كتاب : إعتاب الكتاب
المؤلف : ابن الأبار

بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا ومولانا محمد
قال الشيخ الفقيه الحافظ الحافل المصنف المحدث الأديب البارع أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعي المعروف بابن الأبار، رحمه الله: أما بعد حمد الله الذي يعفو عن السيئات، والصلاة على محمد رسوله الخاص بسيادة كل ماضٍ وآت، الحاض على اغتفار الهنات، وإقالة عثرات ذوي الهيئات، فهذه نبذة من إعتاب الكتاب، وتشفيع الآداب، تشهر كما لهم في الاضطلاع والاكتفاء، وتشهد بما لهم عند الأمراء والخلفاء، من كريم الاختصاص ولطيف الإختفاء؛ وكيف لا يكونون كذلك، وهم مقاول الدول وألسنة الممالك، مفردهم في الإفصاح، يعدل جمع الكفاح، وقصبهم الضعيف يقاوي صم الرماح، ويقاوم ذلق الصفاح. رب كتيبة فضها كتاب، وخطب صرعه خطاب فانجاب، وأمل دعابه إملاء فأجاب، ولله در قائلهم، يذكر بعض فضائلهم:
إذا ما جَرَدْنا وانتضَيْنا صوارماً ... يكادُ يُصِمُّ السامعين صريرُها
تظل المنايا والعطايا شوارعاً ... تدور بما شئنا وتمضي أمورُها
تُساقط في القرطاس منها بدائعاً ... كمثل اللآلي نظمُها ونَثيرُها
تقودُ أبيّاتِ البيانِ بفطنةٍ ... تَكَشَّف عن وجه البلاغة نورُها
إذا ما خطوب الدهر أرخت ستُورها ... تجلّت بها عمّا يُحَبُّ سطورُها
وقال الشعبي: أربعة كانوا كتاباً صاروا خلفاء: عثمان وعلي ومعاوية وعبد الملك بن مروان.
وحكى سكن بن إبراهيم الكاتب، في كتابه المؤلف في طبقات الخلفاء بالأندلس أن عبد الملك بن مروان قال يوماً لأبنه الوليد: لو عداك ما أنت فيه ما كنت معولاً عليه من دهرك ؟ قال: فارس حرب ! ثم قال لسليمان: فأنت ؟ قال: كاتب سلطان ! ثم قال ليزيد: فأنت ؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما تركا حظاً لمختار ! وعالم لا تحصى أسماؤهم سموا بالبيان، وبنوا بيوت مجدهم بالأقلام أوثق البنيان؛ ثم إلى هذه الحسنى زيادة، لها بشرف الصناعة إشادة، وهي ما غني عن الاستقصاء بالاستقراء، من تقصي العصر بعد العصر، عن أفراد من الكتاب، وأعداد من الشعراء، أم الصقر مقلاة نزور، وقلما تلاقى الفنان: منظوم ومنثور، فإذا جمعا في واحد، لم تجد لفضله من جاحد؛ وصنف منهم حساب، لا تقع بغير كفايتهم أحساب؛ بينهم من حمل اليراع وفضل الطباع أسباب واصلة وأنساب. قليلاً ما يخلو من صدورهم صدر ديوان، ولا تخلو محاسنه إلا تلا إحسانهم وجه أوان، وكثيراً ما احتملت بوادرهم، واستحليت نوادرهم، وقبلت جيئاتهم وأوباتهم، واستدركت أخذاتهم ونكباتهم، إلى ما سدل عليهم من أثواب الرعايات، وسد عنهم من أبواب السعايات. وقد عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كاتبه ابن أبي سرح، وقصة ارتداده لا يفتقر إيضاحها إلى شرح.
ولما كانت المحظوظة من الأدب والعلم، المخصوصة بما يجب لله ورسوله من الأناة والحلم، التي نظمت الندى إلى البأس، وكظمت الغيظ وعفت عن الناس، حضرة مولانا الخليفة الإمام الهادي، المبارك المرتضى، أبو زكرياء أدام الله بها استظهار الإيمان والإسلام، وافتخار الأسياف والأقلام، ولا أعدمها استمرار نصر الألوية والأعلام، وكنت ممن فاض على إساءته إحسانها عدا، وأده تأمينها وامتنانها وقد جاء شيئاً إداً، وسمت هذه الرسالة باسمها العالي ورسمت من إغضائها في إغضابها ما لم يقع في العصر الخالي، زاجراً ميامين طيرها، وناظراً أفانين خيرها، لأكون كيزيد بن مزيد، عندما رضي هرون الرشيد عنه، وأذن له في الدخول عليه، فلما مثل بين يديه قال: الحمد لله الذي سهل لي سبيل الكرامة بلقائك، ورد علي النعمة بوجه الرضا منك، وجزاك الله يا أمير المؤمنين في حال سخطك جزاء المتثبتين المراقبين، وفي حال رضاك جزاء المنعمين المتطولين، فقد جعلك الله وله الحمد تتثبت تحرجاً عند الغضب، وتمتن تطولاً بالنعم، وتستبقي المعروف عند الصنائع، تفضلاً بالعفو، فإني الآن كالذي وجد عليه عبد الملك بن مروان فجفاه واطرحه، ثم دعا به ليسأله عن شيء، فرآه شاحباً ناحلاً، فقال له: منذ متى اعتللت ؟ قال: ما مسني سقم، ولكني جفوت نفسي، إذ جفاني أمير المؤمنين، وآليت ألا أرضى عنها حتى يرضى أمير المؤمنين عني ! فأعاده إلى حسن رأيه فيه.

ولن أكف شافعاً في نفسي، ودافعاً براحة رجائي في صدر يأسي، أو ألحق بمشيئة الله شأو رجل من أهل الكوفة دخل على أبي جعفر المنصور، يشفع في مسخوط عليه، فشفعه فيه، فقال: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في تقبيل يدك، فإنها أحق يد بالتقبيل، لعلوها في المكارم، وطهورها من المآثم، وإنك يا أمير المؤمنين، لقليل التثريب، كثير الصفح عن الذنوب، فمن أرادك بسوء فجعله الله حصيد سيفك، وطريد خوفك؛ فأُعجب به المنصور وقربه.
ومولانا أيد الله أمره أسجح طباعاً، وأفسح في الفضائل باعاً، ما زال يشرف احتراماً واصطناعاً، ويعرف إحساناً وإقناعاً، وحق لمن عول على عدله المأمون، وتوسل بفضله المضمون، ثم بنجله المبارك الميمون، أن يجتلي وجه القبول المأمول سافراً، ويطمئن مقيماً بما انزعج مسافراً، فإنما دعا للتوب قابلاً، وللذنب غافراً، وسعى للعود بالخلاص الدائب، من ظفر الحادث وناب النائب ظافراً، لا زالت أهاضيب نواله دائمة السفوح والهتون، وأحاديث كماله صحيحة الأسانيد والمتون، ودام ولي عهده، وخلاصة مجده، المهنأُ بمعالي الأمور، والمهيأُ لأفتتاح المعمور، وهده ونجده، نظام الدين والدنيا، الأمير الأسعد الأعلى، الأظهر الأرضى، أبو يحيى، يقتفي مذاهبه، ويصطفي مناقبه، حتى يفرع النجم جلالاً جلياً، ويرفع العلم مكاناً علياً؛ وهذا ابتداء المقصود، وإنجاز الموعود.

تراجم الكتاب
مروان بن الحكم
كتب لعثمان رضي الله عنه، واستولى عليه؛ وكان عثمان يولي بني أمية، فيجيء منهم ما ينكر، ويستعتب فيهم فلا يعزلهم؛ فلما شكا أهل مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح وتظلموا منه، عزله واستعمل مكانه محمد بن أبي بكر الصديق، فعثر في طريقه، هو وأصحابه، بعد مسيرة ثلاث، على غلام يخبط بعيره، كأنه هارب أو طالب، ووجهه إلى مصر، أخبرهم مرةً أنه لعثمان، وأخرى لمروان، ولم يجدوا معه إلا إداوةً قد يبست، فيها شيء يتقلقل، فشقوها فإذا كتاب إلى ابن أبي سرح بالقرار على عمله وبإبطال كتاب محمد بن أبي بكر، والإحتيال لقتله ومن معه؛ فرجعوا إلى المدينة، وعرفوا عثمان، فحلف ما كتب الكتاب ولا أمر به، ولا علم؛ وعرفوا أنه خط مروان، فسألوه أن يدفعه إليهم ليمتحنوه وينظروا في أمره، فأبى عثمان أن يخرج مروان، وخشي عليه القتل، فكان ذلك سبب حصاره.
وحكى الجاحظ قال: قال يزيد بن عياض: لما نقم الناس على عثمان، خرج يتوكأ على مروان وهو يقول: لكل أُمة آفة، ولكل نعمة عاهة، وإن آفة هذه الأمة عيابون طعانون، يظهرون لكم ما تحبون، ويسرون ما تكرهون، طغام مثل النعام، يتبعون أول ناعق. لقد نقموا علي ما نقموا على عمر، ولكن قمعهم ووقمهم؛ والله إني لأقرب ناصراً، وأعز نفراً؛ فضل فضل من مالي، فمالي لا أفعل في الفضل ما أشاء..
وشهد مروان يوم الدار، ثم يوم الجمل، وولي المدينة لمعاوية مرتين، ثم بويع له بالشام، بعد معاوية بن يزيد بن معاوية.
زياد بن أبي سفيان
كتب للمغيرة بن شعبة، ثم لأبي موسى الأشعري، في استعمالهما على الكوفة. وذكر حويرثة بن أسماء أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر رضي الله عنه أن المال كثر من يأخذه، فلسنا نحصيه إلا بالأعاجم، فاكتب إلينا بما ترى؛ فكتب إليه عمر: لا تعيدوهم في شيء سلبهم الله إياه، واخشوهم على دينكم، وأنزلوهم حيث أنزلهم الله، وتعلموا فإنما هي الرجال؛ فاستكتب زياداً.
ويروى أن عمر استقدم أبا موسى، فاستخلف زياداً على عمله، فقال له: استخلفت غلاماً حدثاً! فقال: يا أمير المؤمنين، إنه ضابط لما ولي، خليق بكل خير؛ فكتب عمر إلى زياد يأمره بالقدوم عليه، وباستخلافه على العمل من يقوم به؛ فاستخلف زياد عمران بن حصين، وقدم عليه، فقال عمر: لئن كان أبو موسى استخلف حدثاً، لقد استخلف الحدث كهلاً ! ثم دعا بزياد فقال له: ينبغي أن تكتب إلى خليفتك بما يجب أن يعمل به؛ فكتب إليه كتاباً، ودفعه إلى عمر، فنظر فيه، ثم قال: أعد ! فكتب غيره، فقال: أعده ! فكتب الثالث، فقال عمر: لقد بلغ ما أردت في الكتاب الأول، ولكني ظننت أنه قد روى فيه، ثم بلغ في الثاني ما أردت، فكرهت أن أُعلمه ذلك، وأردت أن أضع منه لئلا يدخله العجب فيهلك !

ولما عزله عمر عن كتابة أبي موسى قال له: أعن عجز أم خيانة يا أمير المؤمنين ؟ قال: لا عن واحد منهما، ولكن كرهت أن أحمل على الناس فضل عقلك.
ثم كتب لعبد الله بن عامر، وهو الذي قال له، وقد حصر على منبر البصرة، فشق ذلك عليه: أيها الأمير، إنك إن أقمت عامة من ترى، أصابه أكثر مما أصابك ! وكتب أيضاً لعبد الله بن عباس، ذكر ذلك أبو عمر بن عبد ربه في كتاب العقد الفريد من تأليفه؛ ثم ولي لعلي رضي الله عنه فارس، وكان من كبار أصحابه، إلى أن استلحقه معاوية، وولاه الكوفة والبصرة، وهو أول وال جمع له العراق.

يحيى بن يعمر
روى ابن أبي خيثمة في تاريخه، عن أبي سفيان الحميري، قال: كان يحيى بن يعمر من عدوان، وكان كاتب المهلب بخراسان، قال: فجعل الحجاج يقرأ كتبه فيعجب، فقال: ما هذا ؟ فأُخبر، فكتب فيه، فقدم، فرآه فصيحاً جداً، فقال: أين ولدت ؟ فقال: بالأهواز، فقال: فما هذه الفصاحة ؟ قال: كان أبي نشأ بتوج، فأخذت ذلك عنه؛ قال: أخبرني عن عنبسة بن سعيد يلحن؟ قال: كثيراً ! قال: فأنا ألحن ؟ قال: لحناً خفيفاً، قال: أين ؟ قال: تجعل إِنّ أَنّ وأَنّ إِنّ ونحو ذلك.. قال: لا تساكني ببلدة، أُخرج !..
قال: وعدوان من قيس.
وروي أن الحجاج بعث به إلى خراسان، وبها يزيد بن المهلب، فكتب إلى الحجاج: إنا لقينا العدو، ففعلنا وفعلنا، فاضطررناهم إلى عرعرة الجبل فقال الحجاج: ما لابن المهلب وهذا الكلام ! ويقال إنه قال: ليس يزيد بأبى عذر هذا الكلام ! فقيل له. إن ابن يعمر قال ذلك، قال: ذلك إذاً !.
وذكر يونس بن حبيب النحوي قال: قال الحجاج لابن يعمر: أتسمعني ألحن على المنبر ؟ قال: الأمير أفصح من ذلك؛ فألح عليه، فقال: حرفاً، قال: أياً ؟ قال: في القرآن، قال: ذلك أشنع له فما هو ؟ قال: تقول: " قل إِنْ كانَ آباؤُكم وأبناؤُكم إلى قوله عزّ وجَلَّ أحبَّ " فتقرؤها: أحبُّ بالرفع، والوجه أن تقرأ بالنصب، على خبر كان، قال: لا جرم لا تسمع لي لحناً أبداً؛ فألحقه بخراسان، وعليها يزيد بن المهلب، قال: فكتب يزيد إلى الحجاج: إنا لقينا العدو، فمنحنا الله أكتافهم، فأسرنا طائفةً، وقتلنا طائفةً، واضطررناهم إلى عرعرة الجبل، وأثناء الأنهار. فلما قرأ الحجاج الكتاب قال: ما لابن المهلب ولهذا الكلام ! حسداً له، فقيل له: إن ابن يعمر هناك، فقال: فذاك إذاً !.
وعكس أبو العباس المبرد في الكامل مساق هذا الخبر، فجعل كتاب يزيد بن المهلب سبباً في إشخاص ابن يعمر إلى الحجاج، فقال في تفسير قول الشاعر:
قتل الملوك وسار تحت لوائه ... شجر العرى وعراعر الأقوام
الواحدة عرعرة، وعرعرة كل شيء أعلاه، ومن ذلك كتاب يزيد بن المهلب إلى الحجاج بن يوسف: إن العدو نزل بعرعرة الجبل، ونزلنا بالحضيض ! فقال الحجاج: ليس هذا من كلام يزيد، فمن هنالك ؟ قيل: يحيى بن يعمر، فكتب إلى يزيد بأن يشخصه إليه. قال: وزعم التوزي قال: قال الحجاج ليحيى بن يعمر يوماً: أتسمعني ألحن ؟ قال: الأمير أفصح من ذلك، قال: فأعاد عليه القول، وأقسم عليه؛ فقال: نعم، تجعل أنّ مكان إنّ فقال له: ارحل عني ولا تجاورني.
وحكى ابن عبد ربه: أن الحجاج بعث فيه فقال: أنت الذي تقول: إن الحسين بن علي ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ والله لتأتين بالمخرج أو لأضربن عنقك ! فقال له: فإن أتيت فأنا آمن ؟ قال: نعم، قال له: اقرأ " وتِلك حُجَّتُنا آتَيْنَاها إِبراهيمَ على قَوْمه، نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشاءُ إلى قوله تعالى وَمِنْ ذُرّيَّته داودَ وسليمانَ وأيّوبَ ويُوسُف وَمُوسى وهَرُونَ وكذلك نجزي المحسنين وزَكرِيّا وَيحيى وعِيسى وإليْاسَ كلٌ مِنَ الصّالحين " فمن أقرب: عيسى إلى إبراهيم، وإنما هو ابن بنت بنيه، أو الحسين إلى محمد ؟ فقال الحجاج: فوالله لكأني ما قرأت هذه الآية قط ! وولاه قضاء بلده، فلم يزل بالبصرة قاضياً حتى مات.
يزيد بن أبي مسلم

تقلد للحجاج ديوان الرسائل، وكان غالباً عليه، أثيراً لديه، يعوده في مرضه؛ ويقال إنه كان أخاه من الرضاعة؛ فلما توفي الحجاج في آخر أيام الوليد ابن عبد الملك، ولى مكانه يزيد هذا، فاكتفى وجاوز، حتى قال الوليد: مات الحجاج بن يوسف، فوليت مكانه يزيد بن أبي مسلم، فكنت كمن سقط منه درهم فأصاب ديناراً ! وقال ليزيد: قال لك الحجاج: أنت جلدة ما بين عيني، وأنا أقول لك: أنت جلدة وجهي كله ! ولما أُدخل في نكبته على سليمان بن عبد الملك، وهو موثق في الحديد، ازدراه، ونبت عينه عنه، وكان دميماً، وقال: ما رأيت كاليوم قط ! لعن الله امرأً أجرك رسنه، وحكمك في أمره ! فقال: يا أمير المؤمنين، ازدريتني لما رأيتني والأمر عني مدبر، ولو رأيتني والأمر علي مقبل، لأستعظمت مني ما استصغرت، ولأستجللت ما استحقرت ! فقال سليمان: صدقت ثكلتك أمك، إجلس ! فجلس، فقال له: عزمت عليك يا بن أبي مسلم لتخبرني عن الحجاج، أتراه يهوي في نار جهنم، أم قربها ؟ قال: يا أمير المؤمنين، لا تقل هذا في الحجاج، وقد بذل لكم النصيحة، وأخفر دونكم الذمة، وأمن وليكم، وأخاف عدوكم، وكأني به يوم القيامة على يمين أبيك ويسار أخيك، فاجعله حيث شئت !.
وفي رواية: قال سليمان: أترى الحجاج بلغ قعر جهنم بعد ؟ قال: يا أمير المؤمنين، يجيء الحجاج يوم القيامة بين أبيك وأخيك، قابضاً على يمين أبيك وشمال أخيك، فضعه من النار حيث شئت ! فقال له سليمان: اغرب إلى لعنة الله ! فخرج؛ فالتفت سليمان إلى جلسائه فقال: قاتله الله ما أحسن بديهته وتنزيهه لنفسه ولصاحبه ! ولقد أحسن المكافأة لحسن الصنيعة، خلوا عنه؛ فذكر يزيد ابن المهلب لسليمان عفته عن الدينار والدرهم، فهم بأن يستكفيه مهماً من أُموره، فصرفه عن ذلك عمر بن عبد العزيز؛ فلما ولي بعده يزيد بن عبد الملك، استعمله على إفريقية.
ومنحى يزيد بن أبي مسلم مع سليمان بن عبد الملك، نحا بعض الكتاب، وقد دخل على أمير بعد نكبة نالته، فرأى من الأمير بعض الازدراء، فقال له: لا يضعني عندك خمول النبوة وزوال الثروة، فإن السيف العتيق إذا مسه كثير الصدأ، استغنى بقليل الجلاء، حتى يعود حده، ويظهر فرنده، وما أصف نفسي عجباً، بل شكراً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: أنا سيد ولد آدم ولا فخر ! فجهر بالشكر، وترك الاستطالة بالكبر.

كاتب آخر للحجاج
روى العتبي في كتاب الجواهر له، عن إسماعيل بن أبي أُويس، ما تلخيصه وإيجازه: أن كاتباً للحجاج ولم يسمه علق جارية كانت تقف عليه، وتمر بين يديه، وعلقته، فكانت تسلم عليه بحاجبها إذا غفل الحجاج، فكتب يوماً بين يديه كتاباً إلى عامل له، ومرت الجارية ولم تسلم، خوفاً أن يفطن الحجاج، فأحدثت في نفس الكاتب ما أذهله، حتى كتب عند فراغه من الكتاب: مرت ولم تسلم ! وختمه بخاتم الحجاج على العادة، فلما ورد الكتاب على العامل أجاب عن فصوله كلها ولم يدر ما معنى قوله مرت ولم تسلم وكره أن يدع الجواب عنه، ثم رأى أن يكتب: دعها ولا تبال ! وأنفذه إلى الحجاج، فأنكر ذلك لما وقف عليه، ودعا الكاتب فقال: لا أدري !؛ وكان إذا صدق لم يعاقب بشدته، فقال: أينفعني عندك الصدق أيها الأمير ؟ قال: نعم، فأخبره الخبر، ودعا الحجاج بالجارية فسألها، فصدقته أيضاً ووافقته، فعفا عنهما، ووهبها له.
الأبرش الكلبي
ذكر ابن عبدوس أن هشام بن عبد الملك لما أفضت إليه الخلافة بعد أخيه يزيد، وهو في ضيعته بالرصافة، ومعه جماعة من أصحابه، فيهم سعيد بن الوليد الكلبي الأبرش، وكان كاتباً له وغالباً عليه، فلما قرأ هشام الكتاب، سجد وسجد من كان معه من أصحابه، خلا الأبرش، فقال له هشام: لم لا تسجد كما سجد أصحابك ؟ فقال: وعلام أسجد ؟ على أنك كنت معي فطرت فصرت في السماء ! قال له: فإن طرنا بك معنا ؟ قال: الآن طاب السجود. قال: وأنكر هشام عليه شيئاً بعد ذلك، واشتد غضبه فشتمه، فقال الأبرش: استحييت لك، ليس بينك وبين الله واسطة، وأنت خليفته في عباده وأرضه، تقول يا بن الفاعلة ! والله لو قال هذا عبد من عبيدك لآخر مثله لكان قبيحاً !. فاستحيا هشام منه وقال: فاقتص مني وقل لي كما قلت لك، فقال: إذن أكون سفيهاً مثلك ! قال له: هبها لي، فقال: قد فعلت، فقال هشام: والله لا أعود إلى مثلها أبداً.

ومن هذا النحو قول الحجاج وقد ظفر بعمران بن حطان الشاري: اضربوا عنق ابن الفاجرة ! فقال: بئس ما أدبك به أهلك يا حجاج ! كيف أمنت أن أجيبك بمثل ما لقيتني به، أبعد الموت منزلة أُصانعك عليها ! فأطرق الحجاج استحياءً وقال: خلوا عنه ! فخرج إلى أصحابه فقالوا: والله ما أطلقك إلا الله، فارجع إلى حربه معنا، فقال: هيهات! غل يداً مطلقها، واسترق رقبةً معتقها، ثم قال:
أأُقاتل الحجّاج عن سلطانه ... بيدٍ تقرّ بأنّها مولاته
إني إذاً لأخو الدناءة والذي ... عفّت على عرفانه جهلاته
ماذا أقول إذا وقفت موازياً ... في الصفّ واحتجّت له فعلاته
وتحدّث الأكفاء أنّ صنائعاً ... غرست لديّ فحنظلت نخلاته
أأقول جار عليّ، إني فيكم ... لأحقّ من جارت عليه ولاته
تالله لا كدت الأمير بآلةٍ ... وجوارحي وسلاحها آلاته
ذكر عمران بن حطان في هذه الحكاية وهم؛ وكذا وقعت في زهر الآداب للحصري، وفي غيره، لأن عمران كان من القعدة، ولم يكن يحضر القتال، وإنما هو عامر أخو عمران.

