كتاب : العين والأثر في عقائد أهل الأثر
المؤلف : عبدالباقي بن عبدالباقي بن عبدالقادر

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
الحمد لله الذي يستدل على وجوب وجوده بديع ما له من الأفعال المنزه في ذاته وصفاته عن النظائر والأمثال أنشأ الموجودات فلا يعزب عن علمه مثقال سبحانه من إله تنزه عن أن يدركه وهم أو يحصره خيال بل كل ما خطر بالبال فهو بخلاف ذي الإكرام والجلال أحمده سبحانه وأشكره أن هدانا لدينه الحق وأزاح شبه الزيغ والضلال وأتوب إليه وأستغفره من جميع الأخطاء والأخطال وأسأله لنا النجاة في يوم تزول منه الجبال

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة موحد له في الغدو والأصال
واشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله نبي جاءنا بدين قويم فارتوينا بما جاءنا به من عذب زلال اللهم صل عليه وعلى إله وصحبه الذين هم خير صحب وآل صلاة دائمة متواترة على مرور الأيام والليال وسلم تسليما وبعد
فقد طلب مني بعض الأصدقاء الذين لا تسعني مخالفتهم أن أجمع مؤلفا يشتمل على مقاصد ثلاث وتتمات خمس
المقصد الأول في المنصوص من عقائد الحنابلة عن الإمام أحمد رضي الله عنه
المقصد الثاني في ما وقع من المسائل الخلافية بين الحنابلة والأشاعرة وذكر أدلة الحنابلة
المقصد الثالث في مسألة الكلام وذكر ما نقل عن الإمام أحمد رضي الله عنه فأجبته إلى ذلك وسميته بكتاب العين والأثر في عقائد أهل الأثر فأقول وبالله التوفيق

المقصد الأول في المنصوص من عقائد الحنابلة وهو مشتمل على أبواب وخاتمة
وتتمة
الباب الأول
في معرفة الله تعالى
فتجب معرفة الله تعالى شرعا ومما ورد في الشرع النظر في الوجود والموجود على كل مكلف قادر وهو أول واجب لله تعالى
وأول نعم الله تعالى الدينية وأعظمها أن أقدره على معرفته وأول نعمه الدنيوية الحياة العرية عن ضرر

وشكر المنعم واجب شرعا وهو اعتراف بنعمه على جهة الخضوع والإذعان وصرف كل نعمه في طاعته

الوحدانية
ويجب الجزم بأنه تعالى واحد لا يتجزأ ولا ينقسم أحد لا من عدد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
العلم
وبأنه تعالى عالم بعلم واحد قديم باق ذاتي محيط بكل معلوم كلي أو جزئي على ما هو عليه فلا يتجدد علمه بتجدد المعلومات ولا يتعدد بتعددها

ليس بضروري ولا كسبي ولا استدلالي

القدرة
وبأنه قادر بقدرة واحدة وجودية باقية قديمة ذاتية متعلقة بكل ممكن فلم يوجد شيء في الماضي ولا يوجد في المستقبل إلا بها
الإرادة
وبأنه مريد بإرادة واحدة وجودية قديمة ذاتية باقية متعلقة بكل ممكن
الحياة
وبأنه تعالى حي بحياة واحدة وجودية قديمة ذاتية باقية
السمع والبصر
وبأنه تعالى سميع بصير بسمع وبصر قديمين ذاتيين وجوديين متعلقين بكل مسموع ومبصر
الكلام
وبأنه تعالى قائل ومتكلم بكلام قديم ذاتي وجودي غير مخلوق ولا محدث ولا حادث بلا تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف
القول في القرآن
والقرآن كلام الله ووحيه وتنزيله معجز بنفسه لجميع الخلق غير مخلوق ولا حال في شيء ولا مقدور على بعض آية منه فمن قال القرآن مخلوق أو محدث أو حادث أو وقف فيه شاكا أو ادعى قدرة أحد على مثله كفر
ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق أو القرآن بلفظي مخلوق فإن كان يدعو إليه ويناظر عليه فهو محكوم بكفره بنص أحمد رضي الله عنه على ذلك صريحا في مواضع وإن كان مقلدا فهو فاسق قاله شيخنا

منصور البهوتي في حاشيته على المنتهى وبمعناه في شرحه لمؤلفه في كتاب الشهادات
ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع
وبسندنا لأحمد رضي الله عنه أنه سئل عن من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق قال من قاله فهو جهمي
وقال جوابا لسائل آخر عن هذا السؤال لا يصلى خلف قائله ولا

يجالس ولا يكلم ولا يصلى عليه
فالواجب الكف عن هذه العبارات وشبهها لكف السلف عنها لما فيها من الإيهام وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستوفى في آخر هذا التأليف إن شاء الله تعالى ونقل كلام الحافظ ابن حجر في الذي استقر عليه قول الأشعرية وهو موافقتهم الحنابلة في الاعتقاد إن شاء الله تعالى

فصل
ويجب الجزم بأن الله تعالى ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض ولا تحله الحوادث ولا يحل في حادث ولا ينحصر فيه فمن اعتقد

أو قال إن الله بذاته في مكان فكافر
بل يجب الجزم بأنه سبحانه وتعالى بائن من خلقه فكان ولا مكان ثم خلق المكان وهو كما كان قبل خلق المكان ولا يعرف بالحواس ولا يقاس بالناس فهو الغني عن كل شيء ولا يستغني عنه شيء ولا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء
وعلى كل حال مهما خطر بالبال أو توهمه الخيال فهو بخلاف ذي الإكرام والجلال
فيحرم تأويل ما يتعلق به تعالى وتفسيره كآية الاستواء

وحديث النزول وغير ذلك من آيات الصفات إلا بصادر عن النبي أو بعض الصحابة وهذا مذهب السلف قاطبة فلا نقول في التنزيه كقول المعطلة بل نثبت ولا نحرف ونصف ولا نكيف والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات فمذهبنا حق بين باطلين وهدى بين ضلالتين وهو إثبات الأسماء والصفات مع نفي التشبيه والأدوات

الباب الثاني
في الأفعال
كل شيء سوى الله وصفاته حادث وهو سبحانه وتعالى خلقه وأوجده وابتداه من العدم لا لعلة ولا لغرض ولا لموجب ولا يفعل شيئا عبثا وجميع أفعال العباد كسب لهم وهي مخلوقة لله خيرها وشرها والعبد مختار يسير في كسب الطاعة واكتساب المعصية غير مكره ولا مجبر وله تعالى إيلام الخلق وتعذيبهم من غير جرم فله أن يفعل بخلقه ما يشاء وكل ذلك منه حسن وله تعجيل الثواب والعقاب وتأخيرهما والعفو عن المسلم المذنب وإن لم يتب وعن الكافر إذا أسلم والمعدوم مخاطب إذا وجب ولا يجب عليه لخلقه شيء ولا فعل الأصلح لهم والعقل المرعي تبع للنقل الشرعي
والله هو الرزاق من حلال وحرام هدى من شاء وأضل من أراد

مكره ولا مجبر وله تعالى إيلام الخلق وتعذيبهم من غير جرم فله أن يفعل بخلقه ما يشاء وكل ذلك منه حسن وله تعجيل الثواب والعقاب وتأخيرهما والعفو عن المسلم المذنب وإن لم يتب وعن الكافر إذا أسلم والمعدوم مخاطب إذا وجب ولا يجب عليه لخلقه شيء ولا فعل الأصلح لهم والعقل المرعي تبع للنقل الشرعي
والله هو الرزاق من حلال وحرام هدى من شاء وأضل من أراد

الباب الثالث
في الأحكام
فيجب امتثال أمره ونهيه الجازمين ويسن في غيرهما ولا يستحق المطيع على الله ثوابا ولا العاصي عقابا بل يثيب الطائع بفضله ويعذب العاصي بعدله فلا نقطع لطائع بجنة ولا لعاص بنار بل نرجو ونخاف
فصل
الإسلام الإتيان بالشهادتين مع اعتقادهما والتزام بقية الأركان الخمسة إذا تعينت وتصديق الرسول فيما جاء به

