الأئمة الخائضين في معاني الأسماء والصفات الواردة في الأحاديث والآيات وإن كان الأولى ترك ذلك خوف الوقوع في الزلل الذميم لكن لا بأس بذلك مع قصد الإرشاد والتعليم
هذا ولم أقف في هذا الفن على مصنف ولم أظفر فيه بمؤلف وإنما جمعته من كلام الأئمة مفرقا وذممته هنا ملفقا يحتاج إليه الطالب وهو من أجل المطالب وسميته
أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات
فأقول وبالله التوفيق ومنه أرجو الهداية إلى أقوم طريق

مقدمة
أعلم وفقك الله أن التفسير هو بيان معنى اللفظ

الخفي والتأويل هو أن يراد باللفظ ما يخالف ظاهره أو هو صرف اللفظ عن ظاهره لمعنى آخر وهو في القرآن كثير ومن ذلك آيات الصفات المقدسة وهي من الآيات المتشابهات
وقد اختلفوا فقيل القرآن كله محكم لقوله تعالى كتاب أحكمت آياته هود 1
وقيل كله متشابه لقوله تعالى نزل أحسن الحديث كتابا متشابها الزمر 23
والأصح إنقسامه إليهما والمراد بأحكمت آياته أتقنت

وتنزهت عن نقص يلحقها رب متشابها أنه يشبه بعضه بعضا في الحق والصدق والإعجاز
واختلفوا في المحكم والمتشابه
فقيل المحكم ما وضح معناه والمتشابه نقيضه
وقيل المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا والمتشابه ما احتمل أوجها
وقيل المحكم ما تأويله تنزيله والمتشابه ما لا يدرى إلا بالتأويل
وقيل المحكم ما لم تتكرر ألفاظه والمتشابه القصص والأمثال
وقيل المحكم ما يعرفه الراسخون في العلم والمتشابه ما ينفرد الله بعلمه
وقيل المتشابه الحروف المقطعة في أوائل السور وما سوى ذلك محكم وقيل غير ذلك
وقال جماعة من الأصوليين المحكم ما عرف المراد منه قيل ولو بالتأويل والمتشابه ما استأثر الله بعلمه كالحروف المقطعة وهو معنى قول بعضهم إن المحكم هو المكشوف المعنى الذي لا يتطرق إليه إشكال واحتمال والمتشابه ما يتعارض

فيه الإحتمال ويجوز أن يعبر به عن الأسماء المشتركة كالقرء وكاللمس المتردد بين المس والوطء وقد يطلق على ماورود في صفات الله تعالى مما يوهم ظاهره الجهة والتشبيه ويحتاج إلى تأويله
قيل والحكمة في المتشابه الإبتلاء بإعتقاده فإن العقل مبتلى بإعتقاد حقيقة المتشابه كإبتلاء البدن بأداء العبادة
وقيل هو لإظهار عجز العباد كالحكيم إذا صنف كتاب أجمل فيه أحيانا ليكون موضع خضوع المتعلم لأستاذه وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يطلعه على سره ولأنه لو لم يبتل العقل الذي هو أشرف ما في الإنسان لاستمر في أبهة العلم على التمرد فبذلك يستأنس إلى التذلل بعز العبودية والمتشابه هو موضع خضوع العقول لبارئها استسلاما واعترافا بقصورها
وقال الفخر من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات وقال إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة

بهذا القرآن إلى قيام الساعة ثم إنه يتمسك به كل ذي مذهب على مذهبه فالجبري يتمسك بآيات الجبر كقوله وجعلنا على قلوبهم أكنة الآية الأنعام 25 الإسراء 46
والقدري يقول هذا مذهب الكفار لقوله وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر فصلت 5 وقوله وقالوا قلوبنا غلف البقرة 88
ومنكر الرؤية يتمسك بقوله لا تدركه الأبصار الأنعام 102
ومثبت الجهة بآيات الجهة وغير ذلك ويسمي كل واحد الآيات الموافقة لمذهبه محكمة والمخالفة له متشابهة فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجع في الدين هكذا
قال والجواب أن العلماء ذكروا لذلك فوائد كمزيد المشقة لزيادة الثواب وليجتهد في التأمل فيه صاحب كل مذهب يعني فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ في الفروع فله أجر وفي الأصول خلاف إلى غير ذلك من الفوائد
واختلفوا هل المتشابه مما يعلم على قولين منشؤهما الوقف على الله أو العلم في قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم آل عمران 7

قال الإمام الخطابي مذهب أكثر العلماء أن الوقف التام في هذه الآية على الله وأن ما بعده وهو قوله والراسخون في العلم استئناف روي ذلك عن ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وعائشة
ومال إلى هذا الحافظ السيوطي في الإتقان وحكاه عن الأكثرين من الصحابة والتابعين وأتباعهم ومن بعدهم خصوصا أهل السنة قال وهو أصح الروايات عن ابن عباس
قال ويدل لصحة مذهب الأكثرين ما أخرجه عبدالرزاق في تفسيره والحاكم في مستدركه عن ابن عباس أنه كان يقرأ وما يعلم تأوليه إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به فهذا يدل على أن الواو للإستئناف لأن هذه الرواية وإن لم تثبت بها القراءة فأقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن فيقدم كلامه في ذلك على من دونه
وعن الفراء أن في قراءة أبي بن كعب أيضا ويقول

الراسخون
وعن الأعمش قال في قراءة ابن مسعود وإن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به
وذهب قوم إلى أن الواو في قوله والراسخون للعطف لا للإستئناف منهم مجاهد والضحاك والربيع بن أنس ومحمد بن جعفر ويروى أيضا عن ابن عباس
قال ابن عباس أنا ممن يعلم تأويله
ورجح هذا جماعات من المحققين كابن فورك والغزالي والقاضي أبي بكر بن الطيب وقال النووي إنه الأصح وابن الحاجب إنه المختار محتجين أن الله تعالى لا يخاطب العرب بما لا سبيل إلى معرفته لأحد من الخلق وأيضا فالإيمان به واجب على عموم المؤمنين فلا يبقى لوصفهم بالرسوخ في العلم وأنهم أولوا الألباب فائدة تميزهم عن عموم المؤمنين
وقال أهل التحقيق والتحقيق أن المتشابه يتنوع
فمنه ما لا يعلم بيقين ألبتة كالحروف المقطعة في أوائل السور والروح والساعة مما استأثر الله بغيبه وهذا لا يتعاطى علمه أحد لا ابن عباس ولا غيره
ومن قال من العلماء الحذاق إن الراسخين لا يعلمون

المتشابه فإنما أراد هذا النوع
وأما ما يمكن حمله في وجوه اللغة فيتأول ويعلم تأويله المستقيم ويزال ما فيه من تأويل غير مستقيم
وقال الخطابي المتشابه على ضربين
أحدهما ما إذا رد إلى المحكم واعتبر به عرف معناه
والآخر ما لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته وهو الذي يتبعه أهل الزيغ فيطلبون تأويله ولا يبلغون كنهه فيرتابون فيه فيفتنون
وقال الإمام الراغب جميع المتشابه على ثلاثة أضرب
ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه كوقت الساعة وخروج الدابة ونحو ذلك
وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ العربية والأحكام الغلقة
وضرب متردد بين الأمرين يختص بمعرفته بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه و سلم لابن عباس اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل

قال وإذا عرفت هذا عرفت أن الوقوف على قوله وما يعلم تأويله إلا الله ووصله بقوله والراسخون في العلم جائزان وأن لكل واحد منهما وجها حسبما دل عليه التفصيل المتقدم
وقال أيضا والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف القيامة فإن تلك الصفات لا تتصور لنا إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه أو ليس من جنسه انتهى
وهو كلام في غاية الحسن والتحقيق
واختلفوا هل يجوز الخوض في المتشابه على قولين
مذهب السلف وإليه ذهب الحنابلة وكثير من المحققين عدم الخوض خصوصا في مسائل الأسماء والصفات فإنه ظن والظن يخطئ ويصيب فيكون من باب القول على الله بلا علم وهو محظور ويمتنعون من التعيين خشية الإلحاد في الأسماء والصفات ولهذا قالوا والسؤال عنه بدعة فإنه لم يعهد من الصحابة التصرف في أسمائه تعالى وصفاته بالظنون وحيث عملوا بالظنون فإنما عملوا بها في تفاصيل الأحكام الشرعية لا في المعتقدات الإيمانية
وروى الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية هو الذي أنزل عليك

الكتاب إلى قوله أولوا الألباب آل عمران 7 قالت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم
وروى الطبراني في الكبير عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لاأخاف على أمتي إلا ثلاث خلال أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله وما يعلم تأويله إلا الله الحديث
وفي حديث ابن مردويه إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به

وروى الحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف زجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا آمنا به كل من عند ربنا وروى البيهقي في الشعب نحوه من حديث أبي هريرة
وروى ابن جرير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال أنزل القرآن على أربعة أحرف حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته وتفسير تفسره العرب وتفسير تفسره العلماء ومتشابه لا يعلمه إلا الله ومن ادعى علمه سوى الله فهو كاذب ثم رواه من وجه آخر عن ابن عباس موقوفا بنحوه
وروى ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي

الله عنه قال نؤمن بالمحكم وندين به ونؤمن بالمتشابه ولا ندين به وهو من عند الله كله
وروى أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسوخهم في العلم أن آمنوا بمتشابهه ولا يعلمونه
وروى الدارمي في مسنده عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل فقال من أنت قال عبدالله بن صبيغ فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه حتى أدمى رأسه
وفي رواية فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دبرة ثم تركه حتى برأ ثم أعاد عليه الضرب ثم تركه حتى برأ فدعا به ليعيده عليه فقال إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا أو ردني إلى أرضي فأذن له إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين

وفي كتاب الفروع لابن مفلح الحنبلي وعمر بن الخطاب أمر بهجر صبيغ بسؤاله عن الذاريات والمرسلات والنازعات انتهى
وهذا منه رضي الله عنه لسد باب الذريعة
والآية الشريفة قد دلت على ذم متبعي المتشابه ووصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة وعلى تمدح الذين فوضوا العلم إلى الله وسلموا إليه كما مدح الله المؤمنين بالغيب
وقال الإمام فخر الدين صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل وهو إما لفظي أو عقلي فالأول لا يمكن إعتباره في المسائل الأصولية لأنه لا يكون قاطعا لأنه موقوف على انتفاء الإحتمالات العشرة المعروفة وانتفاؤها مظنون والوقوف على المظنون مظنون والظني لا يكتفى به في الأصول
وأما العقلي فإنما يفيد صرف اللفظ عن ظاهره لكون الظاهر محالا
وأما إثبات المعنى المراد فلا يمكن بالعقل لأن طريق ذلك ترجيح مجاز على مجاز وتأويل على تأويل وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدليل اللفظي والدليل اللفظي في الترجيح ضعيف لا يفيد إلا الظن والظن لا يعول عليه في المسائل الأصولية

القطعية فلهذا اختار الأئمة المحققون من السلف والخلف بعد إقامة الدليل القاطع على أن حمل اللفظ على ظاهره محال ترك الخوض في تعيين التأويل انتهى
وتوسط ابن دقيق العيد فقبل التأويل إن قرب في لسان العرب نحو على ما فرطت في جنب الله الزمر 56 أي في حقه وما يجب له لا إن بعد أي كتأويل استوى باستولى
إذا تقرر هذا فاعلم أن من المتشابهات آيات الصفات التي التأويل فيها بعيد فلا تؤول ولا تفسر
وجمهور أهل السنة منهم السلف وأهل الحديث على الإيمان بها وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها
فقد روى الإمام اللالكائي الحافظ عن محمد بن الحسن قال اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه
وقد روى اللاكائي أيضا في السنة من طريق قرة بن

خالد عن الحسن عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها في قوله تعالى الرحمن على العرش استوى طه 5 الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعه والبحث عنه كفر
وهذا له حكم الحديث المرفوع لأن مثله لا يقال من قبيل الرأي
وقال الإمام الترمذي في الكلام على حديث الرؤية المذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري وابن المبارك ومالك وابن عيينة ووكيع وغيرهم أنهم قالوا نروي هذه الأحاديث كما جاءت ونؤمن بها ولا يقال كيف ولا نفسر ولا نتوهم
وذكرت في كتابي البرهان في تفسير القرآن عند قوله تعالى هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام البقرة 210 وبعد أن ذكرت مذاهب المتأولين أن مذهب السلف هو عدم الخوض في مثل هذا والسكوت عنه وتفويض علمه إلى الله تعالى

قال ابن عباس هذا من المكتوم الذي لا يفسر فالأولى في هذه الآية وما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها ويكل علمها إلى الله تعالى وعلى ذلك مضت أئمة السلف
وكان الزهري ومالك والأوزاعي وسفيان الثوري والليث بن سعد وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق يقولون في هذه الآية وأمثالها أمروها كما جاءت
وقال سفيان بن عيينة وناهيك به كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته والسكوت عنه ليس لأحد أن يفسره إلا الله ورسوله
وسئل الإمام ابن خزيمة عن الكلام في الأسماء والصفات فقال ولم يكن أئمة المسلمين وأرباب المذاهب أئمة الدين مثل مالك وسفيان والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق ويحيى بن يحيى وابن المبارك وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن وأبي يوسف يتكلمون في ذلك وينهون أصحابهم عن الخوض فيه ويدلونهم على الكتاب والسنة
وسمع الإمام أحمد شخصا يروي حديث النزول ويقول

ينزل بغير حركة ولا انتقال ولا تغير حال فأنكر أحمد ذلك وقال قل كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو كان أغير على ربه منك
وقال الأوزاعي لما سئل عن حديث النزول يفعل الله ما يشاء
وقال الفضيل بن عياض إذا قال لك الجهمي أنا أكفر برب يزول عن مكانه فقل أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء
واعلم أن المشهور عند أصحاب الإمام أحمد أنهم لا يتأولون الصفات التي من جنس الحركة كالمجيء والإتيان في الظلل والنزول كما لا يتأولون غيرها متابعة للسلف
وفي كتاب الفقه الأكبر في العقائد تصنيف الإمام أبي حنيفة وهو سبحانه شيء لا كالأشياء بلا جسم ولا جوهر ولا عرض ولا حد له ولا ضد له ولا ند ولا مثل وله يد ووجه ونفس فما ذكر الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف ولا يقال إن يده قدرته أو نعمته لأن فيه إبطال الصفة وهو قول أهل القدر والإعتزال ولكن يده صفته بلا كيف وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف والقضاء والقدر والمشيئة صفاته في الأزل بلا كيف انتهى

قال العلامة ابن الهمام إن الإصبع واليد صفة له تعالى لا بمعنى الجارحة بل على وجه يليق به وهو سبحانه أعلم وسيأتي تتمة كلامه
ومن العجب أن أئمتنا الحنابلة يقولون بمذهب السلف ويصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ومع ذلك فتجد من لا يحتاط في دينه ينسبهم للتجسيم ومذهبهم أن المجسم كافر بخلاف مذهب الشافعية فإن المجسم عندهم لا يكفر فقوم يكفرون المجسمة فكيف يقولون بالتجسيم وإنما نسبوا لذلك مع أن مذهبهم هو مذهب السلف والمحققين من الخلف لما أنهم بالغوا في الرد على المتأولين للإستواء واليد والوجه ونحو ذلك كما يأتي وهم وإن أثبتوا ذلك متابعة للسلف لكنهم يقولون كما هو في كتب عقائدهم إنه تعالى ذات لا تشبه الذوات مستحقة للصفات المناسبة لها في جميع ما يستحقه
قالوا فإذا ورد القرآن وصحيح السنة في حقه بوصف تلقي في التسمية بالقبول ووجب إثباته له على ما يستحقه ولا يعدل به عن حقيقة الوصف إذ ذاته تعالى قابلة للصفات اللائقة بها
قالوا فنصف الله تعالى بما وصف به نفسه ولا نزيد عليه

فإن ظاهر الأمر في صفاته سبحانه أن تكون ملحقة بذاته فإذا امتنعت ذاته المقدسة من تحصيل معنى يشهد الشاهد فيه معنى يؤدي إلى كيفية فكذلك القول فيما أضافه إلى نفسه من صفاته
هذا كلام أئمة الحنابلة ولا خصوصية لهم في ذلك بل هذا مذهب جميع السلف والمحققين من الخلف
قال الحافظ السيوطي في كتابه الإتقان من المتشابه آيات الصفات ولابن اللبان فيها تصنيف مفرد نحو الرحمن على العرش استوى طه 5 كل شيء هالك إلا وجهه القصص 88 ويبقى وجه ربك الرحمن 27 ولتصنع على عيني طه 39 يد الله فوق أيديهم الفتح 10 لما خلقت بيدي ص 75 والسموات مطويات بيمينه الزمر 67
وجمهور أهل السنة منهم السلف وأهل الحديث على الإيمان بها وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها
قال وذهبت طائفة من أهل السنة إلى أنا نؤولها على ما يليق بجلاله تعالى وهذا مذهب الخلف
قال وكان إمام الحرمين يذهب إليه ثم رجع عنه فقال

في الرسالة النظامية الذي نرتضيه رأيا وندين الله تعالى به عقدا هو اتباع سلف الأمة فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها فلو كان تأويل هذه الظواهر سائغا لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة فإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزيه الباري عن صفات المحدثين ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب
وقال الإمام ابن الصلاح وعلى هذه الطريقة مضى صدر الأمة وساداتها وإياها اختار أئمة الفقهاء وقاداتها وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها انتهى
قلت وهذا القول هو الحق وأسلم الطرق فإنك تجد كل فريق من المتأولين يخطئ الأخر ويرد كلامه ويقيم البرهان على صحة قوله ويعتقد أنه هو المصيب وأن غيره هو المخطئ ومن طالع كلام طوائف المتكلمين والمتصوفين علم ذلك علم اليقين ... الناس شتى وآراء مفرقة ... كل يرى الحق فيما قال واعتقدا

قال أصحابنا أسلم الطرق التسليم فما سلم دين من لم يسلم لله ورسوله ويرد علم ما اشتبه إلى عالمه ومن أراد علم ما يمتنع علمه ولم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه عن خالص التوحيد وصافي المعرفة والإيمان والتعمق في الفكر ذريعة الخذلان وسلم الحرمان والإسراف في الجدال يوجب عداوة الرجال إذا علمت هذا فهذا أوان الشروع في المراد بعون الله تعالى
اعلم أيدني الله وإياك بروح منه أن من المتشابه صفات الله تعالى فإنه يتعذر الوقوف على تحقيق معانيها والإحاطة بها بل على تحقيق الروح والعقل القائمين بالإنسان وأهل الإسلام قد اتفقوا على إثبات ما أثبته الله لنفسه من أوصافه التي نطق بها القرآن من نحو سميع وبصير وعليم وقدير ونافي ذلك كافر لأنه مكذب لصريح القرآن
واختلفوا في المشتقات منها فقالت المعتزلة ومن وافقهم إنه تعالى عليم بذاته بصير بذاته سميع بذاته لا بعلم وسمع وبصر وهكذا بقية الصفات قد ثبتوا المشتق بدون المشتق منه فرارا من تعدد القدماء مع الله تعالى محتجين بما يطول تقريره قائلين لا يخبر عنه تعالى بما يخبر به عن شيء من خلقه إلا أن يأتي نص بشيء من ذلك فيوقف عنده وما لا فلا ولأن هذه الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا بجوهر متحيز وكل متحيز فجسم مركب أو جوهر فرد ومن قال ذلك فهو مشبه لأن الأجسام متماثلة

قالوا وأما كونه لا يعقل عليم إلا بعلم وسميع إلا بسمع وبصير إلا ببصر كضارب لا يعقل إلا بضرب وقائم بقيام فهذا في الشاهد وأما في الغائب فلا فقد صح النص بأن له تعالى عينا وأعينا فيلزمكم أن تقولوا إنه تعالى ذو حدقة وناظر لأنه لا يوجد في الشاهد إلا مثل ذلك ولا يكون ألبتة سميع في العالم إلا بأذن ذات صماخ
وقالوا أيضا التعليل بالإشتقاق في مثل ذلك ليس بحجة فقد علمنا يقينا أنه تعالى بنى السماء كما قال والسماء بنيناها الذاريات 47 ولا يجوز أن يسمى سبحانه بناء ونحو ذلك
وأجيب بأنه قد صرحت النصوص من الكتاب والسنة بإثبات الصفات كقوله تعالى أنزله بعلمه النساء 166 وقوله وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه فاطر 11 وقوله إن الله هو الرزاق ذو القوة الذاريات 58 فأثبت لنفسه القوة وهي القدرة باتفاق المفسرين
وفي الحديث اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك

وأيضا قيل إنه يلزمهم أن تكون الذات علما وقدرة وحياة لثبوت خصائص هذه الصفات لها فإنه قد تحقق في المعقول أن ما يعلم به المعلوم علم وأيضا فهذه الصفات لا تقوم بنفسها والذات قائمة بنفسها وهو جمع بين النقيضين
وأجابوا بأن المراد أنزله وهو يعلمه أو أنزله بإذنه وأمره لأن ما تعدى من الأفعال بحرف الباء فإن الداخلة عليه يكون آلة كضربت زيدا بالسوط وأخذت المنديل بيدي وكون العلم هو الذي نزل به لا يتصور إذ علمه تعالى لا ينفصل عن ذاته
والمناقشة في مثل هذا تطول وتخرج عن المقصود والمقصود إنما هو الإشارة إلى أن كل واحد يدعي أن الحق بيده ويقيم الدليل عليه كما تقدم فنسكت نحن عن الخوض في ذلك ولا نبحث في تحقيقه فإنه بدعة ونفوض علمه إلى الله تعالى ولا نكفر أحدا من أهل الفرق بما ذهب إليه واعتقده خصوصا مع قيام الشبهة والدليل عنده فإن الإيمان المعتبر في الشرع هو تصديق القلب الجازم بما علم ضرورة مجيء الرسول به من عند الله تفصيلا فيما علم تفصيلا كالتوحيد والنبوة وإجمالا فيما علم إجمالا كالأنبياء السالفة والصفات القديمة التي نطق بها القرآن
وهذا هو الحق فلا نكفر بقية الفرق خلافا لمن زعم من المتكلمين أن الإيمان هو العلم بالله وصفاته على سبيل الكمال والتمام فبهذا لا جرم اقدم كل طائفة على تكفير من عداه من الطوائف لكن لا بأس بالقول بتكفير بعض الغلاة من أهل البدع فإن من الجهمية من غلا حتى رمى بعض الأنبياء

بالتشبيه فقال ثلاثة من الأنبياء مشبهة موسى حيث قال إن هي إلا فتنتك وعيسى حيث قال تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ومحمد حيث قال ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا
ومن المتشابه صفة الرحمة والغضب والرضا والحياء والإستهزاء والمكر والعجب في قوله تعالى الرحمن الرحيم الفاتحة 1 3 النمل 30 غضب الله عليهم المجادلة 14 الممتحنة 13 رضي الله عنهم المائدة 119 والله لا يستحيي من الحق الأحزاب 53 الله يستهزئ بهم البقرة 15 ومكروا ومكر الله آل عمران 54 بل عجبت بضم التاء ويسخرون الصافات 12

فمذهب السلف في هذا ونحوه أنهم يقولون صفات الله تعالى لا يطلع لها على ماهية وإنما تمر كما جاءت
قال شيخ الإسلام ابن تيمية مذهب سلف الأمة وأئمتها أن يصفو الله بما وصف الله به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ولا يجوز نفي صفات الله التي وصف بها نفسه ولا تمثيلها بصفات المخلوقين
ومذهب الخلف قالوا الرحمة لغة رقة القلب وانعطافه وذلك من الكيفيات التابعة للمزاج والله منزه عنها فالمراد بها في حقه تعالى إرادة الخير والإحسان إلى من يرحمه فإن أسماء الله تعالى تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادئ التي هي انفعالات
والغضب هيجان النفس لإرادة الإنتقام أو غليان دم القلب وعند إسناده إليه تعالى يراد به غايته فإن كان إرادة الإنتقام من العاصي فإنه من صفات الذات وإن كان إحلال العقوبة كان من صفات الفعل
والحياء هو انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم واشتقاقه من الحياة فإنه انكسار يعتري القوة الحيوانية فيردها عن أفعالها وإذا وصف به البارئ تعالى كما في قوله والله لا يستحيي من الحق الأحزاب 53 وكما في حديث إن ربكم حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد يديه إليه فيردهما صفرا حتى

يضع فيهما خيرا فالمراد به الترك اللازم للإنقباض العرضي كما أن المراد من رحمته وغضبه إصابة الخير والإنتقام
والإستهزاء من باب العبث والسخرية والله تعالى منزه عن ذلك فمعنى يستهزئ بهم البقرة 15 أي يجازيهم على استهزائهم وهو من باب المشاكلة في اللفظ ليزدوج الكلام ك جزاء سيئة مثلها الشورى 40 نسوا الله فنسيهم التوبة 67 أو المعنى يعاملهم معاملة المستهزئ أما في الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين علهيم وإستدراجهم بالإمهال وأما في الآخرة فيروى أنه يفتح لأحدهم باب إلى الجنة فيسرع نحوه فإذا صار إليه سد دونه ثم يفتح له باب آخر فإذا أقبل إليه سد دونه
والمكر في الأصل حيلة يتوصل بها إلى مضرة الغير والله منزه عن ذلك فلا يمكن إسناده إليه سبحانه إلا بطريق المشاكلة
والضحك هو رضاه تعالى بفعل عبده ومحبته إياه وإظهار

نعمته عليه وقال بعضهم الضحك استعارة في حق الرب سبحانه لأنه لا يجوز عليه تغير الحالات
والتعجب انفعال يحدث في النفس عند الشعور بأمر خفي سببه وخرج عن نظائره ولهذا يقال إذا ظهر السبب بطل العجب فلا يطلق على الله أنه متعجب لأنه لا يخفى عليه شيء ولهذا قال شريح لما قرئ عنده بل عجبت بضم التاء إن الله لا يعجب من شيء إنما يعجب من لا يعلم قال الأعمش فذكرت ذلك لإبراهيم فقال إن شريحا كان يعجبه رأيه إن عبدالله يعني ابن مسعود كان أعلم من شريح وكان يقرؤها عبدالله بل عجبت يعني بضم التاء وكذلك قرأ الكوفيون إلا عاصما قالوا فالعجب من الله تعالى إما على الفرض والتخييل أو هو مصروف للمخاطب بمعنى أنه يجب أن يتعجب منه أو هو على معنى الإستعظام اللازم له فإنه روعة تعتري الإنسان عند استعظامه الشيء
وقيل إنه مقدر بالقول أي قل يا محمد بل عجبت وحينئذ فمعنى القراءتين واحد
وقال المهدوي يجوز أن يكون إخبار الله عن نفسه بالعجب محمولا على أنه ظهر من أمره وسخطه على من كفر به ما يقوم مقام العجب من المخلوقين كما يخبر عنه تعالى بالضحك عمن رضي عنه بمعنى أنه أظهر له من رضاه عنه ما يقوم مقام الضحك من

المخلوقين مجازا واتساعا وقد يكون العجب بمعنى وقوع ذلك العمل عند الله ظيما فقوله بل عجبت أي بل عظم فعلهم عندي
قال البيهقي ويشبه أن يكون هذا معنى حديث عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول عجب ربك من شاب ليست له صبوة
قال الحسن بن الفضل التعجب من الله إنكار الشيء وتعظيمه وهو لغة العرب وقد جاء في الخبر عجب ربكم
وقال الهروي ويقال معنى عجب ربكم أي رضي وأثاب فسماه عجبا وليس بعجب في الحقيقة كقوله ويمكرون ويمكر الله الأنفال 30 أي يجازيهم على مكرهم
وسئل الجنيد عن قوله تعالى وإن تعجب فعجب قولهم الرعد 5 فقال إن الله لا يعجب من شيء
وقال الإمام فخر الدين جميع الأعراض النفسانية أعني الرحمة والفرح والسرور والغضب والحياء والمكر والإستهزاء ونحو ذلك لها أوائل ولها غايات مثاله الغضب فإن أوله غليان دم