سالم مولى هشام بن عبد الملك
كان يتقلد له ديوان الرسائل، وهو ممن نبه بالكتابة؛ حكى أبو بكر الصولي أن أبا سلمة الخلال، وزير أبى العباس السفاح، أنكر شيئاً بلغه عن أبي العباس في وقت، فأنكر أبو العباس السفاح ذلك، وسكن من أبي سلمة وقال له: إن هشام بن عبد الملك حمل على مولاه وكاتبه سالم، وسعي به إليه، فقال له:
يديرونني عن سالمٍ وأُديرهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم
وأنت جلدة وجهي كله.
وأورد أبو العباس المبرد في الكامل من تأليفه، رسالة هشام بن عبد الملك إلى خالد بن عبد الله القسري، وفي آخرها: وكتب عبد الله بن سالم سنة تسع عشرة ومائة، فلعله ابن له، وكتبا جميعاً لهشام، والمعروف منهما سالم، وأراه الذي كتب لعبد الملك بن مروان؛ ذكره ابن عبد ربه وغيره. والبيت لأبي الأسود الدؤلي في سالم مملوكه، وبعده بيتان، ولذلك قصة محكية. وقيل إنه لعبد الله بن معاوية الفزاري في ابنه سالم بن عبد الله؛ ولعله تمثل به كما تمثل هشام. وفي الأمالي لأبي علي البغدادي أن عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج: أنت عندي كسالم يريد هذا البيت.
إبراهيم بن أبي عبلة
حكى ابن عبدوس أن هشام بن عبد الملك أحضره قال: وتقلد الخاتم لمروان بن محمد بعد فقال له: إنا عرفناك صغيراً، وخبرناك كبيراً، وأُريد أن أخلطك بحاشيتي، وقد وليتك خراج مصر؛ فأبى عليه، وقال: ليس الخراج من عملي ولا أُبصره ! فغضب هشام، فأمسك عنه حتى حبس غضبه، ثم قال أتكلم يا أمير المؤمنين ؟ فقال له: قل، فقال: يقول الله عز وجل " إنّا عَرضْنا الأمانَةَ على السمواتِ والأرضِ والجبالِ... " الآية، فوالله ما أكرهها، ولا سخط عليها؛ فقال: أبيت إلا دفعاً ! وأعفاه ورضي عنه.
وروى أبو نعيم الأصبهاني الحافظ هذا الخبر بإسناده إلى إبراهيم بن أبي عبلة فقال: بعث إلي هشام بن عبد الملك فقال لي: يا إبراهيم إنا عرفناك صغيراً واختبرناك كبيراً فرضينا سيرتك وحالك، وقد رأيت أن أخلطك بنفسي وخاصتي وأُشركك في عملي، وقد وليتك خراج مصر؛ قال: فقلت: أما الذي عليه رأيك يا أمير المؤمنين، فالله يجزيك ويثيبك، وكفى بك جازياً ومثيباً، وأما الذي أنا عليه، فمالي بالخراج بصر، ومالي عليه قوة ! قال: فغضب حتى اختلج وجهه، وكان في عينيه قبل، فنظر إلي نظراً منكراً، ثم قال: لتلين طائعاً أو لتلين كارهاً؛ فأمسكت عن الكلام، حتى رأيت غضبه قد انكسر، وسورته قد طفئت، فقلت: يا أمير المؤمنين، أتكلم ؟ قال: نعم؛ قلت: إن الله بسبحانه وبحمده قال في كتابه " إنّا عَرضْنَا الأَمانةَ على السمواتِ والأرضِ والجبال إلى منها " فوالله يا أمير المؤمنين ما غضب عليهن إذ أبين، ولا أكرههن إذ كرهن، وما أنا بحقيق أن تغضب علي إذ أبيت، ولا تكرهني إذ كرهت ! قال: فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: يا إبراهيم قد أبيت إلا فقهاً ! قد رضينا عنك وأعتبناك.
وإبراهيم هذا شامي تابعي، لمالك عنه حديث واحد في الموطأ وإرساله كما ورد أصح من إسناده.
خالد بن برمك

كان في أول أمره يختلف إلى محمد بن علي، ثم إلى إبراهيم بن محمد الإمام بعده، فلما استخلف أبو العباس السفاح، أدناه محمد بن صول محمولاً، لعلة كانت لخالد، فبايعه، وأعجبته فصاحته، وظنه من العرب، فقال: ممن الرجل ؟ فقال: مولاك يا أمير المؤمنين ! قال ممن أنت يرحمك الله ؟ قال: من العجم، أنا خالد بن برمك، وإني وأهلي في موالاتكم والجهاد لكما قال الكميت:
ومالي إلاّ آل أحمد شيعةٌ ... ومالي إلاّ مشعب الحقّ مشعب
فأُعجب به أبو العباس، وأقره على ما كان يتقلده من الغنائم، ثم جعل إليه بعد ذلك ديوان الخراج، وديوان الجند، فكثر حامده وحسن أثره. وما زالت الحال تتراقى به إلى أن صار وزيراً لأبي العباس، بعد أبي سلمة الخلال، فكان يعرض الكتب عليه، ويكاتب عنه، وينظر في أعمال أصحاب الدواوين.
وحكى الجاحظ في رسالته في الوعد والإنجاز قال: وحدثت عن خالد بن برمك وكان كاتباً لأبي العباس أنه كتب في أول ما أُنشئت الكتب إلى العمال: وكتب في سنة الخير يعني أنه خير للإسلام وأهله في إفضاء الخلافة إلى أهلها؛ وكان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يؤرخ بسنة الحزن، وهي السنة التي قتل فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقيل لخالد: لو تركت هذا التاريخ ورجعت إلى ما عليه الناس ! فقال: إني رأيت الناس قد قتلهم خلف المواعيد يريد في آخر دولة بني أمية فأحببت أن يسكنوا إلى هذا التاريخ، وترجع إليهم نفوسهم ! قال الصولي: وتوفي أبو العباس، وخالد وزيره، وتمادى على ذلك صدراً من خلافة المنصور، ثم استوزر أبا أيوب المورياني، وبقي خالد والياً لديوان الخراج فقط؛ ويقال إنه أول من وليه، ثم ولي حرب فارس وخراجها، وتصرفت به الولايات إلى أن توفي المنصور، وخالد على الموصل ونواحيها، فأقره المهدي عليها، وزاده ثم ولاه فارس وأعمالها، فأخرج خالد يحيى ابنه إليها. وسعي به إلى المهدي فطالبه بمال عظيم رفع إليه، فباع أكثر ما يملك فيه، ثم بلغته حقيقة أمره، فأسقط عنه البقية، وأشخصه مع الرشيد إلى الغزو، فانصرف عليلاً، فوجه المهدي إليه ابنه الهادي يعوده.

كتاب المنصور
ذكر أبو الحسن الماوردي: أن أبا جعفر المنصور بلغه عن جماعة من كتاب دواوينه أنهم زوروا فيها وغيروا، فأمر بإحضارهم، وتقدم بتأديبهم، فقال حدث منهم وهو يضرب:
أطال الله عمرك في صلاحٍ ... وعزٍ يا أمير المؤمنينا
بعفوك نستجير فإن تجرنا ... فإنّك عصمةٌ للعالمينا
ونحن الكاتبون وقد أسأنا ... فهبنا للكرام الكاتبينا
فأمر بتخليتهم، ووصل الفتى وأحسن إليه.
وقال ابن عبد ربه: عتب أبو جعفر المنصور على قوم من الكتاب، فأمر بحبسهم، فرفعوا إليه رقعة ليس فيها إلا هذا البيت:
ونحن الكاتبون وقد أسأنا ... فهبنا للكرام الكاتبينا
فعفا عنهم، وأمر بتخلية سبيلهم.
وذكرت بهذا الشعر قول أبي نواس، وهو في حبس الرشيد يستعطفه:
بعدلك بل بجودك عذت لا بل ... بحبّك يا أمير المؤمنينا
فلا يتعذّرنّ عليّ عفوٌ ... وسعت به جميع العالمينا
فإنّي لم أخنك بظهر غيبٍ ... ولا حدّثت نفسي أن أخونا
براك الله للإسلام عزّاً ... وحصناً دون بيضته حصينا
فقد أوهنت أهل الشّرك حتى ... تركتهم وما يترمرمونا
تزورهم بنفسك كلّ عامٍ ... زيارة واصلين لقاطعينا
ولو شئت استرحت إلى نعيمٍ ... وقاسى الأمر دونك آخرونا
فشفّع حسن وجهك في أسيرٍ ... يدين بحبّك الرّحمن دينا
إذا ما الهون حلّ بمستجيرٍ ... فليس لجار بيتك أن يهونا
فأطلقه الرشيد بشفاعة الفضل، كما أطلقه بشفاعته أيضاً الأمين، وقد قال يستعطفه إذ حبس ثانيةً:
تذكّر أمين الله والعهد يذكر ... مقامي وإنشاديك والناس حضّر
ونثري عليك الدّرّ يا درّ هاشمٍ ... فمن ذا رأى درّاً على الدرّ ينثر
مضت لي شهورٌ مذ حبست ثلاثةٌ ... كأنّي قد أذنبت ما ليس يغفر
فإن كنت لم أُذنب ففيم تعنّتي ... وإن كنت ذا ذنبٍ فعفوك أكبر
كاتب الحسن بن زيد

روى أبو سليمان الخطابي في المعالم له: أن الحسن بن زيد وهو زيد ابن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان أمير المدينة من قبل أبي جعفر المنصور عتب على كاتب له، فحبسه وأخذ ماله، فكتب إليه من الحبس:
أشكو إلى الله ما لقيت ... أحببت قوماً بهم شقيت
لا أشتم الصالحين جهراً ... ولا تشيّعت ما بقيت
أمسح خفي ببطن كفي ... ولو على جيفةٍ وطيت
قال: فدعا به من الحبس، فرد عليه ماله وأكرمه.
قال الخطابي: والعجب من الروافض، تركوا المسح على الخفين، مع تظاهر الأخبار فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، واستفاضة علمه على ألسنة الأمة؛ قال: ثم اتخذوه شعاراً حتى إن الواحد من غلاتهم ربما تألى فقال: برئت من ولاية أمير المؤمنين ومسحت على خفي إن فعلت كذا...

أمية بن يزيد
أبوه يزيد مولى معاوية بن الحكم، ودخل أمية الأندلس في طالعة بلج ابن بشر بن عياض القشيري، سنة ثلاث وعشرين ومائة من الهجرة، في آخر خلافة هشام بن عبد الملك، فلاصقه بنفسه خالد بن زيد، كاتب يوسف بن عبد الرحمن الفهري أمير الأندلس، وكان كاتباً معه، فلما تغلب عبد الرحمن بن معاوية على يوسف، واستقر بدار الملك قرطبة، صار خالد إلى كتابته أياماً، ثم نفر عن القرار بالأندلس وسأل الإذن بالخروج إلى المشرق. وقد ضم عبد الرحمن بن معاوية أمية بن يزيد إليه، واشتمل عليه لكونه من مواليه، فأمر لخالد بكتاب سراح، فتحامى أمية الكتاب بين يدي خالد وقال: معلمي وولي الإحسان قبلي يكون أول شيء يجري له على يدي الكتاب بخروجه عن أهله وماله ! وامتنع من ذلك؛ فأمر عبد الرحمن خالداً بالكتاب لنفسه، فكتب إلى عامل الجزيرة: أما بعد، فأخرجنا خالداً بقضه وقضيضه، فإنها الراحة له والراحة منه، والسلام ! وكان عبد الرحمن عظيم الهيبة مخوف البادرة، لا يقدم على رد ما يصدر عنه، فما ثرب على أُمية في ذلك، بل آثره بعد وأحظاه، وكان في عداد من يشاوره من خاصته ونقباء دولته، ويفضل آراءه، ثم توارث عقبه شرف الكتابة للمروانيين بالأندلس، واتصلت النباهة فيهم دهراً طويلاً.
أبو عبيد الله مولى الأشعريين
كتب للمهدي قبل الخلافة، وتجاوز حد الكتابة، لأنه رباه وكفله، واستقبل به الأمور فكان يكرمه ولا يخالفه في شيء يشير به عليه، إلى أن ولي الخلافة فاستوزره. وحكي أنه عزله بعد ذلك عن الدواوين، فكتب إليه: لم ينكر أمير المؤمنين حالي في قرب المؤانسة وخصوص الخلطة من حالي عنده قبل، في قيامي بواجب خدمته التي أدنتني من نعمته، ووطدت لقدمي في مهاد كرامته، فلم أُبدل أعز الله أمير المؤمنين حال التبعيد، ويقرب لي محل الإقصاء، وما يعلم الله مني فيما قلته، إلا ما يعلم أمير المؤمنين ! فإن رأى أكرمه الله أن يعارض قولي بعمله، بدءاً وعاقبةً، فعل إن شاء الله !. فلما قرأ الكتاب شهد بتصديقه قلبه، وقال: ظلمنا أبا عبيد الله فليرد إلى حاله.
وذكر أبو الفرج الأصبهاني قال: دخل أبو عبيد الله على المهدي، وكان قد وجد عليه في أمر بلغه عنه، وأبو العتاهية حاضر المجلس، فجعل المهدي يشتم أبا عبيد الله ويتغيظ عليه، ثم أمر به فجروا برجله وحبس، ثم أطرق المهدي طويلاً، فلما سكن أنشده أبو العتاهية:
أرى الدنيا لمن هي في يديه ... عذاباً كلما كثرت لديه
تهين المكرمين لها بصغرٍ ... وتكرم كلّ من هانت عليه
إِذا استغنيت عن شيءٍ فدعه ... وخذ ما أنت محتاجٌ إِليه
فتبسم المهدي، وقال لأبي العتاهية: أحسنت ! فقام أبو العتاهية ثم قال: والله يا أمير المؤمنين، ما رأيت أحداً أشد إكراماً للدنيا، ولا أصون لها، ولا أشح عليها، من هذا الذي جر برجله الساعة، ولقد دخلت على أمير المؤمنين، ودخل هو، وهو أعز الناس، فما برحت حتى رأيته أذل الناس، ولو رضي من الدنيا بما يكفيه، لأستوت أحواله، ولم تتفاوت ! فتبسم المهدي ودعا بأبي عبيد الله فرضي عنه، فكان أبو عبيد الله يشكر ذلك لأبي العتاهية.

ولما قتل المهدي ابنه عبيد الله بن أبي عبيد الله على الزندقة، قال له: لا يمنعك ما سبق به القضاء في ولدك، من ثلج صدرك، وتقديم نصحك، فإني لا أعرض لك رأياً على تهمة، ولا أؤخر لك قدماً عن مرتبة ! فقال: يا أمير المؤمنين، إنما كان ابني حسنةً، من نبت إحسانك أرضه، وتفقدك سماؤه، وأنا طاعة أمرك وعبد نهيك، وبقية رأيك لي أحسن الخلف عندي.. ويقال: إن المهدي قال له: إنه لو كان في صالح خدمتك، وما تعرفناه من طاعتك، ما يجب بمثله الصفح عن ولدك، ما تجاوز أمير المؤمنين ذلك إلى غيره، ولكنه نكص على عقبه، وكفر بربه ! فقال أبو عبيد الله: رضانا عن أنفسنا، وسخطنا عليها يا أمير المؤمنين موصول برضاك وسخطك، ونحن خدم نعمتك، تثيبنا على الإحسان فنشكر، وتعاقبنا على الإساءة فنصر ! فاحتال الربيع بن يونس حتى غير عليه المهدي، وزين له استعمال يعقوب بن داود، فجعلت حال أبي عبيد الله تتناقص، وحال يعقوب تتزايد، إلى أن سماه المهدي أخاً في الله ووزيراً، وأخرج بذلك توقيعات ثبتت في الدواوين، فقال في ذلك سلم الخاسر:
قل للإمام الذي جاءت خلافته ... تهدى إليه بحقٍ غير مردود
نعم المعين على الدنيا أُعنت به ... أخوك في الله يعقوب بن داود
وصرف أبا عبيد الله عن الوزارة، وقال أستحيي منه لقتلي ولده؛ واقتصر به على ديوان الرسائل، وكان يصل إليه على رسمه.

كتاب الهادي
قال ابن عبدوس: حكي لنا أن موسى الهادي سخط على بعض كتابه، ولم يسم لنا الكاتب، فجعل يقرعه بذنوبه، ويتهدده ويتوعده، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن اعتذاري مما تقرعني به رد عليك، وإقراري بما بلغك يوجب ذنباً علي لم أجنه، ولكني أقول شعراً:
فإن كنت ترجو في العقوبة راحةً ... فلا تزهدن عند المعافاة في الأجر
فأمر بألا يعرض له، وصفح عنه وأحسن إليه.
يوسف بن الحجاج الصيقل الكوفي
كان كاتباً ظريفاً، يغنى في كثير من أشعاره. ذكر ذلك أبو الفرج الأصبهاني؛ واختص بالهادي إلى أن توفي، وضاع فلما ورد الرشيد الرقة خرج يوسف هذا، وكمن له في نهر جاف على طريقه، وكان للرشيد خدم صغار يسميهم النمل، يتقدمونه، بأيديهم قسي البندق، يرمون بها من يعارضه في طريقه، فلم يتحرك يوسف حتى وافت قبته على ناقة، فوثب إليه يوسف، وأقبل الخدم الصغار يرمونه، فصاح بهم الرشيد: كفوا عنه ! فكفوا، وصاح به يوسف يقول:
أغيثاً تحمل الناق ... ة أم تحمل هارونا
أم الشمس أم البدر ... أم الدّنيا أم الدينا
ألا كلّ الذي عدّد ... م ت قد أصبح مقرونا
على مفرق هارونا ... فداه الآدميّونا
فمد الرشيد يده إليه، وقال: مرحباً بك يا يوسف، كيف كنت بعدي ؟ ادن مني، فدنا، وأمر له بفرس فركبه، وسار إلى جانب قبته ينشده والرشيد يضحك، وكان طيب الحديث، ثم أمر له بمال، وأمر بأن يغنى في الأبيات.
أبان بن عبد الحميد اللاحقي
خرج من البصرة يطلب الاتصال بالبرامكة، وكان الفضل بن يحيى غائباً، فقصده وأقام ببابه مدة مديدةً، لا يصل إليه، فتوسل إلى بعض بني هاشم ممن شخص مع الفضل في أن يوصل إليه شعراً، وقال فيه:
يا غزيز الندى ويا جوهر الجو ... هر من آل هاشمٍ في البطاح
إنّ ظنّي ولست تخلف ظنّي ... بك في حاجتي سبيل نجاحي
إنّ من دوننا لمصمت بابٍ ... أنت من دون قفله مفتاحي
فقال له: هات مديحك، فأعطاه شعراً في الفضل في هذا الوزن وقافيته، منه:
أنا من بغية الأمير وكنزٌ ... من كنوز البيان ذو أرباح
كاتبٌ حاسبٌ خطيبٌ أديبٌ ... ناصحٌ زائدٌ على النّصّاح
شاعرٌ مفلقٌ أخفّ من الرّي ... شة ممّا يكون تحت الجناح
لو دعاني الأمير أبصر منّي ... شمّرياً كالجلجل الصيّاح
فدعا به ووصله، وقدم معه.
وحكى ابن عبد ربه، عن إبراهيم بن محمد الشيباني أبي اليسر الكاتب قال: رفع أبان بن عبد الحميد اللاحقي إلى الفضل بن يحيى بن خالد رقعةً بأبيات له، وذكر منها ما تقدم وزاد:
لست بالضخم في رؤاي ولا الفد ... م ولا بالمجحدر الدّحداح

لحيةٌ كثّةٌ وأنفٌ طويلٌ ... واتّقادٌ كشعلة المصباح
لست بالنّاسك المشمّر ثوبي ... ه ولا الفاتك الخليع الوقاح
فدعا به، فلما دخل عليه، أتاه كتاب من أرمينية، فرمى به إليه، وقال له: أجب عنه ! فأجاب في غرضه، فأمر له بألف ألف درهم، وكان أول داخل وآخر خارج، وإذا ركب فركابه مع ركابه، قال: فبلغ هذا الشعر أبا نواس فقال:
إن أولى بقلة الحظّ منّي ... للمسمى بالجلجل الصيّاح
لم يكن فيك غير شيئين ممّا ... قلت في نعت خلقك الدّحداح
لحيةٌ كثّةٌ وأنفٌ طويلٌ ... وسوى ذاك ذاهبٌ في الرياح
فيك ما يحمل الملوك على السّخ ... ف ويزري بالماجد الجحجاح
بارد الظرف مظلم الكذب تيّا ... هٌ معيد الحديث سمج المزاح
فبعث إليه أبان: لا تذعها وخذ الألف ألف درهم، فبعث إليه أبو نواس: لو أعطيتني مائة ألف ألف ما كان بد من إذاعتها !فيقال إن الفضل بن يحيى لما سمع شعر أبي نواس قال: لا حاجة لي في أبان، قد رمي بخمس في بيت، لا يقبله على واحدة منهن إلا جاهل ! فقيل له: كذب عليه ! فقال: قد قيل ذلك، فأقصاه. كذا قال الشيباني، فإن يك صحيحاً، فقد أعتبه، وعاود فيه مذهبه.
قال أبو الفرج الأصبهاني، وذكر أبان: خص بالفضل وقدم معه، فقرب من قلب يحيى بن خالد، وصار صاحب الجماعة، وذا أمرهم؛ ويقال إنه عاتب البرامكة على تركهم إيصاله إلى الرشيد وإيصال مديحه إليه، فقالوا له: وما تريد من ذلك ؟ قال: أريد أن أحظى منه بمثل ما حظي به مروان ابن أبي حفصة، فقالوا: إن لذلك مذهباً في هجاء آل أبي طالب وذمهم، به يحظى، وعليه يعطى، فاسلكه حتى نفعل، قال: لا أستحل ذلك، قالوا: فما تصنع ؟ لا يجيء طلب الدنيا إلا بفعل ما لا يحل ! فقال أبان من قصيدة:
نشدت بحقّ الله من كان مسلماً ... أعمّ بما قد قلته العجم والعرب
أعمّ رسول الله أقرب زلفةً ... إليه أم ابن العمّ في رتبة النّسب
وأيّهما أولى به وبعهده ... ومن ذا له حقّ التراث بما وجب
فإن كان عباسٌ أحقّ بتلكم ... وكان عليٌّ بعد ذاك على سبب
فأبناء عبّاسٍ هم يرثونه ... كما العمّ لابن العمّ في الإرث قد حجب
فقال له الفضل: ما يرد اليوم على أمير المؤمنين أعجب من أبياتك ! وركب فأنشدها الرشيد، فأمر لأبان بعشرين ألف درهم، واتصل مدحه للرشيد بعد ذلك وخص به.
وأما هجاء أبي نواس لأبان، فإن يحيى بن خالد كان قد جعل أمر الشعراء وامتحان أشعارهم وترتيبهم في الجوائز إلى أبان، فلم ترض أبا نواس المرتبة التي جعله فيها، فقال يهجوه من أبيات:
جالست يوماً أباناً ... لا درّ درّ أبان
فجاوبه أبان بما أقذع فيه.
ولم يذكر أبو الفرج فيما أورد من أخباره تغير البرامكة عليه، ولا إحالة عندهم لحاله، بل حكى أن مروان بن أبي حفصة شكا إلى بعض إخوانه تغير الرشيد عليه وإمساكه يده عنه، فقال له: ويحك أتشكو الرشيد بعد ما أعطاك وأغناك ! قال: ويحك أتعجب من ذلك، هذا أبان اللاحقي قد أخذ من البرامكة بقصيدة قالها واحدة، مثل ما أخذته من الرشيد في دهري كله، سوى ما أخذه منهم ومن أشباههم بعدها.
وكان أبان نقل للبرامكة كتاب كليلة ودمنة فجعله شعراً ليسهل حفظه عليهم، وهو معروف، فأعطاه يحيى عشرة آلاف دينار، وأعطاه الفضل خمسة آلاف دينار. قال الصولي: فتصدق أبان بثلث المال، خمسة آلاف دينار لأنه كان حسن السريرة حافظاً للقرآن.

عبد الله بن سوار بن ميمون
كان يكتب ليحيى بن خالد؛ قال: فدعاني يوماً لأكتب، فقال لي: اجلس فاكتب، فقلت: ليس معي دواة، فقال لي: أرأيت صاحب صناعة تفارقه آلته ! وأغلظ لي في حرف أراد به حصني على الأدب، ثم دعا بدواة فكتبت بين يديه كتاباً إلى الفضل، في شيء من أموره، ففطن أني متثاقل عن الكتاب بسبب تلك المخاطبة، فأراد إزالة ذلك عني، فقال لي: أعليك دين ؟ فقلت: نعم قال: كم ؟ قلت: ثلاث مائة ألف درهم، فأخذ الكتاب ووقع فيه بخطه:
وكلكم قد نال شبعاً لبطنه ... وشبع الفتى لؤمٌ إذا جاع صاحبه

إن عبد الله ذكر أن عليه ديناً يخرجه منه ثلاث مائة ألف درهم، فقبل أن تضع هذا الكتاب من يدك، فأقسمت عليك لما حملت ذلك إلى منزله، من أحضر مالي قبلك، إن شاء الله ! قال: فحملها الفضل إلي وما علمت لها سبباً غير تلك الكلمة.