والكفر جحد ما لا يتم الإسلام بدونه والمسلم تبعا لأبويه أو لسابيه أو للدار ويلزم الإتيان بالشهادتين إذا بلغ إن لم يكن نطق بهما ولا يقال للفاسق دين ومتق ومخلص وولي الله
والإيمان عقد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ويزيد بالعلم ويضعف بالجهل والغفلة والنسيان
وقول إن شاء الله فيه كما قال ابن عقيل سنة لا على

الشك في الحال بل في المآل أو في قبول بعض الأعمال أو لخوف التقصير أو كراهية تزكية النفس
فصل
والله مقدر الخير والشر وكل ما علمه وقضاه أو حكم به أو أخبر به لا تتصور مخالفته ولا الخلف فيه فلا يتعدى شيء أجله والمحروق والقتيل والغريق وأكيل الوحش والميت بهدم ونحوهم أموات بآجالهم كمن يموت حتف أنفه
فيجب بوعيد الله تخليد الكافر في النار وبوعده إخراج غير منها بشفاعة أو غيرها وتحبط المعاصي بالتوبة للخبر والكفر

بالإسلام والطاعة بالردة المتصلة بالموت

فصل
التوبة من كل ذنب واجبة على المكلف فورا ولا تقبل ظاهرا من داعية إلى بدعته ولا من ساحر وزنديق ولا ممن تكررت ردته أو سب الله تعالى أو رسوله أو ملكا له وتقبل توبة من سب الصحابة أو بعضهم وإن كفر بذلك كمن قذف عائشة أو غيرها من زوجاته وكمن ادعى ألوهية علي رضي الله عنه أو نبوته أو غلط جبريل وقبولها تفضلا منه تعالى والحدود ليست بتوبة ولا كفارة في حق

المصر وتقبل ما لم يعاين الموت
فائدة الأرواح مخلوقة لله ويكفر القائل بقدمها
فصل
ويجب الإيمان بالقضاء والقدر وأن الله قضى المعاصي والمكروه وقدر ذلك وكتبه على خلقه ولم يأمرهم به بل نهاهم عن الرضا بذلك ويجب الإيمان بالرقيب والعتيد

الباب الرابع
في بقية السمعيات
ويجب الإيمان بالساعة وأشراطها من الدجال ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى ونحو ذلك وبالصعقة والحشر والنشر لكل ذي روح وبإحياء الميت في قبره وضغطته فيه ورد روحه إليه وسؤال منكر ونكير وثواب الميت وعقابه للروح والجسد وبأن كل واحد يعلم مصيره قبل موته وأن الميزان والمعاد الجسماني حق بعد الإعدام ممن

يعدم ويحاسب المسلمون المكلفون إلا من شاء الله أن يدخل الجنة بغير حساب والكفار لا يحاسبون فلا توزن صحائفهم وإن فعل كافر قربة من نحو صدقة أو عتق أو ظلم رجونا أن يخفف عنه من العذاب وأن الصراط حق وهو جسر ممدود على جهنم دحض مزلة عليه خطاطيف وأن المرور عليه بحسب الأعمال وأن الجنة والنار حق وهما مخلوقتان الآن خلقتا للبقاء وبأن المقام المحمود والحوض المورود حق

الباب الخامس
في النبوة
والأنبياء متفاوتون في الفضيلة ورسول الله حق إلى الإنس والجن وهو خاتم الأنبياء وأفضلهم ولم يكن قبل البعثة على دين قومه بل ولد مسلما مؤمنا وأن المعجزات القاطعة المعتبرة لصدقه وجدت دالة على نبوته مقترنة بدعوته وهي ما خرق العادة من قول أو فعل إذا وافق دعوى الرسالة وقارنها وطابقها على وجه التحدي لا يقدر أحد عليها ولا يجوز ظهورها على يدي كاذب بدعوى النبوة
وأنه كان يخشى الله تعالى وأنه معصوم في ما يؤدي عن الله

سبحانه وهكذا من كل ذنب وكذا سائر الأنبياء

فصل
وكرامات الأولياء حق وهي خرق العادات لا على وجه الاستدعاء والتحدي بها والأنبياء أفضل منهم ومن الملائك
فصل
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية على الجماعة وعين على الواحد ويجب على من علمه وتحققه وهو عارف بما ينكره ولم يخف أذى في نفسه أو ماله أو أهله ولا فتنة تزيد على المنكر ولم يقم به غيره وعلى الناس إعانة المنكر ونصره مع القدرة ولا ينكر بسيف ولا عصا إلا مع سلطان
والمعروف كل فعل وقول حسن شرعا
والمنكر كل فعل وقول قبيح قصد شرعا
والإنكار في ترك الواجب وفعل الحرام واجب وفي ترك المسنون

وعدم تعلمه وتعليمه مندوب
فائدة وكل ما يأمر به وينهى عنه إما حق الله تعالى كالصلاة والصيام والحث على الطاعة وترك المعصية أو لآدمي كوفاء الدين والعدل
أو لهما كالزكاة والكفارات ونحو ذلك والأب وغيره في الإنكار عليه سواء
تنبيهات ينبغي أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر متواضعا رفيقا فيما يدعو إليه ذا رأي ومراقبة وشدة في الدين قاصدا بذلك وجه الله وإقامة دينه ونصر شرعه وامتثال أمره وإحياء سنة نبيه بلا رياء ولا منافقة ولا مداهنة غير منافس ولا مفاخر ولا ممن يخالف قوله فعله يبدأ في إنكاره بالاسهل فإن زال وإلا زاد فإن

لم رفعه إلى سلطان عادل لا يأخذ مالا ولا يفعل غير ما يجب وينكر على السلطان بوعظ وتخويف من عذاب الله تعالى
وسن هجران العصاة المتجاهرين ويجب الإغضاء عن المستترين ويجب هجران المبتدعين الداعين إلى الضلالة على من عجز عن إصلاحهم والإنكار عليهم
فائدة يجب على القادر الدفع عن نفسه وحرمته إن أمكنه ويسقط إن علم أنه لا يفيد وعليه إنجاؤه من غرق وحريق ونحوهما كما يجب أن ينجيه من المجاعة والظمأ مع القدرة
الخاتمة من كفر من ليس بكافر معتقدا كفره كفر ومن فسق من ليس بفاسق معتقدا فسقه فسق ويحرم لعن كافر معين

فصل
والقديم ما لا أول لوجوده ولم يسبقه عدم ويراد به المتقدم وإن سبقه العدم
والعالم كل موجود سوى الله تعالى وصفاته
والمستحيل لذاته غير ممكن ولا مقدور وإلا صار ممكنا

والجائز ما جاز اجتماعه وافتراقه وهو شرعا ما أذن فيه الشرع
والدور توقف كل شيئين على الآخر
والتسلسل ترتيب أمور غير متناهية

التتمة
أسلم الطرق التسليم فما سلم دين من لم يسلم لله ورسوله ورد علم ما أشتبه إلى عالمه ومن أراد علم ما يمتنع علمه حجبه مرامه عن خالص التوحيد وصافي المعرفة وصحيح الإيمان فيتردد بين الإقرار والإنكار شاكا زائغا متحيرا لا مؤمنا صادقا ولا جاحدا مكذبا ولا مؤمنا محققا
ومن لم يتوق النفي والتشبيه ضل والتعمق في الفكر ذريعة

الخذلان وسلم الحرمان ودرجة الطغيان ومادة التوهان والولهان فإنه يفتح باب الحيرة غالبا وقل أن يكون ملازمه إلا خائبا
والأمن واليأس ينقلان عن الملة وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة فإنه بين الغلو والتقصير والتشبيه والتعطيل وبين الجبر والقدر فعليك يا أخي اتباع السنة والآثار دون الافتكار والابتكار فإن قليل ذلك مع الفطنة كثير والممعن في التعمق مذموم والحريص على التوغل في اللهو محروم والإسراف في الجدال يوجب عداوة الرجال وينشر الفتن ويولد المحن ويقلل الهيبة ويكثر الخيبة فإن الله سبحانه لا تفهمه الأفهام ولا تتوهمه الأوهام فعليك بطلب الحق والصدق والتوقف معهما وترك التغير عنهما واجتهد في عدم الدخول فيما لا يلزمك فإنه يلزم منه همك وندمك فاستنصح يا أخي فيما قربت إليك وبذلت جهدي في نصحك شفقة عليك فإنه أصوب وأثوب وأسلم وأقوم والله أعلم
هذا آخر المقصد الأول