القلب وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب بل على غايته أو غرضه الذي هو إرادة الإضرار وكذلك الحياء له أول وهو إنكسار يحصل في النفس وله غرض وهو ترك الفعل فلفظ الحياء في حقه تعالى يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس انتهى
قلت وعلى هذا الضابط فكذلك يقال في الرضا والكرم والحلم والشكر والمحبة ونحو ذلك فإن الظاهر أن هذه كلها في حقنا كيفيات نفسانية قيل والحق أن الكيفيات النفسانية تحتاج إلى تعريف لكونها وجدانيات
وفي تفسير القرطبي في قوله تعالى وإن تشكروا يرضه لكم الزمر 7 ويرضى بمعنى يثيب ويثنى فالرضا على هذا إما ثوابه فيكون صفة فعل كقوله لئن شكرتم لأزيدنكم إبراهيم 7 وإما ثناؤه فهو صفة ذات انتهى
قلت ومن هذا يعلم جواب سؤال كنت أوردته في مؤلف لطيف سميته الأسئلة عن مسائل مشكلة قلت فيه ومنها أن أهل السنة جعلوا الصفات القديمة لله سبحانه ثمانية وهي العلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر والكلام والبقاء وبعضهم يقول والتكوين محتجين في ذلك بالإشتقاق وأنه لا يعقل مفهوم عليم إلا بعلم وسميع إلا بسمع وهكذا

وحينئذ فيقال موجه الإقتصار على هذه الصفات الثمان مع أنه تعالى عزيز فمن أوصافه العزة وعظيم فيمن أوصافه العظمة وحليم فمن أوصافه الحلم فهل يصح أن يقال مثلا حليم بحلم كما يقال عليم بعلم وهكذا في البقية
ولعل الجواب على طريقة الخلف أن هذه الأوصاف كلها كيفيات وإنفعالات تحدث في النفس والله منزه عنها فتؤخذ كلها بإعتبار الغايات بخلاف العلم والقدرة والسمع والبصر ونحوهما فإنها من الأوصاف الذاتية لا من الكيفيات النفسانية
وللسلف أن يقولوا إن هذه الأوصاف على ظاهرها وهذا التعليل لا يستلزم أن يكون كذلك في حقه تعالى كما أن العلم والقدرة والسمع والبصر تستلزم من النقص في حقنا ما يجب تنزيه الله تعالى عنه من جهة أنها أعراض ونحوه فمذهب السلف أسلم لا سيما وقد نقل البخاري وغيره عن الفضيل بن عياض قدس الله روحه أنه قال ليس لنا أن نتوهم في الله كيف هو لأن الله عز و جل وصف نفسه فأبلغ فقال قل هو الله أحد السورة فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه فهذا النزول والضحك وهذه المباهاة وهذا الإطلاع كما شاء الله أن ينزل وكما شاء أن يباهي وكما شاء أن يضحك وكما شاء أن يطلع فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف فإذا قال الجهمي أنا أكفر برب يزول عن مكانه فقل أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء أنتهى
وقال بعض من انتصر لمذهب السلف ردا على الخلف

جميع ما يلزمون به في الإستواء والنزول واليد والوجه والقدم والضحك والتعجب من التشبيه
فلزمهم به في الحياة والسمع والبصر والعلم فكما لا يجعلونها أعراضا كذلك نحن لا نجعلها جوارح ولا ما يوصف به المخلوق ويأتي كلامه كله
ومن المتشابه المحبة في وصفه تعالى بها في قوله يحبهم ويحبونه المائدة 54 وقوله وألقيت عليك محبة مني طه 39 لأن المحبة ميل القلب إلى ما يلائم الطبع والله منزه عن ذلك وحينئذ فمحبة الله تعالى للعبد هي إرادة اللطف به والإحسان إليه ومحبة العبد لله هي محبة طاعته في أوامره ونواهيه والإعتناء بتحصيل مراضيه فمعنى يحب الله أي يحب طاعته وخدمته أو يحب ثوابه وإحسانه وهذا مذهب جمهور المتكلمين
قال العلامة الطوفي ذهب طوائف من المتكلمين والفقهاء إلى أن الله تعالى لا يحب وإنما محبته محبة طاعته وعبادته وقالوا هو أيضا لا يحب عباده المؤمنين وإنما محبته إرادته الإحسان إليهم قال والذي دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها وجميع مشايخ الطريق أن الله تعالى يحب ويحب لذاته وأما حب ثوابه فدرجة نازلة
قال وأول من أنكر المحبة في الإسلام الجعد بن درهم أستاذ الجهم بن صفوان فضحى به خالد بن عبدالله القسري وقال أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد

ابن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما ثم نزل فذبحه برضا علماء الإسلام
قال وهؤلاء الذي ينكرون حقيقة محبة الرب ينكرون التلذذ بالنظر إليه ولهذا ظن كثير من المتفقهة والمتصوفة والمتكلمة أن الجنة ليست إلا التنعم بالمخلوق من أكل وشرب ولباس ونكاح وسماع أصوات طيبة وشم روائح طيبة لا نعيم غير ذلك ثم من هؤلاء من أنكر أن يكون المؤمنون يرون ربهم كالجهمية والمعتزلة ومنهم من أقر بالرؤية إما بالتي أخبر النبي صلى الله عليه و سلم بها كأهل السنة والجماعة وإما برؤية هي زيادة كشف أو علم أو بحاسة سادسة ونحو ذلك من الأقوال
والمقصود هنا أن طوائف ممن أثبت الرؤية أنكروا أن يكون المؤمنون يتنعمون بنفس رؤيتهم ربهم قالوا لأنه لا مناسبة بين المحدث والقديم كما ذكر ذلك الأستاذ أبو المعالي والإمام ابن عقيل حتى نقل عنه أنه سمع قائلا يقول أسألك لذة النظر إلى وجهك فقال يا هذا هب أن له وجها أله وجه يتلذذ بالنظر إليه وذكر أبو المعالي أن الله يخلق لهم نعيما ببعض المخلوقات مقارنا للرؤية فأما التنعم بنفس الرؤية فأنكره وجعل

هذا من أسرار التوحيد
قال الطوفي وأكثر مثبتي الرؤية يقرون بتنعم المؤمنين برؤية ربهم وكلما كان الشيء أحب كانت اللذة بنيله أعظم قال وهذا متفق عليه بين السلف والأئمة ومشايخ الطريق
ويدل لذلك حديث النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه و سلم وفيه وأسألك لذة النظر إلى وجهك وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة
وفي صحيح مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب من النظر إليه
وقال ابن تيمية إن المؤمنين ينظرون إلى خالقهم في الجنة ويتلذذون بذلك لذة تنغمر في جانبها جميع اللذات
وأما العشق فالله سبحانه لا يعشق ولا يعشق قال الشيخ عز

الدين بن عبدالسلام لأن العشق فساد يخيل أن أوصاف المعشوق فوق ما هي عليه ولا يتصور ذلك هنا
ومن المتشابه العندية في قوله تعالى بل أحياء عند ربهم آل عمران 169 وقوله للذين اتقوا عند ربهم آل عمران 15 وقوله إن الذين عند ربك الأعراف 206
قال أهل التأويل إن المراد بقوله بل أحياء عند ربهم هو مزيد التقرب والزلفى والتكرمة فهي عندية كرامة لا عندية قرب ومسافة كما يقال فلان عند الأمير في غاية الكرامة
وقوله إن الذين عند ربك يعنى الملائكة بالإجماع
قال القرطبي وقال عند ربك والله سبحانه بكل مكان لأنهم قريبون من رحمته وكل قريب من رحمته فهو عنده هذا عن الزجاج وقال غيره لأنهم في موضع لا ينفذ فيه إلا حكم الله وقيل لأنهم رسل الله وجنده كما يقال عند الخليفة جيش كثير وقيل هذا على جهة التشريف لهم وأنهم بالمكان المكرم فهو عبارة عن قربهم في الكرامة
وفي تفسير البيضاوي في قوله تعالى وله من في

السموات ومن في الأرض ومن عنده الأنبياء 19 يعني الملائكة المنزلين منه لكرامتهم عليه منزلة المقربين عند الملوك وهو معطوف على من في السموات وإفراده للتعظيم والمراد به نوع من الملائكة متعال عن السماء والأرض
وقال ابن اللبان وقد جاء الكتاب العزيز بالتنبيه على أن حضرة عنديته وراء دوائر السماوات والأرض لأن العطف يقتضي المغايرة فدل على أن حضرة عنديته وراء دوائر السماوات والأرض محيطة بها كإحاطة ربنا بذلك كله مباينة لها كمباينته لا إله إلا هو
ومن المتشابه الجهة والمعية في قوله تعالى وهو القاهر فوق عباده الأنعام 61 أأمنتم من في السماء الملك 16 تعرج الملائكة والروح إليه المعارج 4 وقوله تعالى وهو معكم أينما كنتم الحديد 4 وقوله إلا هو معهم المجادلة 7 وغير ذلك من الآيات والأحاديث
وأعلم أن أهل التأويل افترقوا هنا ثلاثة فرق
فقال قوم بالجهة وإنه تعالى فوق العرش على الوجه الذي يستحقه
وقال قوم بالمعية الذاتية وإنه تعالى مع كل أحد بذاته
وقال قوم إنه تعالى لا داخل العالم ولا خارج العالم

وقد بالغ كل فريق في تضليل الفريق الآخر وفي الرد عليه وفي زعمه أنه هو الذي على الحق وأن خصمه لا على شيء وأنه هو العارف بالحق دون خصمه
ولقد تدبرت بعين البصيرة فرأيت كل فريق منهم لا يعرف مذهب الفريق الآخر على سبيل التفصيل بل من حيث الإجمال وهذا هو الموجب للتضليل ومع ذلك فرأيت أهل هذه الفرق الذين ارتكبوا غير طريقة السلف إنما هم كما قيل ... وكل يدعون وصال ليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاكا ...
وها أنا أذكر لك شبهة كل فريق منهم على سبيل التلخيص ولا أرضى بواحدة منها بل بطريقة السلف
فاحتج القائل بالجهة بقوله تعالى وهو القاهر فوق

3 - عباده الأنعام 18 61 تعرج الملائكة والروح إليه المعارج 4 إليه يصعد الكلم الطيب فاطر 10 يخافون ربهم من فوقهم النحل 50 أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض تبارك 16 وفي هنا بمعنى على كما في قوله تعالى يتيهون في الأرض المائدة 26 وقوله ولأصلبنكم في جذوع النخل طه 71 والمراد بالسماء هنا ما فوق العرش لأن ما علا يقال له سماء وبقوله الرحمن على العرش استوى طه 5 وبقوله لعلي أطلع إلى إله موسى القصص 38
قالوا فهذا يدل على أن موسى أخبره بأن ربه فوق السماء ولهذا قال وإني لأظنه من الكاذبين القصص 38 ولو كان موسى أخبره أنه في كل جهة أو في كل مكان بذاته لطلبه في نفسه أو في بيته ولم يجهد نفسه في بنيان الصرح
وبقوله عليه السلام إن الله فوق عرشه وعرشه فوق سماواته وسماواته فوق أرضه مثل القبة وأشار عليه السلام بيده مثل القبة

وفي حديث آخر والعرش فوق ذلك والله تعالى فوق عرشه
وبأحاديث المعراج وبآثار كثيرة عن الصحابة كقول أبي بكر الصديق لما قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي في السماء لا يموت رواه البخاري
وكقول عبدالله بن رواحة رضي الله عنه في شعره المشهور بحضرته عليه السلام ... وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا ...
ويجد الناظر في النصوص الواردة عن الله ورسوله في ذلك

نصوصا تشير إلى حقائق هذه المعاني ويجد الرسول تارة قد صرح بها مخبرا بها عن ربه واصفا له بها ومن المعلوم أنه عليه السلام كان يحضر في مجلسه الشريف والعالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي الجافي ثم لايجد شيئا يعقب تلك النصوص مما يصرفها عن حقائقها لا نصا و ظاهرا كما تأولها بعض هؤلاء المتكلمين ولم ينقل عنه عليه السلام أنه كان يحذر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لربه من الفوقية واليدين ونحو ذلك ولا نقل عنه أن لهذه الصفات معاني أخر باطنة غير ما يظهر من مدلولها ولما قال للجارية أين الله فقالت في السماء لم ينكر عليها بحضرة أصحابه كي لا يتوهموا أن الأمر على خلاف ما هو عليه بل أقرها وقال أعتقها فإنها مؤمنة إلى غير ذلك من الدلائل التي يطول ذكرها ولم يقل الرسول ولا أحد من سلف الأمة يوما من الدهر هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه وكيف يجوز على الله ورسوله والسلف أنهم يتكلمون دائما بما هو نص أو ظاهر في خلاف

الحق ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يتكلمون به ولا يدلون عليه
واحتجوا أيضا على أنه في جهة العلو بأنه هو الذي طبع الله عليه أهل الفطرة العقلية السليمة من الأولين والآخرين الذين يقولون إنه فوق العالم إذ العلم بذلك فطري عقلي ضروري لا يتوقف على سمع
قالوا ولم يقال قائل يا ألله إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو بحيث لا يمكن دفع هذه الضرورة عن القلوب ولا يلتفت الداعي يمنة ولا يسرة
وأما العلم بأنه سبحانه استوى على العرش بعد أن خلق السماوات والأرض في ستة أيام فهذا سمعي علم من جهة إخبار الأنبياء عليهم السلام حتى قال الشيخ عبدالقادر الجيلي قدس سره في كتابه الغنية وهو تعالى بجهة العلو مستو على العرش محتو على الملك محيط علمه بالأشياء إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه فاطر 10 يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه الآية السجدة 5 ولا يجوز وصفه بأنه في مكان بل يقال إنه على العرش كما قال الرحمن على العرش استوى طه 5 من غير تأويل وكونه على العرش في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا كيف انتهى

ومن التعسف قول بعضهم إن قول الشيخ وهو بجهة العلو مستو على العرش هو مبتدأ ومستو خبره وبجهة العلو متعلق بمستو بعد تعلق على العرش ولولا ذلك لنصب مستو على الحال فهذا تعسف وتحريف للكلم عن مواضعه فإن هو مبتدأ وبجهة العلو خبره ومستو خبر بعد خبر وبجعل مستو هو الخبر والعرش هو الذي بجهة العلو أي فائدة في ذلك ومن المعلوم لكل أحد أن العرش في جهة العلو
واحتجوا أيضا بأن الله تعالى كان ولا مكان ولا زمان ولا خلاء ولا ملاء منفردا في قدمه لا يوصف بأنه فوق كذا إذ لا شيء غيره فلما اقتضت الإرادة حدوث الكون اقتضت أن يكون له جهة علو وسفل واقضت الحكمة الإلهية أن يكون الكون في جهة التحت والسفل لكونه مربوبا مخلوقا وأن يكون هو فوق الكون بإعتبار الكون لا بإعتبار فردانيته تعالى إذ لا فوق فيها ولا تحت فإذا أشير إليه سبحانه يستحيل أن يشار إليه من جهة التحت ونحوها بل من جهة العلو والفوقية
قالوا ثم الإشارة هي بحسب الكون وحدوثه وتسفله فالإشارة تقع على أعلى جزء من الكون حقيقة وتقع على عظمة البارئ كما يليق به لا كما تقع على الحقيقة المعقولة عندنا فإنها إشارة إلى جسم وهذه إشارة إلى إثبات
واحتجوا أيضا بالإستواء على العرش والإستواء صفة كانت له سبحانه لكن لم يظهر حكمها إلا عند خلق العرش كما أن الحساب صفة قديمة له لا يظهر حكمها إلا في الآخرة فالإشارة تقع على العرش حقيقة إشارة معقولة وتنتهي الجهات عند

العرش ويبقى ما وراءه لا يدركه العقل ولا يكيفه الوهم فتقع الإشارة عليه كما يليق به سبحانه مثبتا مجملا لا مكيفا ولا ممثلا ولا مصورا سبحانه وتعالى وعلى هذه الكيفية وقعت الإشارة عليه سبحانه في الحديث الصحيح الشهور الذي رواه الأئمة في كتبهم بأسانيدهم وتلقته الأمة بالقبول أن معاوية بن الحكم جاء بجارية حبشية وقال يا رسول الله إني نذرت أن أعتق رقبة مسلمة أو قال مؤمنة فما تقول في هذه الجارية فقال لها النبي صلى الله عليه و سلم أين الله فقالت في السماء
وفي رواية أخرى فأشارت برأسها إلى السماء فقال لها من أنا فقالت أنت رسول الله فقال أعتقها فإنها مؤمنة
وكذلك الحديث المشهور الذي رواه أحمد وغيره عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق العرش قال كان في عماء فوقه ماء وتحته هواء والعماء بالمد هو السحاب كما ذكره أهل اللغة

وهذا الحديث من المشكلات حيث قال عليه السلام كان في عماء وهو سبحانه منزه عن الظرفية ولم أر من كشف عن حقيقته بما يرفع إشكاله إلا أن يقال إن في بمعنى على كما قالوا في قوله أأمنتم من في السماء الملك 16
واحتجوا أيضا بما نقل عن السلف من التلويح أو التصريح بالقول بجهة العلو حتى قال الإمام القرطبي في تفسيره في سورة الأعراف وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله قال ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه تعالى استوى على العرش حقيقة انتهى
وقال ابن تيمية قال أبو نعيم الأصبهاني صاحب الحلية في عقيدة له طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة قال فمما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت في العرش وإستواء الله يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه وهو مستو على عرشه في سمائه دون أرضه

وقال الحافظ أبو نعيم في كتابه محجة الواثقين وأجمعوا أن الله فوق سماواته عال على عرشه مستو عليه لا مستول عليه كما تقول الجهمية وساق الآيات المشعرة بالجهة
وقال ابن رشد المالكي في كتابه المسمى ب الكشف وأما هذه الصفة يعني القول بالجهة فلم تزل أهل الشريعة يثبتونها حتى نفتها المعتزلة ومتأخروا الأشاعرة كأبي المعالي ومن اقتدى بقولهم إلى أن قال فقد ظهر أن إثبات الجهة واجب شرعا وعقلا إلى آخر كلامه
وروى الدارمي بإسناده عن ابن المبارك قيل له كيف نعرف ربنا قال بأنه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه
وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري إن الله مستو على عرشه كما قال الرحمن على العرش استوى طه 5 وقال إليه يصعد الكلم الطيب فاطر 10 وقال لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا غافر 37 وقال أأمنتم من في السماء لأنه مستو على العرش الذي هو فوق السماوات وكل ما علا فهو سماء فالعرش أعلا السماوات

قال ورأيت المسلمين جميعا يرفعون أيديهم نحو السماء إذا دعوا لأن الله على العرش ولولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يخفضونها إذا دعوا إلى الأرض وأطال الكلام على ذلك في كتابه الإبانة فراجعه
وقال القاضي أبو بكر ابن الباقلاني وهو أفضل المتكلمين الأشعرية فإن قال قائل فهل تقولون إنه تعالى في كل مكان قيل له معاذ الله بل هو مستو على عرشه كما أخبر وقال إليه يصعد الكلم الطيب وساق الآيات المتقدمة ثم قال ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان والحشوش ولصح أن يرغب إليه نحو الأرض وإلى خلفنا ويميننا وشمالنا وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله انتهى
وأختار هذه المذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وقال ولكن كثير من الناس قد صار منتسبا إلى بعض طوائف المتكلمين متوهما أنهم حققوا في هذا الباب ما لم يحققه غيرهم فلو أتي بكل آية ما تبعها حتى يؤتى بشىء من كلامهم ثم هم مع هذا مخالفون لأسلافهم غير متبعين لهم

قال ومن كان لا يقبل الحق إلا من طائفة معينة ولا يتبع ما جاءه من الحق ففيه شبه من اليهود الذين قال الله فيهم وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما رواءه وهو الحق مصدقا لما معهم البقرة 91 قال الله لهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين البقرة 91 بما أنزل عليكم فكذلك حال من يتعصب لطائفة بلا برهان من الله انتهى
وأعلم أن كثيرا من الناس يظنون أن القائل بالجهة هو من المجسمة لأن من لازم الجهة التجسيم وهذا ظن فاسد فإنهم لا يقولون بذلك لأن لازم المذهب ليس بلازم عند المحققين فكيف يجوز أن ينسب للإنسان شيء من لازم كلامه وهو يفر منه بل قالوا نحن أشد الناس هربا من ذلك وتنزيها للباري تعالى عن الحد الذي يحصره فلا يحد بحد يحصره بل بحد يتميز به عظمة ذاته من مخلوقاته هذا السمع والبصر والقدرة والعلم من لازم وجودها أن تكون أعراضا ولذلك نفاها المعتزلة ولكن هذا اللازم ليس بلازم كما هو مقرر معلوم فتأمل ولا تخض مع الخائضين
ومنهم من يتوهم أنه يلزم على ذلك قدم الجهة ولا قديم إلا الله ويلزم أنه يكون مظروفا في الجهة وهو محال وهذا كله

لعدم فهم مذهب القائل بالجهة فإن القائل بالجهة يقول إن الجهات تنقطع بانقطاع العالم وتنتهي بإنتهاء آخر جزء من الكون والإشارة إلى فوق تقع على أعلى جزء من الكون حقيقة كما مر
قالوا ومما يحقق هذا أن الكون الكلي لا في جهة لأن الجهة عبارة عن المكان والكون الكلي لا في مكان فلما عدمت الأماكن من جوانبه لم يقل إنه يمين ولا يسار ولا قدام ولا وراء ولا فوق ولا تحت
وقالوا إن ما عدا الكون الكلي وما خلا الذات القديمة ليس بشيء ولا يشار إليه ولا يعرف بخلاء ولا ملاء وانفرد الكون الكلي بوصف التحت لأن الله تعالى وصف نفسه بالعلو وتمدح به
وقالوا إنه سبحانه أوجد الأكوان في محل وحيز وهو سبحانه في قدمه منزه عن المحل والحيز فيستحيل شرعا وعقلا عند حدوث العالم أن يحل فيه أو يختلط به لأن القديم لا يحل في الحادث وليس هو محلا للحوادث فلزم أن يكون بائنا عنه وإذا كان بائنا عنه فيستحيل أن يكون العالم في جهة الفوق والرب في جهة التحت بل هو فوقه بالفوقية اللائقة به التي لا تكيف ولا تمثل بل تعلم من حيث الجملة والثبوت لا من حيث التمثيل والتكييف فيوصف الرب بالفوقية كما يليق بجلاله وعظمته ولا يفهم منها ما يفهم من صفات المخلوقين
وقالوا إن الدليل القاطع دل على وجود البارئ وثبوته ذاتا بحقيقة الإثبات وأنه لا يصلح أن يماس المخلوقين أو تماسه

المخلوقات حتى إن الخصم يسلم أنه تعالى لا يماس الخلق
قالوا ومن عنى هذا المعنى الفاسد فهو مبتدع ضال تجب استتابته فإذا قامت عليه الحجة البلاغية فلم يرجع ضربت عنقه بل ولا يماسونه وإنه متميز بذاته منفرد مباين لخلقه متنزه عن المماسة والإمتزاج
قال ابن تيمية ومن توهم أن كون الله في السماء بمعنى أن السماء تحيط به وتحويه أو أنه محتاج إلى مخلوقاته أو أنه محصور فيها فهو مبطل كاذب إن نقله عن غيره وضال إن أعتقده في ربه فإنه لم يقل به أحد من المسلمين بل لو سئل العوام هل تفهمون من قول الله ورسوله إن الله في السماء أن السماء تحويه ؟ لبادر كل أحد منهم بقوله هذا شيء لعله لم يخطر ببالنا بل عند المسلمين أن معنى كون الله في السماء وكونه على العرش واحدا بمعنى أنه تعالى في العلو لا في السفل ولا يتوهم أن خلقا يحصره ويحويه تعالى عن ذلك
قالوا والقول الحق أن البارئ تعالى يحيط بذاته علما وأنه لا يجهل نفسه بل يعلمها علما حقا يثبت إنفصالها ويميزها عما سواها وأنها قائمة بذاتها مستغية بقدرتها عما تقوم به ويقلها ويحملها وما يحيط به علمه تعالى من غايات ذاته فإنه محدود بعلمه معلوم عند نفسه لا إله إلا هو لا تحيط به العقول ولا تدركه الأوهام استوى علىالعرش كما ذكر لا كما يخطر للبشر

قالوا فإذا أيقن العبد أن الله فوق عرشه كما وردت به النصوص بلا حصر ولا كيفية وأنه الآن في صفاته كما كان في قدمه صار لقلبه قبلة في صلاته وتوجهه ودعائه ومن لا يعرف ربه أنه فوق سماواته على عرشه فإنه يبقى حائرا لا يعرف وجهة معبوده لكن ربما عرفه بسمعه وبصره وقدمه ونحو ذلك لكنها معرفة ناقصة بخلاف من عرف أن إلهه الذي يعبده فوق الأشياء وأنه مع علوه قريب من خلقه هو معهم بعلمه وسمعه وبصره وإحاطته وقدرته
هذا البدر وهو من أصغر مخلوقاته في السماء وهو مع كل أحد أينما كان فإذا كان هذا البدر فكيف بالرب سبحانه فمتى شعر قلب العبد بذلك في صلاته ودعائه وتوجهه أشرق قلبه واستنار وانشرح لذلك صدره وقوي إيمانه بخلاف من لا يعرف وجهة معبوده فإنه لا يزال حائرا مظلم القلب والعياذ بالله تعالى قالوا وهذا مشاهد محسوس ولا ينبئك مثل خبير
واحتج القائل بالمعية وأنه تعالى مع كل أحد بذاته بقوله تعالى وهو معكم أينما كنتم الحديد 4 وقوله ما يكون من نجوى ثلاثة إلى قوله إلا هو معهم المجادلة 7 وقوله ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ق 16 وقوله ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون الواقعة 85 ولا تبصر إلا الذوات فلو أراد معية العلم كما يقول المخالف لقال ولكن لا تشعرون وقوله وإذا سألك عبادي عني فإني قريب

البقرة 186 وقوله عليه السلام كما في الصحيحين لله أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته
ثم انقسم أهل هذا القول إلى قسمين
قسم يقولون إنه تعالى حال بذاته المقدسة في كل شيء
قال ابن تيمية وهذا القول يحكيه أهل السنة والسلف عن قدماء الجهمية وكانو يكفرونهم بذلك
وقسم يقولون إنه تعالى مع كل أحد بذاته ومع كل شيء لكن معية تليق به وهذا المذهب هو قول كثير من متأخري الصوفية
واحتجوا بأنه تعالى فوق عرشه إلى ما لا نهاية له وما دون العرش ومع كل شيء معية تليق به فكما أنه ليس كمثله شيء في ذاته ليس كمثله شيء في صفاته فليس معيته وقربه كمعية أحد منا وقربه
قالوا فلسنا معطلين لأن تعظيمنا أبلغ من تعظيمهم والتعطيل إنما يكون مع من خلا توحيده عن التعظيم ومن قال إن الله تعالى عند كل الجهات وإن لم يكن فيها ومع كل

شيء وإن لم يكن في شيء لا بالحلول ولا بالمجاورة ودليله ونحن أقرب إليه منكم ولكلن لا تبصرون فلا تعطيل معه ولا تجسيم ونقل هذا الذي قررته عن سيدي الشيخ أبي السعود الجارحي المدفون بمصر وقال عن هذا فهذا مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم وهو الحق الذي اختاره الصوفية الكرام وفقهاء الإسلام انتهى
ورأيت بعض أكابر مشايخهم صرح في تصنيف له أنه لا تخلو ذرة من ذرات العالم من ذات البارئ تقدس وتعالى
قلت وهذا شيء ينفر منه الطبع والشرع ولكن لعل تقريبه للعقل أن البارئ سبحانه كان موجودا قبل وجود عالم الكون وهذا المقدار الذي وجد العالم فيه كان غير خال من وجود ذات البارئ فلما حدث العالم استمرت الذات المقدسة على حالها وهو الآن على ما عليه كان فهي مع العالم بأسره بذاتها وهي ايضا بعد وجود العالم كما كانت بلا حد ولا نهاية لكن هنا تتخبط العقول في هذه المعية الذاتية وربما تحصل لكثيرين الزندقة ويتدرج منها إلى القول بالوحدة المطلقة كما سيأتي الكلام على ذلك
وقال أهل التأويل من أهل الحق وأصحاب المذاهب من الفقهاء والمفسرين إن الآيات المشعرة بالمعية الذاتية مصروفة