حجر بن سليمان
حكى يزيد المهلبي أن يحيى بن خالد رقي إليه عن حجر بن سليمان الكاتب الحراني أمور، فكان عليه لها مغيظاً، فلما وجه الرشيد يحيى إلى حران ليقتل من هنالك من الزنادقة، ضاق بحجر منزله، فكتب إلى يحيى: أما بعد فإنك لما حللت بأرضنا، وقرب مزارك منا، اعتلج بقلبي أمران؛ أما أحدهما فالاستتار منك وخفض الشخص في عسكرك؛ وأما الآخر فالإصحار لك والرضا بحكومتك، فاعتلى الرجاء لعفوك الخوف من بادرتك، وعلمت أني لم أُعجزك فيما مضى من سالف الأيام، ولأنت أعظم شأناً من الذي لم تعد قدرته الحيرة، إذ يقول له النابغة:
فإنّك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع
فأنا أسألك مسألةً، يعظم الله عليها أجرك، ويجزل عليها ذخرك، وأسألك بحق نعم الله إلا بللت ريقي بعفوك، وفرجت الضيقة التي لزمتني بعطفك. فكتب إليه يحيى بالأمان له والعفو عنه.
وفي الكتاب المعرب عن المغرب، أن حجر بن سليمان هذا، كان من أفصح الناس، مع أدب الكتابة وظرفها، فلما ولي يزيد بن مزيد الشيباني أرمينية، بعث إليه، فأمر فشقت ثيابه، وقال: والله لأُزيلن لحمك وعصبك عن عظمك، لا والله ما طلبت ولاية أرمينية إلا لأشفي نفسي منك! فقال: لا تعجل أيها الأمير، فإن تكن يدك عاليةً فيد الله أعلى، فانظر إلى من فوقك، ولا تنظر إلى من تحتك، فكل رب من العباد مربوب لذي القوة المتين الذي ينتقم إذا شاء في عاجل! أُعيذك بالله أيها الأمير أن تساعد غضبك فتندم وخذ الفوز في الدين والدنيا بالعفو، فإن الله يقول: " وليَعْفُوا وليَصْفحوا ألا تُحبُّون أن يَغْفِر الله لَكمِ واللهُ غفورٌ رحيم " . قال عوانة بن الحكم الكلبي والد عياض بن عوانة: شهدته يتكلم بهذا الكلام، وهو مبتل الريق، سهل الكلام، سالم من السقط، كأنما يقرأ في صحيفة، فقال يزيد: أستغفر الله، والله إنا لمربوبون للرب العظيم، وإنه ينبغي لنا إذا أطللنا على من دوننا أن نذكر من فوقنا، خلوا عنه وهاتوا له كسوة ! يا حجر بن سليمان قد أعدناك إلى مرتبتك.
سهل بن هارون
كتب ليحيى بن خالد، وكان منه بمكان، ولزمه إلى حين القبض عليه. حكى عنه قال،: إني لأحمل أرزاق العامة بين يدي يحيى بن خالد في فنائه داخل سرادقه، وهو مع الرشيد بالرقة، وهو يعقدها جملاً بكفه، إذ غشيته سآمة، وأخذته سنة فغلبته عيناه، فقال: ويلك يا سهل، طرق النوم شفري، وأكلت السنة خاطري، فما ذاك ؟ قلت: ضيف كريم، إن قريته روحك، وإن منعته عنتك، وإن طردته طلبك، وإن أقصيته أدركك وإن غالبته غلبك ! قال: فنام أقل من فواق بكية، أو نزع ركية، ثم انتبه مذعوراً، فقال: يا سهل لأمر ما كان، ذهب والله ملكنا، وذل عزنا، وانتقضت أيام دولتنا قلت: وما ذاك، أصلح الله الوزير ؟ قال: رأيت كأن منشداً أنشدني:
كان لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيسٌ، ولم يسمر بمكة سامر
فأجبته على غير روية، ولا إجالة فكرة:
بلى نحن كنا أهلها فأزالنا ... صروف اللّيالي والجدود العواثر

قال: فوالله ما زلت أعرفها منه، وأراها ظاهرةً فيه، إلى الثالث من يومه ذاك، فإني لفي مقعدي بين يديه، أكتب توقيعات في أسفل كتبه لطلاب الحوائج إليه، قد كلفني إكمال معانيها بإقامة الوزن فيها، إذ وجدت رجلاً سعى إليه، حتى أوفى مكباً عليه، فقال: مهلاً ويحك، ما اكتتم خير، ولا استتر شر ! قال: قتل أمير المؤمنين الساعة جعفراً ! قال: أو قد فعل ؟ قال: نعم ! قال: فما زاد على أن رمى القلم من يده وقال: هكذا تقوم الساعة بغتةً ! قال سهل: فلو انكفأت السماء على الأرض ما زاد. تبرأ منهم الحميم، واستبعد عن نسبهم القريب، وجحد ولاءهم المولى، واستعبرت لفقدهم الدنيا، فلا لسان يحظى بذكرهم، ولا طرف ناظر يشير إليهم؛ وضم يحيى بن خالد، وقته ذلك، والفضل ومحمد وخالد، بنوه وبنوهم، مع بني جعفر بن يحيى، ومن لف لفهم، أو هجس بصدره أمل فيهم؛ وبعث في الرشيد، فوالله لقد أعجلت عن النظر، فلبست ثياب إحرامي وأعظم رغبتي إلى الله في الإراحة بالسيف، وألا يعبث في عبث جعفر، فلما دخلت عليه، ومثلت بين يديه، عرف الذعر في بجرض ريقي، وشخوصي إلى السيف المشهور ببصرين فقال: إيهاً يا سهل، من غمط نعمتي، وتعدى وصيتي، وجانب موافقتي، أعجلته عقوبتي ! قال: فوالله ما وجدت جوابها حتى قال لي: ليفرخ روعك، ويسكن جأشك، وتطب نفسك، وتطمئن حواسك، فإن الحاجة إليك قربت منك، وأبقت عليك ما يبسط منقبضك، ويطلق معقولك، وأشار إلى مصرع جعفر وقال:
من لم يؤدّبه الجمي ... ل ففي عقوبته صلاحه
فقال سهل: فوالله ما أعلم أني عييت عن جواب آخر قط، غير جواب الرشيد يومئذ، فما عولت في الشكر إلا على تقبيل باطن رجليه !.. ثم قال: اذهب قد أحللتك محل يحيى، ووهبت لك ما ضمته أبنيته وحواه سرادقه، فاقبض الدواوين، وأحص جباء جعفر لنأمرك بقبضه إن شاء الله. قال سهل: فكنت كمن نشر من كفن وأُخرج من حبس.
ثم جلت حال سهل عند الرشيد وخص به، فدخل عليه يوماً وهو يضاحك ابنه المأمون، فقال: أللهم زده من الخيرات، وابسط له في البركات، حتى يكون كل يوم من أيامه موفياً على أمسه، مقصراً عن غده ! فقال الرشيد: يا سهل، من روى من الشعر أحسنه وأجوده، ومن الحديث أصحه وأبلغه، ومن البيان أفصحه وأوضحه، إذا رام أن يقول لم يعجزه، فقال: يا أمير المؤمنين: ما ظننت أن أحداً تقدمني إلى مثل هذا المعنى ! قال: بلى، أعشى همدان حيث يقول:
رأيتك أمس خير بني لؤيٍّ ... وأنت اليوم خيرٌ منك أمس
وأنت غداً تزيد الخير ضعفاً ... كذاك تزيد سادة عبد شمس
واستثقل المأمون سهل بن هارون، فدخل عليه يوماً والناس على منازلهم، فتكلم المأمون بكلام ذهب فيه كل مذهب، فلما فرغ أقبل سهل على ذلك الجمع فقال: مالكم تسمعون ولا تعون ! وتشاهدون ولا تفهمون، وتفهمون ولا تعجبون، وتعجبون ولا تنصفون ! أما والله إنه ليقول ويفعل في اليوم القصير مثل ما قالت وفعلت بنو مروان في الدهر الطويل، عربهم كعجمهم وعجمهم كعبيدهم، ولكن كيف يعرف الدواء من لا يشعر بالداء ! فرجع المأمون فيه إلى الرأي الأول.
وهذا كاستثقال الحجاج زياد بن عمرو العتكي، فلما وفد على عبد الملك ابن مروان، والحجاج حاضر، قال: يا أمير المؤمنين، إن الحجاج سيفك الذي لا ينبو، وسهمك الذي لا يطيش، وخادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم؛ فلم يكن بعد ذلك أحد أخف عليه منه.
وشبيه ثناء زياد على الحجاج ثناء أبي دلف العجلي على عبد الله بن طاهر عند المأمون، حين دخل عليه بعد الرضا عليه، فسأله عن عبد الله بن طاهر، فقال: خلفته يا أمير المؤمنين أمين غيب، نصيح جيب، أسداً فينا قائماً على براثنه، يسعد به وليك، ويشقى به عدوك، رحب الفناء لأهل طاعتك، ذا بأس شديد لمن زاغ عن قصد محبتك، قد فقهه الحزم وأيقظه العزم، فقام في بحر الأمور، على ساق التشمير، يبرمها بأيده وكيده، ويفلها بحده وجده، وما أُشبهه في الحرب إلا بقول عباس بن مرداس:
أكرّ على الكتيبة لا أُبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها
والمأمون في خلفاء بني العباس أغزرهم علماً، وأشهرهم حلماً، وكان يقول: لو علم الناس لذتنا بالعفو لتقربوا إلينا بالجرائم ! وقال لعمه إبراهيم بن المهدي: لقد حببت إلي العفو حتى خفت ألا أُؤجر عليه !

فلو تقدم عصر مولانا الذي فضل العصور الخالية، وأحال على العطل الملوك الحالية، لقلت إياه تقيل، معارف وعوارف، وعلاه تسربل، من توالد وطوارف، وإلا فهأنا مع الاصطناع الظاهر، والاستشفاع بالنجل المبارك الطاهر، كالذي قال للحسن بن سهل، وقد أتى ما أتيت عن جهل: ذنبي أعظم من السماء، وأوسع من الهواء، وجرمي أكثر من الماء ! فقال له الحسن: على رسلك، قد تقدمت لك طاعة، وحدثت منك توبة، وليس للذنب بينهما مكان، وما ذنبك في الذنوب بأعظم من عفو أمير المؤمنين في العفو ! وفيه يقول الحسن بن رجاء الكاتب:
صفوحٌ عن الإجرام حتّى كأنّه ... من العفو لم يعرف من الناس مجرما
وليس يبالي أن يكون به الأذى ... إذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلما
وقد تضمنت هذه الرسالة من أنبائه، ما يدل على كماله، ويجلو للأحداق صور مكارم الأخلاق في سماحه واحتماله.

كلثوم بن عمرو العتابي
كان ممن جمع له البيان والخطابة والشعر الجيد والرسائل الفاخرة.
قال ابن عبد ربه: بلغني أن صديقاً لكلثوم العتابي أتاه يوماً فقال له: اصنع لي رسالة؛ فاستمد مدةً، ثم علق القلم، فقال له صاحبه: ما أرى بلاغتك إلا شاردةً عنك فقال له العتابي: إني لما تناولت القلم تداعت علي المعاني من كل جهة، فأحببت أن أترك كل معنى حتى يرجع إلى موضعه ثم أجتني لك أحسنها.
وهذا كما روي أن ابن المقفع كان كثيراً ما يقف قلمه، فقيل له في ذلك فقال: إن الكلام يزدحم في صدري، فيقف قلمي لتخيره ! وسعي بالعتابي إلى الرشيد فخافه، فهرب إلى بلاد الروم، فقال يعتذر، وهو مشبه في حسن الاعتذار بالنابغة الذبياني:
جعلت رجاء العفو عذراً وشبته ... بهيبة إمّا غافرٍ أو معاقب
وكنت إذا ما خفت حادث نبوةٍ ... جعلتك حصناً من حذار النوائب
فأنزل بي هجرانك اليأس بعد ما ... حللت بوادٍ منك رحب المشارب
أظلّ ومرعاي الجديب مكانه ... وآوي إلى حافات أكدر ناضب
ولم يثن عن نفسي الردى غير أنّها ... تثوب لباقٍ من رجائك ثائب
هي النفس محبوسٌ عليك رجاؤها ... مقيدة الآمال دون المطالب
وتحت ثياب الصبر منّي ابن لوعةٍ ... يظلّ ويمسي مستكنّ الجوانب
فنىً ظفرت منه الليالي بزلّةٍ ... فأقلعن منه داميات المخالب
حنانيك إني لم أكن بعت عزةً ... بذلٍ، وأحرزت المنى بالمواهب
فقد سمتني الهجران حتّى أذقتني ... عقوبة زلاّتي وسوء مناقبي
فهأنا مقصىً في رضاك وقابضٌ ... على حدّ مصقول الغرارين قاضب
ومنتزحٌ عمّا كرهت وجاعلٌ ... هواك مثالاً بين عيني وحاجبي
وقال أيضاً:
رحل الرجاء إليك مغترباً ... حشدت عليه نوائب الدهر
ردت إليك ندامتي أملي ... وثنى إليك عنانه شكري
وجعلت عتبك عتب موعظةٍ ... ورجاء عفوك منتهى عذري
فعفا عنه الرشيد؛ ومن جيد مدحه فيه:
إمامٌ له كفٌ يضمّ بنانها ... عصا الدّين ممنوعاً عن البري عودها
وعينٌ محيطٌ بالبريّة طرفها ... سواءٌ عليها قربها وبعيدها
وله فيه أيضاً:
رعى أُمّة الإسلام فهو إمامها ... وأدّى إليها الحقّ فهو أمينها
مقيمٌ بمستنّ العلا حيث تلتقي ... طوارق أبكار الخطوب وعونها
ومن بديع الاعتذار قول إبراهيم بن المهدي للمأمون:
يا خير من وخدت به شدنيّةٌ ... بعد الرسول لآيسٍ أو طامع
لم أدر أنّ لمثل جرمي غافراً ... فظللت أرقب أيّ حتفٍ صارع
والله يعلم ما أقول فإنّها ... جهد الأليّة من مقرٍ باخع
ما إن عصيتك والغواة تمدّني ... أسبابها إلاّ بنيّة طائع
وقوله:
ذنبي إليك عظيم ... وأنت أعظم منه
فخذ بحقك أولاً ... فاصفح بفضلك عنه
إن لم أكن في فعالي ... من الكرام فكنه
وقول إسحاق بن إبراهيم الموصلي للمأمون أيضاً:

لا شيء أعظم من جرمي ومن أملي ... لحسن عفوك عن جرمي وعن زللي
فإن يكن ذا وذا في القدر قد عظما ... فأنت أعظم من جرمي ومن أملي
وقول علي بن الجهم للمتوكل، وقد تمثل به جعفر بن عثمان المصحفي فنسب إليه وهماً:
عفا الله عنك ألا حرمةٌ ... تعوذ بعفوك أن أُبعدا
لئن جلّ ذنبٌ ولم أعتمده ... فأنت أجلّ وأعلى يدا
ألم تر عبداً عدا طوره ... ومولىً عفا ورشيداً هدى
ومفسد أمرٍ تلافيته ... فعاد فأصلح ما أفسدا
أقلني أقالك من لم يزل ... يقيك ويصرف عنك الرّدى
وما أحسن قول أبي بكر بن عمار للمعتمد محمد بن عباد رحمه الله:
سجاياك إن عافيت أندى وأسجح ... وعذرك إن عاقبت أجلى وأوضح
وإن كان بين الخطّتين مزيّةٌ ... فأنت إلى الأدنى من الله أجنح
ويشبه قول العتابي:
ردّت إليك ندامتي أملي ... البيت...
ما كتب به سعيد بن حميد إلى بعض الرؤساء معتذراً، وقد نسب ذلك أبو إسحق الحصري إلى ابن مكرم وأتى به مختصراً: نبت بي عنك غرة الحداثة فردتني إليك الحنكة، وباعدتني منك الثقة بالأيام، فأدنتني إليك الضرورة، فسدت فلم أصلح لغيرك، وبخستك معروفك فلم أهنأ ظلمك، وهأنا قد ألقيت بيدي إليك لما ضاقت علي المذاهب، وتقطعت بي السبل، وأدركتني عاقبة ما أسلفت، وارتهنت بسوء النية ما قدمت، فتركت ما أنكر، وانصرفت إلى ما أعرف، ثقةً بإسراعك إلي وإن أبطأت عنك، وقبولك المعذرة وإن قصرت عن واجبك، وإن كانت ذنوبي قد سدت علي مسالك الصفح عني فراجع في مجدك وسؤددك، وأي موقف هو أدنى من هذا الموقف، لولا أن الاعتذار فيه إليك، والمخاطبة بما ضمنته كتابي إليك ؟ أم أي خطة هي أزرى بصاحبها من خطة أنا راكبها، لولا أنها في طلب رضاك، فإن رأيت أن تستقبل الصنيعة بقبول العذر، وتجدد النعمة باطراح الحقد، وتستأنف المنة بنسيان الزلة، وتردني إلى موضعي في قلبك، وإن كنت أعلم أني لم أدع إلى ذلك سبيلاً، فإنا رأينا قديم الحرمة وحديث التوبة يمحوان ما بينهما من الإساءة ويمسحانه، فعلت، فإن أيام القدرة وإن طالت قصيرة، والمتعة بها وإن كثرت قليلة، والمعروف وإن أُسدي عوداً على بدء إلى من يكفره مشكور على كل حال بلسان غيره.
وكان العتابي أيام هارون الرشيد في ناحية المأمون، وشيعه عند خروجه إلى خراسان، حتى وقف معه على سندان كسرى، فلما حاول وداعه قال له المأمون: سألتك بالله يا عتابي إلا عملت على زيارتنا إن صار لنا من هذا الأمر شيء ؟؟!.. ولما قدم المأمون بغداد يوم السبت منتصف صفر سنة أربع ومائتين، توصل إليه العتابي، فتعذر عليه لقاؤه، فتعرض ليحيى بن أكثم فقال: أيها القاضي إن رأيت أن تذكر بي أمير المؤمنين ! فقال له يحيى: ما أنا بحاجب ! فقال العتابي: قد علمت، ولكنك ذو فضل، وذو الفضل معوان؛ قال: سلكت بي غير طريقي ! فقال: إن الله ألحقك بجاه ونعمة، وهما مقيمان عليك بالزيادة إن شكرت، والتغيير إن كفرت، وأنا اليوم خير منك لنفسك، أدعوك إلى ما فيه زيادة نعمتك، وأنت تأبى ذلك، ولكل شيء زكاة، وزكاة الجاه بذله للمستعين ! فدخل إلى المأمون فقال: يا أمير المؤمنين أجرني من العتابي ولسانه، فلم يأذن له وشغل عنه، فلما رأى العتابي جفاءه قد تمادى كتب إليه:
ما على ذا كنّا افترقنا بسندا ... ن ولا هكذا رأيت الإخاء
لم أكن أحسب الخلافة يزدا ... د بها ذو الصّفاء إلاّ صفاء
تضرب الناس بالمهنّدة البت ... ر على غدرهم وتنسى الوفاء !
يعرض بقتله لأخيه على غدره ونكثه لما عقد الرشيد، فلما قرأ المأمون كتابه دعا به، فدنا منه وسلم بالخلافة، ثم وقف بين يديه، فقال: يا عتابي بلغتني وفاتك فغمتني، ثم انتهت إلي وفادتك فسرتني، وإني لحري بالغم لبعدك والسرور بقربك، فقال: يا أمير المؤمنين لو قسم هذا البر على أهل منى وعرفات لوسعهم عدلاً، وأعجزهم شكراً، وإن رضاك لغاية المنى لأنه لا دين إلا بك، ولا دنيا إلا معك ! قال: سل حاجتك، قال: يدك بالعطية أطلق من لساني بالمسألة؛ فأمر له بخمسين ألفاً.

الفضل بن الربيع

قال ابن عبد ربه: كتب للرشيد يحيى بن خالد بن برمك، ثم الفضل بن الربيع، ثم إسماعيل بن صبيح، وللأمين الفضل بن الربيع. وقال في موضع آخر: وممن نبه بالكتابة بعد الخمول الربيع والفضل بن الربيع، وسمى معهما جماعة.
وقال الصولي: لما قبض الرشيد على البرامكة استوزر الفضل، وقد كان على حجابته، وبقي، فربما استخلف من ينوب فيها عنه. ويحكى أنه دخل قبل ذلك على يحيى بن خالد فلم يوسع له، ولا هش، ثم قال: ما جاء بك يا أبا العباس ؟ قال: رقاع معي ! فرده عن جميعها، فوثب الفضل يقول:
عسى ولعلّ الدّهر يثني عنانه ... بعثرة جدٍّ والزمان عثور
فتدرك آمالٌ وتقضى مآربٌ ... وتحدث من بعد الأُمور أُمور
فرده ووقع له بما أراد.
واتصلت وزارته للرشيد، إلى أن توفي بطوس، وهو معه، فأخذ البيعة للأمين على القواد وسائر الطبقات، وأجل الناس ثلاثاً، ثم قفل بهم إلى بغداد ففوض الأمين إليه الأمر، وجعله وزيره والآمر والناهي في كل شيء. وكان يرى انهماك الأمين ونقصه فيسوءه ذلك، وتبلغ به الحفيظة والنصيحة أحياناً إلى أن يسمعه ما لا يحتمل فيحلم عنه. وحكى ابن عبدوس: أن الأمين عزم يوماً على الاصطباح، وأحضر ندماءه وأمر كل واحد منهم أن يطبخ قدراً بيده، وأحضر المغنين، ووضعت الموائد، فلما ابتدأ يأكل، دخل إليه إسماعيل بن صبيح فقال: يا أمير المؤمنين هذا هو اليوم الذي وعدتني أن تنظر في أعمال الخراج والضياع وجماعات العمال، وقد اجتمعت علي أعمال منذ سنة، لم تنظر في شيء منها، ولم تأمر فيها، وفي هذا دخول الضرر في الأعمال؛ فقال له محمد: إن اصطباحي لا يحول بيني وبين النظر، وفي مجلسي من لا أنقبض عنه، من عم وابن عم، وهم أهل هذه النعمة التي يجب أن تحاط، فأحضر ما تريد عرضه، فاعرضه علي وأنا آكل، لأتقدم فيه بما يحتاج إليه، إلى أن يرفع الطعام، ثم أُتمم النظر فيما يبقى، ولا أسمع سماعاً حتى أُتمم الباقي وأفرغ منه؛ فحضر كتاب الدواوين بأكثر ما في دواوينهم، وأقبل إسماعيل بن صبيح يقرأ على الأمين، وهو يأمر وينهى أحسن أمر ونهي وأسده، وربما شاور من حوله في الشيء بعد الشيء، وكلما وقع في شيء وضع بالقرب من إسماعيل بن صبيح، ورفعت الموائد، ودعا بالنبيذ، وكان لا يشرب في القدح أقل من رطل واحد، وأخذ في تتميم العمل، ثم دعا بخادم له، فناجاه بشيء أسره إليه، فمضى ثم عاد، فلما رآه نهض واستنهض إبراهيم بن المهدي وسليمان بن علي، فما مشوا عشرة أذرع، حتى أقبل جماعة من النفاطين، فضرموا تلك الكتب والأعمال بالنار، وكان الفضل بن الربيع حاضراً فلحق بالأمين وقد شق ثوبه، وهو يقول: الله أعدل من أن يرضى أن يكون مهدي أمة محمد نيه صلى الله عليه وسلم من هذه أفعاله ! وهو يضحك ولا ينكر قول الفضل.
ولما قتل الأمين استتر الفضل، وطال استخفاؤه، إلى أن دخل المأمون بغداد، فسأل عنه، فشفع فيه طاهر بن الحسين؛ وقد قيل إن المأمون وجده قبل الشفاعة ثم شفع فيه طاهر، فعفا عنه. ويقال: إن الفضل لقي طاهراً في موكبه، فثنى عنان فرسه معه، وقال: يا أبا الطيب ما ثنيت عناني مع أحد قبلك قط، إلا مع خليفة أو ولي عهد ! قال له طاهر: صدقت ولكن قل حاجتك، فقال: صفح أمير المؤمنين عني وتذكيره بحرمتي ! فقال المأمون: قد صفحت عنه، على أن تذكيره بحرمته ذنب ثان؛ وكان الفضل قد أمسكه في حجره، في حولي رضاعه؛ وأمر بإحضاره، فلما وقعت عينه عليه سجد وقال: إنما سجدت لله شكراً لما ألهمني من العفو عنه ! ثم قال: يا فضل أكان في حقي عليك وقح آبائي أن تثلبني وتشتمني وتحرض على دمي ؟ أتريد أن أفعل بك مع القدرة مثل ما أردت بي ؟ فقال الفضل: يا أمير المؤمنين إن عذري يحقدك إذا كان واضحاً جميلاً، فكيف إذ أعقته العيوب، وقبحته الذنوب، فلا يضق عني من عفوك ما وسع غيري منه، وإنك كما قال الحسن بن رجاء فيك:
صفوحٌ عن الإجرام حتى كأنّه ... من العفو لم يعرف من الناس مجرما
وليس يبالي أن يكون به الأذى ... إذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلما
وقد تقدم إنشادهما؛ فأمسك عن عتابه، وأذن له في حضور بابه.