وللكلام على المقصد الثاني
تقدمة
وهي أن طوائف أهل السنة ثلاثة أشاعرة وحنابلة وماتريدية بدليل عطف العلماء الحنابلة على الأشاعرة في كثير من الكتب الكلامية وجميع كتب الحنابلة والعطف يقتضي المغايرة وكيف يصح إدخال الحنابلة في الأشاعرة مع أنه قد ذكر ابن السبكي في طبقات الشافعية أن الشيخ أبا الحسن الأشعري ولد سنة ستين ومائتين بعد

وفاة الإمام أحمد بعشرين سنة فكيف يصح نسبة الحنابلة إلى

اعتقادهم مع أنهم منذ زمن الإمام أحمد رضي الله عنه إلى زماننا هذا لم يزالوا

على اعتقاد إمامهم الذي هو معتقد السلف كبقية الأئمة الأربعة من حيث

تسليم آيات الصفات وعدم تأويلها ألا ترى إلى جواب مالك لما سئل عن الاستواء

المقصد الثاني
في مسائل وقع فيها الخلاف بين الحنابلة والأشاعرة
منها أننا نؤمن بأن الله تعالى مستو على عرشه بائن من خلقه ممن غير تأويل فعن أم سلمة رضي الله عنها

جواب في الاستواء
كما اشتهر من جواب أبي علي الحسين بن الفضل البجلي عن الاستواء فقال لا نعرف أنباء الغيب إلا ما كشف لنا وقد أعلمنا جل ذكره أنه استوى على عرشه ولم يخبر كيف استوى ومن اعتقد أن الله مفتقر للعرش أو لغيره من المخلوقات أو أن استواءه على العرش كاستواء المخلوقات على كرسيه فهو ضال مبتدع فكان الله ولا زمان ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان
ومنها نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه بنزول المخلوقين ولا تمثيل ولا تكييف بل يثبت الحنابلة ما أثبته رسول الله ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره

ويكلون علمه إلى الله تعالى
وكذلك ما أنزل الله عز اسمه في كتابه من ذكر المجيء والإتيان المذكورين في قوله تعالى وجاء ربك والملك الآية وفي قوله ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام الآية
ونؤمن بذلك بلا كيف فلو شاء سبحانه أن يبين لنا كيفية ذلك فعل فانتهينا إلى ما أحكمه وكففنا عن الذي يتشابه
وقال مالك رضي الله عنه إياكم والبدع قيل وما البدع قال أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله تعالى وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته لا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون
وفي صحف إدريس لا تروموا أن تحيطوا بالله خبرة فإنه أعظم وأعلى أن تدركه فطن المخلوقين
قال الشافعي رحمه الله تعالى إن يلق الله العبد بكل ذنب ما عدا الشرك أحب إلي من أن يلقاه بشيء من الأهواء

وقال عمر بن عبد العزيز لرجل سأله عن شيء من الاهواء فقال الزم دين الصبيان في الكتاب والأعراب واله عما سوى ذلك
قال ابن عيينة كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه
وقال بعض السلف قدم الإسلام لا يثبت إلا على قنطرة التسليم
فقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى آمنت بالله وبما جاء عن الله وعلى مراد الله وآمنت برسول الله وبما جاء به رسول الله وعلى مراد رسول الله نقله عنه الإمام أبو الحسن اللبوذي الحنبلي في كتابه اللمع في السنن والبدع وقال بعد وعلى هذا درج أئمة السلف
وسيأتي في التتمة الخامسة ذكر كلام الشيخ الأشعري وأنه موافق

للإمام أحمد في الاعتقاد وأنه يجري المتشابهات على ما قاله الله من غير تصرف ولا تأويل كما هو مذهب السلف وعليه فلا خلاف ولا نزاع والحمد لله

المقصد الثالث
في مسألة الكلام
وذكر ما نقل عن الإمام أحمد فنقول
القرآن كلام الله نزله على محمد معجز بنفسه متعبد بتلاوته
والكلام حقيقة الأصوات والحروف وإن سمي به المعنى النفسي وهو نسبة بين مفردين قائمة بالمتكلم فمجاز
والكتابة كلام حقيقة فلم يزل الله متكلما كيف شاء إذا شاء بلا كيف يأمر بما يشاء ويحكم

وهذا مذهب الإمام أحمد وأصحابه ومذهب المحدثين بلا شك محمد بن إسماعيل البخاري وجمهور العلماء قاله ابن مفلح في أصوله وابن قاضي الجبل
قال الشيخ تقي الدين المعروف عند جماهير أهل السنة أن الله

يتكلم بصوت وهو قول جماهير فرق الأمة
فقولنا معجز بنفسه أي مراد به الإعجاز كما أن المقصود به بيان الأحكام والمواعظ وقص أخبار من قص في القرآن من الأمم دليل التحدي قوله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله أي فأتوا بمثله إن ادعيتم القدرة فلما عجزوا تحداهم بعشر سور ثم بسورة ثم بحديث مثله
وقولنا متعبد بتلاوته لتخرج الآيات المنسوخة اللفظ سواء بقي حكمها أم لا وصارت بعد النسخ غير قرآن لسقوط التعبد بتلاوتها
وقولنا والكتابة كلام حقيقة لقول عائشة ما بين دفتي المصحف

كلام الله وأن من كتب صريح الطلاق يقع عليه الطلاق بذلك ولو لم ينوه على الصحيح
وقولنا ولم يزل الله متكلما كيف شاء إذا شاء بلا كيف يأمر بما يشاء ويحكم
فقد قال الأئمة إن الله سبحانه وتعالى يتكلم بمشيئته وقدرته بمعنى أنه لم يزل متكلما إذا شاء فإن الكلام صفة كمال ومن يتكلم أكمل ممن لم يتكلم ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام ممكنا له
وقال قوم لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل كلامه لازم لذاته كحياته ثم من هؤلاء من عرف أن الحروف والأصوات لا تكون إلا متعاقبة والصوت لا يبقى زمانين فضلا عن أن يكون قديما فقال القديم معنى

واحد لامتناع معان لا نهاية لها وامتناع التخصيص بعدد دون عدد فقالوا هو معنى واحد وقالوا معنى التوراة والإنجيل والقرآن معنى واحد ومعنى آية الكرسي الدين واحد ومنهم من قال إنه حروف وأصوات قديمة الأعيان لم تزل ولا تزال وأن الباء لم تسبق السين والسين لم تسبق الميم وأن الحروف مقرونة ببعضها اقترانا قديما أزليا لم يزل ولا يزال وهي متراتبة في حقيقتها وماهيتها غير متراتبة في وجودها
وقال كثير منهم إنها مع ذلك شيء واحد إلى غير ذلك من اللوازم التي يقول جمهور العقلاء إنها معلومة الفساد بضرورة العقل
قال الإمام الطوفي من الحنابلة إنما كان حقيقة في العبارة مجازا في مدلولها لوجهين
أحدهما أن المتبادر إلى فهم أهل اللغة من إطلاق الكلام إنما هو العبارة والمتبادر دليل الحقيقة
الثاني أن الكلام مشتق من الكلم لتأثيره في نفس السامع والمؤثر في نفس السامع إنما هو العبارة لا المعاني النفسية بالفعل

نعم هي مؤثرة للفائدة بالقوة والعبارة مؤثرة بالفعل فكانت أولى بأن تكون حقيقة وما يكون مؤثرا بالقوة مجاز انتهى كلامه
أدلة السلف على كون الكلام حقيقة الأصوات والحروف
منه ما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي أنه قال إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله تعالى كأنها أو قال كأنه سلسلة على صفوان وفي حديث آخر قال إذا أراد الله

أن يوحي الأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة أو قال رعدة شديدة خوفا من الله تعالى فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا سجدا لله فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه الصلاة و السلام فيكلمه عز و جل من وحيه بما أراد ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل فيقول جبريل قال الحق وهو العلي الكبير
وقال تعالى وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله
وقال تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله والمسموع دائما الحروف والأصوات لا المعاني والإشارة بالمثل إلى شيء حاضر فلو كان كلام الله معنى قائما في النفس كما قالت الأشعرية لم تصح الإشارة إليه وما روي عنه أنه قال من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات

الحديث إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي يطول ذكرها وسيأتي بعضها
وقال ابن كلاب وأتباعه منهم الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري وأتباعه إن الكلام مشترك بين الألفاظ المسموعة وبين الكلام النفسي وذلك أنه قد استعمل لغة وعرفا فيهما والأصل في الإطلاق الحقيقة فيكون مشتركا
أما استعماله في العبارة فنحو قوله تعالى حتى يسمع كلام الله وسمعت كلام فلان وفصاحته
وفي مدلولها فنحو يقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول وأسروا قولكم أو اجهروا به

وقول عمر رضي الله عنه زورت في نفسي كلاما
وقول الأخطل
إن الكلام لفي الفؤاد . ... . . . البيت
ولأنه لما كان سمعه بلا انخراق وجب أن يكون كلامه بلا حرف ولا صوت
وذكر الغزالي أن قوما جعلوا الكلام حقيقة في المعنى مجازا في العبارة

وقوما عكسوا وقوما قالوا بالاشتراك ونقل الثلاثة عن الأشعري فعلى القول الثاني لا خلاف بيننا وبينهم لكن المشهور أن الأشعري وأصحابه قالوا القرآن الموجود عندنا حكاية كلام الله تعالى
وابن كلاب وأتباعه قالوا عبارة عن كلام الله لا عينه
ويروى عن الاشعري كلام الله القائم بذاته يسمع عند تلاوة كل تال وقراءة كل قارئ
وقال الباقلاني إنما نسمع التلاوة دون المتلو والقراءة دون المقروء

وكان أبو حامد الإسفرائيني يقول مذهب الشافعي وسائر الأئمة خلاف قول الأشعري وقولهم هو قول الإمام أحمد
وكذلك أبو محمد الجويني ذكر أن الأشعري خالف في مسألة الكلام قول الشافعي وغيره من السلف وأنه أخطأ في ذلك
وكذلك سائر أئمة أصحاب مالك والشافعي وغيرهما يذكرون قولهم في حد الكلام وأنواعه من الأمر والنهي والخبر العام والخاص وغير ذلك يجعلون الخلاف في ذلك مع الاشعري كما هو مبين في أصول الفقه التي صنفها أئمة أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم

قال الإمام أحمد رحمه الله القرآن كيف تصرف فهو غير مخلوق ولا نرى القول بالحكاية والعبارة وغلط من قال بهما وجهله فقال من قال إن القرآن عبارة عن كلامه تعالى فقد غلط وجهل
وقال الناسخ والمنسوخ في كتاب الله دون العبارة والحكاية
وقال هذه بدعة لم تقلها السلف وقوله تعالى تكليما يبطل الحكاية منه بدأ وإليه يعود انتهى
قال الطوفي قال المخالفون استعمل لغة وعرفا في النفس والعبارة قلنا نعم لكن بالاشتراك أو بالحقيقة فيما ذكرناه وبالمجاز فيما ذكرتموه والأول ممنوع
قالوا الأصل في الإطلاق الحقيقة
قلنا والأصل عدم الاشتراك ثم قد يعارض المجاز الاشتراك المجرد والمجاز أولى ثم إن لفظ الكلام أكثر ما يستعمل في العبارات

وكثرة موارد الاستعمال تدل على الحقيقة
وأما قوله تعالى ويقولون في أنفسهم فمجاز لأنه إنما دل على المعنى النفسي بالقرينة وهي قوله في أنفسهم ولو أطلق لما فهم إلا العبارة
وكذلك كل ما جاء من هذا الباب إنما يفيد مع القرينة ومنه قول عمر رضي الله عنه زورت في نفسي كلاما
وأما قوله تعالى وأسروا قولكم أو اجهروا به فلا حجة فيه لأن الإسرار به خلاف الجهر وكلاهما عبارة عن أن يكون أحدهما أرفع صوتا من الآخر أما بيت الأخطل فيقال إن المشهور فيه إن البيان لفي الفؤاد وبتقدير أن يكون كما ذكرتم فهو مجاز عن مادة الكلام وهو التصورات الصحيحة له إذ من لم يتصور ما يقول لا يوجد كلاما ثم هو مبالغة من هذا الشاعر في ترجيح الفؤاد على اللسان انتهى
ولابن قاضي الجبل في الجواب عن الآيات وبيت الأخطل كلام يقاربه في المعنى ونقل ابن القيم أن الشيخ تقي الدين رد الكلام

النفسي من سبعين وجها
وقال الغزالي من أحال سماع موسى كلاما ليس بحرف ولا صوت فليحل يوم القيامة رؤية ذات ليست بجسم ولا عرض انتهى
وقال الطوفي كل هذا تكلف وخروج عن الظاهر بل عن القاطع من غير ضرورة إلا خيالات لاغية وأوهام متلاشية وما ذكروه معارض بأن المعاني لا تقوم شاهدا إلا بالأجسام فإن أجازوا معنى قام بالذات القديمة وليست جسما فليجيزوا خروج صوت من الذات القديمة وليست جسما إذ كلا الأمرين خلاف الشاهد ومن أحال كلاما لفظيا من غير جسم فليحل ذاتا مرئية من غير جسم ولا فرق والعجب من هؤلاء القوم مع أنهم عقلاء فضلاء يجيزون أن الله تعالى يخلق لمن يشاء من عباده علما ضروريا وسمعا لكلامه النفسي من غير توسط صوت ولا حرف وذلك من خاصة موسى عليه الصلاة و السلام مع أن ذلك قلب لحقيقة السمع في الشاهد إذ حقيقة السمع في الشاهد إيصال الأصوات بحاسة

فإن قالوا لأنه يستحيل وجود حرف ولا صوت إلا من جسم
قلنا إن عنيتم استحالته بالإضافة إلى الشاهد فسماع كلام بدون توسط صوت وحرف كذلك أيضا وإن عنيتم استحالته مطلقا فلا نسلم إذ الباري جل جلاله على خلاف المشاهدة والمعقول في ذاته وصفاته وقد وردت النصوص بما قلناه فوجب القول به انتهى
وسيأتي في التتمة الثانية ذكر كلام صاحب المواقف وجوابه الموافق لكلام الطوفي
وقال أبو النصر السجستاني عن قول الأشعري لما كان سمعه بلا انخراق وجب أن يكون كلامه بلا حرف ولا صوت

هذا غير مسلم ولا يقتضي ما قال وإنما يقتضي أن سمعه لما كان بلا انخراق وجب أن يكون كلامه بلا لسان وشفتين وحنك وأيضا لو كان الكلام غير حرف وكانت الحروف عبارة عنه لم يكن بد من أن يحكم لتلك العبارة بحكم إما أن يكون أحدثها في صدر أو لوح أو نطق بها بعض عبيده فتكون منسوبة إليه فيلزم من يقول بذلك أن يفصح بما عنده في السور والآي والحروف أهي عبارة لجبريل أو محمد عليهما الصلاة والسلام
وأيضا قوله تعالى إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون وكن حرفان ولا يخلو الأمر من أحد وجهين
إما أن يراد بقوله كن من التكوين كقول المعتزلة أو يكون المراد به ظاهره فإنه سبحانه وتعالى إذا أراد إنجاز شيء قال له كن على الحقيقة فيكون
فإن قال الأشعري إنه على ظاهره لا بمعنى التكوين فيكون حرفان وهو مخالف لمذهبه وإن قال ليس بحرف صار بمعنى التكوين كالمعتزلة انتهى
وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري في باب قوله تعالى أنزله بعلمه والملائكة يشهدون الآية والمنقول عن السلف اتفاقهم على

أن القرآن كلام الله غير مخلوق تلقاه جبريل عن الله عز و جل وبلغه جبريل إلى محمد وبلغه هو إلى أمته انتهى
قال ابن قاضي الجبل احتج الجمهور بالكتاب والسنة واللغة والعرف أما الكتاب فقوله سبحانه آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوه بكرة وعشيا فلم يسم الإشارة كلاما وقال لمريم عليها السلام فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا وفي الصحيح أن النبي قال إن الله عفى لأمتي عن الخطأ والنسيان وما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل
وقسم أهل اللسان الكلام إلى اسم وفعل وحرف واتفق الفقهاء كافة على أن من حلف لا يتكلم لا يحنث بدون النطق وإن حدثته نفسه
فإن قيل الأيمان مبناها على العرف
قيل الأصل عدم التغيير