عن ظواهرها إلى المعية بالعلم بل معية العلم هي الظاهرة منها فإن سياق الآيات الشريفة يدل على ذلك
وقال الإمام ابن عبدالبر أجمع علماء الصحابة والتابعين الذي حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم هو على العرش وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك من يحتج بقوله انتهى
فقوله سبحانه ولقد خلقنا الإنسان ونعمل ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد قال المفسرون جميعا هو كناية عن العلم به وبأحواله أي ونحن أعلم بحاله ممن كان أقرب إليه من حبل الوريد فهو تجوز بقرب الذات لقرب العلم لأنه موجبه بحيث لا يخفى عليه شيء من خفياته فكأن ذاته قريبة منه
قال الإمام أبو حيان كما يقال إنه تعالى في كل مكان أي بعلمه وهو تعالى منزه عن الأمكنة انتهى
والذي يدل على أن المراد بالقرب هو القرب بالعلم سياق الآية فإنه سبحانه قال ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ثم قال ونحن أقرب إليه أي بالعلم المفهوم من نعلم وحبل الوريد مثل في فرط القرب كقول العرب هو مني مقعد القابلة ومعقد الإزار والحبل العرق فشبه بواحد

الحبال والوريدان عرقان مكتنفان لصفحتي العنق وكذا قوله تعالى وهو معكم أينما كنتم أي بعلمه لا بذاته بدليل سياق الآية وهي قوله ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم الحديد 4 أي بعلمه المفهوم من يعلم وكذا قوله ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا أي بعلمه فإن الآية مصدرة بالعلم وهي ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة الآية
والحاصل أن الآيات المشعرة بالمعية الذاتية إنما هي صريحة في المعية بالعلم وأن المراد منها إنما هو الإشارة إلى إحاطة علمه بجميع المخلوقات وكذا قوله تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أي قريب منهم فهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على أحوالهم بمنزلة من قرب مكانه منهم ويوضحه ما قيل لو اجتمع قوم بمحل وناظر ينظر إليهم من العلو فقال لهم إني لم أزل معكم أراكم وأعلم مناجاتكم لكان صادقا ولله المثل الأعلى عن شبه الخلق فإن أبوا إلا ظاهر التلاوة وقالوا هذا منكم دعوى خرجوا عن قولهم في ظاهر التلاوة لأن من هو مع الإثنين أو أكثر هو معهم لا فيهم وما قرب من الشيء ليس هو في الشيء
وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى إن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور لمن تدبرهما وقصد اتباع الحق

وأعرض عن تحريف الكلم مثل أن يقول القائل ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه قوله وهم معكم أينما كنتم الحديد 4 وقوله عليه السلام إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه ونحو ذلك ولا مخالفة وذلك أن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش وهو ظاهر قوله تعالى ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض إلى أن قال وهو معكم أينما كنتم وقوله عليه السلام والعرش فوق ذلك والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه وذلك أن كلمة مع في اللغة التي خوطبنا بها إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى فإنه يقال ما زلنا نسير والقمر والنجم معنا وإن كان فوق رأسك فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد فلما قال يعلم ما يلج في الأرض إلى قوله وهو معكم أينما كنتم دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم عالم بكم وهذا معنى قول السلف إنه معكم بعلمه ولما قال عليه السلام في الغار لصاحبه لاتحزن إن الله معنا التوبة 40 كان هذا أيضا حقا على ظاهره ودلت الحال على النصر والتأييد مع المعية العلم ومثله قوله لموسى وهارون إنني معكما أسمع وأرى طه 46

وأطال ابن تيمية الكلام في تقرير ذلك
وأما قوله تعالى ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فالمراد به قرب أعوان ملك الموت من المحتضر بدليل سياق الآية وهو قوله تعالى فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون الواقعة 83 84 ونحن أي ملائكتنا وعبر بهم عنه سبحانه لأنهم رسله ومأموروه أو المراد ونحن أقرب إليه أي بالعلم
فإن قيل لو كان المراد به العلم لما صح أن يقول ولكن لا تبصرون لأن العلم لا يبصر بل كان يقول ولكن لا تبصرون لأن العلم لا يبصر
فجوابه أن تبصرون يطلق على البصر بالعين ويطلق على الشعور والعلم بالغيب كما قاله أهل اللغة لأنه يقال بصرته بعيني وبصرته بقلبي فارتفع الإشكال
ومن العجب أني اجتمعت بأكابر محققي بعض المتصوفة فحصلت المذاكرة فطعن في الفقهاء والمتكلمين والأشاعرة وقال إنهم يحرفون معاني كلام الله تعالى ويخرجون كلام الله عن مراد الله بحسب عقولهم فقلت له وكيف تقرأ قوله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم إلى قوله إلا هو معهم فقال هي معية ذات لا معية علم كما يقولون ويدل لذلك قوله تعالى ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلو كانت معية علم لما صح أن يقول ولكن لا تبصرون لأن العلم لا يبصر وإنما تبصر الذوات فتعجبت من مقالته وتصميمه عليها وغفلته عن كلام الأئمة المحققين من الفقهاء والمفسرين فنسأل الله تعالى العافية والسلامة في الدين

قال الشيخ الإمام العيني الحنفي في أثناء ترجمته للشيخ تقي الدين ابن تيمية ومدحه إياه وتنزيهه عما ينسبه له بعض الجهال وهذا الإمام مع جلالة قدره في العلوم نقلت عنه على لسان جم غفير من الناس كرامات ظهرت منه بلا التباس وأجوبة قاطعة عند السؤال من المعضلات من غير توقف بحالة من الحالات ومن جملة ما سئل عنه وهو على كرسيه يعظ الناس والمجلس غاص بأهله في رجل يقول ليس إلا الله ويقول الله في كل مكان هو هو كفر أو إيمان فأجاب على الفور من قال إن الله تعالى بذاته في كل مكان فهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين بل هو مخالف للملل الثلاث بل الخالق سبحانه وتعالى بائن من المخلوقات ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته بل هو الغني عنها والبائن بنفسه منها وقد اتفق الأئمة من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وسائر أئمة الدين أن قوله تعالى وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير ليس معناه أنه مختلط بالمخلوقات وحال فيها ولا أنه بذاته في كل مكان بل هو سبحانه وتعالى مع كل شيء بعلمه وقدرته ونحو ذلك فالله سبحانه مع العبد أينما كان يسمع كلامه ويرى أفعاله ويعلم سره ونجواه رقيب عليهم مهيمن عليهم بل السماوات والأرض وما بينهما كل ذلك مخلوق لله ليس الله بحال في شيء منه سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير الشورى 11

لا في ذاته ولا في صفاته ولا أفعاله بل يوصف الله بما يوصف به نفسه وإما وصفه به رسوله من غير تكييف ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثل صفاته بصفات خلقه ومذهب السلف إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل
وقد سئل الإمام مالك رضي الله عنه عن قوله الرحمن على العرش استوى فقال الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة انتهى ما حكاه الشيخ العيني عن ابن تيمية رحمهما الله
ومن هنا تعرف معنى قوله عليه السلام لله أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته أن المراد به قرب علم
وأما حديث البخاري ومسلم إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه فقال ابن عبدالبر هو مخرج على التعظيم لشأن القبلة
وقال الخطابي معناه أن توجهه إلى القبلة مفض بالقصد إلى ربه فصار في التقدير كأن مقصوده بينه وبين قبلته ولا حجة

فيه للقائلين بأنه تعالى في كل مكان لأن في الحديث أنه يبزق تحت قدمه أو هو على حذف مضاف أي فإن قبلة الله أو رحمة الله قبل وجهه
وقال بعضهم الحديث حق على ظاهره فهو سبحانه فوق العرش وهو قبل وجه المصلي بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات فإن الإنسان لو ناجى السماء لكانت فوقه وكانت أيضا قبل وجهه وقد ضرب عليه السلام المثل بذلك ولله المثل الأعلى والمقصود بالتمثيل إنما هو جواز هذا وإمكانه لا تشبيه الخالق بالمخلوق فقد قال عليه السلام ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مخليا به فقال له أبو رزين العقيلي كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع فقال له النبي صلى الله عليه و سلم سأنبئك مثل ذلك في آلاء الله هذا القمر كلكم يراه مخليا به وهو آية من آيات الله فالله تعالى أكبر أو كما قال النبي صلى الله عليه و سلم
وأيضا فالمؤمنون إذا رأوا ربهم يوم القيامة وناجوه كل يراه فوقه قبل وجهه كما يرى الشمس والقمر ولذلك قال عليه السلام إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر فشبه الرؤية بالرؤية وإن لم يكن المرئي مشابها للمرئي انتهى والله أعلم

واحتج القائل بأنه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه وأنه سبحانه لا متصلا به ولا منفصلا عنه بأمور عقلية وهذا مذهب كثير من متأخري الأشاعرة ومن وافقهم والعقل في هذا بمجرده لا اعتبار به ما لم يستند إلى النقل الصحيح
واحتجوا من النقل بآيات لا تصلح لهم وإنما تصلح للقائلين بأنه مع كل أحد بذاته فمن جملة ما احتجوا به قوله تعالى وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله الزخرف 84 وقوله تعالى وهو الله في السموات وفي الأرض الأنعام 3 وقوله فأينما تولوا فثم وجه الله البقرة 115 وقوله ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون والقرب بالعلم لا بالإبصار وأنت قد عرفت مما مر أن أهل السنة قاطبة جعلوا هذا قرب علم لا قرب ذات وسيأتي الكلام على قوله فثم وجه الله وأما قوله في السماء إله وفي الأرض إله فهو باتفاق المفسرين بمعنى مألوه أي معبود فإنه معبود فيهما وكذلك وهو الله في السموات وفي الأرض فإن الجار والمجرور متعلق بالله لأنه بمعنى مألوه أو متعلق بما بعده ولولا ذلك للزم عليه الظرفية تعالى الله عنها
وعندي معنى آخر لم أر من قاله وهو أن يكون على معنى

هو المسمى فيهما بهذا الإسم فهو كما أنه هو الله في السماوات هو الله في الأرض كقولك موسى أخو هارون في جميع الدنيا والكعبة هي البيت الحرام في السماء والأرض وكقولهم فلان أمير في خراسان وأمير في بلخ وسمرقند وهو في موضع واحد وهذا موجود في اللغة
قال ابن تيمية ولم يقل أحد من السلف إنه تعالى في كل مكان ولا إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه انتهى
واعلم أنه قد ثبت بلا ريب خلافا للفلاسفة أن الذات المقدسة كانت موجودة قبل حدوث العالم قائمة بنفسها فلما حدث العالم فإما أن يكون حدث بائنا منها منفصلا عنها وهذا مسلم عند كل مسلم ولهذا حمل المفسرون الآيات الدالة على المعية والقرب على معية العلم وقربه وإما أن يكون حدث مماسا لها قائما بها الوجود بأسره كما يقوله بعض المتصوفة أو قريبا منها كما يدل علي كلام كثير من الصوفية وعلى هذين القولين يصح حمل الآيات على القرب بالذات والمعية بالذات والأشاعرة وافقوا أهل السنة والمفسرين فحملوا الآيات المشعرة بقرب أو معية الذات على أن المراد بها العلم وهذا صحيح على قولهم بإعتبار أنه تعالى لا داخل العالم وبأعتبار أنه لا خارج العالم فكان القياس صحة حملها أيضا على القرب بالذات ومعية الذات لكنهم لم يقولوا بذلك ولم يرتكبوا في

التفسير القول بذلك أصلا فليتأمل
وأعلم أيضا أن الذي ذهب إليه جمهور متأخري المتكلمين هو تنزيه الله تعالى عن الجهة فليس هو مخصوصا بجهة فوق عندهم ولا بجهة غيرها لأنه يلزم من ذلك عندهم أنه متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيز وأنه غير قديم أو أنه جسم ومفهومه أن من ليس في جهة لا يكون متحيزا وأنه هو القديم المستغني عن محل يقوم به وأورد على هذا أن الكون الكلي والدائر المحيط بالعالم فإنه لا في مكان وهو حادث وغير مستغن بنفسه وذاته وإن استغنى عن المكان لأنه لو افتقر إلى مكان لافتقر المكان الثاني إلى ثالث ويتسلسل إلى ما لا نهاية له وهو محال
وأيضا فيلزم القائل بنفي الجهة عنه سبحانه أحد أمرين لا محيص عنهما
إما أن يقول إنه سبحانه بعد انتهاء العالم محيط به من سائر جوانبه وجهاته وحينئذ فهو تعالى لا في جهة بل في جميع الجهات لكن هذا لا يقال به ولا أعلم أحدا قال به
وإما أن يقول إنه سبحانه داخل العالم أو معه ساريا في جميعه كما يقول به بعض المتصوفة حتى رأيت أكابر مشايخهم قد صرح في تصنيف له أنه لا تخلو ذرة من ذرات العالم من ذات الباري سبحانه
وهذا لا يقال به لأنه إما يوهم الحلول أو هو لازمه وأنه

سبحانه مختلط بالمخلوقات تعالى الله عن ذلك وهذا خلاف إجماع المسلمين وقد وقع في هذا كثير من المتصوفة فجعلوا الوجود قائما بالرب محدودا بحدوده متكلما بحروفه ويجعلونه سبحانه هو المتكلم على ألسنتهم كالجني على لسان المصروع
واعلم أيضا أنه قد تخبطت في هذا المقام عقول كثير من ذوي الأفهام وتفرقوا في الأقوال وهم كقول من قال ... الناس شتى وآراء مفرقة ... كل يرى الحق فيما قال واعتقدا ...
ولقد صرح كثير من المتصوفة أن البارئ سبحانه هو عين ما ظهر وما بطن من الوجود وأنه تعالى هو العالم بأسره وقد شافهني بعض مشايخهم المتعمقين بذلك فقلت له ومن أين دليل هذا فقال من قوله سبحانه هو الأول والآخر والظاهر والباطن الحديد 3 فإذا كان هو يقول هو الظاهر والباطن أتقول أنت لا فعجبت من مقالته ومن تحسين الشيطان لعقول هؤلاء الخرافات والمحالات فقرأ في المجلس قارئ عشر قرآن وهو لله ما في السموات وما في الأرض الآية فقلت له أيها الشيخ هذه الآية ترد ما قلت حيث جعل لله ما فيهما فهو سبحانه غيرهما لا عينهما فقال على الفور لله ما في السموات وما في الأرض بفتح لام لله فعجبت من هذه الفلسفة والزندقة والسفسطة المحققة أعاذنا الله تعالى منها ومن الزيغ والضلال

وقد قال أهل الشريعة رضي الله عنهم كما قررة أئمتنا في كتب عقائدهم إن المراد بقوله سبحانه والظاهر والباطن أي الظاهر في المعرفة لأن دلائل توحيده وبراهين ألوهيته وربوبيته جلية للأفهام وظاهرة عند ذوي المعارف واضحة الدليل عن عارض الشبهات فهو بذلك الظاهر الذي لا أظهر منه والباطن أي الباطن في الإستتار بذاته فلا علم يحيط به ولا معرفة تقف على كنه معرفته ولا فكر يصل إلى جميع ما يستحقه من صفات الكمالات ولا عقل يقف على حقيقة الذات وتحقيق الصفات فهو سبحانه الظاهر والباطن بهذا الإعتبار لا أنه تعالى هو عين ما ظهر وما بطن كما يقوله الملاحدة ويقولون سبحان من هو الكل ولا شيء سواه الواحد في نفسه المتعدد بنفسه
ويقولون أيضا ... وما أنت غير الكون بل أنت عينه ... ويفهم هذا السر من هو ذائق ...
تعاليت يا ألله عن ذلك ... وما أنت عين الكون بل أنت غيره ... ويفهم هذا القول من هو مسلم ...
ويرتكبون القول بالوحدة المطلقة ويصرحون بذلك وتقرير مذهبهم على سبيل الإحاطة والتطويل يطول

وحاصله أن البارئ عندهم هو مجموع ما ظهر وما بطن وأنه لا شيء خلاف ذلك هكذا موجود في كتبهم ومن شك في ذلك فليراجعها وقد أشرت إلى شيء من ذلك في كتابي الأدلة الوفية بتصويب قول الفقهاء والصوفية وفي كتابي سلوك الطريقة في الجمع بين كلام أهل الشريعة والحقيقة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في أثناء كلام طويل وهؤلاء القوم الذين تكلموا في هذا الأمر لم يعرف لهم خبر ولا سابقة إلا من حين ظهرت دولة التتار قال وأما الحلول وهو أن الله تعالى بذاته حال في كل شيء فهذا يحكيه أهل السنة والسلف عن قدماء الجهمية وكانوا يكفرونهم بذلك وأطال الكلام على ذلك ابن تيمية رحمه الله تعالى

نصيحة
اعلم وفقك الله أنه ليس للمرء أسلم في دينه من ترك الخوض في مثل هذا والإعراض عن الخوض في علم الكلام المذموم واقتفاء طريقة السلف فإنهم لم يخوضوا في شيء من هذا ولم يبحثوا عنه معتقدين أن لنا ربا موجودا ليس كمثله شيء وهو السميع البصير أفلا يسعنا ما وسعهم من السكوت والتسليم ومن طلب الوقوف على حقيقة البارئ سبحانه فقد طلب المحال
قال الطوفي وقد اعترف أكثر أئمة أهل الكلام والفلسفة من

الأولين والآخرين أن الطرائق التي سلكوها في أمور الربوبية بالأقيسة التي ضربوها لا تفضي بهم إلى العلم واليقين في الأمور الإلهية مثل تكلمهم بالجسم والعرض في دلائلهم ومسائلهم ومقالة أساطين الفلسفة من الأوائل أنهم قالوا العلم الإلهي لا سبيل فيه إلى اليقين وإنما يتكلم فيه بالأولى والأحرى قال ولهذا أتفق كل من خبر مقالة هؤلاء المتفلسفة في العلم الإلهي أن غالبه ظنون كاذبة وأقيسة فاسدة وأن الذي فيه من العلم والحق قليل انتهى
هذا والفلاسفة هم أرباب النهاية في العقول لكن العقول إذا لم تستند إلى الشرع المنقول وقعت في الحيرة والضلالات وطرأت عليها الخيالات والإستبعادات لما جاءت به الرسل ولهذا كانت الفلاسفة يعتقدون أن عندهم من العلوم والمعارف ما يستغنون به عن علم الأنبياء عليهم السلام
قال أبو حيان وكانوا إذا سمعوا بوحي الله تعالى دفعوه وصغروا علم الأنبياء بالنسبة إلى علمهم
قال ولما سمع بقراط الحكيم بموسى عليه السلام قيل له لو هاجرت إليه فقال نحن قوم مهديون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا
قلت وهذه الخصلة بعينها موجودة في المتصوفة المتفلسفة

فإنهم يحتقرون علم الفقهاء بالنسبة لعلمهم ويزعمون أنهم محجوبون وأنهم هم الواصلون نعم ولكن إلى سقر اتخذوا الكلام على الذات والصفات ديدنا لهم فإذا دخل إلى مجلسهم العامي وهو لا يحسن الوضوء كلموه بدقائق الجنيد وإشارات الشبلي
قال ابن الجوزي وترى الحائك والسوقي الذي لا يعرف فرائض الصلاة يمزق أثوابه دعوى لمحبة الله وأصلحهم حالا يتخايل بوهمه شخصا هو الخالق فيبكيه شوقه إليه لما يسمع من عظمته ورحمته وجماله وليس ما يتخايلونه الإله المعبود فإنه تعالى لا يقع في خيال وربما خايلت له الماخوليا أشباحا يظنهم الملائكة
وبالجملة فالحق هو اتباع ما كان عليه السلف قولا وفعلا واعتقادا وما سواه فهو اتباع هوى
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما قاله الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه و سلم والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذي أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وفي غيره وأطال الكلام في ذلك وذم المتفلسفين والمتكلمين وقال ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف إذا

حقق عليهم الأمر لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص معرفته خبر ولم يقفوا من ذلك على عين ولا أثر
وعن الجنيد قدس الله سره قال أقل ما في الكلام سقوط هيبة الرب من القلب والقلب إذا عري من الهيبة من الله عري من الإيمان
وقال بعد كلام طويل ثم القول الشامل في جميع هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله وبما وصفه السابقون الأولون لا نتجاوز القرآن والحديث ومذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل
قال وهذا هو قول الذين وافقوا سنة النبي صلى الله عليه و سلم ظاهرا وباطنا لكن لا بد للمنحرفين عن سنته أن يعتقدوا فيهم نقصا يذمونهم به ويسمونهم بأسماء مكذوبة كقول القدري من اعتقد أن الله أراد الكائنات وخلق أفعال العباد فقد سلب العباد الإختيار والقدرة وجعلهم مجبورين كالجمادات التي لا إرادة لها ولا قدرة وكقول الجهمي من قال إن الله فوق العرش فقد زعم أنه محصور وأنه جسم مركب مشابه لخلقه وكقول الجهمية والمعتزلة من قال إن لله علما وقدرة فقد زعم أنه جسم مركب وهو مشبه لأن هذه الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا

بجوهر متحيز وكل متحيز جسم مركب أو جوهر فرد ومن قال ذلك فهو مشبه لأن الأجسام متماثلة
قال ومن حكى عن الناس المقالات وسماهم بهذه الأسماء المكذوبة أخذا من لازم عقيدتهم فهو وربه أعلم والله من ورائه بالمرصاد ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله فاطر 43
قال والله يعلم أني بعد البحث التام ومطالعة ما أمكن من كلام السلف ما رأيت كلام أحد منهم يدل لا نصا ولا ظاهرا على نفي الصفات الخبرية في نفس الأمر وما رأيت أحدا منهم نفاها وإنما ينفون التشبيه وينكرون على المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه وينكرون على من ينفي الصفات كقول نعيم بن حماد شيخ البخاري من شبه الله بخلقه فقد كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها

وكانوا إذا رأوا الرجل قد أغرق في نفي التشبيه من غير إثبات الصفات قالوا هذا جهمي معطل فإن الجهمية والمعتزلة إلى اليوم يسمون من أثبت شيئا من الصفات مشبها كذبا منهم وإفتراء فالروافض تسمي أهل السنة نواصب والقدرية يسمونهم مجبرة والمرجئة يسمونهم شكاكا والجهمية يسمونهم مشبهة وأهل الكلام يسمونهم حشوية والمتصوفة يسمونهم محجوبين كما كانت قريش تسمي النبي صلى الله عليه و سلم تارة مجنونا وتارة شاعرا وتارة كاهنا وتارة مفتريا وهذه علامة الإرث الصحيح والمتابعة التامة
ثم قال ابن تيمية في آخر كلامه وجماع الأمر أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة
وسيأتي الكلام على ذكر هذه الأقسام آخر الكتاب

ولنرجع إلى ما نحن بصدده فنقول
ومن المتشابه الكرسي في قوله تعالى وسع كرسيه السموات والأرض البقرة 255 وقد اختلف أهل التأويل فيه
فقيل الكرسي هو علمه تعالى أي أحاط علمه سبحانه بأهل السماء والأرض
وقيل هو السلطان والقدرة
وقيل هو تمثيل لعظمة شأنه وسعة سلطانه وإحاطة علمه بالأشياء قاطبة وليس ثمة كرسي ولا قاعد ولا قعود
وقيل هو مكان لعبادة الملائكة والإضافة كما في الكعبة بيت الله
وقيل هو العرش نفسه
والمشهور أنه جسم عظيم بين يدي العرش يسع السبع سماوات والأرض كما دلت عليه الأحاديث والآثار
وعن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة السماوات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش وهو موضع قدميه
قال البيهقي كذا في هذه الرواية موضع قدميه
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس وسع كرسيه السموات والأرض قال موضع القدمين ولا يقدر قدر العرش

قال القرطبي كذا قال موضع القدمين من غير إضافة
وقال أبو موسى الأشعري الكرسي موضع القدمين
قال فالسلف لم يفسروا مثال هذا ولم يشتغلوا بتأويله مع إعتقادهم أن الله تعالى غير متبعض ولا ذي حاجة
قال يحيى بن معين شهدت زكريا بن عدي سأل وكيعا فقال يا أبا سفيان هذه الأحاديث يعني مثل الكرسي موضع القدمين ونحو هذا فقال وكيع أدركنا إسماعيل بن أبي خالد وسفيان ومسعرا يحدثون بهذه الأحاديث ولا يفسرون شيئا منها
وأما الخلف فأولوا قال ابن عطية يريد هو من عرش الرحمن كموضع القدمين في أسرة الملوك فهو مخلوق عظيم بين يدي العرش نسبته إلى العرش كنسبة الكرسي إلى سرير الملك
وقال أبو حيان إنه تعالى خاطب الخلق في تعريف ذاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم
واعلم أن هذه الأحاديث ونحوها تروى كما جاءت ويفوض

معناها إلى الله أو تؤول بما يليق بجلاله سبحانه ولا ترد بمجرد العناد والمكابرة كما ذكر القرطبي قال تكلمت مع بعض أصحابنا القضاة ممن له علم وبصر بمنية بني خصيب فيما ذكره ابن عبدالبر من قوله الرحمن على العرش استوى فذكرت له حديث عروج الملائكة بالروح بعد قبضها من سماء إلى سماء حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله فما كان إلا أن بادر إلى عدم صحته ولعن رواته فقلت له الحديث صحيح والذين رووه لنا هم الذين رووا لنا الصلوات الخمس وأحكامها فإن صدقوا هناك صدقوا هنا وإن كذبوا هناك كذبوا هنا ولا تحصل الثقة بأحد منهم فيما يرويه ومعنى قوله إلا السماء التي فيها الله أي أمره وحكمه وهي السماء السابعة التي عندها سدرة المنتهى إليها يصعد وينتهي ما يعرج به من الأرض ومنها يهبط ما ينزل به منها

وكما اعترض بعضهم على الحنابلة في حديث رووه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال استوى على العرش فما يفضل منه إلا مقدار أربع أصابع قال المعترضون للحنابلة وهذا يوهم دخول كمية وإجراء هذا مستحيل في حق الرب إلا على قول المشبهة والمجسمة الذين يثبتون لله ذاتا لها كمية وضخامة وهذا مما اتفقنا نحن وأنتم على تكفير القائل به
فقال الحنابلة أما هذا الحديث فنحن لم نقله من عند أنفسنا فقد رواه عامة أئمة الحديث في كتبهم التي قصدوا فيها نقل الأخبار الصحيحة وتكلموا على توثقة رجاله وتصحيح طرقه ورواه من الأئمة جماعة أحدهم إمامنا أحمد وأبو بكر الخلال صاحبه وابن بطة والدارقطني في كتاب الصفات الذي جمعه وضبط طرقه وحفظ عدالة رواته وهو حديث ثابت لا سبيل إلى دفعه ورده إلا بطريق العناد والمكابرة والتأويل يمكن فإنه قد يطلق الفضل والمراد به الخروج عن حد الوصف والإختصاص ولهذا يقال حقق ملك فلان فلم يفضل منه إلا مقدار جريب بمعنى أنه لم يدخل تحت وصف الإختصاص

بالملكية إلا هذا المقدار وحينئذ فيقال فما خرج عن الإختصاص بوصف الإستواء إلا هذا المقدار وله تعالى أن يخص ما يشاء منه بوصف الإختصاص دون ما شاء والله أعلم
ومن المتشابه الإستواء في قوله تعالى الرحمن على العرش استوى وقوله ثم استوى على العرش الأعراف 54 وهو مذكور في سبع آيات من القرآن
فأما السلف فإنهم لم يتكلموا في ذلك بشيء جريا على عادتهم في المتشابه من عدم الخوض فيه مع تفويض علمه إلى الله تعالى والإيمان به
وروى الإمام اللالكائي الحافظ في السنة من طريق قرة ابن خالد عن الحسن عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها في قوله تعالى الرحمن على العرش استوى قالت الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة والبحث عنه كفر
وهذا له حكم الحديث المرفوع لأن مثله لا يقال من قبيل الرأي
وفي لفظ آخر قالت الكيف غير معقول والإستواء غير مجهول والإقرار به من الإيمان والجحود به كفر

وروى أيضا عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن أنه سئل عن قوله تعالى الرحمن على العرش استوى فقال الإستواء غير مجهول والكيف غير معقول ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق
وروى أيضا عن مالك أنه سئل عن الآية فقال الكيف غير معقول والإستواء غير مجهول والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة
ويروى عن الشعبي أنه سئل عن الإستواء فقال هذا من متشابه القرآن نؤمن به ولا نتعرض لمعناه
وعن الشفاعي أنه قال لما سئل عن الإستواء آمنت بلا تشبيه وصدقت بلا تمثيل واتهمت نفسي في الإدراك وأمسكت عن الخوض غاية الإمساك
وعن أحمد بن حنبل أنه قال استوى كما ذكر لا كما يخطر للبشر
وكلام السلف مستفيض بمثل هذا
وقد قال كثير من المتكلمين كابن التلمساني وغيره أن معنى قولهم والإستواء معلوم يعني أن محامل الإستواء معلومة في اللغة بعد نفي الإستقرار من القهر والغلبة والقصد إلى خلق شيء