إسماعيل بن صبيح

كتب للرشيد، وخص به، وله يقول إبقاءً عليه، وإيصاءً بما يحفظ الصنيعة لديه: إياك والدالة، فإنها تفسد الحرمة، ومنها أُتي البرامكة.
ويروى أن أعرابياً دخل على الرشيد فأنشده أُرجوزةً مدحه فيها، وإسماعيل بن صبيح يكتب بين يديه كتاباً، وكان من أحسن الناس خطاً وأسرعهم يداً، فقال الرشيد للأعرابي: صف هذا الكاتب ! فقال:
رقيق حواشي الحلم حين تثور ... يريك الهوينا والأمور تطير
له قلما بؤسى ونعمى كلاهما ... سحابته في الحالتين درور
يناجيك عمّا في ضميرك خطّه ... ويفتح باب النّجح وهو عسير
فقال الرشيد: قد وجب لك يا أعرابي عليه حق كما وجب علينا، يا غلام ادفع له دية الحر ! فقال إسماعيل: وعلى عبدك دية العبد.
ثم كتب للأمين في خلافته فسعي به إليه، وحمل على القبض عليه، وقال في ذلك الحسن بن هانئ يخاطب الأمين مغرياً به:
أليس أمين الله سيفك نقمةً ... إذا ماق يوماً في خلافك مائق
فكيف بإسماعيل يسلم مثله ... عليك ولم يسلم عليك منافق
أُعيذك بالرحمن من شرّ كاتبٍ ... له قلمٌ زانٍ وآخر سارق
أُحيمر عادٍ إنّ للسيف وقعةً ... برأسك فانظر بعدها من توافق
تجهّز جهاز البرمكيين وارتقب ... بقية ليلٍ صبحه بك لاحق
وقال أيضاً:
ألا يا أمين الله تحبّنا ... قلوب بني مروان والأمر ما تدري
فما بال مولاهم لسرّك موضعاً ... وما باله أمسى يشارك في الأمر
تبيّن أمين الله في لحظاته ... شنان بني العاصي وحقد بني صخر
وقال أيضاً يتوعده:
ألا قل لإسماعيل إنّك شاربٌ ... بكأس بني مروان ضربة لازم
أيسمن أولاد الطريد ورهطه ... بإهزال آل الله من آل هاشم
وإن ذكر الجعديّ أذريت عبرةً ... وقلت أقاد الله من كلّ ظالم
وتخبر من لاقيت أنّك صائمٌ ... وتغدو بفرجٍ مفطرٍ غير صائم
فإن يسر إسماعيل في فجراته ... فليس أمير المؤمنين بنائم
فما غير له الأمين حالاً، ولا قبل فيه مقالا.

داود القيرواني

كتب لمحمد بن مقاتل العكي، ثم لإبراهيم بن الأغلب، في إمارتهما على إفريقية من قبل هرون الرشيد، باستمراره على ولايته بعد عزله بابن الأغلب، وخاف بسبب ذلك من إبراهيم، عند افتضاح الأمر واتضاح ما تمالأ عليه من النكر، فاستخفى إلى أن كتب إليه مستعطفا: أما بعد أعز الله الأمير فلو كان أحد يبلغ بحرصه رضا بشر، بصحه مودة وتفقد حق، وإيثار نصيحة لرجوت أن أكون، بما جبلني الله عليه، من تفقد ما يلزمني من ذلك، أكرم الناس عند الأمير منزلةً، وألطفهم لديه حالاً، وأبسطهم أملاً، ولكن الأمور تجري على خلاف ما يروي العباد في أنفسهم، وإن من ساعده الدهر حظي في أموره كلها، واستحسن القبيح منه، وأُظهرت محاسنه، وسترت مساوئه، ومن خالفه القضاء، وأعان عليه الدهر، لم ينتفع بحرص، ولم يسلم من بغي، وقد كنت إذا افتخر الناس بساداتهم للأمير أطال الله بقاءه ذاكراً، وبيومه مسروراً، ولغده راجياً، إلى أن أتانا الله من ذلك بما كنت أبسط له أملي، وأُعظم فيه رجائي، وكان مني في إجهاد نفسي بالقيام بما يلزمني من نصيحة الأمير أيده الله حسب الذي يحق علينا، فبينا أنا مشرف على إدراك كل خير، وبلوغ نهاية كل فضل، إذ رماني الدهر بفرقته، ولزمني من ذلك ما كنت أشد الناس زرية به، فوجد أهل البغي والفرية إلي سبيلاً، وقد صرت أعز الله الأمير لمكان الخوف الذي ملكني نازع أمكنة، وغرض ألسنة، فلو تحقق الأمير سيء حالي، وكنت العدو، لأشفق علي، ورثى لي، وذنبي أيده الله عظيم، وخناقي ضيق، وحجتي ضعيفة، وعفو الأمير وطوله أعظم من ذلك كله، فإن تداركني الأمير بما أؤمل فذاك الذي يشبهه وينسب إليه وأرجوه منه، وإن يعاقب فبالذنب الذي اجترمته، وهو أحق من انتشلني من زلتي، وأقالني من عثرتي، ورجا ما يرجوه مثله من أهل المنة والطول من مثل ما عظمت المنة عليه، والأمير أولى بي، وأنظر مني لنفسي، وأعلى بما سألته ورغبت إليه فيه عيناً ويداً، والله ولي توفيقه فيما عزم عليه من ذلك، وعليه التوكل لا شريك له؛ وأنا أرجو أطال الله بقاءه أن أكون ممن يتعظ بالتجربة، ويقيس موارد أموره بمصادرها، ولا يدع تصحيح النظر لنفسه، فيما يستقبل منها إن شاء الله، أتم الله على الأمير نعمه، وهناه كرامته، وألبسه أمنه وعافيته في الدنيا والآخرة. فأمنه واستكتبه وكان يشاوره في أموره.
حكى صاحب كتاب المعرب عن المغرب أن إبراهيم بن الأغلب شاور القواد في الخروج إلى ابن رستم الإباضي، فأشار عليه أكثرهم بالخروج، فشاور داود الكاتب، وقال يا أبا سليمان وهو أول يوم كناه فيه ما تقول ؟ فقال له: هؤلاء الجند قد تجنبت عنهم وتحصنت منهم، فما يؤمنك من غدرهم إذا خرجت معهم ! وإنما بينك وبينهم خرق المفازة؛ فتبين له الحق، فأقام وبعث ابنه أبا العباس عبد الله والجيوش إلى طرابلس.
وقال محمد بن نافع لداود: إنما أنت صاحب قلم، فمالك ولهذا ! فقال له: أنا أقتل بقلمي جلفاً مثلك ! ثم كتب ابنه إبراهيم بن داود لمحمد بن إبراهيم ابن الأغلب، وبعده لأبن أخيه أبي إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب.

الحسن بن سهل
كتب للمأمون، هو وأخوه الفضل قبله، واستوزره بعد سنة ثلاث ومائتين، وقد كان وجهه من خراسان والياً على بغداد والكوفة والبصرة وما والاهما، ثم أصهر إليه؛ وعدهما ابن عبد ربه في النابهين بالكتابة بعد الخمول كالربيع وابنه الفضل ويحيى بن خالد وابنه جعفر وغيرهم؛ وكانا من البلاغة والسيادة بمكان.
كان الفضل إذا كتب عنه الكاتب فأحسن، شكره على رؤوس الملأ وأبلغ، وإذا أخطأ، وضع الكتاب تحت مصلاه، وسكت إلى أن يخلو به، فيريه الخطأ ويعرفه الصواب. وكان الحسن أيضاً على سنته في إيثار كتابه وإكرامهم، وهو أشار على المأمون بأحمد بن يوسف بعده، فاستوزرهما؛ وأما كلماتهما وتوقيعاتهما فمروية محفوظة. وكتب الحسن إلى المأمون:
ما أحسن العفو من القادر ... لا سيّما من غير ذي ناصر
إن كان لي ذنبٌ ولا ذنب لي ... فماله غيرك من غافر
أعوذ بالودّ الذي بيننا ... أن تفسد الأوّل بالآخر

وحكى ابن عبدوس: أن المأمون شرب يوماً، والحسن معه، فقال له: يا أبا محمد لعلكم تظنون أني قتلت الفضل بن سهل، لا والله ما قتلته ! فقال: بلى والله لقد قتلته؛ فقال المأمون: والله ما قتلته ! قال الحسن: بلى والله لقد قتلته، ثلاثاً ! فقام المأمون من مجلسه فقال: أُفٍ لكم ! وانصرف الحسن إلى منزله، فاتصل الخبر بالمعلى بن أيوب وغسان بن عباد، وهما ابنا خالتي الحسن والفضل، فسارا إلى الحسن فعذلاه ووبخاه وطالباه بالركوب والاعتذار إلى المأمون، وأتياه فقال له غسان: نحن عبيدك يا أمير المؤمنين وصنائعك، بل عرفنا، واصطناعك شرفنا، كنا أذلاء فرفعتنا، وكنا فقراء فأغنيتنا، فاعف خطيئة مسيئنا لمحسننا؛ قال: ويحك ما أصنع، وحلفت له ثلاثاً ؟ فقال المعلى: يا أمير المؤمنين، أنسته فأنس، وسقيته فانتشى، فاغفر له هفوته؛ فقال المأمون: يا غلام سر إلى أبي محمد فقل له: إما تجيئنا وإما نجيئك !

أحمد بن أبي خالد
كتب للحسن بن سهل، ثم وزر للمأمون، وكان أكولاً نهماً ملتهب المعدة، لا يصبر على تأخير الغداء، فرفع إلى المأمون أن ابن أبي خالد يقتل المظلوم ويعين الظالم بأكلة، فأجرى عليه ألف درهم كل يوم لمائدته، ثم كان إذا وجهه في حاجة، أمره بأن يتغدى قبل ويأكل.
قال الصولي: ولى المأمون دينار بن عبد الله الحبل، ثم صرفه ووجد عليه، فأرسل إليه أحمد بن أبي خالد، يعد ديونه ويطلب منه المال، وقال لياسر الخادم: امض معه وانظر فإن تغدى أحمد عنده كان معه علينا، وإن لم يتغد كان معنا عليه ! فلما أحس دينار بمجيئه، أعد له طعاماً ثم جاء ابن أبي خالد، فأدى رسالة المأمون حتى كملت، ثم حضر عشرون فروجاً فأكلها، ثم جيء بسمك فما ترك منه شيئاً، ولما توسط الأكل، قال له دينار: مالكم عندي إلا سبعة آلاف ألف، ما أعرف غيرها ! فلما أكمل الأكل، قال له أحمد: احمل إلى أمير المؤمنين ما ضمنت ! فقال: ما عندي إلا ستة آلاف ألف ! فقال له ياسر: ما قلت إلا سبعة آلاف ألف، وقد سمع ذلك أبو العباس؛ فقال ابن أبي خالد: ما أحفظ ما كان، ولكن قل الآن أسمع ! قال دينار: ما قلت إلا ستة آلاف ألف. وسبق ياسر فأخبر المأمون، وجاء أحمد فقال: إنه قد أقر بخمسة آلاف ألف. فضحك المأمون وقال: ما قام على أحد غداء بأغلى منا ! قام علي غداء أحمد بن أبي خالد بألفي ألف درهم !

وكان المأمون قد استبطأ عمرو بن مسعدة، وفي مجلسه علي وأحمد والحسن بنو هشام، وأحمد بن أبي خالد، فقال: يحسب عمرو أني لا أعرف أخباره، وما يجري إليه، وما يعامل به الناس ! بلى والله، ثم لعله لا يسقط عني منه شيء ! فصار أحمد ابن أبي خالد إلى عمرو بن مسعدة، فخبره بما جرى وأُنسي أن يستكتمه، فراح عمرو إلى المأمون، وطرح سيفه وقال: أنا عائذ بالله من سخط أمير المؤمنين، أنا أقل من أن يشكوني إلى أحمد، وأن يسر علي ضغناً، فقال له: ويحك وما ذاك ؟ فخبره بما بلغه، ولم يسم له من خبره، فقال له: لم يكن الأمر كما بلغك، إنما ذكرت جملةً من تفصيل كنت على إخبارك به وموافقتك عليه، فجرى شيء من جنسه، فليحسن ظنك ! ولم يزل يؤنسه حتى طابت نفسه، وتحلل ما كان دخل عليه، ثم ضمه وقبل عمرو يده وانصرف. قال أحمد بن أبي خالد: فغدوت على المأمون فقال: يا أحمد ما لمجلسي حرمة ؟ فقلت: يا أمير المؤمنين وهل الحرمات إلا لما فضل من مجلسك ! فقال: ما أراكم ترضون بهذه المعاملة فيما بينكم ! فقلت له: وأي معاملة ؟ فقال: ذهب بعض بني هشام، فحكى لعمرو ما جرى أمس في المجلس، فجاءني متنصلاً مظهراً ما وجب أن يظهره، فاعتذرت إليه وتبين الخجل في، كأني اعتذرت من شيء قلته، ولقد أعطيته ما يقنعه مني أقله، لما داخلني من الحياء منه.. فقلت: أُعيذك بالله من سوء الظن يا أمير المؤمنين، أنا أخبرته ببعض ما جرى، لا بعض بني هشام ! قال: وما حملك على ذلك ؟ قلت: الشكر لك والنصح والمحبة لأن تتم نعمتك على أوليائك وخدمك، ولعلمي بأن أمير المؤمنين يحب أن يصلح له الأعداء، فضلاً عن الأولياء والأوداء، لا سيما مثل عمرو في دنوه من الخدمة وموقعه من العمل، ومكانه من رأي أمير المؤمنين، فخبرته بما كان منه ليصلحه، ويقيم من نفسه أودها لسيده ومولاه، ويتلافى ما فرط منه، ولا يفسد قلبه ويبطل الغناء الذي فيه، وإنما كنت أكون غبياً لو أذعت سراً على السلطان فيه ندم أو نقض تدبير، وأما هذا فما كان عندي إلا صواباً ! فقال لي: أحسنت والله يا أحمد !.. وأمر لي بمال كثير.
ولم يزل المأمون بسعة ذرعه وكرم طبعه يحتمله، على نهمه وحدته وسوء خلقه وعبوس وجهه المضروب به المثل في زمانه. حكى الجاحظ: أن بعض الكتاب سأل عبد الله بن طاهر حاجة، فوعده قضاءها، وطالت أيام مطاله الانجاز، فكتب إليه: أما بعد، فقد كان وعدك تلقاني مكتسياً بشاشة عمرو بن مسعدة، وأرى إنجازه تأخر تأخر من خلع عليه عبوس أحمد بن أبي خالد ! وكتب في آخره:
ولقد علمت وإن نصبت لي المنى ... أنّ الخصاصة لا تداوى بالمنى
فلئن وفيت لأنهضنّ بشكركم ... ولئن أبيت لأحملنّ على القضا
النذل يلحف في السؤال ولا ترى ... للحرّ إلحافاً ولو أكل الثرى
فأنجزها عبد الله بن طاهر.
وقال الصولي: ركب أحمد بن أبي خالد يوماً إلى المأمون، فكثر عليه الناس فنهرهم، فقال له رجل: عمري، أُشكر الله فقد أعطاك ما لم يعط نبيه ! قال: وما هو ؟ قال: إن الله يقول " ولو كُنتَ فظّاً غَليظَ القلبِ لأنْفَضُّوا من حَولك " وهأنت فظ غليظ القلب، ونحن نتكاثر عليك ! فقال له: حاجتك ؟ قال ترتبني في دار أمير المؤمنين المأمون. قال: قد فعلت ! قال: وتقضي ديني وهو ثلاثون ألف درهم ! قال: قد فعلت.
ثم إنه اعتل من فساد مزاج، فتخلف عن المأمون إلى أن مات، فحضر المأمون جنازته، وصلى عليه، ووقف على قبره، فلما دلي فيه قال: رحمك الله فلأنت كما قال الشاعر:
أخو الجدّ إن جدّ الرّجال وشمّروا ... وذو باطلٍ إن شئت ألهاك باطله

أحمد بن يوسف
وزر للمأمون بعد أحمد بن أبي خالد، وكانا جميعاً مع عمرو بن مسعدة من كتاب الحسن بن سهل، وهو أشار على المأمون بهما، فقد مهما لوزارته، ولم يكن في زمن أحمد بن يوسف أكتب منه، وشعره يرتفع عن أشعار الكتاب، وهو أحد من رأس ببلاغته وبيانه.

وكان أول ظهوره وارتفاعه أن المخلوع محمد بن الرشيد لما قتل، أمر طاهر بن الحسين الكتاب أن يكتبوا إلى المأمون، فأطالوا، فقال طاهر: أُريد أخصر من هذا ! فوصف له أحمد بن يوسف وموضعه من البلاغة، فأحضره لذلك، فكتب: أما بعد، فإن المخلوع وإن كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللحمة، فقد فرق بينهما حكم الكتاب والسنة في الولاية والحرمة، لمفارقته عصمة الدين وخروجه عن الأمر الجامع للمسلمين، لقول الله عز وجل فيما اقتص علينا من نبأ نوح: " يا نوحُ إنّه ليس من أهلِك إنه عملٌ غيرُ صالح " ، ولا صلة لأحد في معصية الله، ولا قطيعة ما كانت القطيعة في ذات الله، وكتابي إلى أمير المؤمنين وقد قتل الله المخلوع ورداه رداء نكثه، وأحصد لأمير المؤمنين أمره، وأنجز له ما كان ينتظره من سابق وعده، والحمد لله رب العالمين، الراجع إلى أمير المؤمنين معلوم حقه، الكائد له من ختر عهده، ونقض عقده، حتى رد الله به الألفة بعد فرقتها، وجمع به الأمة بعد شتاتها، وأحيا به أعلام الدين بعد دروسها، وقد بعثت إليك بالدنيا وهي رأس المخلوع، وبالآخرة وهي البردة والقضيب، والحمد لله الآخذ لأمير المؤمنين حقه، الراجع إليه تراث آبائه الراشدين. فرضي طاهر ووصله، وشهر أمره، ولم يكن قبل مذكوراً.
وكان المأمون يقول بعد أن بلاه واختبره، إذا وصفه له أحمد بن أبي خالد: يا عجبا لأحمد بن يوسف كيف استطاع أن يكتم نفسه ! قال أبو العيناء: كان أحمد بن يوسف الكاتب قد تولى صدقات البصرة، فجار فيها وظلم، وكثر الشاكي به والداعي عليه، ووافى باب أمير المؤمنين المأمون زهاء خمسين من جلة البصريين، فعزله المأمون وجلس لهم مجلساً خاصاً، وأقام أحمد بن يوسف لمناظرتهم، فكان مما حفظ من كلامه أن قال يا أمير المؤمنين لو أن أحداً ممن ولي الصدقات سلم من الناس لسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: " ومنهم من يَلْمِزُك في الصّدَقاتِ، فان أُعطوا منها رضوا، وإن لم يُعطوا منها إذا هم يسخطون " . فأعجب المأمون جوابه، واستجزل مقامه، وخلى سبيله.
وحكى الصولي خلاف هذا قال: شغب أهل الصدقات على المأمون وناظروه، فقال أحمد بن يوسف وهو إذ ذاك وزيره: إنهم ظلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف من بعده ! قال الله عز وجل: وتلا الآية ... فاستحسن ذلك المأمون.

عمرو بن مسعدة
كان أعلى الكتاب منزلة عند المأمون، ولم يكن وزيراً، وقد تقدم إعتاب المأمون إياه، واعتذاره إليه وماء الحياء يدور في وجهه، واغتفاره لما أثار من وجده عليه، في اسم ابن أبي خالد، ومن توقيعات المأمون في قصة متظلم منه: يا عمرو اعمر نعمتك بالعدك فإن الجور يهدمها؛ ثم بلغ من حظوته أنه كان في مجلس المأمون يقرأ عليه الرقاع، فجاءته عطسة فردها، ولوى عنقه، فرآه المأمون فقال: يا عمرو لا تفعل، فإن رد العطسة وتحويل الوجه بها يورثان انقطاعاً في العنق. فشكر له ذلك بعض ولد المهدي وقال: ما أحسنها من مولى لعبده، وإمام لرعيته ! فقال المأمون: وما في هذا ؟ إن هشام بن عبد الملك اضطربت عمامته، فأهوى إليها الأبرش الكلبي ليصلحها، فقال هشام: إنا لا نتخذ الإخوان خولاً ! فالذي فعل هشام أحسن مما فعلت ! فقال عمرو: يا أمير المؤمنين إن هشاماً يتكلف ما طبعت عليه، ويظلم فيما تعدل فيه، ليس له قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا قيامك بحق الله، وإنك والملوك كما قال النابغة الذبياني:
ألم تر أنّ الله أعطاك سورةً ... ترى كلّ ملكٍ دونها يتذبذب
فإنّك شمسٌ والملوك كواكبٌ ... إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب
علي بن الهيثم

كان المأمون يوماً جالساً وعنده أحمد بن الجنيد الاسكافي، وجماعة من خاصته، إذ دخل علي هذا، ويعرف في الكتاب بجونقا، فلما قرب من المأمون قال: يا عدو الله لأفرقن بين لحمك وعظمك، ولأفعلن بك ..! ثم سكن قليلاً؛ فقال أحمد بن الجنيد: نعم والله يا أمير المؤمنين إنه وإنه ... ولم يدع شيئاً من المكروه إلا ذكره، فقال المأمون وقد هدأ غضبه: يا أحمد متى اجترأت علي هذه الجرأة ؟ رأيتني غضبت هذه الغضبة فأردت أن تزيد في غضبي، أما سأؤدبك وأؤدب غيرك ! يا علي قد صفحت عنك، ووهبت لك كل ما كنت أطالبك به ! ثم رفع رأسه إلى الحاجب فقال: لا يبرح أحمد بن الجنيد من الدار حتى يحمل إلى علي بن الهيثم مائة ألف درهم من ماله ليكون ذلك عقل؛ فلم يبرح حتى حملها.
وقال الصولي: كان علي بن الهيثم يكتب للفضل بن الربيع؛ وخبره مع المأمون عن ابن عبدوس.