وأهل العرف يسمون الناطق متكلما ومن عداه ساكتا أو أخرس فإن قالوا قوله تعالى إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون
أكذبهم الله تعالى في شهادتهم ومعلوم صدقهم اللساني فلا بد من إثبات الكلام النفسي ليكون الكلام عائدا إليه
فالجواب أن الشهادة الإخبار عن الشيء مع اعتقاده فلما لم يكونوا معتقدين ذلك كذبهم الله تعالى
وقال أبو النصر السجزي قولهم لا يتبعض
يرد عليه أن موسى عليه الصلاة و السلام سمع بعض كلام الله ولا يمكن أن يقال سمع الكل
وقال الشيخ تقي الدين في فتيا له تسمى بالأزهرية ومن قال إن القرآن عبارة عن كلام الله تعالى وقع في محذورات
أحدها قولهم إن هذا القرآن ليس بكلام الله تعالى فإن نفي هذا الإطلاق خلاف ما علم بالاضطرار من دين الإسلام وخلاف ما دل عليه الشرع والعقل

والثاني قولهم عبارة إن أرادوا أن هذا التالي هو الذي عبر عن كلام الله تعالى القائم بنفسه لزم أن يكون كل تال معبرا عما في نفس الله والمعبر عن غيره هو المنشىء للعبارة فيكون كل قارىء هو المنشىء لعبارة القرآن وهذا معلوم الفساد بالضرورة
وإن أرادوا أن القرآن العربي عبارة عن معانيه فهذا حق إذ كل كلام لفظه عبارة عن معناه لكن هذا لا يمنع أن يكون الكلام متناولا اللفظ والمعنى انتهى
قال شيخ الإسلام موفق الدين بن قدامة المقدسي في مصنف له واعترض القائل بكلام النفس بوجوه أحدها قول الأخطل
إن الكلام لفي الفؤاد ... . . . . البيت

الثاني سلمنا أن كلام الآدمي صوت وحرف لكن كلام الله تعالى يخالفه لأنه صفته فلا تشبه صفات الآدميين وكلامه كلامهم
الثالث أن مذهبكم في الصفات أن لا تفسر فكيف فسرتم كلام الله بما ذكرتم
الرابع أن الحروف لا تخرج إلا من مخارج وأدوات والصوت لا يكون إلا من جسم والله متعال عن ذلك
الخامس أن الحروف يدخلها التعاقب وكل مسبوق مخلوق
السادس أن هذا يدخله التجزؤ والتعدد والقديم لا يتجزأ ولا يتعدد
قال شيخ الإسلام الموفق الجواب عن الأول من وجوه
الأول أن هذا كلام شاعر نصراني عدو الله ورسوله ودينه أفيجب اطراح كلامه تعالى ورسوله وسائر الخلق تصحيحا لكلامه وحمل كلامهم على المجاز صيانة لكلامه هذا عن المجاز
وأيضا فتحتاجون إلى إثبات هذا الشعر ببيان إسناده ونقل الثقات له ولا نقنع بشهرته فقد يشتهر الفاسد

وقد سمعت شيخنا أبا محمد الخشاب إمام أهل العربية في زمانه يقول قد فتشت دواوين الأخطل العتيقة فلم أجد هذا البيت فيها
الثاني لا نسلم أن لفظه هكذا إنما قال عن البيان من الفؤاد فحرفوه وقالوا الكلام
الثالث أن هذا مجاز يراد به أن الكلام من عقلاء الناس إنما يكون بعد التروي فيه واستحضار معانيه في القلب كما قيل لسان الحكيم من وراء قلبه فإن كان له محل قاله وإن لم يكن سكت وكلام الجاهل على طرف لسانه
والدليل على أن هذا مجاز من وجوه كثيرة
أحدها ما ذكرناه مما يدل على أن الكلام هو النطق وحمله على الحقيقة يحمل كلام الأخطل على مجازها أولى من العكس
ثانيها أن الحقيقة يستدل عليها بسبقها إلى الذهن وتبادر الأفهام إليها وإنما يفهم من إطلاق الكلام ما ذكرناه
ثالثها ترتيب الاحكام على ما ذكرناه دون ما ذكروه

رابعها قول أهل العربية الذين هم أهل اللسان وهم أعرف بهذا الشان
خامسها لا تصح إضافة ما ذكروه إلى الله تعالى فإنه جعل اللسان دليلا عليه والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك ولأن الذي عبر عنه الأخطل بالكلام هو التروي والفكر واستحضار المعاني وحديث النفس ووسوستها ولا يجوز إضافة شيء من ذلك إلى الله تعالى بلا خلاف بين المسلمين
قال ومن أعجب الأمور أن خصومنا ردوا على الله وعلى رسوله وخالفوا جميع الخلق من المسلمين وغيرهم فرارا من التشبيه على زعمهم ثم صاروا إلى تشبيه اقبح وأفحش من كل تشبيه وهذا نوع التغفل ومن أدل الأشياء على فساد قولهم تركهم قوله تعالى وقول رسوله وما لا يحصى من الأدلة وتمسكهم بكلمة قالها هذا الشاعر النصراني وجعلوها أساس مذهبهم وقاعدة عقدهم ولو أنها انفردت عن مبطل وخلت عن معارض لما جاز أن يبنى عليها هذا الأصل العظيم فكيف وقد عارضها ما لا يمكن رده فمثلهم كمثل من بنى قصرا على أعواد الكبريت في مجرى النيل
وأما قولهم إن كلام الله يجب أن لا يكون حرفا يشبه كلام الآدميين
قلنا جوابه من وجوه

أحدها أن الاتفاق في أصل الحقيقة ليس بتشبيه كما أن إدراك البصر بأنه إدراك المبصرات والسمع في أنه إدراك المسموعات والعلم في انه إدراك المعلومات ليس بتشبيه كذلك هذا
الثاني أنه لو كان تشبيها لكان تشبيههم أقبح وأفحش على ما ذكرناه
الثالث انهم نفوا هذه الصفة بكون هذا تشبيها ينبغي أن ينفوا سائر الصفات من الوجود والحياة والسمع والبصر وغيرها
أما قولهم انتم فسرتم هذه الصفة
قلنا لا يجوز تفسير المتشابه الذي سكت السلف عن تفسيره وليس كذلك الكلام فإنه من المعلوم بين الخلق أنه لا تشابه فيه وأنه فسره الكتاب والسنة
وأيضا نحن فسرناه بحمله على حقيقته تفسيرا جاء به القرآن والسنة وهم فسروه بما لم يرد به كتاب ولا سنة ولا يوافق الحقيقة ولا يجوز نسبته إلى الله تعالى
وأما قولهم إن الحروف تحتاج إلى مخارج وأدوات
قلنا احتياجها إلى ذلك في حقنا لا يوجب ذلك في كلام الله تعالى تعالى الله عن ذلك
فإن قالوا بل احتياج الله كاحتياجنا قياسا له علينا
أخطؤوا من وجوه

أحدها أنه يلزمهم في سائر الصفات التي سلموها كالسمع والعلم والحياة ولا يكون ذلك في حقنا إلا في جسم ولا يكون البصر إلا في حدقة ولا السمع إلا من انخراق والله تعالى بخلاف ذلك
ثانيها أن هذا تشبيه لله بنا وقياس له علينا وهذا كفر
ثالثها أن بعض المخلوقات لم تحتج إلى مخارج في كلامها كالأيدي والأرجل والجلود التي تتكلم يوم القيامة والحجر الذي سلم على النبي والحصى الذي سبح في كفه والذراع المسمومة التي

كلمته وقال ابن مسعود كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل ولا خلاف في أن الله سبحانه وتعالى قادر على إنطاق الحجر الأصم بلا أدوات
قلت إن الذي يقطع به عنهم انهم لا يقولون إن الله سبحانه يحتاج كحاجتنا قياسا له علينا فإنه عين التشبيه وهم لا يقولون كذلك ويفرون منه والظاهر أن الشيخ الموفق قال ذلك على تقدير قولهم له
ثم قال وقولهم إن التعاقب يدخل في الحروف
قلنا إنما ذلك في حق من ينطق بالمخارج والأدوات ولا يوصف سبحانه وتعالى بذلك
وقال الحافظ أبو نصر إنما يتعين التعاقب فيمن يتكلم بأداة يعجز عن أداء شيء إلا بعد الفراغ من غيره وأما المتكلم بلا جارحة فلا يتعين في