في العرش ونحو ذلك من محامل الإستواء فهذه المحامل معلومة في اللسان العربي والكيف مجهول أي تعيين بعض منها مرادا لله مجهول لنا والسؤال عنه بدعة يعني أن تعيينه بطريق الظنون بدعة فإنه لم يعهد عن الصحابة التصرف في أسماء الله وصفاته بالظنون
قلت وهذا التفسير عندي غير مرضي فإنه لو كان المراد ذلك لقال والجواب عنه بدعة لأن المجيب هو الذي يطلب منه التعيين وأما السائل فمجمل وقوله والإستواء معلوم يعني بإعتبار محامله في اللغة ولو كان كذلك لقال والمراد مجهول
والذي يقتضيه صريح اللفظ أن المراد بقولهم الإستواء معلوم أي وصفه تعالى بأنه على العرش استوى معلوم بطريق القطع الثابت بالتواتر فالوقوف على حقيقته أمر يعود إلى الكيفية وهو الذي قيل فيه والكيف مجهول والجهالة فيه من جهة أنه لا سبيل لنا إلى معرفة الكيفية فإن الكيفية تبع للماهية وقولهم والسؤال عنه بدعة لأن الصحابة لم يسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم والتابعين لم يسألوا الصحابة ولأن جوابه يتضمن الكيفية ولهذا قيل في الجواب لمن دخلت عليهم الشبهة طالبين بسؤالهم التكييف والكيف مجهول فالذي ثبت نفيه بالشرع والعقل واتفاق السلف إنما هو علم العباد بالكيفية فعندها تنقطع الأطماع وعن دركها تقصر العقول بل هي قاصرة عما هو دون ذلك هذه الروح من المعلوم لكل أحد خروجها من الجسد وأن

الملك يقبضها وهذا المعلوم لكل أحد كيفيته مجهولة لكل أحد بل كيفية نزول الطعام والشراب إلى الجوف واستقرار كل في محل وتفريق خاصيته في الجسد مجهولة أفلا يعتبر العقل القاصر بذلك عن تعلقه بإدراك كيفية استواء ربه على عرشه سبحانه وتعالى
وأما أهل التأويل من الخلف فقد اختلفوا في الإستواء على نحو العشرين قولا
وقال الحافظ السيوطي في الإتقان وحاصل ما رأيت في ذلك سبعة أجوبة
أحدها ما روى مقاتل والكلبي عن ابن عباس أن استوى بمعنى استقر وهذا إن صح يحتاج إلى تأويل فإن الإستقرار مشعر بالتجسيم
قلت ولعل المراد أن هذا إنما هو تفسير لمجرد معنى أصل الإستواء فإنه الإستقرار كما في قوله تعالى واستوت على الجودي هود 44 وقوله فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك المؤمنون 28
ثانيها أن استوى بمعنى استولى
يعني فالإستواء هو القهر والغلبة ومعناه الرحمن غلب العرش وقهره يقال استوى فلان على الناحية إذا غلب أهلها

وقهرهم قال الشاعر ... قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق ...
ورد بوجهين
أحدهما أن الله تعالى مستول على الكونين والجنة والنار وأهلهما فأي فائدة في تخصيص العرش بالذكر
ولا يكفي في الجواب أنه حيث قهر العرش على عظمته واتساعه فغيره أولى لأن الأنسب في مقام التمدح بالعظمة التعميم بالذكر لقهره الأكوان الكلية بأسرها
ثانيهما أن الإستيلاء إنما يكون بعد قهره وغلبته والله تعالى منزه عن ذلك
وقد سئل الخليل بن أحمد إمام أهل اللغة والنحو هل وجدت في اللغة استوى بمعنى استولى فقال هذا مما لا تعرفه العرب ولا هو جار في لغتها سأله عن ذلك بشر المريسي
وأخرج اللالكائي في السنة عن ابن الأعرابي أنه سئل

عن معنى استوى فقال هو على عرشه كما أخبر فقيل له يا أبا عبدالله معناه استولى فقال اسكت لا يقال استولى على الشيء إلا إذا كان له مضاد فإذا غلب أحدهما قيل استولى
وفي رواية أخرى والله تعالى لا مضاد له فهو على عرشه كما أخبر
ثالثها أن الكلام تم عند قوله الرحمن على العرش ثم ابتدأ بقوله استوى له ما في السموات وما في الأرض ورد بأنه يزيل الأية عن نظمها ومرادها
رابعها أن الوقف على على والعرش مستأنف
قيل وهذا مما لا ينبغي أن يحكى لاستحالته وبعده عما نقله أهل التواتر من جر العرش وهو قد رفعه ولم يرفعه أحد من القراء وقد جعل على فعلا وهي هنا حرف باتفاق وأيضا فلو كانت فعلا لكتبت بالألف
وذكر البيهقي بإسناده عن ابن الأعرابي صاحب النحو

قال قال لي أحمد بن أبي داود يا أبا عبدالله يصح هذا في اللغة قال قلت يجوز على معنى ولا يجوز على معنى إذا قلت الرحمن علا من العلو فقد تم الكلام ثم قلت العرش استوى يجوز إن رفعت العرش لأنه فاعل ولكن إذا قلت له ما في السموات وما في الأرض فهو العرش فهذا كفر
خامسها أنه بمعنى صعد قاله أبو عبيد
ورد بأنه تعالى منزه عن الصعود
نعم الإستواء في اللغة يطلق على العلو والإستقرار نحو استوى على ظهر دابته وعلى الصعود نحو استوى على السطح وعلى القصد نحو ثم استوى إلى السماء فصلت 11 وعلى الإستيلاء نحو استوى على العراق أي استولى وظهر وعلى الإعتدال نحو استوى الشيء أي اعتدل وعلى الإنتهاء نحو استوى الرجل أي انتهى شأنه
وقال بعض المحققين من متكلمي الحنابلة الإستواء يقع على وجهين ما يتم معناه بنفسه وما يتم بحرف الجر
فالأول كقوله استوى النبات واستوى الطعام والمراد به تم وكمل ومنه قوله تعالى ولما بلغ أشده واستوى

القصص 14 أي تم وكمل
والثاني يختلف معناه باختلاف الحروف الجارة كقوله ثم استوى إلى السماء وقوله الرحمن على العرش استوى واستوى الأمر برأي الأمير واستوت لفلان الحال واستوى الماء مع الخشبة
سادسها أن معنى استوى أقبل على خلق العرش وعمد إلى خلقه كقوله ثم استوى إلى السماء أي قصد وعمد إلى خلقها قاله الفراء والأشعري وجماعة من أهل المعاني وقال إسماعيل الضرير إنه الصواب
قال السيوطي ويبعده تعديته ب على ولو كان كما ذكروه لتعدى ب إلى كما في قوله ثم استوى إلى السماء انتهى
قلت وأيضا فالعرش مخلوق قبل السموات والأرض كما وردت به النصوص وثم للترتيب فكيف عمد إلى خلقه بعدهما قال سبحانه إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش الأعراف 54
سابعها أنه يحمل على القصد إلى خلق شيء في العرش كما صار إليه الثوري
قلت هو قريب لكن يرده تعديه ب على كما تقدم
ثامنها أن الإستواء بمعنى العلو بالعضمة والعزة وأن صفاته

تعالى أرفع من صفات العرش على جلالة قدره
تاسعها أنه بمعنى قدر على العرش وهو قول القدرية والفرق بينه وبين قهر العرش وغلبه كما مر أن ذاك يحصل منه صفة فعل وهو القهر وهذا يحصل منه صفة ذات وهي القدرة
عاشرها قال ابن اللبان الإستواء المنسوب إليه تعالى بمعنى اعتدل أي قام بالعدل كقوله قائما بالقسط آل عمران 18 فقيامه بالقسط والعدل هو استواؤه ويرجع معناه إلى أنه أعطى بعزته كل شيء خلقه موزونا بحكمته البالغة
قلت ويرده أنه تعدى ب على ف يجيء ما قاله كما مر قريبا
الحادي عشر أن المراد بالعرش جملة المملكة
قال القرطبي وهذا غير صحيح لقوله تعالى وترى الملائكة حافين من حول العرش الزمر 75 وما كان حوله فهو خارج عنه والملائكة ليست خارجة عن جملة المملكة
الثاني عشر أن المراد بالإستواء هو انفراده بالتدبير فإنه قد استوى له جميع ما خلقه لعدم ما يشاركه فيه

قال القرطبي وهذا غير صحيح لأنه يقال انفرد بكذا ولا يقال على كذا ثم هو يؤدي إلى أنه لم يكن منفردا بالتدبير حتى خلق العرش
قال وهذا فساده يغني عن جوابه
الثالث عشر أن استوى بمعنى استوى عنده الخلائق القريب والبعيد فصاروا عند سواء نقله الكلبي عن ابن عباس
قال القرطبي وفيه ركاكة ومثله لا يليق بقول ابن عباس وإذا كان الاستواء بمعنى استوى الخلائق فأي شيء المعنى في قوله استوى على العرش
وقال هو وغيره الكلبي كذاب لا يحتج بشيء من روايته
الرابع عشر أن الإستواء بمعنى العلو بالغنى عن العرش
قال القرطبي وهذا فاسد لأن العرب تقول استغنى عن الشيء ولا تقول استغنى على الشيء ولأنه لو كان معنى الإستغناء لأدى إلى أن يكون إنما استغنى بعد خلق العرش
وأيضا فليس لتخصيص العرش بالذكر فائدة
الخامس عشر أن الإستواء صفة فعل بمعنى أنه تعالى فعل في العرش فعلا سمى به نفسه مستويا
وقال بهذا طائفة منهم الجنيد والشبلي
السادس عشر أن استوى بمعنى تجلى فالإستواء بمعنى التجلي

وقال بهذا كثير من مشايخ الصوفية وقالوا قد ثبت له سبحانه صفة التجلي بقوله سبحانه فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا الأعراف 143 ومعنى التجلي هو رفع الحجاب عن العرش الذي كان محجوبا به ولم يرتفع حجابة جملة إذ لو ارتفع جملة لتدكدك من هيبة الله تعالى جبل موسى عليه السلام
قلت وربما يرد هذا بأن الإستواء ذكر في سبع مواضع من القرآن فلو كان المراد به التجلي لعبر عنه في بعضها بالتجلي كما في قوله فلما تجلى ربه للجبل
السابع عشر قول الشيخ أبي الحسن الأشعري حيث قال أثبته مستويا على عرشه وأنفي كل استواء يوجب حدوثه
قال القرطبي فجعل الإستواء في هذا القول من مشكل القرآن الذي لا يعلم تأويله انتهى
وقد كانت طائفة من الأشعرية يثبتون لفظه ويمتنعون من تأويله
الثامن عشر قول الطبري وابن أبي زيد والقاضي عبدالوهاب وجماعة من شيوخ الحديث والفقه وابن عبدالبر والقاضي أبي بكر ابن العربي وابن فورك أنه سبحانه مستو على العرش بذاته وأطلقوا في بعض الأماكن فوق عرشه
قال القاضي أبوبكر وهو الصحيح الذي أقول به من غير تحديد ولا تمكين في مكان ولا مماسة

قال ابن تيمية على الوجه الذي يستحقه سبحانه من الصفات اللأئقة به
قال فإن قال قائل لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويا وذلك كله محال ونحو ذلك من الكلام فهذا لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت للأجسام وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم
أما استواء يليق بجلال الله ويختص به فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها كما يلزم سائر الأجسام
وصار هذا مثل قول القائل إذا كان للعالم صانع فإما أن يكون جوهرا أو عرضا وكلاهما محال إذ لا يعقل موجود إلا كذلك وقوله إذا كان مستويا على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير والفلك إذ لا يعلم استواء إلا هكذا لأن هذا القائل لم يفهم إلا إثبات استواء هو من خصائص المخلوقين
قال والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله فكما أنه موصوف بالعلم والبصر والقدرة ولا يثبت لذلك خصائص الأعراض التي للمخلوقين فكذلك سبحانه هو فوق عرشه لا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق تعالى الله عن ذلك انتهى

وقال القرطبي أظهر الأقوال وإن كنت لا أقول به ولا أختاره ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار أن الله سبحانه على عرشه كما أخبر في كتابه بلا كيف بائن من جميع خلقه هذا جملة مذهب السلف الصالح انتهى
والعجب من القرطبي حيث يقول وإن كنت لا أقول به ولا أختاره ولعله خشي من تحريف الحسدة فدفع وهمهم بذلك
وبهذا قال جماعة من الحنابلة لكن قالوا استوى على الوجه الذي يستحقه لذاته مما لا يشاركه فيه المحدث ولا يشابهه ولا يماثله ولا يدل على إثبات كمية ولا صفة كيفية بل على الوجه الذي يستحقه الله لنفسه
قالوا وإلى هذا الإشارة في حديث أم سلمة رضي الله عنها الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عند بدعة والبحث عنه كفر ورضي الله تعالى عن مالك بن أنس حيث قال أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه و سلم لجدل هؤلاء وكل من هؤلاء مخصوم بمثل ما خصم به الآخر فلم يبق إلا الرجوع لما قاله الله ورسوله والتسليم لهما

تنبيه
قال الكمال بن الهمام الحنفي بعد أن تكلم على

الإستواء ما حاصله وجوب الإيمان بأنه استوى على العرش مع نفي التشبيه وأما كون الإستواء بمعنى الإستيلاء على العرش مع نفي التشبيه فأمر جائز الإرادة إذ لا دليل على إرادته عينا فالواجب عينا ما ذكرنا لكن قال إذا خيف على العامة عدم فهم الإستواء إلا بالإتصال ونحوه من لوازم الجسمية فلا بأس بصرف فهمهم إلى الإستيلاء
قال وعلى نحو ما ذكر كل ما ورد مما ظاهره الجسمية في الشاهد كالإصبع واليد والقدم فإن الإصبع واليد صفة له تعالى لا بمعنى الجارحة بل على وجه يليق به وهو سبحانه أعلم به
وقد تؤول اليد والإصبع بالقدرة والقهر وقد يؤول اليمين في قوله الحجر الأسود يمين الله في الأرض على التشريف والإكرام لما ذكرنا من صرف فهم العامة عن الجسمية

قال وهو ممكن أن يراد ولا يجزم بإرادته على قول أصحابنا أنه من المتشابه وحكم المتشابه انقطاع معرفة المراد منه في هذه الدار وإلا لكان قد علم انتهى كلام ابن الهمام

باب
في ذكر الوجه والعين واليد واليمين والأصابع والكف والأنامل والصورة والساق والرجل والقدم والجنب والحقو والنفس والروح ونحو ذلك مما أضيف إلى الله تعالى مما وردت به الآيات والأحاديث مما يوهم التشبيه والتجسيم تعالى الله عن ذلك علو كبيرا
اعلم أن الله سبحانه مخالف لجميع الحوادث ذاته لا تشبه الذوات وصفاته لا تشبه الصفات لا يشبهه شيء من خلقه ولا يشبه شيئا من الحوادث بل هو منفرد عن جميع المخلوقات ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله له الوجود المطلق فلا يتقيد بزمان ولا يتخصص بمكان والوحدة المطلقة لقيامه بنفسه واستقلاله في جميع افعاله وكل ما توهمه قلبك أو سنح في مجاري فكرك أو خطر في بالك من حسن أو بهاء أو شرف أو ضياء أو جمال أو شبح مماثل أو شخص متمثل فالله تعالى بخلاف ذلك واقرأ ليس كمثله شيء ألا ترى أنه لما تجلى للجبل تدكدك لعظيم هيبته فكما أنه لا يتجلى لشيء إلى اندك كذلك لا يتوهمه قلب إلا هلك وارض لله بما رضيه لنفسه وقف عند خبره لنفسه مسلما مستسلما مصدقا بلا

مباحثة التنقير ولا مقايسة التفكير وله تعالى صفات مقدسة طريق إثباتها السمع فنثبتها ولا نعطلها لورود النص بها ولا نكيفها ولا نمثلها
وقد غلت طائفة في النفي فعطلته محتجين بأن الإشتراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الإشتباه فزعموا أنه سبحانه لا يوصف بالوجود بل يقال إنه ليس بمعدوم ولا يوصف بأنه حي ولا قادر ولا عالم بل يقال إنه ليس بميت ولا عاجز ولاجاهل وهذا مذهب أكثر الفلاسفة والباطنية
وغلت طائفة أخرى في الإثبات فشبهته فأثبتت له الصورة والجوارح حتى إن الهشامية من غلاة الرافضة زعموا كما قال القرطبي أن معبودهم سبعة أشبار بشبر نفسه وقالت الكرامية إنه جسم
قال وقد بالغ بعض أهل الإغواء فقال إنه على صورة الإنسان ثم اختلفوا فمنهم من قال إنه على صورة شيخ أشمط الرأس واللحية ومنهم من قال إنه على صورة شاب أمرد جعد قطط ومنهم من قال إنه مركب من لحم ودم ومنهم من قال إنه على قدر مسافة العرش لا يفضل من أحدهما عن الأخر شيء
تعالى الله عن أقوالهم علو كبيرا وعن مثله نهى الله تعالى بقوله يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق النساء 171

وقال ابن تيمية وأول من قال إن الله جسم هو هشام بن الحكم الرافضي
وفرقة أخرى أثبتت ما أثبته السمع من نحو سميع بصير عليم قدير وامتنعت من إطلاق السمع والبصر والعلم والقدرة وهم المعتزلة كما تقدم
وفرقة أخرى أثبتت الصفات المعنوية من نحو السمع والبصر والعلم والقدرة والكلام وهو مذهب جمهور أهل السنة والجماعة ومنهم أتباع أئمة المذاهب الأربعة
ثم اختلفوا فيما ورد به السمع من لفظ العين واليد والوجه والنفس والروح
ففرقة أولتها على ما يليق بجلال الله تعالى وهم جمهور المتكلمين من الخلف فعدلوا بها عن الظاهر إلى ما بحتمله التأويل من المجاز والإتساع خوف توهم التشبيه والتمثيل
وفرقة أثبتت ما أثبته الله ورسوله منها وأجروها على ظواهرها ونفوا الكيفية والتشبيه عنها قائلين إن إثبات البارئ سبحانه إنما هو الكيفية إثبات وجود بما ذكرنا لا إثبات كيفية فكذلك إثبات صفاته إنما هي إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف فإذا قلنا يد ووجه وسمع وبصر فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه فلا نقول إن معنى اليد القوة والنعمة ولا معنى السمع والبصر العلم ولا نقول إنها جوارح

وهذا المذهب هو الذي نقل الخطابي وغيره أنه مذهب السلف ومنهم الأئمة الأربعة وبهذا المذهب قال الحنفية والحنابلة وكثير من الشافعية وغيرهم وهو إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها محتجين بأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تكييف فكذلك إثبات صفاته إنما هي إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف
وقالوا إنا لا نلتفت في ذلك إلى تأويل لسنا منه على ثقة ويقين لإحتمال أن يكون المراد غيره لأن التأويل إنما هو أمر مأخوذ بطريق الظن والتجويز لا على سبيل القطع والتحقيق فلا يجوز أن يبنى الإعتقاد على أمور مظنونة ويعرض عن ما ثبت بالقطع والنص وهذا مذموم عند السلف
قال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها والواجب حملها على ظاهرها وأنها صفات لله لا تشبه صفات الخلق ولا نعتقد التشبيه فيها لكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة وذكر بعض كلام الزهري ومكحول ومالك والثوري والليث وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن عيينة والفضيل بن عياض ووكيع وعبدالرحمان بن مهدي وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد ومحمد بن جرير الطبري وغيرهم في هذا الباب وفي حكاية ألفاظهم طول إلى أن قال ويدل على إبطال التأويل أن الصحابة والتابعين حملوها على ظواهرها ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفها عن ظاهرها فلو كان التأويل سائغا لكانوا إليه أسبق لما فيه من

إزالة التشبيه ورفع الشبهة انتهى
وقال القرطبي قال الإمام الترمذي بعد ذكره حديث ما تصدق أحد بصدقة إلا أخذها الرحمان بيمينه وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما أشبه هذا من الروايات من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا نثبت الروايات في هذا ونؤمن بها ولا نتوهم ولا يقال كيف هكذا روي عن مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وعبدالله بن المبارك وهذا وقول أهل العلم من أهل السنة والجماة وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا هذا تشبيه وقد ذكر الله تعالى في غير موضع من كتابه اليد ونحوها فتأولت الجهمية هذه الآيات وفسروها على غير ما فسر أهل العلم فقالوا إن الله لم يخلق آدم بيده وقالوا معنى اليد ها هنا القدرة
قال الخطابي إنها ليست بجوارح ولا أعضاء ولا أجزاء

ولكنها صفات لا كيفية لها ولا تتأول فيقال معنى اليد النعمة أو القوة ومعنى السمع والبصر العلم ومعنى الوجه الذات على ما ذهب إليه نفات الصفات
وقال ابن عبدالبر أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة مخصوصة
وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة ويزعمون أن من أقر بها مشبه وهم عند من أقر بها نافون للمعبود
والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة انتهى كلام الحافظ ابن عبدالبر إمام أهل المغرب في عصره
وقال القرطبي قال إسحاق بن إبراهيم إنما يكون التشبيه إذا قال يد كيد أو مثل يد أو سمع كسمع أو مثل سمع فإذا قال سمع كسمع أو مثل سمع فهذا التشبيه وأما إذا قال لله تعالى يد وسمع وبصر ولا يقول كيد ولا مثل سمع ولا كسمع فهذا لا يكون تشبيها وهو كما قال سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير الشورى 11

وروى حرملة بن يحيى قال سمعت عبدالله بن وهب يقول سمعت مالك بن أنس يقول من وصف شيئا من ذات الله تعالى مثل قوله وقالت اليهود يد الله مغلولة المائدة 64 فأشار بيده إلى عنقه قطعت ومثل قوله وهو السميع البصير فأشار إلى عينيه أو أذنيه أو شيء من بدنه قطع ذلك منه لأنه شبه الله تعالى بنفسه
وقال بعض المحققين إن صفات الرب تعالى معلومة من حيث الجملة والثبوت غير معقولة من حيث التكييف والتحديد فيكون المؤمن بها مبصرا من وجه أعمى من وجه مبصرا من حيث الإثبات والوجود أعمى من حيث التكييف والتحديد
قال ولهذا يحصل الجمع بين الإثبات لما وصف الله به نفسه وبين نفي التحريف والتشبيه والوقوف وذلك هو مراد الرب منا في إبراز صفاته لنا لنعرفه بها ونؤمن بحقائقها وننفي عنها التشبيه ولا نعطلها بالتحريف والتأويل وانتهى
قال الخطابي فإن قيل كيف يصح الإيمان بما لا نحيط علما بحقيقته أو كيف نتعاطى وصفا بشيء لا درك له في عقولنا
قيل له إن إيماننا صحيح بحق ما كلفناه منها وعلمنا يحيط بالأمر الذي ألزمناه فيها وإن لم نعرف لماهيتها حقيقة وكيفية وقد أمرنا أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة ونعيمها والنار وأليم عذابها وعقابها ومعلوم أنا لا نحيط بكل شيء منها على التفصيل وإنما كلفنا الإيمان بها جملة ألا ترى أنا نعلم عدد أسماء الأنبياء وكثير من الملائكة ولا نحيط

بصفاتهم ولا نعلم خواص معانيهم ولم يكن ذلك قادحا في إيماننا بما أمرنا أن نؤمن به من أمرهم وقد حجب عنا علم الروح ومعرفة كيفيته مع علمنا بأنه آلة التمييز وبه تدرك المعارف وهذه كلها مخلوقة لله فما ظنك بصفات رب العالمين سبحانه
إذا تقرر هذا فمن المتشابه الوجه في قوله تعالى ويبقى وجه ربك الرحمن 27 وقوله فأينما تولوا فثم وجه الله البقرة 115 وقوله إنما نطعمكم لوجه الله الإنسان 9
وفي الحديث من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله
وفي حديث آخر أعوذ بوجهك والأحاديث كثيرة
وتأويله عند أهل التأويل أن المراد بالوجه الذات المقدسة فأما صفة زائدة على الذات فلا وهو قول المعتزلة وجمهور المتكلمين
ويروى عن ابن عباس الوجه عبارة عنه عز و جل كما قال ويبقى وجه ربك
وقال ابن فورك قد تذكر صفة الشيء والمراد به الموصوف

توسعا كما يقول القائل رأيت علم فلان ونظرت إلى علمه والمراد بذلك نظرت إلى العالم
وقال القرطبي قال الحذاق الوجه راجح إلى الوجود والعبارة عنه بالوجه من مجاز الكلام إذ كان الوجه أظهر الأعضاء في المشاهدة
وقال أبو المعالي وأما الوجه فالمراد به وجود البارئ تعالى عند معظم أئمتنا والدليل على ذلك قوله تعالى ويبقى وجه ربك والموصوف بالبقاء عند تعرض الخلق للفناء هو وجود البارئ تعالى
وقوله تعالى إنما نطعمكم لوجه الله المراد به لله الذي له الوجه أي الوجود
وكذلك قوله إلا ابتغاء وجه ربك الأعلى الليل 20 أي الذي له الوجه
وقيل في قوله فأينما تولوا فثم وجه الله أي فثم رضا الله وثوابه و إنما نطعمكم لوجه الله أي لرضاه وطلب ثوابه ومنه من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله
وقيل المراد فثم الله والوجه صلة أو الوجه عبارة عن الذات أي فثم ذاته بمعنى الحصول العلمي أي فعلمه معكم أينما كنتم

وقيل المراد بالوجه الجهة التي وجهنا الله إليها أي القبلة
وحكى المزني عن الشافعي فأينما تولوا فثم وجه الله أي فثم الوجه الذي وجهكم إلي أي فهناك جهته وقبلته التي أمر بها
ومذهب السلف أن الوجه صفة ثابتة لله ورد بها السمع فتتلقى بالقبول
ويبطل مذهب أهل التأويل ما قاله البيهقي والخطابي في قوله تعالى ويبقى وجه ربك ذو الجلال فأضاف الوجه إلى الذات وأضاف النعت إلى الوجه فقال ذو الجلال ولو كان ذكر الوجه صلة ولم يكن صفة للذات لقال ذي الجلال فلما قال ذو الجلال علمنا أنه نعت للوجه وأن الوجه صفة للذات
وقالت الحنابلة لتأييد مذهب السلف إنه قد ثبت في الخطاب العربي الذي أجمع عليه أهل اللغة أن تسمية الوجه في أي محل وقع من الحقيقة والمجاز يزيد على قولنا ذات فأما في الحيوان فذلك مشهور حقيقة ولا يمكن دفعه وأما في مقامات المجاز فكذلك أيضا لأنه يقال فلان وجه القوم لا يراد به ذوات القوم إذ ذوات القوم غيره قطعا ويقال هذا وجه الثوب لما هو أجوده ويقال هذا وجه الرأي أي أصحه وأقومه وأتيت بالخبر على وجهه أي على حقيقته إلى غير ذلك مما

يقال فيه الوجه
فإذا كان هذا هو المستقر في اللغة وجب أن يحمل الوجه في حق البارئ على وجه يليق به صفة زائدة على تسمية قولنا ذات
فإن قيل يلزم أن يكون عضوا وجارحة ذات كمية وكيفية وهو باطل
فالجواب ما قالوه إن هذا لا يلزم لأن ما ذكره المعترض ثبت بالإضافة إلى الذات في حق الحيوان المحدث لا من خصيصة صفة الوجه ولكن من جهة نسبة الوجه إلى جملة الذات فيما ثبت للذات من الماهية المركبة وذلك أمر أدركناه بالحس في جملة الذات فكانت الصفات مساوية للذات بطريق أنها منها ومنتسبة إليها نسبة الجزء من الكل
فأما الوجه المضاف للبارئ سبحانه فإنا ننسبه إليه في نفسه نسبة الذات إليه
وقد ثبت أن الذات في حق البارئ لا توصف بأنها جسم مركب تدخله الكمية وتتسلط عليها الكيفية ولا نعلم لها ماهية فصفته التي هي الوجه كذلك لا يوصل لها إلى ما هية ولا يوقف لها على كيفية ولا تدخلها التجزئة المأخوذة من الكمية لأن هذه إنما هي صفات الجواهر المركبة أجساما والله منزه عن ذلك ولو جاز هذا الإعتراض في الوجه لقيل مثله في السمع والبصر والعلم فإن العلم في الشاهد عرض قائم بقلب يثبت بطريق ضرورة أو اكتساب وذلك غير لازم في حق البارئ لأنه مخالف للشاهد

