كتاب : سلوة الأحزان للاجتناب عن مجالسة الأحداث والنسوان
المؤلف : المشتولي

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلاّ على الظالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وتابعيهم من الأولياء المقربين، وأهل طاعتك الذين اصطفيتهم على كثير من عبادك المؤمنين، وخصصتهم بالقرب من حضرتك، وأطلعتهم على البعض من علومك، وأكرمتهم بالتوحيد والطاعة والهدى والتوفيق، وجعلتهم خلفاء أنبيائك في المعجزات، وأظهرت منهم للخلق والكرامات، وأقمتهم لحمل البليات التي تنزل على الخلق من السموات، فهم لحملها صابرين، ولما أقمتهم فيه ممتثلين، ولك راضين، وأقطارها متداركين، ولمصالح العباد بأمرك قاضين، ولطريق الحقيقة تابعين، ومن أقولهم وأفعالهم أهل العلم للشريعة سالكين، ومقتدين، فهم نور الدنيا ومصابيحها، فلا يسلك أحد مسلكا إلاّ بضوء تلك المصابيح، فبهم نهتدي، وبطريقهم نقتدي، وبسرهم الغيث نستقي، وإنهم في جميع أقطار الأرض دائرين، وللحضرة مشاهدين، وللكروب بإذن ربهم عن العباد كاشفين، ولكل منهم مرتبة قائم بها بإذن رب العالمين، فهم على هذه الأحوال ملازمين، وبذكر الله تعالى ليسوا بغافلين، وبالسر مشهورين، وعلى الخلق في علم التوحيد وعلم الحقيقة مرفوعين، وقلوبهم وأعضاؤهم بالإيمان مملوئين، يتفاضلون في الإيمان على قدر مراتبهم في منازل القرب من " أنواع التوحيد وأقسام الهداية " .
أنواع التوحيد
فأنواع التوحيد ثلاثة: يعلم أن الله تعالى منفرد بالتدبير، والتأثير، وتوحيد الملك، وأن تفرده سبحانه بالسيادة التامة والسياسة العامة.
وتوحيد الألوهية بثلاثة أمور: أحدها: أن يؤله بحيث يستولي على القلب العظمة والحب حتى لا يبقى لغيره فيه متسع. الثاني: ألاّ يلجأ في الحاجات دفعاً ولا نفعاً إلاّ إليه. الثالث: أن يسارع في مُجَابه ومراضيه.
وأقسام الهداية ثلاثة أيضاً: معنى الأول: خلق التوحيد في القلب، وهو المعرفة بالله تعالى. وخلق الله تعالى في القلب ثلاثة أمور: نور المعرفة.
2 - ونور المحبة.
3 - ونور العقل.
الثاني: من أقسام الهداية: تكون الهداية بمعنى الدوام على الإيمان والثبات عليه، ومنه قوله الموحد (اهْدِنَا الصِرِّاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ) أي أرزقنا الدوام عليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " . وكان من دعائه: " يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك " .
والفرق بينه وبين الأول: أنه يسأل في الأول الدوام والثبات على الإيمان، ويسأل في الثاني أنه يصرف قلبه إلى طاعته، وفيه إشارة إلى التوفيق وهو الإعانة على الإتيان بما أمر الله تعالى به،وترك ما نهى عنه. والتوفيق: هو إتيان العبد الطاعة على وفق ما أمر ربه، فإذا أتى به موافقاً لأمره فقد حصل التوفيق، ومتى نقص أو زاد أو ترك فعلاً فإنه جانب التوفيق. ولما كان الإيمان لا يحصل إلاّ بالله تعالى، خلق الله في قلب العبد نور المحبة للإيمان، لأن المحبة تقيد المحبوب، لأن من أحب شيئاً أمسكه. ولما كان المحبوب يحتاج إلى من يحفظه من وسواسه، ويمنعه من الأعداء - وهم الشياطين - من الإنس والجن الذين يدعون إلى الكفر وعبادة غير الله تعالى، أعطى الله تعالى العبد نور العقل وهو الثالث من الأنوار حتى يحفظ الإيمان الذي حببه إليه والنعم التي مَنّ الله تعالى بها علينا وهي: نور المعرفة، ونور المحبة، ونور العقل، وهي المتقدم ذكرها وقد ذكرها الله تعالى في سورة الحجرات. فالإشارة إلى نور المعرفة بقوله تعالى:(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) ففيه الأمر بمعرفة الرسول والمرسل. وقوله تعالى:(وَلكن اللهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيَمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) إشارة إلى نور المحبة المقيدة. وقوله تعالى:(وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ والْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) إشارة إلى نور العقل، وبذلك تندفع وسوسة العبد وأمراض القلب من البغى والحسد والتكبر والحقد والسخرية والغيبة والنميمة وغبر ذلك، وبنور العقل تندفع وسوسة الشيطان وجميع البدع، وبنور العقل يحفظ الإيمان مما ينازعه ويشوش عليه من الأكدّار التي تجر إلى الكفر والمعاصي وتتبع الشهوات، وقد قيل: إن المعاصي بريد الكفر، وأن من اتبع الشهوات فقد غرس في قلبه شجر الندامات.

القسم الثالث من أقسام الهداية: أنها تكون بمعنى البيان قال الله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهِدي إِلَى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) المراد بها في حق النبي صلى الله عليه وسلم البيان الحامل على اعتقاد الحق حقا، والباطل باطلا. واعلم أن القسمين الأولين لا يقعان من غير الله تعالى الهادي هو الله: قال الله تعالى: (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) أي لا تخلق الهداية في قلب من حجبت عنه، ولكن الله يهدي من يشاء.
اللهم اهدنا فيمن هديت. انتهى كلام الشيخ.

فصل
في تحريم مجالسة الأحداث والنسوان
ومعاشرتهم والنظر إليهم
قال الله تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصاَرِهِمْ وَيَحْفَضُواْ فُرُوجَهُمْ)
العين رأس الحواس الموردة للخواطر:
قال القرطبي في الغريب المنتقى: اعلم أن رأس حواسك الموردة للخواطر عليك، والتي تكاد أن تدل عليك بلا نطق، وتفصح عن نيتك بلا كلام، وتكاد أن تقود سائرها من جميع جوارح بدنك حاسة النظر، إذ مقامه في البدن مقام الشمس في الدنيا، وهي الحاسة التي تدرك محسوسها أبداً بلا زمان، أعنى أن إدراكها ما قرب منها بسرعة كإدراكُها ما بعد منها، وليس بين إدراكها القريب والبعيد زمان، وسائر الحواس تدرك بزمان، ويعدم الإدراك بعدمها المحسوس، فكما أن العين رأس الحواس كذلك رياضتها بإحكام ألحاظها، وذم تحديقها، وتدبير التماحها من أكرم الحركات العابرة إلى الرياضة المحمودة، والدالة على شرف النفس، وكرم الهمة.
إهمال رياضتها وما يترتب عليه: وبحسب ذلك يكون إهمالها وإيقاع شعاعها على مالا يحل ولا يحمد من أقبح الحركات المبعدة عن الخير، القائدة إلى الزلل الدالة على دناءة النفس ونذالة الهمة. فاجعل تعاهدك على ما توقع عليه نظرك من أول أفعالك التي تبتدئ إصلاحها من نفسك. واعلم أنها أخوف حواسك عليك، وأقربها إلى الإِستيلاء على عقلك، إذ في محسوسها جمال الصور، وحسن الأجسام، وملاحة الحركات، ورونق التراكيب، وأصبغة الوجوه وديباجات الوجوه التي هي أفتن المحسوسات بجمالها، وأوبقها مدخلا إلى القلوب وأقربها وسيلة إلى النفوس، ولذلك كثيراً ما يحتاج العباد إلى اعتزال الجماعات، والهرب عن الخواطر.
إياك وخداع الشيطان! فاحذر في هذا الباب أن يخدعك الشيطان فيعزل الصبر من نفسك، ويصرم لك القوة في عزمك، فيجعل عندك مادة النظر والتحديق إلى مالا يحل، والتماح اعتبار مالا يجوز اعتباراً في خلق الله - عز وجل - ، والتعجب بعجيب بنيته، وأنيق تركيبه، فيدرج مخادعاً لك إلى ما يمكن به الفتنة من ناظرك، ويرسخ موقعها من قلبك.
الصغائر تؤدي إلى الكبائر: فإن غفلت قليلاً ممكناً له من ناظرك، أوقعك - لا محالة - إما في مقاتلة من كنت غنيا عن الاشتغال بمقاتلته من نوازع شهوتك، وإما في الانقياد لها، ومتى صيرت إلى لجج من الفتن لا غاية لها ولا نهاية، إذ العين غير شابعة من النظر، وفعل شهواتها كفعل النار التي هي محسوسها ما زيدت حطباً زادت لهباً.
كيف الفرار؟ وإنما الاحتراز من المكروه بالتحفظ من أول أسبابه، والترفع إلى كل جميل مثل الانحدار إلى كل قبيح، ودرجات نزول أولها قريب مما يليها صاعداً كان أو هابطاً. وأنفع ما يكون الحزم والنظر في تمييز الأسباب التي عنها تتولد الأمور، فأما تميز الأمور في منتهاها فكذلك ما لا يخفى على جاهل فكيف على عالم.
نفسك تلومك! واعلم أنها قد تورثك البطالة وتؤديك للبلادة، بإطالة التحديق على ما لا يعنيك، والنظر إلى ما لا ينفعك، وكذلك أيضاً قد تحكم عليك في بعض الحالات بالسخافة وتلومك الندالة في مثل الالتهاء في كل سمج، والنظر إلى كل قبيح، وكذلك أيضاً قد تشهد عليك في بعض الحركات بالكبر والعجب،وفي بعضها بالورع والتواضع.
زمام الأمر في يدك! فألزمها أفضل الحركات التي تمدحها في غيرك، والبسها أجمل الثياب التي تستجملها على سواك، فافهم المواضع التي يجب عليك فيها غضها مما تشتهي النظر أليه، والتي قد يجب عليك صرفها إلى معاينة ما تستعمله، وأي المناظر الأنيقة يورثها اعتبارا، وأيها يورثها افتناناً، وأي المناظر السمجة يكون إقبالها علماً وتبتلا، وأيها يكون ذلك فيها سخفاً وتسفلاً.
ماذا لو غضضت بصرك؟

واعلم أن في اغضاضك بصرك عن النظر إلى مالا يؤمن أن يكون سبباً إجماماً للقلب ، وجَبًّا للشر، وإصلاحاً للنفس، ومادة للإرادة الهوائية، وإغضاؤك عن النظر يوصلك إلى موجود عقلك، الذي هو أصل المعرفة بربك، لأن المعرفة به - عز وجل - نتاج العقل الصحيح، والإيمان به - عز وجل - نتاج المعرفة به، وإذا صح العقل، نبتت المعرفة ، وصدق الأيمان، وحكم القلب على جميع الجوارح بأعمال الخدمة فتدبر - يا أخي - قلبك بالإخلاص، وتلطف بالمسير في طرق السلامة من الآفات القادحة، والخواطر السارحة.
كيف المخرج والفرار؟: واعلم أن مخرج النظر المسدد من العقل النافع، ومخرج الدلالة من المعرفة العقلية، ومخرج الفكر من يقين القلب، فإذا دام النظر في النعم أيدته المعرفة للعملية الدالة علية، ثم وقعت المعرفة عليها فأبانت الفكرة ما فيها من الفضل والمنفعة فأتت النفوس بالنعم، وفرحت بمجاورتها، وانقطعت عن أسباب الفعل، وانفردت في خلوتها برعايتها، وسقط الهم بغيرها، واتصل بما يحفظها ويراد به منها، فإذا صحت معرفة النفس لنعم الرب جل وعلا، انشرح لهل الصدر والقلب، ووقع الشكر، وكثر الذكر، وتم السرور، والفرح، وعظم الافتخار، وصفا العيش وطاب.

فصل
كيف ندرك المجتهدين ونسبق المسرعين
نصيحة شيخ مجرب!
قال بعض المشايخ لمريده: يا بني ألا أدلك على عمل كثير من أعمال الأبرار تدرك به العامل المجتهد، وإن كنت متوانياً؟ احفظ طرفك ولسانك مع أداء الحقوق، فذلك أعمال الراسخين. إن أردت أن تسبق الراكب المسرع، وإن كنت بطيئاً فاشغل قلبك ولسانك بذكر الله، مع ترك الحظوظ، فذلك من أعمال الصديقين. واعبد الله على طريق العلم تسلم من الآفات، وأخلص له سبيل الصدق ترفع في الدرجات. ونظر بعض العباد إلى صبي فتأمل محاسنه فأتى في منامه وقيل لتجدن غِبّها بعد أربعين سنة. قال بعض الحكماء: القلب مثل بيت له ستة أبواب.
ما هي أبواب القلب؟ ثم قيل له: احذر ألا يدخل عليك من أحد هذه الأبواب شيء فيفسد عليك البيت، فالقلب هو البيت، وأبوابه: الفم، واللسان، والسمع، والبصر، واليدان، والرجلان، وفتح هذه الأبواب بغير علمٍ ضياع البيت، وغلق هذا البيت فرض، وسد كل باب من هذه الأبواب فرض، خوفاً على البيت من الفساد، وهذا البيت إذا فسد فسد الجسد كله، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجسد مُضَّغةً إذا صَلحَتْ صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب " فافهم حفظ هذه الأبواب واحرص عليها.
النظر هو البداية!: واعلم أن بدء المعصية النظر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " النظرة سهم من سهام إبليس " .
رأي عيسى - عليه السلام - في النظرة: وقال عيسى - عليه السلام - : " إياكم والنظرة فإنها تزرع في القلب حسرة " .
والنظر!: وقال ابن سيرين: " إياك وفضول النظر فإنه يؤدي إلى فضول الشهوة " . وقال داود لابنه: " يا بني امشِ خلف الأسد، ولا تمشي خلف المرأة " .
ابن مكتوم ينظر إلى قدميه!: وكان الأسود بن مكتوم إذا مشى نظر إلى قدميه فربما استقبله النساء فيقول بعضهن لبعض: لا يرعكن قامة الأسود بن مكتوم إذا مشى نظر إلى قدميه لا ينظر إليكن.
الإسلام يحث على صون مرأة: وفي الحديث: " شر النساء اللاتي يتشوقن للرجال ويفتنَّ الرجال وشر الرجال الذين يتشوقون للنساء ويفتنون " . وعن ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمشي الرجل بين المرأتين " أخرجه أبو داود. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان " . وقال صلى الله عليه وسلم: " باعدوا بين أنفاس الرجال، وأنفاس النساء " . وما ورد من أنه " لو كان عرق من المرأة بالمشرق، وعرق من الرجل من المغرب، لَحَنَّ كل واحد منهما لصاحبه " . فكيف بالمباشرة والكلام والمزاح؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون على عدم الاستحياء من عمل الذنوب.
الخمسة التي تفسد القلب: وروى: " خمسة تفسد القلب: الخلوة بالنساء، والاستماع لهن، والأخذ برأيهن، ومجاراة الأحمق، فأن جاريته كنت مثله، ومجالسة الموتى. قيل: وما الموتى؟ قال: كل غنيِّ أبطره غناه، وكل إمام جائر " .

أفعمياوان أنتما!!: وعن أم سلمة - رضي الله تعالى عنها - قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أمرنا بالحجاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " احتجبا منه " فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه " ! المراهق والمرأة: والأصح أن المراهق كالبالغ فيجب على المرأة الاحتجاب منه كما يجب الاحتجاب من المجبوب ويلزم ولي الصبي منعه من نظرها كما يلزم منعه من الزنا.

فصل
في أبواب المعاصي
ابن القيم يصف الداء والدواء:
قال ابن القيم - رحمه الله: وأكثر ما يدخل المعاصي على العبد أربعة أبواب وهي: اللحظات، والخطرات، واللفظات، والخُطُوات، فينبغي للعبد أن يكون بواب نفسه على هذه الأبواب الأربعة، ويلازم الرباط على ثغورها، فمنها يدخل العدو فيجوس خلال الديار وُيَتّبر ما علا تتبيرا.
رأس الشهوات!: فأما اللحظات: فهي رائدة الشهوة ورسولها، وحفظها أصل حفظ الفرج،فمن أطلق بصره أورده موارد الهلكات، ولما كان مبدأ ذلك من النظر جعل الأمر بغضه مقدما على حفظ الفرج.
وقال: كل الحوادث مبداها من النظر، ومعظم النار من مستصغر الشرر فتكون نظرة، ثم خطرة، ثم خطية ولهذا قيل: من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه.
غض البصر يورث حلاوة في القلب: واعلم أن من غض بصره عن محاسن امرأة، أو أمرد لله تعالى، أورث الله قلبه حلاوة إلى يوم يلقاه. وقال صلى الله عليه وسلم: " إياكم والجلوس على الطرقات " قالوا: يا رسول الله مجالسنا ما لنا منها بُدٌّ. قال: " إن كنتم ولا بد فاعلين فاعطوا الطريق حقه " قالوا: وما حقه؟ قال: " غَضُّ الَبصَرِ وَكَفُّ الأذَى وَرَدُّ السّلام " .
أصل عامة الحوادث: والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإِنسان، فإن النظرة تولد خطرة، ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولا بد، ما لم يمنع منه مانع.
من آفات النظر: ومن آفات النظر أنه يورث الحسرات، والزفرات، والحرقات فيرى العبد ما ليس قادراً عليه، ولا صابراً عنه، ولا قدرة لك عليه. وكم من أرسل لحظاته فما أقلعت إلا ّوهو يتشحط بينهن قتيلا. ومن العجب أن لحظة الناظر سهم لا يصل إلى المنظور إليه، حتى يتبوأ مكانا من قلب الناظر، والأعجب من ذلك أن النظرة تجرح القلب جرحاً، فتتبعها جرحاً على جرح، ثم لا يمنعه ألم الجراح مِنِ استدعاء تكرارها، وقد قيل: حبس اللحظات أيسر من دوام الحسرات.
الخطرات أصل الخير والشر: وأما الخطرات: فشأنها أصعب، فإنها مبدأ الخير والشر، ومنها تتولد الإِرادات والهمم والعزائم، فمن راعى خطراته ملك زمام نفسه، وقهر هواه، ومن غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب، ومن استهان بالخطرات قادته قهراً إلى الهلكات، ولا تزال الخطرات تتردد على القلب حتى تصير آثاراً باطلة (كَسَرَاب بِقِيِعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لم يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِنَدهُ فَوَفّاه حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ).
من أضاع وقته، ضاع عمره!: واعلم يا أخي أن الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك، فلا تشغل قلبك وجوارحك بما لا تملك من أمر دينك وآخرتك، وعليك بالفكرة في واجب الوقت ووظيفته وجمع الهم كله عليه، فالعارف ابن وقته فإن أضاعة ضاعت مصالحه كلها، فجميع المصالح إنما تنشأ من الوقت، وإن ضيعه لم يستدركه أبداً.

رأي الشافعي في الوقت: قال الشافعي رضي الله عنه: صحبت الصوفية فلم أستفد منهم سوى حرفين. أحدهما قولهم: الوقت سيف فإن لم تقطعه قطعك وذكر الكلمة الأخرى. فوقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر أسرع من مر السحاب، فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوباً من حياته، وإن عاش فيه طويلاً فهو يعيش عيش البهائم، فإذا قطع وقته في الغفلة والشهوة والأماني الباطلة، وكان خير ما قطعه بالنوم والبطالة، فموت هذا خير له من حياته. وإذا كان العبد وهو في الصلاة ليس له من صلاته إلا ما عقل منها، فليس له من عمره إلا ما كان فيه بالله وليعلم الإنسان أنه ما من خطرة إلا وتكتب إما حسنة وإما سيئة وقد نهى عن السعي من غير حاجة.
اختر كلماتك جيداً:
وأما اللفظات: فحفظها بأن لا يخرج لفظة ضائعة، بل لا يتكلم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه، فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر هل فيها فائدة وربح أم لا؟ فإن لم يكن فيها ربح أمسك عنها، وإن كان فيها ربح نظر، هل تفوتة بها كلمة هي أربح منها؟ فلا يضيعها بهذه، وإذا أردت أن تستدل على ما في القلوب فاستدل عليه، بحركة اللسان، فإنه يطلعك على ما في القلب شاء صاحبه أم أبى.

اللسان يكشف عما في القلب!:
قال يحيى بن معاذ: " القلوب كالقدور تغلي بما فيها وألسنتها مغارفها فانظر إلى الرجل متى تكلم فإن لسانه يغترف لك ما في قلبه من حلو وحامض، وعذب وأجاج وغير ذلك ويبين لك طعم قلبه اغتراف لسانه " .
مدخل الاستقامة:
وفي حديث أنس المرفوع: " لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه " .
مفتاح دخول النار:
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال: " الفم والفرج " . وفي الصحيحين: من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقى لها بالاً يرفعه الله درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقى لها بالاً يهوى بها في جهنم " . وفي جامع الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه قال: " توفى رجل من الصحابة - رضي الله عنهم - فقال رجل: " أبشر بالجنة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أو لا تدري فلعله تكلم فيما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه " وقال: حديث حسن. وفي الصحيح: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت " وفيه حديث: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " . وفي حديث: " كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر الله " .
قال: واختلف السلف - رضي الله عنهم - والخلف هل يكتب جميع ما يلفظ به؟ أو الخير والشر فقط؟ على قولين: أظهرهما الأول. وقال بعض السلف: " كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا ما كان من ذكر الله تعالى وما والاه " .
خصال اللسان المحمودة:
واعلم أن في اللسان عشر خصال محمودة: دليل يظهر به البيان.
وشاهد بخير عن الضمير.
وحاكم يفصل الخطاب.
وواعظ ينهى عن القبيح.
وناطق يرد الجواب.
وشافع تدرك به الحاجة.
وواصف تعرف به الأشياء.
ومعرب يشكر الله عز وجل. والإخوان.
وحامد يذهب الضغينة.
وموثق يلهي الأسماع.
وأما الخطوات: فحفظها بأن لا ينقل قدمه إلا فيما يرجو ثوابه عند الله، فإن لم يكن في خطاه مزيد ثواب فالقعود خير له، ولما كانت العثرة عثرتين: عثرة الرِّجل، وعثرة اللسان، جاءت إحداهما قرينة الأخرى في قوله تعالى: (وَإذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً). فوصفهم الله بالاستقامة في لفظاتهم ، وخطواتهم، كما جمع بين اللحظات والخطرات في قوله تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأُعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ).
في ترك الفضول توفيق للحكمة:

وقال بعض العارفين: " من ترك فضول الكلام وفق للحكمة، ومن ترك فضول الطعام وفق لحلاوة العبادة، ومن ترك الضحك وفق للهيبة، ومن ترك الرغبة وفق للجنة، ومن ترك التجسس وفق لإصلاح عيب نفسه، ومن ترك التوهم في كيفية ذات الله وفق للخشية وسلم من الشك والنفاق، ومن ترك الظن السيئ وفق للسلامة من سوء الاعتقاد في الخلق " . وقيل: النظر المباح يؤثر كما يؤثر غير المباح، وإنما يباح للمعلمين من غير إلحاح، وقد لا ينظر أصلاً ولا يمكنه النظر. واعلم أن لأعضائك آداباً يتعلق بها. قال شيخنا - رحمه الله تعالى - في كتابه الهداية: قال صلى الله عليه وسلم: " المهاجر من هجر السوء، والمجاهد من جاهد هواه " .

الاستعانة بنعم الله على معاصيه غاية الكفران:
والمعاصي لا تفعل إلا بالجوارح وهي نعمة من الله تعالى عليك، وأمانة لديك، فاستعانتك بنعمة الله تعالى على معاصيه غاية الكفران، وخيانة في أمانة أودعك الله إياها غاية الطغيان، وأعضاؤك رعاياك، فانظر كيف ترعاها ففي الحديث: " كلكم راع وكل مسئول عن رعيته " .
اعمل ليوم تشهد عليك أعضاؤك:
واعلم أن جميع أعضاؤك تشهد عليك في عرصات القيامة بلسان طلق تفضحك به على رءوس الخلائق قال الله تعالى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْديهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). وقال: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). فاحفظ جميع بدنك خصوصاً أعمال أعضائك السبعة، فإن جهنم لها سبعة أبواب، لكل باب منها جزءٌ مقسوم، ولا يتعين لتلك الأبواب إلا من عصى الله بهذه الأعضاء: العين، والأذن، واللسان، واليد، والبطن، والفرج، والرجل، على كل جارحة من الجوارح آداب تختص به.
آداب كل جارحة منها:
فآداب البصر أن ينظر إلى إخوانه نظر مودة ومحبة، يعرفها منك ومن حضر المجلس، ويكون نظرة إلى محاسنه، وإلى أحسن شيء يبدو منه وأن لا يصرف عنه بصره في وقت إقباله عليه، وإن يخفف بصره عن زخارف الدنيا، كالبنيان المنقوش والأشياء التي تتطلع النفس إلى طلب مثلها، وتحبب النساء إلى القلب قال الله تعالى: (وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ اَلْحَيَاةِ الدُّنْيَا). وليعلم الإنسان أن البصر صاحب خبر ينقل حال المبصرات إلى القلب، فينقش صورها، فينبغي أن يصان القلب عن نقل ما يؤديه إليه؛ ليكون مفتوحاً لما يصدره من الفكر والذكر، ثم ثبت أن أشرف الأشياء رؤية الله تعالى بالعيون في الآخرة، فحقيق لصاحب هذا الرجاء أن يصون هذا العضو لما يرجو له من تلك المنقبة. وآداب السمع: أن يسمع إلى حديث سماع مشتهٍ بما يسمع، متلذذ به، وإذا كلمته لا تصرف بصرك عنه، ولا تقطع حديثه بسبب من الأسباب؛ فإن اضطرك الوقت إلى شيء من ذلك أَشْعَرْت فيه، وأظهرت له عذرك! أحذر أن تسمع به عوداً أو مزماراً، أو تصغي بها إلى بدعة، أو غيبة، أو فُحْش. أو خوض في باطل، أو ذكر في مساوئ الناس أو غير ذلك من الملاهي المنهي عن سماعها، من غناء بالأشعار مهيجة للطبع والهوى، وسماع كلام الأجنبية إلا لحاجة، فإن خلقاً من العباد فتنوا بالكلام كما افتتن غيرهم بالنظر.
إياك والغيبة!: وأما سماع الغيبة ونحوها مما يتأكد اجتنابه لا يختص به القائل دون المستمع، ففي الحديث أن المستمع شريك القائل فإن المستمع أحد المغتابين؛ فينبغي أن يُنَزّه سمعه، كما ينزه بصره، لأنه صاحب خبر يوصل إلى القلب أخبار المسموعات.
رياض المسك جزاء من نزه نفسه وسمعه عن مجالس اللهو:
قال محمد بن المنكدر رحمه الله تعالى: " إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن مجالس اللهو ومزامير الشياطين، أسكنوهم رياض المسك، ثم يقول للملائكة: أسمعوهم تحميدي وتمجيدي " .
وآداب اللسان:

أن تكلم إخوانك بما يحبونه، وتبذل لهم نصيحتك، وتدلهم على ما فيه صلاحهم، وتسقط من كلامك ما تعلم أن أخاك يكرهه من حديث، أو لفظ، أو غير ذلك، ولا ترفع عليه صوتك، ولا تخاطبه بما يكره، وتكلمه بمقدار فهمه وعلمه، وتصون لسانك من الغيبة والنميمة، والشر، والفحش، واللعن، والسخرية، والاستهزاء، والكذب وقول الزور، وإفشاء السر، والمدح بالباطل، وكلام ذي اللسانين.
الإيمان... واللسان!: ولما كثرت آفات اللسان قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه " . وقال صلى الله عليه وسلم: " وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم " .

لمن تكفل الله بالجنة:
وقال: " من تكفل لي بما بين لحييه وبين رجليه، تكفلت له بالجنة " . وقال سفيان بن عبد الله الثقفي: " يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علىَّ فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: هذا " . وفي الصحيحين: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن العبد ليتكلم بالكلمة، ينزل بها في النار، أبعد ما بين المشرق والمغرب " .
إياك واللعن:
وفي الحديث: " ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء " ، وفيه: " إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً، فإذا لم تجد مساغاً، رجعت إلى الذي لعن، فإذا كان لذلك أهلاً، وإلا رجعت على قائلها " . وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن استطعت أن لا تلعن شيئاً فافعل، فإن اللعنة إذا خرجت من قائلها فكان الملعون لها أهلاً أصابته، فإن لم يكن لها أهلاُ، وكان اللاعن لها أهلاً رجعت عليه، وإن لم يكن لها أهلاً، أصابت يهودياً، أو نصرانياً، أو مجوسياً. فإن استطعت أن لا تلعن شيئاً فافعل " .
وفي حديث بلال بن الحارث رضي الله عنه أنه قال: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله - عز وجل - ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله - عز وجل - بها رضوانه إلى يوم القيامة. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله - عز وجل - ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عز وجل بها عليه سخطه إلى يوم القيامة " .
كان علقمة - رحمة الله تعالى - يقول: كم من كلام منعنيه حديث بلال بن الحارث رضي الله عنه " . وشميط بن عجلان: " يابن آدم إنك ما دمت ساكتاً فأنت سالم، فإذا تكلمت فخذ حذرك " .
الفخر بالآباء:
ومما يجب حفظ اللسان عنه، الفخر بالآباء، وخصوصاً بآباء الجاهلية والتعظيم بهم، وذلك لا يحل لقوله تعالى: (يأيُّهَا الَّناسُ إِنَّا خَلْقنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ). ويختص باليدين ترك البطش بهما فيما لا يحل، واللمس لما لا يجوز، والتطفيف في الكيل والوزن، حتى إنهم كانوا يحذرون من قرضها فقال حارث - رحمه الله - : " إياكم والخطرات، إن الرجل تنافق يده من بين سائر جسده واحفظهما أن تقرب بهما مسلما، أو تتناول بهما حراما، أو تؤذي بهما أحداً، أو تخون بهما في أمانة، أو تكتب بهما ما لا يجوز، فإن القلم أحد اللسانين، وابسط يدك لإخوانك بالبرّ والمعونة، ولا تقبضهما عنهم وعن الإفضال عليهم، ومعونتهم. ويختص بالبطن ترك تناول الحرام، والزنا، وأكل مال اليتيم، والمغصوب، والمسروق.
الآثار الناجمة عن الشبع:

احرص على طلب الحلال واقتصر منه على ما دون الشبع، فإن الشبع يقسي القلب، ويفسد الذهن ويبطل الحفظ، ويشغل الأعضاء عن العبادة والعلم، ويقوي الشهوات، وينصر جيوش الشيطان. واقتطاع المال باليمين الكاذبة، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وقال: " درهم ربا يأكله الرجل - وهو يعلم - أشد عند الله من ست وثلاثين زنية " . وقال صلى الله عليه وسلم: " من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله تعالى وهو عليه غضبان " . وروى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يكسب عبدً مالاً حراماً فينفق منه، فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، وليحذر من تناول الشبهات فإن لها تأثيراً في القلب " . وقد كان السلف الصالح - رضي الله تعالى عنهم - يتركون سبعين باباً من الحلال مخافة أن يقعوا في باب من الشبهة.
بم نتمكن من حفظ الفرج؟:
واعلم انك لا تصل إلى حفظ الفرج ألا بحفظ العين عن النظر، وحفظ القلب عن الفكرة، وحفظ البطن عن الشهوات، وعن الشبع، فهذه محركات الشهوة ومغارسها. وأما الفرج: فاحفظه من كل ما حرم الله تعالى قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ). ولا يصل إلى حفظ الفرج إلا بحفظ العين عن النظر، وحفظ القلب عن الفكرة، وحفظ البطن عن الشهوات وعن الشبع،فهذه محركات الشهوة ومغارسها فمن أعظم ما روى الهيثم بن مالك الطائي رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من ذنب - بعد الشرك بالله - أعظم عند الله من نطفةٍ وضعها رجل في رحم لا يحل له " .