كلامه تعاقب وقد اتفقت العلماء على أنه يتولى الحساب بين خلقه يوم القيامة في حالة واحدة وعند كل واحد منهم أن المخاطب في الحال هو وحده وهذا خلاف التعاقب انتهى كلام أبي نصر
قال الموفق قولهم إن القديم لا يتجزأ ولا يتعدد غير صحيح فإن أسماءه سبحانه وتعالى معدودة قال تعالى ولله الاسماء الحسنى وقال إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة وهي قديمة وقد نص الشافعي على أن أسماء الله تعالى غير مخلوقة
وقال أحمد من قال إن أسماء الله مخلوقة فقد كفر
وكذا كتب الله تعالى فإن التوراة والإنجيل والزبور والفرقان متعددة وهي كلامه تعالى غير مخلوق وإنما هذا أخذوه من علم الكلام وهو مطرح عند جميع الأئمة
قال أبو يوسف من طلب العلم بالكلام تزندق

وقال الشافعي ما ارتدى بالكلام أحد فأفلح
وقال احمد ما أحب أحد الكلام فكان عاقبته إلى خير
وقال ابن خويز منداد المالكي البدع عند مالك وأصحابه هي كتب الكلام والتنجيم وشبه ذلك لا تصح إجارتها ولا تقبل شهادة أهله
قال الحافظ أبو نصر فإن قيل الصوت والحرف إذا ثبتا في الكلام اقتضيا عددا والله واحد من كل جهة
قيل لهم اعتماد أهل الحق في هذه الأبواب على السمع وقد ورد السمع بأن القرآن ذو عدد وأقر المسلمون بأنه كلام الله تعالى حقيقة لا مجازا وهو صفته وقد عد الأشعري صفات الله تعالى سبعة عشر صفة وبين أن منها ما لا يعلم إلا بالسمع وإذا جاز أن يوصف بصفات معدودة لم يلزمنا بدخول العدد في الحروف شيء انتهى كلام أبي نصر
قال الشيخ الموفق في الاستدلال إن الله تعالى كلم موسى صلى الله عليه و سلم ويكلم المؤمنين يوم القيامة قال تعالى وكلمه ربه وقال تعالى يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي وقال تعالى

وناديناه من جانب الطور الأيمن وأجمعنا على أن موسى صلى الله عليه و سلم سمع كلام الله تعالى من الله لا من ذات الشجرة ولا من حجر ولا من غيره لأنه لو سمع من غير الله تعالى كان بنو إسرائيل أفضل في ذلك منه لأنهم سمعوا من أفضل ممن سمع منه موسى لكونهم سمعوا من موسى فلم سمي إذن كليم الرحمن
وإذا ثبت هذا لم يكن الكلام الذي سمعه موسى إلا صوتا وحرفا فإنه لو كان معنى في النفس لم يكن ذلك تكليما لموسى ولا هو شيء يسمع ولا يسمى مناداة
فإن قالوا نحن لا نسميه صوتا مع كونه مسموعا
فالجواب من وجهين أحدهما أن هذا مخالفة في اللفظ مع الموافقة في المعنى فإنا لا نعني بالصوت إلا ما كان مسموعا
ثانيهما أن لفظ الصوت قد جاءت به الأخبار والآثار والنزاع إنما هو في أن الله تعالى تكلم بحرف وصوت أم لا
فمذهب أهل السنة اتباع ما ورد في الكتاب والسنة انتهى كلام الشيخ الموفق

وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري قال البيهقي الكلام ما ينطق به المتكلم وهو مستقر في نفسه كما في كلام عمر في قصة السقيفة فإن كان المتكلم ذا مخارج سمع كلامه ذا حروف وأصوات وإن كان غير ذي مخارج فهو خلاف ذلك والباري بخلاف ذلك فلا يكون كلامه كذلك
وأول ما ورد في حديث أن الملائكة يسمعون صوتا باحتمال أن يكون الصوت للسماء أو للملك الآتي بالوحي أو لأجنحة الملائكة وإذا احتمل ذلك لم يكن نصا في المسألة
قال ابن حجر في رده وهذا حاصل الكلام في نفي الصوت من الأئمة ويلزم منه أنه تعالى لم يسمع أحدا من الملائكة ولا من رسله كلامه بل ألهمهم إياه
وحاصل الاحتجاج للنفي الرجوع إلى القياس على أصوات المخلوقين لأنها الذي عهدنا وهي ذات مخارج ولا يخفى ما فيه إذ الصوت قد يكون من غير مخارج كما أن الرؤية قد تكون من غير اتصال أشعة سلمنا لكن يمنع القياس المذكور وصفة الخالق لا تقاس على صفة المخلوق وإذا ثبت ذكر الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة وجب الإيمان به

وقال في الفتح أيضا قوله ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب حمله بعض الأئمة على مجاز الحذف أي يأمر من ينادي فاستبعده من أثبت الصوت بأن في قوله يسمعه من بعد إشارة إلى أنه ليس من المخلوقات لأنه لم يعهد مثل هذا فيهم وبأن الملائكة إذا سمعوه صعقوا وإذا سمع بعضهم بعضا لم يصعقوا قال فعلى هذا فصوته سبحانه وتعالى صفة من صفات ذاته لا يشبه صوت غيره إذ ليس يوجد شيء من صفاته في صفات المخلوقين قال وهكذا قرره المصنف يعني البخاري في كتابه خلق الأفعال انتهى
وحد الصوت ما تحقق سماعه فكل متحقق سماعه صوت وكل ما لا يتأتى سماعه ليس بصوت وصحة الحد كونه مطردا منعكسا وقول من قال إن الصوت هو الخارج من هواء بين جرمين فغير صحيح لما يوجد سماع الصوت من غير ذلك كتسبيح الأحجار وتسبيح الطعام وتسبيح الجبال وشهادة الأيدي والأرجل وقال تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده وقال تعالى يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من

مزيد وما لشيء من ذلك من انخراق بين جرمين
وقد أقر الأشعري أن السموات والأرض قالتا أتينا طائعين حقيقة لا مجازا

فصل ثان في المسألة المشهورة المسماة بمسألة اللفظ
قال الشيخ شهاب الدين ابن حجر في فتح الباري في كتاب التوحيد في باب قوله تعالى ولا تجعلوا لله أندادا البقرة 22 ما ملخصه واشتد إنكار الإمام أحمد ومن تبعه على من قال لفظي بالقرآن مخلوق ويقال أول من قاله الحسين بن علي الكرابيسي أحد أصحاب الشافعي فلما بلغه ذلك بدعه وهجره ثم قال بذلك داود بن علي الأصبهاني رأس الظاهرية وهو يومئذ بنيسابور فأنكر عليه إسحاق

وبلغ ذلك أحمد فلما قدم بغداد لم يأذن له في الدخول عليه وجمع ابن أبي حاتم أسماء من أطلق على اللفظ أنهم جهمية فبلغوا عددا كثيرا وأفرد لذلك بابا في كتابه الرد على الجهمية
والذي يتحصل من كلام المحققين أنهم أرادوا حسم المادة صونا للقرآن أن يوصف بكونه مخلوقا وإذا حقق الأمر عليهم لم يفصح أحد منهم بأن حركة لسانه قديمة
وأنكر أحمد على من نقل عنه أنه قال لفظي بالقرآن غير مخلوق
كما أنكر على من قال لفظي بالقرآن مخلوق وقال القرآن كيف تصرف غير مخلوق
ولما ابتلي بمن يقول القرآن مخلوق كان أكثر كلامه في الرد

عليهم حتى بالغ فأنكر على من يتوقف فلا يقول مخلوق ولا يقول غير مخلوق وعلى من قال لفظي بالقرآن مخلوق لئلا يتذرع بذلك من يقول القرآن بلفظي مخلوق
وأما البخاري فابتلي بمن يقول أصوات العباد غير مخلوقة حتى بالغ بعضهم فقال والمداد والورق بعد الكتابة فكان أكثر كلامه في