في الذاتية وغير مشارك لها في إثبات ماهية أو كمية أو كيفية
وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري إن الله على عرشه كما قال الرحمن على العرش استوى وإن له يدين بلا كيف كما قال خلقت بيدي ص 75 وإن له عينين بلا كيف كما قال تجري بأعيننا القمر 14 وإن له وجها بلا كيف كما قال ويبقى وجه ربك وإنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال وجاء ربك والملك صفا صفا الفجر 22 وإنه يقرب من عباده كيف شاء كما قال ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وندين أنه يقلب القلوب بين إصبعين من أصابعه وأنه يضع السماوات على إصبع والأرضين على إصبع كما جاءت به الرواية إلى أن قال ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا وأطال الكلام في هذا وأمثاله في كتابه الذي سماه الإبانة في أصول الديانة وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه وعليه يعتمدون في الذب عنه عند من يطعن عليه
وقال القاضي ابن الباقلاني فإن قال قائل فما الدليل على أن لله وجها ويدا قيل له قوله ويبقى وجه ربك وقوله لما خلقت بيدي فأثبت لنفسه وجها ويدا
وقد تقدم كلام الإمام أبي حنيفة رحمه الله حيث قال

وله تعالى وجه ويد ونفس فما ذكر الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف ولا يقال إن يده قدرته أو نعمته لأن فيه إبطال الصفة وهو قول أهل القدر والإعتزال إلى آخر ما قال كما تقدم

تنبيه
روى مسلم وابن ماجة حديث إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه
قال النوري معناه الإخبار أنه تعالى لا ينام وأنه مستحيل في حقه النوم فإن النوم انغمار وغلبة على العقل يسقط به الإحساس والله منزه عن ذلك وسبحات وجهه نوره وجلاله وبهاؤه بضم السين والباء
وقيل سبحات الوجه محاسنه لأنه يقال سبحان الله عند رؤيتها
والحجاب أصله في اللغة المنع والستر وهو إنما يكون للأجساد والله منزه عن ذلك

والمراد هنا المانع من رؤيته وسمى ذلك المانع نور لأنه يمنع في العادة من الإدراك كشعاع الشمس والمراد بالوجه الذات والمراد بما انتهى إليه بصره جميع المخلوقات لأن بصره سبحانه محيط بجميع الكائنات والتقدير لو زال المانع من رؤيته وهو الحجاب المسمى نورا وتجلى لخلقه لأحرق جلال ذاته جميع مخلوقاته لكنه محتجب عن الخلق بأنوار عزه وجلاله
وقيل الحجاب المذكور في هذا الحديث وغيره يرجع إلى الخلق لأنهم هم المحجوبون عنه فالحجاب راجع إلى منع الإبصار من الإصابة بالرؤية فلو كشف الحجاب الذي على أعين الناس ولم يثبتهم لرؤيته لاحترقوا من جلاله وهيبته كما خر موسى صعقا وتقطع الجبل دكا حين تجلى سبحانه له
ومن المتشابه العين في قوله تعالى ولتصنع على عيني طه 39 وقوله فإنك بأعيننا الطور 48 وقوله تجري بأعيننا القمر 14
وتأويله أن المراد تجري بأعيننا أي بمرأى منا أي ونحن نراها أو أن المراد بأعيننا أي بحفظنا وكلاءتنا أو أن المراد به أعين الماء أي تجري بأعين خلقناها وفجرناها فهي إضافة ملك لا إضافة صفة ذاتية والمراد تجري بأوليائنا وخيار خلقنا

وقوله ولتصنع على عيني أي تربى وتغذى على مرأى مني وكذا فإنك بأعيننا أي بمرأى منا وفي حفظنا كقولهم أنت بعين الله أي في حفظه
وقال بعضهم العين مؤولة بالبصر والإدراك بل قيل إنها حقيقة في ذلك خلافا لتوهم بعض الناس أنا مجاز قال وإنما المجاز في تسمية العضو بها
ومذهب السلف إثبات ذلك صفة له تعالى لحديث البخاري ومسلم وغيرهما حين ذكر الدجال عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال إن الله لا يخفى عليكم إن الله ليس بأعور وأشار بيده إلى عينيه الحديث
قال القرطبي قال العلماء منهم البيهقي وفي هذا نفي نقص العور عن الله تعالى وإثبات العين له صفة وعرفنا بقوله تعالى ليس كمثله شيء أنها ليست بحدقة وأن الوجه ليس بصورة وأنها صفة ذات انتهى
وقالت الحنابلة قد ورد السمع بإثبات صفة له تعالى وهي العين تجري مجرى السمع والبصر وليس المراد إثبات عين هي حدقة ماهيتها شحمة لأن هذه العين من جسم محدث وأما العين التي وصف بها البارئ فهي مناسبة لذاته في كونها غير

جسم ولا جوهر ولا عرض ولا يعرف لها ماهية ولا كيفية قالوا وقد امتنعت المعتزلة والأشعرية من أن يقال لله عين فأما المعتزلة فيقوى ذلك عندهم لأنهم لا يقولون سميع بسمع بصير ببصر بل يقولون بصير لذاته سميع لذاته وأما الأشعرية فيضعف هذا على قولهم لأنهم يوافقون على أنه بصير ببصر سميع بسمع وإنما امتنعوا من تسمية عين لما استوحشوا من معنى العين في الشاهد فقاوا بالتأويلات ومن الفاسد قياس الغائب على الشاهد
ومن المتشابه اليد في قوله تعالى يد الله فوق أيديهم الفتح 10 لما خلقت بيدي ص 75 بل يداه مبسوطتان المائدة 64 مما عملت أيدينا يس 71 قل إن الفضل بيد الله آل عمران 73
وتأويله أن المراد باليد القدرة
وقال الأشعري اليد صفة ورد بها الشرع والذي يلوح من معنى هذه الصفة أنها قريبة من معنى القدرة إلا أنها أخص والقدرة أعم كالمحبة مع الإرادة والمشيئة فإن في اليد تشريفا لازما
وذهبت المعتزلة وطائفة من الأشعرية إلى أن المراد باليدين في قوله لما خلقت بيدي معنى النعمتين وطائفة من الأشعرية أن المراد باليدين هنا القدرة لأن اليد في اللغة عبارة عن القدرة كقوله

فقمت ومالي بالأمور يدان ...
ويحقق هذا ويوضحه أن الخلق من جهة الله إنما هو مضاف إلى قدرته لا إلى يده ولهذا يستقل في إيجاد الخلق بقدرته ويستغني عن يد وآلة يفعل بها مع قدرته
وقوله بل يداه مبسوطتان المائدة 64 ثنى اليد مبالغة في الرد على اليهود ونفي البخل عنه وإثباتا لغاية الجود فإن غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطيه بيديه وتنبيها على منح الدنيا والآخرة
أو المراد بالتثينة باعتبار نعمة الدنيا ونعمة الآخرة
أو باعتبار قوة الثواب وقوة العقاب
ومذهب السلف والحنابلة أن المراد إثبات صفتين ذاتيتين تسميان يدين يزيدان على النعمة والقدرة محتجين بأن الله تعالى أثبت لآدم من المزية والإختصاص ما لم يثبت مثله لإبليس بقوله لما خلقت بيدي ص 75 وإلا فكان إبليس يقول وأنا أيضا خلقتني بيديك فلا مزية لآدم ولا تشريف
فإن قيل إنما أضيف ذلك إلى آدم ليوجب له تشريفا وتظيما على إبليس ومجرد النسبة في ذلك كافي في التشريف كناقة الله وبيت الله فهذا كاف في التشريف وإن كانت النوق والبيوت كلها لله
فالجواب ما قالوه أن التشريف بالنسبة إذا تجردت عن إضافة إلى صفة اقتضى مجرد التشريف فأما النسبة إذا اقترنت بذكر صفة أوجب ذلك إثبات الصفة التي لولاها ما تمت النسبة فإن قولنا خلق الله الخلق بقدرته لما نسب الفعل إلى تعلقه بصفة

الله اقتضى ذلك إثبات الصفة وكذا أحاط بالخلق بعلمه يقتضي إحاطة بصفة هي العلم فكذلك هنا لما كان ذكر التخصيص مضافا إلى صفة وجب إثبات تلك الصفة على وجه يليق به سبحانه لا بمعنى العضو والجارحة والجسمية والبعضية والكمية والكيفية تعالى الله عن ذلك
وأيضا فلو أراد باليد النعمة لقال لما خلقت ليدي لأنه خلق لنعمة لا بنعمة
وأيضا فقدرة الله واحدة لا تدخلها التثنية والجمع
وقال البغوي في قوله بيدي في تحقيق الله التثنية في اليد دليل على أنها ليست بمعنى القدرة والقوة والنعمة وأنهما صفتان من صفات ذاته
وقال ابن اللبان فإن قلت فما حقيقة اليدين في خلق آدم قلت الله أعلم بما أراد قال والذي يظهر أن اليدين استعارة لنور قدرته القائم بصفة فضله وصفة عدله
وقال البيهقي في كتاب الأسماء والصفات باب ما جاء في إثبات اليدين صفتين لا من حيث الجارحة قال الله يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ص 75 وقال بل يداه مبسوطتان المائدة 64 وذكر الأحاديث الصحاح في ذلك

كحديث يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده وحديث أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك الألواح بيده وفي لفظ وكتب لك التوراة بيده وذكر أحاديث كثيرة مثل والخير بيديك
وقال البيهقي قال بعض أهل النظر قد تكون اليد بمعنى القوة كقوله داود ذا الأيد ص 17 ذا القوة وبمعنى الملك والقدرة كقوله إن الفضل بيد الله آل عمران 73 وبمعنى النعمة كقولهم لي عند فلان يد وتكون صلة أي زائدة كقوله مما عملت أيدينا أنعاما يس 71 أي مما عملناه نحن وبمعنى الجارحة كقوله وخذ بيدك ضغثا ص 44
قال فأما قوله لما خلقت بيدي فلا يحمل على الجارحة لأن البارئ واحد لا يتبعض ولا على القوة والقدرة والملك والنعمة والصلة لأن الإشتراك يقع حينئذ بين وليه آدم

وعدوه إبليس ويبطل ما ذكره من تفضيله عليه لبطلان معنى التخصيص إذ الشياطين والأباليس وجماعة الكفرة خلقهم الله بقدرته ونعمه على آدم غير منحصرة فلم يبق إلا أن يحملا على صفتين تعلقتا بخلق آدم تشريفا له دون خلق إبليس تعلق القدرة بالمقدور لا من طريق المباشرة ولا من حيث المماسة وليس لذلك التخصيص وجه غير ما بينه الله تعالى في قوله لما خلقت بيدي انتهى
تنبيه
من هذا النمط حديث الترمذي وابن ماجه إن الله تعالى لما خلق الخلق كتب بيده على نفسه إن رحمتي تغلب غضبي
وفي حديث آخر إن الله تعالى خلق ثلاثة أشياء بيده خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس الفردوس بيده
وحديث أحمد ومسلم إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسييء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسييء الليل

قيل بسط اليد إستعارة في قبول التوبة وإنما ورد لفظ اليد لأن العرب إذا رضي أحدهم الشيء بسط يده لقبوله وإذا كرهه قبضها عنه فخوطبوا بما يفهمونه وهو مجاز فإن يد الجارحة مستحيلة في حقه تعالى
ومن المتشابه القبضة واليمين في وقوله تعالى والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه الزمر 67
وحديث البخاري ومسلم يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض
وحديث مسلم يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى الحديث
وحديث مسلم أيضا يأخذ الله سماواته وأرضيه بيديه فيقول أنا الله ويبسطها أنا الملك

قال البيهقي المتقدمون من هذه الأمة لم يفسروا ما ورد من الآي والأخبار في هذا الباب مع اعتقادهم بأجمعهم أن الله واحد لا يجوز عليه التبعيض
قال وذهب بعض أهل النظر إلى أن اليمين يراد به اليد واليد لله صفة بلا جارحة فكل موضع ذكرت فيه من الكتاب أو السنة فالمراد بذكرها تعلقها بالمكان المذكور معها من الطي والأخذ والقبض والبسط والقبول والإنفاق وغير ذلك تعلق الصفة الذاتية بمقتضاه من غير مباشرة ولا مماسة وليس في ذلك تشبيه بحال
وهذا مذهب الحنابلة
قال الخطابي وليس معنى اليد عندنا الجارحة وإنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها وننتهي إلى حيث انتهى بها الكتاب والأخبار الصحيحة وهو مذهب أهل السنة والجماعة
وقال بعض أهل التأويل كما في البيضاوي وغيره في الآية هو تنبيه على عظمته وكمال قدرته على الأفعال العظام التي تتحير فيها الأفهام ودلالة على أن تخريب العالم أهون شيء عليه على طريقة التمثيل والتخييل من غير اعتبار القبضة واليمين لا حقيقة ولا مجازا

وقال بعضهم هو لبيان عظمة الله وجلاله وقدرته وأن المكونات كلها منقادة لإرادته ومسخرات بأمره
وذهب آخرون إلى أن القبض قد يكون بمعنى الملك والقدرة كقولهم ما فلان إلا في قبضتي أي قدرتي ويقولون الأشياء في قبضة الله أي في ملكه وقدرته وعلى هذا التأويل مخرج الآية والحديث

تنبيه
في حديث مسلم وغيره إن المقسطين عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمان وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا
قال النووي هو من أحاديث الصفات إما نؤمن بها ولا نتكلم بتأويل ونعتقد أن ظاهرها غير مراد وأن لها معنى يليق بالله تعالى أو تؤول على أن المراد بكونهم على اليمين الحالة الحسنة والمنزلة الرفيعة
وقوله وكلتا يديه يمين فيه تنبيه على أنه ليس المراد باليمين الجارحة وأن يديه تعالى بصفة الكمال لا نقص في واحدة منهما لأن الشمال تنقص عن اليمين
وقال بعضهم وقد تكون اليمين بمعنى التبجيل والتعظيم

يقال فلان عندنا باليمين أي بالمحل الجليل ومنه قول الشاعر ... أقول لناقتي إذ بلغتني ... لقد أصبحت عندي باليمين ...
أي المحل الرفيع
قلت أحسن من هذا ما أوردته في كتابي القول البديع في علم البديع في باب التمثيل ما أنشده الرماح بن ميادة في قوله ... ألم أك في يمنى يديك جعلتني ... فلا تجعلني بعدها في شمالكا ...
أراد أن يقول ألم أكن قريبا منك فلا تجعلني بعيدا عنك فعدل عنه إلى لفظ التمثيل لما فيه من زيادة المعنى لما تعطيه لفظتا اليمين والشمال من الأوصاف لأن اليمين أشد قوة معدة للطعام والشراب والأخذ والعطاء وكل ما شرف والشمال بالعكس واليمين مشتق من اليمن وهو البركة والشمال من الشؤم فكأنه قال ألم أكن مكرما عندك فلا تجعلني مهانا وكنت منك في المكان الشريف فلا تجعلني في الوضيع
قال البيهقي وقد روي ذكر الشمال لله تعالى من طريقين في أحدهما جعفر بن الزبير وفي الآخر يزيد الرقاشي وهما

متروكان وكيف يصح ذلك وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سمى كلتا يديه يمينا وكأن من قال ذلك أرسله من لفظه على ما وقع له أو على عادة العرب من ذكر الشمال في مقابلة اليمين
وقال الخطابي ليس فيما يضاف إلى الله سبحانه من صفة اليدين شمال لأن الشمال محل النقص والضعف والله أعلم
وأما الأصابع فروى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا محمد أو يا أبا القاسم إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع والأرضين على إصبع والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلائق على إصبع ثم يهزهن فيقول أنا الملك أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم تعجبا مما قال الحبر وتصديقا له ثم قرأ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه الزمر 67
وفي البخاري إنه إذا كان يوم القيامة جعل الله السماوات

على إصبع والأرضين على إصبع والخلائق على إصبع ثم يهزهن ثم يقول أنا الملك فلقد رأيت النبي صلى الله عليه و سلم يضحك حتى بدت نواجذه تعجبا وتصديقا لقوله ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم وما قدروا الله حق قدره إلى قوله يشركون
وفي الترمذي وصححه عن ابن عباس قال مر يهودي بالنبي صلى الله عليه و سلم فقال له يا يهودي حدثنا فقال كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه والأرضين على ذه والجبال على ذه والماء على ذه وسائر الخلق على ذه وأشار بخنصره أولا ثم تابع حتى بلغ الإبهام فأنزل الله وما قدروا الله حق قدره
وروى البخاري ومسلم حديث إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمان كقلب واحد يصرفها كيف يشاء ثم قال عليه السلام اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك
قال الخطابي وذكر الأصابع لم يوجد في شيء من الكتاب والسنة المقطوع بصحتها واعترض بأن ذلك ثابت في صحيح السنة لكن الواجب في هذا أن تمر كما جاءت ولا يقال فيها

إن معناها النعم لا أن يقال إصبع أو أصابع كأصابعنا ولا يد كأيدينا ولا قبضة كقبضتنا
وقال النووي هذه من أحاديث الشبهات وفيها القولان أحدهما الإيمان بها من غير تعرض لتأويل ولا لمعرفة المعنى بل نؤمن بها وأن ظاهرها غير مراد لقوله تعالى ليس كمثله شيء الشورى 11 ثانيهما يتأول بحسب ما يليق فعلى هذا فالمراد المجاز كما يقال فلان في قبضتي وفي كفي لا يراد أنه حال في كفه بل المراد تحت قدرتي ويقال فلان في خنصري وبين إصبعي أقلبه كيف شئت يعني أنه هين علي والتصرف فيه كيف شئت فمعنى الحديث أنه سبحانه يتصرف في قلوب عباده وغيرها كيف شاء لا يمتنع عليه منها شيء ولا يفوته ما أراده كما لا يمتنع على الإنسان ما كان بين إصبعيه فخاطب العرب كما يفهمونه ومثله بالمعاني الحسية تأكيدا له في نفوسهم فإن قيل قدرة الله تعالى واحدة والإصبعان للتثنية قال والجواب أن هذا مجاز واستعارة واقعة موقع التمثيل بحسب ما اعتادوه غير مقصود به التثنية والجمع
وفي النهاية إطلاق الأصابع عليه تعالى مجاز كإطلاق اليد واليمين والعين والسمع وهو جار مجرى التمثيل والكناية عن سرعة تقلب القلوب وأن ذلك أمر معقود بمشيئة الله

وتخصيص ذكر الأصابع كناية عن إجراء القدرة والبطش لأن ذلك باليد والأصابع
وقال القرطبي وغيره والإصبع قد تكون بمعنى القدرة على الشيء وسهولة تقليبه كما يقول من استسهل شيئا واستخفه مخاطبا لمن استثقله أنا أحمله على إصبعي وأرفعه بإصبعي وأمسكه بخنصري فهذا مما يراد به الإستظهار في القدرة على الشيء فلما كانت السماوات والأرض أعظم الموجودات وكان إمساكها إلى الله كالشيء الحقير الذي نجعله بين أصابعنا ونهزه بأيدينا ونتصرف فيه كيف شئنا دل ذلك على قوته القاهرة وعظمته الباهرة لا إله إلا هو سبحانه
وقال بعض المحققين هذا الحديث من جملة ما يتنزه السلف عن تأويله كأحديث السمع والبصر واليد فإن ذلك يحمل على ظاهره ويجرى بلفظه الذي جاء به من غير أن يشبه بمشبهات الجنس أو يحمل على معنى المجاز والإتساع بل يعتقد أنها صفات الله تعالى لا كيفية لها وإنما تنزهوا عن تأويل هذا القسم لأنه لا يلتئم معه ولا يحمل ذلك على وجه يرتضيه العقل إلا ويمنع منه الكتاب والسنة من وجه آخر قال ومثل هذا ليس في الحقيقة من أقسام الصفات ولكن ألفاظ مشاكلة لها في وضع الإسم
وقال الطيبي اعلم أن للناس فيما جاء من صفات الله فيما يشبه صفات المخلوقين تفصيلا وذلك أن المتشابه قسمان قسم

يقبل التأويل وقسم لا يقبله بل علمه مختص بالله تعالى ويقفون عند قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله آل عمران 7 كالنفس في قوله تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك المائدة 116 والمجيء في قوله وجاء ربك والملك الفجر 22 وتأويل فواتح السور مثل آلم وحم من هذا القبيل
وذكر الشيخ السهروردي في كتاب العقائد أخبر الله تعالى أنه استوى على العرش وأخبر رسوله بالنزول وغير ذلك مما جاء في اليد والقدم والتعجب فكل ما ورد من هذا القبيل دلائل التوحيد فلا يتصرف فيه بتشبيه ولا تعطيل فلولا إخبار الله تعالى وإخبار رسوله ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى وتلاشى دونه عقل العقلاء ولب الألباء
قال الطيبي هذا المذهب هو المعتمد عليه وبه يقول السلف الصالح ومن ذهب إلى التأويل شرط فيه أن يكون مما يؤدي إلى تعظيم الله تعالى وجلاله وتنزيهه وكبريائه وما لا تعظيم فيه فلا يجوز الخوض فيه فكيف بما يؤدي إلى التجسيم والتشبيه انتهى
وهو كلام في غاية التحقيق إلا أن ترك التأويل مطلقا وتفويض العلم إلى الله أسلم
وأما الساعد والذراع قال القرطبي أسند البيهقي وغيره حديث وساعد الله أشد من ساعدك وموسى الله أحد من موساك

وذكر البيهقي أيضا أن عروة بن الزبير سأل عبد الله بن عمرو بن العاصي أي الخلق أعظم قال الملائكة قال من ماذا خلقت قال خلقت من نور الذراعين والصدر
قال هو حديث موقوف على عبدالله بن عمرو وراويه رجل غير مسمى فهو منقطع وقال ابن فورك روى سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبدالله بن عمرو قال خلق الله تعالى الملائكة من شعر ذراعيه وصدره أو من نورهما
قال ابن فورك وعبدالله لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم قيل إن عبدالله بن عمرو أصاب وسقين من الكتب يوم اليرموك فكانوا يقولون له إذا حدثهم حدثنا بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا تحدثنا عن وسقيك يوم اليرموك انتهى
قلت عبدالله بن عمرو أجل من أن يحكى عنه مثل هذا فإن وقع فيه كذب فهو ممن قبله وإن صح عنه مثل هذا الحديث فله حكم المرفوع والتأويل محتمل فقد رواه أسامة

ولم يقل فيه ذراعيه وصدره بل قال من نور الذراعين والصدر مطلقا غير مضاف وإذا كان كذلك لم ينكر أن يكون ذلك صدرا وذراعين لبعض خلقه أو أنهما من أسماء بعض مخلوقاته فقد وجد في النجوم ما يسمى ذراعين وحينئذ فليس بمستنكر أن يكون هذا الإسم اسما لبعض مخلوقاته تعالى خلق منه الملائكة
وأما الساعد فإنه يطلق بمعنى القوة والتدبير كقولهم جمعت هذا المال بساعدي يعني برأيه وتدبيره وهو المراد في الحديث والمعنى أمر الله أنفذ من أمرك وقدرته أنفذ من قدرتك وإنما عبر عنه بالساعد للتمثيل لأنه محل القوة يوضح ذلك قوله وموساه أحد من موساك يعني أن قطعه في مقدوراته أسرع من قطعك فعبر عن القطع بالموسى لسرعة قطعه
وأما الكف والأنامل والصورة فقد روى الترمذي عن معاذ بن جبل قال احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس فخرج سريعا فثوب بالصلاة فصلى رسول الله فلما سلم دعا بصوته فقال لنا على مصافكم كما أنتم ثم أقبل علينا فقال أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم لغداة إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال يا محمد قلت لبيك ربي قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري قالها ثلاثا قال فرأيته وضع كفه بين كتفي فوجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفت فقال يا محمد قلت

لبيك ربي قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت في الكفارات قال ما هن قلت مشي الأقدام إلى الحسنات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء على المكرهات الحديث
قال الترمذي حديث حسن صحيح
وقال سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال هذا حديث حسن صحيح
قال ابن فورك قوله وضع كفه بين كتفي وروي بين كنفي بالنون
فأما الكف فقيل هو بمعنى القدرة كقوله ... هون عليك فإن الأمور ... بكف الإله مقادريها ...
يريد في قدرته تقديرها وتدبيرها
وقيل المراد بالكف النعمة والمنة والرحمة

وأما قوله بين كتفي فالمراد به ما وصف إلى قلبه من لطفه وبره وفوائده لأن القلب بين الكتفين وهو محل الأنوار والعلوم والمعارف ورواية بين كنفي يراد به كقول القائل أنا في كنف فلان وفنائه أراد بذلك أنه في ظل نعمته ورحمته فكأنه قال أفادني الرب من رحمته وإنعامه بملكه وقدرته حتى علمت ما أعلمه
وقوله فوجدت برد أنامله يحتمل أن يكون المعنى برد نعمه فإن تأويل الأنامل على معنى الإصبع على ما تقدم فيكون المعنى حتى وجدت آثار إحسانه ونعمته ورحمته في صدري فتجلى لي عند ذلك علم ما بين السماء والأرض برحمة الله وفضل نعمته
وقال القرطبي وقوله فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة أو رأيت ربي في أحسن صورة هذا راجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم أي رأيته وأنا في أحسن صورة كقول القائل رأيت الأمير في أحسن صورة ومراده وأنا في أحسن زيي وحينئذ فالمراد أن الله تعالى زين خلقته عليه السلام وكمل صورته عند رؤيته لربه زيادة إكرام وتعظيم
وقال بعض المحققين ما ملخصاه يجوز أن يكون قوله في أحسن صورة راجعا إلى محمد أي رأيته وأنا في أحسن صورة بمعنى أن الله حسن صورته ونقله إلى هيئة يمكنه معها رؤيته إذ كان البشر لا يمكنهم رؤيته تعالى على صورتهم التي عليها حتى ينقلوا إلى صور أخر غير صورهم كما أن أهل الجنة ينقلهم الله عن صفاتهم إلى صفات آخر أعلى وأشرف فعجل الله

لنبيه هذه الكرامة في الدنيا ويجوز أن يكون راجعا إلى الله بمعنى أنه راء ربه على أحسن ما وعده به من إنعامه وإحسانه وإكرامه كما تقول للرجل كيف كانت صورة أمرك عند لقاء الملك فيقول خير صورة أعطاني وأنعم علي وأدناني من محل كرامته فهذان تأويلان صحيحان جاريان على أساليب كلام العرب
قال وقد جاء في بعض الحديث أنه كانت رؤية في المنام فإذا كان الأمر كذلك كان التأويل واضحا لأنه لا ينكر رؤية الله تعالى في المنام كذلك انتهى
وروى أحمد والبخاري ومسلم أنه عليه السلام قال خلق الله آدم على صورته وطوله ستون ذراعا الحديث وفيه وكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعا فلم تزل الخلق تنقص بعده حتى الآن
وفي لفظ آخر إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته
قال النووي هذا من أحاديث الصفات ومذهب السلف

أنه لا يتكلم في معناها بل يقولون يجب علينا أن نؤمن بها ونعتقد لها معنى يليق بجلال الله تعالى من اعتقادنا أنه ليس كمثله شيء وهذا القول اختاره جماعة من محققي المتكلمين قال وهو أسلم والثاني أنها تؤول على ما يليق على حسب مواقعها
قال المازري وقد غلط ابن قتيبة في هذا الحديث فأجراه على ظاهره وقال الله صورة لا كالصور قال وهذا كقول المجسمة جسم لا كالأجسام لما رأوا أهل السنة يقولون الله تعالى شيء لا كالأشياء والفرق أن لفظة شيء لا تفيد الحدوث ولا تتضمن ما يقتضيه وأما جسم وصورة فيتضمنان التأليف والتركيب وذلك دليل الحدوث
وقال أهل التأويل ما قاله الخطابي إن الضمير في صورته يعود على آدم بمعنى أن الله تعالى خلقه ابتداء على صورته التي أوجده عليها ولم يردده في أطوار الخلقة كبنيه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم أجنة ثم أطفالا وفي الحديث الأخر الضمير يعود على المضروب
وقال بعض المحققين ما ملخصه يجوز عود الضمير على آدم وعلى الله فإن عاد على آدم فالغرض منه الرد على الدهرية واليهود وهو من جوامع الكلم فإن الدهرية قالت إن العالم لا أول له فلا حيوان إلا من حيوان آخر قبله ولا زرع إلا من بذر قبله فأعلمنا عليه السلام أن الله خلق آدم على صورته