أكثر ما يدخل الناس الجنة، وأكثر ما يدخلهم النار:
وروى أبو هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: " تقوى الله تعالى " ،وسئل عن أكثر الناس النار؟ قال: " الفرج والفم " قال ابن مسعود رضى الله عنه: إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله في هلاكها " . وآداب الرجلين: أن يماشى إخوانه على حد التبع،ولا يتقدمهم فإن قربه إلى نفسه تقربا إلى مقدار ما يعلم أنه محتاج إليه ثم يرجع إلى موضعه، ولا يقعد عن حقوق إخوانه مُعوّلا على الثقة بإخوانهم لأن الفضيل - رضى الله عنه - قال: " ترك حقوق الإخوان مذلة " . ويقوم لإِخوانه إذا أبصرهم مقبلين، ولا يقعد إلاّ بقعودهم، ويقعد حيث يُقْعِدونه.
واحفظ رجليك أن تمشي بهما إلى حرام أو تسعى إلى باب سلطان فالمشي إلى السلاطين الظَّلمة من غير ضرورة أو دهان. معصية؛ فإنه تواضع واكرام لهم، وقد أمر الله تعالى بالإعراض عنهم، وهو تكثير لسوادهم، وإعانة لهم على ظلمهم فإن كان ذلك سبباً لطلب مالهم، فهو سعي إلى حرام، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " من تواضع لغنىّ ذهب ثلثا دينه " . هذا في غنى صالح فما ظنك بالغنى الظالم.
زنا الجوارح:
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " العينان يزنيان وزناهما النظر، والقدمان يزنيان وزناهما السعي، والرجلان يزنيان وزناهما المشي، والفم يزنى وزناه القبلة، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه " . وليعلم الإنسان أنه ما من خطوة إلا وتكتب إما حسنة وإما سيئة، وقد نهى عن السعي في غير حاجة، فعليك يا أخي بحبس حواسك، وسجن أعضائك، فإنها تعد عليك ، وعد أنفاسك، وحاسب نفسك قبل يوم الحساب.
الخليفة المحاسب لنفسه:

قال عمر رضي الله عنه: " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا " . فإذا تجنبت أعضاءك ، تسلم إن شاء الله تعالى من شرها، وأهمها النظر فإن آفته عظيمة، وفتنته جسيمة. قال صلى الله عليه وسلم: " من أصاب من امرأة نظرة حراما ملأ عينيه ناراً يوم القيامة ثم يؤمر به إلى النار، ومن قدر عليها فتركها دخل الجنة " . وقال حاتم رحمه الله: زنا الرجل مع المرأة الصالحة ثلاثة أشياء: النظر، والكلام، والأخذ والعطاء. فإذا نظرت إليه، ونظر إليها، ووجد حلاوة ذلك، فهذا زنا العين، وإذا قال لها: يا أختي وقالت له: يا أخي ووجد حلاوة ذلك، فهذا زنا الكلام، وإذا أعطاها وأخذ فذلك زنا الأخذ والعطاء. وفي الحديث: " من حفظ ما بين لحييه، وبين رجليه، دخل " . وقال داود الطائي رحمه الله: " كانوا يكرهون فضول النظر كما يكرهون فضول الكلام " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يَخْلُوَنّ رجل بامرأة - ليست بمحرم - إلا كان الشيطان ثالثهما " . رواه النسائي. وقال عليه الصلاة والسلام: " النظر إلى المرأة الحسناء سهم من سهام إبليس " . وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " من نظر إلى محاسن امرأة فغض بصره في أول مرة أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها في قلبه " .

" فائدة " :
لمن يخاف على نفسه الفتنة!!: إذا نظرت إلى امرأة أو غيرها تخاف الفتنة على نفسك فولِّ وجهك، وقل: كما قال يوسف عليه السلام حين رأى: " اعصمني اللهم برحمتك يا أرحم الراحمين " . لقوله تعالى: (لَوْلا أَن رَّأى بُرْهَانَ رَبِّهِ) الآية. قال أبو عبيدة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " المكاعمة والمكامعة " حدثنيه أبو النظر، عن الليث بن سعد، عن عباس بن عباس رفعه وقال: إنما " المكاعمه " بأن يلثم الرجل صاحبه، أُخذَ من كعم البعير، وهو أن يشد فمه إذا هاج، يقال منه: كعَمْتُه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم اللثام حين يلثمه بمنزلة الكعام. وأما قوله: " المكامعة " فهو أن يضاجع الرجل صاحبه في ثوب واحد، أُخذ من الكميع، والكميع هو الضجيج، ومنه قيل لزوج المرأة هو: " كميعها " . قال صلى الله عليه وسلم: " لا يُفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد، ولا تُفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد " رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم في حق الأولاد: " مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم على تركها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع " . هذا في حق الأخ مع أخيه. فكيف بأحمق جاهل، وحمقى مثله! يتواخيان في زعمهما، ويظنان أن ذلك مباح لهما، وربما يجعلان التواخي أصلاً في إباحة كل واحد منهما صاحبه، فيقول الرجل أختي، والشيخ أبنتي، فيستحلون ما حرم الله من ذلك، ويتعرضون لسخط الله بفعل ذلك، نسأل الله العصمة والتوفيق والهداية إلى الطريق بمنه وكرمه.
" فائدة "
حول التفريق في المضاجع: قال الحصني: إذا بلغ الصبي والصبية عشر سنين، وجب التفريق بينه وبين أمه وأبيه، وأخته وأخيه في المضاجع، لما في النصوص الواردة في ذلك ، وأعظم من ذلك صحبة الأحداث.
صحبة الأحداث أقوى حبائل الشيطان:

قال الشيخ محمد المسعودي: قال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى: صحبة الأحداث أقوى حبائل الشيطان التي يصيد بها، وقد كان السلف الصالح يبالغون في الإعراض عن المُرْدِ، ولهذا روى مجاهد عن الشعبي قال: " قدم وفد عبد القيس على النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيهم غلام أمرد ظاهر الوضاءة، فأقامه النبي صلى الله عليه وسلم من بين يده، فأجلسه وراء ظهره " ، فأبعده عن نظره، وليس هذا مما يفعله طائفة من فقراء البوادي، يجلسون الشباب خلف أظهرهم دائماً على طريق العشرة والمخالطة - نعوذ بالله من ذلك - ومن فعل ذلك فقد ابتدع. إخواني إذا كان سيد البشر يحذر من النظر إلى الأمرد هذا الحذر، فما ظنك بأهل هذا الزمان في الخطرة قلوب مملوءة بالشهوات، وأبدان تغتذي بالشبهات والمحرمات، هل الفتنة فيها إلا أسرع من وقوع الذباب في العسل، وهل ينازع في ذلك إلا مَنْ في عقله خبل، فنسأل الله العافية. وقال أبو بكر محمد بن موسى الواسطي: " إذا أراد الله هوان عبد ألقاه إلى هذا الجيف " يريد بذلك تعلق القلب. وقال أبو الفرج: قال ابن المبارك: دخل سفيان الثوري الحمام فدخل عليه غلام صبيح الوجه فقال: " أخرجوه أخرجوه فإني أرى مع كل امرأة شيطان، ومع كل غلام بضعة عشر شيطاناً " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تجالسوا أبناء الملوك، فإن الأنفس تشتاق إليهم مالا تشتاق إلى الجواري العِتاق " . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تملئوا أعينكم من أبناء الملوك، فإن لهم فتنة أشد من العذارى " .

فصل
فيما ينبغي أن يكون عليه الصبي
ينبغي أن يكون الصبي كثير الحياء، قليل المخالطة للأجانب. وقال وهب بن منبه: إذا كان في الصبي خصلتان: الحياء، والرهبة رجي خيره. وقال عمر بن الخطاب: " ما أنا أخاف على عالم من سبعٍ ضارٍ، بأخوف عليه من غلام أمرد " . وقال الحسن بن ذكوان: " لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لهم صوراً كصور النساء، وهم أشد فتنة من العذارى " . وقال بعضهم: " الحوادث كلها من النظر " . وقال أبو علي الروزباري رحمه الله: قال لي أحمد المؤدب رحمه الله: قد رأينا من كان أقوى إيمانا من الصوفية، وإذا رأى الحدث قد أقبل يفر منه كفراره من الأسد!
فصل
في الخصال التي يجوز النظر إلى النساء وسماع صوتهن
الخصال المجيزة للنظر:
اعلم أن النظر إلى النساء عامداً لا يجوز إلا بأربع خصال: عند إرادة التزويج، وعند الشهادة عليها، وإذا كن ذات محرم له مثل الأم، والأخت والخالة، والعمة، ونظر الزوج إلى الزوجة.
متى يجوز سماع صوتها:
ولا يجوز سماع صوتها إلا عند أشياء: في البيع، والشراء، والاستفتاء، والمحاكمة، والشهادة، والرواية.
حكم نظر الرجل إلى المرأة:
وقال الشيخ تقي الدين بن الحصني: ونظر الرحل إلى الأجنبية على سبعة أضرب: إحداها نظرة إلى أجنبية لغير حاجة، فهو غير جائز للرجال البالغ من الذكور، وكذا المرأة. وهي البالغة من الإناث، ثم إن النظر لا تدعو إليه الحاجة، وقد تدعو إليه الحاجة.
الضرب الأول: أن لا تمس إليه الحاجة وحينئذ فحرم نظر الرجل إلى عورة الأمة إن خاف فتنة، فإذا لم يخف فتنة خلاف الصحيح، التحريم قاله الاصطخري وأبو علي الطبري واختاره الشيخ أبو محمد، وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والروياني ووجهه الإمام باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج، وبأن النظر مَظِنّة الفتنة، وهو محرك الشهوة فالأليق بمحاسن الشرع سد هذا الباب، والإعراض عن تفاصيل الأحوال، كما تحرم الخلوة بالأجنبية، ويحتج له بعموم قوله تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِيْنَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ).
حكم نظر المراهق:

وهل للمراهق النظر؟ وجهان أصحهما: أن نظره كنظر البالغ لظهوره على عورات النساء بمعنى أنه كالبالغ يجب على المرأة أن تحتجب منه كما أنه يلزمها الاحتجاب من المجبوب قطعاً وبلزم الولي أن يمنعه النظر كما يمنعه الزنا وسائر المحرمات. وأما حكم الممسوح: وهو الطَّوَاشي قال بعضهم: هو كالمجبوب فمنعه من النظر. واعلم أن من جُبَّ ذكره فقط، أو سلت خصيتاه فقط، والعنين، والشيخ الهرم حكمهم حكم الفحل على ما قاله الأكثرون. وأما مملوك المرأة وهو عبدها: فهو كالرجل الأجنبي فيحرم عليه النظر، ويحرم عليها، والاحتجاب منه مفروض، ولهذا لو لمسها ولمسته انتقض الوضوء قطعاً. قال النووي: قد صرح العمراني وغيره بأن الأمَة كالحرة، وهو مقتضى الخلاف بين كثيرين، وهو الراجح دليلاً، ولو كانت الحرة عجوزاً فألحقها الغزالي بالشابة.وقال: لأن الشهوة لا تنضبط، وهي محل الوطء قال القاضي حسين: العجائز اللاتي يكحلن الرجل يوم عاشوراء مرتكبات الحرام قاله الحصني في شرح أبي شجاع.
الضرب الثاني: نظره إلى زوجته وأمته فيجوز أن ينظر ما عدا الفرج منهما، فيجوز للرجل أن ينظر إلى جميع بدن زوجته، لأنه يجوز الاستمتاع بها وكذا الأمة في ذلك سواء كانت قِنة أو مدبرة أو مُسْتَوْلدة.واعلم أن نظر الزوجة إلى زوجها كنظره اليها.
الضرب الثالث: نظره إلى ذوات محارمه، أو أمته المزوجة، فيجوز فيما عدا السرة والركبة.
الضرب الرابع: النظر لأجل النكاح، فيجوز إلى الوجه والكفين، وقد تقدم أن النظر قد لا تدعو إليه الحاجة. وقد تمس إليه، وقد تقدم في الضرب الأول، والضرب الثاني ما تمس إليه الحاجة، والحاجة أمور منها:قصد النكاح،فإذا أراد الرجل أن يتزوج امرأةً رغب في نكاحها فلا شك في جواز النظر إليها، وهذا يستحب لقوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة: " انظر إليها فإنه أحرى أن يُؤْدَمَ بينكما " رواه النسائي وابن ماجه، وحسنه والترمذي وابن حبان والحاكم وقال: على شرط الشيخين وغيره من الأخبار. ويجوز تكرير النظر، سواء نظر بإذنها أو بغير إذنها، فإن لم يتيسر له بعث امرأة تأملها وتصفها له؛ لأنه - عليه السلام - بعث أم سليم إلى امرأة وقال: " انظري إلى عرقوبها وشمي معاطفها " ثم النظر إلى كفها ظهراً وباطناً ولا ينظر إلى غير ذلك، وفي وجه ينظر أليها نظر الرجل الى الرجل وهذا النظر يباح، ووقت النظر بعد العزم على نكاحها، وقبل الخطبة لئلا يتركها بعد الخطبة فيؤذيها، هذا هو الصحيح، وقيل ينظر حين يأذن في عقد النكاح، وقيل عند ركون كل واحد إلى صاحبه، وإذا نظر فلم تعجبه فليسك ولا يقول: لا أريدها لأنه إيذاء والله أعلم.
الضرب الخامس: النظر للمداواة إلى المواضع التي يحتاج أليها من مواضع الحاجة النظر إلى المرأة الأجنبية كاحتياجها إلى الفصد أو الحجامة أو معالجة ذلك لأن أم سليم رضى الله عنها استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجامة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم " أبا طيبة أن يحجمها " رواه مسلم. وليكن ذلك بحضرة مَحْرم، أو زوج حالة الخلوة، وبشرط أن لا يكون الطبيب ذِمّياً مع وجود مسلم.
الضرب السادس: النظرة للشهادة والمكاتبة، فيجوز النظر إلى الوجه خاصة، ومن مواضع الحاجة: جواز النظر إلى ثدي المرضعة لأجل الشهادة على الرضاع، وكذا النظر إلى فرج الزانيين؛ لأجل الشهادة عليه، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك.
الضرب السابع: النظر إلى الأمة عند ابتياعها، فيجوز النظر إلى المواضع التي يحتاج إليها في تقليبها من مواضع الحاجة والله أعلم.

تنبيه في بيان العورات وأحكامها

قال شيخنا: اعلم أن عورة الرجل من سرته إلى ركبته، وهذا حدّ عورة الرجل في حق الرجل، والمرأة في حق المرأة.وأما المرأة في حق الرجل الأجنبي: فكلها عورة إلاّ أن تكون أمة فحدّ عورتها في حق الرجل كحدّ عورة الرجل مع الرجل، إلاّ أنه يكره له النظر منها ما يحرم عليه في حق المرأة خوف الفتنة. وأما ذوات المحارم: فيجوز النظر منهن إلى ما جرت به العادة بظهوره كاليدين والقدمين وبعض الساق، وبعض الذراع وإنما عفى عن ذلك لأجل المشقة. وأما عورة المسلمة في حق الذمية: كعورة المرأة مع الرجل.الرجل وأما النظر إلى عورة الطفل إلى ما دون سبع سنين لا يثبت فيه حكم العورة وبهذا يجوز للمرأة تغسيله، وللرجل أن يُغَسّل الصبية إذا كان لها دون سبع سنين، ومما يتأكد غضّ البصر عنه - سيما في الحمام - الغلام الأمرد - سيما - الجميل الصورة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلى كرم الله وجهه: " لا تُتْبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الأخرى " وقال: كتب إبراهيم بن أدهم إلى سفيان الثورى: " من أطلق نظَرة طال أسفُه، ومن أطلق أمله ساء عملُه، ومن أطلق لسانَه قتل نفسه. وقال صلى الله عليه وسلم: " النظر إلى محاسن الأمرد سهم مسموم " . ويحرم على الولى تمكينه من الدخول مع الرجل أو الرجال الذين ليسوا بمحارم له، لأن الخلوة بالأمرد كالخلوة بالمرأة. كما ذكره النووي - رحمه الله - في فتاويه وسواء ويحرم على الرجل والمرأة النظر إلى وجه الأمرد بشهوة ونظرها على الصحيح والمرأة يحرم عليها النظر إلى غير زوجها إلا أن يكن ممن يحل النظر إليه. ويحرم عليها أن تنظر من المرأة إلى ما بين سرتها وركبتها، والأصح تحريم نظرة الكافرة إلى بدن المسلمة، ويحرم على المسلمة التعري بحضرة الكتابية، ويحرم دخول الحمام مع الكتابيات والحربيات، فإن دخلت معهن سترت جميع بدنها إلا ما يبدو حال المهنة لا غير قال الإمام العلامة الشيخ عز الدين بن عبد السلام: إن المرأة الفاسقة حكمها حكم الذِّمِّية في ذلك، فيحرص ولاة الأمر على منع الذميات والفاسقات من دخول الحمام مع المحصنات من المؤمنات، فإن تعذر ذلك لقلة مبالاة ولاة الأمور بإنكار ذلك فلتحرز المؤمنة الحرة من الكافرة والفاسقة. وعن قيس بن الحارث رضي الله عنه قال: كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح: أنه بلغني أن نساء المسلمين قِبَلَك يدخلن الحمامات مع نساء المشركين، فإنه نهى عن ذلك أشد النهى، فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن يرى عورتها غير أهل دينها، وأن لا يرى شيء من جسدها غير الوجه والكفين خارج الحمام فقال أبو عبيدة - وهو غضبان - ولم يكن غضوباً: " اللهم أيما امرأة دخلت الحمام من غير علة ولا سقم، تريد بذلك تبيض وجهها، لا بيض الله وجهها يوم تبيض الوجوه " . وأما الأمة فيحرم لغير وليها النظر إليها وساعد الحرة، وشعر رأسها، وشعر عانة الرجل وما أشبهها يحرم متصلا، وكذا منفصلا على الأصح، وعلى الأصح أيضاً، يحرم النظر إلى قُلاَمَةِ رِجْلِ المرأة دون قُلامة يدها، ويكره نظر الرجل والمرأة إلى فرج نفسه بلا حاجة. وأما نظر الزوجين إلى فرج الآخر: فيه وجهان: أحدهما تحريمه، وأحدهما يكره إلا " حلقة الدبر " . ويحرم على الرجل لمس فخذ الرجل بلا حائل، وكذا من فوق إزار إن خاف الفتنة. ويحرم مس كل ما جاز النظر إليه من المحارم، فلا يجوز للرجل أن يمس بطن أمه ولا ظهرها، ولا أن يغمز ساقها ولا رجلها، ولا أن يقبل وجهها، وكذا لا يجوز أن يأمر ابنته أو أخته بغمز رجليه ولا تُكَبِّسُه. وقال أبن الحاج: لا يجوز أن يجتمع مستور العورة مع مكشوف العورة تحت سقف واحد.

مواضع جواز كشف العورة:
واعلم أن كشف العورة لا يجوز إلا في أربعة مواضع: حالة الجماع تحت إزار، وحال قضاء الحاجة داخل الخلاء ، ومستور العورة في الصحراء، أو حال الاغتسال مستتراً في خلوة وغيرها، ولو اغتسل مستور العورة جاز، وعند رؤية الطبيب. والتكشف جائز في هذه الحالات مدة الحاجة في جميع هذه الحالات، والزيادة على قدر الحاجة حرام على الأصح لأن ستر العورة في الخلوة واجب على الأصح ذكره النووي في شرح مسلم. ويحرم النظر بشهوة إلى غير الأمرد من الرجال والمحارم والشيوخ والعجائز.
النظر إلى بيوت الناس:

وأما النظر إلى بيوت الناس بغير إذنهم فحرام قال صلى الله عليه وسلم: " من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم، فقد حلَّ لهم أن يفقئوا عينه " . أخرجه مسلم. وقال أيضاً: " لو أن رحلاً اطلع عليك بغير أذن فحذفته بحصاة ففقأت عينيه ما كان عليك جناح " متفق عليه.

فصل
في آداب دخول الصبيان الحمام
وأما دخول الصبيان الحمام بعضهم من بعضهم: فيحتمل أن يكون كدخول النساء بعضهن مع بعض، فيجوز. ويحتمل أن يكون كالرجال أيضاً، فيجوز. والأولى عدم اختلاطهم في الدخول خشية الفساد. وأما البالغ الممسوح فجوزه بعضهم، ومنعه بعضهم، وكذلك المجبوب الذي بقى أنثياه، والخصي الذي بقي ذكره، والعنين الذي عجز عن الجماع، والمخنث والشيخ الهرم، فجوز قوم نظر هؤلاء إلى نساء ومنعه آخرون. فأما الذي جوزه فقال: إنهم ليسوا من أولى الإربة. ومن منعه قال: لعموم قوله تعالى: (قًل لِّلمؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) الآية هذا هو الحق المفتى به. قال ابن الصباغ رحمه الله: لا يجوز للخصي أن ينظر إلى بدن المرأة الأجنبية إلا أن يكبر ويهرم، وتذهب شهوته، وكذلك المخنث، وتحرم الخلوة بالمرأة الأجنبية سواء كانت في حمام أو في بيت أو في طريق. قال أبو زكريا النووي رحمه الله في الروضة: الحكاية عن الأصحاب أنه لا يجوز أن يخلو رجل بامرأة واحدة، ويجوز أن يخلو رجل بامرأتين ثقتين، لأن استحياء المرأة من المرأة أكثر من استحياء الرجل من الرجل.
أحوال الخنثى المشكل:
وأما الخنثى المشكل فله أحوال: إحداها: أن يدخل مع المرأة الحمام وهذا حرام؛ لجواز كونه رجلاً وخلوته بها حرام.
ثانيها: أن يدخل مع رجلين أو رجال فيحرم أيضاً؛ لجواز كونه امرأة.
ثالثها: أن يدخل مع امرأتين أو نسوة وذلك جائز؛ لأن خلوة الرجل بنسوة جائز على الصحيح.
رابعها: أن يدخل الحمام مع خنثى، فيحرم لجواز كون أحدهما ذكرا والآخر أنثى.
خامسها: أن يكون مع خنثيين أو خناثى فيحرم.
تنبيهات: الأول: ما تكرر من الآي والأحاديث والفصول المتشابهة في هذا الكتاب فلفائدة زائدة أو منفعة عائدة.
الثاني: أن هذا الكتاب موضوع على سبيل الوعظ والإنذار فلا اعتراض إذا انتقل الكلام من مذهبه إلى مذهب غيره، لأن الكلام في الموعظة ليس الكلام بمقصور على مذهب المتكلم. وسئل شيخنا لم تتكلم في مذهب غيرك أو لم تخرج من مذهبك؟ فقال: إذا كان المتكلم في الموعظة فله أن يتكلم في الأربعة مذاهب، وإذا كان في درس فقه فلا يخرج عن مذهبه.
فصل
جامع في بيان السنة في كيفية أحوال تتعلق بالشباب والنساء في اجتماعهم في
الأماكن الشريفة وغيرها، وما يؤمرون به ويُنْهَوْن عنه
اعلم أن السنة إذا حضر نساء وشباب في الصلاة سواء كان ذلك في مسجد أو غيره، أن يقف أهل العلم والشيوخ خلف الإمام لقوله صلى الله عليه وسلم: " ليلني منكم أولو الأحلام والنُّهى " ثم عامة الناس خلفهم يميناً وشمالاً، يقف الشباب خلفهم، ثم النساء خلف الشباب، فلو تقدم شابٌ أمام الرجال أمر بالتأخر خلفهم، كفعله صلى الله عليه وسلم حيث أقام شاباً من بين يديه فأجلسه خلفه، ولم يكن ذلك في حال الصلاة فمن باب أولى في حقه التأخر في الصلاة والله أعلم. وأما الدليل على تأخير الشباب خلف الرجال في الصلاة فهو ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام صنعته فأكل منه ثم قال: قوموا فلأصلي لكم قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد أسود من طول ما لبث فنضحته بماء فقام عليه صلى الله عليه وسلم فصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى بنا ركعتين وانصرف صلى الله عليه وسلم " . ولمسلم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى به وبأمه، فأقامني عن يمينه، وأقام المرأة خلفنا " . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها " . رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. والسنة في جلوسهم في حِلَق الذكر إذا حضر رجال وشباب فالسنة أن يتحلق الرجال، ثم يتحلق الشباب من خلفهم، وذلك أبعد للفتنة وأسلم للقلوب. وهو أدب في حق الشباب؛ وعلى الرجال غضّ أبصارهم عمن يقابلهم من الشباب وذلك شرط في الذكر.
السنة في اجتماعاتهم في المكاتب:

قال شيخنا رحمه الله ينبغي للفقيه أن يتخذ مكاناً متسعا ًيعلم فيه القرآن، وأن يجلس للقراءة متطهراً، وأن يرعى الأولاد بعين الرعاية لحديث " كل راع مسئول عن رعيته " ولا يدع الصبيان يختلطون بعضهم ببعض، إلاّ أن يُعَلّم بعضهم بعضاً، والسنة إن كان عنده نساء وصبيان أن يجلس كل منهما وحده ويفرق بعضهم عن بعض. قال مالك رحمه الله: أكره للمعلم تعليم النساء، فإن علمهن لم يدعهن يقعدن مع الصبيان، خشية أن يفسدن، وينبغي للمعلم إن كان في مسجد أو غيره أن يكون أمينا عفيفا، تقياً صيناً متزوجاً، ولا ينظر إلى صبي من غير حاجة، فإن نظر إليه بغير حاجة حرم عليه ذلك، ويحرم مسه وإذا خاف المعلم على نفسه الفتنه جعل الصبي خلفه وعلمه. قال: كان أبو حنيفة - رحمه الله - يُجِلسُ " محمد بن الحسن " خلفه ثم يعلمه خوفاً من الفتنة واتباعاً للسنة. ولا يمكن العريف أن ينعزل بصبي في مكان وحده بسبب التعلم بل يجلسوا جميعاً بحضرة الفقيه، ولا يأذن لصبيين يخرجان لقضاء الحاجة بل واحداً بعد واحد، وإذا رأى أثنين مجتمعين من غير ضرورة يفرق بينهما بعد أن يُخِيفَهما وينهاهما ويعلمهما ما يحتاجان إليه من أمر الدين، ويمنعهما من محو القرآن بالبصاق. والسنة أن يجعل لهم وعاء فيه ماء يمسحون فيه ألواحهم، فإذا اسْوَدّ أمرهم أن يَصُبُّوه في البحر الجاري. وكان فقيهنا - رحمة الله عليه - يأمرنا بذلك فإن لم يكن هناك بحر ولا نهر أمرهم أن يحفروا حُفيرة في الأرض ويصبوا الماء فيها، ولا ينبغي للمعلم أن يُعلم البنت " سورة يوسف " . وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " علموهن الغَزْل، ولا تُسكنوهن الغُرف، ولا تعلموهن الخط " . رواه البزار.

فصل
فيما يباح للفقيه من ضرب الصبي
قال العلماء - رحمهم الله - : يجوز للفقيه الضرب بشروط: الأول: أن لا يكون بشيء يجرح الجسم.
الثاني: أن لا يكسر العظم.
الثالث: أن ينفع الضرب ويفيد، فإن لم يفد لم يجز الضرب.
الرابع: أن لا يزجر بدون الضرب من التخويف والتهديد ونحوه، ولا يحل التعزيرُ بالعض؛ لأنه لا يباح في صورة من الصور إلا عند الضرورة.
الخامس: أن لا يكون الضرب في الوجه.
السادس: أن لا يكون في مقتل.
السابع: أن يكون لمصلحة الصبي، فإن أدبه الولي لمصلحته، أو الفقيه لمصلحة دون مصلحة الصغير لم يجز، لأنه يحرم استعماله في حوائجه التي يفوت بها مصالح الصبي.
الثامن: أن يكون بعد التمييز، والتمييز لسبع سنين غالباً، وقد يكون قبل ذلك وقد يتأخر، والمدار على فهم الخطاب ورد الجواب وإتيان الخلاء للبول والغائط، وستر العورة فمتى وجد منه ذلك ميز. وإذا بلغ عشر سنين وجب ضربه على الصلاة. والسنة في طلوعهم المنار للأذان إذا كان منهم مؤذن، فالسنة أن لا يمكن الشباب من طلوع المِئذَنة مع رجل واحد فيحرم الخلوة بالأمرد كما تحرم الخلوة بالمرأة الأجنبية. ولا مع رجلين إلا أن يكون وحدة فُيؤذن له بالصعود إلى المنارة، فإن خلوته بالرجلين حرام كخلوة الرجلين بالمرأة وذلك أيضاً حرام. قال شيخنا في رسالة النور: يحرم على ولي الصبي تمكينه من الخلوة برجل أو رجال ليسوا له بمحارم، كما يحرم عليه تمكينه من دخول الحمام مع الرجل أو الرجال ليسوا له بمحارم، لأن الخلوة بالأمرد كالخلوة بالمرأة كما ذكر النووي في فتاويه، وقيد تحريم النظر في كتابه " الرياض والتبيان " بما إذا كان حسناً.
قال بعضهم سيما إذا كان سميناً، أو من صبيان هذا الزمان على العموم من تُرْكٍ وعَرَبٍ وحَضَرٍ وغيرهم، فأما إذا كان جمع من الشباب لهم عادة بصعود المئذنة بقصد الأذان، فيجوز - مع أمن المفسدة - لبعضهم بعضاً، فإن لم تؤمن المفسدة منعوا من الطلوع، ويقاس دخولهم الحمام كذلك.
دخول الصبيان الحمام مع بعضهم بعض:
قال شيخنا: وأما دخول الصبيان الحمام مع بعضهم بعض: يحتمل أن يكون كدخول النساء بعضهن مع بعض، فيجوز ويحتمل أن يكون كالرجال أيضاً فيجوز والأولى عدم اختلاط الصبيان في الدخول؛ لأن في الغالب وقوع المفسدة بينهم، فإذا تحقق ذلك منعوا. ويحرم على الولي تمكين الصبي من الدخول مع الرجال الأجانب والله أعلم.
بيان ما في دخول الحمام من المصالح والمفاسد وما يكره للرجال، وما يحرم
في حق النساء إلا لضرورة!

قال شيخنا رحمة الله عليه: ذكر الحافظ أبو نعيم في كتاب الطب النبوي عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال عليه الصلاة والسلام: " اتقوا بيتا يقال له الحمام " قالوا: يا رسول الله إنه يذهب بالدرن وينفع المريض قال: " فمن دخله فليستتر " . واعلم أن من أعظم المفاسد التي توجب اللعن دخول الحمام بلا مئزر ففي الحديث: " لعن الله الناظر والمنظور " . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال والنساء من الحمامات. ثم رخص للرجال أن يدخلوها في المآزر " . رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم. قال العلماء هذا إذا دخله لإزالة الأوساخ والتنظيف ونحوه، فإذا دخله من غير حاجة بل يقصد الترفه والتزيين للأغراض الدنيوية.
قال شيخنا: فظاهر كلام الغزالي في الإحياء وأبي بكر السمعاني أنه مكروه. روى عن علي وابن عمر رضي الله عنهما: " بئس البيت الحمام يبدي العورة ويذهب الحياء " . وروى الإمام أحمد بسنده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بإزار،ومن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا تدخل الحمام " .

فصل
في منع النساء من دخول الحمام

روى الإمام أحمد - رحمه الله - عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيت زوجها هتكت سترها فيما بينها وبين الله " . وهذا إسناده صحيح. وفي صحيح ابن حبان من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم فلا تدخل الحمام " . فهذه الآثار كلها تدل على منع إباحة الحمام للرجال دون النساء. قال شيخنا: قال الشيخ شهاب الدين بن العماد: إن دخول الحمام قد يعرض وجوبه في بعض الأحوال وذلك الدخول للغسل من الجنابة، والحيض، والنفاس، حيث يتعذر الغسل خارجه لسبب من الأسباب. وقد يعرض استحبابه كما إذا دخل لغسل مندوب كغسله للعيدين والجمعة وغيرها، أو لإزالة وسخ يتأذى به إلى حد يمنع الخشوع في الصلاة ولم يمكنه الاغتسال خارجه أو داخله لأجل تشف من مرض أو أذى. وقد تعرض كراهته كما إذا دخله لغرض فاسد كما سبق، أو دخله بين المغرب والعشاء، أو قبل الغروب، أو دخله وهو صائم، أو دخله وفيه مبتلى. وقد تعرض له الكراهة من جهة الطب لحمى به، أو مرض، أو ورم، أو أخلاط، أو دخله وهو شبعان قبل هضم الطعام. وقد تعرض له الحرمة كما إذا دخل مكشوف العورة، أو دخله من لا يستر عورته، أو أداة الدخول إلى خلوة محرمة كالخلوة بالأمرد الحسن فيحرم الدخول بسبب هذه الأسباب. وأما بيان إباحة دخولها للنساء بعد نهيهن عنها فقد اختلفت أقوال الصحابة رضي الله عنهم في إباحة الدخول لهن، إحداها: الجواز مطلقاً وهو قول أبي الدرداء وابن عباس وغيرهما. القول الثاني: المنع مطلقاً وهذا يحكى عن ابن عمر روى عنه أنه قال: " الحمام من النعيم الذي أحدثوا " فهذا يقتضي تركه أولى.والثالث: المنع إلا لمريضة، أونفساء وهذا يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: " إنكم ستفتحون أرض العجم، وفيها بيوت تدعى " الحمامات " وهو حرام على رجال أمتي إلا بإزار، وعلى نساء أمتي إلا نفساء أو سقيمة " . رواه أبو داود وغيره.ونقل الروياني عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يحرم عليهن الدخول مطلقاً إلا لضرورة. قال صاحب الفايق في اللفظ الرايق عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سيكون بعدي حمامات ولا خير في الحمامات للنساء " .وروى الحافظ أبو نعيم في تاريخ أصبهان عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بيت بالشام لا يحل للمؤمنين أن يدخلوه إلا بمئزر، ولا يحل للمؤمنات أن تدخلنه أَلْبَتَّة " فإن دعته ضرورة جاز الدخول. قال الغزالي رحمه الله: وحينئذ تدخل بمئزر سابغ. القول الرابع: منع النساء مطلقاً دون الرجال بالإزار. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون من ربها إذ هي في قعر بيتها " . رواه ابن ماجه في سننه وابن حبان في صحيحه وغيرهما. وصحح البغوي في الروضة جواز الدخول للمرأة مطلقاً مع الكراهة.