صالح بن علي
كان من وجوه الكتاب، وكان يعرف بالأضخم، فطالت به العطلة في أيام المأمون، والوزير إذ ذاك أحمد بن أبي خالد، فحدث صالح أنه أضاق جداً واشتد اختلاله، قال: فبكرت يوماً إلى أحمد بن أبي خالد مغلساً، لأكلمه في أمري، فخرج من بابه، وبين يديه الشمع، قاصداً إلى دار المأمون، فلما نظر إلي أنكر بكوري، وعبس في وجهي، وقال: في الدنيا أحد يبكر هذا البكور ليشغلنا عن أمورنا ! قال: فقلت له: أصلحك الله، ليس العجب مما تلقيتني به، إنما العجب مني إذ سهرت ليلي، وأسهرت جميع من في منزلي توقعاً للصبح، حتى أسير إليك، أستعينك في أموري على صلاحها، وعلي وعلي إن وقفت لك بباب أو سألتك حاجةً، حتى تصير إلي معتذراً ! وانصرفت مغموماً لما لقيني به، مفكراً فيه، متندماً على ما فرط مني من اليمين، غير شاك في العطب؛ فأنا كذلك إذ دخل علي بعض الغلمان فقال: الوزير أحمد بن أبي خالد مقبل إليك في الشارع ! ثم دخل آخر فقال: قد دخل دربنا؛ ثم دخل آخر وقال: قد قرب من الباب؛ ثم تبادر أحد الغلمان بين يديه فقال: قد دخل، فخرجت مستقبلاً له، فلما استقر به المجلس قال لي: كان أمير المؤمنين قد أمرني بالبكور إليه في بعض مهماته، فدخلت إليه وقد غلبني البهر مما فرط مني إليك حتى أنكر علي، فقصصت عليه القصة فقال لي: قد أسأت بالرجل، امض إليه معتذراً مما قلت ! فقلت: فأمضي إليه فارغ اليدين ؟ قال: فتريد ماذا ؟ فقلت: تقضي دينه، قال: وكم هو ؟ فقلت: ثلاث مائة ألف درهم؛ فأمرني بالتوقيع لك بها، فوقعت بها، ثم قلت: فإذا قضى دينه يرجع إلى ماذا ؟ قال: فوقع له ثلاث مائة ألف يصلح بها أمره؛ فقلت: فولاية يشرف بها ؟ قال: وله مصر أو غيرها مما يشبهها، فقلت: بمعونة يستعين بها على سفره ! فأمر بالتوقيع لك بمائة ألف، وهذه التوقيعات لك بسبع مائة ألف درهم، والتوقيع بمصر؛ قال: فدفعها إلي وانصرف.
علي بن عيسي القمي

ضمن للمأمون أعمال الضياع والخراج ببلده، وبقيت عليه بقية مبلغها أربعون ألف دينار، أنكر المأمون تأخيرها، وألح في المطالبة بها، فأحضره يوماً، وتقدم إلى علي بن صالح حاجبه بإنظاره ثلاثة أيام، فإن أحضر المال وإلا ضربه حتى يتلف؛ وكانت بينه وبين غسان بن عباد عداوة، فانصرف من دار المأمون آيساً من نفسه، لا يقدر على شيء من المال، فقال له كاتبه: لو عرجت على غسان ابن عباد فسلمت عليه، وأخبرته أنا بين يديك بخبرك، لرجوت أن يعينك على بعض أمرك ! فحملته حاله على قبول ذلك، ومضى إلى غسان، فاستؤذن له عليه، فأذن له ورحب به، وتلقاه ووفاه حق القصد، وقص عليه الكاتب القصة، فقال: أرجو أن يكفيه الله ! ونهض علي بن عيسى كاسف البال، آيساً من نفسه، نادماً على قصده، فلما خرج من دار غسان قال لكاتبه: ما زدتني بقصد غسان شيئاً غير تعجيل المهانة والذل بقصد من كان يعاديني! وعاد إلى منزله منصرفاً، بعد أن تشاغل في طريقه مع بعض إخوانه، فوافاه وببابه بغال عليها أربعون ألف دينار مع رسول غسان، فبلغه سلامه، وعرفه غمه بما رفع إليه، وتقدم إليه بحضور دار المأمون من غد ذلك اليوم مبكراً، فلما وصل الناس إلى المأمون ووصل فيهم علي بن عيسى، مثل غسان بين يدي الصفين وقال: يا أمير المؤمنين، إن لعلي بن عيسى خدمةً وحرمةً وسالف أمل، ولأمير المؤمنين عنده إحسان، وهو أولى بربه، وقد لحقه من الخسران في ضمانه ما قد تعارفه الناس، وعليه من حدة المطالبة وشدتها، والوعيد بضرب السياط ما قد حيره، وقطعه عن الاحتيال فيما عليه، فإن رأى أمير المؤمنين أن يسعفني ببعض ما عليه ويضعه عنه فعل ! ولم يزل به إلى أن حطه إلى النصف مما عليه، واقتصر به على عشرين ألفاً، فقال غسان: على أن يجدد له الضمان، ويشرف بخلعة، فأجابه المأمون؛ فقال: يأذن لي أمير المؤمنين أن أحمل الدواة ليوقع منها أمير المؤمنين بذلك ويبقى شرف حملها علي وعلي عقبي ؟ قال: افعل، بتجديد الضمان، وعليه الخلع، فلما وصل إلى منزله رد العشرين ألفاً الباقية إلى غسان وشكره، فردها إليه وقال: لم أستحطها لنفسي، وإنما أحببت توفيرها عليك، وليس والله يعود إلي من هذا المال حبة واحدة أبداً، وترك الجميع له.

كاتب طاهر بن الحسين
لما قتل طاهر بن الحسين علي بن عيسى بن ماهان في خروجه إليه من بغداد، دعا بكاتبه ليكتب إلى الفضل بن سهل بخبره، فلم يكن في الكاتب فضل من إفراط الجزع وشدة الزمع، مما شاهده، فكتب طاهر بيده إلى الفضل، وكان من عادته أن يخاطبه بالإمارة، فأسقط ذلك وكتب إليه: أطال الله بقاءك، وكبت أعداءك، وجعل من يشنؤك فداءك، كتبت إليك ورأس علي ابن عيسى بين يدي وخاتمه في اصبعي، وعسكره تحت يدي، والحمد لله رب العالمين.
ثم لما نظر بالأمين وأنفذ رأسه إلى المأمون، قال الفضل بن سهل: ما فعل بنا طاهر ! سل علينا سيوف الناس وألسنتهم، أمرناه أن يبعث به إلينا أسيراً، فبعث به عقيراً.

وكان لطاهر كاتب يعرف بعيسى بن عبد الرحمن، فأنفذه إلى الفضل بن سهل يظهر الإعتذار إليه، ويتشفى بمخاطبته إياه، وطاهر مقيم بالجزيرة والفضل بخراسان، وقد كان الشغب الذي حدث بينهما ظاهراً، فورد عسكر المأمون بمرو، وكثير ممن بها من الوجوه عاتب على الفضل، فحضره وبحضرته عبد الله ابن مالك الخزاعي، وهو أشدهم عتباً عليه، فكلمه بكلام كثير أغلظ له فيه، وعرض له بكل ما يكرهه، ثم قال له بعقبه: ولولا أني رسول مأمون ما قلت ما قلته ! فقال له الفضل: أما خشيت في تحمل مثل هذه الرسالة القتل ؟ فقال له عيسى: ما شككت في القتل، إلا أني ميلت بين أن آبى على صاحبها تحملها، وبين أن أقبلها، فرأيت أني إن لم تحملها عجل لي القتل، وحصل لي مذمة بمخالفته، وإن قبلتها كنت قد شكرت نعمته وأطعت أمره، وعشت بينه وبين الأمير أعزه الله المسافة التي قد عشتها، ثم لعلي أن أكون قد وردت من فضل الأمير وعفوه على ما أرجو ألا اُبعد عنه ! فقال له الفضل: لو أطعت فيك النصحاء لأسترحت منك، ولم تك تكلمني في مجلس أمير المؤمنين ودار الخلافة بما كلمتني به، فقال له عيسى: وما رأى النصحاء أعز الله الأمير ؟ فقال: أن كنت أضرب عنقك قبل أن تصل إلي، وأرد رأسك في مخلاة إلى صاحبك، فأكون قد قطعت يده ولسانه ! فقال له عيسى: أنا يده ولسانه ؟ والله لو أن صاحبي أخرج يده من مضربه لوجد حوله سبعين بل سبع مائة بل سبعة آلاف كلهم أغنى وأجزى وأكفى مني، ومن أنا فيمن عضده الله تعالى به، وأعطاه من كفاته ؟ فبلغ هذا الكلام من الفضل كل مبلغ، وقام مغضباً .. فوجه عبد الله بن مالك الخزاعي إلى عيسى أن مسيري إليك لو كان يستتر لسرت إليك، ولكني أُحب أن تسير إلي، فسار إليه، فلما رآه قال له: إني أردت إتيانك لشيء أُحب فعله، قال: فليقل الأمير ما أحب! فنهض إليه وقبل بين عينيه، وقال: شفيتني من العلج في كل ما كلمته به، ولكن الذي غاظه وبلغ منه غاية المساءة آخر كلامك !.. ثم انصرف مكرماً.
وكان الفضل مهيباً حليما، وقال لبعض من استحجبه: إنك قد صرت حاجبي وتسمع مني السر والعلانية، وربما ذكرت الرجل واسأت ذكره، فلا يؤثرن ذلك فيك، ولا تتغيرن له، فلعل ذلك غاية عقوبتنا إياه.

ميمون بن إبراهيم
حكى الزبيدي في كتاب طبقات النحويين من تأليفه عن أبي العباس ثعلب، عن ابن قادم أستاذه قال: وجه إلي إسحق يعني ابن إبراهيم المصعبي يوماً، فأحضرني ولم أدر ما السبب، فلما قربت من مجلسه، تلقاني ميمون بن إبراهيم كاتبه على الرسائل، وهو على غاية الهلع والجزع، فقال لي بصوت خفي: إنه إسحق !! ومر غير متلبث ولا متوقف، حتى رجع إلى مجلس إسحق، فراعني ذلك، فلما مثلت بين يديه قال لي: كيف يقال: وهذا المال مال أو هذا المال مالاً ؟ قال: فعلمت ما أراد ميمون، فقلت له: الوجه وهذا المال مال، ويجوز: وهذا المال مالاً؛ فأقبل إسحق على ميمون بغلظة وفظاظة ثم قال: الزم الوجه في كتبك ودعنا من يجوز ويجوز ! ورمى إلي بكتاب كان في يده، فسألت عن الخبر، فإذا ميمون قد كتب إلى المأمون وهو ببلاد الروم عن إسحق، وذكر مالاً حمله إليه، فكتب: وهذا المال مالاً فخط المأمون على الموضع من الكتاب، ووقع بخطه في حاشيته: تكاتبني بلحن ! فقامت القيامة على إسحق، فكان ميمون بعد ذلك يقول: لا أدري كيف أشكر ابن قادم، بقى علي روحي ونعمتي. قال أبو العباس ثعلب: فكان هذا مقدار العلم، وعلى حسب ذلك كانت الرغبة فيه، والحذر من الزلل، قال: وهذا المال مالاً ليس بشيء، ولكن أحسن ابن قادم في التأتي لخلاص ميمون.
ويشبه هذا الخبر ما حكى الجاحظ، أن الحصين بن أبي الحر كتب إلى عمر رضي الله عنه كتاباً، فلحن في حرف منه، فكتب إليه عمر أن قنع كاتبك سوطاً. وفي كتاب ابن عبدوس: أن عمر وجد في كتاب لأبي موسى الأشعري لحناً، فكتب إليه بذلك. وخالف ابن عبدوس أبو جعفر بن النحاس فروى أن كاتباً لأبي موسى كتب إلى عمر: من أبو موسى، فكتب إليه عمر أن اضربه خمسين سوطاً واعزله عن عملك؛ إلا أن تكون القضيتان لكاتب واحد.

وقال المأمون لبعض ولده، وسمع منه لحناً: ما على أحدكم أن يتعلم العربية فيقيم بها أوده ويزين مشهده، ويفل حجج خصمه بمسكتات حكمه، ويملك مجلس سلطانه بظاهر بيانه. أيسر أحدكم أن يكون لسانه كلسان أمته أو عبده فلا يزال الدهر أسير كلمته !. ويروى أنه كان يتفقد ما يكتب به الكتاب، فيسقط من لحن، ويحط مقدار من أتى بما غيره أجود منه في العربية؛ وكان يقول: إياكم والشونيز في كتبكم؛ يعني النقط والإعجام. وقال محمد بن عبد الله ابن طاهر، وقد رفعت إليه قصة أكثر صاحبها إعجامها: ما أحسن ما كتب إلا أنه أكثر شونيزها ! وكان سعيد بن حميد يقول: لأن يشكل الحرف على القارئ أحب إلي من أن يعاب الكاتب بالشكل، فإذا كرهوا الإعجام والشكل فما ظنك باللحن ! إلا أن ترك ذلك قد يورث إشكالاً.
حكى الماوردي عن قدامة بن جعفر أن بعض كتاب الدواوين حاسب عاملاً لعبيد الله بن سليمان بن وهب، فشكا منه إلى عبيد الله، وكتب رقعةً يحتج فيها بصحة دعواه ووضوح شكواه، فوقع فيها عبيد الله: هدا هدا فأخذها العامل وظن أن عبيد الله أراد: هذا هذا إثباتاً لصحة دعواه، كما يقال في إثبات الشيء: هو هو فحمل الرقعة إلى كاتب الديوان، وأراه خط أبي عبد الله وقال: إنه صدق قولي وصحح ما ذكرت ! فخفي على الكاتب ذلك، وطيف به على كتاب الدواوين، فلم يقفوا على مراده، فشدد عبيد الله الكلمة الثانية وكتب تحتها: والله المستعان ! استعظاماً منه لتقصيرهم في استخراج مراده حتى احتاج إلى إيضاح مراده بالنقط والشكل.
وكان عبد الله بن طاهر يفرط في تفقد المخاطبات عنه وإليه، ويتوعد عليها، ويعاقب فيها. قال لكاتب له أمره بشيء يعمله: إحذر أن تخطئ فأعاقبك بكذا وكذا .. وذكر أمراً عظيماً، فقال له الكاتب: أيها الأمير فمن كانت هذه عقوبته على الخطأ فما ثوابه على الإصابة ؟.. وكتب إليه بعض عماله على العراق كتاباً صحائفه غليظة، فأمر عبد الله بإشخاص كاتب العامل إليه، فلما ورد عليه قال له عبد الله: إن كان معك فأس فاقطع حزم كتابك ثم ارجع إلى عملك، وإن عدت إلى مثلها عدنا إلى إشخاصك لقطعها.
وقد أوصى عبد الملك بن مروان أخاه عبد العزيز، حين وجهه إلى مصر فقال: تفقد كاتبك وحاجبك وجليسك، فإن الغائب يخبره عنك كاتبك، والمتوسم يعرفك بحاجبك، والخارج من عندك يذكرك بجليسك !

أبو بكر بن سليمان الزهري
أراده زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية على كتابته، وكان عالماً أديباً شاعراً مترسلاً، مع دين وصيانة، فأبى عليه واستعفاه، فلم يعفه، فاشترط عليه ثلاثة شروط، قال زيادة الله: وما هي ؟ قال: لا أخلع ردائي، وأجلس في مجلسك بغير إذن، أنا شيخ ومجلسك لا يجلس فيه إلا بإذنك، ولا أكتب في دم أحد ولا ماله ! قال: لك ذلك؛ ووفى له بهذه الشروط.
وروي أنه قال له يوماً: يا زهري أصليبة أنت أم مولى ؟ فقال: صلبني القدم أعز الله الأمير ! فقال زيادة الله: إني لأسر بصدقه مني بعلمه.
ومر به زيادة الله يوماً وهو يصلي فناداه: يا زهري يا زهري ! فلم يجبه، وتمادى في صلاته، فغضب عليه وعاتبه وقال: دعوتك فلم تجبني ! فقال: كنت بين يدي من هو أعظم منك ! قال: صدقت ! ويشبه هذا ما حدث به عبد الصمد بن المعذل قال: ركب أبي إلى الأمير عيسى بن جعفر وكان على البصرة، فوقف ينتظره، فلما أبطأ عليه أقبل يصلي، وكان المعذل إذا دخل في الصلاة لم يقطعها، فجعل عيسى يصيح: يا معذل ! يا أبا عمرو .. والمعذل على صلاته لم يعرج عليه، فغضب عيسى ومضى، فلما أتم صلاته لحق عيسى وأنشأ يقول:
قد قلت إذ هتف الأمير ... يا أيّها القمر المنير
حرم الكلام فلم أُجب ... وأجاب دعوتك الضمير
فلو أنّ نفسي طاوعت ... ني إذ دعوت ولا أُحير
لبّاك كلّ جوارحي ... بأناملٍ ولها السرور
شوقاً إليك وحقّ لي ... ولكدت من فرحٍ أطير
فرضي عنه عيسى، وأمر له بعشرة آلاف درهم. وروى هذه القصة أبو علي البغدادي في نوادره عن أبي بكر الأنباري عن أبيه عن عبد الصمد بن المعذل، وبينهما خلاف يسير.
الفضل بن مروان

كان في أيام الرشيد على ديوان الخراج، ثم كتب للمعتصم قبل خلافته، وتولى أخذ البيعة له عند وفاة المأمون، والمعتصم إذ ذاك غاز معه، وكان الفضل في ذلك الوقت خليفةً على بغداد للمأمون، فأعطى الجند رزق أربعة أشهر، ثم ورد المعتصم يوم السبت مستهل رمضان سنة ثمان عشرة ومائتين، فاستوزره يوم وروده، ورد الأمر كله إليه، فغلب عليه لتربيته إياه.
ولما ظهر بين إبراهيم بن المهدي والفضل بن مروان من العداوة ما ظهر، قصده العباس وعلي ابنا المأمون، وعبد الوهاب بن علي، وأعلموه أنهم قد علموا على ذكر مساوئ الفضل للمعتصم، وسألوه معاونتهم والشهادة بتصديقهم، فلم يستوف كلامهم ولا أجابهم، حتى جاءهم رسول المعتصم فطلبهم، فساروا إليه، فابتدأ العباس بكل قبيح، وتكلم عبد الوهاب وعلي بأقبح وأشنع منه، وأقبل علي بن المأمون على إبراهيم، فقال له: مالك يا عم لا تتكلم، وما أحد ركبه الفضل بأكثر مما ركبك به ؟ فقال له إبراهيم: ليس كل ما ركبني به الفضل يعرف، وإن أياديه السود عندي لكثيرة، إلا أن مجالس الملوك لا يغضب فيها لغيرها .. ثم أقبل على المعتصم فقال له: يا أمير المؤمنين قد رفعت الفضل إلى مرتبة لم ترفع الخلفاء إليها أحداً، ولا تكون محطته إلا لإحدى ثلاث خصال: إما خيانة في نفس المملكة، وإما خيانة في حرمة، وإما خيانة في نفسه بإفشاء سر يعود بضرر، ولا يعتقد الفضل ذنباً يعادي به بني العباس، فيحاول نقل الخلافة منهم إلى غيرهم، فقد سلم من الخيانة في المملكة، وليس الفضل بمستهتر يجرم نفسه بإفشاء سر يعود منه ضرر وهو آمن منه، لأن المعروف منه أن يؤثر دنيا أمير المؤمنين على دنيا نفسه وعلى آخرته أيضاً؛ فقال علي بن المأمون: فقد ظهرت خيانة الفضل في الأموال ! فقال إبراهيم: ليس من خان أمير المؤمنين مالاً يعد عدواً، لأن الناس كلهم إلا من عصم الله يرغبون في الأموال، ويقوى بها على خدمة السلطان، ومن بلغ منزلة الفضل لم يسأ به الظن ! فاستحسن المعتصم ما كان من إبراهيم وشكره له الفضل بن مروان، وندم على ما كان أسلفه من المكروه.
قول إبراهيم بن المهدي: لا تكون محطته إلا لإحدى ثلاث خصال من قول المأمون: يحتمل الملوك كل شيء إلا ثلاثة: القدح في الملك وإفشاء السر والتعرض للحرم.
ثم اتصلت مطالبة الفضل والسعاية به، وقيل للمعتصم: إنه يفعل وأنت خليفة كما كان يفعل وأنت أمير، لا يهابك ! فنكبه، وكان يقول: عصى الله وأطاعني فسلطني الله عليه؛ ومما قيل في نكبته:
لا تغبطنّ أخا الدنيا بمقدرةٍ ... فيها وإن كان ذا عزٍ وسلطان
يكفيك من غير الأيّام ما صنعت ... حوادث الدهر بالفضل بن مروان
إنّ الليالي لم تحسن إلى أحدٍ ... إلاّ أساءت إليه بعد إحسان
والعيش حلوٌ ومرٌّ لا بقاء له ... جميع ما الناس فيه زائلٌ فان
وندم المعتصم على عزله، فكان يقول: إذا نصر الهوى بطل الرأي ! وترك أمواله لم ينفق منها شيئاً، وقال: لا أستحلها ! ثم استقل بعد ذلك وتصرف للواثق والمتوكل وغيرهما، وكان ابن الزيات يعاديه، فوقف يوماً في وزارته الواثق على باب ديوان الخراج، ودعا بالفضل وقال له: إن أمير المؤمنين يقول: يا بن الفاعلة لأسفكن دمك، وآخذن مالك ! قال: وأمرك بسماع الجواب؟ قال له: لا، ولكن قله ! قال: لا .. ثم انصرف، وأمر ونهى ما تبين منه شيء، ثم بكر إلى دار الخلافة، فحجب، وفعل فعله بالأمس كذلك ثلاثة أيام، ثم أُدخل بعد إلى الواثق، فبكى وقال: الله في دمي وقد بلغت السبعين، وما ذنبي غير حبي للمعتصم وغلمانه، فضلاً عن ولده ! ومالك ول جمعه غيري، فقد سقطت هيبتي عمن يحمله إلي، فإن ابن الزيات قال كذا وكذا، قال له: أو كلمك به على رؤوس الناس ؟ قال: نعم ! قال: والله لأدفعنه إليك فتستصفي ماله ! فانصرف الفضل إلى مكانه ما ظهر عليه شيء من السرور. وكان الفضل عاقلاً داهياً جزلا، يذكر عنه أنه ما ظهر عليه سرور بفرح قط ولا حزن بمصيبة.

وتلاحى هو وأحمد بن المدبر يوماً بين يدي المتوكل قال الصولي: وكان الخلفاء لا ينكرون تنازع الكتاب بين أيديهم وابن المدبر يلي في ذلك الوقت أمر دار المتوكل كله، المطابخ والفرش وغير ذلك، وفي المجلس مرفقة قد جعلت لأمر ولم ترفع، فضرب الفضل بيده على المرفقة ضرباً شديداً، فقام منها غبار كثير، فقال له أحمد: أتغبر بين يدي أمير المؤمنين ؟ أما لك أدب ! أما خدمت الملوك ! فضحك الفضل وقال: من خدمتي للملوك فعلت هذا، ليرى أمير المؤمنين قلة كفايتك في فرشه، وأنك لا تهتم بنفضها، ويعلم كيف يكون فيما يبعد عنه، ولولا خوفي من سوء الأدب حقاً لضربت البساط فيرى ما هو أعظم من هذا ! فبهت أحمد، وجعل يعتذر، فما مضت إلا أيام حتى عزل عن الدار.

محمد بن عبد الملك الزيات
كتب للمعتصم ووزر له ولأبنه الواثق بعده خلافته كلها وأياماً يسيرة من خلافة المتوكل، وهو أحد من رأس بعلمه وبيانه وبلاغته. ولما استقصر المعتصم أحمد بن عمار المزاري، وسأله عن الكلأ فلم يعرفه، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون ! خليفة أُمي، وكاتب أُمي !! فعرف مكانة ابن الزيات من الأدب، فأمر بإدخاله عليه، وقال له: ما الكلأ ؟ فأجابه بما هو مشهور عنه، فاستحسن المعتصم ذلك، وقال لأبن عمار: انظر في الدواوين والأعمال، وهذا يعرض علي الكتب، فلم ير اطراح ابن عمار لقصوره، ولا بخس ابن الزيات حق منظومه ومنثوره.