التي شوهد عليها ابتداء
وقالوا أيضا إن للطبيعة والنفس الكلية فعلا في المحدثات المتكونة غير فعل الله فأعلمنا أنه أوجده كذلك دون مشاركة من طبيعة أو نفس
واليهود قالت إن آدم في الذنب كان على خلاف صورته في الجنة فلما خرج منها نقص قامته وغير خلقته فأعلمنا بكذبهم وأنه خلق في أول أمره على صورته التي كان عليها عند هبوطه
وإن عاد الضمير على الله فإضافة صورة آدم إليه على وجه التشريف والتخصيص لا على ما يسبق للوهم من معاني الإضافة كقولهم الكعبة بيت الله وإنما خصصه بالإضافة إلى الله دون غيره لأن الله خلقه دفعة واحدة من غير ذكر وأنثى ولا ضمته الأرحام وخلقه بيده وأسجد له ملائكته وهو أبو البشر فنبهنا عليه السلام بإضافة صورته إلى الله على ذلك وهو نظير قوله تعالى ونفخت فيه من روحي الحجر 29 وقوله ولا أعلم ما في نفسك المائدة 116 وقوله لما خلقت بيدي ص 75
فكما لا تدل هذه الإضافة على أن له نفسا وروحا ويدين فكذلك إضافة الصورة إليه تعالى لا تدل على أن له صورة
قال وأيضا فالعرب تستعمل الصورة على وجهين
أحدهما الصورة التي هي شكل مخطط محدود بالجهات
والثاني بمعنى صفة الشيء كقولهم ما صورة أمرك فكيف كانت صورة نفسك وهذا هو المراد هنا فإن الله جعله خليفة في

أرضه يعلم ويأمر وينهى ويسوس ويدبر وسخر له ما في السماوات وما في الأرض انتهى
واعترض بعضهم هذه الأجوبة وقال الواجب أن تمر الأحاديث كما جاءت بلا تأويل ولا تكييف فإن الضمير إذا كان عائدا على آدم لا فائدة فيه إذ ليس يشك أحد أن الله خالق الإنسان على صورته والسباع والأنعام على صورها فأي فائدة في الحمل على ذلك ولا جائز أن يقال عائد على المضروب إذ لا فائدة فيه لأن الخلق عالمون بأن آدم خلق على خلق ولده ووجهه على وجوههم
قلت وفي هذا الإعتراض نظر فإنه لا يرد بعد إبراز ما تقدم من النكات والحكم
نعم مما يقوي الإعتراض قوله عليه السلام في حديث آخر لاتقبحوا الوجه فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمان وقول المازري في هذا الحديث إنه ليس بثابت عند أهل الحديث فيه ما فيه فقد رواه ابن أبي شيبة عن جرير عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم

وهذا غاية ما قال البيهقي يحتمل أن لفظ هذا الحديث كما في الحديث الآخر فأداه البعض الرواه على ما وقع في قلبه من معناه والله أعلم
ثم رأيت الحافظ ابن حجر قال وقد أنكر المازري ومن تبعه صحة هذه الرواية وقد أخرجها ابن أبي عاصم في السنة والطبراني من حديث ابن عمر بإسناد رجاله ثقات وأخرجها ابن أبي عاصم أيضا من طريق أبي هريرة بلفظ يرد التأويل الأول قال من قاتل فليجتنب الوجه فإن صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمان قال فتعين إجراء ذلك على ما تقررد بين أهل السنة من إمراره كما جاء من غير اعتقاد تشبيه قال وزعم بعضهم أن الضمير يعود على آدم أي على صفته أي خلقه موصوفا بالعلم الذي فضل به على الحيوان قال وهذا محتمل
وقيل الضمير لله وتمسك قائله بما في بعض طرقه على صورة الرحمان فالمراد بالصورة الصفة أي إن الله خلقه على صفته من العلم والحياة والسمع والبصر وغير ذلك وإن كانت صفات الله لا يشبهها شيء انتهى

قلت لكن التعليل بإتقاء الوجه يرد جميع التأويل ولم يبق إلا التعويل على مذهب من سلف من أئمة السلف
وروى ابن عباس إن موسى عليه السلام ضرب الحجر لبني إسرائيل فتفجر فقال اشربوا يا حمير فأوحى الله إليه عمدت إلى خلق من خلقي على صورتي فشبهتهم بالحمير فما برح حتى عوقب
قال القرطبي ذكره القتيبي في مختلف الحديث وقال القتيبي والذي عندي والله أعلم أن الصورة ليست بأعجب من اليدين واليمين والعين وإنما وقعت الألفة لتلك لمجيئها في القرآن ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن ونحن نؤمن بالجميع ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد انتهى
وفي البخاري ومسلم حديث هل نرى ربنا يوم القيامة وفيه فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا أتانا عرفناه فيأتيهم الله في الصورة وفي لفظ آخر في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه الحديث

وقال بعض أهل التأويل إن في بمعنى الباء كما في قوله تعالى هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام البقرة 210 أي بظلل فيكون معنى الإتيان هنا أنه يحضر لهم تلك الصورة ويذكر أنه ملك عظيم يقولون لهم بأمر الله أنا ربكم
وأما الصورة الثانية فهي صفته تعالى لا يشاركه فيها شيء وهو الوصف الذي كانوا عرفوه في الدنيا بقوله ليس كمثله شيء ولذلك قالوا إذا جاءنا ربنا عرفناه
قال القرطبي ولا يستبعد إطلاق الصورة بمعنى الصفة فمن المتداول أن يقال صورة هذا الأمر كذا أي صفته وقيل الكلام خرج مخرج المشاكلة للفظ الصورة والله أعلم ومذهب السلف أسلم
ومن المتشابه الساق في قوله تعالى يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود القلم 42
وقوله عليه السلام في حديث البخاري ومسلم قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة وفيه فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها فيقول نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ولا يبقى من كان اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه الحديث
وفي بعض طرق البخاري يكشف ربنا عن ساقه

قال الخطابي هذا الحديث مما تهيب القول فيه شيوخنا فأجروه على ظاهر لفظه ولم يكشفوا عن باطن معناه على نحو مذهبهم في التوقيف عند تفسير كل ما لا يحيط العلم بكنهه من هذا الباب
وقال أهل التأويل هذا يؤول على معنى شدة الأمر وهوله
قال الجوهري وغيره في قوله تعالى يوم يكشف عن ساق أي عن شدة كما يقال قامت الحرب على ساق
وروى الحاكم في المستدرك من طريق عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى يوم يكشف عن ساق فقال إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه من الشعر فإنه ديوان العرب أما سمعتم قول الشاعر ... قد سن لي قومك ضرب الأعناق ... وقامت الحرب بنا على ساق ...
قال ابن عباس هذا يوم كرب وشدة
وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى

يوم يكشف عن ساق قال هو الأمر الشديد المفظع من الهول يوم القيامة
وقال بعض الأعراب وكان يطرد الطير عن الزرع في سنة جدبة ... عجبت من نفسي ومن إشفاقها ... ومن طرادي الطير عن أرزاقها ... في سنة قد كشفت عن ساقها ...
وفي البيضاوي يوم يكشف عن ساق أي يوم يشتد الأمر ويصعب الخطب وكشف الساق مثل في ذلك أو يوم يكشف عن أصل الأمر وحقيقته بحيث يصير عيانا مستعار من ساق الشجر وساق الإنسان
وفي القاموس والتفت الساق بالساق آخر شدة الدنيا بأول شدة الآخرة يذكرون الساق إذا أرادوا شدة الأمر والإخبار عن هوله انتهى
وقال بعضهم لا ينكر أن الله سبحانه قد يكشف لهم عن ساق لبعض المخلوقين من ملائكته أو غيرهم ويجعل ذلك سببا لما شاء من كلمته في أهل الإيمان والنفاق
قال الخطابي وفيه وجه آخر لم أسمعه من قدوة وقد

يحتمله معنى اللغة سمعت أبا عمرو يذكر عن أحمد بن يحيى النحوي قال والساق النفس ومنه قول علي رضي الله عنه حين راجعه أصحابه في قتال الخوارج والله لأقاتلهم ولو تلفت ساقي يريد نفسه
قال الخطابي فقد يحتمل على هذا أن يكون المراد التجلي لهم وكشف الحجب حتى إذا رأوه سجدوا له
قال ولست أقطع به القول ولا أراه واجبا فيما أذهب إليه من ذلك
قال القرطبي هذا أصح ما قيل في ذلك وقد ورد بمعناه حديث ذكرناه في كتابنا التذكرة انتهى
وجاء من حديث روح بن جناح مرفوعا في قوله تعالى يوم يكشف عن ساق قال عن نور عظيم له سجدوا لكن قال البيهقي روح بن جناح يأتي بأحاديث منكرة لا يتابع عليها والله تعالى أعلم
وأما الرجل والقدم ففي صحيح البخاري ومسلم والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه و سلم قال لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه

فتقول قط قط وعزتك وتزوي بعضها إلى بعض
وفي البخاري فيضع الرب قدمه عليها فتقول قط قط فهناك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض
وفي بعض الطرق حتى يضع الجبار فيها قدمه
وفي مسلم فلا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة
قال الترمذي وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم روايات كثيرة في مثل هذا والمذهب في هذا عن أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة وابن المبارك ووكيع وغيرهم أنهم قالوا نروي هذه الأحاديث ونؤمن بها ولا يقال كيف وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن يرووا هذه الأشياء كيف جاءت ويؤمن بها ولا تفسر ولا يتوهم ولا يقال كيف قال وهذا أمر أهل العلم الذي أختاروه وذهبوا إليه
وقال الخطابي كان أبو عبيد القاسم بن سلام وهو أحد

أنهياء أهل العلم يقول نحن نروي هذه الأحاديث ولا نريغ لها المعاني
قال الخطابي ونحن أحرى أن لا نتقدم فيما تأخر عنه من هو أكثر منا علما وأقدم زمانا وسنا ولكن الزمان الذي نحن فيه قد صار أهله حزبين منكر لما يروى من هذه الأحاديث ومكذب به أصلا وفي ذلك تكذيب العلماء الذين رووا هذه الأحاديث وهم أئمة الدين وثقة السنن والواسطة بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم
والطائفة الأخرى مسلمة للرواة فيها ذاهبة في تحقيق الظاهر منها مذهبا يكاد يفضي إلى القول بالتشبيه ونحن نرغب عن الأمرين معا ولا نرضى بواحد منهما فيحق علينا أن نطلب لما يرد من هذه الأحاديث إذا صحت من طريق النقل والسند تأويلا
وقال أهل التأويل القدم ها هنا يحتمل أن يكون المراد به من قدمهم الله للنار من أهلها وكل شيء قدمته فهو قدم والعرب تطلق القدم على السابقة في الأمر
قال النضر بن شميل في معنى قوله حتى يضع الجبار فيها قدمه أي من سبق في علمه أنه من أهل النار

قال الخطابي وقد تأول بعضهم الرجل على نحو هذا
قال والمراد به عدد استيفاء الجماعة الذين استوجبوا دخول النار والعرب تسمي جماعة الجراد رجلا كما سموا جماعة الظباء سربا واستعير ذلك لجماعة الناس
وقال القرطبي وقيل إن هؤلاء قوم تأخر دخولهم في النار وهم جماعات لأن أهلها يلقون فيها فوجا فوجا كما قال تعالى كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها الملك 8 فالخزنة تنتظر أولئك المتأخرين إذ قد علموهم بأسمائهم وأوصافهم فإذا استوفى كل واحد منهم ما أمر به ولم يبق أحد قالت الخزنة قط قط أي حسبنا حسبنا أي اكتفينا اكتفينا وحينئذ تنزوي جهنم على من فيها وتنطبق إذ لم يبق أحد ينتظر فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل والقدم لا أن الله تعالى جسم من الأجسام تعالى الله عن ذلك
وقال بعضهم القدم خلق من خلق الله تعالى يخلقه يوم القيامة فيسميه قدما ويضعه في النار فتمتلئ منه
وقال بعضهم المراد بالقدم هنا قدم خلقه
وقال ابن فورك قال بعضهم القدم خلق من خلق الله يخلقه يوم القيامة فيسميه قدما ويضيفه إليه من طريق الفعل يضعه في النار فتمتلئ منه

وأما الرجل فالعرب تسمي جماعة الجراد رجلا كما سموا جماعة الظباء سربا وجماعة الحمير عانة ويستعمل في جماعة الناس على سبيل التشبيه قال ... ترى الناس أفواجا إلى باب داره ... كأنهم رجلا دبا وجراد ...
الدبا الجراد قبل أن يطير
وأما الجبار هنا فقال بعضهم يحتمل أن يكون أريد به الموصوف بالتجبر من الخلق كقوله تعالى وخاب كل جبار عنيد إبراهيم 15
وقال بعضهم الجبار هنا إبليس وشيعته فإنه أول من استكبر والتكبر والتجبر بمعنى واحد
وقال ابن التلمساني في قوله عليه السلام حتى يضع الجبار فيها قدمه إن الجبار ليس من الأسماء الخاصة بالله تعالى والمراد به جبار يعلم الله عتوه واستكباره كإبليس وأتباعه مثلا والنمرود وجنوده وقد قال عليه السلام أهل النار كل متكبر جبار انتهى

قلت وربما يرد هذا التأويل حديث حتى يضع الله رجله وحديث فيضع الرب قدمه فيكون تعالى هو المراد بالجبار في الحديث الآخر لكن الخلف خصوصا المتكلمين تجد عندهم التأويل في مثل هذا بالمجازفة ولا يراعون ألفاظ الحديث إما لعدم معرفة ألفاظ طرقه كلها أو لمسارعتهم للباب بلا تأمل ولا ريب أن السلف قد تصوروا في نفوسهم مثل هذه الأجوبة فرأوها متناقضة متهافتة فسكتوا عنها ولم يتفوهوا بها لعلمهم بفسادها وفوضوا العلم فيها إلى الله تعالى مع أنهم أكثر علما منا بيقين
وقال الخطابي رحمه الله تعالى ويجوز أن تكون هذا الأسماء أمثالا يراد بها إثبات معان لا حظ لظاهر اللفظ فيها من طريق الحقيقة وإنما أريد بوضع الرجل عليها نوع من الزجر لها وتسكين غيظها كما يقول القائل للشيء يريد محوه وإبطاله جعلته تحت رجلي ووضعته تحت قدمي وخطب عليه السلام عام الفتح فقال ألا إن كل دم ومأثرة في الجاهلية فهو تحت قدمي هاتين يريد محو تلك المآثر وإبطالها وما أكثر ما تضرب

العرب الأمثال في كلامها بالأعضاء وهي لا تريد أعيانها كقولهم فيمن تكلم وندم قد سقط في يده أي ندم ورغم أنف الرجل إذا ذل وعلا كعبه إذا جل وشمخ أنفه إذا تكبر وجعلت كلام فلان دبر أذني وحاجته خلف ظهري ونحو ذلك من ألفاظهم
ومن المتشابه الجنب والحقو في قوله تعالى على ما فرطت في جنب الله الزمر 56 وقوله عليه السلام في حديث البيهقي إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقوي الرحمان فقال مه فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى يا رب قال فذلك لك
والحديث أيضا في البخاري ومسلم والنسائي لكن ليس فيه فأخذت بحقو الرحمان
والحقو ما تحت الخاصرة ويطلق على الإزار
قال أهل التأويل كما في تفسير البيضاوي في جنب الله في جانبه أي في حقه وهو طاعته انتهى
لأن التفريط إنما يقع في ذلك لا في الجنب المعهود

وقال الضحاك في جنب الله في ذكر الله كما قرئ به
وقال مجاهد المعنى على ما ضيعت من أمر الله
والمعنى في الجميع متقارب
وعن الفراء في جنب الله في قربه وجواره قال والجنب معظم الشيء وأكثره ومنه قولهم هذا قليل في جنب مودتك ويقال ما فعلت ذلك في جنب حاجتي
قال كثير ... ألا تتقين الله في جنب عاشق ... له كبد حرى عليك تقطع ...
أي في حاجته أو حقه
ونسب البيضاوي هذا البيت لسابق البربري
وأما الحقو فقال الخطابي الكلام في الصفات ثلاثة أقسام
قسم تحقق كالعلم والقدرة ونحوهما
وقسم يحمل على ظاهره ويجري بلفظه الذي جاء به من غير تأويل كاليد والوجه ونحو ذلك فإنهما صفات لا كيفية لها فلا يقال معنى اليد النعمة والقوة ولا معنى الوجه الذات على ما ذهب إليه نفاة الصفات
وقسم يؤول ولا يجري على ظاهره كقوله عليه السلام

إخبارا عن الله تعالى من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا الحديث لا أعلم أحدا من العلماء أجراه على ظاهره بل كل منهم تأوله على القبول من الله لعبده وحسن الإقبال عليه والرضا بفعله ومضاعفة الجزاء له على صنعه وذكر حديث لما خلق الله الرحم تعلقت بحقوي الرحمان قال لا أعلم أحدا من العلماء حمل الحقو على ظاهر مقتضاه في اللغة وإنما معناه اللياذ والإعتصام تمثلا له بفعل من اعتصم بحبل ذي عزة واستجار بذي ملكه وقدرة
وقال البيهقي ومعناه عند أهل النظر أنها استجارت واعتصمت بالله كما تقول العرب تعلقت بظل جناحه أي اعتصمت به
وقال بعضهم قوله فأخذت بحقو الرحمان معناه فاستجارت بكنفي رحمته والأصل في الحقو معقد الإزار ولما كان من شأن المستجير أن يستمسك بحقوي المستجار به وهما جانباه الأيمن والأيسر أستعير الأخذ بالحقو في اللياذ بالشيء تقول العرب عذت بحقو فلان أي استجرت به واعتصمت
وقيل الحقو الإزار وإزاره سبحانه عزه بمعنى أنه

موصوف بالعز فلاذت الرحمم بعزه من القطيعة وعاذت به
قلت وما اتفقوا على تأويله خلافا للمتصوفة قوله تعالى وهو معكم أينما كنتم الحديد 4 ونحوه مما مر فإن المعية محمولة على معية العلم والإحاطة والمشاهدة كما قال الله تعالى لموسى وهارون إنني معكما أسمع وأرى طه 46
وكذا قوله عليه السلام الحجر الأسود يمين الله في أرضه أي محل عهده الذي أخذ به الميثاق على بني آدم
وكذا قوله عليه السلام حكاية عن الله عبدي مرضت فلم تعدني فيقول رب كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده عبدي جعت فلم تطعمني فيقول رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانا جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي
قال ابن تيمية رحمه الله ففسر في هذا الحديث أنه تعالى إنما أراد بذلك مرض وجوع عبده ومحبوبه لقوله لوجدت ذلك عندي ولم يقل لوجدتني إياه لأن المحب والمحبوب كالشيء الواحد من حيث يرضى أحدهما ويبغض أحدهما ما يرضاه الآخر أو يبغضه ولهذا قال إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله الفتح 1

قال الزمخشري ولهذا أكده تأكيدا على طريق التخييل فقال يد الله فوق أيديهم يرد أن يد رسول الله صلى الله عليه و سلم التي تعلو يدي المبايعين هي يد الله والله تعالى منزه عن الجوارح وعن صفات الأجرام وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله تعالى من غير تفاوت بينهما كقوله تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله النساء 80 انتهى
قال ابن تيمية وكما في الصحيح ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به الحديث فأخبر سبحانه بمحبة العبد على هذا الوجه
قال وقد غلط من زعم أن هذا قرب النوافل وأن قرب الفرائض أن يكون هو إياه تعالى الله عن ذلك وعن قول القائلين إن عين وجود الحق هو عين وجود الخلق تعالى الله عن ذلك
ومن المتشابه النفس في قوله تعالى كتب ربكم على نفسه الرحمة الأنعام 54 وقوله واصطنعتك لنفسي طه 41 وقوله ويحذركم الله نفسه آل عمران 28 وقوله عليه السلام عن الله فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي
قال أهل التأويل كما ذكره البيهقي النفس في كلام

العرب على وجوه نفس متفرقة مجسمة مروحة ومنها مجسمة غير مروحة تعالى الله عن هذين ونفس بمعنى إثبات الذات وعليه فيقال في الله سبحانه إنه نفس لا أن له نفسا منفوسة أو جسما مروحا وقد قيل في قوله تعالى تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك المائدة 116 تعلم ما أخفيه في نفسي ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك وقوله في نفسك للمشاكلة والمشاكلة وإن ساغت هنا لا تسوغ في غيره ومثله فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي أي حيث لا يعلم به أحد ولا يطلع عليه
وقال الزجاج في قوله ويحذركم الله نفسه أي ويحذركم الله إياه
وقال السهيلي النفس عبارة عن حقيقة الوجود دون معنى زائد وقد استعمل من لفظها النفاسة والشيء النفيس فصلحت للتعبير عنه تعالى
وقال ابن اللبان أولها العلماء بتأويلات منها أن النفس عبر بها عن الذات قال وهذا وإن كان سائغا في اللغة لكن تعدي الفعل إليها ب في المفيدة للظرفية محال
وقال القاضي أبو بكر بن العربي في قوله عليه السلام إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمن أي تنفيسه الكرب بالأنصار

ومعاضدتهم له أو بفتح مكة
تنبيه
وقد ظهر بما مر أن النفس تطلق على الله مرادا بها الذات
وأما الشخص ففي حديث البخاري ومسلم لا شخص أغير من الله ولا شخص أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين ولا شخص أحب إليه المدحة من الله ومن أجل ذلك وعد الله الجنة
قال البيهقي قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله إطلاق الشخص في صفة الله غير جائز لأن الشخص لا يكون إلا جسما مؤلفا وخليق أن لا تكون هذا اللفظة صحيحة وأن تكون تصحيفا من الراوي
قال وليس كل الرواة يراعون لفظ الحديث حتى لا يتعدوه بل كثير منهم يحدث على المعنى وليس كلهم بفقيه كقول بعض السلف في كلام له نعم المرء ربنا لو اطعناه ما عصانا فقائل هذه الكلمة لم يقصد بها المعنى الذي لا يليق بصفات الله فإن لفظ المرء للذكر الآدمي ولكنه أرسل الكلام على بديهة الطبع من غير تأمل للمعنى فلفظ الشخص إنما جرى من

الراوي على هذا السبيل إن لم يكون غلطا من قبل التصحيف
قال البيهقي ولو ثبتت هذه اللفظة لم يكن فيها ما يوجب أن يكون الله شخصا فإنه إنما قصد إثبات صفة الغيرة لله والمبالغة فيه وإن أحدا من الأشخاص لا يبلغ ذلك
وقال القرطبي ما ذكره عن الخطابي رحمه الله ورضي عنه من أن هذا اللفظ لم يصح يؤدي إلى عدم الثقة في النقلة بما نقلوه من ذلك وهذا ليس بشيء بل النقل صحيح ويدخله التأويل فقد قيل معناه لا مترفع لأن الشخص ما شخص وارتفع
وقال القاضي أبوبكر بن العربي قال بعضهم إذا كان الله غيورا ونبيه كذلك وهذا مما يجب إعتقاده فكيف جاء إليه رجل فقال يا رسول الله إن امرأتي لا ترد يد لامس فقال له طلقها فقال إني أحبها فقال استمتع بها
وأجيب بأنه عليه السلام خشي على عقله أو أن المراد باللامس السائل فهو كناية عن جودها أو معنى استمتع بها أي خذ منها ما يأخذ الرجال من النساء إلا الجماع ورد ابن العربي هذه الأجوبة كلها لبعدها وجعل الجواب السديد أن هذا الحديث لم يثبت

ومن المتشابه الروح في قوله تعالى ويسألونك عن الروح الإسراء 85 وقوله فإذا سويته ونفخت فيه من روحي الحجر 29 وقوله فنفخنا فيها من روحنا الأنبياء 91 وقوله وروح منه النساء 171
قال الإمام الفخر المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة وإن الجواب وقع على أحسن الوجوه وبيانه أن السؤال عن الروح يحتمل أن يكون عن الماهية وهل هي متحيزة أم لا وهل هي حالة في متحيز أم لا وهل هي قديمة أو حادثة وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد أو تفنى وما حقيقة تعذيبها وتنعيهما وغير ذلك إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية وهل الروح قديمة أو حادثة
وقال أبو حيان والظاهر أنهم سألوا عن ماهيتها وحقيقتها وقيل عن كيفية مدخلها الجسد الحيواني وانبعاثها فيه وصورة ملابستها له وكلاهما مشكل لا يعلمه إلا الله تعالى انتهى
وقوله تعالى قل الروح من أمر ربي الإسراء 85 أي من خلق ربي أو من فعل ربي إذ الأمر بمعنى الفعل وارد قال سبحانه وما أمر فرعون برشيد هود 97 أي فعله والجواب وقع من قبيل صرف الأهم أي إن عقولكم لا تدرك هذا فإن له مقدمات طبيعية تدق عن الأفهام وتقصر دونها الأوهام لكن الأهم أن تعلموا أن الروح من عالم الأمر أي الخلق

وقال بعض علماء التصوف إن عالم الأمر هو العالم المعنوي الذي لا يقع تحت الحواس كعالم المعقولات المجردة التي لا تقع تحت مادة
واعلم أن الروح لم يقف أحد لها على حقيقة ماهية ومعرفة كيفية حتى قال الجنيد قدس الله سره الروح شيء استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه فلا يجوز لعباده البحث عنه بأكثر من أنه موجود وقاله بعضهم وعلى هذا ابن عباس وأكثر السلف
وقد ثبت عن ابن عباس أنه كان لا يفسر الروح
ونقل أبو القاسم السعدي في الإفصاح أن أماثل الفلاسفة توقفوا عن الكلام فيها وقالوا هذا أمر غير محسوس لنا ولا سبيل للعقول إليه
قال أبو حيان وقد رأيت كتابا يترجم بالنفخ والتسوية لبعض الفقهاء المتصوفة يذكر فيه أن الجواب في قوله قل الروح من أمر ربي إنما هو للعوام وأما الخواص عنده فهم يعرفون الروح
قال أبو حيان وأجمع علماء الإسلام على أن الروح مخلوقة وذهب كفرة الفلاسفة وكثير ممن ينتمي إلى الإسلام أنها قديمة
قال واختلاف الناس في الروح بلغ إلى سبعين قولا انتهى

وقد رأيت في شرح الزبد للشيخ الرملي أن الأقوال في الروح تزيد عن ألف قول
وقد أفردت الكلام على الروح في مؤلف سميته أرواح الأشباح في الكلام على الأرواح
وأما قوله تعالى ونفخت فيه من روحي الحجر 29 فقال أهل التأويل كما في النهر لأبي حيان أي خلقت الحياة فيه إذ لا نفخ هناك ولا منفوخ حقيقة وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يجيء به فيه وإضافة الروح إليه تعالى على سبيل التشريف نحو بيت الله وناقة الله أو على سبيل الملك إذ هو المتصرف في الإنشاء للروح والمودعها حيث يشاء
وقال بعضهم كما في البيضاوي وأصل النفخ إجراء الريح في تجويف جسم آخر ولما كان الروح يتعلق أولا بالبخار اللطيف المنبعث من القلب ويفيض عليه القوة الحيوانية فيسري حاملا لها في تجويف الشرايين إلى أعماق البدن جعل تعلقه بالبدن نفخا وإضافته إلى نفسه سبحانه لشرفه وطهارته لأنه من ألطف المخلوقات وأعجب المصنوعات
وقال القرطبي قال العلماء الروح الذي نفخ في آدم عليه السلام كان خلقا من خلق الله تعالى جعل الله تعالى حياة الأجساد به وإنما أضافه إلى نفسه على طريق الخلق والملك لا

أنه جزء منه وهو كقوله تعالى وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه الجاثية 13 أي من خلقه
والحاصل أن قوله ونفخت فيه من روحي متردد بين البعضية وهو باطل فننفيه وبين إضافة التشريف والتعظيم وهو حق فنعينه فتأمل والله أعلم
وأما قوله فنفخنا فيها من روحنا الأنبياء 91 فقال الزمخشري بعد أن استشكل معناه نفخنا الروح في عيسى فيها أي أحييناه في جوفها ونحو ذلك أن يقول الزمار نفخت في بيت فلان أي نفخت في المزمار في بيته انتهى
وقال أبو حيان لا إشكال في ذلك لأنه على حذف مضاف أي فنفخنا في ابنها من روحنا
قال وقوله نفخنا الروح في عيسى فيها استعمل نفخ متعديا والمحفوظ أن لا يتعدى فيحتاج في تعديه إلى سماع وأضاف الروح إليه تعالى على جهة التشريف أي نفخنا فيها أو في فرجها من روح خلقناه بلا توسط أصل
وقال القرطبي وغيره وقوله فنفخنا فيه يريد درع مريم عليها السلام نفخ في جيب درعها فوصل النفخ إليها
وقال ابن مسعود وابن عباس خرجت وعليها جلبابها فأخذ