قال الشيخ شهاب الدين بن العماد على القول بجواز الدخول مطلقاً: وإنما يباح لها الدخول بشروط إحداها: أن يأذن لها الزوج في ذلك فإن لم يأذن لها الزوج حرم عليها الدخول. قال: ويكره للزوج أن يأذن لها فيه. قال الغزالي رحمه الله في الإحياء: ويكره له أن يدفع لها الأجرة، لأنه يعينها على المكروه هذا إذا قصدت دخولها الترفه، فإن دعت ضرورتها لدخولها لغسل من حيض أو نفاس أو جنابة أو وسخ، ولم يمكنها الغسل خارجه وجب عليه تمكينها من الدخول، وينبغي للقادر الحازم أن يخلى لها خلوة من نسوة ثقاة ودخولها ليلاً أفضل، وقد ذكر ذلك جماعة من السلف، وإذا أرادت دخولها لحيض أو نحوه مما لا بد لها منه تقصد بذلك النية من بيتها حتى يصير سعيها له عبادة. الشرط الثاني: أن لا يختلط النساء بالرجال الأجانب. الشرط الثالث: أن لا يدخلن إلا بمئزر سابغ من ظهور البشرة كسترة الصلاة ويشترك في ذلك الرجال والنساء على الأصح؛ لأن الله تعالى أحق أن يُستحى منه، فتجب السترة حتى لا يراه الله تعالى تاركاً أدبه وما أمره به، ولو أدخل الولي صبياً الحمام وجب عليه ستره وكذا الصبية إن بلغا حد الشهوة. الشرط الرابع: أن لا يدخلن الحمام إلا مع نسوة مسلمين ولو دخلت امرأة مع نسوة كتابيات أو حربيات فوجهان: أصحهما في الشرح والروضة في كتاب النكاح والجزية: التحريم.

فصل
فيما يحصل للمرأة من المفاسد في خروجها
وما يحصل لها من الوزر
قال شيخنا: وفي مسند الإمام أحمد - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أيما امرأة تطيبت ثم خرجت إلى الطريق فهي زانية " . وقالت عائشة رضي الله عنها: " لو أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد، كما منعت نساء بني إسرائيل " . متفق عليه. فهذا قولها في نساء زمانها فكيف لو رأت نساء زماننا، ولكن نسأل الله لنا ولهن العفو والعافية ولأمة محمد أجمعين.
مفاسد إتيان النساء الحمامات:
قال بعضهم: يترتب في إتيان النساء إلى الحمام مفاسد كثيرة منها: ترك الصلاة في وقتها. ومنها: إظهار الزينة التي أمرت بإخفائها عن الأجانب، وإظهارها للزوج. ومنها: التشويش على الرجال بما يظهر من تحت الإزار من الحلي والقماش الملون. ومنها: مشيها متمايلة. ومنها: إظهار رائحة الطيب ونحو ذلك من الفضائح التي تفعلها نساء بعض هذا الزمان فإن ذلك مما يفتح طرق الشيطان ويتأذى به كثير من الناس. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: أخوف ما أخاف عليكم فتنة النساء إذا تسورن الذهب ولبسن رياط الشام، وعصب اليمن فأَنْعَبْنَ الغنىّ، وكلفن الفقير ما لا يجد. رواه أحمد. وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن إبليس - لعنه الله - لما أهبط إلى الأرض قال: رب اجعل لي بيتاً. قال: الحمام. قال: فاجعل لي مجلساً. قال: الأسواق ومجامع الطرق. قال: فاجعل لي مصايد. قال: النساء. " . وفي الصحيح من حديث أسامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " . وفي صحيح مسلم: " فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء " . وعن ابن مسعود رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا خرجت المرأة استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون المرأة من ربها إذا هي في قعر بيتها " . رواه أبو داود والترمذي. ومن المفاسد المترتبة على دخول الحمام: أن المرأة المفسدة قد لا تتمكن من فعل ما تريد إلا بحجة الحمام فإن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان كما قال الله تعالى: (إن كيدكن عظيم) وقال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني اعص النساء في المعروف حتى لا يأتينك بالمنكر، واتق شرارهن، وكن مع خيارهن على حذر فإنهن لا يسارعن إلى خير بل هن إلى الشر أسرع. نسأل الله العافية بمنه وكرمه.
فصل
آداب وأحكام داخل الحمام
ويحترز داخل الحمام من النظر إلى الأبدان فإن نظرة إليها بشهوة حرام عليه، وسواء في ذلك بدن الأمرد والملتحي، وسواء في ذلك الوجه وغيره. ويحرم لمس جميع البدن بشهوة، ويجب إنكار ما يراه مخالفاً للسنة بيده أو بلسانه أو بقلبه كما ورد في الحديث الصحيح المشهور.
استتر سترك الله:

وينبغي أن يأمر برفق ويقول للمكشوف العورة: استتر سترك الله، ويقول له: كشف العورة حرام. ومن دخل الحمام بغير سترة فسق، ولا تقبل شهادته سواء كان رجلاً أو امرأة، وكذا إذا دخل بسترة ثم نزعها بحضرة الناس، وجلس عريانا يغتسل بالسدر ونحوه، فذلك فسق مسقط الشهادة. وإذا رأى عاريا بغير سترة يرجع أو يطرح بصره إلى الأرض ويستقبل الحائط كما فعله ابن عمر رضي الله عنهما.

واجب المسلم عند دخول الحمام:
قال سفيان بن عيينة رحمه الله: كانوا يستحبون إذا دخلوا الحمام أن يقولوا: يا بُّر، يا رحيم، مُنَّ علينا، وقنا عذاب السموم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه لما دخل الحمام وضع يده في الحوض وقال: بسم الله نعم البيت الحمام لمن أراد أن يتذكر، وبئس البيت الحمام لمن نزع الله منه الحياء. ويقول عند ازدحام الناس واشتغالهم بهرجهم: اللهم إني أسألك الأمن من هول يوم القيامة.
فصل
في النهي عن استعمال الطين في الحمام
قال صاحب الإلمام: إذا دخل المغتسل إلى الحمام للغسل من الجنابة أو الحيض أو النفاس أو لاتساخ رأسه أو بدنه أو للتداوي له أن يغتسل بالسدر أو الخِطْمِىّ وليحذر من استعمال الطين داخل الحمام أو خارجه فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من غسل رأسه بالطين فإنما غسل بلحمه، ومن أكل الطين أكل لحمه " . وعن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أكل الطين أعان على قتل نفسه " . وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تأكلي الطين فإنه يغير اللون، ويعظم البطن ويعين على القتل " .
فصل
في النهي عن كشف العورة في الحمام
والنهي عن تمكين الغير من مسها
قال شيخنا رحمه الله: يحرم عليه أن يمكن غيره من غسل عورته بل يتولى غسلها بنفسه وليحذر ما يفعله بعض الفسقة المتساهلين في ذلك ممن يمكن البلان من حلق عانته وهذا لا يستعمله إلا من استكملت فيه جميع خصال الدناءة والرذالة، ولا يحل لرجل ولا خنثى دلك بدن امرأة، ولا خنثى دلك بدن رجل لجواز كونه امرأة، والأمرد الحسن هو في هذا كالمرأة، ولا بأس بما جرت به العادة في دلك البلان أو غيره ظهره وإخراج الوسخ بالكف ونحو ذلك إذا لم ينظر إلى العورة أو يمسها. وروى أنس مرفوعاً إلى موسى بن عمران عليه السلام: كان إذا اغتسل لم يلق ثوبه حتى يواري عورته بالماء. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: " إن للماء عوامر من الملائكة كعوامر البيوت استحيوهم وهابوهم وأكرموهم إذ دخلتم الماء فلا تدخلوا إلا بمئزر " .
وقال النووي رحمة الله عليه: كان أبو بكر السمعاني رحمه الله إذا دخل الحمام فرأى عارياً رجع، وذكر أنه يحرم الجلوس بين الخائضين في الفتنة. وروى عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه دخل الحمام وعليه إزار فلما وصل إذا هو بهم عراة قال: فجعل وجهه نحو الجدار ثم قال: ائتني بثوبي يا نافع فأتيته به فألتف به وغطى على وجهه ثم ناولني يده فقدته حتى خرج منه ثم لم يدخله بعد ذلك. فقيل له بعد ذلك إنك تستتر فقال: إني أكره أرى عورة غيري. وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قال: لأن أموت ثم أنشر ثم أموت ثم أنشر ثم أموت، احب إلي من أن أرى عورة الرجل أو يراها مني. وقد امتنع ابن عمر من دخول الحمام لهذا السبب. وأسند الخرائطي عن صالح الدهان قال: دخل جابر بن زيد الحمام فرأى قوماً عراة فقال: سبحان الله أمسلمون هولاء؟ ثم وضع يده على عينيه وخرج - رضي الله عنه ورضى عنا بهم - هكذا كان حال السلف الصالح أصحاب القلوب المنيرة التبعة للسنة إذا رأى أحدهم منكراً انزعج قلبه وفر كالحيوان الحذور. وفي شعب الإيمان للبيهقي رحمه الله أن ابن المبارك رضي الله عنه كان إذا خرج من الحمام صلى ركعتين لما غشاه ووقع بصره عليه. والله الموفق والمعين.
فصل
في الاحتراز عن النظر إلى ما يُلْهي

قال النووي في التبيان: ومن ذلك النظر إلى ما يلهي ويبدل الذهن، وأقبح من هذا النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه كالأمرد وغيره، فأما النظر إلى الأمرد الحسن من غير حاجة حرام سواء كان بشهوة أو بغيرها سواء أمن الفتنه أم لم يأمنها هذا هو المذهب الصحيح المختار عند العلماء وقد نص على تحريمه الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ومن لا يحصر من العلماء رضي الله عنهم أجمعين. ودليله قوله تعالى:(قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم). كأنه في معنى المرأة، بل ربما كان بعضهم أو كثير منهم أحسن من كثير من النساء، ويتمكن من أسباب الريبة فيه، ويسهل من طرق الشر في حقه مالا يتسهل في حق المرأة فكان تحريمه أولى والأقاويل في التنفير منهم أكثر من أن تحصى.

انسلخ لحم وجهي من أجل نظرة!
وروى عن بعض السلف أنه رأى بعض الموتى في النوم مما كان يعتقده بالخير فسأله عن حاله فقال له: انسلخ لحم وجهي لما وقفت بين يدي الله تعالى حياء منه من أجل نظرة نظرتها إلى شاب. وأما النظر بشهوة إلى كل أحد رجلاً كان أو امرأة محرمة كانت المرأة أو غيرها ألا الزوجة والمملوكة التي تملك للاستمتاع بها حتى قال أصحابنا: يحرم النظر بشهوة إلى محارمه كابنته والله أعلم.
حكم دخول الصبيان المسجد:
وأما حكم دخول الصبيان المسجد، قال شيخنا: قال البغدادي: قال المتولي: يكره إدخال البهائم والمجانين والصبيان الذي لا يميزون المسجد لأنه لا يؤمن تلويثهم إياه. وأما تعليمهم القرآن في المسجد فإن كان ذلك على وجه يؤدي إلى انتهاك حرمته، وقلة احترامه، والتشويش على المصلي، والبصق عليه، منع وإلا فلا وقد كان ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ القرآن في المسجد وهو جاث على ركبتيه.
رأي الإمام مالك في تعليم الصبيان في المسجد:
وسئل مالك عن تعليم الصبيان في المسجد قال: لا أرى ذلك يجوز؛ لأن المساجد لم تبنَ لذلك فعلى ذلك يمتنع الصبيان من دخول المساجد لغير حاجة كما إذا دخلوا للعب واللهو أو ارتفعت أصواتهم وامتهانتهم المسجد وما أشبه ذلك.
فصل
في الآفات الداخلة على الفقراء من مخالطة الأحداث
قال أبو الفرج رحمه الله: اعلم أن أكثر المتشبهين بالصوفية قد سدوا على أنفسهم باب النظر إلى النساء الأجانب لبعدهم عن مصاحبتهن، وامتناعهم عن مخالطتهن، واشتغلوا بالزهد عن النكاح وانتفت صحبة الأحداث لهم على وجه الإرادة وقصد الزهادة فأمالهم إبليس إليها وهم في صحبتهم على سبعة أقسام: الأول: أخبث الناس وهم ناس يتشبهون بالصوفية ويقولون بالحلول، قال أبو نصر عبد الله بن علي السراج: بلغني أن جماعة من الحلولية زعموا أن الحق اصطفى أجساماً حل فيها معاني الربوبية.
القسم الثاني: قوم يتشبهون بالصوفية في مذهبهم ويقصدون العشق.
القسم الثالث: قوم يُبيحون النظر إلى المستحسن.
وقد صنف أبو عبد الرحمن السلمى كتاباً سماه سنن الصوفية فقال في آخر الكتاب: باب في جوامع رخصهم وذكر فيه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اطلبوا الخير عند حسان الوجوه " وأنه قال: " ثلاث يُجلين البصر: النظر إلى الخضرة، والنظر إلى الماء، والنظر إلى الوجه الحسن " وهذان الحديثان لا أصل لهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الحديث الأول فقال فيه ابن معين: محمد بن عبد الرحمن بن المحب الذي يرويه عن نافع عن ابن عمر ليس بشيء، وقال العقيلى: لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا شيء.
وأما الحديث الثاني: فموضوع وضعه أبو البختري. فحديث وهب بن وهب حدث به عن الرشيد لما أدمن النظر إلى ابنه، ولا يختلف العلماء في أن أبا البختري وضاع كذاب وأحمد بن عمر عبد الزنجاني، ولا يختلف العلماء في أن أبا البختري أحد المجهولين، ثم قال: كان ينبغي للسلمى إذا ذكر النظر إلى المستحسن أن يقيده بالنظر إلى وجه الزوجة أو المملوكة فأما إطلاقه فحينئذ سواء. قال أبو الفرج - رحمه الله - : والفقهاء يقولون: من ثارت شهوته عند النظر إلى " الأمرد " حرم عليه أن ينظر إليه وإن كان من عادة المعلمين ثوران الشهوة عند النظر إلى الصبي فيحرم حينئذ النظر إليه، ومتى ادعى الإنسان أنه لا تثور شهوته عند النظر إلى الأمرد الحسن فهو كاذب.

القسم الرابع: قوم يقولون: نحن لا ننظر نظر شهوة وإنما ننظر نظر اعتبار ولا يضرنا النظر، وهذا محال منهم فإن الطباع تتساوى فمن ادعى تمييزه عن أبناء جنسه في الطبع ادعى المحال كما تقدم.
القسم الخامس: قوم صحبوا المردان ومنعوا أنفسهم من الفواحش يعتقدون ذلك مجاهدة وما علموا أن أن نفس صحبتهم والنظر إليهم بشهوة معصية.
القسم السادس: قوم لم يقصدوا صحبة المردان وإنما يتوب الصبي ويتزهد ويصحبهم على طريق الإرادة فيلبس عليهم إبليس ويقول: لا تمنعوه من الخير، ثم يتكرر نظرهم إليه لا عن قصد فيثير في القلب الفتنة ويتمنى إلى أن ينال الشيطان قدر ما يمكنه، وربما وثقوا بدينهم فاستفزهم الشيطان ورقاهم إلى أقصى المعاصي كما فعل برصيص وغلطهم من جهة تعرضهم للفتن في صحبة من لا يؤمن من الفتنة في صحبته.
استلحاق نقله شيخنا عن عبد الله بن عطاء رحمه الله قال: وعليك أيها المؤمن بغض بصرك في خروجك إلى أن ترجع ولتذكر قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) الآية. ولا تكن لنعمة الله كفورا، وأمانة من الله عنده فلا تكن له خائنا وليذكر قوله تعالى: (ألم يعلم بأن الله يرى). فإذا أردت أن ترى فاعلم أنه يرى وليعلم العبد أنه إذا غض بصره فتح الله بصيرته جزاء وِفاقاً فمن ضيق على نفسه في دائرة الشهادة وسع الله عليه في دائرة الغيب. وقال: ما غض أحد بصره عن محارم الله إلا وأوجد الله نورا ًفي قلبه يجد حلاوة ذلك.
القسم السابع: قوم علموا أن صحبة المرد والنظر إليهم لا تجوز غير أنهم لم يصبروا عن ذلك. قال أبو بكر الرازي رحمه الله: سمعت يوسف بن الحسين يقول: كل ما رأيتموني أفعله فافعلوه إلا صحبة الأحداث فإنها أفتن الفتن؛ ولقد عاهدت ربي أكثر من مائة مرة أن لا أصحب حدثاً.

فصل
في الردّ على طائفة من الناس وكشف فضائحهم
قال ابن الحاج في المدخل: قد ينسب إلى طائفة من الناس صحبة المرد وربما زينوهم بالحلي، ومصبغات الثياب، ويزعمون أنهم يقصدون بذلك الاستدلال بالصنعة على الصانع.
قال الشيخ الأستاذ القشيري قولاً عظيماً في الرد عليهم وكشف فضائحهم قال:من ابتلاه الله بشيء من ذلك فهو عبد أهانه الله، وخذله وكشف عورته، وأبدى سوءته في العاجل، وله عند الله تعالى سوء المنقلب في الآجل. وقال الواسطي، وهو من كبار الصوفية: إذا أراد الله هوان عبد ألقاه إلى هولاء الأنتان الجيف، أو لم يسمعوا إلى قوله تعالى(قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم) وقال عطاء: كل نظرة يهواها القلب لا خير فيها.
فصل
في مكائد الشيطان

قال: ومن مكايده ومصايده ما فتن به عشاق الصور، وتلك لعمري والله " الفتنة الكبرى " والبلية العظمى التي استعبدت النفوس بغير خلاقها، وملكت النفوس لمن يسومها سوم الهوان من عشاقها، وألقت الحرب بين العشق والتوحيد، ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد، فصيرت القلب للهوى أسيراً، وجعلته عليها حاكماً وأميراً، فأوسعت القلوب فتنة، وملأتها محنة، وحالت بينها وبين رشدها، وصرفتها عن طريق قصدها، ونادت عليها في سوق الرقيق فباعتها بأبخس الأثمان، وعاضتها بأخس الحظوظ وأدنى المطالب عن المعالي في غرف الجنان، فضلا عما هو فوق ذلك من القرب من الرحمن، فسكنت إلى ذلك المحبوب الخسيس الدنيء المهابة أضعاف لذاتها، والوصول إليه أكبر أسباب مضرتها بما أوشكته حبيبا يستحيل عدواً عن قريب ويتبرأ منه محبة حتى كأنه لم يكن له بحبيب، وأن يمتنع به في هذه الدار فسوف يجد به أعظم الآلم بعد حين لاسيما إذا صار (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) فيا حسرة المحب الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس، وشهوة عاجلة ذهبت لذتها وبقيت تبعتها، وانقضت منفعتها، وبقيت مضرتها، فذهبت الشهوة وبقيت الشقوة، وزالت المسرة، وبقيت المضرة، فيا حسرتاه لِصَبّ جمع له بين الحسرتين: حسرة فوق المحبوب الأعلى والنعيم المقيم، وحسرة ما يقاسيه من النَّصب في العذاب الأليم فهناك يعلم المخدوع أي بضاعة أضاع، وأن من كان مالك رقة قلبه لم يكن يصلح أن يكون له من جملة الخدم والأتباع فأي مصيبة أعظم من مصيبة ملكٍ نزل عن سرير ملكه، وجعل لمن لا يصلح أن يكون مملوكه أسيراً، وجعل تحت أوامره ونواهيه مقهوراً فلو رأيت قلبه وهو في يد محبوبه لرأيته كعصفورة في يد طفل يسومها غياض الردى والطفل يلهو أو يلعب فهل يليق بالعاقل أن يتبع هذا الملك المطاع لمن يسومه سوء العذاب ويوقع بينه وبين وليه ومولاه الحق الذي لا غنى له عنه،ولا بد له منه أعظم الحجاب، فالمحب لمن أحبه قتيل، وهو له عبد خاضع ذليل، إن دعاه لباه، وإن قيل له ما تتمنى فهو غاية ما يتمناه، ولا يأنس بغيره، ولا يسكن إلى سواه، فحقيق به أن لا يملك رقه إلا الحبيب، وأن لا يبيع نصيبه بأحسن نصيب. ثم قال: فمن المحبة النافعة محبة الزوجة وما ملكت يمين الرجل فإنها معينة على ما شرع له من النكاح وملك اليمين من إعفاف الرجل نفسه وأهله فلا تطمح نفسها إلى غيره، وكلما كانت المحبة بين الزوجين أتم وأقوى كان هذا المقصود أتم وأكمل قال الله تعالى: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) وقال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة).

وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: مَنْ أحب الناس إليك؟ قال: " عائشة " - رضي الله عنها - ولهذا كان مسروق رضي الله عنه إذا حدث عنها يقول: حدثتني الصِّدِّيقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبرأة من فوق سبع سموات. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " حبب إلىّ من دنياكم النساء والطيب وجُعِلت قرة عيني في الصلاة " . فلا عيب على الرجل في محبته لأهله وعشقه لها إلا إذا شغله ذلك عما هو أنفع له من محبة الله ورسوله بحيث يضعها وينقصها فهي مذمومة. واعلم أن المحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله، ومحبة في الله، ومحبة ما يعين على طاعة الله، ومحبة ما يقطع عن محبة الله وينقصها. فمحبة الله أصل المحبات المحمودة وأصل الأيمان والتوحيد. والنوعان الآخران تبع لها، والمحبة مع الله أصل الشرك والمحبات المذمومة. والنوعان الآخران تبع لها، ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك قاله ابن القيم في كلامه على العشق المحرم قال: وعشق هو مقت من الله وبعد من رحمته، وهو أضر شيء على العبد في دينه ودنياه، وهو عشق " المُرْدان " " كما ابتلى الله به من سقط من عينه، وطرد عن بابه وأبعد قلبه عنه وهو من أعظم الحجب القاطعة عن الله تعالى، كما قال بعض السلف: إذا سقط العبد من عين الله ابتلاه بمحبة المردان. وهذه المحبة التي جلبت على قوم لوط ما جلبت ولا أتوا إلا من هذا العشق قال الله تعالى: (إنهم لفي سكرتهم يعمهون). ودواء هذا الداء الردى الاستعانة بمقلب القلوب، وصدق الالتجاء إليه، والاشتغال بذكره، والتعرض لمحبته وقربه، والنظر في الألم الذي يعقب هذا العشق، واللذة التي تغويه فتفوت عليه فوات أعظم محبوب وحصول أعظم مكروه، وإن أقدمت نفسه على هذا أو أثر به فليكبر عليه تكبيرة الجنازة، وليعلم أن البلاء قد أحاط به نعوذ بالله من هذا الداء. وكلما كان أبعد من الإخلاص كانت محبته لعشق الصور أشد وكلما كان أكثر إخلاصاً وأشد توحيداً كان أبعد من عشق الصور ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق لشركها ونجا يوسف الصديق - عليه السلام - بإخلاصه قال الله تعالى: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) فالسوء: العشق، والفحشاء: الزنا، فالمخلص من أخلص حبه لله فخلصه من فتنة عشق الصور، والمشرك متعلق قلبه بغير الله لم يخلص توحيده وحبه لله.

فصل
فيمن يريد التزويج
وإذا أردت التزويج فعليك بالمرأة الصالحة، والعابدة أفضل، واعلم أن النكاح مستحب لمن أحتاج إليه، والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة وإجماع الأمة قال الله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) وقال صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فليصم فإن الصوم له وجاء " أي قاطع للشهوة. وقال صلى الله عليه وسلم: " من تزوج امرأة لمالها أفقره الله تعالى، ومن تزوج امرأة لجمالها جعل الله جمالها وبالا عليه، ومن تزوج امرأة لدينها بورك له وعليه " . وقال صلى الله عليه وسلم: " لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين " . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما الدنيا متاع وليس من متاع الدنيا شيء أفضل من المرأة الصالحة " فإذا عزمت على خطبة المرأة فتخير. وقال صلى الله عليه وسلم: " تخيروا لنطفكم " . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اطلبوا مواضع الأكفاء لنطفكم فإن الولد ربما أشبه أخواله " . وقال صلى الله عليه وسلم: " إياكم وخضراء الدمن " قيل: وما خضراء الدمن؟ يا رسول الله قال: " المرأة الحسناء في المنبت االسوء " . وقد روى عن يحي بن سعيد بن دينار رضي الله عنه عن أبي وجرة يزيد بن عبيد عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك قال أبو عبيدة: أراد فساد النسب إذا خيف أن يكون لغير رشيدة، وإنما جعلها خضراء الدمن تشبيهاً بالشجرة الناضرة في دمنة البعير، وأصل الدمن ما يدمن الإبل والغنم من أبعارها وأبوالها فربما نبت فيها النبات الحسن وأصله من دمنته يقول: فمنظرها حسن أنيق ومنبتها فاسد.

" تنبيه " قال النووي في شرح مسلم: معنى قوله صلى الله عليه وسلم " من استطاع منكم " الجماع لقدرته على مؤنه وهي مؤن النكاح فليتزوج ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه الصوم فيقطع شهوته ويقطع شر مسه كما يقطعه الوجاء، وهذا القول رفع الخطاب مع الشباب الذي هو مظنة شهوة النساء ولا ينفكون عنها غالبا. والقول الثاني: أن المراد هنا بالباءة مؤن النكاح سميت باسم ما يلازمها وتقديره: من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج، ومن لم يستطع فليصم ليدفع الشهوة. والذي حمل القائلين لهذا على أنهم قالوا: قوله صلى الله عليه وسلم: " ومن لم يستطع فعليه بالصوم " والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم لدفع الشهوة فوجب تأويل الباءة على المؤن. وأما الوجاء بكسر الواو والمد وهو رضّ الخصيتين وهو أَمْرُ نَدْبٍ لا إيجاب فلا يلزمه التزويج والتسري سواء الفتنة أم لا. هذا مذهب العلماء كافة ولا نعلم أحداً أوجبه إلا داود ومن وافقه من أهل الظاهرة. ورواية عن أحمد قالوا: وإنما يلزمه في العمر مرة واحدة هذا أخر كلام النووي.

فصل
فيمن يكره في حقه النكاح
قال الحصني في شرح أبي شجاع فيمن هو غير تايق وله حالتان: الأولى: أن لا يجد أهبة النكاح فهذا يكره له النكاح لما فيه من التزام ما لا يقدر على القيام به من غير حاجة، وفي قوله: " يا معشر الشباب " إشارة إلى مثل ذلك.
الحالة الثانية: أن يجد مؤنة النكاح ولكنه غير محتاج إليه إما لعجزه بجبٍّ أو عُنّه أو كان به مرض دائم ونحو ذلك، فهذا أيضاً يكره له، وإن لم يكن به علة وهو واجد الأهبة فهذا لا يكره له النكاح، نعم التخلي للعبادة أفضل فإن لم يكن مشتغلاً بالعبادة فما الأفضل في حقه؟ فيه خلاف الراجح أن النكاح أفضل لئلا تفضي به البطالة والفراغ إلى الفواحش انتهى كلام الشيخ تقى الدين الحصني.
استحباب النظر إلى المخطوبة قبل العقد:
واعلم أن الرجل إذا عزم على نكاح امرأة استحب له أن ينظر إليها قبل العقد. وأما القدر الذي ينظر إليه فمذهب الشافعي وجمهور العلماء ينظر إلى وجهها وكفيها، فإن عجز عن النظر بعث امرأة صالحة تقية تنظر إليها وتصفها له.
فصل
في قوله النبي من رغب عن سنتي فليس مني
في قوله صلى الله عليه وسلم: من رغب عن سنتي فليس مني قال النووي في شرح مسلم: تأويله أن معناه: أن من تركها أعراضاً عنها غير معتقد لها على ما هي عليه. أما من ترك النكاح على الصفة التي يستحب له تركه كما سبق أو ترك النوم على الفراش لعجزه عنه أو لاشتغاله بعبادة مأذون فيها أو نحو ذلك فلا يتناوله هذا الذم والنهي. قال: ومعنى قولهم رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل معناه: " نهاه عنه " وهذا عند أصحابنا محمول على من تاقت نفسه إلى النكاح ووجد مؤنته كما سبق أيضاً وعلى من أضربه العبادات الشاقة أما الإعراض عن الشهوات واللذات من غير إضرار بنفسه ولا تفويت حق لزوجة وغيرها ففضيلة، لا منع منها بل مأمور بها ذكر ذلك النووي في شرح مسلم.
فصل
فيما يحرم على الرجال من النساء
قال الشيخ تقي الدين: والمحرمات بالنص أربع عشرة من جهة النسب واثنتان بالرضاع، وأربع بالمصاهرة، وواحدة من جهة الجمع،والكل يجمعه عموم قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم) إلى قوله: (وأن تجمعوا بين الأختين) الآية. وشرحه في كتاب الفقه لا يحتمل هذا المختصر.
فصل
في ندب من رأى امرأة فوقعت في نفسه
إلى أن يأتي امرأته أو جاريته فيواقعها
المرأة في إقبالها وإدبارها!

قال صلى الله عليه وسلم: " إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأتِ أهله فإن ذلك يردّ ما في نفسه " . وفي الرواية الأخرى: " إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه، فليعمد إلى امرأته فليواقعها فإن ذلك يرد ما في نفسه " . هذه الرواية الثانية: مثبتة للأولى ومعنى الحديث: أنه يستحب لمن رأى امرأة فحركت شهوته، فليأت امرأته أو جاريته إن كانت له فليواقعها ليدفع شهوته، ويسكن نفسه ويجمع قلبه على ما هو بصدده. قوله صلى الله عليه وسلم: " إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان " قال العلماء: المعنى الإشارة إلى الهوى والدعاء إلى الفتنة بجمالها لما جعل الله تعالى في نفوس الرجال من الميل إلى النساء بالالتذاذ بالنظر إليهن وما يتعلق بهن فهي مشبهة بالشيطان في دعائه إلى الشر بوسوسته وتزيينه. ويستنبط من هذا أنه ينبغي للرجل الغض عن رؤيتها والإعراض عنها مطلقاً ذكره النووى أيضاً.

" تنبيه " في النهي عن تخيل صورة الأجنبية عند المواقعة
احذر يا أخي إن وقع لك شيء من ذلك أي نظرت إلى امرأة ثم انقلبت إلى أهلك فيقع لك في حالة الوطء أن تتخيل المرأة التي رأيتها كأن زوجتك هي حتى تشاهدها بقلبك وأنت مجامع لزوجتك كأنك تجامع تلك المرأة التي رأيتها فذلك حرام، وهي من مكايد الشيطان سمعته من شيخنا رحمه الله.
بيان ما يفعل في عقود الأنكحة على خلاف السنة
قال شيخنا: منها المغالاة في صداق المرأة. عن الجعفي قال: خطبنا عمر رضي الله عنه قال: " ألا لا تغالوا في صداق المرأة فإنها لو كانت مكرمة أو تقوى عند الله تعالى كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأةً من نسائه ولا أصدق امرأةً من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية " . وفي حديث عقبة " ونشاً " أي: نصف أوقية. فالأوقية أربعون درهماً. ولا حد لأكثره بشرط أن يكون قادراً على أدائه. وألا يكون زانياً، وأن ينوي قضاءه على ما وردت به السنة في أحاديث. وإنما اختلفوا في أقله ولا يتقدر أقله بشيء كما ورد حين سئل بعض الصحابة رضي الله عنهم عن امرأة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم: ما أصدقها؟ قال: " وزن نواة من ذهب " .
أقل الصداق عند أبي حنيفة ومالك:
وقال: أبو حنيفة ومالك أقله ما يقطع به يد السارق والله اعلم. وقال الحصني في الشرح: فرع يحرم على الزوج مساكنة المعتدة في الدار التي تعتد بها، ومداخلتها لا تؤدي إلى الخلوة، وخلوته بها كخلوة الأجنبية، وكثير من الجهلة لا يرون ذلك حراماً ويقول: هي مطلقتي وهذا يعرف الحال فإن اعتقد حله بعد ما عرف كفر. فإن تاب وإلا ضرب عنقه وكذا حكم العكامين الذين يحجون مع النساء لا يحل لهم الخلوة بهن ولا يقتدي بمن يفعل من المتفقهة فإن ذلك حرام حرام حرام. وأما ما ورد من أحكام النكاح وسننه وآدابه وموانعه وآفاته: فلا يحمله هذا المختصر فإن احتجت فاطلبه في كتب العلماء المبسوطة والله المستعان.
فصل
في مكائد الشيطان وسخريته بالمفتونين بالصور
ومن مكائد الشيطان وسخريته بالمفتونين بالصور أنه يتمنى أحدهم أنما يحب ذلك الأمرد أو تلك المرأة الأجنبية لله لا لفاحشة ويأمره بمؤاخاته وهذا من جنس المخادنة بل هو مخادنة باطلة لذوات الأحداث اللاتي قال الله تعالى فيهن: (محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان). وقال في حق الرجال: (محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان).

فيظهرن للناس أن محبتهم تلك الصور لله، ويظنون اتخاذها خِدْنا يلتذون بها فعلا أو تقبيلا، أو تمتعا بمجرد النظر والمخادنة والمعاشرة، واعتقادهم أن هذا لله وأنه قربة وطاعة فهو من أعظم الغي والضلال وتبديل الدين وذلك من نوع الشرك، والحب المتخذ من دون الله طاغوتاً، فإن اعتقادهم كون المتمتع بالمحبة والنظر والمخادنة وبعض المباشرة لله، وأنه حب فيه كفر، وشرك كاعتقاد محبي الأوثان في أوثانهم. قال الشيخ: فواعجبا والله لخراب هذه القلوب وغفلتها عن علام الغيوب قلوب اشتغلت بحب النساء والمردان، واعرضت عن محبة الرحيم الرحمن، وما ذاك إلا لأنها شحنت بالشهوات وأظلمت من أكل الحرام، والشبهات فصارت لا ترى المنكر قبيحاً ولا المعروف مليحاً، اللهم أصلح فسادها وقوم بناءها وجرها إليك بسلاسل الإقبال، واشغلها بالصالح من الأعمال. " دقيقة " اعلم أن من أحب الأشخاص ومكن محبتها من قلبه صارت صورة ذلك الشخص ثابتة في قلبه يشاهدها بسره قال صلى الله عليه وسلم: " إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة " . فإذا كان هذا في البيوت التي للمخلوقين المصنوعة بأيديهم فما ظنك بقلب العبد المؤمن الذي هو موضع نظر الرب جل وعلا.