الرد عليهم وبالغ في الاستدلال بأن أفعال العباد كلها مخلوقة بالآيات والأحاديث في ذلك مع أن قول من قال إن الذي يسمع من القارئ هو الصوت القديم لا يعرف عن السلف ولا قاله أحمد ولا أصحابه وإنما سبب نسبة ذلك لأحمد قوله من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي
فظنوا أنه سوى بين اللفظ والصوت بل صرح في مواضع بأن الصوت المسموع من القارئ هو صوت القارئ والفرق بينهما أن اللفظ يضاف إلى المتكلم به ابتداء فيقال عمن روى الحديث بلفظه هذا لفظه ولمن رواه بغير لفظه هذا معناه ولا يقال في شيء من ذلك هذا صوته فإن القرآن كلام الله ومعناه ليس هو كلام غيره أما قوله تعالى إنه لقول رسول كريم فاختلف فيه هل المراد جبريل أو الرسول عليهما الصلاة والسلام والمراد به التبليغ لأن جبريل مبلغ عن الله تعالى إلى رسوله والرسول إلى الناس ولم ينقل عن أحمد أنه قال أن فعل العبد قديم ولا صوته إنما أنكر إطلاق اللفظ
وصرح البخاري بأن أصوات العباد مخلوقة وأن أحمد لا يخالفه في ذلك ولكن أهل العلم كرهوا التنقيب عن الأشياء الغامضة وتجنبوا الخوض فيها والتنازع إلا بما بينه الرسول
ومن شدة اللبس في هذه المسالة كثر نهي السلف عن الخوض فيها واستغنوا بالاعتقاد أن القرآن كلام الله غير مخلوق ولم يزيدوا على ذلك

شيئا وهو اسلم الاقوال وبالله المستعان

تتمات
الأولى نقل السعد في كلامه على عقائد النسفي من نسبة الحنابلة إلى أنهم قالوا إن كلامه سبحانه وتعالى عرض من جنس الأصوات والحروف و مع ذلك قديم
وفي محل آخر أن المؤلف من الأصوات والحروف قديم ونسبهم إلى الجهل والعناد وأيضا ما ينسبه بعض الناس للحنابلة من أنهم يقولون بقدم الورق والجلد والمداد

فالجواب عن ذلك أن ما نسب إليهم من هذه المقالات لا أصل له في كلام أحد منهم ولو كان له أصل لعثر عليه وكيف يتأتى من أحد منهم القول به مع أنهم في أعلى طبقات الورع في تتبع مذهب إمامهم واعتقادهم مذهب السلف واتباع السنة وكيف يظن بأحد منهم أنه حرف شيئا ونسبه إلى إمامه مع أن هذا الظن لا يجوز بأحد من المسلمين فضلا عن هؤلاء السادة
فإن قيل لعل ما نقل من كتبهم مدسوس عليهم
فالجواب أن فتح هذا الباب بدعة شنيعة لأن المطلوب ناقل صحيح النقل يكون كتابه مقابل على اصل صحيح
وأيضا يتطرق هذا الظن في بقية كتب المسلمين على أن معظم ما اعتمدنا فيما نقلناه من أصولنا وفروعنا متصل في جميع الأعصار من زمن الإمام أحمد إلى زمننا متواتر نقله جمع عن جمع
الثانية قال الحافظ ابن حجر والذي استقر عليه قول الاشعري أن القرآن كلام الله غير مخلوق مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور مقروء بالألسنة قال تعالى فأجره حتى يسمع كلام الله وفي الحديث لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو كراهة أن يناله العدو

وليس المراد ما في الصدور بل ما في المصحف وأجمع السلف على أن الذي بين الدفتين كلام الله تعالى
قال صاحب المواقف في أثناء خطبته وقرآنا قديما ذا غايات ومواقف محفوظا في القلوب مقروءا بالأسن مكتوبا في المصاحف
وقال السيد الشريف في شرحه وصف القرآن بالقدم ثم صرح بما يدل على أنه هذه العبارات المنظومة كما هو مذهب السلف حيث قالوا إن الحفظ والقراءة والكتابة حادثة لكن متعلقا أعني المحفوظ والمقروء قديم
وما يتوهم من أن ترتيب الكلمات والحروف وعروض الانتهاء والوقف مما يدل على الحدوث فباطل لأن ذلك لقصور في آلات القارئ وأما ما اشتهر عن الشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى من أن القديم معنى قائم بذاته تعالى قد عبر عنها بهذه العبارات الحادثة

فقد قيل إنه غلط من الناقل منشؤه اشتراك لفظ المعنى بين ما يقابل اللفظ وبين ما يقوم بغيره ويزداد وضوحا فيما بعد إن شاء الله تعالى
قال واعلم أن للمصنف مقالة مفردة في تحقيق كلام الله تعالى على وفق ما أشار إليه في خطبة الكتاب ومحصولها أن لفظ المعنى تارة يطلق على مدلول اللفظ وأخرى على الأمر القائم بالغير فالشيخ الأشعري لما قال الكلام هو المعنى النفسي فهم الأصحاب منه أن مراده مدلولات اللفظ وحده وهو القديم عنده وأما العبارات فإنما تسمى كلاما مجازا لدلالتها على ما هو كلام حقيقي حتى صرحوا بأن الألفاظ حادثة على مذهبه أيضا لكنها ليست كلامه حقيقة
وهذا الذي فهموه من كلام الشيخ له لوازم كثيرة فاسدة كعدم إكفار من أنكر كلامية ما بين دفتي المصحف مع أنه علم من الدين ضرورة كونه كلام الله حقيقة وعدم كون المعارضة والتحدي بكلام الله تعالى الحقيقي وكعدم كون المقروء المحفوظ كلامه حقيقة إلى غير ذلك مما لا

يخفى على المتفطن في الأحكام الدينية فوجب حمل كلام الشيخ على أنه أراد به المعنى الثاني فيكون الكلام النفسي عنده أمرا شاملا للفظ والمعنى جميعا قائما بذاته تعالى وهو مكتوب في المصاحف مقروء بالألسن محفوظ في الصدور وهو غير الكتابة والقراءة والحفظ الحادثة وما يقال من أن الحروف والألفاظ مرتبة متعاقبة فجوابه إن ذلك الترتب إنما هو في التلفظ بسبب عدم مساعدة الآلة فالتلفظ حادث والأدلة الدالة على الحدوث يجب حملها على حدوثه دون حدوث الملفوظ جمعا بين الأدلة وهذا الذي ذكرناه وإن كان مخالفا لما عليه متأخرو أصحابنا إلا أنه بعد التأمل تعرف حقيقته تم كلامه
وهذا الحمل لكلام الشيخ هو مما اختاره محمد الشهرستاني في كتابه المسمى بنهاية الإقدام ولا شبهة في انه أقرب إلى الأحكام الظاهرة المنسوبة إلى قواعد الملة انتهى

فالذي ظهر من عبارة ابن حجر العسقلاني وشرح المواقف موافقة الشيخ الاشعري للإمام أحمد في مسألة الكلام وما روي عنه مخالف لذلك فهو غلط من الناقل منشؤه ما سبق وقد أتى التاج ابن السبكي في الطبقات بأصرح من ذلك فقال في ترجمة الأشعري وما قيل إن مذهبه أن القرآن لم يكن بين الدفتين وليس القرآن في المصحف ونقل ذلك عنه فهو شنيع فظيع وتلبس على العوام فإن الأشعري وكل مسلم غير مبتدع يقول إن القرآن كلام الله وهو على الحقيقة مكتوب في المصاحف لا على المجاز ومن قال إن القرآن ليس في المصاحف على هذا الإطلاق فهو مخطئ بل القرآن مكتوب في المصحف وهو قديم غير مخلوق لم يزل سبحانه متكلما ولا يزال به قائما ولا يجوز انفصال القرآن عن ذات الله تعالى ولا الحلول في المحال وكون الكلام مكتوب على الحقيقة في الكتاب لا يقتضي حلوله فيه لا انفصاله عن ذوات المتكلم قال الله تعالى النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فالنبي في التوراة والإنجيل مكتوب على الحقيقة وكذلك القرآن على الحقيقة مكتوب في المصاحف محفوظ في قلوب المؤمنين مقروء متلو على الحقيقة بألسنة القارئين من المسلمين كما أن الله تعالى على الحقيقة لا على المجاز معبود في مساجدنا معلوم في قلوبنا مذكور في ألسنتنا وهذا واضح بحمد الله ومن زاغ عن هذه الطريقة فهو قدري معتزلي يقول بخلق القرآن وأنه حال في المصاحف نظير ما قالوا إنه لما سمع موسى عليه الصلاة و السلام كلامه خلق كلامه في الشجرة وهذه من فظائع المعتزلة التي لا يخفى فسادها على