وحكي أن المعتصم شاور بعض خاصته في محمد بن عبد الملك الزيات، فأشار به، فعزم عليه، ثم ورد فتح بابك على المعتصم، فسر به وأحب أن ينشأ فيه كتاب يبقى ذكره، فأشار ابن أبي دواد عليه بتكليفه ابن الزيات، ففعل ذلك، فكتب فيه كتاباً مشهوراً، أبر فيه على كل نسخة عملت في ذلك الفتح، ثم قلده وزارته، وكان حاقداً عليه قبل إفضاء الخلافة إليه، لقصة ذكرها ابن عبدوس، وهي أن المعتصم أمر محمد بن عبد الملك أن يعطي الواثق عشرة آلاف ألف درهم، يستعين بها على أموره ويصلح بها ما يحتاج إلى إصلاحه، فدافعه بذلك مدافعة متصلة، أحوجت الواثق إلى أن شكاه إلى المعتصم، فأنكر عليه تأخير المال عن الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين، العدل أولى بك وأشبه بعقلك، ولك عدة أولاد، أنت في أمرهم بين خلتين: إما أن تسوي بينهم في العطية فتجحف ببيت المال، وإما أن تخص بعضهم فتحيف على الباقي ! فقال له: قد رهنت لساني بشيء، فماذا أصنع فيه ؟ قال: تأمر لباقي أولادك بأشياء أُخر من إقطاعات وصلات، وتطلق لهارون صدراً من المال وتدافعه بباقيه، وتتسع أنت قليلاً، وندبر الأمر بعد ذلك بما يراه أمير المؤمنين ! قال: فقال له وفقك الله، فما زلت أتعرف الخيرات في رأيك والسداد في مشورتك، وتأدى الخبر إلى هارون، فحلف بعتق عدة من عبيده، وبحبس عدة خيل، وبوقف عدة ضياع، وبصدقة مال جليل، أنه إذا ظفر بمحمد بن عبد الملك قتله، وكتب اليمين بخطه في رقعة وجعلها في درج، وأودعه دايته، فلما توفي المعتصم، وأفضى الأمر إلى الواثق، وكان ذا أناة، كره أن يعاجله فيقول الناس إنه بادر بشفاء غيظه، ثم عزم على الإيقاع به، فتقدم بأن يجمع له من وجوه كتاب الدواوين من يصلح لولاية الدواوين والوزارة، فجمع له عشرة نفر، فأثبت أسماءهم وجلس الواثق ودعا بواحد منهم، وقال له: اكتب في كذا، في أمر رسمه له، فاعتزل وكتب، وعرض الكتاب عليه، فلم يجده صنع شيئاً، ثم دعا بآخر وأمره أن يكتب كتاباً في معنى أمره به، فاعتزل وكتب، وعرض الكتاب عليه، فلم يرضه، حتى امتحن العشرة، فلم يرض ما كتبه كل واحد منهم، فأقبل على حاجبه فقال: أدخل من الملك مضطر إليه، وهو محمد بن عبد الملك الزيات، فجيء به وهو واجم متغير مضطرب، فلما وقف بين يديه قال: اكتب إلى صاحب خراسان في كذا، فأخرج من كمه قصباً ومن خفه دواةً، وابتدأ فكتب بين يديه، حتى فرغ من الكتاب وأصلحه، وتقدم فناوله إياه، وقد أتى فيه على جميع ما في نفسه، فلما قرأه أُعجب به جداً، وقال له: امضه، فأخرج من الخريطة طيباً فوضعه عليه، وناوله الخاتم، فختمه وأنفذه من حضرته ووقف بين يديه؛ فقال الواثق لخادم بين يديه: امض إلى دايتي وقل لها توجه إلي بالدرج الفلاني، فمضى الخادم، فوافى به، ففتحه وأخرج الرقعة، فدفعها إلى محمد فقرأها وقال: يا أمير المؤمنين، أنا عبد من عبيدك، فإن وفيت بيمينك فأنت محكم، وإن عفوت وصفحت كان أشبه بك ! فقال: لا والله، لا يمنعني من الوفاء بيميني إلا النفاسة أن يخلو الملك من مثلك ! وأمر بعتق العبيد الذين حلف بعتقهم، وبوقف الضياع وحبس الخيل وصدقة المال.
وكثرت في أيام الواثق نكبات الكتاب، كسليمان بن وهب، وأحمد ابن الخصيب وغيرهما، بسعاية ابن الزيات، فقال إبراهيم بن العباس الصولي في ذلك يخاطبه من أبيات:
إيهٍ أبا جعفرٍ وللدّهر كرّم ... اتٌ وعما يريب متّسع
أرسلت ليثاً على فرائسه ... وأنت منها فانظر متى تقع
لمّظته قوته وفيك له ... إذا تقضّت أقواته شبع
وقد كان أحمد بن أبي دواد حمل الواثق على الإيقاع بابن الزيات، وأمر علي بن الجهم فقال فيه أرجوزة:
هارون يا بن سيد السادات ... أما ترى الأُمور مهملات
تشكو إليك عدم الكفاة !
فهم الواثق بالقبض عليه وقال: لقد صدق قائل هذا الشعر، ما بقي لنا كاتب ! فطرح نفسه على إسحق بن إبراهيم، وكانا مجتمعين على عداوة ابن أبي دواد، فقال للواثق: أمثل ابن الزيات مع خدمته وكفايته يفعل به هذا، وما جنى عليك ولا خانك، وإنما دلك على خونة أخذت ما اختانوه فهذا ذنبه ! وبعد، فلا ينبغي لك أن تعزل أحداً حتى تعد لمكانه جماعة يقومون مقامه، فمن لك بمن يقوم مقامه ؟ فمحا ما كان في نفسه عليه ورجع له.

وحكي أن الواثق أصلح بين ابن الزيات وابن أبي دواد، فكف محمد عن ذكر ابن أبي دواد، وجعل هو يخلو بالواثق فيغريه، وكان فيما أبلغه عنه أنه قد عزم على الفتك به والتدبير عليه، إلى أن قبض على ابن الزيات، ثم أطلقه بعد مدة وأعاده إلى حاله، وقبض الواثق عليه ليس بمشهور، لأنه من خلفاء العباسيين الذين لم ينكبوا وزيراً، وهم قليل كالهادي والأمين قبله، والمعتضد والمكتفي بعده.

سليمان بن وهب
لم يكن في دار المأمون حدثٌ أحسن خطاً من سليمان، ولا آدب من أخيه الحسن؛ وكتب لإيتاخ التركي في أيام المعتصم، فكان السبب في عتقه، فتبرك به وفوض إليه أمره كله. وما زال يعلو بعلوه، فسعى ابن الزيات إلى الواثق به وبأحمد بن الخصيب، وكان يكتب لأشناس التركي، ورفع قصيدة نسبها إلى بعض أهل العسكر، وقيل إنه صنعها في الإغراء بهما، من أبياتها:
ولّيت أربعةً أمر العباد معاً ... وكلّهم حاطبٌ في حبل محتبل
كأنهم في الذي قسّمت بينهم ... بنو الرشيد زمان القسم للدول
حوى سليمان ما كان الأمين حوى ... من الخلافة والتبليغ للأمل
وأحمد بن خصيبٍ في إمارته ... كالقاسم بن الرشيد الجامع السّبل
سمّيت باسم الرشيد المرتضى فبه ... قس الأُمور التي تنجي من الزلل
عث فيهم مثل ما عاثت يداه معاً ... على البرامك بالتّهديم للقلل
فلما قرأ الواثق الشعر غاظه وبلغ منه، ونظر بعقب ذلك إلى أحمد بن الخصيب يمشي في داره فتمثل:
من الناس إنسانان ديني عليهما ... مليّان لو شاءا لقد قضياني
خليليّ أمّ أُمّ عمروٍ فمنهما ... وأمّا عن الأُخرى فلا تسلاني
فبلغ ذلك سليمان بن وهب فقال: إنا لله، أحمد بن الخصيب والله أم عمرو، وأنا الأخرى ! فنكبهما بعد أيام؛ والبيتان من أشعار الغناء، وهما من قصيدة طويلة لكعب القيسي المعروف بالمخبل، ذكر ذلك أبو الفرج، ومنها:
أفي كلّ يومٍ أنت رامٍ بلادها ... بعينين إنساناهما غرقان
إذا أغر ورقت عيناي قال صحابتي ... لقد أُولعت عيناك بالهملان
وكتب الحسن بن وهب إلى أخيه في نكبته:
اصبر أبا أيوب صبراً يرتضى ... فإذا جزعت من الخطوب فمن لها
الله يفرج بعد ضيقٍ كربها ... ولعلّها أن تنجلي ولعلّها
وكان الحسن آلى ألا يذوق طعاماً طيباً، ولا يشرب شراباً حتى يتخلص أخوه، فوفى بذلك، وقال سليمان في نكبته:
نوائب الدّهر أدّبتني ... وإنّما يوعظ الأريب
قد ذقت حلواً وذقت مراً ... كذاك عيش الفتى ضروب
ما مرّ بؤسٌ ولا نعيمٌ ... إلاّ ولي منهما نصيب
كذا قال الصولي وغيره. وقال أبو الحسن الماوردي، عن ثعلب قال: دخلت على عبيد الله بن سليمان بن وهب، وعليه خلع الرضى بعد النكبة، فلما مثلت بين يديه، قال لي: يا أبا العباس اسمع ما أقول:
نوائب الدّهر أدّبتني ... ....
وذكر الأبيات، وزاد رابعاً في آخرها:
كذاك من صاحب الليالي ... تعروه في مرّها الخطوب
قلت: لمن هذه الأبيات ؟ قال: لي.
ثم استقل سليمان وخلص من اعتقاله، وتناهى بعد ذلك ارتقاء حاله، فتقلد الأعمال الجليلة، وكتب لعظماء الدولة، وولاه المتوكل مناظرة ابن الزيات لما سخط عليه؛ ثم وزر للمهدي في خلافته، ثم للمعتمد، وذكر البحتري في رثائه أنه أقام سبعين حولاً في التدبير.
واستقل ابن الخطيب أيضاً، فكتب للمنتصر في حياة أبيه المتوكل، ثم وزر له لما تقلد الخلافة، ووزر للمستعين بعده.

ومن عجيب ما اتفق لسليمان في نكبته مع ابن الزيات، ما حكاه محمد بن داود ابن الجراح، صاحب كتاب الورقة، قال: جلس عبيد الله بن سليمان يوماً للمظالم يعني في وزارته للمعتضد فقام إليه عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات متظلماً من أحمد بن إسرائيل في ضيعة، فنظر في أمره، وقال: أنت عمر بن محمد ؟ قال له: نعم ! قال: أنت ابن سكران يعني أمه فأين كنت ؟ فقص عليه أمره وخبره؛ فلما كان في عشي ذلك اليوم، جلس ابناه وابن الجراح بين يديه، فتحدث عبيد الله واستروح وقال: سبحان الله العظيم، ما أعجب شيئاً كنت فيه اليوم ! قال ابن الجراح: فلم أسأله إجلالاً، ثم قال: قال لي أبو أيوب يعني أباه إنه كان في أيام الواثق في ذلك البلاء والضرب والقيد، وإنه حمل يوماً إلى محمد بن عبد الملك ليناظره ويرد إلى محبسه، فوضع بين يديه على تلك الحال، فجعل يناظره، والحسن بن وهب كاتبه، ودواته بين يديه، فربما تكلم يرققه عليه، وربما أمسك، ومحمد دائم في الغلظة على أبي أيوب والتشفي منه، إذ مر بعض خدم محمد، ومعه صبي يحمله وعليه لباس مثله من أولاد الملوك، فلما رآه محمد صاح بالغلام، فأتاه به، فقربه وقبله، وترشفه وضمه إليه وجعل يداعبه، وحانت منه التفاتة إلى أبي أيوب، وإذا دمعته قد سبقته وهو يمسح عينيه بجبة الصوف التي كانت عليه، فقال له: ما الذي أبكاك ؟ فقال: خير أصلحك الله ! فقال له: لا تبرح أو تخبرني بالأمر على جهته ! فلما رأى ذلك الحسن بن وهب قال له: أنا أصدقك أعزك الله، لما رأى أبا محمد أمتعك الله ببقائه وجعلنا جميعاً فداءه ذكر بنياً له، ولد وهو في وقت واحد، وهو في مثل سنه ! قال: وما اسمه ؟ قال: عبيد الله؛ قال: فالتفت محمد إليه كالهازئ به، ثم قال: يقدر أن يكون ابنه هذا وزيراً ! قال الحسن: فلما أمر بحمله إلى محبسه، التفت إلي ثم قال: لولا أن هذا من أمور السلطان التي لا سبيل إلى التقصير فيها ما سؤتك فيه، ولو أعانني على نفسه لخلصته؛ فقال له أبو علي: والله ما رأيته، فإن رأيت أن تأمر به إلى بعض المجالس، وتأذن لي في القيام إليه والخلوة به، فأشير عليه بامتثال أمرك فعلت ! فأمر بذلك؛ قال: فقمت إلى أبي أيوب، فتعانقنا وبكينا، فقال لي: أعجب من بغيه وقوله بالهزء والتطانز: أتراه يقدر أن يكون ابنه هذا وزيراً والله إني لأرجو أن يبلغه الله الوزارة ويتقدم إليه عمر متظلماً، فلما كان في يومنا هذا تقدم إلي عمر يتظلم كما رأيتم، فذكرت ذلك الحديث وقول أبي أيوب ما قال، وما كنت رأيته قبل ذلك. وقال الصولي في هذه الحكاية: جلس عبيد الله يوماً للمظالم، فوقعت بيده رقعة، فقال: عمر بن محمد بن عبد الملك ! فأدخل إليه، فقال: أنت عمر ؟ قال: نعم ! ثم جعل ينظر إليه ويفكر، ثم وقع له بجائزة ونزل؛ فلما تفرق الناس حدث من يأنس به قال: رأيتم فكرتي في الرجل وما فعلت ؟ قالوا: رأينا ! فقال: حدثني أبو أيوب أبي قال: كنت في يدي محمد بن عبد الملك الزيات، وهو يطالبني بمال، وأنا مقيد منكوب بين يديه، في جبة صوف، وكان أخي الحسن يكتب له، ولم يكن يتهيأ له شيء في أمر، إلا أنه كان إذا رآني مقبلاً استقبلني، وإذا رآني قد رجعت إلى موضعي شيعني، إذ أقبل خادم له ومعه ابن له صغير، فقام إليه كل من في المجلس، وجعلوا يقبلونه ويدعون له، ولم أتحرك أنا لما كنت فيه، فقال لي يا أبا سليمان لم لم تفعل بهذا الصبي ما فعله من كان في المجلس ؟ فقلت له: لشغلي ببلائي ! فقال: لا ولكن لعداوتك له ولأبيه، وكأني بك وقد أملت في ابنك عبيد الله الآمال، والله لا رأيت ما تؤمله فيه أبداً ! وزاد في الحمل علي والدعاء بما يسوءني، فقلت في نفسي: إنه قد بغى علي، وإني أثق بالله ! فلم يمض إلا قليل حتى سخط عليه المتوكل، وقلدني مناظرته وإحصاء متاعه، فوافيت داره، ورأيت ذلك الصبي مع ذلك الخادم بعينه، والصبي يبكي، فقلت للخادم: ما خبره ؟ فقال: قد منع من جميع ماله ! فقلت: لا بأس عليه؛ ودخلت فسلمت إليه كل ما كان باسمه؛ ثم قال لي: يا بني إن تهيأت لك حال ورأيت ذلك الصبي فأحسن إليه لتقابل نعمة الله عندي وعندك، فلما رأيته تذكرت ما قال أبو أيوب، وامتثلت فيه أمره، ثم صرفه عبيد الله وأقبل عليه إلى أن استخلفه في دار بدر.

إبراهيم بن رياح

كان على ديوان الضياع فعزله الواثق، ودفعه إلى عمر بن فرج الرخجي فحبسه، وكان جواداً ممدحاً، وفيه يقول عبد الصمد بن المعذل:
قد تركت الرياح يأبن رياحٍ ... وهي حسرى إن هبّ منها نسيم
نهكت مالك الحقوق فأضحى ... لك مالٌ نضوٌ وفعلٌ جسيم
وصنع أبو العيناء خبراً في إبراهيم هذا وجماعة من رجال السلطان رجاء أن ينتهي إلى الواثق فينتفع به، ومن ألفاظه: قلت: ما عندك من خبر إبراهيم ابن رياح ؟ قال: ذلك رجل أوثقه كرمه، وإن يفز للكرام قدح فأحر بمنجاته، ومعه رجاء لا يخذله، ورب لا يسلمه، وفوقه خليفة لا يظلمه ! فلما قرئ على الواثق ضحك واستظرفه وقال: ما صنع هذا كله أبو العيناء إلا في سبب إبراهيم ابن رياح، وأمر بتخليته.

إبراهيم بن العباس الصولى
ولي الأهواز في أيام الواثق، فطالبه ابن الزيات وقصده بكل مكروه، حتى صرف عنها وكان قبل ذلك أشد الناس اتصالاً به وصداقةً له، ثم تغير عليه لأن رآه مع ابن أبي دواد، فكتب إليه إبراهيم:
إني متى أحقد بحق ... دك لا أضرّ به سواكا
ومتى أطعتك في أخي ... ك أطعت فيك غداً أخاكا
حتى أُرى متقسّما ... يوماً لذا وغداً لذاكا
وحكي عن حاجب محمد بن عبد الملك الزيات قال: لما انصرف إبراهيم ابن العباس معزولاً عن الأهواز، وقف بباب عبد الملك يطلب الإذن، فاستأذنت له ثلاث مرات، فلم يأذن، فخرجت إليه فقلت: يا أبا إسحق قد حملت نفسي على سوء الأدب بأن كررت الاستئذان على الوزير فلم يأذن ! فسألني إيصال رقعة إليه، فقلت: هاتها، فثنى رجله على سرجه وكتب: من كان واحدك إذ جعلت لنفسك واحداً، وواحدي إذ خفت من زماني نبوة ؟ أما والله لو أمنتك لقلت، ولكني أخاف منك عتباً لا تنصفني فيه، وأخشى من نفسي لائمةً لا تحتملها لي، وما قدر فقد كان ويكون وكائن، وعن كل حادثة أُحدوثة، وما أقول إني تبدلت بحالة كنت بها مغتبطاً حالةً أنا في مكروهها، بل أقول إني قهرت، فلما فزعت إلى ناصري، وجدت من ظلمني أخف نيةً في ممن استنصرت به، وأحمد الله كثيراً وأشكره ! وكتب في آخر الرقعة:
وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما نبا صرت حرباً عوانا
وكنت إليك أذم الزمان ... فأصبحت فيك أذمّ الزمانا
وكنت أُعدّك للنائبات ... فهأنا أطلب منك الأمانا
قال: فأوصلت الرقعة، فقرأها وفكر ساعة ثم وقع في آخرها: ارجع مذموماً، لا حاجة بنا إلى أُخوّتك ولا صداقتك ولا الاستعانة بك:
إذا ما بدأت امرأً جاهلاً ... ببرٍّ فقصّر عن حمله
ولم تلفه قائلاً بالجميل ... ولا عارف العزّ من ذلّه
فسمه الهوان فإنّ الهوان ... دواء لذي الجهل من جهله
كذا في رسائل ناح الأصبهاني وحسبك ما أخلدت إليه ضعةً ونقصاً، وفي كفاية الله غنى عنك ! قال: فلما قرأ إبراهيم التوقيع جعل يتحرق على دابته ساعة وقال لي: إن انقطاعي اليوم إلى الله ثم إليك ! فقلت: قل ما شئت ! قال: توصل لي رقعةً أُخرى ؟ قلت: قد رأيت التوقيع ! قال: أكتب الرقعة وتكون في يدك فإنه سيسأل ما فعل إبراهيم؛ فقلت: أُكتب؛ فثنى رجله على سرجه وكتب: من شكرك على درجة رفعتها، أو نعمة أوليتها، أو زيادة مننت بها، فإني أشكرك على مهجة أحييتها، وحشاشة أبقيتها، ورمق قمت به، وحلت بين التلف وبينه، فلا تسقطني عندك هنة إن كانت، فإني والله واحدك بالأسباب التي تجتمع فيك ولك، ولا تجتمع لك في غيري من أخ ولا صاحب، وكنت أعدك الوفاء، فقد والله فعلت، وكنت تعدني ألا أُضام في دولتك وأيامك، فلا تخذلني في حال إن أخليتني فيها من نصرتك لم يلحقني مقدار في نفسي ومودتي إلا لحقك مثله والسلام ! وقال في آخره:
أبا جعفرٍ عرّج على خلطائكا ... وأقصر قليلاً من مدى غلوائكا
فإن كنت قد أُوتيت في اليوم رفعةً ... فإنّ رجائي في غدٍ كرجائكا
فلما قرأ الرقعة أذن له في الدخول، وقرب مجلسه، ونادمه يومه، وصرفه محبواً مكرماً.

وقال الصولي: لم يزل محمد بن عبد الملك بالواثق إلى أن وجه أحمد بن سيف للنظر في عمل إبراهيم، فكتب إبراهيم إلى الواثق: أتقبل علي قول رجل كافر قال كذا ... وذكر شعراً يخاطب ملك الموت به عند موت غلامه، فوجه الواثق من يحقق له الخبر، وعلم سعي محمد بن عبد الملك بإبراهيم، فحسن مذهبه فيه.
وسعى أحمد بن المدبر إلى المتوكل بإبراهيم بن العباس، وكان بينهما تباعد، فقال للمتوكل: قلدت إبراهيم ديوان الضياع وهو متخلف آية من الآيات ما يحسن قليلاً ولا كثيراً؛ وطعن عليه طعناً قبيحاً، فقال له المتوكل: في غد أجمع بينكما، واتصل الخبر بإبراهيم فأيقن بحلول البلاء، وعلم أنه لا يفي بأحمد بن المدبر في صناعته، وغدا إلى دار السلطان آيساً من نفسه ونعمته، وحضر أحمد فقال المتوكل: قد حضر إبراهيم وحضرت، ومن أجلكما قعدت، فهات واذكر ما كنت فيه أمس ! فقال أحمد: أي شيء أذكر عنه، وما أقول فيه ! أول ما أذكر ما لا يذهب على أحد، أنه لا يعرف أسماء عماله في النواحي، ولا يعلم ما يثبت في ديوانه من تقديراتهم وحزورهم وكفولهم، ولا يحفظ أسماء النواحي التي يتقلدها .. ومر في أبواب بعدها فاحشة سمجة منكرة، فالتفت المتوكل إلى إبراهيم فقال: ما سكوتك ؟ تكلم ! فقال يا أمير المؤمنين: جوابي في بيتين، إن أذن أمير المؤمنين أن أذكرهما فعلت ! قال: اذكرهما، فأنشأ يقول:
ردّ قولي وصدّق الأقوالا ... وأطاع الوشاة والعذّالا
أتراه يكون شهر صدودٍ ... وعلى وجهه رأيت الهلالا
فقال المتوكل: زه زه أحسنت والله أحسنت ! إئتوني بمن يعمل في هذا لحناً وهاتوا ما نأكل، وأتوني بالندماء والمغنين، ودعونا من فضول ابن المدبر، واخلعوا على إبراهيم بن العباس ! فخلع عليه، وانصرف إلى منزله. قال الحسن ابن مخلد وكان يخلف إبراهيم على ديوان الضياع : فمكث يومه مفكراً مغموماً ساهياً، فقلت: يا سيدي هذا يوم سرور وجذل بما جدده الله لك وعندك من نعمه، وخصك من كفايته، فما هذا الغم ؟ فقال: يا بني، الحق أولى بمثلي وأشبه، إني لم أدفع أحمد بن المدبر بحجة، ولا كذب في شيء مما ذكرني به، ولا أنا ممن يعشره في الخراج، كما أنه لا يعشرني في البلاغة، وإنما فلجت بمخرقة وهزل، أفلا أبكي فضلاً عن أن أغتم من زمان يدفع فيه ذلك الحق كله بما دفعته من الباطل، وسيكون لهذا وشبهه نبأ بعد ! وجلت حال إبراهيم عند المتوكل، واختص بكتابته، وله عنه الرسالة الغريبة في تأخير النيروز، ولما قرأها عليه أعجب بها كل من حضر، فكان الفتح بن خاقان يقول للمتوكل: إبراهيم فضيلة خبأها الله لك ! وكان إبراهيم إذا دخل على المتوكل أمر ألا يهزأ أحد بين يديه حتى يقوم.