القلوب أواني الله في الأرض!
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الرباني: " ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن " . وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن لله في أرضه أواني ألا وهي القلوب " . فاحذر أن يطلع على قلبك فيجد محلاً لسواه فيمقتك على ذلك نعوذ بالله من شاغل يشغل القلوب ويتعب الأبصار.
فصل
في الزنا
قال شيخنا أبو العباس أحمد الزاهد رحمه الله: وأما الزنا فقال الله تعالى: (ولا تقربوا الزنى).وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " . وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان فكان عليه كالظلة فإذا انقطع منها رجع إليه الإيمان " . وروي عنه صلى الله عليه وسلم: " من زنا أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه فإن تاب ورجع رجع إليه " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الزنا يورث الفقر " وفي أثر: " الزاني يموت فقيراً والمولف يموت أعمى " . وروى أبو أمامة: أن غلاماً شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتأذن لي في الزنا فصاح الناس به فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أقروه أقروه قال:ادن مني فدنا منه فقال صلى الله عليه وسلم: أتحبه لأمك؟ فقال: لا جعلني الله فداك. قال: كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. قال صلى الله عليه وسلم: أتحبه لابنتك؟ قال: لا. قال: كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم. حتى ذكر الأخت والعمة والخالة ويقول كذلك الناس لا يحبونه ثم وضع يده على صدره وقال: اللهم طهره واغفر ذنبه وحصن فرجه فلم يكن بعد ذلك شيء أبغض إليه من الزنا " . وفي الحديث: " ما من ذنب بعد الشرك بالله أعظم من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له " .
يا معشر المسلمين إياكم والزنا!
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر المسلمين إياكم والزنا فإن فيه ست خصال ثلاثٌ في الدنيا، وثلاثٌ في الآخرة أما التي في الدنيا:فذهاب البهاء، ودوام الفقر، وقصر العمر، وأما التي في الآخرة: فسخط الله، وسوء الحساب، والخلود في النار إن لم يتب " نعوذ بالله من ذلك.
عفوا تعف نساؤكم!
فعليك يا أخي بالعفاف كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عفوا تعف نساؤكم، وبرو آباءكم تبركم أبناؤكم، ومن أتاه أخاه منتصلا فليقبل ذلك منه محقا كان أو مبطلاً " وقيل:
عفوا تعف نساؤكم في المحرم ... وتجنبوا ما لا يليق بمسلم
إن الزنا دين فإن أقرضته ... كان الوفاء من أهل بيتك فعلم
يا هاتكا حرم الرجال وقاطعاً ... سبل المودة عشت غير مكرم
لو كنت حراً من سلالة آدم ... ما كنت هتاكا لحرمة آدم
كما تدين تدان!

فاحذر ذلك يا أخي فالجزاء من جنس العمل كما تدين تدان، ومن موجباته غضب الرب. ومن مفاسده سواد الوجه وظلمة وكآبة بالمقت الذي يبدو عليه للناظرين، وظلمة القبر، وطمس نوره وملازمة الفقر، وسلبه اسم المؤمن، ويعرض نفسه لسكنى التنور الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم فيه الزنا، ويفارقه الطيب الذي وصف به أهل العفاف، ويستبدل به الخبيث الذي وصف به الزناة. قال الله تعالى: (والطيبات للطيبين) إلى قوله: (الخبيثات للخبيثين) الآية وقد حرم الله الجنة على كل خبيث بل جعلها مأوى الطيبين. قال الله تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون).

وحشة الوجه والقلب من مفاسد الزنا!!
ومن مفاسده: الوحشه على وجهه وفي قلبه، ومن جالسه استوحش منه، والعفيف على وجهه حلاوة وفي قلبه أنس ومن جالسه استأنس به.
مفاسد الزنا!
واعلم أن زنا الرجل يوجب أختلاط الأنساب، وإفساد المرأة المصونة وتعريضها للتلف والفساد، وفي هذه الكبيرة خراب الدنيا والآخرة وكم في الزنا من استحلال محرمات، وفوات حقوق ووقوع مظالم.
الزنا أعظم مفسدة من القتل!
ومن خاصيته أنه يوجب الفقر، ويقصر العمر، ويكسو صاحبه سواد الوجه، ويوجب المقت بين الناس، وليس بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدته ولهذا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها ولو بلغ العبد أن امرأته أو حرمته قتلت كان اسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت.قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: لو رأيت أحداً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أتعجبون من غيرة سعد والله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن " . متفق عليه. وفي الصحيحين أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم الله عليه " . وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: " لا أحد أغير من الله ومن أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه " .
أفحش الزنا وأقبحه!
ومن أفحش الزنا وأقبحه زنا الرجل بزوجة جاره ففي الحديث: " لأن يزني بعشرة نسوة أيسر عليه من يزني بامرأة جاره " .
أعظم المحظورات:
ومن أعظم المحظورات أن يطأ النساء في أدبارهن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ملعون من أتى امرأته في دبرها " . وقال صلى الله عليه وسلم: " تلك اللوطية الصغرى " وقال: " من نكح امرأة في دبرها أو رجلا أو صبيا حشر يوم القيامة وله رائحة أنتن من الجيفة يتأذى به الناس حتى يدخل النار، وأحبط الله أجره، ولا يقبل الله منهم صرفا ولا عدلا، ويدخل في تابوت من النار ويسد عليه بمسامير من النار إن لم يتب " . وقال صلى الله عليه وسلم: " من أتاهن لم يشم رائحة الجنة: العالم الكذاب، والغني البخيل، والشيخ الفاسق، والشاب الزاني، والزاهد الجاهل " . ومن أقبح الزنا بالأجنبية التي لها بعل، وبذوات المحارم، وزنا الثيب أقبح من زنا البكر، وزنا الشيخ أقبح من زنا الشاب، وزنا الحر أقبح من زنا العبد، وزنا العالم أقبح من زنا الجاهل، وزنا الصالح أقبح من زنا الظالم. ومن أعظم المبلغة والتشديد في الزنا حيث جعل الشرك معطوفاً على الزنا وأمر الله تعالى في الآية: يجلد الزاني والزانية مائة جلدة لكل واحد منهما إذا كانا بكرين غير محصنين وجاءت السنة بزيادة على ذلك وهو تغريب عام. وأما الثيب بالثيب ففي الحديث:البكر بالبكر جلده مائة وتغريب عام والثيب جلده مائه والرجم بالحجارة " أي حتى يموت فإذا تزوج صار محصناً ولو كانت امرأته ماتت أو طلقها. فهذا حال الزنا بالنساء.
فصل
في مفسدة اللواط وعقوبته

ولما كان اللواط أكثر أثماً وأقبح فحشاً وكانت مفسدته من أعظم المفاسد كانت عقوبته في الدنيا والآخرة من أقبح العقوبات وهو أعظم عند الله من الزنا بالنساء وهو الزنا بالذُّكران، فهذا أقبح القبيح، وأفحش الفحشاء، وقد أخبر الله تعالى في القرآن عن قصة قوم لوط، وعظم مصيبتهم كما قال تعالى: (أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين. إِنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساْ) الآية. قال ابن القيم رحمه الله: لم يبتل الله سبحانه وتعالى بهذه الكبيرة قبل قوم لوط أحداً من العالمين وعاقبهم عقوبة لم يعاقب بها أمة غيرهم، وجمع عليهم أنواعاً من العقوبات من الإهلاك، وقلب ديارهم عليهم، والخسف، ورجمهم بالحجارة من السماء، فنكل بهم نكالا لم ينكله بأمة سواهم؛ وذلك لعظم مفسدة هذه الجريمة التي تكاد الأرض أن تميد بهم من جوانبها إذا عملت عليها، وتهرب الملائكة إلى أقطار السموات والأرض إذا شاهدوها خشية نزول العذاب على أهلها، فتصيبهم معهم وتعج الأرض إلى ربها تبارك وتعالى، وتكاد الجبال أن تزول عن أماكنها.
وقيل: إن المفعول به القتل خيرٌ له من وطئه؛ فإنه إذا وطه الرجل قتله قتلاً لا ترجى الحياة معه؛ بخلاف قتله، فإنه مظلوم شهيد، وإنما ينتفع به في آخرته. قالوا والدليل على هذا: أن الله سبحانه وتعالى جعل حد القاتل إلى خيرة الولي، إن شاء قتل وإن شاء عفا، وحتم قتل اللوطي حداً كما أجمع عليه الصحابة - رضي الله عنهم - ، ودلت علية سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة الي لا معارض لها؛ بل عليها عمل أصحابه وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم.
وقال ابن القيم أيضاً رحمه الله: على كل عاقل أن لا يسلك سبيلاً حتى يعلم سلامتها وآفاتها وما توصله إليه تلك الطريق من سلامة أو عطب، وهذان السبيلان هلاك الأولين والآخرين بهما، وفيهما من المعاطب والمهالك ما فيهما ويفضيان بصاحبهما إلى أقبح الغايات وشر موارد المهلكات؛ ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى سبيل الزنا ساء سبيلاً. فقال تعالى: (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا) إذا كانت هذه سبيل الزنا فكيف سبيل اللواط التي تعدل الفعلة منه في الإثم والعقوبة أضعافها واضعاف أضعافها من الزنا.

سبيل الزنا أسوأ سبيل
فأما سبيل الزنا فأسوأ سبيل، ومقيل أهلها في الجحيم شر مقيل، ومستقر أرواحهم في البرزخ في تنور من نار يأتيهم لهبها من تحتهم، فإذا أتاهم اللهب عجوا وارتفعوا ثم يعودون إلى مواضعهم فهم هكذا إلى يوم القيامة كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه، ورؤيا الأنبياء حق لاشك فيها فقال في أمر التنور: فإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم أتاهم ذلك اللهب ضوضئوا قال صلى الله عليه وسلم: " ثم قلت: من هؤلاء؟ " فقالوا: أما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني، فالزنا أعظم من شرب الخمر. قال الإمام الأجل أحمد حنبل رحمه الله: ليس بعد قتل النفس شىءٍ أعظم من الزنا.والزنا يجمع خلال الشرك كُلُّها من قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة، فلا تجد زانياً معه ورع ولا وفاء بعهد ولا صدق في حديث ولا محافظة على صديق ولا غيرة تامة على أهله، فالغدر والكذب والخيانة وقلة الحياء، وعدم الأنفة للحريم، وذهاب الغيرة من القلب من شعبه.
ظهور الزنا من أمارات الساعة وخراب العالم:
واعلم أن ظهور الزنا من أمارات خراب العالم وهو من أشراط الساعة كما في الصحيحن عن أنس بن مالك رضى الله عنه أنه قال: " ألا أحدثكم حديثا لا يحدثكم أحد بعدي سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل، ويفشوا الزنا ويقل الرجال ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد " وقد وقعت سُنّةُ الله سبحانه وتعالى في خلقه أنه عند ظهور الزنا يغضب الله سبحانه وتعالى أشد غضبه وتعالى أشد غضبه فلابد أن يؤثر غضبه في الأرض عقوبة. قال عبد الله مسعود رضى الله عنه: فما ظهر الزنا في قرية إلا أذن الله بهلاكها. ورأى بعض أحبار بني إسرئيل ابناً له يغامر امرأة فقال: مهلاً يا بني، فصرع الأب عن سريره فانقطع نخاعه وأسقطت امرأته وقيل له هكذا غضبت لى.
فصل
في بيان تحذير سماع الغناء والقصائد
وغير ذلك من الأمرد والمرأة
وأما سماع الغناء من المرأة الأجنبية والأمرد فمن أعظم المحرمات وأشدها فساداً في الدين. قال الشافعي رحمه الله: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته وغلظ القول فيه ثم قال: هو دياثة فمن فعل ذلك كان ديوثاً. قال القاضي أبو الطيب: وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيهاً. واعلم أن سماع الغناء من المرأة الأجنبية والأمرد يهيج الباه. وسئل بعضهم عن السبب الذي يهيج قال: عناء من خلقٍ سيىء، وحديث من وجه جميل. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن الغناء فقال: الغناء ينبت النفاق في القلب؛ ثم ذكر قول مالك: إنما يفعله عندنا الفساق. واختار بعض العلماء أنه لا يسمع الإنسان من الأمرد قراءة القرآن، وقد كان السلف الصالح رحمهم الله إذا مر أحدهم بغلام أمرد حسن الوجه يفر منه كفراره من الأسد خوفاً على نفسه من الفتنة فلا تتعرض أيها العاقل لهذه المحنة. سألت جارية بشر الحافي عن باب حرب فأجابها، ثم جاء بعدها بغلام حسن الوجه فسأله فأطرق بشر، فردد الغلام السؤال فغمض الشيخ عينيه، فقال الفقراء للغلام: الباب بين يديك فلما غاب الشاب فتح الشيخ عينيه فقال الفقراء للشيخ يا أبا نصر جاءتك جارية فكلمتها وأجبتها وجاءك غلام فلم تكلمه؟ فقال: روى عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال: إذا أقبلت المرأة أقبل معها شيطان وإذا أقبل الأمرد أقبل معه شيطانان فخفت على نفسي من شيطانيه. وقال الجنيد رحمه الله: دخل رجل على الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - وكان الداخل من رؤساء الناس ومعه ابنه وهو حسن الوجه والمنظر فقال له أحمد - رحمه الله - : لا تأتِ به معك مرة أخرى. قال: وقال أسامة رحمه الله: كنا نقرأ على شيخ فبقى عنده غلام يقرأ عليه فأردت القيام فأخذ بيدي وقال: اصبر حتى يقرأ هذا الغلام فكره أن يخلو به. وكان أبو حنيفة رحمه الله يجلس محمد بن الحسن خلفه ثم يعلمه خوفاً من الفتنة واباعاً للسنة فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أقان أمرد منبين يديه فأجلسه خلفه.
عدم خروج الصبيان إلى أماكن الفساد من السنة
ومن السنة أن لا يمكن الرجل ولده إذا كان صبيا من التبرج والخروج إلى الأمكنة التي يخاف منها الفتنة خوفا من الفساد واشتغال قلوب العباد، ولا يمكن من الاختلاط بالرجال، ولا يدفع مع الفسقة إلى الحمام، ولا يجالس أهل العربدة والعوام، هذا كلام شيخنا رحمه الله.
حكم الاستمناء باليد:
" مسألة " الاستمناء باليد كبيرة ويجيء يوم القيامة ويده حبلى فأتق الله يا أخي عافانا الله وإياك. " مسألة " الصلج حرام فإذا استمنى شخص بيده عزر؛ لأنها مباشرة محرمة بغير إيلاج، وتفضي إلى قطع النسل فحرم كمباشرة الأجنبية فيما دون الفرج وقد جاء " ملعون من نكح يده " .
الاستمناء باليد يبطل الصوم
" مسألة " وإن استمنى فأنزل إن كان صائماً بطل صومه لأنه إنزال عن مباشرة، وهي كالإنزال عن الفعل، ولأن الاستمناء كالمباشرة فيما دون الفرج، من الأجنبية في الإثم والتعزير، وكذلك في الإفطار ومن استمنى فعليه القضاء. وقال الشيخ شهاب الدين بن الصلاح فيما أفتى به: إن الاستمناء باليد حرام، وبقطعة لحم أشد وأقبح، واستمناء المرأة بإدخال شيء في فرجها حرام، وذلك كله معصية توجب التعزير على فاعلها. نعم إذا استمنى الرجل بيد زوجته أو جاريته حلال لأنه من جملة الاستمتاع المأذون فيه وله الاستمتاع والإيلاج في جميع معاطف بدنها إلا حلقة الدبر، وإلا ما بين السرة والركبة في أيام الحيض خاصة. وأما الصبي الذي يدخل في دبره شيئا فيجب على وليه المبادرة إلى منعه بالضرب، وغيره، ويحرم عليه إهمال ذلك والسكوت عليه ويأثم الولي بإغضائه وسكوته عنه انتهى.
" مسألة " قال ابن القيم وأما وطء البهيمة فللفقهاء فيه ثلاثة أقوال:

إحداها: أنه يؤدب ولا حد عليه، وهذا قول مالك وأبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وقول إسحاق. والقول الثاني: حكمه حكم الزاني، يجلد أن كان بكراً، ويرجم إن كان محصناً. وهذا قول الحسن. والقول الثالث: أن حكمه حكم اللوطى نص عليه الإمام أحمد رضي الله عنه، فيخرج عن الروايتين في حده، هل هو القتل حتماً أو كزانٍ! والذين قالوا: " حده حد القتل " احتجوا بما رواه ابن داود من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه " . قالوا ولأنه وطء لا يباح بحال، فكان فيه القتل حداً للوطء، ومن لم ير عليه الحد قالوا: لم يصح فيه الحديث، ولو صح لقلنا به، ولم يحل لنا مخالفته. قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألت الإمام أحمد بن حنبل عن الذي يأتي البهيمة؟ فوقف عندها، ولم يثبت حديث عمرو بن أبي عمرو في ذلك. وقال الطحاوي الحديث ضعيف. وأيضاً فهو من رواية ابن عباس رضي الله عنهما. وقد أفتى بأنه لا حد عليه. قال أبو داود: وهذا يضعف الحديث. ولا ريب أن الزاجر الطبيعي عن إتيان البهيمة أقوى من الزاجر الطبيعي عن التلوط، وليس الأمران كما تقدم في طباع الناس سواء؛ فإلحاق أحدهما بالآخر من أفسد القياس.

فصل
في آفات الأمرد
قال سيدي عبد العزيز الديريني رحمة الله عليه في مختصر رسالة القشيري له: ومن أكبر الآفات للأمرد أن يعلق قلبه بمحبة مخلوق فإن ذلك من اكبر الشواغل، ويستعان على السلامة من ذلك بقلة مخالطة الناس، لاسيما ممن تميل النفوس إليهم لحسنٍ أو إحسان. قال سيدي فتح الموصلي: صحبت ثلاثين شيخاً - رحمة الله عليهم - كانوا يعدون من الأبدال وكلهم أوصوني عند فراقي لهم وقالوا: اتق معاشرة الأحداث. والتحقيق في هذه المسألة أنه من يغلب على ظنه أنه إذا صحب الأحداث مال إليهم بشهوة محرمة فإنه يحرم عليه صحبتهم، فإن صحبهم لمحرم فهي كبيرة، وإن صحبهم وعنده ميل إليهم وهو يزجر نفسه، فهو رجل مخلط جمع بين حسنات وسيئات. والمؤمن تسره الحسنة ويراها منه الله تعالى وتسوءه المعصية ويستغفر الله منها. وأما من يحب الشباب ويشاهد حسنهم، ويرى ذلك يزيد في بسطه مع الله، ومشاهدة جمال الله، فإن هذا هو الذي عدوه شركاً وكفراً، ومن سلم من الفتنة من محبة الشباب فتعلق قلبه بهم والأنس إليهم شاغل القلب، فلهذا كانوا ينهون عن صحبة الشباب. وأما من سلم من تعلق القلب بهم وصحبهم لله تعالى وأرشدهم وعلمهم وأدبهم فله الأجر العظيم، وهذا لا تخفى مصلحته ولم تزل الأصاغر ينتفعون بصحبة الأكابر في كل عصر من الأعصار وهذه المسألة يعرف الإنسان فيها حاله وينصف من نفسه ويستغنى عن فتوى غيره. انتهى كلام الشيخ عبد العزيز رحمه الله. قال سيدي فتح الموصلي: صحبت ثلاثين شيخاً كلهم كان يوصيني عند مفارقتي له بترك عشرة الأحداث وقلة الأكل.

وقال شيخنا شهاب الدين أبو العباس أحمد الزاهد رحمه الله في الكلام على الكبائر قال: ومن الكبائر اللواط وهو من أكبر الكبائر إلا الشرك بالله نعوذ بالله منه - ولم يجمع الله سبحانه وتعالى على أمة من الأمم من أنواع العقوبة ما جمع على اللوطية فإنه - سبحانة وتعالى - طمس أبصارهم، وسود وجوههم، وأمر عبده جبريل - عليه السلام - فقلع قراهم من أصلها، ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها، ثم خسف بهم، ثم أمطر عليهم حجارة من السماء، وهذه العقوبات لم يجمعها على غيرهم لشدة مفسدة هذا الذنب العظيم وفحشه وقبحه وشدة غضبه على أهله ومقته لهم وقد أجمع الصحابة - رضي الله عنهم - على قتل فاعله وإن تنوعت آراؤهم في قتله فحرقه خالد بن الوليد رضي الله عنه بأمر أبي بكر رضي الله عنه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ينظر أعلى بناء في القرية فيلقى منه ثم يتبع بالحجارة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لعن الله من عمل عمل قوم لوط " مرتين وأسناده حسن. وقال: " من وجدتموه يفعل فعل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " وفي لفظ: " ارجموا الأعلى والأسفل " رواه الإمام أحمد - رحمه الله - وعمل به وأسناده حسن. وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أكبر وأشد ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط " . وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا كثرت اللوطية رفع الله - عز وجل - يده عن الخلق فلا يبالي في أي وادٍ هلكوا " . وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الممسوخات فقال: " ثلاثة عشر نفرا فعدها قيل: ما كان سبب مسخها فذكر الأسباب التي مسخت لأجلها فمنها سبب مسخ الفيل أنه كان جباراً لوطياً " . وعن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: " اقتلوا الفاعل والمفعول به والذي يأتي البهيمة والذي يأتي ذوات المحارم " . وعن جابر عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أشد ما أخاف على أمتي من بعدي عمل قوم لوط فلتراقب أمتي العذاب إذا تكافأ الرجال بالرجال والنساء بالنساء " . والرجل هو عبد الله بن أنس رضي الله عنهما. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من غير تخوم الأرض، كمه أعمى عن السبيل، ولعن الله من سب والديه، ولعن الله من عمل عمل قوم لوط " وفي لفظ: " ولعن الله من عمل عمل قوم لوط ثلاثاً " . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لعن الله سبعة من خلقه من فوق سبع سموات فردَّ اللعنة على واحدٍ منهم ثلاث مرات، ولعن كل واحد منهم لعنة تكفيه قال: ملعون من عمل عمل قوم لوط،ملعون من عمل عمل قوم لوط،عمل عمل قوم لوط،ملعون من أتى شيئا من البهائم، ملعون من ذبح لغير الله، ملعون من عق والديه، ملعون منغير حدود الأرض، ملعون من تولى غير مواليه وأتى على فاعل ومفعول به فقال: اقتلوهما كما قتلهم الله به فقتلوهم بالحجارة " . ورجم أبو الدرداء رضي الله عنه لوطياً. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يرجم وإن كان بكراً. وقال علي بن أبي طالب: يرجم أحصن أم لم يحصن. وكتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر رضي الله عنهما في ذلك فاستشار الصحابة رضي الله عنهم وقال أشد فيهم قولا علي - رضي الله عنه - فقال: أرى أن يحرق بالنار.قال: فأجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك فكتب أبو بكر إلى خالد أن يحرقه بالنار ثم حرقهم ابن الزبير ثم خالد القشيري. وقال مجاهد رضى الله عنه: لو أن الذي عمل عمل قوم لوط اغتسل بكل قطرة من الأرض وبكل قطرة من السماء لم يزل نجساً. وعن أبي هريرة رضى الله عنه يرفعه: " لو أن اللوطي اغتسل بكل قطرة أنزلها الله من السماء لم يطهره ذلك أبداً " . رواه أبو عمر الطرطوسي - رحمه الله - في كتاب تحريم اللواط. وعن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مات من أمتي يعمل عمل قوم لوط نقله الله إليهم حتى يحشر إليهم " . قال ابن القيم: وهذا المعنى صحيح وإن لم يصح هذا الحديث. قال الله تعالى: (احشروا الذين ظلموا وأزواجَهم ما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم) قال عمر بن الخطاب: رضى الله عنه: أزواجَهم أشباهَم ونظراءهم. وقال الله تعالى:(وإذا النفوس زُوّجت) وقال النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب رضى

اللهه عنه: الرجلان يعملان العمل لواحد يدخلان به الجنة أو يدخلان به النار.وفي رواية عنه: يقرن الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة والرجل السوء مع الرجل السوء في النار. وقد أخبرني رجل ثقة يسمى عبد الله عن الأخ الصالح سيدي علاء الدين القطبي رحمه الله وكان له صحبة شيخنا شهاب الدين الزاهد - رحمه الله عليه - أنه كُشِفَ له شَاهِد فرأه رجلاَ ميتاَ مكفناَ وعلى رأسه وكان الشيخ علاء الدين إذْ ذاك واقفا حول البركة. نسأل الله العافية.وقد ورد أن اللوطي إذا مات ولم يتب حمل وألقى في بركة قوم لوط لا يشرب منها طير، ولا وحش، ولا إنسان، ولا ينبت فيها شىء من النبات.ويحكى أنهم سمعوا كل وقت بالليل حية تَفحّ في البركة ساعة بعد ساعة. فقيل إنه من مات على عمل قوم لوط حملته الملائكة فترميه فيها.فاحذر يا أخي، عافانا الله وإياك من ذلك بمنّه وكرمه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مات وهو يعمل عمل قوم لوط لم يلبث في قبره إلا ساعة واحدة حتى يبعث الله ملكاً كهيئة الخطاف فيخطفه من خلفه، ويطرحه في بلاد قوم لوط فيغرسه في النار، نعوذ بالله من ذلك.نه: الرجلان يعملان العمل لواحد يدخلان به الجنة أو يدخلان به النار.وفي رواية عنه: يقرن الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة والرجل السوء مع الرجل السوء في النار. وقد أخبرني رجل ثقة يسمى عبد الله عن الأخ الصالح سيدي علاء الدين القطبي رحمه الله وكان له صحبة شيخنا شهاب الدين الزاهد - رحمه الله عليه - أنه كُشِفَ له شَاهِد فرأه رجلاَ ميتاَ مكفناَ وعلى رأسه وكان الشيخ علاء الدين إذْ ذاك واقفا حول البركة. نسأل الله العافية.وقد ورد أن اللوطي إذا مات ولم يتب حمل وألقى في بركة قوم لوط لا يشرب منها طير، ولا وحش، ولا إنسان، ولا ينبت فيها شىء من النبات.ويحكى أنهم سمعوا كل وقت بالليل حية تَفحّ في البركة ساعة بعد ساعة. فقيل إنه من مات على عمل قوم لوط حملته الملائكة فترميه فيها.فاحذر يا أخي، عافانا الله وإياك من ذلك بمنّه وكرمه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مات وهو يعمل عمل قوم لوط لم يلبث في قبره إلا ساعة واحدة حتى يبعث الله ملكاً كهيئة الخطاف فيخطفه من خلفه، ويطرحه في بلاد قوم لوط فيغرسه في النار، نعوذ بالله من ذلك.

فصل
فيمن يراود غلاماً أو يأتيه
أباح عبد الله بن المبارك للغلام إذا أريدت منه الفاحشة ولا يخلصه إلا القتل أن يقتل من يراوده. قال ابن القيم - رحمه الله: وهذا هو الذي تقتضيه السنة لأنه إذا جاز له المقاتلة دون درهم من ماله، وقتل من كابده عن نفسه أولى وإن أفضى إلى قتله.قال ابن القيم - رحمه الله: وهذا يطّرد على أصول الإمام أحمد - رحمه الله - وغيره من الأئمة. وقال يزيد بن هارون - رحمه الله - وقد سئل عن اللوطيين فقال: الذي يأتي الغلام بين فخذيه هو اللوطي عليه الحد. والذي يأتيه في دبره فهو كافر. وقال مجاهد: قال أبو هريرة - رضى الله عنه - : من أتى صبياً فقد كفر - وفي رواية أخرى عنه: من أتى الرجال أو النساء في أدبارهن فقد كفر. وعن أبي ذر - رضى الله - : من أتى الرجال أو النساء في أدبارهن فقد كفر.

قال ابن جريج عن عطاء ينفى اللوطي من مِصْرٍ إلى مِصْر. قيل لأبى عاصم: كيف ينفى من مصر إلى مصر؟ فقال: ينادي عليه المنادى ألا إن دم فلان هدر. وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خمسة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يسأل عن شيء من أمرهم: رجلُ أتى رجلاً، وامرأة أتت امرأة، ورجل أتى بفراش أبيه، ورجل أتى ذات محرم، ورجل أتى بهيمة " . وقال: كتب عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ينظر الله إلى رجل أتى رجل أو أمرأة في دبرها " وعنه أيضاً " من خرج من الدنيا على حال خرج قبره على تلك الحال، حتى أن اللوطي يعلق ذكره في دبر صاحبه حتى يفتضحا على رءوس الخلائق " . وقال ابن أبي ذؤيب: عن عروة بن الزبير:هلاك أهل المدينة بعمل قوم لوط. وقال بعض السلف رحمه الله: إذا ركب الذكر على الذكر عجّت الأرض إلى ربها واستأذنت أن تخسف بهما، وهرب إبليس مخافة أن يصيبه العذاب. وقال صلى الله عليه وسلم: " من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها أو كاهناً فصدق فقد كفر " قال: " وقد بريء مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم " رواه أبو داود والترمذى.

فصل
فيما يحرم من الغناء وما يكره وما يباح
قال الشيخ كمال الدين الدميري: حكى عن أبى الفرج البزار: يحرم سماع كثير الغناء دون قليله، وفي وجه: يحرم مطلقاً وبه جزم الرافعي في البيع، والغصب، فقال: إنه معصية. وحكى القاضي أبو الطيب تحريمه. وقال الشافعي: إذا صار الإِنسان منسوباً إلى الغناء ويسمى به فيقال فلان مُغَنٍّ يأخذ على غنائه أجراً، ويدعونه إلى دورهم فهو سفيه مردود الشهادة؛ لأنه تعرض لأخبث الاكتساب ونسب إلى أقبح الأسباب.
حكم السماع:

" فائدة " سئل القاضي حسين عن السماع فقال: من تعوده من الفقهاء أو غيرهم في كل أسبوع أو في كل شهر مراراً فسق وردت شهادته.وقسمه الغزالي: إلى مندوب، ومباح،ومحرم،فمن غلب عليه عشق مباح في زوجته أو أمته كان له مباحاً، ومن غلب عليه الهوى المحرم كان في حقه حراما. وأفتى ابن الصلاح: بتحريم السماع الذي اجتمع فيه الدف والشبابة. وقال الشيخ: السماع على الصور المعمودة منكر وضلالة لم يرد به نبي من الأنبياء، ولا أتى في كتاب منزل، فهو من شمائل أفعال الجهال والشياطين، ومن زعم أن ذلك قربة فقد كذب، وافترى على الله، ومن قال: أنه يزيد في الذوق فهو جاهل أو شيطان. وقال: من نسب السماع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدب أدباً شديداً، ويعزر تعزيراً بليغاً، ويدخل في زمرة الكذابين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتبوأ مقعده من النار، وليس طريقة أولياء الله وحزبه وأتباع رسوله بأهل اللهو واللعب والباطل ويسوغ الإنكار على هذا باللسان والقلب واليد. ومن قال من العلماء بإباحة السماع فذلك حيث لا يجتمع فيه دف ولا شبابة ولا رجال ولا نساء، ولا من يحرم النظر إليه، ولا كلام فاحش، والصغيرة إذا أصر عليها صارت كبيرة، والاحتجاج بالذين لعبوا في المسجد بالمحراب، وبحديث بنى النجار صحيح في النوع المنهي عنه ووافق الشيخ على ذلك علماء عصره من المذاهب الأربعة. وأما ما يكره من الغناء قال: ويكره الغناء بلا آلة وسماعه لقوله:(ومن الناس من يشتري لهو الحديث) قال ابن مسعود: هو والله الغناء. رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد. وحيث قلنا يكره الإنشاد والسماع فذلك إذا كان من زوجته أو أمته لا من أجنبية. أما المباح قال الشيخ كمال الدين الدميرى: ويباح الحداء وسماعه لما روى النسائي فيعمل اليوم والليلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن رواحة: حرك بالقوم فاندفع يرتجز وكان يحدو بالرجال. روى البهيقى والبزار أن ابن مالك كان يحدو بهم أيضاً. وروى الشيخان: عن أنجشة العبد الأسود أنه حدا بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أنجشة رفقاً بالقوارير " وشبههن بالقوارير من الزجاج لأنه يسرع إليها الكسر وإذا كسرت لا تنجبر وذلك أن الإبل إذا سمعت الحداء أسرعت في المشي واشتدت وأزعجت الراكب وأتعبته فنهاه عن ذلك لأن النساء يضعفن من شدة الحركة.والحُداء بضم الحاء وبالمد كما ضبطه فيقال له الحدو أيضاً وهو تحسين الصوت الشجّي بالزجر المباح وغيره ليخفف الكلام، ويحدث نشاطا في النفس فلم يكن له في الكراهة وجه سواء فيه الحادي والمستمع والله أعلم. وقال الغزالي: والترنّم بكلمات موزونة تعتاد في مواضع: منها الحجيج فإنهم يدورون في البلاد بالطبل والشاهين والغناء وذلك مباح؛ لأنها أشعار نظمت في وصف الكعبة والمقام والحطيم وزمزم وسائر المشاعر ووصف البادية وغيرها وتأثيرها يهيج إليه الشوق إلى حج بيت الله الحرام فإن أضيف إليه الطبل والشاهين زاد التأثير وذلك جائز ما لم يدخل في ذلك المزامير والأوتار التي هي من شعائر الأشرار. ومن المباح أيضاً ما يعتاده الغزاة لتحريض الناس على الغزو وذلك أيضاً مباح كالحجاج. ومن ذلك أيضاً الرجزيات التي سمعها الشيخان في وقت اللقاء والغرض منها التشجيع للنفس والأنصار، وتحريك النفس فيه للقتال والتمدح بالشجاعة والنجدة. وينبغي أن يمنع الضرب بالشاهين في معسكر الغزاة، فإن صوته مرقق يحلل عقدة الشجاعة، ويضعف صرامة النفس، ويشوق إلى الأهل والوطن، ويورث الفتور في القتال، وكذا سائر الأصوات المرققة للقلب. ومن ذلك ما يقال أيام العرس، ومن ذلك سماع العشاق تحركاً للشوق إلى الله تعالى لمن أحب الله وأحب لقاءه، ما لم يكن في جميع ما ذكر ذكر الخدود، والقدود، والنهود، والخصر، والردف، والأعطاف، وسعدى ولبنى وليلى فلا يجوز إطلاق ذلك على الله جل وعلا، ولا يجوز أن يشار به إلى عشق المخلوقين فيصفوهم بذلك بسبب العشق المحرم بسبب الأهوية الغالبة نعوذ بالله. وأما ما يطلق من ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم ونعته وشكله وحسن شمائله وأخلاقه فذلك مطلوب مرغب فبه لتشتاق أمته إليه وتصيح بالصلاة عليه. قال بعض العلماء: وأما ما كان من ذكر الخدود والقدود فلا يجوز إطلاقه والله أعلم.