بكمها فنفخ في جيب درعها وكان مشقوقا من قدامها فدخلت النفخة في صدرها فحملت
قال المسيح روح الله لأنه كان بنفخة جبريل في درع مريم ونسب الروح إليه تعالى لأنه بأمره
وأما قوله تعالى لعيسى إذ أيدتك بروح القدس المائدة 110 أي بالروح المقدسة وهو جبريل سمي بذلك لأن جسمه روحاني ويأتي بما فيه روح القلوب وحياتها وأضيف للقدس وهو الطهارة لأنه لا يقترف ذنبا وقيل هو الروح الذي به حياة البدن وخص روحه عليه السلام بوصفه بالقدس لأنه لم تضمه الأصلاب ولا أرحام الطوامث لأن أمه لم تحض صلى الله عليه وعليها
ومن المتشابه النور في قوله تعالى الله نور السماوات والأرض النور 35
قال أهل التأويل النور هو المدرك بالبصر فإسناده إلى الله مجاز كما تقول زيد عدل وإسناده بإعتبارين إما على أنه بمعنى اسم الفاعل أي منور كما قرئ به أو على الحذف أي ذو نور ويؤيده قوله مثل نوره وإضافته للسماوات والأرض للدلالة على سعة إشراقه أو لاشتمالهما على الأنوار الحسية والعقلية وقصور الإدراكات البشرية عليهما
وقال القرطبي فيه ستة أقوال إما أنه بمعنى منور أو ذو النور أو هادي أو مزين أو ظاهر أو أنه تعالى نور لا كالأنوار قاله الشيخ أبو الحسن

قال وقالت المعتزلة لا يقال إنه نور إلا بالإضافة
قال والصحيح عندنا أنه نور لا كالأنوار
قال القرطبي وقول الأشعري إنه نور ليس كالأنوار لا يصح أن يريد أنه جسم نوراني ليس كالأجسام النورانية لمعرفتنا بمذهبه وتنزيه الله تعالى بل باعتبار أنه من نوره تستمد جميع الأنوار كما سمي العلم نورا والقرآن نورا لاستنارة القلوب به ويسمى النبي نور لأنه منير في ذاته ويستنير به غيره والمنير في ذاته بنوره الذاتي والمنير غيره بنوره الفعلي هو الله وحده
وقال بعضهم إن العرب تسمي كل ما جلا الشبهات وأزال الإلتباس وأوضح الحق نورا قال تعالى وأنزلنا إليكم نورا النساء 174 يعني القرآن وعلى هذا المعنى سمى نبيه سراجا منيرا
قال الخطابي ولا يجوز أن يتوهم أن الله تعالى نور من الأنوار فإن النور يضاد الظلمة وتعاقبه فتزيله وتعالى الله عن أن يكون له ضد
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم هل رأيت ربك قال نور أنى أراه وصحفه بعضهم فقال نوراني والمعنى غلبني نور أو غشيني نور كيف أراه فأنى استفهام على جهة الإستبعاد لغلبة النور على بصره كنور الشمس فإنه يغشى البصر ويحيره إذا نظر إليه

قال القرطبي ولا يعارضه الرواية الأخرى رأيت نورا فإنه عند وقوع بصره على النور رآه ثم غلبه عليه بعد فضعف عنه بصره كالرائي عين الشمس عند كثرة شعاعها قال هكذا قال علماؤنا

تنبيه
اختلف العلماء هل رأى محمد صلى الله عليه و سلم ربه بعين رأسه أو بعين قلبه فمذهب ابن عباس وطائفة أنه رآه بعين رأسه وإلى هذا ذهب أبو الحسن الأشعري ومن وافقه
ومذهب عائشة أنه لم يره بعين رأسه لحديث مسلم السابق وعلى هذا طائفة من العلماء ورجح هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وقال قد تدبرنا عامة ما صنفه المسلمون في هذه المسألة وما تلقوه فيها قريبا من مئة مصنف فلم أجد أحدا يروي بإسناد ثابت ولا صحيح ولا عن صاحب ولا عن إمام أنه رآه بعين رأسه قال فالواجب اتباع ما كان عليه السلف والأئمة وهو إثبات مطلق الرؤية أو رؤية مقيدة بالفؤاد وقال لم يثبت عن الإمام

أحمد التصريح بأنه عليه السلام رأى ربه بعين رأسه
لكن حكى النقاش عن أحمد بن حنبل أنه قال أنا أقول بحديث ابن عباس بعينه رآه رآه حتى انقطع نفسه لكن ابن تيمية أعلم بنقول أحمد وغيره من النقاش وأحمد أجل من أن يكون عنده من عدم السكينة ما يتكلم بمثل هذا حتى ينقطع نفسه إنما هي حكايات المجازفين في النقول عن الأئمة فتأمل وصاحب البيت أدرى وكم للناس من مجازفات في المنقول والمعقول والمرجع في ذلك إنما هو لأقوال المحققين والعلماء الراسخين والأئمة الربانيين
ومن المتشابه المجيء في قوله تعالى وجاء ربك والملك صفا صفا الفجر 22 وقوله هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله البقرة 210
فمذهب السلف في هذا وأمثاله السكوت عن الخوض في معناه
وتفويض علمه إلى الله تعالى كما مرت الإشارة إليه أول الكتاب
ومذهب أهل التاويل قالوا إلا أن يأتيهم الله البقرة 210

أي أمره وبأسه وجعل ذلك مجيئا له تعالى على سبيل التفخيم والتهويل لأن الإتيان حقيقة هو الإنتقال من حيز إلى حيز وذلك مستحيل عليه تعالى عند الجمهور أو المراد إلا أن يأتيهم الله بأمره وبأسه فحذف المأتي به لدلالة الحال عليه إيهاما عليهم لأنه أبلغ في الوعيد لانقسام خواطرهم وذهاب فكرهم في كل وجه أو المأتي به مذكور وهو قوله في ظلل وفي بمعنى الباء وقيل المراد بذلك غاية الهيبة ونهاية الفزع لشدة ما يكون يوم القيامة والإلتفات إلى الغيبة بعد قوله فاعلموا للإيذان بأن سوء صنيعهم موجب للإعراض عنهم وترك الخطاب معهم وإيراد الإنتظار للإشعار بأنهم لانهماكهم فيما هم فيه من موجبات العقوبة كأنهم طالبون لها مترقبون لوقوعها
وقال مسلمة بن القاسم في كتاب غرائب الأصول حديث تجلي الله يوم القيامة ومجيئه في الظلل محمول على أنه تعالى يغير أبصار خلقه حتى يروه كذلك وهو على عرشه غير متغير عن عظمته ولا متنقل عن ملكه كذلك جاء معناه عن عبد العزيز الماجشون قال فكل حديث جاء في التنقل والرؤية في المحشر فمعناه أنه تعالى يغير أبصار خلقه فيرونه نازلا ومتجليا ويناجي خلقه ويخاطبهم وهو غير متغير عن عظمته ولا متنقل عن ملكه انتهى
وهو تأويل حسن يطرد في كثير من المواضع
ومن المتشابه النزول في حديث أحمد والترمذي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم إن الله ينزل ليلة النصف من شعبات إلى سماء الدنيا ليغفر لأكثر من عدد شعر

غنم بني كلب
وحديث أحمد ومسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم إن الله تعالى يمهل حتى إذا كان ثلث الليث الأخير نزل إلى السماء الدنيا فنادى هل من مستغفر هل من تائب هل من سائل هل من داع حتى ينفجر الفجر
وفي رواية البخاري ينزل ربنا عز و جل إلى السماء الدنيا
وقال الحافظ ابن حجر وقد اختلف في معنى النزول على أقوال
فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته وهم المشبهة تعالى الله عن قولهم
ومنهم من أنكر صحة الأحاديث وهم الخوارج
ومنهم من أجراه على ما ورد مؤمنا به على طريق الإجمال منزها لله تعالى عن الكيفية والتشبيه وهم جمهور السلف ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والأوزاعي

والليث وغيرهم
ومنهم من أوله على وجه يليق مستعمل في كلام العرب
ومنهم من أفرط في التأويل حتى كاد يخرج إلى نوع من التحريف
قال البيهقي وأسلمها الإيمان بلا كيف والسكوت عن المراد إلا أن يرد ذلك عن الصادق فيصار إليه قال ومن الدليل على ذلك اتفاقهم على أن التأويل المعين غير واجب فحينئذ التفويض أسلم انتهى
قلت وبمذهب السلف أقوال وأدين الله تعالى به وأسأله سبحانه الموت عليه مع حسن الخاتمة في خير وعافية
وقال العلامة الطوفي في قواعد وجوب الإستقامة والإعتدال والمشهور عند أصحاب الإمام أحمد أنهم لا يتأولون الصفات التي من جنس الحركة كالمجيء والإتيان والنزول والهبوط والدنو والتدلي كما لا يتأولون غيرها متابعة للسلف الصالح قال وكلام السلف في هذا الباب يدل على إثبات المعنى المتنازع فيه قال الأوزاعي لما سئل عن حديث النزول يفعل الله ما يشاء وقال حماد بن زيد يدنو من خلقه كيف يشاء
قال وهو الذي حكاه الأشعري عن أهل السنة والحديث
وقال الفضيل بن عياض إذا قال لك الجهمي أنا أكفر برب

يزول عن مكانه فقل أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء
وقال أبو الطيب حضرت عند أبي جعفر الترمذي وهو من كبار فقهاء الشافعية وأثنى عليه الدارقطني وغيره فسأله سائل عن حديث إن الله ينزل إلى سماء الدنيا وقال له فالنزول كيف يكون يبقى فوقه علو فقال أبو جعفر الترمذي النزول معقول والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة
فقد قال في النزول كما قال مالك في الإستواء وهكذا القول في سائر الصفات
وقال أبو عبدالله أحمد بن سعيد الرباطي حضرت مجلس الأمير عبدالله بن طاهر وحضر إسحاق بن راهويه فسئل عن حديث النزول أصحيح هو قال نعم فقال له بعض قواد الأمير يا أبا يعقوب أتزعم أن الله ينزل كل ليلة قال نعم قال كيف ينزل قال له إسحاق أثبت الحديث حتى أصف لك النزول فقال له الرجل أثبته فقال له إسحاق قال الله تعالى وجاء ربك والملك صفا صفا فقال الأمير عبدالله بن طاهر يا أبا يعقوب هذا يوم القيامة فقال إسحاق أعز الله الأمير ومن يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم
وقال حرب بن إسماعيل سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول ليس في النزول وصف قال وقال إسحاق لا يجوز الخوض في أمر الله كما يجوز الخوض في أمر المخلوقين لقول الله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ولا يجوز أن يتوهم على الله

بصفاته وأفعاله بفهم ما يجوز التفكر والنظر في أمر المخلوقين وذلك أنه يمكن أن يكون الله موصوفا بالنزول كل ليلة إذا مضى ثلثها إلى السماء الدنيا كما شاء ولا يسأل كيف نزوله لأن الخالق يصنع ما شاء كما شاء انتهى كلام الطوفي
وقال بعض المحققين من الشافعية والذي شرح الله صدري في حال المتكلمين الذين أولوا الإستواء بالإستيلاء والنزول بنزول الأمر واليدين بالنعمتين والقدرتين أنهم ما فهموا في صفات الرب إلا ما يليق بالمخلوقين فما فهموا عن الله تعالى استواء يليق به ولا نزولا يليق به ولا يدين تليق بعظمته بلا تكييف ولا تشبيه فلذلك حرفوا الكلم عن مواضعه وعطلوا ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله قال ولا ريب أنا نحن وهم متفقون على إثبات صفة الحياة والسمع والبصر والعلم والقدرة والإرادة والكلام لله تعالى ونحن قطعا لا نعقل من الحياة والسمع والبصر والعلم إلا أعراضا تقوم بجوارحنا فكما يقولون حياته تعالى وعلمه وسمعه وبصره ليست بأعراض بل هي صفات كما تليق به لا كما تليق بنا فمثل ذلك بعينه فوقيته واستواؤه ونزوله ونحو ذلك فكل ذلك ثابت معلوم غير مكيف بحركة أو انتقال يليق بالمخلوق بل كما يليق بعظمته وجلاله فإن صفاته معلومة من حيث الجملة والثبوت غير معقولة من حيث التكييف والتحديد ولا فرق بين الإستواء والنزول والسمع والبصر الكل ورد في النص فإن قالوا في الإستواء والنزول شبهتم فنقول لهم في السمع والبصر

شبهتم ووصفتم ربكم بالعرض فإن قالوا لا عرض بل كما يليق به تعالى قلنا والإستواء والنزول كما يليق به تعالى
قال فجميع ما يلزموننا به في الإستواء والنزول واليد والوجه والقدم والضحك والتعجب من التشبيه نلزمهم به في الحياة والسمع والبصر والعلم فكما لا يجعلونها أعراضا كذلك نحن لا نجعلها جوارح ولا ما يوصف به المخلوق وليس من الإنصاف أن يفهموا في الإستواء والنزول والوجه واليد صفات المخلوقين فيحتاجوا إلى التأويل والتحريف ولا يفهموا ذلك في الصفات السبع وحيث نزهوا ربهم في الصفات السبع مع إثباتها فكذلك يقال في غيرها فإن صفات الرب كلها جاءت في موضع واحد وهو الكتاب والسنة فإذا أثبتنا تلك بلا تأويل وأولنا هذه وحرفناها كنا كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض وفي هذا بلاغ وكفاية أنتهى
وقال أهل التأويل إن العرب تنسب الفعل إلى من أمر به كما تنسبه إلى من فعله وباشره بنفسه كما يقولون كتب الأمير إلى فلان وقطع يد اللص وضربه وهو لم يباشر شيئا من ذلك بنفسه ولهذا احتيج للتأكيد فيقولون جاء زيد نفسه وفعل كذا بنفسه وتقول العرب جاء فلان إذ جاء كتابه أو وصيته ويقولون أنت ضربت زيدا لمن لم يضربه ولم يأمر إذا كان قد رضي بذلك قال تعالى فلم تقتلون أنبياء الله البقرة 91 والمخاطبون بهذا لم يقتلوهم لكنهم لما رضوا بذلك ووالوا القتلة نسب الفعل إليهم والمعنى هنا أن الله تعالى يأمر ملكا بالنزول إلى السماء الدنيا فينادي بأمره
وقال بعضهم إن قوله ينزل راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته

المقدسة فإن النزول كما يكون في الأجسام يكون في المعاني أو راجع إلى الملك الذي ينزل بأمره ونهيه تعالى فإن حملت النزول في الحديث على الجسم فتلك صفة الملك المبعوث بذلك وإن حملته على المعنوي بمعنى أنه لم يفعل ثم فعل فسمى ذلك نزولا عن مرتبة إلى مرتبة فهي عربية صحيحة
والحاصل أن تأويله بوجهين إما بأن المراد ينزل أمره أو الملك بأمره وإما بمعنى أنه استعارة بمعنى التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحو ذلك كما يقال نزل البائع في سلعته إذا قارب المشتري بعد مباعدة وأمكنه منها بعد منعة والمعنى هنا أن العبد في هذا الوقت أقرب إلى رحمة الله منه في غيره من الأوقات وأنه تعالى يقبل عليهم والعطف في هذا الوقت بما يلقيه في قلوبهم من التنبيه والتذكر الباعثين لهم على الطاعة
وقد حكى ابن فورك أن بعض المشايخ ضبط رواية البخاري بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل ملكا
ويقويه ما رواه النسائي وغيره عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله عز و جل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا يقول هل من داع يستجاب له هل من مستغفر يغفر له هل من سائل يعطى

قال القرطبي صححه أبو محمد عبدالحق قال وهذا يرفع الإشكال ويزيل كل احتمال والسنة يفسر بعضها بعضا وكذلك الآيات ولا سبيل إلى حمله على صفات الذات المقدسة فإن الحديث فيه التصريح بتجدد النزول واختصاصه ببعض الأوقات والساعات وصفات الرب يجب اتصفاها بالقدم وتنزيهها عن الحدوث والتجدد بالزمان
قيل وكل ما لم يكن فكان ولم يثبت فثبت من أوصافه تعالى فهو من قبيل صفات الأفعال فالنزول والإستواء من صفات الأفعال والله تعالى أعلم
تنبيه
قال شيخ الإسلام ابن تيمية جماع الأمر أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة
قسمان يقولون تجرى على ظواهرها

وقسمان يقولون على خلاف ظواهرها
وقسمان يسكتون
أما الأولون فقسمان
أحدهما من يجريها على ظاهرها من جنس صفات المخلوقين فهؤلاء المشبهة ومذهبهم باطل أنكره السلف وإليهم توجه الرد بالحق
الثاني من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله كما يجري اسم العليم والقدير والرب والإله والموجود والذات ونحو ذلك على ظاهرها اللائق بجلال الله تعالى فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوقين إما جوهر محدث وإما عرض قائم
فالعلم والقدرة والكلام والمشيئة والرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراض والوجه واليد والعين في حقه أجسام فإذا كان الله موصوفا عند عامة أهل الإثبات بأن له علما وقدرة وكلاما ومشيئة وإن لم تكن أعراضا يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين فكذلك الوجه واليد والعين صفات له تعالى ليست كصفات المخلوقين
وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف وعليه يدل كلام جمهورهم وكلام الباقين لايخالفه وهو أمر واضح فإن الصفات كالذات فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس ذوات المخلوقين فكذلك صفاته ثابتة من

غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات فمن قال لا أعقل علما ويدا إلا من جنس العلم واليد المعهودتين قيل له فكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذوات المخلوقين ومن المعلوم أن صفات كل موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته فمن لم يفهم من صفات الرب الذي ليس كمثله شيء إلا ما يناسب المخلوق فقد ضل في عقله ودينه
وما أحسن ما قال بعضهم إذا قال لك الجهمي كيف استوى أو كيف ينزل إلى السماء الدنيا أو كيف يداه ونحو ذلك فقل له كيف هو في نفسه فإذا قال لا يعلم ما هو إلا هو وكنه الباري غير معلوم للبشر فقل له فالعلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف فكيف يمكن أن تعلم كيفية لموصوف لم تعلم كيفيته وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي له بل هذه الروح قد علم العاقل اضطراب الناس فيها وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها أفلا يعتبر العاقل بها عن الكلام في كيفية الله تعالى مع أنا نقطع بأن الروح في البدن وأنها تخرج منه وتعرج إلى السماء وأنها تسل منه وقت النزع كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة لا نغالي في تجريدها غلو المتفلسفة ومن وافقهم حيث نفوا عنها الصعود والنزول والإتصال بالبدن والإنفصال عنه وتخبطوا فيها حيث رأوها من غير جنس البدن وصفاته فعدم مماثلتها للبدن لا ينبغي أن تكون هذه الصفات ثابتة لها بحسبها

قال وأما القسمان اللذان يقولون هي على خلاف ظواهرها فقسمان
قسم يتأولونها ويعينون المراد مثل قولهم استوى بمعنى استولى أو بمعنى علو المكانة والقدر أو بمعنى ظهور نوره للعرش أو بمعنى انتهاء الخلق إليه إلى غير ذلك من معاني المتكلفين
وقسم يقولون الله أعلم بالمراد بها لكنا نعلم أنه لم يرد بها إثبات صفة خارجة عما علمناه
قال وأما القسمان الواقفان
فقسم يقولون يجوز أن يكون المراد ظاهرها اللائق بالله تعالى ويجوز أن لا يكون صفة لله وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم
وقسم يمسكون عن هذا كله ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات
قال فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها
قال والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها القطع بالطريقة الثانية انتهى كلام ابن تيمية

خاتمة
قال الإمام الحافظ ابن الجوزي الحنبلي رحمه الله في كتابه صيد الخاطر من أضر الأشياء على العوام كلام المتأولين والنفاة للصفات والإضافات فإن الأنبياء عليهم السلام بالغوا في الإثبات ليقرروا في أنفس العوام وجود الخالق فإن النفوس تأنس بالإثبات فإذا سمع العامي ما يوجب النفي طرد عن قلبه الإثبات فكان من أعظم الضرر عليه وكان هذا المنزه من العلماء على زعمه مقاوما لإثبات الأنبياء بالمحو وشارعا في إبطال ما بعثوا به
قال وبيان هذا أن الله أخبر بإستوائه على العرش فأنست النفوس بإثبات الإله ووجوده وقال ويبقى وجه ربك الرحمن 27 وقال بل يداه مبسوطتان المائدة 64 وقال غضب الله عليهم الفتح 6 رضي الله عنهم المائدة 119 وأخبر الرسول أنه ينزل إلى السماء الدنيا وقال قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمان وقال كتب

التوراة بيده وكتب كتابا فهو عنده فوق العرش إلى غير ذلك مما يطول ذكره
فإذا امتلأ العامي والصبي من الإثبات وكاد يأنس من الأوصاف بما يفهمه الحس قيل له ليس كمثله شيء فمحا من قلبه ما نقشه وتبقى ألفاظ الإثبات متمكنة ولهذا أقر الشارع على مثل هذا فسمع منشدا يقول ... وإن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا ...
فضحك
وقال له الآخر أويضحك ربنا فقال نعم
وقال إنه على عرشه هكذا وأشار بيده مثل القبة كل هذا ليقرر الإثبات في النفوس
وأكثر الخلق لا يعرفون من الإثبات إلا بما يعلمون من الشاهد فيقنع منهم بذلك إلى أن يفهموا التنزيه ولهذا صحح الشارع إسلام من اعتصم من القتل بالسجود
قال فأما إذا ابتدأ العامي الفارغ القلب من فهم الإثبات فقيل له ليس في السماء ولا على العرش ولا يوصف بيد

1 - وكلامه إنما هو الصفة القائمة بذاته وليس عندنا منه شيء ولا يتصور نزوله انمحى من قلبه تعظيم المصحف الذي الإستخفاف به كفر ولم ينتقش في سره إثبات إله وهذه جناية عظيمة على الأنبياء توجب نقض ما تعبوا في إثباته
قال فلا يجوز للعالم أن يأتي إلى عقيدة عامي قد أنس بالإثبات فيكدرها فإنه يفسده ويصعب علاجه فأما العالم فإنا قد أمناه فإنه لا يخفى عليه استحالة تجدد صفة لله وأنه لا يجوز أن يكون استوى كما يعلم ولا يجوز أن يكون سبحانه محمولا ولا أن يوصف بملاصقة ومماسة ولا أن ينتقل ولا يخفى عليه أن المراد بتقليب القلوب بين إصبعين إنما هو الإعلام بالتحكم في القلوب فإن ما يديره الإنسان بين إصبعين هو متحكم فيه إلى الغاية ولا يحتاج إلى تأويل من قال الإصبع الأثر الحسن ولا إلى تأويل من قال يداه نعمتاه لأنه إذا فهم أن المقصود الإثبات وقد حدثنا بما نعقل وضربت لنا الأمثال وبما نعلم وقد ثبت عندنا بالأصل المقطوع به أنه لا يجوز عليه تعالى ما يعرفه الحس فهمنا المقصود بذكر ذلك
قال فأصلح ما نقول للعوام أمروا هذه الأشياء كما جاءت ولا تتعرضوا لتأويلها كل ذلك لقصد حفظ الإثبات الذي جاء به الأنبياء وهذا هو الذي قصده السلف
وكان الإمام أحمد يمنع أن يقال لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق كل ذلك ليحمل الناس على الإتباع لا الإبتداع وتبقى ألفاظ الإثبات على حالها
وأجهل الناس من جاء إلى ما قصد النبي صلى الله عليه و سلم تعظيمه فأضعف

في النفوس قوى التعظيم فإن النبي صلى الله عليه و سلم قا لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو ويشير إلى المصحف
ومنع الإمام الشافعي أن يحمله المحدث بعلاقته تعظيما له فإذا جاء متحذلق فقال الكلام صفة قائمة بذات المتكلم فمعنى قوله هذا أنه ما هاهنا شيء يحترم فهذا قد ضاد ما أتى به مقصود الشرع
قال وينبغي أن تفهم أوضاع الشرع ومقاصد الأنبياء وقد منعوا من كشف ما قد قنع الشرع بستره فنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الكلام في القدر ونهى عن الإختلاف فإن الباحث عن القدر إذا بلغ فهمه إلى أن يقول قضى وعاقب تزلزل إيمانه بالعدل وإن قال لم يقدر ولم يقض تزلزل إيمانه بالقدر فكان الأولى ترك الخوض في هذه الأشياء
قال ولعل قائلا يقول هذا منع لنا عن الإطلاع على الحقائق وأمر بالوقوف مع التقليد

فأقول لا إنما أعلمك أن المراد منك الإيمان بالمجمل فإن قوى فهمك تعجز عن إدراك الحقائق فإن الخليل عليه السلام قال أرني كيف تحيي الموتى البقرة 260 فأراه ميتا حيي ولم يره كيف أحياه لأن قواه تعجز عن إدراك ذلك يعني ومثله كقوله تعالى ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي الإسراء 85 يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس البقرة 189 لعجز النفس عن إدراك الحقائق على ما هي عليه
قال وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم الذي بعث ليبين للناس ما نزل إليهم يقنع من المسلم بنفس الإقرار وإعتقاد المجمل وكذلك الصحابة يعني وما نقل عنهم أنهم قالوا يجب أن تعلم أن لمولانا من الأوصاف كذا وكذا ويستحيل عليه كذا وكذا على سبيل التفصيل
قال وما نقل عنهم أنهم تكلموا في تلاوة متلو وقراءة ومقروء ولا أنهم قالوا استوى بمعنى استولى وينزل بمعنى يرحم بل قنعوا بالإثبات المجمل التي تثبت التعظيم عند النفوس وكفوا توهم الخيال بقوله تعالى ليس كمثله شيء
قال ثم هذا منكر ونكير إنما يسألان عن الأصول المجملة فيقولون من ربك وما دينك ومن نبيك
ومن فهم هذا الفصل سلم من تشبيه المجسمة وتعطيل

المعطلة ووقف على جادة السلف
وقال الحافظ ابن الجوزي في موضع آخر رأيت كثيرا من الخلق والعلماء لا ينتهون عن البحث عن أصول الأشياء التي أمروا بعلم جملها من غير بحث عن حقائقها كالروح مثلا فإن الله تعالى سترها بقوله قل الروح من أمر ربي الإسراء 85 فلم يقنعوا وأخذوا يبحثون عن ماهيتها وحقيقتها ولا يقعون بشيء ولا يثبت لأحدهم برهان على ما يدعيه وكذلك العقل فإنه موجود بلا شك كما أن الروح موجودة بلا شك وكلاهما إنما يعرف بآثاره لا بحقيقة ذاته
قال فإن قال قائل فما السر في كتم هذه الأشياء قلت لأن النفس لا تزال تترقى من حالة إلى حالة فلو اطلعت على هذه الأشياء لترقت إلى خالقها فكان ستر ما دونه زيادة في تعظيمه لأنه إذا كان بعض مخلوقاته لا تعلم حقيقته فهو سبحانه أجل وأعلا
ولو قال قائل ما الصواعق وما البرق وما الزلازل قلنا شيء مزعج ويكفي والسر في هذا أنه لو كشفت حقائقه لخف مقدار تعظيمه
قال فإذا ثبت هذا في المخلوقات فالخالق أجل وأعلا فينبغي أن يوقف في إثباته على دليل وجوده ثم يستدل على

جواز بعثه رسله ثم تتلقى أوصافه من كتبه ورسله ولا يزاد على ذلك ولقد بحث خلق كثير عن صفاته تعالى بآرائهم فعاد وبال ذلك عليهم
فإذا قلنا إنه موجود وعلمنا من كلامه أنه سميع بصير حي قادر كفانا هذا في صفاته ولا نخوض في شيء آخر وكذلك نقول متكلم والقرآن كلامه ولا نتكلف ما فوق ذلك ولم تقل السلف تلاوة ومتلو وقراءة ومقروء ولا قالوا استوى على العرش بذاته ولا قالوا ينزل بذاته بل أطلقوا ما ورد من غير زيادة ونفوا ما لم يثبت بالدليل مما لا يجوز عليه سبحانه
وقال أيضا في موضع آخر عجبت من أقوام يدعون العلم ويميلون إلى التشبيه بحملهم الأحاديث على ظاهرها فلو أنهم أمروها كما جاءت سلموا لأن من أمر ما جاء من غير اعتراض ولا معرض فما قال شيئا لا له ولا عليه ولكن أقوام قصرت علومهم فرأوا أن حمل الكلام على غير ظاهره نوع تعطيل ولو فهموا سعة اللغة لم يظنوا هذا وما هم إلا بمثابة قول الحجاج لكاتبه وقد مدحنه الخنساء أو ليلى الأخيلية