محمد بن الفضل الجرجرائي
كتب للفضل بن مروان، ثم وزر للمتوكل بعد ابن الزيات، وكان يسمع الفضل يقول: نجاح بن سلمة أشد الناس إقداماً على إهلاك الأموال ! فلما ولي خافه نجاح، فاعتذر إليه يوماً من شيء بلغه فقال له الجرجرائي:
إن من الإخوان من ودّه ... آلٌ على ديمومةٍ يلمع
يخاله الظمآن ماءً ولا ... ماء به من ظمإٍ ينقع
وأنت منهم غير شك فلا ... ترجع عن غيٍّ ولا تقلع
ولم يزل نجاح يطالبه حتى عزل، وأسلم إليه ليحاسبه، فكتب إلى صديق له: أنا مع أمير المؤمنين وتسليمه إياي لنجاح كما قال أبو تمام:
رأيتك من محبّك ذا بعاد ... وممن لا يحبك ذا دنوّ
ومع نجاح كما قال في البيت الآخر:
وحسبك حسرةً لك من صديقٍ ... يكون زمامه بيدي عدوّ
وكتب إلى المتوكل:
يا ملكاً أملك بي منّي ... اصفح فدتك النفس لي عنّي
والله ما خنتك في حالةٍ ... عالم ما أُبدي وما أُكني
ففيم سلّمت إلى حاسدٍ ... منيته راحته منّي

فأمر المتوكل أن يصالح فيما كان يطالب به، تخفيفاً عنه، وكان صالح الرأي فيه. ويذكر أنه قال له قبل عزله: بلغني أنك تتشاغل بالغناء عن الأمور ! فقال: ما أُنكر يا أمير المؤمنين أني أستعين بهزل على جد، وبراحة على تعب، وأما الإضاعة فلو لم أقض حقك وحق الله لقضيت حق نفسي فيما يلزمني من ذلك ! ثم كتب إليه أسماء جواريه العوامل، وعرضها عليه، فأبى أن يقبلهن، ووصله بعشرة آلاف دينار، ثم صرفه في تلك السنة.
وقال أبو محمد بن السيد البطليوسي في شرح قول ابن قتيبة: وأي موقف أخزى لصاحبه من موقف رجل من الكتاب قال ابن القوطية: هذا الرجل هو محمد بن الفضل وهذا غلط لأن محمد بن الفضل إنما وزر للمتوكل، وكان شاعراً كاتباً حلو الشمائل، عالماً بالغناء.
وولي الوزارة أيضاً في أيام المستعين.

عمرو بن بحر الجاحظ
كان مائلاً إلى ابن الزيات، منحطاً في هواه، فلما نكبه المتوكل أُدخل الجاحظ على أحمد بن أبي دواد مقيداً، فقال له: والله ما أعلمك إلا متناسياً للنعمة كفوراً للصنيعة، معدداً للمساوئ، وما فتني باستصلاحي لك، ولكن الأيام لا تصلح منك لفساد طويتك، ورداءة جبلتك، وسوء اختيارك، وتكالب طباعك ! فقال الجاحظ: خفض عليك أصلحك الله، فوالله لأن يكون لك الأمر علي خير من أن يكون لي عليك، ولأن أُسيء وتحسن أُحسن في الأُحدوثة من أن أُحسن فتسيء، ولأن تعفو عني في حال قدرتك علي، أجمل بك من الانتقام مني !.. فعفا عنه.
وأرق من هذا الاستعطاف على أن بلاغة الجاحظ في رسائله وخطبه لا يتعاطاها الفحول ذوو الإدراك ما كتب به بعض الكتاب إلى أبي غالب، ابن أخي إبراهيم بن المدبر وهو: وجدت استصغارك لعظيم ذنبي أعظم لقدر تجاوزك عني، ولعمري ما جل ذنب يقاس إلى فضلك، ولا عظم جرم يقاس إلى صفحك، ويعول فيه على كرم عفوك، ولئن كان قد وسعه حلمك فأصبح جليله عندك محتقراً وعظيمه لديك مستصغراً، إنه عندي لفي أقبح صور الذنوب، وأعلى رتب العيوب؛ غير أنه لولا بوادر الجهلاء لم يعرف فضل الحلماء، ولولا ظهور نقص الأتباع لم يبن كمال الرؤساء، ولولا إلمام الملمين بالذنب لبطل تطول المتطولين بالصفح، وإني لأرجو أن يمنحك الله السلامة بطلبك منها، ويقيلك العثرات بإقالتك لها، وما علمت أني وقفت على نعمة أتدبرها إلا وجدتها تشتمل على عائدة فضل، معها فائدة عقل فيها؛ إنى وجدتني قد وصلت إلى تفضلك من غير مسألة، ودخلت إلى إحسانك من بابه، ووصلت إلى تقلد عملك بمن أشركته في الشكر معك، إن لم أكن جعلته دونك، فنقلتني بما استكرهتك عليه، إلى ما تطوعت لي به، ومما كان لي فيه سبب إليك، إلى ما لا سبب لي فيه غيرك، ومما يطالبني بالشكر عليه سواك، إلى ما تنفرد معه بشكري إياك، ثم جعلت ما نقلتني إليه أجل قدراً، وأخص من خدمتك محلاً مما نقلتني عنه، كنت في ذلك كما قال الشاعر:
لا أظأر النفس إكراهاً إلى أحدٍ ... وشرٌّ ودّك ما يأتي وقد نهكا
من مّجه فوك لم تنفعه آصرةٌ ... والنفس مجّاجةٌ ما مجّه فمكا
ولم أر تأديباً ألطف ولا فعلاً أشرف، ولا تقويماً أنفع، ولا استصلاحاً أنجع، ولا كرماً أبرع مما توصلت إليه في، وتغلغلت في الإنعام به علي، وإني لأرجو بمن الله وستره ألا تقف مني علي أُخت لهذه الفعلة، ولا نظير لهذه الزلة ما اختلف الجديدان، وتجاور الفرقدان.
أحمد بن محمد بن المدبر
حكي عنه أنه قال: كنت أكتب لمحمد بن عبد الملك الزيات على الجيش، واحتيج إلى توجيه بعض القواد في أمر مهم، فعملت باستحقاقه ورجاله عملاً مفصلاً، ثم أجملت التفصيل فغلطت فيه، وصككت به، وحمل المال إلى القائد وقبضه وشخص، ثم رجعت إلى العمل فتتبعته فوقعت على الغلط، فاستحييت من محمد بن عبد الملك، فجلست عنه ثلاثة أيام فوجه إلي فاستحضرني، فكتبت إليه أصدقه عن القصة، وأعترف بالخطأ، وأعلمته أن الحياء منعني من الحضور، وأُحكمه على نفسي في العقوبة، فوقع إلي: لا جرم لك فيما لم تتعمد فارجع إلى مكانك وتحرز من وقوع ما كان منك، وقاص الرجل وأصحابه بما قبضوه عند استحقاقهم.

ثم تولى أيام المتوكل الأعمال الجليلة وكان له إدلال: قال له يحيى بن أكثم بحضرة المتوكل: أنت كاتب تتفقه، وتذكر أنك لا تلزم الناس إلا بحجج فقهية، أو كما قال، فمن كتب للنبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أحمد: ليس على الكاتب أن يعلم ذلك ولا يتعلمه، ولا على الفقيه أيضاً، لأنه ليس مما يحل حلالاً ولا يحرم حراماً، ولا يزيد بصراً في صناعة، وقد روى الناس أن عثمان وعلياً وزيد بن ثابت وحنظلة ومعاوية وغيرهم كتبوا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أخبرني من عمل عند النبي صلى الله عليه وسلم عملك فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله؟ يعرض له باللواط، فأفحم يحيى واستغرب المتوكل عليه ضحكاً.
واحتال الفضل بن مروان في تغيير المتوكل عليه حتى عزله عن قهرمة الدار، وادعى الوزير عبيد الله بن يحيى بن خاقان عليه مالاً جليلاً تسبب من أجله إلى أخيه إبراهيم حتى نكب؛ وكان أحمد أسن منه وأعلم بالأعمال، إلا أن سعده أقل من سعد إبراهيم، وهما من جلة الكتاب. قال ابن عبد ربه، وسمى جماعة ممن نبه بالكتابة بعد الخمول فيهم أحمد بن محمد بن المدبر: فهؤلاء نبلوا بالكتابة واستحقوا اسمها.
ولأحمد يخاطب أخاه إبراهيم في نكبته وقد أهدى إليه شعره مجموعاً، فقرأه وكتب عليه بخطه:
أبا إسحق إن تكن اللّيالي ... عطفن عليك بالخطب الجسيم
فلم أر صرف هذا الدهر يجري ... بمكروهٍ على غير الكريم
وولي أحمد هذا خراج دمشق، وامتدحه البحتري وديك الجن، وغيرهما، فقال فيه رجل من بني هاشم:
يا بن المدبّر أنت أكرم ماجدٍ ... عاذت به السادات عند عثار
إنّي امتدحتك مدحةً شرّفتها ... شرفين من أصلي ومن أشعاري
فاحتمل عنه ما مبلغه مائة ألف درهم.

إبراهيم بن محمد بن المدبر أخوه
قال الصولي: كان إبراهيم بن المدبر رجلاً جليلاً عالماً شاعراً، لا يدانيه في ذلك كله أحد، وخدم المتوكل وكانت له عنده حظوة.
وقال أبو الفرج الأصبهاني: سعى به عبيد الله بن يحيى لانحرافه عنه، ونفاسته عليه ومخالفته فيه رأي المتوكل، فادعى على أخيه أحمد بن المدبر مالاً جليلاً، ذكر أنه عند إبراهيم، وأوغر صدر المتوكل عليه، حتى أذن له في حبسه، وكان من وجوه كتاب العراق ومتقدميهم، فقال من قصيدة يخاطب بها أبا عبد الله ابن حمدون ويستنهضه لتذكير الفتح بن خاقان بأمره:
يأبن حمدونٍ فتى الجود الذي ... أنا منه في جنى وردٍ جني
ما الذي ترقبه أم ما ترى ... في أخٍ مضطهدٍ مرتهن
وأبو عمران موسى حنقٌ ... حاقدٌ يطلبني بالإحن
وعبيد الله أيضاً مثله ... ونجاحٌ فمجدٌّ لا يني
ليس يشفيه سوى سفك دمي ... أو يراني مدرجاً في كفن
والأمير الفتح إن أذكرته ... حرمتي قام بأمري وعني
فأل صدقٍ حين أدعو باسمه ... وسرورٍ حين يعرو حزني
ظفر الأعداء بي عن حيلةٍ ... ولعل الله أن يظفرني
ولج عبيد الله فلم يكن لأحد في خلاصه معه حيلة حتى استغاث بمحمد بن عبد الله بن طاهر، وقال فيه من قصيدة:
دعوتك في كربٍ فلبّيت دعوتي ... ولم تعترضني إذ دعوت المعاذر
إليك وقد حلّئت أوردت همتي ... وقد أعجزتني عن همومي المصادر
نمى بك عبد الله في العز والعلا ... وحاز لك المجد المؤثّل طاهر
فأنتم بنو الدنيا وأملاك شرقها ... وساستها والأعظمون الأكابر
مآثر كانت للحسين ومصعبٍ ... وطلحة لا يحوي مداها المفاخر
إذا بذلوا قيل الغيوث البواكر ... وإن غضبوا قيل الليوث الهواصر
تعظّمكم يوم اللّقاء البواتر ... وتزهى بكم يوم المقال المنابر
فما لكم غير الأسرّة مجلسٌ ... وما لكم غير السيوف مخاصر
إلى أن يقول فيها:
ولي حاجةٌ إن شئت أحرزت مجدها ... وسرّك منها أولٌ ثم آخر
كلام أمير المؤمنين وعطفه ... فمالي بعد الله غيرك ناصر

فإن ساعد المقدار فالصفح واقع ... وإلاّ فإني مخلص الودّ شاكر
فعزم على تخليصه، ولم يلتفت إلى عبيد الله، وبذل أن يتحمل في ماله كل ما يطالب، فأعفاه المتوكل من ذلك ووهبه له. وكان إبراهيم يقول: نكبنا نكبةً من نكباتنا، فسقط من إخواننا من كنا نجعل من أهل الود، فكتبت إلى بعضهم:
وصديقٍ تراه حلواً أنيقا ... مؤنساً ملطفاً حفيّاً شفيقا
ثم لمّا رماني الدهر بالغل ... ظة منه صار البعيد السحيقا
وولي إبراهيم بعد ذلك البصرة والأهواز، وأسره صاحب الزنج، فهرب منه، ووزر للمعتمد، ثم طلب، واستخفى، فظفر به وحبس، إلى أن رضي الموفق عنه؛ وكان المعتمد يقول: ما استوزرت بعد عبيد الله بن يحيى وزيراً أرضاه غير الحسن بن مخلد وإبراهيم بن المدبر.
وقصته مع المتوكل تشبه قصة عثمان بن عمارة بن خريم المري، خرج عليه خمس مائة ألف وسبعون ألفاً، فحبس، فدخل عليه يزيد بن مزيد فقال: أحملها إليك ؟ فقال: يعدل حملها إلي أبيات شعر تحملها إلى أمير المؤمنين الرشيد عني ! فقال: وما هي ؟ فأنشده:
أغثني أمير المؤمنين بنظرةٍ ... تزول بها عني المخافة والأزل
فعفوك أرجو لا البراءة جاهداً ... أبى الله إلاّ أن يكون لك الفضل
فإلاّ أكن أهلاً لما أنا طالبٌ ... فأنت أمير المؤمنين له أهل
قال: فعرضها على الرشيد، فأسقط ما كان عليه.

أبو الجهم الكاتب
كان من صنائع ابن الزيات، وعادى من أجله إبراهيم بن العباس الصولي وأضر به، فلما ولي الحسن بن مخلد بعض الأعمال، أشار عليه إبراهيم بطلب أبي الجهم في عمل كان يتولاه بالتشدد عله فيه، وكان الحسن كاتب إبراهيم والغالب عليه، فكتب أبو الجهم إلى المتوكل أبياتاً منها:
فلا تسلمنّي يأبن عمّ محمدٍ ... إلى حسنٍ أعدى العداة ابن مخلد
ومالي ذنبٌ عنده غير أنّني ... عليمٌ بما يختان في اليوم والغد
فوصلت الأبيات إلى الحسن قبل وصولها إلى المتوكل، فأحضر عليها أبا الجهم فأنكرها، ثم تقاربا وعمل الحسن في ذلك بمقتضى قوله:
من صادر الناس صادروه ... وأعنتوه وماكروه
وجاحدوه الحقوق بهتاً ... وبالأباطيل ناظروه
ومثل ما راح من قبيحٍ ... أو حسنٍ منه باكروه
ولأبي الجهم يخاطب نجاح بن سلمة معتذراً وهو محبوس وقد تمثل بهذا الشعر سهل بن هارون في كتابه إلى صاحب له وجد عليه :
إن تعف عن عبدك المسيء ففي ... عفوك مأوى الفضل والمنن
أتيت ما أستحقّ من خطإٍ ... فجد بما تستحق من حسن
عبد الله بن محمد بن يزداد
كتب أبوه للمأمون ووزر له، وكان هو أيضاً كاتباً، لكن يغلب عليه القصور، ولأبيه الشفوف المعروف خطاً وبياناً، يملأ أن السمع والبصر حسناً وإحساناً.

حكى الصولي قال: جلس المأمون للمظالم، ومحمد بن يزداد بين يديه، فأحب بعض من عنده أن يغض منه، فقال: يا أمير المؤمنين لو أمرت محمداً أن يكتب كتاباً في أمر الزكاة، يقرأ على الناس، فكتب من غير فكرة: أما بعد فإن الله جعل عمود الدين إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، فسن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا شيء في الفضة حتى تبلغ مائتي درهم، فحينئذ يكون فيها خمسة دراهم، وما زاد فبحساب ذلك، وأن لا شيء في الذهب حتى يبلغ عشرين ديناراً، ففيها نصف دينار، ثم إذا بلغ الأربعين ففيها دينار، ثم ما زاد فبحساب ذلك، ولا زكاة على أحد في ماله حتى يحول عليه الحول، فإن ملك بعضه، وكمل ما ذكرناه في وقت كان ابتداء الحول من يوم كمل فيه ما حد، " يُبَيِّنُ اللهُ لَكم أنْ تَضِلوا واللهُ بكل شيء عليم " وكتب ذلك بأحسن خط، فقال المأمون: يا محمد إنا إن شركناك في اللفظ فقد فارقناك في الخط ! فقال: يا أمير المؤمنين إنك أقرب الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتقلد لأمره، فمن هناك جاءت المشابهة. وعن غير الصولي أنه قال له: يا أمير المؤمنين إن من أعظم آيات النبي صلى الله عليه وسلم أنه أدى عن الله رسالته، وحفظ عنه وحيه، وهو أُمي لا يعرف من فنون الخط فناً، ولا يقرأ من سائره حرفاً، فبقي عمود ذلك في أهله فهم يشرفون بالشبه الكريم في نقص الخط كما يشرف غيرهم بزيادته، وإن أمير المؤمنين أخص الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم والوارث موضعه والمتقلد لأمره ونهيه، فعلقت به المشابهة الجليلة، وتناهت إليه الفضيلة ! فقال المأمون: يا محمد لقد تركتني لا آسى على الكتابة ولو كنت أُمياً ! وسعي بعبد الله إلى المتوكل وقد ولاه عملا، وذكر له انه اختان مائة ألف: فلم يطلبه بها ولم يزل بعد يصرفه؛ وكان بفارس إذ ولي المستعين الخلافة فاستقدمه ابن الخصيب وزيره، فاختاره المستعين لوزارته، وصرف ابن الخصيب فضبط الأموال واشتد على الموالي، ثم خافهم، فهرب إلى بغداد، وولي شجاع ابن القاسم الوزارة، ثم أُعيد إليها عبد الله بن محمد ثانية.

أحمد بن محمد بن ثوابة
خاف من المهتدي لما اتهم به من اعتقاد الرفض، وكان يكتب لبعض رؤساء الأتراك، فاستتر ونودي عليه، ثم شفع فيه، فرضي المهتدي عنه، وخلع عليه أربع خلع، وقلده سيفاً، ورجع إلى حاله.
وجرى بين ابن ثوابه وبين أبي الصقر إسماعيل بن بلبل كلام في دار صاعد بن مخلد الوزير، فقال إسماعيل لأبن ثوابه: حكمك والله أن تشد وتحد، فقال له: يا جاهل أما علمت أنه من يشد لا يحد، ومن يحد لا يشد ! وجرى له معه أيضاً غير هذا، فحمي أبو العيناء لإسماعيل وانتصر له من ابن ثوابة فقال: ما استب اثنان إلا غلب ألأمهما ! فقال أبو العيناء: فلهذا غلبت بالأمس أبا الصقر ! فلما ولي الوزارة أبو الصقر، دخل عليه ابن ثوابة ووقف بين يديه، وجعل يقول: أيها الوزير " تالله لَقَدْ آثركَ الله علينا وإنْ كنا لخَاطِئين " فقال أبو الصقر " لا تثريب عليكم اليوم " أبا العباس يغفر الله لكم ! ثم رفع محله وولاه، وما قصر في الإحسان إليه والإبقاء عليه مدة وزارته.
الحسن بن رجاء
كان من جلة الكتاب، ونشأ في خلافة المأمون، فدخل يوماً بعض الدواوين فنظر إليه وهو غلام جميل وعلى أذنه قلم، فقال: من أنت يا غلام ؟ فقال: أنا يا أمير المؤمنين، الناشيء في دولتك، المتقلب في نعمتك، المؤمل لخدمتك الحسن بن رجاء، خادمك وعبدك ! فقال المأمون: أحسنت يا غلام، وبالإحسان في البديهة تفاضلت العقول؛ وأمر أن يرفع عن مرتبة الديوان.

وحكى الصولي في كتاب الأخبار المنثورة، من تأليفه، قال: كان الحسن بن رجاء الكاتب يهوى جارية من القيان، وكان إسماعيل بن بلبل يهواها، فكانا يتنافسان فيها، فلما تقلد إسماعيل الوزارة ملك الجارية وأحسن إليها، ثم سألها يوماً: هل في نفسك شيء لم تبلغيه ؟ فقالت: قد بلغت كل ما أُحب وزيادة، ولم يبق في نفسي إلا قدح بلور مصنوع مورد كان عند الحسن بن رجاء، فكنت إذا زرته ناولنيه، فتقدم أبو الصقر إلى أبي بكر ابن أُخته بإحضار الحسن ومطالبته بالقدح عفواً أو عسفاً؛ فركب أبو بكر إليه، وجلس عنده، فحادثه ثم قال له: قد جئتك في حاجة وما أحسبك تردني عنها، فقال له: كل ما عندي فلك ! قال: قدح البلور المورد تمنحني إياه. قال: قد انكسر ! قال: فأعطني كسره ! فقال: ما ظننت أني أُطالب بزجاج قد انكسر فأحتفظ به ! فقال: إن هذا الرجل قد صارت له يد وسلطان، ولأن تهديه إليه وتمتن عليه أحسن من أن تكاشفه وتعاديه ! فقال: أما لسؤالك فأفعل، ولكن على شريطة، توصل لي معه أبياتاً، فقال: أفعل، فأنفذ إليه القدح ومعه رقعة فيها أبيات:
سلّم على أربع بالكرخ تقلاها ... من أجل جاريةٍ فيهنّ أهواها
تمكنت نوب الأيّام منك بها ... والدهر إن أسلف الحسنى تقاضاها
يا بؤس قلبك ما أقصى مراميه ... وشجو نفسك ما أدنى بلاياها
وطيب عيشٍ مضى ما كان أحسنه ... لو أنّ أيامنا منه نملاّها
إليك أشكو أبا بكرٍ هوىً بجوىً ... أطعته مرضياً نفسي فعاصاها
فأسعد الصبّ إن كنت امرأً غزلا ... واعطف على ذي البلا إن كنت أوّاها
قد جاءك القدح المسلوب بهجته ... مذ حيل دون التي أدنت له فاها
خذه إليك عزيزاً أن يجاد به ... لو أن إحدى ليالينا كأُولاها
فلما قرأ إسماعيل الأبيات وأخذ القدوح رق له، فقلده أصبهان وأخرجه إليها.