فصل
في ذكر الشبه التي تعلق بها من أجاز سماع الغناء
احتج بعضهم بإباحة الغناء بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي أبو بكر رضي الله عنه وعندي جاريتان من جواري الأنصار يغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث فقال: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا " . الجواب أن الجاريتين كانتا مكلفتين تغنيان بغناء الأعراب الذي قيل في يوم بعاث من الشجاعة والحرب. وحين قال أبو بكر ذلك اعتذر إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: إنها أيام عيد ولم ينكر على أبي بكر مقالته. قال بعض العارفين: أكثر ما يثبت الغناء عشق الصور، وصاحب الغناء بين أمرين إما أن يهتتك فيصير فاجراً، أو يظهر النسك فيكون منافقاً فإنه يظهر الرغبة في الله والدار الآخرة وقلبه يغلي بالشهوات ومحبة ما يكره الله ورسوله من أصوات المعازف وآلات اللهو. قال الضحاك رضي الله عنه: " الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب " . وقال ابن مسعود والحسن والنخعي ومجاهد في قوله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم) الآية، وهو الغناء. زاد ابن مسعود والاستماع إليه. وقال مجاهد في قوله تعالى: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) بالغناء والمزامير. وروى أبو إسحاق بن شعبان في كتابه الزاهي بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ولا تجارةٌ فيهن " وزاد " ولا تعلموهن " . وفيهن نزلت(ومن الناس من يشتري لهو الحديث). وزاد غيره: " والذي بعثتي بالحق ما رفع رجل عقيرته أي: صوته فغنى إلا بعث الله تعالى عند ذلك شيطانين يدقدقان على منكبيه لا يزالان يضربان على صدره حتى يكون هو الذي يسكت " .
فصل
في المعازف وبيان شكلها
قال النووي: ويحرم استعمال آلة من شعار الشربة لأنها آلة الشرب وتدعو إليه وفيه تشبه بأهله وهو حرام، وكذلك لو تشبه جماعة بزي شُراب الخمر فرتبوا مجلساً وأحضروا آلة الشرب وأقداحه وصبوا فيه السكنجبين، ونصبوا ساقياً يدور عليهم، ويجيب بعضهم بعضاً بكلماتهم المعتادة بينهم حرام ذلك قال: كطنبور وعود وصنج ومزمار عراقي وسماعها قوله صلى الله عليه وسلم: " ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير والمعازف " رواه البخاري عن شيخه هشام بن عمار. كما قال في الإحياء: إنها تدعو إلى شرب الخمر والتشبيه بأهل المعاصي حرام ومن المعازف: الرباب والجنك والكمنجة فيحرم الضرب بها وهو الاستعمال الذي عناه المصنف وأول من ضرب بالعود لامك بن المتوشلخ قالوا: وهو مركب من حركات نفسانية تُذهب الغم، وتقوى الهمة وتزيد في النشاط وهذا لا وجه له؛ لأنه أكثر الملاهي طربا وأشغلها عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وأشرت إلى ذلك في المنظومة بقولي:
ونغماتُ العود للِمحْزَان ... قالوا:تزيل أثر الأحزان
فاجزم على التحريم أي جزم ... والحزم أن لا تتبعَ ابن حزم
فقد أبيحت عنده الأوتار ... والعود والطنبور والمزمار
والطنبور معروف والصنج قال الجوهري: هو صفر يضرب بعضها على بعض مختص بالعرب، وذو الأوتار بالعجم.

وقال الشيخ شرف الدين البارزي مراد الرافعي به ذو الأوتار وهذا أعجب منه فقد قال الرافعي بعد ذلك: إن الضرب بالصفاقتين حرام ذكره الشيخ أبو محمد وغيره وتوقف الإمام. وهذا هو الصَّنْج العربي وعبر عن الصَّنْج في المذهب بالصِّلِّيل بكسر الصاد وتشديد اللام المكسورة. وأما المزمار العراقي: فهو الذي يضرب به مع الأوتار وهو بكسر الميم. وهو الذي صححه البغوي وأبن أبي عصرون وقال في الروضة: إنه الأصح وهي هذه الزمارة التي يقال لها: الشَّبابة. وقال ابن الصلاح: الخلاف في الدُّف الذي بالجلاجل ويباح في العرس والوليمة لحديث: " أعلنوا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدف " . والمتَّجَه أن يكون العقد في المسجد، وضرب الدف في غيره. ويباح في الختان لما روى ابن أبي شيبة عن عمر رضى الله عنه أنه كان إذا استمع إلى صوت الدُّف بحث، فإن كان في النكاح والختان سكت، وإن كان في غيرهما عمل بالدرة. وقد يراد بالجلاجل الحلق وغيرهما مما يعمل في المزاهر التي جرت العادة بالضرب بها. ومن المعازف " الكوبة " ويحرم ضرب " الكوبة " وهو طبل ضيق الوسط واسع طرفاه لما روى أبو أمامة وصححه ابن حِبان عن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله حرم الخمر والميسر والكُوبة " بضَمّ الكاف وسكون الواو.ومن الآلات: الصياصي وهو أربع خشبات طولهن فِتْر فما دونه يضعهن في أيديهن في كل يد ثنتان يطقطقون بعضهم في بعض. والنفير: بوق من صُفْر فيه يسمع له صوت. والقضيب: هو عيدان تتخذ من خشب الأبنوس طول كل واحد منهما ذراعان ونصف يضرب واحد بالآخر فيسمع لهما صوت. ومن الآلات القبز: وهو على هيئة العود والششتة إلا أن بطنه صغير جداً وعنقه طويل. ومن الآلات الشنطير يتخذ من خشب أيضاً مربع إلا أن أحد جهاته تطول عن باقيها أوتاره من صفر وهذه الآلات يحرم استعمالها وسماعها. وأما القينة: فالمراد بها الجارية التي تغني للرجال في مجلس الشراب وغيره، والتي لا تغني بل تتخذ للفاحشة سواء كانت بكراً أو ثيباً أو حرة أو أمة نسأل الله العافية.

تعاطي أنواع المسكرات مسقط لعدالة العدول:
" تنبيه " اعلم أن أنواع المعاصي وآلات اللهو من اللعب بها واستماعها واستعمالها مما ذكر وما سيذكر بعد، من أنواع القمار وتعاطي أنواع المسكرات مسقط لعدالة العدول، وترد به شهادة الزور. وهذا حالها في الدنيا مع ما تورث من الفقر والفاقة والسقوط من أعين الخلق، فكيف ما يسقط من عين الله وذلك عقوبة في الدنيا. هذا أن سلم من عطب أو ظلم ظالم فما يكون حاله في الآخرة إن لم يتب.
نسأل الله العافية والتوفيق لطريق السلامة.
فصل
في بيان الأحاديث الواردة في الوعيد على ذلك
روى عن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها العذاب " قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: " إذا كان المغنم دولا والأمانة مغنما، والزكاة مَغْرما، وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه، وبر صديقه وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم مخافة شره، وشربت الخمور، ولبس الحرير، واتخذت القيان والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء أو خسفاً أو مسخاً " أعاذنا الله من ذلك.

" تنبيه " اعلم أن المعازف هي آلات اللهو كلها لا خلاف في ذلك، ولو كانت حلالا لما ذمهم على استحلالها، ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر و " الحر " فإن كان بالحاء والراء فهو استحلال الفروج الحرام، وإن كان بالخاء والزاى المعجمتين فهو نوع من الحرير غير الذي صح عن الصحابة لبسه إذ " الخز " نوعان: أحدهما من الحرير، والآخر من صوف، وقد روى هذا الحديث بالوجهين وأسند ابن ماجه عن مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يضرب على رءوسهم بالمعازف يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير " وإسناده صحيح. وقد توعد الله تعالى مستحلي المعازف بأن يخسف بهم الأرض ويمسخهم قردة وخنازير وإن كان الوعيد على هذه الأفعال فلكل واحد منها قسط في الذم والوعيد. وعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يكون في أمتي خسف وقذف ومسخ " . قيل يا رسول الله، متى يكون ذلك؟ قال: " إذا ظهرت المعازف والقينات واستحلت الخمر " . وأما حديث عمران الذي رواه الترمذي " يكون في أمتي خسف وقذف ومسخ " .فقال رجل من المسلمين متى ذلك يا رسول الله؟ قال: " إذا ظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور " . وروى أحمد في مسنده وأبو داود عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله حرم الخمر والميسر والمزر والكوبة والغبيراء " . وأما حديث ابن عباس ففي المسند أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة وكل مسكر والطبل " .وعن أبي أمامة الباهلي يرويه عن أحمد في مسنده عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تبيت طائفة من أمتي على أكل وشرب ولهو ولعب ثم يصبحون قردة وخنازير فتبعث على أحياء من أحيائهم ريح فتنسفهم كما نسفت من كان قبلهم باستحلالهم الخمر، وضربهم بالدفوف، واتخاذهم المغنيات " . وعن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يبيت قوم من هذه الأمة على بطر وأشر ولهو فيصبحون وقد مسخوا قردة وخنازير وليصيبهم خسف، وقذف حتى يصبح الناس فيقولون: خسف الليلة دار فلان! خسف الله بيت فلان! ولترسلن عليهن حجارة من السماء كما أرسلت على قوم لوط على قبائل فيها وعلى دور فيها ولترسلن الريح العقيم التي أهلكت عاداً بشربهم الخمر، وأكلهم الربا، واتخاذهم القينات، وقطيعتهم الرحم " . وأما حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا غضب الله على أمة ثم لم ينزل عليهم العذاب حتى غلت أسعارها، وقصرت أعمارها، ولم تربح تجارتها، وحبس عنها أمطارها، ولم تغزر أنهارها وسلط عليها أشرارها " . وأما حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يكون في أمتي خسف وقذف " قلت: يا رسول الله، وهم يقولون لا إله إلا الله؟ قال: " إذا ظهرت القينات، وظهر الزنا، وشرب الخمر، ولبس الحرير كان ذا عندنا " . وأما حديث عبد الله بن سابط فأسنده ابن أبي الدنيا عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يكون في أمتي المعازف واستحلوا الخمر " .

فصل
في موقف القرطبي ممن يجيز السماع بالطارات والشبابات

قال القرطبي رحمه الله: سمعت بعض من نكب عن الحق، وعدل عن سواء الطريق وقد اجتمع حوله جماعة من الفقراء يقول: السماع بالطارات والشبابات مع الوجوه الحسان والسمع الموجود - جائز وهو مذهبي وبه أقول! فوقع بيني وبينه كلام وهجران، فقلت له: هذا قول مرغوب عنه وفعل حرام بإجماع المسلمين على ما نقله أئمتنا إذ هو فسوق ولأن الطبع البشري يحمل على النظر، وينفح في القلب ما لا يحل، ومن قال إن طباعه مخالفة طبع البشر كذب. فأجاب دافعاً عن نفسه بأن قال: إنما عنيت بالوجوه الحسان التي يتقرب إلى الله تعالى فقلت له: هذا تأويل غير مستقيم وتورية على غير المنهج القويم فكان ينبغي أن يقيد إطلاق كلامك، حتى لا يفهم منه غير ذلك وإنما يتقرب إلى الله تعالى بالقلوب الخاشعة والأفئدة الخاضعة الذي خضعت لعزته، ووجلت لعظمته، وعرفته حق معرفته قال الله تعالى: (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) وقال تعالى: (ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق). ولم يقل وجوههم الحسان. وفيض العين، واقشعرار الجلد، إنما يكون صادراً عما حل في القلب من الواردات وهذه الأحوال لا تفتقر إلى سماع أوتار، ولا شبابة وطار، ثم كيف يجوز أن يعبر فيه عن الحق بليلى وسُعْدى بلفظ مؤنث، وإطلاقه على الله إذ فيه تشبيه بالكفرة والَضلال في إطلاقهم لفظ التأنيث على آلهتهم قالوا: اللات والعُزى ومناة الثالثة الأخرى نعوذ بالله من المآثم والمعاصي، ونشهد أن لا إله إلا الله ، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، ونسأله العافية والعصمة إنه على كل شيء قدير.

النوع الأول من أنواع القمار: الشطرنج
قال شيخنا رحمه الله: اللعب بالشطرنج مكروه، وقيل: حرام وعلى الأول فإنما يجوز بشروط: الأول: أن لا يكون فيه تصاوير وإلا فيحرم قطعاً.
الثاني: أن لا يكون فيه مال وإلا فهو قمار.
الثالث: أن لا يضيع حقاً عليه فإن اشتغل به عن الكسب للعيال فحرم في هذه الأحوال.
الرابع: أن يسلم لسانه من الغيبة والبهتان، وسمعه عن استماع ذلك.
الخامس: أن لا يداوم على لعبه فالمداومة عليه تسقط الشهادة.
السادس: أن لا يلعب به على الطريق ذكره بعضهم.
السابع: هو كاللعب بالمنقلة.
قال الدميري: وكره ابن الأثير اللعب بالمنقلة وشطرنج المغاربة كما هو مبين في المطلب والجواهر والمهمات ونقل نافع عن سفيان الثوري عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ملعون من لعب الشطرنج، والناظر إليها كآكل لحم الخنزير " . ومر النبي صلى الله عليه وسلم بقوم يلعبون الشطرنج فقال: " ما هذه الكربة ألم أنه عن هذا؟! لعنة الله على من لعب بها " . وعن عبد الله بن عمر قال: سئل عمر رضي الله عنه عن الشطرنج قال: " هي شر من النرد " .
النوع الثاني من أنواع القمار اللعب بالمنقلة
وهي كاللعب بالشطرنج لأنها تحتاج إلى فكر ونظر والشطرنج بفتح الشين وكسرها والفتح أشهر وقال: إن صاحب الشطرنج أكذب الناس يقول: قتلت وما قتل. وعن واثلة بن الأسقع أنه قال: " إن الله ينظر إلى الخلق كل يوم مائة وستون نظرة ليس لصاحب الشطرنج منها نصيب " . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مررتم بهؤلاء الذين يلعبون بالأزلام - الشطرنج والنرد - فلا تسلموا عليهم " . وروى البيهقي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: اللعب ليس من صفة أهل الدين والمروءة " .
النوع الثالث: اللعب بالطاب
وهو قريب من اللعب بالنرد وهو حرام.
" فرع " قال الشيخ كمال الدين الدميري: أفتى الشيخ رحمه الله بتحريم الطاب لأن المعتمد فيه على تخرجه الجرايد الأربع وسئل عنه شيخنا فأجاب بالكراهة، والتحريم فيه أظهر.
النوع الرابع: اللعب بالكمنجة
فإن كان فيه " مال " فهو قمار. قال الشيخ كمال الدين الدميري: وأما الكمنجة فإن كان فيها عرض فحرام، فلاشك أنه قمار واللعب بالحمام مقتضى كلام الرافعي في باب المسابقة.
النوع الخامس: اللعب بالحمام

وهو من الرذائل المسقطة للشهادة وهو من أعمال قوم لوط. وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يتبع حمامة يلعب بها فقال: " شيطان يتبع شيطانه " . قاله البيهقي رحمه الله وحمله بعض أهل العلم على " ارمان " صاحب الحمام على إطارته والاشتغال به وارتقابه السطوح التي يشرف منها على بيوت الجيران وحُرمهم لأجله ثم أسنده عن أبي موسى رضي الله عنه قال: " كان ملاعب آل فرعون الحمام " .
وعن إبراهيم النخعي رضي الله عنه قال: " من لعب بالحمام الطيارة لم يمت حتى يذوق الفقر " . وعن سفيان الثوري رضي الله عنه قال: سمعت أن اللعب بالحمام هو من عمل آل لوط. قال الشيخ جمال الدين: واتخاذها للفراخ أو حمل " البطايق " فيجوز ويكره اللعب بالمراجيح.
النوع السادس: اللعب بالصُّور وجمع الناس عليها
قال عالم من علماء السنة: ففي الحديث الصحيح " كل لهو باطل إلا رمي الرجل بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله " . قال الحليمي رحمه الله: كل ما يتلهى به الرجال فيما لا فائدة فيه في العاجل ولا في الآجل فهو باطل والإعراض عنه أولى إلا هذه الأمور الثلاثة فهي من الحق.

النوع السابع: اللعب بالنرد والشطرنج
فقد ورد فيهما أخبار وآيات وجملة القول فيها أن اللعب بهما على شرط المال حرام بإنفاق واللعب بهما على غير شرط المال مختلف فيه. قال: وتحريمه عندي اشبه، ومذهب أبي حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى مكروهة كراهة تحريم. وسئل الإمام أحمد عن الشطرنج أمن الحق هو؟ قيل: فما بعد الحق إلا الضلال ...!! وعن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من لعب بالنرد شير فكأنما غمس يده في لحم الخنزير ودمه " . أخرجه مسلم. قال الحليمي رحمه الله: ومعنى هذا عند أهل العلم أي هو كمن غمس يده في لحم الخنزير، ودمه بهيئته لأنه يأكله. وبالجملة فإن اللعب النرد كأكل لحم الخنزير. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لعب بنرد أو نردشير فقد عصى الله ورسوله " . عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها أرسلت إلى قوم سكان في دار لها عندهم نرد تقول لهم: " لئن لم تخرجوه وإلا أخرجتكم من داري وأنكرت ذلك عليهم " . وفي الموطأ عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا وجد أحداً من أهله يلعب بالنرد ضربه وكسرها. وعن ابن عمر رضي الله عنه: كان يقول: " النرد هو الميسر " . ذكره البيهقي. قال الماوردي: النرد موضوع على البروج الاثنى عشر والكواكب السبعة لأن بيوته اثنا عشر، ونقطة من جانبي العرض سبعة وهو فارسي معرب ومعنى شير: حلو. وأول من وضعه: أردشير بن بابك. عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: " من لعب بالكعبين على قمار فكأنما أكل لحم الخنزير ومن لعب بها على غير قمار كالمدهن شحم خنزير " .
وأنواع القمار كثيرة والقمار أخذ المال بنظير عوض على وجه المغالبة إما بعلم الإنسان، وإما بقوة حيوان يملكه، وإما بطاب، أو شطرنج، أو نرد، أو رمي فلوس في حفرة، أو نطاح كباش، أو نقار ديوك، أو غير ذلك. وقد غلب ذلك، وكل ما علق عليه رهن فهو حرام باطل إلا ما استثناه الشرع، من هذا الأصل الممنوع وهو ثلاثة أشياء لأجل مصلحة الجهاد كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا سبق ألا في خف أو حافر أو نصل " فالسبق اسم المال المشروط على مسابقة الإبل وهو الخف، وعلى مسابقة الخيل وهو الحافر، وعلى المناصلة بالنشاب وهو النصل، فلا يحل أخذ مال بالمغالبة إلا في هذه الثلاثة على الشروط التي بينتها الفقهاء في كتب الفقه حتى يخرج عن القمار المحظور خشية الوقوع، ولا بد من محلل بغنم ويغرم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لأن أُقَلْقِلَ جمرتين في يدي حتى تنطفئ أحب إلي من اللعب بالكعبين. وعن علي رضي الله عنه أنه مر بقومٍ يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ فلأن يمسي أحدكم جمراً حتى يطفاء خير له من أن يمسها. وكان يقول الشطرنج ميسر الأعاجم. وسئل ابن عمر رضي الله عنه عن الشطرنج فقال: هي شر من النرد. وقال أبو موسى الأشعري: لا يلعب بالشطرنج إلا خاطئ.
فصل
في تربية القط واقتنائه وما يحرم اقتناؤه

يستحب تربية القط واقتناؤه لقوله صلى الله عليه وسلم: " إنها من الطوافين عليكم والطوافات " . قال الحافظ: يستحب تربيته واتخاذه لهذا الخبر، لأنها تقتل الفارة والثعبان، وقتلهما مستحب. وهذه أشياء يحرم على الإنسان أن يقتنيها عنده: منها الكلب لمن لا يحتاج إليه، وكذلك الحدأة والعقرب، والفارة والغراب الأبقع، والخمرة غير المحترمة، والصنم والأوثان والإناء المتخذ من ذهب وفضة أو اكثرها ذهباً أو فضة. وقال أيضاً: يحرم اقتناء الفارة والكوبة وطبل اللهو والنرد وزمارة االرعيان وهو شاهين الرعاء المتخذ من القصب خلافاً للغزالي ويحرم اقتناء الشبابة. قال عالم: واعجبا ممن يعلم أن بين يديه دارين ولا بد له من سكنى أحدهما، وأنه لا يتوصل إلى سكنى دار الخير وينجو من دار الشر إلا بالأعمال الصالحات وأن زيادات الدرجات هنا بزيادة الحسنات ومع ذلك يعلم أن مدة بقائه في الدنيا محدودة، وأن أنفاس عمره عليه معدودة، وهو يلتهي باللعب يمينا وشمالاً ويزداد قلبه بذلك قسوة وخبالاً لقد ضرب بين هذا القلب وبين الخير بسور له باب وأسبل عليه أكنف حجاب فإنا لله وإنا إليه راجعون. فاشتغلوا معاشر المريدين بالله تعالى وطاعته فيما أمركم ونهاكم فمن كان شغله بالله مات على لا إله إلا الله، ومن كان شغله بالسوى ازداد الهوى فيمن هوى يموت المرء على ما عاش عليه.
قيل لرجل: قل: " لا إله إلا الله " فقال: آه آه لا أستطيع أن أقولها.
وقيل لآخر: قل: " لا إله إلا الله " فقال: شاه رخ غلبتك ثم قضى.
وقيل لآخر: قل: " لا إله إلا الله " فجعل يهذي بالغناء حتى قضى.
وقيل لآخر: قل: " لا إله إلا الله " فقال: ما ينفعني ما تقول. ولم أدع معصية إلا ارتكبتها ثم قضى ولم يقلها.
وقيل لآخر: قل: " لا إله إلا الله " فقال: وما تغني عني وما أعرف إني صليت لله صلاة أبداً!! ولم يقلها.
وأخبرني من حضر بعض الشحاتين عند موته: فجعل يقول: فَلْس لله. . فلس لله. حتى قضى.
وأخبرني بعض التجار أنه احتضر فجعلوا يلقنونه: " لا إله إلا الله " وهو يقول: هذه القطعة رخيصة، هذه مشترى جيد، هذه كذا حتى قضى. وسبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبراً، والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم وإذا كان هذا في حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه فقد تمكن الشيطان منه واستعمله فيما يريده من معاصي الله وقد أغفل قلبه عن ذكر الله تعالى وقد عطل لسانه عن ذكره وجوارحه عن طاعته فكيف الظن به عند سقوط قوته واشتغال قلبه ونفسه بما فيه من ألم النزاع وجمع الشيطان له قوته من جهته وحشد عليه بجميع ما يقدر عليه لينال منه فرصة فإن ذلك أخر العمل، فأقوى ما يكون عليه شيطانه في ذلك الوقت وأضعف ما يكون هو في ذلك الحال فمن ترى يسلم على ذلك فهناك يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا، وفي الآخرة، ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
قال مجاهد رحمه الله: ما من ميت إلا يعرض عليه أهل مجالسه الذي كان يجالس عند الموت إن كانوا أهل اللهو فأهل اللهو، وإن كانوا أهل الذكر فأهل الذكر. جعلنا الله وإياكم من الذاكرين.

فصل
في الحث على مجالسة الأخيار والزجر عن مجالسة الأشرار

عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مثل الجليس الصالح مثل العطار إن لم ينلك منه أصابك من ريحه، ومثل الجليس السوء مثل القين إن لم يصبك ناره أصابك شراره " . قال أبو حاتم رضي الله عنه: العقل يلزم صحبة الأخيار ويفارق صحبة الأشرار لأن مودة الأخيار سريع اتصالها بطيء انقطاعها ومودة سريع انقطاعها بطيء اتصالها، وصحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار، ومن خادن الأشرار لم يسلم من الدخول في جملتهم. قالوا: يجب على العاقل أن يتجنب أهل الريب لئلا يكون مريبا، فكما أن صحبة الأخيار تورث الخير، كذا صحبة الأشرار تورث الشر. وقال صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: " لا تصحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي " واسمع قوله تعالى:(يا نوح إنه ليس من أهلك). فنهى الله - عز وجل - نبيه أن يقول لابنه: " إنه من أهلي " ؛ لأجل ما خالف الله ورسوله. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمان الفارسي: " سلمان منا أهل البيت " لأجل طاعته الله ورسوله. وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: من أحب إليك؟ قال: " كل تقي " .
قال الله تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهْم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون) واعلم رحمك الله وجميع المسلمين بأنه يجب على المسلم أن يحب من أحبه الله، ويقرب من قربه الله تعالى، ويبغض من أبغضه الله تعالى، ويبعد من أبعد الله تعالى، فحينئذ يستوجب رحمة الله. قال صلى الله عليه وسلم: " من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان " . فمن كان من أهل الطاعة وقرب أهل المعصية أبعده الله، ومن أرضاهم فقد أسخط الله، ومن أكرمهم أهانه الله، ومن أحبهم أبغضه الله وحشره معهم لقوله - صلى الله عليه وسلم - " المرء مع من أحب " . قال عيسى عليه السلام: " يا معشر الحواريين تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي والفسق، والتمسوا رضا الله تعالى إليه بالتباعد عنهم بسخطهم. قالوا: فمن نجالس؟ قال: من يذكركم الله رؤيته، ويرغبكم في الآخرة علمه، ويزيد من فهمكم منطقه " وقال: إذا كان الناسك جيرانه عنه راضون فاعلم أنه مداهن. وقال: لا تجالسوا الأحداث فإن فتنتهم أشد من العذارى. وقال:لا تجالسوا شربة الخمر ولا تعودوا مرضاهم ولا تشهدوا جنائزهم فإن شارب الخمر يجيء يوم القيامة مسوداً وجهه مزرقاً عينيه مذلقاً لسانه على صدره يسيل لعابه كل من رآه. وينبغي للإنسان أن لا يعاشر إلا أهل طريقته إذا كانت موافقة للكتاب والسنة، ولا يعاشر غير أبناء جنسه من المبتدعين قال الله تعالى: (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) أي لا تعاشروا إلا من تبع موافقتكم على أحوالكم وطريقتكم. قال صلى الله عليه وسلم فيما يخبر عن ربه عز وجل: " وإن هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه " . وإياك وموالاة أهل البدع بالمودة فإنها تذهب بأنوار القلوب، وتحين أفعالهم يورث المقت من الحق والبعد من الله عز وجل. وقال أبو حاتم رضى الله عنه: العاقل لا يدنس عرضه ولا يعود نفسه أسباب الشر بلزوم صحبة الأشرار ولا يغض عن صيانة عرضه ورياضة نفسه بصحبة الأخيار على أن الناس عند الخبرة تتبين منهم أشياء ضد الظاهر منها. وعن أبي عمرو بن العلاء قال: رآني سعيد بن جبير وأنا جالس مع الشباب قال: ما يجلسك مع الشباب عليك بالشيوخ. وقال أبو الدرداء: لَصَاحِبُ صَالح خيرُ من الوحدة، والوحدة خير من صاحب السوء، ومملي الخير خير من الساكت خير من مملي الشر.وقال أبو حاتم: العاقل لا يصاحب الأشرار؛ لأن صحبة صاحب السوء قطعة من النار تُعْقِبُ الضغائن، لا يستقيم وُدُّه ولا يفي بعهدهِ؛ وكل جليس لا يستفيد المرء منه خيراً تكون مجالسة الكلب خيراً من عشرته، ومن يصاحب السوء لا يسلم كما أن من يدخل مدخل السوء يُتّهم، ومن كان أصدقاؤه أشراراً كان هو أشرهم وكما أن الخًيِّر لا يصحب إلا البرَرَة كذلك الرديء لا يصحب إلا الفَجَرة. وقال بعض الحكماء: من جلس مع ثمانية أصناف زاد فيه ثمانية أشياء:من جلس مع الأغنياء زاده قلة الشكر والرضا بقسمة الله تعالى أو عكسها.

ومن جلس مع السلطان زاده الكبر، وقساوة القلب.
ومن جلس مع النساء زاده الله الجهل والشهوة.
ومن جلس مع الصبيان زاده الله اللهو والمزاح ومن جلس مع الفساق زاده الله الجراءة على الذنوب وتسويف التوبة ومن جلس مع الصالحين زاده الله الرغبة في الطاعات ومن جلس مع العلماء زاده الله العلم والورع وقال يحيى بن معاذ: " اجتنب ثلاثة أصناف من الناس: العلماء الغافلين، والفقراء المداهنين، والصوفية الجاهلين " . وقال: " صحبة أهل الصلاح تورث في القلب الفلاح، وصحبة أهل الفساد تورث فيه الفساد " . جعلنا الله وإياكم والمسلمين ممن وفق لمجالسة الصالحين.