محصل انتهى كلام ابن السبكي
وما قيل إن منكر كلامية ما بين الدفتين إنما يكفر إذا قال من المخترعات البشرية وأما إذا اعتقد انه من مبتدعات الله ودال على ما هو كلامه حقيقة أو قائم بذاته ولكنه ليس صفة قائمة بذاته تعالى فلا يكفر أصلا فخلاف الظاهر من حيث إن الشارع يحكم بكفر منكره حالا من غير استفسار له عن مراده فإن نفي هذا الإطلاق خلاف ما علم بالاضطرار من دين الإسلام وخلاف ما دل عليه الشرع والعقل كما نقله الشيخ تقي الدين الفتوحي
الثالثة قد نقل عن الملا عبد الرحمن الجامي في كتابه الدرة الفاخرة المسماة بحط رحلك ما يشير إلى الخلاف بين من يقول إن الكلام هو الحروف والأصوات ومن يقول إن الكلام النفسي القائم بذاته

تعالى لفظي فقال واعلم أن ها هنا قياسين متعارضين
أحدهما أن كلام الله تعالى صفة له وكل ما هو صفة له فهو قديم فكلامه قديم
وثانيهما أن كلام الله مؤلف من أجزاء مترتبة متعاقبة في الوجود وكل ما هو كذلك فهو حادث فكلام الله سبحانه حادث
فافترق المسلمون أربع فرق فرقتان منهم ذهبوا إلى صحة القياس الأول وقدحت واحدة منهما في صغرى القياس الثاني وقدحت الأخرى في كبراه
وفرقتان أخريان ذهبوا إلى صحة القياس الثاني وقدحوا في إحدى مقدمتي الأول
ثم ذكر كيفية قدحهم باعتبار مذاهبهم فمن أراد ذلك فليراجعه
ثم قال وفي الفتوحات المكية أن المفهوم من كون القرآن حروفا أمران
الأمر الواحد المسمى قولا وكلاما ولفظا
والأمر الآخر يسمى كتابا ورقما وخطا

والقرآن يخط له حروف الرقم وينطق به فله حروف اللفظ فلم يرجع إلى كونه حروفا منطوقا بها وهي كلام الله الذي هو صفة له أو للمترجم عنه
فاعلم أنه قد أخبرنا نبيه أنه سبحانه يتجلى في القيامة بصور مختلفة فيعرف وينكر فمن كانت حقيقته تقبل هذا التجلي لا يبعد أن يكون الكلام بالحروف المتلفظة المسماة كلام الله لبعض تلك الصور كما يليق بجلاله
وقال أيضا بعد كلام طويل فإذا تحققت ما قررنا ثبت أن كلام الله هو هذا المتلو المسموع المتلفظ به المسمى قرآنا وتوراة وزبورا وإنجيلا انتهى كلام الشيخ الأكبر
فالذي ظهر منه أن الكلام الذي هو صفته سبحانه ليس سوى إفادته وإفاضته مكنونات علم على من يريد إكرامه وأن الكتب المنزلة المنطوقة

من حروف وكلمات كالقرآن وأمثاله أيضا كلامه لأنها من بعض صور تلك الإفادة والإفاضة ظهرت بتوسط العلم والإرادة والقدرة في البرزخ الجامع بين الغيب والشهادة بمعنى عالم المثال من بعض مجاليه الصور المثالية كما يليق به سبحانه فالقياسان المذكوران في صدر البحث ليسا بمتعارضين في الحقيقة فالمراد بالكلام في القياس الأول الصفة القائمة بذاته وفي الثاني ما ظهر في البرزخ من بعض المجالي الإلهية والاختلاف الواقع بين فرق المسلمين يشعر بعدم الفرق بين الكلامين والله أعلم
الرابعة فإن قلت قد قدمت فيما نقلته عن الشيخ الموفق من كلام السلف في ذم الاشتغال بعلم الكلام ونراك قد ألفت فيه فالجواب أن المذموم منه ما كان غير مأخوذ من كتاب ولا سنة بل كان بمحض الأقيسة فقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه رسول الله واتباع القرآن وليس في السنة قياس ولا

تضرب بها الأمثال ولا تدرك بالعقول آو قال بالمعقول ولا بالأهواء إنما هو الاتباع وترك الهوى انتهى
فعلى هذا إن كل من اشتغل ببيان ما جاء عن السلف ولم يؤول ولم يعطل ولم يشبه ولم يستعمل الأقيسة وآراء الرجال المزخرفة بالأقوال لا يقال إنه اشتغل بالمذموم من علم الكلام فقد قال عمر بن عبد العزيز كلاما معناه قف حيث وقف قوم فإنهم عن علم وقفوا وببصر ناقد كفوا ولهم على كشف الأمور كانوا أقوى وبالفضل لو كان فيها أحرى فلئن حدث بعدهم رأي فما أحدثه غلا من خالف هديهم ورغب عن سنتهم وقد وصفوا فجنوا منه ما يشفي وتكلموا منه بما يكفي لقد قصر عنهم قوم وضعوا وتجاوزهم آخرون فغلوا وإنهم فيها بين ذلك لعلى هدى ولهذا قال مالك لما سئل عن الاستواء الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة
الخامسة قد ذكر بعض الحنابلة في عقيدته أن الشيخ الأشعري رحمه الله تعالى معتقد ومؤتم وموافق لأحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ما نصه وأما أحمد بن حنبل وأصحابه منهم أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتكلم صاحب الطريقة المنسوبة إليه فصل في إبانة قول الحق والسنة فإن قال قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والروافض والمرجئة فعرفونا قولكم الذي تقولون وديانتكم التي تدينون
قيل له قولنا الذي تقول به وديننا الذي ندين الله به التمسك بكتاب ربنا وسنة نبينا وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما يقول أبو عبد الله أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته واجزل مثوبته قائلون ولمن خالف قوله مخالفون لأنه

الاستواء الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة
الخامسة قد ذكر بعض الحنابلة في عقيدته أن الشيخ الأشعري رحمه الله تعالى معتقد ومؤتم وموافق لأحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في اعتقاده الموافق لاعتقاد السلف من حيث إجراؤه المتشابه على ما قاله الله من غير تصرف فقال رحمه الله تعالى ما نصه وأما أحمد بن حنبل وأصحابه منهم أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتكلم صاحب الطريقة المنسوبة إليه فصل في إبانة قول الحق والسنة فإن قال قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والروافض والمرجئة فعرفونا قولكم الذي تقولون وديانتكم التي تدينون
قيل له قولنا الذي نقول به وديننا الذي ندين الله به التمسك بكتاب ربنا وسنة نبينا وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما يقول أبو عبد الله أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته واجزل مثوبته قائلون ولمن خالف قوله مخالفون لأنه

الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وجليل معظم وكبير مفخم
وجملة قولنا بأنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاؤوا به من عنده وبما رواه الثقات عن رسول الله ولا نرد من ذلك شيئا وأن الله استوى على عرشه كما قال الرحمن على العرش استوى ونقول فيما اختلفنا فيه بالرد إلى كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع المسلمين
فإن قال قائل ما تقولون في الاستواء قيل له إن الله مستو على عرشه كما قال الرحمن على العرش استوى ونبطل تأويل من تأول بمعنى استولى
إن هذا تفسير لم يقل به أحد من السلف من سائر المسلمين من الصحابة والتابعين بل أول من قال ذلك الجهمية والمعتزلة كما قاله أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات وكتاب الإبانة فإنه كان معلوما للسلف علما ظاهرا فيكون التفسير المحدث باطلا ولهذا قال مالك الاستواء معلوم وأما قوله والكيف مجهول فالجهل بالكيف لا ينفي علم

ما قد علم أصله كما نقر بالله ونؤمن به ولا نعلم كيف هو أشار إلى ذلك الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى في بعض رسائله والله أعلم