إذا نزل الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى داءها فشفاها ... شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة شفاها ...
فلما تمت القصيدة قال الحجاج لكاتبه اقطع لسانها فجاء ذاك الكاتب المغفل بالموسى فقالت له ويلك إنما قال أجزل لها العطاء ثم ذهبت إلى الحجاج فقال كاد والله يقطع مقولي
فكذلك الظاهرية الذين لم يسلموا بالتسليم فإنه من قرأ الآيات والأحاديث ولم يزد لم يلم وهذه طريقة السلفة فأما من قال الحديث يقتضي كذا ويحمل على كذا مثل أن يقول استوى على العرش بذاته وينزل إلى سماء الدنيا بذاته فهذه زيادة فهمها قائلها من الحس لا من النقل
قال وقد تكلموا بأقبح ما يتكلم به المتأولون ثم عابوا المتكلمين
قال واعلم أنه قد سبق إلينا من العقل والنقل أصلان راسخان عليهما نمر الأحاديث كلها
أما النقل فقوله سبحانه ليس كمثله شيء ومن فهم هذا لم يحمل وصفا له تعالى على ما يوجبه الحس
وأما العقل فقد علم مباينة الصانع للمصنوعات واستدل على حدوثها بتغيرها ودخول الإنفعال عليها واعجباه من رأى

ولم يفهم السر في الحديث الصحيح أن الموت يذبح بين الجنة والنار أوليس العقل إذا استفتي في هذا صرف الأمر عن حقيقته لما ثبت عنده من فهم ماهية الموت
فقال الموت عرض يوجب بطلان الحياة فكيف يموت الموت أو يذبح
فإذا قيل له فما تصنع في الحديث
فقال هذا ضرب مثل بإقامة صورة ليعلم بتلك الصورة الحسية موت ذلك المعنى
قلنا له قد ورد في الحديث الصحيح تأتي البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان
فقال الكلام لا يكون غمامة ولا يشبه بها
قلنا أفتعطل النقل
قال لا ولكن يأتي ثوابهما
قلنا فما الدليل الصارف لك عن هذه الحقائق
قال علمي بأن الكلام لا يشبه بالأجسام والموت لا يذبح ذبح الأنعام ولو علمتم سعة لغة العرب ما ضاقت أعطانكم من سماع مثل هذا

فقال العلماء صدقت هكذا نقول في تفسير مجيء سورة البقرة وفي ذبح الموت
فقال واعجبا لكم صرفتم عن الموت والكلام ما لا يليق بهما حفظا لما علمتم من حقائقهما فكيف لم تصرفوا عن الإله القديم ما يوجب التشبيه له بخلقه مما قد دل الدليل على تنزيهه عنه سبحانه
وقال أيضا اعلم أن شرعنا مضبوط الأصول محروس القواعد لا خلل فيه ولا دخل وكذلك جميع الشرائع إنما الآفة تدخل من المبتدعين في الدين أو الجهال مثل ما فعل النصارى حين رأوا إحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام فإنهم تأملوا الفعل الخارق للعادة الذي لا يصلح للبشر فنسبوا الفاعل إلى الإلهية ولو تأملوا ذاته لعلموا أنها مركبة على النقائص والحاجات وهذا القدر يكفي في عدم صلاح الإلهية ويعلم حينئذ أن الذي جرى علي يديه إنما هو فعل غيره
وقد يقع مثل ذلك في الفروع مثل ما روي أنه فرض على النصارى صوم شهر فزادوا عشرين يوما ثم جعلوه في فصل من السنة بآرائهم
ومن هذا الجنس تخبيط اليهود في الأصول والفروع وقد ثارت الضلالات في هذه الأمة أيضا وإن كان عمومهم قد حفظ من الشرك لأنهم أعقل الأمم وأفهمها غير أن الشيطان قارب ببعضهم الكفر وأغرق بعضهم في بحار الضلال

قال فمن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جاء بكتاب عزيز من عند الله عز و جل قيل في صفته ما فرطنا في الكتاب من شيء الأنعام 38 وبين ما عساه يشكل مما يحتاج إلى بيانه بسنته كما قيل لتبين للناس ما نزل إليهم النحل 44 ثم قال بعد البيان تركتهم عليها بيضاء نقية فجاء أقوام بعده فلم يقنعوا بتبيينه ولم يرضوا بطريقة أصحابه فبحثوا ثم انقسموا فمنهم من تعرض لما تعب الشرع في إثباته في القلوب فمحاه منها فإن القرآن والحديث يثبتان الإله عز و جل بأوصاف تقرر وجوده في النفوس كقوله تعالى ثم استوى على العرش وقوله بل يداه مبسوطتان المائدة 64 وقوله ولتصنع على عيني طه 39 وقوله عليه السلام ينزل الله إلى السماء الدنيا ويبسط يده لمسيء الليل والنهار ويضحك وكل هذه الأشياء وإن كان ظاهرها يوجب تخايل التشبيه فالمراد منها إثبات موجود فلما علم الشرع ما يطرق القلوب من التوهمات عند سماعها قطع ذلك بقوله ليس كمثله شيء
قال ثم إن هؤلاء القوم عادوا إلى القرآن الذي هو المعجز

الأكبر وقد قصد الشرع تقرير وجوده فقال سبحانه إنا أنزلناه نزل به الروح الأمين وهذا كتاب أنزلناه وأثبته في القلوب بقوله في صدور الذين أوتوا العلم العنكبوت 49 وفي المصاحف بقوله في لوح محفوظ وإنه لفي زبر الأولين الشعراء 196 فقال قوم من هؤلاء هو مخلوق فاسقطوا حرمته من النفوس وقالوا لم ينزل ولا يتصور نزوله وكيف نفصل الصفة عن الموصوف وليس في المصحف إلا حبر وورق فعادوا إلى ما بعث الشارع في إثباته بالمحو كما قالوا إن الله عز و جل ليس في السماء ولا يقال استوى على العرش ولا ينزل إلى السماء الدنيا بل ذاك رحمته فمحوا من القلوب ما أريد إثباته فيها وليس هذا مراد الشارع
وجاء آخرون فلم يقفوا على ما حده الشرع بل عملوا فيه بآرائهم فقالوا الله على العرش ولم يقنعوا بقوله ثم استوى على العرش
قال ودفن لهم أقوام من سلفهم دفائن ووضعت لهم الملاحدة أحاديث فلم يعلموا ما يجوز عليه سبحانه مما لا يجوز فأثبتوا بها صفاته وجمهور الصحيح منها آت على توسع العرب فأخذوه هم على الظاهر فكانوا في ضرب المثل كجحا فإن أمه قالت له احفظ الباب فقلعه ومشى به فأخذ ما في الدار فلامته أمه فقال إنما قلت لي احفظ الباب وما قلت احفظ

الدار ولما تخايلوا صورة عظيمة على العرش أخذوا يتأولون ما ينافي وجودها على العرش مثل قوله ومن أتاني يمشي أتيته هرولة فقالوا ليس المراد به دنو الذات وإنما المراد قرب المنهل والحظ وقالوا في قوله إلا أن يأتيهم الله في ظلل البقرة 210 هو محمول على ظاهره في مجيء الذات فهم يحلونه عاما ويحرمونه عاما ويسمون الإضافات إلى الله تعالى صفات فإنه قد أضاف إليه النفخ والروح وأثبتوا خلقه باليد وقالوا هي صفة تولى بها خلق آدم دون غيره وإلا فأي مزية كانت تكون لآدم فشغلهم النظر في فضيلة آدم عن النظر إلى ما يليق بالحق فإنه لا يجوز عليه المس ولا العمل بالآلات وقالوا نطلق على الله اسم الصورة لقوله خلق آدم على صورته وقالوا في حديث الرحم وأنها تعلقت بحقو الرحمان الحقو صفة ذات
قال وذكروا أحاديث لو رويت في نقض الوضوء ما قبلت وعمومها وضعته الملاحدة كما يروى عن عبدالله بن عمرو قال خلق الله الملائكة من نور الذراعين والصدر فقالوا نثبت هذا على ظاهره ثم أرضوا العوام بقولهم ولا نثبت جوارح فكأنهم يقولون قائم ما هو قائم واختلف قولهم هل يطلق على الله عز

وجل أنه جالس أو قائم كقوله قائما بالقسط آل عمران 18 وهؤلاء هم أخس فهما من جحا لأن قوله قائما بالقسط لا يراد به القيام وإنما هو كما يقال الأمير قائم بالعدل
قال وإنما ذكرت بعض أقوالهم لئلا يسكن إلى شيء منها فالحذر من هؤلاء وإنما الطريق طريق السلف على أنني أقول لك قال أحمد بن حنبل من ضيق علم الرجل أن يقلد في دينه الرجال فلا ينبغي أن تسمع عن معظم في النفوس شيئا في الأصول فتقلده فيه ولو سمعت عن أحمد بن حنبل ما لا يوافق الأصول الصحيحة فقل هذا من الراوي لأنه قد ثبت عن ذلك الإمام وأنه لا يقول في شيء برأيه فلو قدرنا صحته عنه فإنه لا يقلد في الأصول ولا أبوبكر وعمر
قال فهذا أصل يجب البناء عليه فلا يهولنك ذكر معظم في النفوس فإن المحقق العارف لا يهوله ذلك كما قال رجل لعلي ابن أبي طالب أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير كانا على الباطل وأنت على الحق فقال له علي إن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله ولعمري إنه قد وقر في النفوس تعظيم أقوام فإذا نقل عنهم شيء فسمعه جاهل بالشرع قبله لتعظيمهم في نفسه كما نقل عن أبي يزيد البسطامي أنه قال تراغبت علي نفسي فحلفت لا أشرب الماء سنة وهذا إن صح عنه كان خطأ قبيحا وزلة فاحشة لأن الماء ينفذ الأغذية إلى البدن ولا يقوم مقامه شيء فإن لم يشرب فقد سعى في أذى بدنه وضرر نفسه التي ليست له وأنه لا يجوز له التصرف فيها إلا عن إذن مالكها

وقال أيضا قدم إلى بغداد جماعة من أهل البدع الأعاجم فارتقوا منابر التذكيري للعوام فكان معظم مجالسهم أنهم يقولون ليس لله في الأرض كلام وهل المصحف إلا ورق وعفص وزاج وإن الله ليس على العرش ولا في السماء وإن الجارية التي قال لها النبي صلى الله عليه و سلم أين الله كانت خرساء فأشارت إلى السماء أي ليس هو من الأصنام التي تعبد في الأرض
ثم يقولون أين الحروفية الذين يزعمون أن القرآن حرف وصوت هذا عبارة جبريل فما زالوا كذلك حتى هان تعظيم القرآن في صدور أكثر العوام وصاروا يقولون هذا هو الصحيح ودس الشيطان دسائس البدع فقال قوم هذا المشار إليه مخلوق مع أن الإمام أحمد ثبت في ذلك ثبوتا لم يثبته غيره على دفع هذا القول لئلا يتطرق إلى القرآن ما يمحو تعظيمه من النفوس ويخرجه عن الإضافة إلى الله تعالى ورأى أن ابتداع ما لم يقل به لا يجوز فقال كيف أقول ما لم يقل
ثم لم يختلف الناس في ذلك إلى أن جاء بعض المتكلمين فقال إن الكلام صفة قائمة بالنفس فتخبطت العقائد مع أن الله تعالى ورسوله قنعا من الخلق بالإيمان الإجمالي ولم يكلفهم معرفة التفاصيل والوقوف على الماهية إما لأن الإطلاع على ذلك

يخبط العقائد وإما لأن قوى البشر تعجز عن مطالعة ذلك ونهى عن الخوض فيما يثير غبار شبهة وإذا كان قد نهى عن الخوض في القدر فكيف يجوز الخوض في صفات المقدر وإذا كانت الظواهر تثبت وجود القرآن وأنه كلام الله حقيقة فقال قائل ليس كذلك فقد نفى الظواهر التي تعب الرسول في إثباتها وقرر وجودها في النفوس وهل للمخالف دليل إلا أن يقول قال الله فيثبت ما نفى فليس الصواب لمن وفق إلا الوقوف مع ظواهر الشرع
وأما قولهم ليس في المصحف إلا ورق وعفص وزاج فهو كقول القائل هل الآدمي إلا لحم ودم هيهات إن معنى الآدمي هو الروح فمن نظر إلى اللحم والدم وقف مع الحس
وإثبات الإله بظواهر الآيات والأحاديث ألزم للعوام من تحديثهم بالتنزيه وإن كان التنزيه لازما
وقد كان ابن عقيل يقول الأصلح لاعتقاد العوام ظواهر الآيات والأحاديث لأنهم يأنسون بالإثبات فمتى محونا ذلك من قلوبهم زالت السياسات والخشية
وتهافت العوام في التشبيه أحب إلي من إغراقهم في التنزيه لأن التشبيه يغمسهم في الإثبات فيطمعوا ويخافوا شيئا قد تخايلوا مثله يرجى ويخاف وأما التنزيه فإنه يرمي بهم إلى النفي ولا طمع ولا مخافة من النفي

قال ومن تدبر الشريعة عرف سر ذلك
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ما ملخصه ما قاله الله تعالى ورسوله والسابقون الأولون وما قاله أئمة الهدى هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه و سلم بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور وشهد له بأنه بعثه داعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخبر الله تعالى بأنه أكمل له ولأمته دينهم أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبسا مشتبها ولم يميز ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العلى وما يجوز عليه أو يمتنع
فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية وأفضل ما اكتسبته القلوب وحصلته النفوس وأدركته العقول وقال فيما صح عنه ما بعث الله نبيا إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم
فمن المحال مع تعليمه عليه السلام لأمته كل شيء لهم فيه منفعة وإن دقت أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم وقلوبهم في ربهم ومعبودهم الذي معرفته غاية المعارف وعبادته أشف المقاصد والوصول إليه غاية المطالب فكيف يتوهم من في قلبه

أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام ثم إذا كان قد وقع ذلك منه فمن المحال أن خير أمته وأفضل القرون قصروا في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين عنه
ثم من المحال أيضا أن تكون القرون الفاضلة القرن الذي بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كانوا غير عالمين ولا قائلين في هذا الباب بالحق المبين فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل عرف حال القوم ولا أن يعتقد أن الخلف أعلم من السلف أو أن طريقة اللاسلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم ظنا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه ذلك وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات فهذا الظن فاسد أوجب تلك المقالة وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها النصوص فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى وهي التي يسمونها طريقة السلف وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف وهي التي يسمونها طريقة الخلف وصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل والتكذيب بالسمع فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه فلما انبنى أمرهم على هاتين المقدمتين كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين وأنهم لم يتبحروا في حقائق العلم بالله ولم

يتفطنوا لدقيق العلم الإلهي وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله
وهذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة بمقدار السلف فكيف يكون الخلف أعلم بالله وأسمائه وصفاته وأحكم في باب ذاته وآياته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء وأعلام الهدى الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا الذين وهبهم الله من العلم والحكمة وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة
ثم قال ولم يقل أحد منهم قط إن الله ليس على العرش ولا إنه في كل مكان ولا إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا إنه لا تجوز الإشارة إليه
فإن كان الحق فيما يقوله هؤلاء النافون للصفات الثابتة في الكتاب والسنة من هذه العبارات ونحوها دونما يفهم من الكتاب والسنة إما نصا وإما ظاهرا فكيف يجوز على الله ورسوله ثم على خير الأمة أنهم يتكلمون دائما بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط ولا يدلون عليه حتى جاء المتوغلون في علوم الفلاسفة فبينوا للأمة العقيدة الصحيحة ودفعوا بمقتضى عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصا أو ظاهرا فإن كان الحق في قولهم فلقد كان

ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير
فإن حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء إنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله وما يستحقه من الصفات لا من الكتاب ولا من السنة ولا من طريق سلف الأمة ولكن انظروا أنتم فيما وجدتموه مستحقا له من الصفات في عقولكم فصفوه به سواء كان موجودا في الكتاب والسنة أو لم يكن وما لم تجدوه مستحقا له في عقولكم فلا تصفوه به
ثم هم هنا فريقان أكثرهم يقول ما لم تثبته عقولكم فانفوه ومنهم من يقول بل توقفوا فيه وكأن الله تعالى قال لهم ما نفاه قياس عقولكم مما اختلفتم فيه أنفوه وإليه عند التنازع فارجعوا فإنه الحق الذي تعبدتكم به وما كان مذكورا في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا أو يثبت ما لم تدركه عقولكم فاعلموا أني امتحنتكم بتنزيله لا لتأخذوا الهدى منه لكن لتجتهدوا في تحريفه على شواذ اللغة ووحشي الألفاظ وغرائب الكلام وأن تسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله مع نفي دلالته على كل شيء من الصفات هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء المتكلمين
قال وهذا الكلام قد رأيته صرح بمعناه طائفة من المتكلمين وأن كتاب الله لا يهتدى به في معرفة الله وأن الرسول معزول عن التعليم بصفات من أرسله وما أشبه حال هؤلاء بقوله تعالى ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به إلى قوله ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا

النساء 60 فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول أي إلى سنته أعرضوا عن ذلك وهم يقولون إنا قصدنا الإحسان علما وعملا بهذه الطريق التي سلكناها والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية
قال فيقال لهم يا سبحان الله كيف لم يقل الرسول يوما من الدهر ولا أحد من سلف الأمة هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه لكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم فإنه الحق
ثم الرسول قد أخبر بأن أمته ستفترق ثلاثا وسبعين فرقة فقد علم ما سيكون ثم قال إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله

وقال في صفة الفرقة الناجية هو من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي
فهلا قال من تمسك بظاهر القرآن في باب الإعتقاد فهو ضال وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم وما يحدثه المتكلمون منكم بعد القرون الثلاثة
قال ثم أصل هذه المقالة مقالة التعطيل للصفات إنما هو مأخوذ من تلامذة اليهود والصابئين فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام أعني أن الله ليس على العرش وإنما استوى استولى ونحو ذلك هو الجعد بن درهم وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه
وقد قيل إن الجعد أخذ مقالته هذه من أبان بن سمعان وأخذها أبان من طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم وأخذها طالوت

من لبيد بن أعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه و سلم
وكان الجعد هذا فيما قيل من أهل حران وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة بقايا أهل دين النمرود الكنعانيين والنمرود اسم لملك المصائبين كما أن كسرى اسم لملك الفرس والمجوس
وعلماء الصابئين هم الفلاسفة وكان أولئك الصابئون إذ ذاك كفارا مشركين وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل
ومذهب نفاة صفات الرب من هؤلاء أنه ليس له تعالى إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منهما وهم الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل عليه السلام فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة الفلاسفة وأخذها الجهم أيضا فيما ذكره الإمام أحمد وغيره
ولما كان في حدود المئة الثانية انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية بسبب بشر المريسي وطبقته وكان الأئمة مثل مالك وسفيان وابن المبارك وأبي يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي يبالغون في ذم الكلام وفي ذم بشر المريسي هذا وتضليله حتى إن هارون الرشيد قال يوما بلغني أن بشرا المريسي يقول القرآن

مخلوق ولله علي إن أظفرني به لأقتلنه قتلة ما قتلتها أحدا فأقام بشر متواريا أيام الرشيد نحوا من عشرين سنة
قال وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات الذي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات وذكرها الفخر الرازي في كتابه الذي سماه تأسيس التقديس ويوجد كثير منها في كلام كثير غير هؤلاء مثل أبي علي الجبائي وعبدالجبار بن أحمد الهمداني وأبي الحسين البصري وأبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد الغزالي وغيرهم هي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي في كتابه
قال ويدل على ذلك كتاب الرد الذي صنفه الإمام الدارمي عثمان بن سعيد أحد الأئمة المشاهير في زمان البخاري صنف كتابا سماه رد عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افترى على الله من التوحيد حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام يقتضى أن المريسي أقعد بها وأعلم بالمعقول والمنقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم من جهته ثم رد الدارمي ذلك بكلام إذا طالعه العاقل الذكي يسلم حقيقة ما كان عليه السلف ويتبين له ظهور الحجة لطريقهم وضعف حجة من خالفهم ثم إذا رأى أئمة الهدى قد أجمعوا على ذم المريسية وأكثرهم كفروهم أو ضللوهم تبين له الهدى

قال والعاقل يسير فينظر فكلام السلف في هذا الباب موجود في كتب كثيرة لا يمكن أن نذكر هنا إلا قليلا مثل كتاب السنن للالكائي والإبانة لابن بطة والسنة لأبي ذر الهروي ولأبي عبدالله بن منده والأصول لأبي عمر الطلمنكي وكلام أبي عمر بن عبدالبر والأسماء والصفات للبيهقي وقبل ذلك السنة للطبراني ولأبي الشيخ الأصبهاني وقبل ذلك السنة للخلال والتوحيد لابن خزيمة وكلام أبي العباس بن سريج والرد على الجهمية لجماعة وقبل ذلك السنة لعبدالله بن الإمام أحمد والسنة لأبي بكر الأثرم والسنة لحنبل وللمروزي ولأبي داود ولابن أبي شيبة والسنة لابن أبي حاتم وكتاب الرد على الجهمية لعبدالله بن محمد شيخ البخاري وكتاب الرد على الجهمية للدارمي وكتاب نعيم ابن حماد الخزاعي وكتب عبدالرحمن بن أبي حاتم وكلام الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحيى بن يحيى النيسابوري وأمثالهم
قال وعندنا من الدلائل السمعية والعقلية ما لا يتسع هذا

الموضع لذكره
قال ثم القول الشامل في جميع هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله وبما وصفه به السابقون الأولون لا نتجاوز القرآن والحديث
قال الإمام أحمد رحمه الله لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله لا نتجاوز القرآن والحديث
ومذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ونعلم أن ما وصف الله به نفسه من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائها وصفاتها ولا في أفعالها فكما تيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة وله أفعال حقيقة فكذلك له صفات حقيقة وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وكل ما أوجب نقصا أو حدوثا فإن الله تعالى منزه عنه فإنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه
ومذهب السلف بين التعطيل والتمثيل فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله فيعطلون أسماءه الحسنى وصفاته العلا ويحرفون الكلم عن مواضعه فإن من حرفوا لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق ثم شرعوا

في نفي تلك المفهومات فقد جمعوا بين التمثيل والتعطيل مثلوا أولا وعطلوا آخرا فهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة به تعالى
قال ثم المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة من المتأولين لهذا الباب في أمر مريج فإن من ينكر الرؤية زعم أن العقل يحيلها وأنه مضطر إلى التأويل ومن يحيل أن لله علما وقدرة وأن كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقي في الجنة يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل
ويكفيك دليلا على فساد قول هؤلاء أنه ليس بواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل بل منهم من يزعم أن العقل جوز أو أوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله
يا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة فB مالك بن أنس الإمام حيث قال أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه و سلم لجدل هؤلاء وكل من هؤلاء مخصوم بمثل ما خصم به الآخر فكل من ظن أن غير الرسول والسلف أعلم بهذا الباب أو أكمل بيانا أو أحرص على هدى الخلق فهو من الملحدين لا من المؤمنين

قال والمنحرفون عن طريقة السلف ثلاث طوائف أهل التخييل وأهل التأويل وأهل التجهيل
فأهل التخييل هم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من متكلم ومتصوف ومتفقه فإنهم يقولون إن ما ذكره الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو تخييل للحقائق لينفع به الجمهور لا أنه يبين به الحق ولا هدى به الخلق ولا أوضح الحقائق
ثم هم على قسمين
منهم من يقول إن الرسول لم يعلم الحقائق على ما هي عليه ويقولون إن من الفلاسفة الإلهية من علمها وكذلك من الأشخاص الذين يسمونهم أولياء من علمها ويزعمون أن من الفلاسفة والأولياء من هو أعلم بالله واليوم الآخر من المرسلين وهذه مقالة غلاة الملحدين من الفلاسفة الباطنية باطنية الشيعة وباطنية الصوفية
ومنهم من يقول بل الرسول علمها لكن لم يبينها وإنما تكلم بما يناقضها وأراد من الخلق فهم ما يناقضها لأن مصلحة الخلق في هذه الإعتقادات التي لا تطابق الحق
ويقول هؤلاء يجب على الرسول أن يدعو الناس إلى إعتقاد التجسيم مع أنه باطل وإلى اعتقاد معاد الأبدان مع أنه باطل ويخبرهم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون مع أن ذلك باطل لأنه لا يمكن دعوة الخلق إلا بهذه الطريق التي تتضمن الكذب لمصلحة العباد

فهذا قول هؤلاء في نصوص الإيمان بالله واليوم الآخر
وأما الأعمال فمنهم من يقرها ومنهم من يجريها هذا المجرى ويقول إنما يؤمر بها بعض الناس دون بعض ويؤمر بها العامة دون الخاصة وهذه طريقة الباطنية الملاحدة والإسماعيلية ونحوهم
وأما أهل التأويل فيقولون إن النصوص الواردة في الصفات لم يقصد بها الرسول أن يعتقد الناس بها الباطل ولكن قصد بها معاني ولم يبين لهم ذلك ولا دلهم عليها ولكن أراد أن ينظروا فيعرفوا الحق بعقولهم ثم يجتهدوا في صرف تلك النصوص عن مدلولها ومقصوده امتحانهم وتكليفهم وإتعاب أذهانهم وعقولهم في أن يصرفوا كلامه عن مدلوله ومقتضاه ويعرفوا الحق من غير جهته وهذا قول المتكلمة والجهمية والمعتزلة وهم وإن تظاهروا بنصر السنة في مواضع كثيرة لكن في الحقيقة لا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا لكن أولئك الملاحدة ألزموهم في نصوص المعاد نظير ما أدعوه في نصوص الصفات فقالوا نحن نعلم بالإضطرار أن الرسل جاءت بمعاد الأبدان وقد علمنا فساد الشبه المانعة منه
والسلف ومن تبعهم يقولون لهم ونحن نعلم بالإضطرار أن الرسل جاءت بإثبات الصفات ونصوص الصفات في الكتب الإلهية أكثر وأعظم من نصوص المعاد ويقولون لهم معلوم أن مشركي العرب وغيرهم كانوا ينكرون المعاد وقد أنكروه على الرسول وناظروه عليه بخلاف الصفات فإنه لم ينكر شيئا منها أحد من العرب فعلم أن إقرار العقول بالصفات أعظم من إقرارها بالمعاد

هذا والحق ظاهر في نفسه وعليه نور والحق يقبل من كل من يتكلم به
وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول كما رواه أبو داود في سننه اقبلوا الحق من كل من جاء به وإن كان كافرا أو قال فاجرا واحذروا زيغة الحكيم قالوا كيف نعلم أن الكافر يقول الحق قال إن على الحق نورا أو كلاما هذا معناه
قال ابن تيمية والله يعلم أني بعد البحث التام ومطالعة ما أمكن م كلام السلف ما رأيت كلام أحد منهم يدل لا نصا ولا ظاهرا و بالقرائن على نفي الصفات الخبرية في نفس الأمر بل الذي رأيته أنهم يثبتون جنسها في الجملة وما رأيت أحدا منهم نفاها وإنما ينفون التشبيه وينكرون على المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه مع إنكارهم على من ينفي الصفات كقول نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري من شبه الله بخلقه فقد كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس من وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها
وكانوا إذا رأوا الرجل قد أغرق في نفي التشبيه من غير إثبات الصفات قالوا هذا جهمي معطل وهذا كثير في كلامهم

والجهمية والمعتزلة إلى اليوم يسمون من أثبت شيئا من الصفات مشبها كذبا منهم وإفتراء حتى قال ثمامة بن أشرس من رؤساء الجهمية ثلاثة من الأنبياء مشبهة موسى حيث قال إن هي إلا فتنتك الأعراف 155 وعيسى حيث قال تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك المائدة 116 ومحمد حيث قال ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا وحتى إن جل المعتزلة يدخل عامة الأئمة مثل مالك وأصحابه والثوري وأصحابه وأبي حنيفة وأصحابه والأوزاعي وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم في قسم المشبهة
وأطال ابن تيمية الكلام على ذلك وعلى تأييد مذهب السلف في عدة كراريس
ثم قال ومن كان عليما بهذه الأمور تبين له بذلك حذق السلف وعلمهم وخبرتهم حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه وذموا أهله وعابوهم وعلم أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد إلا بعدا فنسأل الله العظيم أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال مؤلفه تم وكمل في جمادى الآخرة بمصر المحروسة عام اثنين وثلاثين وألف