فصل
في التحذير عن صحبة أهل البدع ومجالستهم والسلام عليهم
وأكثر ما يقع الفساد من مخالطة المبتدعين، قال شيخنا رحمه الله: اعلم أن من أشد الفتنة النظر في اعتقاد أهل البدع المخالفين لاعتقاد هذه الفرقة الناجية فاحذرهم واحذر النظر في عقائدهم وقد ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يقبل الله لصاحب بدعة صوماً ولا صلاة، ولا صدقة، ولا حجاً ولا عمرة، ولا جهاداً، ولا صرفاً ولا عدلاً. يخرج من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين " . قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام " . قال الفضيل بن عياض رحمه الله: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه. وقال: " نظر المؤمن إلى المؤمن جلاء للقلب، ونظر المؤمن لصاحب البدعة يورث العمى " . وقال: إذا رأيت مبتدعاً في طريق فخذ في طريق آخر. وقال: لا يرفع لصاحب بدعة عمل، ومن أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام. قال سفيان: " من سمع من صاحب بدعة لم ينفعه الله بما سمعه، ومن صافحه فقد نقض عرا الإسلام عروة عروة " .
وقال سفيان: ومن أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة فقد خرج من عصمة الله تعالى. وقال: لا تصلوا خلف من يقول الإيمان بلا عمل ولا خلف من سب أبا بكر وعمر. وقال: إذا بلغكم خبر رجل من أهل السنة فاهده السلام.
قال عبد الصمد بن زيد: سمعت رجلا قال للفضيل: من زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها، ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، وإذا علم الله عز وجل من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر له.
قال: فإياك وأهل البدع والأهواء وعليك باتباع أهل الصراط المستقيم قال الله تعالى: (وأن هذا صراطي مْستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) وقال صلى الله عليه وسلم: " يد الله على الجماعة فإذا شذ شاذ منهم اختطفته الشياطين " . وقال الشافعي رضي الله عنه: من أراد أن يفتح قلبه نور العلم فعليه بالخلوة وقلة الأكل وترك مخالطة السفهاء. قال الحافظ الدمياطي: والحذر من مخالطة الظالمين والإعانة لهم وتعظيم أهل البدع ومحبتهم فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أهان صاحب بدعة أمنه الله يوم الفزع الأكبر " وإياك أن تبتسم في وجه ظالم أو توسع له في مجلسه أو تناوله من عطائك. وقال ميمون بن مهران - رحمه الله - : صحبة السلطان خطر إن أطعته خاطرت بدينك وإن عصيته خاطرت بنفسك والسلامة أن لا تعرفه ولا يعرفك. وقال القرطبي: قال سفيان الثوري: " من أخذ من ظالم درعاً أو مالاً أو سلاحاً فغزا به في سبيل الله لعن بكل قدم يرفعها ويضعها حتى يرجع " . وإياك ومحبة فاجرٍ أو ظالم أو فاسق أو مبتدع أو تميل إلى أحد منهم أو تَبشَّ في وجهه. قال صلى الله عليه وسلم: " لا تجعل لفاجر عندي يداً فترزقه مني محبة وإياك والركون إلى الظلمة " قال الله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) إياك وحب من لا يستحق المحبة من المخطئين أو تقبل منهم إحساناً فإنه جبلت القلوب على حب من أحسن إليها " .
فصل
في صحبة الظّلمة والقرب منهم

وأكثر ما يقع من الفساد من صحبة الظلمة والقرب منهم والركون إليهم وأكثر ما يعين على المعاصي والفساد ناس من الظلمة من أهل الشرطة وغيرهم، وأهل المعاصي يتخذون عندهم أيادي ليحموهم ويذبوا عنهم من يتعرض لهم؛ وذلك أن الظلمة جعلوا سحتا مرتبا لهم على أهل المعاصي والفساد من النساء الفاجرات، ومن عنده خمر أو مسكر على اختلاف أنواعه مرصد عنده للبيع، فإذا أخذوا منهم هذا السحت المرتب لهم يحمونهم ممن يشوش عليهم، فيقرونهم على معاصيهم، ويبيحون لهم ذلك قال الله تعالى: (سماعون للكذب أكالون للسحت). نزلت في اليهود كانوا يسمعون ممن يكذب عندهم، ويأخذون الرشوة ممن يحكمون له، والرشوة ممن يشفعون له، فنزلت هذه الآية الكريمة وذمهم الله تعالى على فعلهم. فإنا لله وإنا إليه راجعون. ثم اعلم أن الله وصف الظالمين ستة عشر وصفاً: الأول: وصفهم بأنهم لا يحبهم الله فقال: (والله لا يحب الظالمين) الثاني: وصفهم بأنهم لا ينصرهم الله فقال: (وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير). نظيره (والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير).
الثالث: نهى عن القرب منهم فقال: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار). نظيره: (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) الرابع: ذكر أنه لا يهديهم فقال: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) الخامس: ذكرهم بأنهم لا يفلحون فقال: (أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون) نظيره: (من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون) السادس: ذكر بأنه أوعدهم وهددهم فقال: (وسيعلم الذين ظلموا لي منقلب ينقلبون) ونظيره: (والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا) السابع: ذكر خراب بيوتهم فقال: (فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا) نظيره: (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة) الثامن: ذكر أن الويل لهم فقال(فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم) نظيره: (قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين) التاسع: ذكره أنه قد أعد لهم النار فقال: (إنا أعتدنا للظالمين ناراً) نظيره (عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها) العاشر: ذكر أنه يبعثهم عند الموت فقال: (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت) نظيره:( الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) الحادي عشر: ذكر أنه أعد عذاباً أليماً فقال: (إن الظالمين لهم عذاب أليم) ونظيره: (الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق) الثاني عشر: أخبر عن ندامتهم يوم القيامة فقال: (وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مردّ من سبيل) نظيره (يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين) الثالث عشر: لعنهم الله:(أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين) نظيره: (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين) الرابع عشر: ذكر هلاكهم فقال: (ذلك أَن لَّمْ يكن ربك مهلك القرى الظلم وأهلها غافلون) نظيره قوله: (إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين) الخامس عشر: ذكر حسرتهم على الظالم فقال جل وعلا: (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه) نظيره: (وترى الظالمين مشفقين مما كسبوا) السادس عشر: ذكر سوء عواقبهم فقال تعالى:(كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين). نظيره: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماَ وعلواً وقال الصقلي: اقشعرت الأرض وأقلعت السماء من ظلم الفجرة، وذهبت البركات، وقلت الخيرات لفسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال، وشكى الكرام الكاتبون والمعقبون الحافظون لرب العالمين، فبادروا - رحمكم الله - بالتوبة والإقلاع عسى أن يندفع بها أمور - في الشدائد - عُظَام قد بدت روايحها فنسأل الله النجاة منها والسلامة منآفاتها.وقال: ستكون فتن لا يستقر ذو دين في بادية لأجل ظلم سلطانهم،ولا يقر أحد في حاضرة لأجل خبث علمائهم،ولا يبقى أحد في ثغر لأجل فسق قرائهم، فلا راحة حينئذ في البدو إلا يبذل المال وصيانة الدين، ولا راحة في الثغر إلا في الانقباض والوحشة والهرب والعزلة والرضى بالذلة والقلة وتوديع الناس جميعاً في الدين والدنيا.

فصل
في مجانبة الظلمة

وعليك بمجانبة الظلمة والبعد عنهم. قال سيدي أبو الحسن الشاذلي - رحمه الله - : ينبغي مجانبة الظلمة. قال عارف من أصحابه: وصدق - رضى الله عنه - قال: بمجانبة الظلمة تقع السلامة في الدين، لأن صحبة الظلمة تكشف نور الإيمان، وبمجانبتهم تكون أيضاً النجاة من عقوبة الله تعالى. (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) وقال بعض العلماء: ينبغي للإنسان أن لايسكن في أماكن الظلمة مخافة أن يصيبهم بلاء فيصاب أو يسرق طباعه من طباعهم.

النهي عن الأماكن المذمومة:
وقال بعض العلماء: ورد الني عن الأماكن المذمومة وقال: روى أبو داود عن علي رضى الله عنه أنه أدركته الصلاة في " أرض بابل " فأخر الصلاة حتى خرج الناس وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنها أرض ملعونة " وكذلك " أرض ثمود " فإنها قد حل بها الغضب، وكذلك " ديار قوم لوط " و " وادي مُحَسّر " وأشباه ذلك. عن النبي صلى الله عليه وسلم: فيما يروى عن ربه عز وجل أنه قال:(يا عبدي؛ إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تَظَّالموا). وعن جابر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " . وقال علي رضى الله عنه: " ويل للباغين من أحكم الحاكمين والعالم بضمير المضمِرين " .
فصل
في معاملة أهل الذمة
وأكثر ما يقع من المفاسد من أهل الذمة والاختلاط بهم واستعمالهم
اعلم أنه قد تيسر للفقير كراسة من كلام الشيخ الإمام العالم العلامة جمال الدين عبد الرحيم الإسنائي الشافعي - رحمه الله - تتعلق بمعاملة أهل الذمة فيما يلائمهم وكتبتها في الكتاب وذلك لافتقار أهل زماننا إلى ذلك فإنه قد عمت البلوى بالاختلاط معهم والمؤانسة لهممن الجهال وغيرهم من أهل الفلاحة والزراعة،ومن يجعل نفسه تحت ولاياتهم بسبب صرف أو استخراج مال وما أشبه ذلك - نسأل الله السلامة والعافية من ذلك، وله الحمد والمنة، ونقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثير من خلقه قال الله: (وإذْ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) وهذه الآية يسيرة وألفاظها قليلة أرجو إن شاء الله تعالى لمن أهَّلهَ الله للوقوف عليها والعمل بما فيها حصول خير عظيم له وللمسلمين في العاجل والآجل؛ فلا يرجع إلى وسوسة الشيطان في تأخير النظر فيها، ومراجعتها مرة بعد أخرى والعمل بما فيها فإنه عدّو يجري منك مجرى الدم قال الله تعالى: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) وقال تعالى: (فبسر عبادِ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) وقال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) وقال تعالى: (الذين أنْ مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) وقال تعالى: (يأيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة) وقال صلى الله عليه وسلم: " لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليطبعن الله على قلوبكم ثم لتكونن من الغافلين " وقد بين الله تعالى في آية أخرى حال الذين طبع عليهم وغفلوا فقال تعالى: (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون)

وفي الحديث: " إذا أراد الله بالعبد خيراً ساق إليه من يذكره إذا غفل، وإذا أراد به شراً ساق إليه جليس سوء ينهاه عن الأخذ بالموعظة " . ولما تولى هارون الرشيد جلس للناس مجلساً عاماً فدخل عليه بُهْلُول المجنون فقال يا أمير المؤمنين، أحذر جلساء السوء، واعتمد جليساً صالحاً يذكرك بمحاسن الخلق إذا غفلت، والنظر إليهم فيهم إذا لهوت، فإن هذا نفع لك وللناس، وأكثر في الأجر مما تأتي به من صوم وصلاة وقراءة وحج. إن الرجل يُلقي الكلمة عند ذي سلطان فيعمل بها فتملأ الأرض فساداً. وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة فلا يلقي لها بالا فيهوى بها في النار سبعين خريفا " . ولا تكن يا أمير المؤمنين كمن قال الله تعال فيهم: (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد). فقال له: زدني فقال: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قد أقاد لك الناس وجعل أمرك فيهم مطاعاً، وكلمتك فيهم نافذة، وأمرك فيهم ماضياً، وما ذلك إلا لتَحْمِلَهم على الإتيان بما أمر الله، والانتهاء عما نهى الله، وتعطي من هذا المال الأرملة واليتيم والشيخ الكبير وابن السبيل. يا أمير المؤمنين أخبرني فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا كان يوم القيامة وجمع الله الأولين والآخرين في صعيد أحضر الملوك وغيرهم، وولاة أمور الناس فيقول لهم لم أمكنكم من بلادي وأُطِعْ لكم عبادي لجمع الأموال، وحشد الرجال، بل لتجمعوهم على طاعتي، وتنفذوا فيهم أمري ونَهْيى، وتُعِزُّوا أوليائي، وتُذِلّوا أعدائي وتنصروا المظلومين من الظالمين " . يا هارون تفَكَر كيف يكون جوابك في ذلك الموقف إذا حضرت ويداك مغلولتان إلى عنقك، وجهنم بين يديك، والزبانية مُحيطة بك تنظر ما يؤمر فيك!! فبكى هارون بكاء شديداَ! فقال له بعض الحاضرين: كدرت على أمير المؤمنين مجلسه! فقال لهم هارون: - قاتلكم الله - إن المغرور من غَرَرْتُموه، والسعيدَ من بعدتم عنه ثم خرج من عنده.
هل يجوز أن يكون صَيْرَفّي بيت المال ذِمّياًّ؟

قال بعض العلماء: لا يجوز أن يكون صيرفي بيت المال ذمياَ، لأنه لا يُقْبل قوله أنه جيد أو رديْ؛ لأن فيه مرتعاً فكيف بالاستخدام الذي تظاهرت النصوص على منعه قال الله تعالى: (وما كنت متخذ المضلين عضداً)وقال تعالى: (يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) فإذا أمر ربك بالإغلاظ فكيف تُقَّربهم وتُحَكِّمُهم. وقال تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم) وقال تعالى: (يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) وقال تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً وَدُّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواهم وما تخفى صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) والمراد بالبطانة: من يطلع على حال المسلمين كالاطلاع على مقدار خزائنهم من المال أو عداد جيشهم من الرجال. وقوله:(لا يألونكم خَباَلا) أي: لا يقصرون، والخبال: هو الفساد أي لا يقصرون، ويجتهدون في إيصال الفساد إليكم. وقوله: (ودوا ما عنتم): العَنَت:هو الضرر، ونحوه. أي: يودون ضَرَركم فتأمل هذه الآية العظيمة. وقال صلى الله عليه وسلم: " من ولى أمرأً من أمور أمتي فلم ينصح لهم، ولم يجهد، فالجنة حرام عليه " فأوجب الاجتهاد في الصلح عند تساويها في الصلاح. وقال: " من ولى شخصاً على أمر من أمور أمتي وهو يظن أن فيهم خيراً منه خان الله ورسوله " . وفي استخدام الكفار: من المفاسد العظيمة والأمور القبيحة والأحوال الشنيعة مالا يرضاه العدو لعدوه خصوصاً أن يرضاها عدو المسلمين لأمة محمد عليه الصلاة والسلام. ومنها زعمهم أن البلاد إلى الآن ملكهم وأن المسلمين قد أخرجوهم منها بغير استحقاق فيسرقون الأموال ما قدروا عليه، ويعتقدون أنهم لم يخونوا ولم يظلموا، ويرون أن احتمال المصادرة والعقوبة عنهم كاحتمال المرض قد يطرأ على الصحة، ويتواصون على الصبر على العقوبة وإظهار تجلد، فإن اضطروا إلى الإعطاء أخرجوا أقل القليل، فأعطوا بعضه و " برطلوا " ببعضه إلى أن يخلصوا. فمن هذا حاله في اعتقاده وفعله لا يحل لأحد توليته.ومنها أن كثيراً من بلاد المسلمين المرصدة لمصالح المسلمين، والجارية في إقطاع الأمراء والأجناد وكذلك الصدقات الموقوفة على فقراء المسلمين كبلد نسترده وغيرها يخرجونه إلى أنفسهم، وإلى الكنائس و " الديورة " مع أنه لا يجوز صرف شيء من ذلك إليهم وقد قدر على قطعة فلم يفعل، ومكنهم من أخذه وسلطهم عليه ضمنه في الدنيا وطولب به يوم القيامة، وقد تفاحش حالهم في هذه الخصلة حتى تعدى إلى المرتبات والرزق الجارية في مصالح المساجد،فيحملون الأمير الذي يباشرون عنده على قطعها بكل طريق يقدرون عليه إظهاراً للتوفرة عليه، والشفقة، ثم بعد ذلك يخرجونها لأنفسهم وكنائسهم وقد خربت كثير من المساجد القديمة العُمَرِية فدخل المعين لهم على ذلك تحت الوعيد الشديد في قوله:(ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) ومنها: أنهم يتحيلون في كل وقت على حريق الجوامع والمساجد، وأملاك المسلمين ويحترق بسببه خلائق من الرجال والنساء والأطفال وقد وقع ذلك قريباً في " عام الغفار " وهو سنة سبع وأربعين ومُسكوا واعترفوا على جماعة مباشرين وأنهم أعانوهم فتحيلوا بإعطاء بعض ما سرقوه بمعاونة كبارهم،والمتحكمين منهم فأفلتوا ولم ينل أحداً منهم مكروه، ولو وقع ذلك لشريف لحل به من العقوبة مالا يوصف.فتأمل - وفقك الله - هذه المفاسد وتدبرها مع أن الأملاك التي أحرقوها خراب إلى الآن مشاهدة فاعتبروا يا أولي الأبصار وكل ذلك فيه تحقيق لقوله تعالى: (لا يألونكم خبالا) أي: لا يقصرون في فساد يوصلونه إليكم. انتهى كلام الشيخ جمال الدين رحمه الله.

تقليد النصارى في أعيادهم ومواسمهم:
وقال شيخنا: ومن البدع ما يعمل في " النيروز " من المآكل والمشارب والمفاسد فإن ذلك موافقة للنصارى في أعيادهم ومواسمهم، ولا يجوز موافقتهم في شيء من ذلك، ولا يجوز موافقتهم في المواسم في أكل اللبن وغيره وما يفعل من " نزول الشمس من قطع الكركيش " ، " وسبت الظلام " وكل ذلك بدع محرمة يحرم على المسلم مشاركتهم في شيء منها، وقبول هديتهم في مواسمهم بخلاف غيرها.
بيان ما جاء في المكَّاسِين والعَشّارين والعُرفاء:

عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يدخل الجنة صاحب مكس " . رواه أبو داود وابن خزيمة في صحيحه والحاكم. قال البغوي: يريد بصاحب المكس: الذي يأخذ من التجار إذا مروا عليه " مَكْساً " باسم العشر. قال الحافظ: أما الآن فأنهم يأخذون " مكساً " باسم العشر ومكوسا أخرى ليس لها أسم بل شيء يأخذونه حراما وسحتاً، ويأكلونه في بطونهم نارا، وحجتهم فيه داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد.
وعن الحسن قال: مر عثمان بن أبي العاص على كلاب بن أمية وهو جالس على مجلس العاشر بالبصرة فقال: ما يجلسك هاهنا فقال: استعملني في هذا المكان يعني " زياداً " فقال له عثمان: ألا أحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بلى قال عثمان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كان لداود نبي الله ساعة يوقظُ فيها أهله يقول: يا آل داود قوموا فصلوا فإن هذه ساعة يستجيب الله فيها الدعاء إلا لساحر أو عَشّار " فركب ابن أمية سفينته وأتى زياداً فاستعفاه فأعفاه. رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ولفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تفتح أبواب السماء نصف الليل فينادى منادٍ هل من داع فيستجاب له وهل من سائل فيعطى؟ هل من مكروب فيفرج عنه؟ فلا يبقى مسلم يدعو بدعوة إلا استجاب الله له إلا زانية تسعى بفرجها أو عَشّار " . وفي رواية له في الكبير أيضاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله يدنو من خلقه فيغفر لمن يستغفر إلا لبَغِيّ بفرجها أو عشار " . وعن أبي الخير قال: عرض مسلمة بن مخلد وكان أميراً على مصر على رويفع ابن ثابت أن يولية العشر فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن صاحب المكس في النار " رواه أحمد من راوية ابن لهيعة والطبراني بنحوه. وروى عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحراء وإذا منادٍ ينادي يا رسول الله، فالتفت فلم يرى أحداً، ثم التفت فرأى ظبيةً مُوثقةً فقالت: ادن مني يا رسول الله فدنا منها فقال: ما حاجتك؟ فقالت: إن لي خشفين في هذا الجبل فحلني حتى أذهب فأرضعهما ثم أرجع إليك قال: وتفعلين؟! قال: عذبني الله عذاب العشار إن لم آتكَ؛ فأطلقها فذهبت فأرضعت خشفيها ثم رجعت فأوثقها وانتبه الأعرابي فقال: ألك حاجة يا رسول الله؟ قال: نعم تطلق هذه فأطلقها فخرجت تغدو وهي تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله " رواه الطبراني.

بيان العرفاء:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ويل للعرفاء ويل للأمناء ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم متعلقة بالثريا يُدلون بين السماء والأرض ولم يكونوا عملوا على شيء " رواه أحمد. وفي حديث " العرفاء في النار، والقمار في النار " . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ويل للأمراء، ويل للعرفاء، ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم متعلقة بالثريا يُدلون بين السماء والأرض ولم يكونوا عملوا على شيء " رواه ابن حبان في صحيحة والحاكم. وروى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في النار حجراً يقال له " ويل " يصعد عليه العرفاء وينزلون " . وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقال: " طوبى له إن لم يكن عريفاً " . رواه أبو يعلي وإسناده حسن إن شاء الله تعالى. وعن المقدام بن معدى كرب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب على منكبيه ثم قال: " أفلحت يا قديم إن مت ولم تكن أميراً ولا كاتباً ولا عريفاً " . رواه أبو داود. وعن مودود بن الحارث بن يزيد بن كريب بن يزيد بن يوسف بن حارثة اليربوعي عن أبيه عن جده أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا رسول الله، إن رجلاً من تميم ذهب بمالي كله فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس عندي ما أعطيك ثم قال: هل تعرف على قومك أو لا أعرفك على أخوتك قلت: لا. قلت: أما إن العريف يدفع في النار دفعاً " . رواه الطبراني ومودود لا أعرفه.؟

وعن أبي سعيد وأبي هريرة - رضي الله عنهما - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليلتينَّ عليكم أمراء يقربون شرار الناس ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها فمن أدرك ذلك فلا يكونن عريفا ولا شرطيًّا ولا جابياً ولا خازناً " رواه ابن حبان في صحيحه. وهذه الأحاديث كلها أخذتها من الترغيب والترهيب.
؟

فصل
؟؟؟
في الغيرة
قال الله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن) الغيرة على ستة أنواع على كل نوع منها دليل من القرآن اختصرناه خشية التطويل: فالأول: غيرة على أفعال الأبدان أن يخدم بها لغير الله تعالى.
الثاني: غيره على أقوال اللسان أن يذكر بها غيره فلا يدعى إلا هو ولا يذكر إلا هو.
الثالث: غيرة على خواطر الجنان أن يخطر فيها غيره فلا يراقب إلا هو ولا يطلع عليها إلا هو.
الرابع: غيرة على هواجس الضمائر أن يوجد فيها غيره.
الخامس: غيرة على مكنون السرائر أن تحتوي على غيره؛ فلا تشتغل إلا به ولا تخلص إلا له.
السادس: غيرة على أسرار السرائر أن يطلع عليها غيره ولا تنكشف إلا عنه ولا تخلص إلا هو.
واعلم أن الغيرة كراهية مشاركة. ثم الغيرة على ضربين: غيرة الحق للعبد: وهو أن يصونه فلا يجعل للخلق على أفعاله وأقواله وأعماله وأنفاسه وإحساسه وأسراره وإضماره سبيلا.
وغيرة العبد للحق: وهو أن يختص في تعظيم حقوقه ويخلص في تصنيفه معرفته فلا يجعل للخلق في أحواله طريقا ولا نصيبا، ولا يقال: غار على الله لأن ذلك جهل، وترك دين وإنما يقال: غار لله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أحد أغير من الله جل جلاله ومن أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن " . وقال عليه السلام: " إن الله تعالى يغار وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم الله عليه " . قال معروف الكرخي - رحمة الله عليه - : علامة مقت الله تعالى للعبد أن تراه مشتغلاً بما لا يعنيه. وقال إسحاق بن إبراهيم: سمعت الفضيل بن عياض - رحمه الله تعالى - تسأله الجنة، وتأتي بما يكره، ما رأيت أقل نظراً منك! غيرة الحق أنه لا يرضى بمشاركة الغير مما هو حق له من طاعات عبده. قال إبراهيم بن أدهم: الغيرة أن يهاجر من سواه حتى يبلغ مقام الأنس ويقف بين الخوف والرجاء. وقيل: مرضت رابعة العدوية - رضي الله عنها - فقيل لها: ما سبب مرضك؟ قالت: نظرت إلى سواه فأدبني بالغيرة لعلي لا أعود. وقال أبو عبد الله الحصري: رأيت في البادية غلاماً أحنف وهو يمشي بجهد جهيد، وذلك طيب على قلبه فيما كان فيه من مشاهدة الأنس والوصال فقلت: يا ولدي كيف الطريق؟ فقال: هاهنا وأشار إلى السماء فقلت: كيف؟ فقال: الأكوان كلها حجاب في معرفة الملكوت قال: فوجدت قلبي مع كلامه فتمسكت بأطماري وأنا باك شاهق فقال: خُذْ عَنِّي فإنه غيور، أَهْلَك من أَهْلَك لنظرهم إلى الأغيار، وأضل من أضل لتهتكهم حجب الأسرار، ثم غاب عني فكأنه ملك وعظني وانصرف. فتب إلى الله، واحذر من غيرة الله، والزم قلبك الخوف والخوف من الاستدراج قال الله تعالى: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون).
فصل
في الفرار
قال الله تعالى:(ففروا إلى الله) الفارون على ثلاثة أصناف: وقد وصف الله تعالى كل واحد منهم بوصف.
فصنف منهم هم القاصدون إلى الفرار إلى الله تعالى وهم: التائبون النادمون.
الثاني: هم السالكون طرق الفرار إلى الله تعالى وهم: العارفون المعترفون.
والثالث: هم الواصلون إلى الله تعالى وهم: المتقون. واعلم أن الفرار على أنواع: الأول: فرار من الدنيا إلى المولى.
الثاني: فرار من الشيطان إلى المولى.
الثالث: فرار من النفس إلى المولى الرابع: فرار من الهوى إلى المولى الخامس: فرار من المنى إلى المولى السادس: فرار من القلب إلى المولى السابع: فرار من الله إلى الله.
وقال أبو العباس: الفرار أربعة: فرار من الخلق، وفرار من النفس، وفرار من القلب إلى الله، وفرار من الله إلى الله والكل يجمعه (ففروا). قال سهل بن عبد الله: ففروا إلى الله منه ومما سوى الله إلى الله.
قال سفيان: ففروا من الجهل بالله إلى العلم بالله.

قال يحيى بن معاذ: إلهنا أبداننا أسراء الدنيا، وقلوبنا أسراء الهوى ونحن بين ذلك مأخوذون بالأوامر والزواجر نتمنى الصفا ساعةً من الدهر، أو نفر إلى بابك بالإخلاص لحظة من عمرنا، فنكتب بالدموع قصة الخشوع، ونمد يد العبودية إلى عز الربوبية، ولا نقدر على ذلك، فها نحن واقفون موقف الاعتذار والاقتراف والاقتراب (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) فعليك يا أخي بالصدق مع الله تعالى فيما جمع مما ذكر وما سيذكر والصدق قوام العمل، والصدق مع الله حامل على ترك ما يكره الله تعالى، قال الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) والصادقون ثلاثة: صادق في أفعاله، وصادق في أقواله، وصادق في أحواله. فأما الصادق في أفعاله، فله ست علامات: إظهار التوبة، ودوام البكاء، وكثرة الخضوع، والمواظبة على الجهد، وصحة المراقبة، والمبادرة إلى الأوامر مع تجنب النواهي. والصادق في أحواله: له ست علامات: الزهد في الدنيا، والبذل إذا أنفق، والإيثار مع الضرورة، وحسن الخلق، وصحة التوكل، وقول الحق وعلمه. وأما الصادق في أقواله: فله ست علامات: الوقوف بين يدي الخوف، والرجاء، ورياضة النفس بالتقوى، واليقين، والقيام بالشكر، والصبر، ومراقبة الحياء، والإخلاص، والعمل بالتسليم، والرضا بحسن الأدب على بساط الانبساط. قال أبو عبد الله: وقد سئل ما أحسن ما توجه العبد به إلى الله؟ قال: الصدق وأقبحه الكذب. وكان يحيى بن معاذ يقول في محاسبته لنفسه: يا من خلفه الأجل وقُدّامَه الأمل لا ينجيك إلا صدق العمل. وقال أحمد بن حضرويه: من أراد أن يكون الله معه فلْيَلْزم الصدق، وهذا الكلام قاله المحققون - رضي الله عنا وعنهم ونفعنا بعلومهم.

بيان وطء المرأة في دبرها وهو من الكبائر:
قال الله تعالى: (ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم). وقال تعالى: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) والحرث: الماء يكون مكان الزرع. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الذي يأتي امرأة في دبرها: " هي اللوطية الصغرى " . وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً أو امرأة في الدبر " . رواه الترمذي وقال: حديث غريب. وقال صلى الله عليه وسلم: " من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها أو كاهناً فصدقه فقد كفر وقال: وقد بريء مما أنزل الله على محمد " رواه أبو داود والترمذي.
فصل
في معنى قوله (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنَّى شئتم)
أي مقبلات ومستدبرات، ومستلقيات يعني بذلك في موضع الولد وهذه الأحاديث نص في إباحة الحال والهيئات كلها إذا كان الحرث في موضع الزرع، وهو الفرج أي كيف شئتم من خلف ومن قدام باركة أو مستلقية، إن شاء مُجَبّية، وإن شاء غير مجبية، ذلك في صمام واحد، ويروى في سام واحد بالسين، قاله الترمذي. وروى النسائي عن أبي النضر أنه قال لنافع مولى ابن عمر: قد أكثر عليك القول إنك تقول عن ابن عمر إنه أفتى بأن يؤتى النساء في أدبارهن قال نافع: لقد كذبوا علي ولكن سأخبرك كيف كان الأمر، إن ابن عمر عرض على المصحف يوما وأنا عنده حتى بلغ (نساؤكم حرث لكم) قال نافع: هل تدري ما أمر هذه الآية؟ إنا كنا معشر قريش نجبي النساء، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن ما كنا نريد من نسائنا فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه وكان نساء الأنصار إنما يؤتين على جنوبهن فأنزل الله (نساؤكم حرث لكم). وعن جابر رضي الله عنه أن اليهود كانت تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها ثم حملت كان ولدها أحول فنزلت (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنَّى شئتم) زاد في رواية عن الترمذي: " يعني صماما واحداً " . رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: " من أتى النساء في أدبارهن والرجل فهو كافر " وعنه أيضاً: " ملعون الذي يأتي المرأة في دبرها " . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " استحيوا من الله فإن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن " .
بيان تحريم إتيان النساء في الحيض وإباحة الاستمتاع بهن فيما بين السرة
والركبة

قال الله تعالى: (ويسئلونك عن المحيض) (ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن) أي بالماء تغتسل كالغسل قال صلى الله عليه وسلم: " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " وأنعقد الإجماع على تحريم الوطء في الفرج وما تحت الفرج حرام أيضاً أي الدبر ومن استحلله كفر ومن جامع امرأته في الحيض حصلت له علة مؤلمة. قال الله تعالى: (ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى) فبين لهما الضرر الحاصل من جهته. وأما الكفارة والتعزير قال شيخنا رحمه الله: اعلم أن الوطء في الفرج أثناء الحيض حرام باتفاق العلماء وفاعل ذلك يأثم ويرتكب كبيرة، ويعزره الحاكم بما يراه في تعزيره زجراً ولا يلزمه حدّ ولا كفارة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: " مَن وطئ امرأة وهي حائض فقضى بينهما بولد وأصابه جُذام فلا يلومن إلا نفسه " .
ويجب عليه في المذهب القديم إن وطئ في حال ضعفه أن يتصدق بنصف دينار. وأما الاستمتاع بما بين السرة والركبة فيه وجهان أحدهما أنه حرام وهو الوطء فإن باشر فوق السرة وتحت الركبة جاز، وإن استمتع بنفس السرة والركبة قال النووي: المختار جوازه ويحرم أن ينام معها في لحاف واحد من غير استمتاع فيما بين السرة والركبة وهذا إذا كانت متزرة بإزار.
بيان تحريم مساحقةٍ النساء بعضهن بعضا:
وهي من الكبائر وهي إتيان المرأة المرأة. عن واثلة بن الأسقع قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " السحاق زِنا النساء بينهن " وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: " عورة المرأة على المرأة " كعورة الرجل على المرأة " وقال أيضاً: " لا تباشر المرأة المرأة إلا وهما زانيتان " وقال أيضاً: " ثلاثة لا يقبل الله منهم قول لا إ له إلا الله: الراكب والمركوب، والراكبة والمركوبة، والإمام الجائر " . وقال علي رضى الله عنه: " إذا استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء كان الخسف والمسخ والقذف من السماء " وقال عطاء: عن أبي هريرة رضى الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأتي على الناس زمان يتزوج فيه الغلمان وما يتزوج بالنساء ويتغايرون على الغلمان كما يتغايرون على النساء " . وفي هذه المعصية التعزيز بحسب ما يرتدع به فاعله.
قال الشيخ تقي الدين الحصني - رحمه الله - في شرح كتاب أبي شجاع: تساحق النساء للنساء حرام ويُعَزّرْن بذلك لأنه فعل محرم.
وقال القاضي أبو الطيب - رحمه الله - :وإثم ذلك كإثم الزنا لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان " وفي الخبر: أن المرأة إذا ركبت المرأة يأمر الله تعالى مَلَكا يضع لها سبعين جلبابا من نار ودرعاً من نار.

بيان التخنيث في الرجل وما يوجبه:
ومعنى التخنيث: تشبه الرجل بالمرأة في كلامها ولبسها وجميع أحوالها وهو من الكبائر موجب اللعن لتشبهه بالمرأة وكذلك تشبه المرأة بالرجل للحديث قال ابن عباس رضى الله عنه: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء " . وهو حديث صحيح. وقال أبو هريرة رضى الله عنه: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل " رواه أبو داود بإسناد صحيح وقال صلى الله عليه وسلم: " صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما: قومُ معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسياتُ عارياتُ مائلات مميلات رءوسهن كأسمنة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا " رواه مسلم في صحيحه.

" تنبيه " وقد عمت البلوى في زماننا هذا بما هو أشد من ذلك وهو أن المرأة تضع على رأسها شيئاً يقال له " الطاقية " و " القبعة " فيصير كالطبق أو كالصومعة وعلى رأس بعضهن شيء يشبه القرب الصغير وربما يلف على هذه الطواقي بمناديل حتى تصير كالعمامة فتدخل في التشبه بالرجال فيجرى عليها وعيد الحديث أيضاً ويحصل من ذلك قصر الإزار وتشميره عن العادة لعلو هذه المصيبة التي وضعتها فوق رأسها حتى أن ثيابها والخف واللباس ينكشف من تحت الإزار. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " كاسيات عاريات " : وقد اختلف في قوله: كاسيات عاريات: فقيل: كاسيات من نعم الله، عاريات من شكره. وقيل: يلبسن ثياباً رقاقاً تصف البشرة منهن. وقال صلى الله عليه وسلم: " ألا هلك الرجال حين أطاعوا النساء " . وقال سعيد بن المسيب - رحمه الله - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " أربع يمشون والله عليهم ساخط: المتشبهون من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال، ومن غشي بهيمة، ومن عمل عمل قوم لوط " . ويذكر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: " لعن رسول الله البيت الذي يدخله المخنثون " . وعنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم " لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء " . وقال: " أخرجوهم من بيوتكم فأخرجوهم فلاناً وفلاناً " . وقد نص أحمد وإسحاق رحمهما الله تعالى على نفي المخنث.
" تنبيه " في النهي عن معاشرة الأحداث والنظر إليهم قال أبو زكريا النووي في فتاويه: " مسألة " هل يحل النظر إلى الأمرد أم لا؟ ولو كان رجل يهوي المرد، وينفق عليهم من ماله، ويهون عيه إعطاؤه للواحد منهم جملة كثيرة، ويشق عليه إعطاؤه درهماً لفقير ذي عيال محتاج هل يحرم عليه اجتماعه هو وهم وإنفاقه على هذا الوجه؟ وهل إذا جمع بينهم يكون آثماً أم لا؟ وهل به تسقط عدالة من جمعهم وداوم على ذلك أم لا؟ وهل قال بإجازة ذلك أحد من العلماء أم لا؟ فالجواب: مجرد النظر إلى الأمرد الحسن حرام سواء كان بشهوة أو غيرها إلا إذا كان له حاجة شرعية كحاجة الشراء والتطيب والتعليم وغيرهم فيباح حينئذ قدر الحاجة وتحرم الزيادة قال الله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم). وقد نص رحمة الله تعالى عليه وغيره من العلماء رحمهم الله على تحريم النظر إليه من غير حاجة شرعية واحتجوا بالآية الكريمة، وأنه في معنى المرأة بل بعضهم أحسن من كثير من النساء ولأنه يمكن في حق المرأة ويتسهل من طريق الزينة والشر في حقه مالا يتسهل في حق المرأة فهو بالتحريم وأقاويل السلف في التنفير منهم والتحذير من رؤيتهم أكثر من أن تحصر، وسموهم " الأنتان " ؛ لأنهم مستقذرون شرعاً. وسواء كان ما ذكرناه نظر المنسوب إلى صلاح أو غيره. وأما الخلوة بالأمرد فأشد تحريما من النظر إليه لأنها أفحش وأقرب إلى الشر وسواء خلا به منسوب إلى صلاح أو غيره. وأما جمع المرد على الوجه المذكور فحرام على الجامع والحاضر وإنفاق المال في ذلك حرام شديد التحريم. ومن جمعهم وأصر فسق وردت شهادته وسقطت ولايته ويجب على ولي الأمرد - وفقه الله تعالى - أن يمنعهم من ذلك ويجب على كل مكلف علم حال هؤلاء أن ينكر عليهم بحسب قدرته ومن عجز عن الإنكار عليهم وأمكنه رفع حالهم إلى ولي الأمر لزمه ذلك ولم يقل أحد من العلماء رحمهم الله تعالى بإباحة ذلك على هذا الوجه.

فصل
في الرجاء والخوف

قال شيخنا في كتابه تحفة الأبرار: اعلم أن من هيأ شيئا رجاء حصوله سمى راجياً فكذلك من أطاع الله رجاء القبول أو تاب ورجا الغفران. وأما من داوم على التفريط ورجا عنه فإنه مغرور لا راج قال عليه السلام: " الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " . وأما الخوف فإنه توقع جناية، وينبغي لكل ذي حظية أن يكون خائفاً من العقوبة وقد يقع من السابقة ومن الخاثمة والمؤمن لابد له من الخوف. قال الدرامي: كل قلب ليس فيه مخافة فهو خراب وقد يقود الخوف إلى القلق والبكاء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل وقال عليه السلام: " لما أسرى بي رأيت جبريل عليه السلام كالحِلس البالي مُلقى من خشية الله تعالى " . وقد كان أبو بدر الصديق رضى الله عنه يقول: " ليتني شجرة تعضد لم تؤكل " . ولقد مر عمر رضى الله عنه بتبنه فقال: ليتني كنت هذه التبنة. وقال على يوم الجمل: " وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة " . وقال أبو عبيدة: " لوددت أي كنت كبشاً فذبحني أهلي وأكلوا لحمي وحسوا مرقي " . وقال ابن مسعود: " لو وقفت بين الجنة والنار فخيرت بينهما أو أكون ترابا، لأخترت أن أكون تراباً " . وقال عمران بن حصين: " ليتني كنت رمادا فتذروه الرياح " . وقالت عائشة رضى الله عنها: " ليتني كنت نسياً منسياً " . وخوف السلف وبكاؤهم مشهور. وقال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز كأن النار لم تخلق إلا لهما، وقال العارفون: يجب على العبد أن يكون في صحة بدنه خوفه ورجاؤه سواء، وفي حال مرضه يكون رجاؤه، وفي حال وقوعه في المعصية يكون خائفا فإنه أعون على دفع المعصية. واعلم يا أخي أن القلب إذا خلا من الخوف خرب، والخوف سوق يسوق ويعوق: يسوق إلى الطاعة، ويعوق عن المعصية. قال سيدي عبد العزيز الديريني: الخوف على معان: خوف النار، وخوف البوار، وخوف السابقة، وخوف الخاتمة. نسأل الله تعالى حسن الخاتمة.

فصل
في بيان المعاصي
قال الشيخ عبد العزيز رحمه الله: اعلم أن المعاصي على قسمين: ترك فريضة وفعل محرم.

وأولهما - معصية إبليس فإنها ترك فريضة. أمر بالسجود، فلم يسجد، ومعصية آدم نُهى عن أكل الشجرة فأكل. ثم تنقسم إلى ما - هو حق الله، وإلى ما هو حق الآدمي.ثم تنقسم من حيث أصولها إلى أربعة أقسام: ربوبية، وشيطانية، وبهيمية، وسبعية. فالربوبية: التشبه بأوصاف الرب سبحانه؛فمن تشبه بها من الخلق فتكبر، وتجبر، وطلب الرفعة، والعلو والثناء، والاستيلاء على الخلق، فقد نازع الربوبية حقها. والشيطانية: التشيه بالشيطان، ومن صفاته الحسد والبغي والحيلة والخداع والغش والنفاق والدعوة إلى المعاصي والبدع والضلال. والبهيمية: الشهوة والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج، ومنها تشعب الزنا والسرقة، وأكل مال اليتيم، وجمع الحرام لقضاء الأوطار. والسبعية: الغضب والحقد ومنها يتشعب الصلف والضرب وإيذاء الخلق. وأول ما يستوي على الإنسان البهيمية، فإذا كبر وتزايد فهمه دخلت عليه السبعية، فإذا قويت فكرته، ولم يوفق استعمل عقله في المكر والخداع والصفات الشيطانية، ثم يدخل علية منازعة الربوبية، قال الله عز وجل: (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار) انتهى كلام سيدي عبد العزيز. وقال ابن القيم: ذكر الإمام أحمد عن وهب: أن الرب تبارك وتعالى قال في بعض ما يقول لبني إسرائيل: " إني إذا أطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإذا عصيت غضبت وإذا غضبت لعنت ولعنتي تبلغ السابع من الولد " . وذكر أبو نعيم عن سالم بن أبي الجعد: ليجد امرؤ أن تلعنه قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر ثم قال: تدري بم هذا؟ قلت: لا قال:: إن العبد يخلو بمعاصي الله فيلقي الله بعضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر. وذكر أيضاً عن وكيع حدثنا زكريا بن عامر قال: كتبت عائشة - رضي الله عنها - إلى معاوية - رضي الله عنه - : أما بعد. . فإن العبد إذا عمل معصية عاد حامده من الناس ذامّاً. وذكر عبد الله ابن الإمام أحمد في كتابه الزهد لأبيه عن محمد بن سيرين أنه لما ركبه الدَّيْن اغتم لذلك فقال: إني لا أعرف هذا الغم بذنب أصبته قبل أربعين سنة. وههنا نكتة دقيقة يغلط فيها الناس في أمر الذنب وهي: أنهم لا يرون تأثيره في الحال وقد يتأخر تأثيره فُيْنسى، ويظن العبد أنه لا يغير بعد ذلك، وأن الأمر كما قال القائل:
إذا لم تغير حائطا في وقوعه ... فليس له بعد الوقوع غبار
وسبحان الله ماذا أهلكت هذه البلية من الخلق، وكم أزالت من نعمة، وكم جلبت من نقمة، وما أكثر المفترين بها فضلا عن الجهال! ولم يعلم أن الذنب ينقض ولو بعد حين، كما ينقض السم، وكما ينقض الجرح المندمل على الغش والدغل. انتهى كلام ابن قيم.

فصل
في حوادث حدثت زمان المؤلف

قال سيدي عبد العزيز الديريني - رحمه الله - في كتابه الروضة الأنيقة: باب في حوادث حدثت زماننا: اعلم أن الذي دعا إلى تصنيف هذا المختصر أن قوماً في هذا الزمان ابتدعوا طريقاً مخالفة لطريق القوم، وزعموا أن لهم فيها مقاصد صالحة فمنها: الخلوة بالنساء، والحديث معهن، وربما زاد بعضهم المعانقة، والقُبلة، والملامسة مع الأجانب، وسلك آخرون مع الشباب مثل ذلك، وهذا ما لا يخفى على ذي لبابة من حيل الشيطان ومكايده، ومن حبائله ومصايده، قال عز وجل مخاطبا لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم - مع مرتبتهم - في حق نساء النبي صلى الله عليه وسلم - مع رتبتهن وكونهن أمهات المؤمنين في الحرمة والتحريم بل أعظم منهن في الوقار والتعظيم - (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن)فمن ادعى أنه أقوى إيماناً من الصحابة، أو أن النساء اللاتي يخلو بهن أطهر قلوباً وأملك نفوساً من نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد عظم الافتراء، وأكثر الاجتراء في حديث الخلوة وحدها، فكيف بما زاد على ذلك. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معتكفا في رمضان فدخلت عنده زوجته حفصة بنت عمر فتحدثت عنده ساعة ثم خرجت فرأى رجلين في الطريق فقال: هي أمكما حفصة فقالا: سبحان الله يا رسول الله فقال: " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا " . فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف أن يوقع الشيطان في نفوس الناس أنه كان عنده امرأة أجنبية، فكيف يسلم غيره من أن يوقع الناس فيه؟! فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تخلون بامرأة ولو أقرأتموها القرآن " . وروى أن النساء اجتمعن عنده فطلبن أن يعاهدن باليد فقال: لا تمس يدي يد امرأة ولكن قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة فبايعهن بالكلام من غير ملامسة. وروي أنه لما طلبن " البركة " وضع يده في ماء ثم نقل إليهن فوضعن أيديهن فيه. فإذا كان سيد الأولين والآخرين يجتنب هذه الأمور وغيره يقتحم ما هو أعظم منها فكيف يخفى على عاقل قبح ما يتعاطون نسأل الله العافية بمنه وكرمه. وأعظم من ذلك إنكارهم على من يتجنب هذه القبائح وقولهم: " أنت ضعيف القلب " . وليس ضعيف إلا إيمانهم. وقولهم: " الفقير لا يفيده شيء " فهذا باطل فإن المحرمات لا تختص بواحد دون واحد، فإن قصدوا أن الفقير لا يقع في معصية فقد كذبوا فإن هذه الأشياء في نفسها معاصي، فكيف يقال لمن عصى أنه لم يعص، وإن قصدوا بالتغيير أن نعم الله عليه أو توالى الأنوار والكشف لديه فهذا غلط عظيم، فإن الفتوحات والكرامات وطيب الأوقات إنما تكون علامة للقرب إذا كان صاحبها مستقيما على طريق التحقيق، فأما ظهورها مع التخليط ومخالفة الشرع فإنه علامة مكر واستدراج كما قال تعالى: (وسنستدرجهم من حيث لا يعلمون) وأما قولهم: إن من النساء والشباب من له قصد في تحصيل علم أو أدب، فلو أن الناس كلهم يتجنبون عِشْرة النساء والشباب لم يُحَصِّل أحدهم علما ولا أدبا، فالجواب أن التعليم والتأديب يختص بالعلماء العارفين فكيف يقصد تعليم الغير من لا علم عنده ولا معرفة، وهذه مرتبة عظيمة ولا تصلح إلا للراسخين في العلم والمعرفة، ثم إن من يصلح لهذا لا يحل له أن يزيد في الاجتماع بالنساء والشباب على ما تدعو إليه الحاجة وهو أن الاجتماع لا يكون في خلوة، ولا مع انبساط ولا مرح بل لا يتكلم إلا في جد وحزم وموعظة وعلم ولا يلح النظر وإن قدر لم ينظر أصلاً، فقد رأيت بعض مشايخنا العلماء العارفين عود نفسه غض بصره عن الرجال، وصار ذلك عادة له لا يتكلفها مع النساء، ولقد كان بينه وبين نساء عندنا قرابة، فكان يزورهن لصلة الرحم، وأنا معه فيقف على باب الدار حتى تخرج إليه المرأة، فيسلم عليها من بعيد، ويغض بصره، وينصرف فكيف يسلم من يدخل بيوت أزواجهن من غير إذن، ويأكل طعامهم، ثم ينبسط، ويخرج ويفتح عينيه ويمد يديه، وربما زاد فوق هذا، وقد ورد في الصحيح: " العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع، واليدان زناهما اللمس " وهذه الأفعال كلها من الزنا وهل يحل الزنا بنية صالحة؟ وهل تعتبر النيات في المحرمات؟ والحديث إنما ورد في المباحات والطاعات فإن المباح إذا كان بنية صالحة صار طاعة، والطاعة إذا لم يكن فيها إخلاص بنية لله فهي رياء فهذا معنى قول

النبيي صلى الله عليه وسلم: " الأعمال بالنيات " فأما المحرمات فإنها معاصي وإذا نوي بها نية حسنة كان جاهلاً فاسقاً.لى الله عليه وسلم: " الأعمال بالنيات " فأما المحرمات فإنها معاصي وإذا نوي بها نية حسنة كان جاهلاً فاسقاً.

فصل
في مزاعم باطلة
وقد زاد قوم فزعموا أن اجتماعهم بالنساء والشباب، وتعاطي هذه الأمور مما يحصل به البركة، وأن قرب المرأة والشباب من الرجل الصالح سبب لحياة القلب، فإن النور يسري من القلب إلى القلب، وأشباه هذه الزخارف الباطلة! فهؤلاء فرقة تشبهوا بالشياطين فإن الشيطان يسول للمحال بأمور محرمة ويزينها بصور باطلة فهذه حيلة فسق، وحيلة مكر، وخديعة كذب، فليت هؤلاء حيث وقعوا في هذه القبائح لم يضيفوا إليها ما هو أقبح منها؛ فإن العرف المعترف بمعصيته أخف إثما، وأقل جُرما، ويجب على من له امرأة أن يردع هؤلاء بالتعزير الشافي، والزجر الكافي، وإذا لم يقدر على ذلك. فَلْيَنْهَهُم نهياً كافياً، فإن لم يقبلوا وجب الإنكار عليهم بالقلب كما قال تعالى: (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويُلْهِهم الأمل فسوف يعلمون) انتهى.
فصل
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال الله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون).
فأمر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية نصاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأثنى في أية أخرى على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر فقال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) وقال في الآية التي وصف بها المؤمنين: (الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر) وفي الحديث: " لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، وليأخذن على الظالم، وليطرأ به على الحق إطراء، وليقصر به على الحق قصراً، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم بعضا على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم " رواه أبو داود. وفي الحديث أيضاً: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان " . وعن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ليوشكن أن يبعث عليكم عقابا ثم تدعونه فلا يستجيب لكم " . فثبت الكتاب والسنة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأحاديث في ذلك كثيرة. وقال العلماء: إن الله تعالى جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين لأن الله تعالى قال: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المنكر) وقال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر).
فثبت بذلك أن أخص أقوال المؤمنين وأقواها دلالة على صحة عقدهم، وسلامة سرائرهم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم إن ذلك ليس مما يليق بكل واحد، ولا يجب على كل أحد، وإنما هو من الفروض التي ينبغي أن يقوم بها السلطان للمسلمين إذا كانت إقامة الحدود إليه، والتعزير موكول إلى رأيه، فينصب في كل بلد وفي كل قرية رجلا صالحاً قوياً إيماناً، عالماً وأن يأمره بمراعاة الأحوال التي تجري فلا يرى ولا يسمع منكراً إلا غيره، ولا يبقي معروفاً محتاجاً إلى الأمر به إلا أمر به، وكلما وجب على فاسق حدٌّ أقامه، ولم يعطله فإنه لا شيء أزرى على المفسدين من إقامة حد الله عليهم، ولا يتعدى المشروع بالذي شرعه أعلم بطريق سياستهم وكل من كان من علماء المسلمين الذين يجمعون بين فضل العلم، وصلاح المسلمين الذين يجمعون بين فضل العلم وصلاح العمل، فعليه أن يدعو إلى المعروف ويزجر عن المنكر، فإن كان يطيق إبطال المنكر ودفعه وردع المتقاضي له عند فعله فإن كان لا يطيق بنفسه، ويطيقه فإن ذلك إلى السلطان دون غيره، وإن كان لا يطيق إلا القول فعليه الأمر باللسان وإن لم يستطع إلا الإنكار بالقلب أنكره، والأمر بالمعروف في هذا مثل النهي عن المنكر إن اتسع للعالم المصلح أن يدعو إليه ويأمر به فعل، وإن لم يقدر إلا على القول.
من يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

قال الإمام الحليمي: وينبغي أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مميزا، يرفق في موضع الرفق، ويعنف في موضع العنف، ويكلم كل طبقة من الناس بما يعلم لأنه أليق بهم، وأسمع فيهم، وأن يكون غير محابٍ، ولا مداهن، وأن يُصلح نفسه أولا، ويقومها، ثم يقبل على إصلاح غيره وتقويمه قال الله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم). وعن محمد بن النضر قال: ذُكر رجل عند الربيع بن خثيم قال: ما أنا عن نفسي براضٍ فأتفرغ من ذمها إلى ذم غيرها إن العباد خافوا الله على ذنوب غيرهم وأمنوه على ذنوب أنفسهم.ٍ

السلطان الذي يتعاطى الفواحش ووظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال الحليمي: والسلطان الذي يتعاطى الفواحش يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ لأن السلطنة على هذا؛ فلو انقبضت عنه لم يكن سلطانا وليس من دونه في هذا بمثله؛ لأن القيام بهذا الأمر إنما يعتزله عن إمساك السلطان عنه لعلمه وصلاحه، فإذا اختار صلاحه فقد صار مستحقا للتغيير فلا يكون مع ذلك مغيراً على غيره. وفي البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: يا رسول الله، والله لأن تأمرن بالمعروف، وتنهين عن المنكر حتى لا يبقى من المعروف شيء إلا أمرتنا به، ولا يبقى من المنكر شيء إلا نهيتنا عنه، لا نأمر أحداً بمعروف ولا ننهى عن منكر، قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله " . قال الحسن البصري: يريد أن لا يظفر الشيطان منكم بهذه الخصلة وهو أن لا تأمروا بالمعروف حتى يأتوا به كله، يعني أن هذا يؤدي إلى حسم باب الحسبة فمن الذي يعصم عن المعاصي. عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه جاءه رجل فقال: يا بن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر قال: أو بلغت ذلك؟ قال: أرجو. قال: فإن لم تحسن أن تفتتح بثلاثة أحرف من كتاب الله عز وجل: (أتأمرون الناس بالبر) الآية احتكمت هذه الآية؟ قال: لا قال: فالحرف الثاني قوله تعالى: (لم تقولون مالا تفعلون)الآية احتكمت هذه الآية؟ قال: لا قال: فالحرف الثالث قال: قول العبد الصالح: (وما أريد أن أخافكم إلى ما أنهاكم عنه) احتكمت هذه الآية؟ قال: لا قال: فابدأ بنفسك!
بيان من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الفساد
عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مثل الواقع في حدود الله، والمداهن فيها كمثل قوم استهموا في سفينة فأصاب بعضهم سفل وأصاب بعضهم علو فكان الذين في السفل يستقون للذين في العلو، فيمرون عليهم فيؤذونهم فقال الذين في العلو: آذيتمونا تصبون علينا الماء فأخذوا فأساً فجعلوا يحفرون بالسفينة فقال الذين في العلو: ما تصنعون؟! فإن تركوهم وما يرون غرقوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً " أخرجه البخاري في صحيحه. وأخرج البيهقي عن أبي أمامة فال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " . وله عن أبي ذر وفيه " فأوصاني أن أقول الحق ولو كان مرا " . وعن حذيفة قال: " الإسلام ثمانية أسهم: فالإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، وصوم رمضان سهم، والحج سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له " . وعن جابر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أوحى الله إلى جبريل عليه السلام أن اقلب مدينة كذا وكذا بأهلها قال: فقال: يا رب إن منهم عبدك فلاناً لم يعصك طرفة عين قال: اقلبها عليه وعليهم فإن وجهه لم يتمعر في ساعة قط " . وعن مالك بن فضالة قال: اصطلحنا على حب الدنيا فلا يأمر بعضُنا بعضا، ولا ينهي بعضُنا بعضاً ولا يذر ذا لله - عز وجل - على هذا فليت شعري أي عذاب ينزل! وعن ابن عباس في قوله تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) قال: " يدفع بمن يصلي عمن لا يصلي، وبمن يحج عمن لا يحج، وبمن يزكي عمن لا يزكي " . وعن بلال بن سعد قال: " إن المعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أعلنت فلم تغير أضرت بالعامة " . وقال: " إن من غفلتك عن نفسك وإعراضك عن الله تعالى أن ترى ما يسخط الله فتتجاوزه لا تأمر فيه ولا تنهى خوفا مما لا يملك لك ضرا ولا نفعا " . وقال: " من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخافة المخلوقين نزعت منه الطاعة، ولو أمر ولده أو بعض مواليه لا يستخف بحقه " .
فصل
في الرّدّ على من قال: إن هذه الأمة فيها خطاب بعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على غيره ولا عليه إلا من نفسه، ولا يأمر غيره.

قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته: أيها الناس، إنكم تقرءون الآية وتتأولونها خلاف تأويلها (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من قوم عملوا المعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم ولم يفعل أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده " . وقالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عُذّبَ أهلُ قرية فيها ثمانية عشر ألفاً أعمالهم كأعمال الأنبياء قالوا: يا رسول الله كيف ذلك؟ قال: لم يكونوا يغضبون لله - عز وجل - ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر " . وقال الغزالي - رحمه الله - : كل من شاهد منكراً ولم تغيره ولم ينكره وسكت عنه فهو شريك فيه، فالمستمع شريك المغتاب، ويجري هذا في جميع المعاصي، حتى في مجالسة من يلبس الديباج، ويتختم بالذهب ويجلس على حرير، والجلوس في دار أو في حمام على حيطانها صور أو فيها أواني من ذهب أو فضة، والجلوس في مسجد يسيء الناس الصلاة فيه فلا يتمون الركوع والسجود، والجلوس في مجلس وعظ يجري فيه ذكر البدعة، أو في مجلس مناظرة أو مجادلة يجري فيها الإيذاء والإفحاش بالسفه والشتم. وبالجملة من خالط الناس كثرت معاصيه وإن كان تقياً في نفسه إلا أن يترك المداهنة لا تأخذه في الله لومة لائم، ويشتغل بالحسنة والمنع من المنكر وإنما عنه يسقط الوجوب بأحد أمرين: أحدهما: أن يعلم أنه إن أنكر لم يلتفت إليه ولم يترك المنكر، ونظر إليه بعين الاستهزاء وهو الغالب في منكرات يرتكبها الفقهاء، ومن يزعم أنه من أهل الدين فههنا يجوز السكوت، ولكن يستحب الزجر باللسان إظهاراً لشعائر الدين مما لم يقدر على غير الزجر باللسان، ويجب أن يفارق ذلك الموضع، فليس يجوز مشاهدة المعصية بالاختبار فمن جلس في مجلس الشرب فهو فاسق، وإن لم يشرب، ومن جالس مغتاباً أو لابس حريراً أو آكل ربا أو حرام فهو فاسق فليقم من موضعه. الثاني: أن يعلم أنه يقدر على المنع من المنكر بأن يرى زجاجة فيها خمر فيرميها فيكسرها، أو يسكب آلة الملاهي من يد صاحبها ويضربها على الأرض ولكن يعلم أنه يُضْرَب أو يصاب بمكروه فههنا يستحب الحِسْبَة لقوله تعالى: (وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك).ولا يجب إلا أن المكروه الذي يصيبه له درجات كثيرة يطول النظر فيها ذكرها الغزالي في الإحياء في كتاب الأمر بالمعروف. وعلى الجملة فلا يسقط الوجوب إلا بمكروه في بدنه بالضرب، أو في ماله بالاستهلاك، أو في وجاهه بالاستخفاف به بوجه يقدح في مرؤته. فأما خوف إفحاش المنكر عليه، وخوف تعرضه له باللسان، وعداوته له؛ أو يوهم سعيه في المستقبل بما يسوءه، ويحول بينه وبين زيادة خير ينتظرها؛ فكل ذلك موهومات وأمور ضعيفة لا يسقط الوجوب بها. واعلم أن عمدة الحسبة شيئان: أحدهما: اللطف والرفق والبداية بالوعظ على سبيل الدين لا على سبيل العنف والترفع والإدلال بدالة الصلاح فإن ذلك يؤكد داعية المعصية، ويحمل المعاصي على المناكرة وعلى الإيذاء، ثم إذا أذاه ولم يكن حسن الخلق غضب لنفسه، ويرد الإنكار لله - عز وجل - واشتغل بشفاء غليله منه فيصير عاصياً، بل ينبغي أن يكون كارهاً للحسبة يود لو ترك العاصي المعصية بقول غيره، فإذا أحب أن يكون هو المعترض كان ذلك لما في نفسه من حالة الاحتساب وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن منكر إلا رفيق فيما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، حليم فيما يأمر به، حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به، فقيه فيما ينهى عنه " . ووعظ المأمون واعظ بعنف فقال: يا رجل؛ ارفق فقد بعث من هو خير منك إلى من هو شر مني فأمره بالرفق فقال تعالى: (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى). وروى أبو أمامة أن غلاما شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتأذن لي في الزنا؟ فصاح الناس به فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أقروه ادن مني؛ فدنا منه فقال صلى الله عليه وسلم: أتحبه لأمك؟ قال: ل - جعلني الله فداك - قال: كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: أتحبه لابنتك؟ قال: لا. قال: كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، حتى ذكر له الأخت، والعمة، والخالة، ويقول وكذلك الناس لا يحبونه ثم وضع يده على صدره ثم قال: اللهم طهره واغفر ذنبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك

شيء أبغض إليه من الزنا " . وقال بعضهم للفضيل: إن سفيان بن عيينة قبل جوائز السلطان فقال: ما أخذ منهم إلا دون حقه ثم خلا به وعاتبه بالرفق فقال: يا أبا علي إن لم تكن من الصالحين فإنا نحب الصالحين. والعمدة الثانية: أن يكون المحتسب قد بدأ بنفسه فهذبها وترك ما ينهى عنه أولا، قال الحسن البصري رحمه الله: إذا كنت تأمر بالمعروف فكن من أجدى الناس به وإلا هلكت. هذا هو الأولى حتى ينفع كلامه وإلا استهزئ به، وليس هذا شكاً بل يجوز الاحتساب للعاصي أيضاً.ء أبغض إليه من الزنا " . وقال بعضهم للفضيل: إن سفيان بن عيينة قبل جوائز السلطان فقال: ما أخذ منهم إلا دون حقه ثم خلا به وعاتبه بالرفق فقال: يا أبا علي إن لم تكن من الصالحين فإنا نحب الصالحين. والعمدة الثانية: أن يكون المحتسب قد بدأ بنفسه فهذبها وترك ما ينهى عنه أولا، قال الحسن البصري رحمه الله: إذا كنت تأمر بالمعروف فكن من أجدى الناس به وإلا هلكت. هذا هو الأولى حتى ينفع كلامه وإلا استهزئ به، وليس هذا شكاً بل يجوز الاحتساب للعاصي أيضاً.

بيان ضرر من يأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ولا ينتهي
عن أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار فيقولون يا فلان، مالك؟ ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر! فيقول: بلى قد كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه " . وخرج البيهقي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المؤمنون بعضهم لبعض نصيحة يوادون عن افترقت منازلهم وأبدانهم والفجرة بعضهم لبعض غششة متخاذلون وإن اجتمعت منازلهم وأبدانهم " .
" تنبيهات " الأول: ينبغي للآمر بالمعروف أن يكون عالماً بخلاف العلماء فيما يأمر به وينهي عنه. الثاني: إذا كان لا يقدر إلا بالقلب فليقل عنده إنكاره اللهم إن هذا منكر لا أرضاه ثلاثا، وليدع له عند ذلك بالتوبة، ويعرض عنه وجهه إنكاراً على فعله لا زجراً وانتقاما فاحذر ذلك؛ فقد قال الشيخ أبو الحسن - رحمه الله - : أكرموا المؤمنين وإن كانوا فسقة عصاة، وأْمروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر واهجروهم رحمة بهم. لا تُقَدّرُوا عليهم.

وقال رضي الله عنه: لو كشف عن نور المؤمن العاصي لطبق ما بين السماء والأرض فما ظنك بنور المؤمن المطيع. " تنبيه " وَأْمن يأأيها الأحمق، ويأأيها الجاهل، والفاجر، والسفيه من القيام لنفسك في وجه الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والصولة عليه والغضب، لتضر نفسك، أو تتغير فيك جارحة تكون منافقاً بذلك جاحداً للأمر والنهي، بل تكون جباراً عنيداً، فإنك تقايس نفسك بنفسه فتجحد أمره ولا تعلم أنه فاسد لك في الأمر والنهي عن الله ورسوله بل تعرف له حقه في الحرمة والوقار والخضوع، والتذلل بين يديه وقبول أمره بالسمع والطاعة، بل تسرع إلى التوبة النصوح والرجوع إلى الله والندم ومتى فعلت بخلاف ذلك وقع بك المقت ولم تجد لك ولياً ولا نصيراً وتعلم أن الله ولى القائم بالحق، الآمر، الناهي عن الباطل وناصره لقوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم) فيجب عليك أن تعرف له حقه في وقت الأمر، وتستدرك فارطك في الساعة التى يأمرك مخافة أن يريك الشيطان بالغضب على من يأمرك، واعرف قدر منزلته فإن له حرمة القيام عن الله وعن رسوله وحرمة الغيرة لله،والغضب له، وهذه حرمات لا يعقل لها إلا من يريد الله له الخير،والرجوع إليه ألاترى إلى من يكون واقفاً بباب السلطان أو بباب والى بلدك، وأمرك بشيء لا يتعلق بالدين، بل بأمر الدنيا إما أن يأخذ مالك، أو يضرك في ولدك، أو عيالك هل تقدر على مخالفته، أو تقدر أن تجحد أمره، ونهيه؟! فكيف بمن يتكلم عن لسان الرسول الأعظم، وعن أمر ملك الملوك؟! كيف يقدر على المخالفة وما ذاك إلا لعظم غفلتك عن الله وعظم بليتك! فانظر إلى حرمة مخلوق، وإلى سرعة إجابتك له بالسمع والطاعة، وانظر إلى مخالفتك لمن يتكلم عن ملك الملوك وصولتك عليه، وجحودك لأمره ونهيه فاحذر من كثافة نفسك، وغفلة قلبك، واعرف حقوق من يقوم لله ولرسوله، ولولا ذلك لوقع البلاء بالخلق أى لولا القائم لله والأمر والنهي والنصح للخلق والموعظة لهم، ووصية بعضهم بعضاً لحل بهم مالا يعلمه إلا الله فنسأل الله العفو والعافية وأن يوفقنا لطاعته وأن يجنبنا معصيته إنه ولي التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبته وسلم.

فصل
فيما ينبغي في مجلس الوعظ
ينبغي ألا يخلو مجلس الوعظ من الزجر عن المعاصي. قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي: وما فيه زجر عن المعاصي ولقد تأملت هذا على نفسي فرأيت كثيراً من مجالسي كانت تمضي بين تفسير آية، وذكر خبر وحكايات الصالحين، وأهوال القيامة، وكل ذلك حسن غير أني لسلامة صدري كنت لا اعتقد في المسلمين كثرة الذنوب! والفواحش ولا أكاد أجري تحريم الزنا، ونحو ذلك فتفكرت فرأيت الأولى أن يكون جمهور المجلس في هذا فإن أكثرهم عوام، وهذه العلل فاشية فيهم، فماذا ينفعهم في قيام " سَرِىّ " طول الليل، وجوع " بِشْر الحافي " وزهد " مالك بن دينار " ، وإن كان في ذكر ذلك نوع توبيخ للمفرطين، ولكن الأهم أن ينبغي أن يسلك فيكون عموم المجلس على التخويف في عواقب الذنوب والتشديد في النهي عنها فلا يخلو مجلس من شارب خمرٍ، ومعامل بالربا، وحريص على الزنا ثم نذكر شرطاً منه أيضاً في المراعاة للواجبات من أركان الصلاة والزكاة وغير ذلك، ثم يشار في الأخير إلى أحوال الصالحين لكل قوم مشروب، فإذا تقرر هذا يجب عليه أن يجتنب الرياسة ويحسن إلى زوجته وأولاده في توسيع الرزق فإن توسيع الرزق يزيد في العمر، ويصل الرحم، فإن الرحم تتعلق بالعرش، وتقول " أنا الرحم من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله " . وفي رواية: شجنة من الرحمن فقال الله عز وجل: " لأصلَنّ من وصلك ولأقطعن من قطعك " . فعليك بتغيير ما تنكر، وإنكار ما يُوجب الإنكار.
طريق العالم في تغيير المنكر:

واعلم أن طريق العالم في تغيير المنكر أن يتكلم في ذلك مما علمه الله طريق الموعظة في مجالسه أو عن المجالس فيذكر الحكم، فإن سمع منه ورجع حصل المراد وأشرك قوله قلبه وكان قد أقام عند الله عذره، وقام بما وجب عليه ويسلم أيضاً من الآفة العظيمة التي عليه في عدم الكلام؛ فإنه قد ورد " أن يوم القيامة يتعلق الرجل بالرجل ولا يعرفه فيقول: ما بالك ما رأيتك فيقول له: بلى رأيتني يوما على منكر فلم تنهني عنه " وهذا أمر خطر قبل أن تقع السلامة منه وبالكلام ينجو من هذا الخطر وإنما يتركها مع رؤيتها لاستئناس النفوس بذلك وذلك أهلك من مضى من الأمم وقد ورد " أن موسى عليه السلام مر على قرية وقد أهلكها الله تعالى فقال: يا رب كيف أهلكتهم وكنت أعرف فيهم رجلا صالحا فأوحى الله تعالى إليه يا موسى: " إنه لم يغَرْ لي " . فأفاد لنا هذا الخبر أنه لو غير عليهم ما هلك، ولا هلكوا والحكم في ذلك أنه مأجور بالتغيير عليهم والإنكار كما أنت مأمورون بترك ما أحدثوا فلما أن وقعوا في المخافة وسكت هو كان وقوعا منه فيما هم فيه لأنه ارتكب ما نهى عنه من السكوت عند رؤية المخالفة فاستوى معهم في ارتكاب المنهي عنه فلم يكن في القرية إذ ذاك من يرفع البلاء عنهم إذا نزل بهم لآن العذاب إنما يرفعه الامتثال، ولم يكن ثم إذ ذاك ممتثل، فحصل ما حصل وهاهو اليوم لاشك فيه ولا خفاء في وقوع هذا الأمر لوقوع ما يقع وسكوت علمائنا في الجمع فلا يتكلمون عند رؤيته ولا يحضون في مجالس علمهم على تركه فلاشك أن نزول موجبات العذاب كلها متواترة عندي في الغالب إلا من عصمه الله تعالى.

فصل
في أمور يتساهل فيها الناس ويأتي منها البلاء
ومن الناس من يتساهل في أمور:
دخول الصبية البيوت
منها أن الصبي يدخل بيوت بعضهم لقضاء حوائجهم، ويأكل ويشرب معهم من نسائه وبناته إلى أ، تطلع ذقنه، وهو على تلك الحالة فيقول له من عنده علم: إن دخول هذا الشاب البالغ عليكم صار حراماً! فيقول الرجل والمرأة: إن هذا تربى عندنا وبين أولادنا وهو كواحد منهم، ولم نعلم به إلا خيراً، ولم ينكروا هذه المصيبة العظيمة!
دخول أبناء الحي وأبناء الجيران!
وكذا إذا كان هناك شاب يدخل عليهم ويقول: إنه أبن حَيِّنَا، وابن جيراننا ولم ينكروا ذلك. وأكثر ما يقع الفساد من هذه المصيبة.
إرسال الفقيه المعلم بعض الصبية إلى بيته:
وكذا الفقيه المعلم يرسل بعض صبيانه إلى بيته لقضاء حاجته يدخل على زوجته وبناته ويستمر على ذلك إلى حين يبلغ ولم يمنعه.
إرسال البالغين إلى البيوت!
ومنهم: من يرسل البالغ لقلة علمه، وهذا جهل عظيم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ما يترتب على عدم الامتثال:
فاعلم أن عدم الامتثال يتطرق منه الفساد بدخول الأجانب على الأجانب، تارة يكون ذلك باختيار الرجل، وتارة يكون باختيار زوجته.
إدخال الأخ على الزوجة!
ومن الناس من يدخل أخاه على زوجته ويقول: إنه أخي فلا تستحي منه.
من يدير صنعته في بيته!
ومن الناسي من يكون ذا صنعة كالحائك والخياط وما أشبه ذلك يعمل صنعته في داره، وصُناعه وصبيانه يعملون عنده فتدخل زوجته عليهم بحضرته وتكلم الصناع، وتخاطبهم، وتباسطهم ويباسطونها ولا ينكرون التحريم في النظر، ولا في الكلام، وربما غاب المعلم في حاجته في السوق، وأمر زوجته أن تعمل للصانع ما يحتاج إليه من " تدوير " الغزل، أو ما يحتاج إليه، ولا ينكرون ذلك! وصار ذلك عادة وتقع المؤانسة والمحبة بين الأجانب بهذه العادة الخبيثة، ويتكرر الكلام بينهم والمزاح حتى يذهب منهم الحياء، وهذا من عدم المروءات.
إدخال الخدم والزارعين والحراثين:
ومنهم من يدخل داره ناساً من خدمه وخوله ومزارعين وحراثين وبذارين ومن يحمل علف الدواب، وعزاقين من أحرار وعبيد على عياله وبناته وأهله وجواره وهم لهن أجانب لإخراج آلة العلف والعليق ونحو ذلك مما هم فيه محتاجون إليه ويطلعون على أهله وعياله ولا يستترون منهم وربما تحدث بعضهم مع بعض وصار ذلك عادةً بينهم، ولا يرون ذلك محرماً، ولا ينكرون ذلك، وقل من يمتنع من دخولهم إلا من غيرة على أهله،أو عنده خوف من الله تعالى نسأل الله العافية.
فصل
في سؤالات سألها بعض الفقراء في أمور ابتدعها جماعة من المسلمين

السؤال الأول: ما قول السادة العلماء أئمة الدين وعلماء المسلمين في جماعة من المسلمين أباحوا النظر إلى وجه الأمرد الجميل، ويشترونه بشيء كثير، ويعطون ثمنه لمشايخهم، ويخلون به مع الرجل الأجنبي، فمنهم من يدسه تحت كسائه، ومنهم من يدسه معه في ثوبه ويشرشحه الرجل الأجنبي وهو أن يجعل صدر الأمرد الجميل على صدره ويهزه فيركض قلبه كما يركض الطائر الحمام. وإذا عزموا على رجل غريب أمروه يغسل يديه قبل وضعها في الإناء، فإن مسحها في أثواب بدنه فروا عنهم بأجمعهم، وإن وقعت منه لقمة قالوا له: صارت نجسة، ولا يصلون خلف إمام غريب ولو كان إمام مكة والمدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام أو البيت المقدس، ولا يسلمون له ولا يقتدون بأفعاله، ويقولون: للرجل: إذا سب الرجل الإمام أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وتاب هل تقبل توبته؟ فإن قال: نعم تقبل يقتلونه وإن مات عندهم رجل غريب لم يحضروا له جنازة. ولا يزوجون أحدا من غير جنسهم ومتى زوج الرجل رجلاً غريباً قال له مشايخهم: أتزوج فلاناً؟! فيعتزلونه ويمنعون عنه أولاده حتى يرضى عليه المشايخ فهل يطلق على هؤلاء بدْعِيّ؛ ويجب هجرهم، ولا يجوز النظر لوجوههم، ولا تحل معاملتهم؟ وماذا يجب عليهم شرعا؟ وماحكم الله تعالى عندكم في ذلك؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله! الجواب: استحلال ما ذكر أعلاه كفر فإن تابوا وإلا قتلوا. ومسح الرجل يده في ثوبه ليس يحرم. ووقوع اللقمة لا تصير نجسة بل يستحب أكلها. وتوبة الشباب مقبولة، وقتلهم لمن قال إنها مقبولة حرام فإن استحلوا ذلك قتلوا، وهؤلاء أهل بدعة وضلال يجب على ولي الأمر نصرة الله تعالى، ونصر أهل الدين. وإعانة على القيام بمصالح المسلمين الكشف عن هؤلاء الضُلال المبتدعين وأشباههم فإن تابوا وإلا قتلهم بالطريق الشرعي والحالة هذه والله أعلم بالصواب أفتى به الشيخ العلامة شمس الدين بن الإمام أبقاه الله تعالى في خير وسلامة وأفتى وكتبه بيده.

جواب آخر عن الأسئلة السابقة:
قال الشيخ الإمام العلامة أبو عبد الله شمس الدين محمد بن الإمام الشاذلي، ثم قال الشيخ شهاب الدين أحمد بن نصر البغدادي عن هذا السؤال بجواب آخر: أما فعلهم المذكور في الأمرد فهو أقبح القبائح، وأفحش الفواحش، ويجب مقاتلتهم على ذلك بما يلزمهم فيه من حدود وتعزير يليق بهم شرعاً ويردعهم عُرفاً وطَبعا. وأما عدم صلاتهم خلف غيرهم فهو ينافيهم على ما هم فيه من بدعتهم الوضيعة وضلالتهم الشنيعة: إن من خالفهم لاتصح صلاتهم وراءه، وقد كان السلف - رضى الله عنهم - يقع بينهم الخلاف البالغ في كثير من الفروع ولم يكن أحد منهم يمتنع عن الصلاة خلف من خالفه في اعتقاده فإن كلمة الإسلام شاملة لهم.واعتقاد هؤلاء بنجاسة اللقمة التي من جملة جهلهم وضلالتهم. وكذلك اعتقادهم في عدم توبة سبّاب أحد الشيخين - رضى الله عنهما - فهو خلاف ما عليه جمهور المسلمين صحيحة بالنسبة إلى حق الله تعالى. وأما حق المظلوم فهو وإن قيلّ لا يسقط بالتوبة فأنه يكون من أحكام الآخرة، بل تجوز مقاطعة التائب من مظالم الخلق بعد صدقه في توبته لعجزه عن إرضاء خصم فإن الله تعالى أمر بإنظار المعسر لعسرته فكذلك كل عليه حق يعجز عن أدائه وهو معذور ولا يكون قادحاً فيه إذا علم منه الصدق في توبته وإخلاص نيته قلما نعتد هذه الطائفة في دليل على فرط جهلهم، وتمكن الشيطان من نواصيهم ويجب على ولي الأمر - وفقه الله تعالى - زجرهم عن هذه البدعة وردعهم عنها بما يليق بهم شرعاً ويردعهم عرفا وطبعا والله أعلم بالصواب.
سؤال حول الأمرد أيضاً!
ما قول السادة العلماء أئمة الدين وعلماء المسلمين في جماعة من المسلمين أباحوا النظر إلى وجه الأمرد الجميل، والخلوة به والمعانقة له، وشراءهم الصبي بثمن ليتخذونه خِذْنَّا، ويُسمونه " َشْرشوحاً " أو " بداية " ومنهم فرقة لم يصلوا خلف إمام إلا من يعرفون أباه وجدّه ويقولون للرجل: ما تقولون في سباب أبي بكر وعمر رضى الله عنهما إذا تاب لم تقبل توبته أم لا؟! فإن قال: تقبل توبته قتلوه فهل يُطْلقُ على هؤلاء بِدْعِيّة؟ ويجب هجرهم ولا معاملتهم، وهل يجوز النظر إلى وجوههم؟ وماذا يجب عليهم شرعاً؟ وما حكم الله فيهم؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله.
الفتوى:

أجاب سيدنا وشيخنا سعد الدين الديري الحنفي أطال الله بقاءه فقال: الحمد الهادي للحق تكرر السؤال عن هؤلاء الضُّلاّل الجهال، وحصل الجواب المبسوط عن أحكامهم وملخص حكمهم: أن استحلال عِشْرة " الأمرد " على الوجه المذكور كُفر لا سيما إن اعتقد ذلك قُرْبَةً يتقرب بها، وتركه الاقتداء بأئمة المسلمين بدعة ومخالفة للسنة المأثورة. وأما إنكارهم صحة توبة الشباب ففي ذلك رد لدلالة الكتاب المبين؛ فإن عمومه يقتضي جواز التوبة من كل ذنب بشرطه الشرعي ولا ذنب أعظم من جُحود الرب - سبحانه وتعالى - والتائب منه المعترف بحقيقة ربوبيته يقبل ذلك منه وتسقط عقوبته والله تعالى أعلم. ثم أنبأنا الشيخ شهاب الدين السرخسي الشافعي أبقاه الله تعالى وافق هذا الجواب وقال في آخره: جوابي جواب الشيخ سعد الدين الديري رضى الله عنه.
وسؤال ثالث: في جماعة يتبعون أقواماً يعرفون " بالمطاوعة " يرون صُحبة الصبيان، والنظر إليهم، والخلوة بهم، ويرون الرقص في المساجد والتصفيق، فورد عليهم ناس من أهل السنة،فقالوا لهم: إن هذا حرام، إنكم ترتكبون بدعّا على غير طريق الحق فرجع منهم جماعة وتابوا إلى الله ثم إنه لما فارقهم أهل الذين تابوا ونهوهم عن اتباع أهل السنة وألزمهم، وأكرهوهم، وحلفوهم ان لا يتبعوا أهل السنة فما حكم هؤلاء المشايخ؟ ومن تبعهم والذين حلّفوهم؟أجاب سيدنا الإمام العلم شمس الدين بن حميد عفا الله عنه:إن هؤلاء القوم المسَمّوْن " بالمطاوعة " يحرم اتباعهم فيما يعتمدون من المفاسد العظيمة من معاشرة المُرْد والخَلْوة بهم لأن النظر إلى الأمرد بشهوة على ما صححه أهل العلم ومخالطتهم ومعاشرتهم في الخلوة أعظمَ خَطِرٍ. وأما التصفيق بباطن الكف فتشبيهاً بالنساء حرام أيضاً. وكذلك الرقص في المساجد، ولا يحل معاشرتهم ولا أتباعهم على هذه الأفعال المنكرة، ويجب على ولىّ الأمر - أيده الله تعالى - استتابهم، من المنكر، وتفريق شملهم عن هذا الاجتماع الخبيث، ويثاب على ذلك. وأما من تاب من ذلك فلا يجوز له بعد التوبة مخالطتهم،ولا موافقتهم، ومن أكره على معاودتهم، وحَلّفوه مُكْرهًا، وقَدَر على الخلاص منهم بذي قوة منهم، لم يخبث لي ما إذا اعتقد إباحة المعاصي في المساجد وحلها فيها حرام عليهم فإنهم يكفرون بذلك ويُستْتَابون، فإن لم يتوبوا قُتِلوا؛ لأن من استحل ما حرم الله تعالى فقد كفر انتهى.أجاب عن هذا السؤال أيضاً الشيخ الإمام العالم علاء الدين القطني عفا الله عنه بقوله: هؤلاء قوم ضلوا وخرجوا عن طريق الحق، ومذهب أهل السنة. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة منها فرقة ناجية والباقي في النار " فهؤلاء من الفرق الذين هم في النار؛ فإن الفرقة الناجية ما كان هو عليها وأصحابه صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام مالك رضى الله عنه: ما ظهر من هذا الدين فهو حق،وما بطن منه باطل لقوله تعالى:(ليظهره على الدين كله) فهؤلاء إن اعتقدوا بأن الخلوة بالأحداث والنظر إليهم مباح فقد كفروا، ويجب على ولاةَ الأمور - أيدهم الله - قتلهم، وتطهير الأرض منهم إن لم يتوبوا. وإن اعتقدوا أنه حرام فقد فسقوا وتسقط عدالتهم فيجب على وُلاة الأمور - أيدهم الله تعالى - تعزيزهم التعزيز البالغ، وزجرَهم وردعهم عن ذلك فإن لم يرجعوا عن هذا قاتلوهم. وأما الذي حلفوه أنه لا يعاشر أهل السنة فإنه لا يجب بمعاشرة أهل السنة كفارة عليه فإنه مكره على اليمين انتهى. ثم أجاب بجواب آخر فقال: لاشك أن أهل السنة صفوة هذه الأمة فمن تابعهم، واقتدى بهم فقد سلك طريق الحق، وسبيل الناجحين ومن ضل عن طريقهم فقد ضل عن الهدى، وسلك طريق الهالكين. وهؤلاء قوم ارتكبوا بِدْعاً، ومحرماتٍ وأموراً منكرات لم يردعن أحد من أئمة السلف بجواز ما يفعلونه إن أصروا على ذلك، فهي من الكبائر الموبقات، وإن اعتقدوا إباحة؛ فربما يؤدي إلى الكفر؛ لأنه من القواعد أنه من اعتقد إباحة محرمٍ فقد كفر؛ فيجب عليهم التوبة من ذلك، والرجوع إلى الحق، واتباع الهدى، فإن لم يفعلوا وجب على ولاة الأمور - أيدهم الله تعالى - تعزيرهم التعزير البليغ، وزجرهم عن ذلك ورجوعهم إلى طريق الحق. وأما من أكره الحلف فلا كفارة عليه إذا رجع وتابع أهل السنة.

فصل
هل من دواء لهذا الداء

قال ابن القيم: فإن قيل فهل مع ذلك كله دواء لهذا الداء العضال، أي: ما تقدم من ذكر المعاصي! ورُقْيةٍ لهذا السحر القتال؟ وما الحيلة في دفع هذا الخبال؟ وهل من طريق قاصدة إلى التوبة؟ وهل يمكن السكران بخمرة الهوى أن يفيق؟ وهل يملك العاشق قلبه والعشق قد وصل إلى سُوَيْدائه فمن تعلق قلبه وجوارحه فيما تقدم من المعاصي قيل: نعم، ما أنزل الله سبحانه وتعالى من داء إلا وأنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله، والكلام في دواء هذا الداء من طريقين: أحدهما: حسم مادته قبل وصولها. الثاني: قلعها قبل نزولها. وكلاهما يسير على من يسره الله، ومتعذر على من لم يُعِنْه الله؛ فإن أزمة الأمور بيديه.

غض البصر وفوائده:
وأما الطريق المانع من حصول هذا الداء فأمران: أحدهما: غض البصر كما تقدم، فإن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، وفي غض البصر عدة منافع: أحدها: أنه امتثال أوامر ربه - تبارك وتعالى - وما سعد من سعد في الدنيا إلا بامتثال أوامره، وما شقي من شقي في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره. الثانية: أن يمنع وصول السهم المسموم الذي لعلمه فيه هلاكه واشتداد قلبه. الثالثة: أنه يورث القلب أُنْساً بالله تعالى، وجمعه على الله، فإن إطلاق البصر يفرق القلب ويشتته، ويبعده من الله تعالى، وليس على القلب شيء أضر من إطلاق البصر، فإنه يوجب الوحشة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى. الرابعة: أنه يقوي القلب ويفرحه، كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه. الخامسة: أنه يكسب القلب نوراً كما إن إطلاقه يكسبه ظلمة، ولهذا ذكر الله سبحانه وتعالى آية في سورة النور عقب الأمر بغض البصر فقال تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم). السادسة: أنه يورث فراسة صادقة يفرق بها بين الحق والباطل والصادق والكاذب. وكان شاه الكرماني يقول: من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، واغتذى بالحلال، لم تخطئه فراسته. والله سبحانه وتعالى يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، ومن ترك لله شيئاً عوضه الله تعالى خيراً منه، فإذا غض بصره لله عن محارم الله عوضه الله تعالى بأن يطلق نور بصيرته عوضاً عن حبسه بصره لله سبحانه وتعالى ويفتح عليه باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة المضيئة التي إنما تنال ببصيرة القلب. وضد هذا ما وصف الله به اللوطية من العمه الذي هو ضد البصيرة فقال تعالى: (إنهم لفي سكرتهم يعمهون). فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل والعمه الذي هو فساد البصر، فالتعلق بالصور يوجب فساد العقل، وعمه البصيرة ويسكر القلب، السابعة: أنه يورث القلب ثباتاً وشجاعة وقوة، فيجمع الله تعالى له بين سلطان البصيرة والحجة وسلطان القدرة والقوة. الثامنة: أنه يفسد على الشيطان مدخله إلى القلب فإنه يدخل مع النظرة، وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهوى في المكان الخالي. التاسعة: أنه يفرغ القلب للتفكر في مصالحه والاشتغال بها وإطلاق البصر يشتت عليه ذلك ويحول بينها وبين ذلك، فتنفرط عليه أموره، ويقع في اتباع هواه، وفي الغفلة عن ذكر ربه تبارك وتعالى، قال الله تعالى: (ولا تُطِع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا). وإطلاق البصر يوجب هذه الأمور الثلاثة فحسب. العاشرة: أن بين العين والقلب منفذاً أو طريقا يوجب انتقال أحدهما بما يشتغل به عن الآخر، وأن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده، وإذا فسد النظر فسد القلب له كذلك في جانب الصلاح فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد، وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ، فلا يصلح لسكنى معرفة الله تعالى ومحبته والإنابة إليه والأنس به والسرور بقربه فيه، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك لهذه إشارة إلى بعض فوائد غض البصر تطلعك على ما ورائها.
الأمر الثاني من الدواء: اشتغال القلب بما يصده عن ذلك، ويحول بينه وبين الوقوع فيه: وهو إما خوفٌ مقلق، أو حبٌ مزعج، فمتى خلى القلب من خوف ما فواته أضر عليه من حصول هذا المحبوب، لم يجد بُداً من عشق الصور. وشرح هذا: أن النفس لا تترك محبوباً إلا لمحبوب أعلى منه، أو خشية مكروه حصوله أضر عليها من فوات هذا المحبوب، وهذا يحتاج صاحبه إلى أمرين، إن فقد أحدهما لم ينتفع لنفسه:

أحدهما: بصيرة صحيحة يفرق بها بين درجات المحبوب والمكروه، فيؤثر أعلى المحبوبين على أدناهما، ويحتمل أدنى المكروهين ليخلص أعلاهما، وهذه خاصة للعقل، ولا يُعد عاقلاً من كان بضد ذلك، بل قد تكون البهائم احسن حالاً منه.
الثاني: قوة عزم وصبر وتمكين يتمكن فيها من هذا الفعل والترك، فكثيراً ما يعرفُ الرجل قدر التفاوت، ولكن يأبى له ضعف نفسه، وهمته وعزيمته على أنه لا يقع من خسته وحرصه ووضاعة نفسه وخسة همته، ومثل هذا لا ينتفع بنفسه ولا ينتفع به غيره.
" تنبيهات " الأول: ما تكرر من الآي والأحاديث والفصول في هذا الكتاب فلفائدة زائدة أو منفعة عائدة.
الثاني: أن هذا الكتاب موضوع على سبيل الموعظة والإنذار فلا اعتراض إذا انتقل الكلام من مذهب إلى مذهب آخر لأن الكلام في الموعظة لا يتوقف على مذهب المتكلم. سئل شيخنا عن بعض مجالسه يجمع فيها كلاماً من مذهبه ومذهب غيره فقال: إذا كان المتكلم يتكلم في الموعظة فلا يقتصر على مذهب واحد وإذا كان في درس فقه فلا يخرج عن مذهبه إلا لضرورة.

خاتمة في بيان التوبة وشروطها، والاستغفار وفضيلته: اللهم إنا نسألك حسن
العاقبة بالخاتمة الصالحة بمنَّك وكرمك.
فصل
في التوبة
قال الله تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعاً أيَّهَ المؤمنون لعلكم تفلحون) ففرض التوبة، وندب إليها وقال: (إن الله يحب التوابين) قال سيدي أبو الحجاج الأقصري: حقيقة التوبة الذهاب إلى الملك الوهاب.والدليل عليه قوله تعالى: (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) والتوبة على قسمين: توبة من الله تعالى على العبد، وتوبة من العبد إلى الله تعالى؛ فتوبة من الله تعالى على العبد أن يحبب له الطاعة ويكرِّه إليه المعصية، ويوفقه للعمل بما حبب إليه قوله تعالى: (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) فهذه هي التوبة منه تعالى على العبد وعن هذه التوبة تنشأ توبة العبد قال تعالى: (ثم تاب عليهم ليتوبوا) أي تاب عليهم لأجل أن يتوبوا لأنه ما لم يتب الله تعالى على العبد لا يتأتى منه التوبة، ولهذا المعنى قيل: " العناية قبل الولاية، واللواحق مبنية على السوابق " وشاهد ذلك من القرآن العظيم قوله تعالى: (يؤفك عنه من أُفِك) أي ينصرف عن الإيمان بالقرآن وسماعه وفهمه من صرف عنه في القدم وقضى عليه بالشقاوة والحرمان وجرى القلم نسأل الكريم الخاتمة. ومما تعُرف توبة التائب في أربعة أشياء: الأول: يملك لسانه عن الفضول والغيبة. الثاني: أن لا يُرى في قلبه حسد ولا عداوة. الثالث: أن يفارق إخوان الشر فإنهم هم الذين يحملونه على رد هذا القصد، ويشوشون عليه صحة هذا العزم. الرابع: أن يكون مستعداً للموت، نادماً مستغفراً لما سلف من ذنوبه مجتهداً.
بيان معنى التوبة النصوح:
قال شيخنا: قال المشايخ: بلغنا عن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله ما التوبة النصوح؟ قال: " الندم على الذنب ثم لا تعود فيه أبداً " . وقال ميمون بن مهران - رضي الله عنه - : عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : كم من تائب يَرِدُ القيامة فظُنّ أنه تائب، وليس بتائب، لأنه لم يُحْكِم أبواب التوبة. قال عبد الله بن شميط - رضي الله عنه - : ما دام قلب العبد مُصِرّاً على ذنب واحد، فعمله معلق في الهواء فإن تاب من ذلك الذنب وإلا بقي عمله معلقاً. وقد قال العلماء رضي الله عنهم: إذا تاب العبد من ذنب دون ذنب صحت التوبة من الذنب الذي تاب منه، وبقى عليه الذنوب التي لم يتب منها يعاقب عليها، حتى يتوب من الجميع.
بيان مقامات التوبة:

قال شيخنا: اعلم أن مقامات التوبة عشرة: الندم على الذنب بالإقلاع، وترك العود فيه مع كثرة الاستغفار، والخروج من سائر الجهل بتعلم ما لابد منه من الواجبات، والانتقال من الصغيرة إلى الكبيرة، ورد المظالم وما لم يتهيأ له رده اعتقد رده. وإذا وجد ما يرد مكان المظلمة، واعتقاد مقت النفس. قال الفُضيل بن عياض رحمه الله: من مقت نفسه في الله أَمنه الله من مقته. ومنها ترك الشهوات والنقصان وتهجر أخوانك أصحاب السوء، وتصلح مطعمك وملبسك، وتكثر من البكاء والتضرع إلى الله تعالى في العفو عما مضى، وترك الأعمال التي تلحق الإنسان الذنوب في استعمالها وإلا لم تصح توبته. وكل توبة لا يُرى لها علامة على الجوارح فما أسرع رجعتها!! والعلامةُ نقصانٌ في الجسم، وقلة الطمع، وكثرة البكاء ويصحح ذلك قوله تعالى: (إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم) وكذا التائب يحتاج أن يتبين آثار توبته.

بيان حقيقة التوبة:
علامة التوبة:
اعلم أن حقيقة التوبة في القلب أن يبغض التائب الذنب كما كان يحبه، ويبكي منه إذا ذكره، ويتركه كما كان يأخذه.
علامة الخذلان:
ولكل شيء علامة، وعلامة الخذلان ترك البكاء على الذنب، وعلامة التائب في توبته الاستغفار لله وشدة الكمد، ومعنى الكمد، الخوف المستلزم،والناس في التوبة على خمس جهات: رجل متسوف، وامرأة متسوفة بالتوبة وقد اغتر بطول الأمل، فهذا هو المستوجب العقوبة من الله تعالى. ورجل تاب بقلبه إلا أن نفسه تدعوه إلى ما يكره الله تعالى؛ فهذا يحتاج إلى الأدب لها بالصوم، وقطع الشهوات حتى يُضعفها عما يكره الله تعالى، فإذا ضعفت قوى على مخالفتها؛ فهذا فائدته فالله تعالى يعطيه على قدر صدقه في مجاهدة نفسه. ورجل تائب مدمن المحاسبة قد قام على نفسه مقام الخصم خوفاً على طبعها الأول، فتسقط عن عين الله تعالى، ويظفر به عدوه إبليس وإخوان الشياطين؛ فهذا المستوجب لولاية الله تعالى. واعلم أن أعظم المقامات بعد التوبة الصلاة بشروطها وفروضها وسننها؛ فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: " أول ما يحاسب الجل على صلاته، ثم بعد ذلك على نسائه وما ملكت يمينه إن أحسن عشرتهم وتعليمهم العبادة أحسن الله إليه " .
بيان معنى التوبة:

قال الشيخ الإمام سيدي عبد العزيز الدريرني رحمة الله عليه: معنى التوبة: الرجوع. يقال تاب، وأناب، وآب بمعنى: رجع، والتوبة الرجوع من الأوصاف المذمومة إلى الأوصاف المحمودة، ويقال لمن رجع من المخالفات خوفاً من عذاب الله " أناب " فهو منيب، ومن رجع تعظيماً لجلال الله " آب " فهو أواب، ويقال: أول التوبة يقظة من الله تعالى تقع في القلب فيتذكر العبد تفريطه وإساءته، مع دوام نعم الله تعالى عليه، فيعلم أن الذنوب سموم قاتلة يخاف منها حصول المكروه وفوات المحبوب في الدنيا والآخرة، فإذا حصل له هذا العلم أثمر حالا، وهو الندم على تضييع حق الله تعالى، ثم يثمر الندم عملاً وهو المبادرة إلى الخيرات، وقضاء الواجبات، ورد الظُلامات، والعزم على إصلاح ما هو آت، فهذه الثلاثة إذا انتظمت فهي التوبة. ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الندم توبة " أي أن أعظم أركانها الندم؛ فإنه لا يحصل حتى يتقدمه الركن الأول وهو العلم بضرر الذنب. ويقال: التوبة الحياء العاصم، والبكاء الدائم. ويقال: التوبة الندم على ما فات وإصلاح ما هو آت. ويقال: التوبة أن يعلم العبد جراءته على الله ويرى حلم الله عنه لم يأذن للأرض أن تخسف به أو النار أن تحرقه بما عمل من المعاصي ثم يتوب من الذنب ويعزم أن لا يرجع إليه كما لا يرجع اللبن في الضرع. ويقال: التوبة خلع لباس الجفاء ونشر بساط الوفاء. وقال سهل بن عبد الله: التوبة تبديل الحركات المذمومة بالحركات المحمودة ولا يتم ذلك إلا بالخلوة، والصمت، وأكل الحلال. أي: العزلة عن خلطاء السوء، وفي الحديث: " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " . وقال سيدي أبو مدين - رحمه الله - : انزعاج القلب لروعة الانتباه أرجح من أعمال الثقلين. وقال سهل: التوبة ترك التسويف، وقال سري السقطي، التوبة أن لا تنسى ذنبك. وقال البوشنجي: إذا ذكرت ذنبك فلم تجد له حلاوة فهي التوبة. وقال ذو النون: حقيقة التوبة أن تضيق عليك الأرض بما رحبت حتى لا يكون عليك فرار، وتضيق عليك نفسك كما قال الله تعالى: (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم) الآية. وقيل لأبي حفص: لِمَ يبغض التائب الدنيا؟ قال: لأنها دارٌ عصى الله فيها. وقال بعضهم: التوبة استشعار الرجل إلى الأجل. واعلم أن الذنب بعد التوبة بسبعين قبلها. قال يحيى بن معاذ: زلة بعد التوبة اقبح من سيعين قبلها ولا تستقيم التوبة إلا بدوام المجاهدة وتوالي الأحزان.

بيان شروط التوبة:
اعلم أن شروط التوبة أربعة:الخروج عن دائرة المخالفة، واستصحاب الندامة، ورد ما يعتني في الذمة، والعزم على أن لا يعود إلى وطن المخالفة. وقال: أول التوبة يقظة العبد من رقدة الغفلة بتوفيق من الله فيرى ما هو عليه من سوء التفريط والتقصير مع دوام نعم الله تعالى فإذا أصغي بقلبه إلى ما يخطر بباله من الزواجر عزم على التوبة فإن وفقه الله للعزم أقلع وتاب واقل ما يجب على التائب هجران إخوانه الذين كان يصحبهم على المعصية.وقال بعض العلماء: ينبغي هجر المواطن التي كان يعصي الله فيها ويسمى هذا: هجرة. وقال صلى الله عليه وسلم: " المهاجر من هجر السوء " وقال أيضاً: " المهاجر من هجر ما نهى الله عنه " . ثم بالمواظبة على مجالسة الصالحين، ومجالسة مجالس الذكر يقوى خوفه، ويدوم ذكره، فينحل من قلبه عقد الإصرار، ويقف عن تعاطي المحظورات ويرد نفسه عن اتباع الشهوات، فيفارق الزلة في الحال، ويندم على ما سلف من قبيح الأفعال، ويعزم على أن لا يعود إلى مثلها في الاستقبال فإن دام على ذلك فهو الموفق قصداً، وإن علا إلى معصية وجب عليه تجديد التوبة، ولا ينبغي قطع الرجاء؛ فإن لكل أجل كتاب وبالله المستعان على كشف الحجاب والعمل بالسنة والكتاب إنه كريم تواب.
الاستغفار

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكثروا من الإستغفار فإن الاستغفار يأكل الذنوب كما تأكل النار الحطب وكما تأكل الشاة الخضر، وإن صحيفة المرء إذا عرج بها إلى السماء، ولم يكن فيها استغفار لم يكن بها نور، وإذا طلعت وفيها استغفار كان فيها نور يتلألأ، وإن لم يكن فيها الاستغفار يسير، وما جلس قوم بمجلس لغو ثم ختموه بالاستغفار إلا كتب لهم مجلسهم هذا إستغفار كله " . وقال عز وجل: " أيعجز ابن آدم أن يستغفر لي مائة مرة كل يوم فيغفر له كل يوم ألف ذنب " . ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة " . وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول: " إن الله تعالى وهب لكم ذنوبكم عند الاستغفار فمن استغفر بنية صادقة غفر له، ومن قال لا إله إلا الله رجح ميزانه، ومن صلى علي كنت شفيعه يوم القيامة " . قال الله تعالى في كتابه العظيم: (استغفروا ربكم إنه كان غفارا) وقال تعالى: (واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) قال بعض العباد: عرضت علي ذنوبي في اليوم فما استغفرت الله منه محي وما لم أستغفر منه بقى. وقيل: إن إبليس - لعنه الله تعالى - يقول: زينت المعاصي جداً - أي لهذه الأمة - فقطعوا ظهري بالاستغفار، ولا تنحدر إليهم فتنة لا يستغفرون الله منها إلا فرق أهواءهم. وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : " أن إبليس قال لربه: وعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم. فقال له ربه: وعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني " . رواه الإمام أحمد.
انتهى بحمد الله وعونه وحسن توفيقه والله الموفق للصواب، وله الفضل والمنة والصلاة والسلام على أشرف الخلق سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين. وافق الفراغ من نسخ هذه النسخة المباركة يوم الخميس المبارك ثالث عشر شهر جمادى الأولى سنة 1167ه على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. آمين.
على يد الفقير المعترف بالذنب والتقصير محمد بن حميد بن حجازي بن محمد الحاتم لقبا المشتولى الشافعي مذهبا الأحمدي طريقاً غفر الله له ولوالديه ولمن دعا له بالمغفرة وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
تم الكتاب.
تكاملت نعم السرور لصاحبه