عيسى بن الفاسي
كتب لأبي الصقر إسماعيل بن بلبل في وزارته للمعتمد، وكان قد امتحن بصاعد بن مخلد الوزير قبل أبي الصقر، ورجا الحسن بن مخلد، فلما ولي لقي منه أكثر مما لقي من صاعد فقال في ذلك.
أقيك بنفسي سوء عاقبة الدهر ... ألست ترى صرف الزمان بما يجري
يصاب الفتى في اليوم يأمن نحسه ... وتسعده الأيام من حيث لا يدري
وقد كنت أبكي من تحامل صاعدٍ ... وأشكو أُموراً منه ضاق بها صدري
فلمّا انقضت أيّامه وتبدلت ... بأيّام ميمون النقيبة والذكر
سرت أسهمٌ منه إليّ أمنتها ... ولو خفتها داريتها قبل أن تسري
وذكّرني بيتاً من الشعر سائراً ... وقد تضرب الأمثال في سائر الشعر
عتبت على عمرو فلمّا فقدته ... وجرّبت أقواماً بكيت على عمرو
وقال أيضاً في صاعد وقد قرأ كتاباً على الموفق فلم يفهم بعض ما فيه، وفهمه الموفق:
أرى الدهر يمنع من جانبه ... ويهدي الحظوظ إلى عائبه
ومن عجب الدهر أنّ الأمي ... ر أصبح أكتب من كاتبه
كذا في كتاب ابن عبدوس؛ وفي اليتيمة لأبي منصور الثعالبي: أن أبا بكر الخوارزمي نسب هذا الشعر إلى البحتري في محاورة جرت بينه وبين الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد أثناء مسامرة، فقال الصاحب للخوارزمي وقد أعجبه تنظيره بذلك: جودت وأحسنت، هكذا يكون الحفظ ! وروى يموت بن المزرع عن أبيه قال: كان عيسى بن الفاسي يكتب لأبي الصقر إسماعيل بن بلبل، وكانت له جارية يحبها، فاصطبح معها ذات يوم فهو في صبوحه حتى وافاه رسول إسماعيل في مهم له، فكتب إليه:
هبني لجاريتي وأرحم تفرّدها ... بالوجد إن غبت عنها أيها الملك
فقد غدونا وستر الله منسدلٌ ... وألتام ما بيننا وأنحلّت التكك
فحلف إسماعيل أنه يقيم عندها ثلاثة أيام، ووجه إليه بطيب ومال وكسوة.
عبد الله بن محمد الزجالى

قال أبو مروان بن حيان بن خلف بن حيان في كتابه المقتبس من أنباء أهل الأندلس: كان الأمير عبد الله يعني عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، قد عزل عبد الله بن محمد الزجالي عن خطتي الوزارة والكتابة في بعض أوقاته لموجدة وجدها عليه، ثم أقاله بعد مديدة، وأعاده إلى خطته، وكان محبباً في الناس فأبدوا فرحاً لرجعته، وقال في ذلك أحمد بن محمد بن عبد ربه الشاعر من أبيات:
يا ملكاً يزدهي به المنبر ... والمسجد الجامع الذي عمّر
خليفة الله في بريّته ... يسرّ للناس مثل ما يجهر
يا قمر الأرض إن تغب فلقد ... أقمت للناس كوكباً يزهر
ما فرح الناس مثل فرحتهم ... لمّا أُقيل الأديب واستوزر
وابتهج الملك حين دبّره ... عين الإمام التي بها يبصر
قطبٌ عليه المدار أجمعه ... في الأمر والرأي كلما دبّر
لم يزل البيت طول غيبته ... أعمى فلمّا استوى به أبصر
وقال ابن عبد ربه في ذلك أيضاً مما لم يذكره ابن حيان:
تجددت الدنيا وأبدت جمالها ... وردّت إلينا شمسها وهلالها
عشية يوم السبت جاءت بنعمةٍ ... من الله لا يرجو العدوّ زوالها
بها جبر الله الكسير من العلا ... وأدرك منه عثرةً فأقالها
فأشرقت الآفاق نوراً وبهجةً ... ومدت علينا بالنعيم ظلالها
بتجديد عبد الله أعظم دولةٍ ... لمولاه عبد الله كان أزالها
ولمّا تولت نضرة العيش ردّها ... فآلت إلى العبد القديم مآلها
فتىً نشأت من كفه ديم الندى ... فظلت سجال الرزق تجري خلالها
ترى الجود يجري من فريد يمينه ... كصفحة هنديٍّ أرتك صقالها
ولو نيط من نجم السماء فضيلةٌ ... لمدّ إليها الكفّ حتى ينالها
ومحمد بن سعيد الزجالي والد عبد الله هذا هو أول من رأس من هذا البيت وجل بالكتابة وأورثها عقبة، وكانت نباهته ورياسته بعلمه وبيانه، كأحمد بن يوسف وابن الزيات وطبقتهما، ويعرف بالأصمعي لعنايته بالأدب وحفظ اللغة.
ويذكر في سبب اتصاله بالسلطان أن الأمير عبد الرحمن بن الحكم عثرت به دابته، وهو في غزاة، فأنشد متمثلاً:
وما لا ترى مما يقي الله أكبر
وطلب صدر البيت فعزب عنه، فسأل أصحابه عنه فأضلّوه، وأمر بسؤال كل من اتسم بمعرفة في عسكره، فلم يلف أحد يقف عليه غير محمد بن سعيد هذا، فقال: أصلح الله الأمير، أول البيت:
نرى الشيء ممّا نتّقي فنهابه
فأعجب الأمير عبد الرحمن ما كان منه، وراقه بيانه، فاستخدمه.

عبيد الله بن سليمان بن وهب
لما تقلد المعتضد أبو العباس أحمد ولاية العهد بعد وفاة أبيه الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل، وذلك يوم الأربعاء لثمان بقين من صفر سنة ثمان وسبعين ومائتين في آخر خلافة المعتمد بن المتوكل، أقر أبا الصقر إسماعيل بن بلبل على ما كان عليه من الوزارة والتدبير، إلى يوم الاثنين بعده، ثم قبض عليه وعلى أبنائه وحاشيته، وانتهبت منازلهم، وطلب ابن الفرات، فاستتر، وبعث إلى أبي القاسم عبيد الله بن سليمان، وكان قبل ذلك بمدة منكوباً من قبل المعتمد، وأمره بالانصراف إلى منزله والبكور إليه، ليخلع عليه، فانصرف في طياره، وبكر من الغد إلى المعتضد، فخلع عليه، وانصرف وبين يديه جميع القواد والغلمان.
ولما توفي المعتمد في آخر رجب من سنة تسع وسبعين أخذ البيعة للمعتضد عبيد الله بن سليمان على الناس، فأحسن التدبير، ونظم سياسة الأمور، واستكتب ابنه القاسم بن عبيد الله لبدر المعتضدي، وجلت حاله، فاستنابه في العرض على المعتضد، وسعى به بعض حسدته، فلم يقبل المعتضد سعايته، وحضر عبيد الله، فدفع إليه السعاية، فأنشده:
كفاية الله خيرٌ من توقّينا ... وعادة الله بالإحسان تغنينا
كاد الوشاة ولا والله ما تركوا ... قولاً وفعلاً وبأساءً وتهجينا
فلم نزد نحن في سرٍ وفي علنٍ ... على مقالتنا الله يكفينا

وحكي أن المعتضد تقدم إليه بأن يوعز إلى القواد وسائر الجند بالخروج إلى الصيد معه، وذلك في فصل الشتاء، فقال له: يا أمير المؤمنين، لهؤلاء القوم استحقاق والمال عزيز، ومتى أُمروا بذلك طالبونا بما يجددون به التهم ! فأمسك عنه إلى أن خرج من حضرته، ثم تقدم إلى خفيف السمرقندي حاجبه بالقبض عليه وأخذ سيفه ومنطقته، ففعل ذلك. وانصرف القاسم بن عبيد الله من دار بدر فسأل عن أبيه، فعرف الخبر، فعاد من وقته إلى بدر، فتلطف في الوصول إليه، وبكى بين يديه، فركب بدر إلى الدار، فاستأذن على المعتضد، فتبسم وعلم ما جاء به، فوجه إليه: لي شغل مع الحرم، فقال بدر: إن معي خبراً لا يجوز تأخيره، فوجه إليه: قد عرفت الخبر فانصرف فوجه إليه: إني قد استعملت في هذه الحال ما لا يحب من الأدب، ولا بد أن أُخاطبه! فأذن له، فلما مثل بين يديه حل سيفه وقال: يا أمير المؤمنين، دمي معقود بدم عبيد الله، فمتى هممت في أمره بشيء، أمرت في بمثله ! فقال المعتضد: يبلغ من مقداره أن آمره بأمر فيعارضني فيه، ما أنا محتاج إلى رأيه، وإنما مجراه مجرى من ينفذ ما آمره به؛ فقال بدر: ليس يعاود ولا يجاوز ما تأمره به؛ فقال: امض فخذه ! فخرج بدر، فكسر غلق الحجرة وأخذه، وتقدم إليه بترك المعارضة فيما يأمره به.
وكان المعتضد يصف عبيد الله بالدهاء والرجلة، فلما أشار إليه بإخراجه مع بدر إلى الجبل، وقع له أنه إنما أراد التخلص والبعد منه، فقال لبدر: قد استوحشت من عبيد الله لالتماسه الخروج، وقد عزمت على أن أقبض عليه، وأقلدك خراجها مكانه؛ فدافعه عن ذلك وراجعه، وكان أحمد بن الطيب قريباً منهما، وكان المعتضد يأنس به، فوقف على كلامهما، فمضى من فوره فعرف عبيد الله ما جرى، بعد أن أحلفه أن يستره، فقلق عبيد الله، ولم تسمح نفسه بكتمانه، فصار من غد إلى المعتضد ومعه ثلث جميع ما يملك من ضيعة وعقار ومال، فوضعه بين يديه وقال له: قد جعلت لك يا أمير المؤمنين جميع ملكي حلالاً طيباً وتؤمنني على نفسي وولدي ! فأنكر المعتضد ذلك وسأل عن سبب ما بلغه، فدافعه، فأمسك المعتضد وصرفه، وأحضر بدراً فأسمعه كل مكروه وقال: أنت أخبرت عبيد الله، ولم يحصل إلا على فساد نيته لنا ! فحلف له بدر بأيمان صدقه فيها؛ ولما كان من غد حضر عبيد الله، فخلا به وألح عليه أن يعرفه من الذي رقى إليه ذلك؛ فقال: أخبرني به أحمد بن الطيب. فقال: كذب وإنما أراد التشوق عندك، فكن على ثقة، فليس لك عندي إلا ما تحبه. ثم قبض على أحمد بن الطيب وحبسه في المطامير إلى أن مات.
وقيل إن أحمد بن الطيب المذكور كان يقول للمعتضد: كثير من الأمور يخفى عليك ويستر دونك ! فقال له يوماً: فما الدواء ؟ فقال: توليني الخبر على بدر وعبيد الله؛ فقال: قد فعلت ! قال: فإذ قد فعلت فاكتب لي رقعة ! فكتب له بذلك، فأخذ التوقيع وجاء به إلى عبيد الله ليتقرب إليه، فأخذه عبيد الله، ثم وثب، فطلبه ابن الطيب فقال: أنا أخرجه إليك؛ ووكل به في داره وركب إلى بدر، فأقرأه إياه، فدخلا إلى المعتضد، فرمى عبيد الله بنفسه بين يديه وقال له: أنت نعشتني وابتدأتني بما لم أؤمله، وكل نعمة لي منك وبك وتفعل هذا بفلان ! فقال: إنه يسعى عليكما عندي فأكره ذلك فاقتلاه وخذا ماله؛ فأُدخل في وقته إلى المطامير.

علي بن محمد بن الفياض
كتب للمعتضد، وكان يؤمل وزارته، فلما وجه المعتضد إلى عبيد الله وأمره بالبكور إليه ليخلع عليه ويقلده الوزارة، دخل في انصرافه إلى علي هذا وأعلمه بما فوض إليه المعتضد، وسأله معاضدته ومشاركته في أمره، فأجابه إلى ذلك، وتعاهدا عليه، ثم فسد ما بينهما، فلاحاه عبيد الله بحضرة المعتضد وقال له: لمن كتبت حتى تدعي الفصاحة ؟ فقال: ألي تقول هذا ؟ أنت كتبت لموسى بن بغا، وأنا كتبت لأمير المؤمنين، فأينا أولى بالفخر ! ويقال إن القواد قالوا لبدر: مولاك رضي الله عنه على ما تعرفه وماله في صدور الناس من الهيبة، وقد أحب أن تستوزر ابن الفياض، وهو من تعلم في جفائه، فلا يجد الناس بين الخليفة وكاتبه فرقاً ! فلم يزل بدر يلطف به حتى صرفه عن ذلك الرأي.

وكان لأبن الفياض كاتب يكتب لأبي عيسى بن المتوكل، فلما حدثت الحادثة على أبي عيسى قبض على كاتبه، فاستتر ابن الفياض، فدخل يوماً عبيد الله بن سليمان إلى المعتضد، وكره أن يهجم عليه من ابن الفياض بما يكره، ولا يدري ما يكون جوابه، ولا ما يجده عنده، فقال له: يا أمير المؤمنين، قد استوحش ابن الفياض لما اعتقل كاتب أبي عيسى، لأنه كان يكتب له؛ وتأمل وجه المعتضد عند ذلك، فقال له: ابعث إليه وآنسه وأزل وحشته ! فقال: السمع والطاعة ! وأحضره الدار، فدخل والناس وقوف ينظرون إليه، فقال المعتضد لما رآه: يا علي نأمر بحبس كاتبك، لشيء بيننا وبينه من غير جهتك فتستوحش ! فقال ابن الفياض متمثلاً:
وذلك من تلقاء مثلك رائع
فتبسم المعتضد، وألان خطابه له رفقاً به، وإبقاءً عليه.

علي بن محمد بن الفرات
لما قبض المعتضد على أبي الصقر استتر علي هذا وأخوه أحمد وكانا من كتابه ومتقدمين في الأعمال، ثم ظفر بهما وحبسا، ودعا بعلي منهما يوماً عبيد الله ابن سليمان، فجيء به وهو مقيد وعليه جبة دنسة، فقال: الله الله أيها الوزير ! وجعل يشكو ما لحقه وأخاه، فهدأه وسكنه، وأمره بالجلوس، فلما زال عنه الروع أخذ معه في أمر العمل وما يحتاج إليه، فاتصل كلامه وانبسط في ذكر الأموال والعمال انبساط رجل جالس في الصدر، وجعل يقول: ناحية كذا مبلغ مالها كذا، وهي كذا، وعاملها فلان من حاله كذا، وناحية كذا عاملها فلان ينبغي أن يشد بمشرف أو شريك، حتى أتى على الآفاق .. فتهلل وجه عبيد الله وقال له: اعتزل واعمل عملاً بما قلت به ! فاعتزل علي ومعه أحد الكتاب، فأملى عليه ما طلب وجاء بالعمل، ثم كلم الوزير في أمره وأمر أخيه، فأمر بحل قيودهما والتوسعة عليهما، وقال لهما: لن يبعد خلاصكما، وأنا أسأل المعتضد في أمركما، ارجعا إلى موضعكما، والتفت إلى من حضر فقال: أرأيتم مثل هذا الفتى قط يعني ابن الفرات والله لا فارقت الأمير أو استوهبهما منه، فإني أعلم أن الملك لا يقوم إلا بهما، فأطلقهما بعد أيام واستعملهما.
ويقال إن عبيد الله قيل له: إن أردت أن يتمشى أمرك فأطلق ابني الفرات واستعن بهما؛ فنهض إلى المعتضد وأعلمه أن هؤلاء القوم قد داسوا الدنيا وعلموا أعمالها، قال: وكيف تصلح لنا نياتهم، وقد نكبناهم ؟ فقال: إذا رددت ضياعهم واستخلصتهم صلحوا ! فقال: إنهم غير مأمونين في السعي عليك والإفساد بيني وبينك، وأمرهم إليك؛ فخرج وأحضر أحمد بن محمد، فأدناه وآنسه، وقال له: قد استوهبتك من المعتضد لأستعين بك، وقص عليه القصة، فقال: يتقدم الوزير بإحضار الطائي وعلي بن محمد أخي؛ فقال: افعل، فأحضرهما فأخذ دواة، واعتزل بهما، فلم يزل هو وأخوه يناظران الطائي على ضمان الكوفة وسوادها وما يتصل بها، وعلى أن يحمل من مالها كل شهر ستين ألف درهم، وفي كل يوم سبعة آلاف دينار، ففعل ذلك وضمناه، وأخذا خطه وجاءا به إلى عبيد الله فسره، وكان ذلك سبب ارتقائهما إلى أن ولي علي منهما وزارة المقتدر ثلاث مرات بعد نكبات عظيمة. ولما جلس للمظالم في وزارته الثانية رميت إليه رقعة فيها:
أبا حسنٍ عزاءً وأحتسابا ... إذا سهمٌ من الحدثان صابا
فإنّ الله يأخذ ثم يعطي ... وإن أخذ الذي أعطى أثابا
القاسم بن عبيد الله

عرض على المعتضد في حياة أبيه عبيد الله بن سليمان بن وهب، فلما توفي عبيد الله كتب إلى المعتضد رقعة يعرفه بذلك منها: ولما أفقت من هذه الصدمة التي وقعت علي، لم آمن أن يدخل علي الخلل الواقع في أوائل الحوادث، وكرهت أن أُحدث شيئاً من الأعمال دون علم رأي أمير المؤمنين سيدنا، فتوقفت ليأتيني من أمره ما يكون عملي بحسبه ! فأجابه المعتضد: أستمتع الله النعمة ببقائك؛ وصل كتابك بالحادث العظيم والله عندي، فأورد علي ما أقلقني وأرمضني وأبكاني وبلغ مني، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وعند الله أحتسب أبا القاسم، وإياه أسأل أن يغفر له، وما مضى من مثلك وراءه، ولست أشك فيما نزل بك، وحقيق عليك، ولست ممن يحتاج إلى وصية، فبحياتي عليك لما تعمل بنفسك عملاً يضر ببدنك، وأخرج اللوعة بالبكاء، فإن فيه راحةً وفرجاً، ودع تجاوز ذلك إلى غيره؛ وأما الأعمال التي استأذنتنا فيها فتقلدها ونفذها، وأجر الأمور على ما كان أبوك يجريها عليه، وأحذ حذوه، واسلك طريقه، فإني أرجو زيادتك، ولا أخشى إضاعتك إن شاء الله !. وبعث المعتضد من صار إليه من خدمه بالقاسم في غد ذلك اليوم، وكان نازلاً بالثريا، فلما رآه عزاه عن أبيه، وبسطه وآنسه، وقال: ثق بمالك عندي فإن الثقة بذلك توفي على المصيبة وإن عظمت ! ثم خلع عليه للوزارة، فخرج معه بدر وجميع القواد والجيش حتى صار إلى منزله.
ولما توفي المعتضد في شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين بعد سنة كاملة من وزارة القاسم، أخذ البيعة للمكتفي ابن المعتضد على الناس، واستقامت الأمور وعظمت هيبته وجل شأنه.
وكان من رأي بدر توليه عبد الواحد بن الموفق، فخالفه القاسم، ثم خالفه فأغرى به المكتفي حتى قتله.
وذكر أن المعتضد أحب أن يستكتب أحمد بن محمد المعروف بجرادة، بعد وفاة عبيد الله بن سليمان، فألح عليه بدر يقبل الأرض بين يديه ويقول: تربيتك وصنيعتك القاسم ! فيقول له المعتضد: القاسم حدث غر وجرادة شيخ مجرب ! فلم يزل به إلى أن قال: اختر عشرة آلاف دينار أو القاسم ! فاختار أمر القاسم؛ فقال له المعتضد: والله لأقتلك غيره ! فكان كما قال.
واستثقل المكتفي بعد ذلك القاسم، وأنكر قلة وفائه لبدر، وعزم على صرفه وتقليد غيره، فبلغه ذلك، فصار إلى المكتفي، ورمى بنفسه بين يديه، وقال: قد قمت ببيعتك وأنت غائب .. وذكر أشياء من خدمته توجب حرمته، ثم قال: وهذه رقعة بجميع ما أملك، لك كله، وأمني، ولا تسلمني إلى عدوي ! فقال المكتفي: وما السبب في هذا الكلام ؟ فأخبره بمن حكى عنه ذلك، فعرف صحته وغاظه وقال: ما من ذلك شيء، وإنما أردت تولية الدواوين ! واحتال القاسم في إتلاف المرشح لمكانه من كتاب المكتفي، فتم له ذلك.
وقال الصولي: لعهدي بالقاسم قد حل سيفه ومنطقته بين يدي المكتفي وهو يتقلب بالأرض ويقبلها، والمكتفي يطيب نفسه؛ قال: ثم مضى المكتفي إلى حرب القرمطي والقاسم معه، فكانت له في ذلك آراء مشهورة أدت إلى الظفر به. وركب مع المكتفي يوم دخولهم بالقرمطي، وكان من أيام الدنيا، وذلك في سنة إحدى وتسعين ومائتين. قال: وسأل القاسم المكتفي أن يشرفه بتزويج ابنه محمد بنته، فأجابه ومهرها مائة ألف دينار، فخلع عليه القاسم وعلى أهل الدولة، ولقب بولي الدولة، وكان يكتب عن نفسه: من ولي الدولة أبي الحسين القاسم بن عبيد الله وأمر أن تؤرخ الكتب عنه بأسماء أصحاب الدواوين، وهذا ما كان قط إلا لخليفة.

علي بن عيسى بن الجراح
كتب للقاسم بن عبيد الله هو والعباس بن الحسن، وأشار القاسم وهو في آخر علته على المكتفي باستكتاب أحدهما، فقدم العباس للوزارة، وكان علي زاهداً متواضعاً حافظاً للقرآن، عالماً بمعانيه وإعرابه، وله في ذلك تأليف، وقد حمل عن أبيه الحديث، وله بلاغات لا تعرف لغيره من الكتاب، ثم وزر للمقتدر غير مرة في أول خلافته وآخرها، ولم يكن يهوى ذلك، بل كان يحب الاعتزال، ويقول: ما كنت أحتسب بمقامي في هذا الأمر إلا أني مجاهد في سبيل الله، خوفاً من فتنة لا تبقي ولا تذر.

ولما ضبط أمر الملك، ومنع الأيدي من الظلم، اشتد ذلك على من اعتاده، فطولب ولم يعبه أعداؤه بشيء سوى قولهم: إن شغله بمحقرات الأمور تشغله عن جليلها، لأن زمانه لا يفي بذلك؛ إلى أن صرف وحبس حبساً كريهاً، فكتب في نكبته عدة مصاحف، وكان يحمل في وزارته إلى بيت المال ما يرد عليه مما كان الوزراء قبله يرتفقون به؛ فقال المقتدر: قد استحييت من الله في مال علي ابن عيسى، فإني أخذته ظلماً، وأحاله به على مال مصر، فاشترى به ضياعاً ووقفها على مكة والمدينة.
ولما استقدم من مكة بعد إخراجه إليها، والوزير إذ ذاك أبو علي محمد ابن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وقد تبين عجزه، خلع عليه وقدم للوزارة، وأُمر بالقبض على محمد وابنيه عبيد الله وعبد الواحد، وكانوا قد ركبوا إلى دار الخلافة ووعدوا أن يسلم إليهم فسلموا إليه، فأطلق عبد الواحد وقال: إنه مظلوم؛ وعامل محمداً وعبيد الله أحسن معاملة، ورفق بهما، وكانا قد أرادا قتله في طريق مكة، فلم يمكنهما فيه حيلة.
ورفع إليه أن رجلاً من جلساء عبيد الله قال: إن علي بن أبي طالب قتل، فمن علي بن عيسى حتى لا يقتل ! فما زاد علي أن قال: أما اتقى الله ولا خافه !! ثم كان يقضي حوائج ذلك الرجل ويثني عليه؛ فلما جلس للناس ورأى تكاثرهم تمثل:
ما الناس إلاّ مع الدنيا وصاحبها ... فكيفما انقلبت يوماً به انقلبوا
يعظّمون أخا الدنيا فإن وثبت ... يوماً عليه بما لا يشتهي وثبوا
وكان علي بن بسام قد هجاه لما نفي إلى مكة، فلما ردت إليه الوزارة جلس يوماً للمظالم فمرت به في جملة القصص رقعة مكتوب فيها:
وافى ابن عيسى وكنت أضغنه ... أشدّ شيءٍ عليّ أهونه
ما قدّر الله ليس يدفعه ... وما سواه فليس يمكنه
فقال علي بن عيسى، صدق هذا ابن بسام، والله لا ناله مني مكروه أبداً.
وأنشد الصولي مما هجي به علي بن عيسى في نكبته:
أيّامكم يا بني الجرّاح قد جرحت ... كلّ القلوب ففيها منكم نار
لا متّع الله بالإقبال دولتكم ... فإنّ إقبالكم للنّاس إدبار
وذكر أنه استشير بعد عزله في حامد بن العباس فقال: حاذق بالعمل لا يصلح للوزارة ! فقيل له: قدم ! فقال: بارك الله لأمير المؤمنين فيما أمضاه ! ثم عزم عليه أن يتقلدها فأبى، لما نصح فيها، فلم ينفعه ذلك، فقيل له: فاخرج تعاون حامداً، فيكون له الاسم ولك العمل ! فأجاب بعد امتناع طويل. وقيل لحامد: إنا جعلنا علي بن عيسى عوناً لك، فشكر ذلك، وذكره بخير، ومشى أمر المملكة على هذا خمسة أعوام في حسن سيرة وإنصاف من ظالم، وعلي ابن عيسى يدبر ذلك كله. وطمع حامد في الاستبداد، وتضمن علياً بمال عظيم فلم يقدر على ذلك.

أبو جعفر البغدادي
لحق بالمهدي عبيد الله الشيعي في أول تغلبه على إفريقية وإثر البيعة له برقادة، فولاه أُموراً خفيفة، ثم صار البريد وكتابة السلطان إليه، وفسد ما بينه وبين عروبة الكتامي، وهو حينئذ المستولي على المملكة العبيدية، وأغراه به جماعة، فصار البغدادي إلى خوف شديد، وكان يتوقع الموت في كل يوم، إلى أن قتل الكتامي منافقاً، وجيء برأسه إلى رقادة، وقتل أخوه وأهل بيته، وتمكن البغدادي من أعدائه، وجلت حاله عند عبيد الله حين انتقاله إلى المهدية، وانقطعت السعاية به، وتمادت حظوته إلى آخر أيامه، وولي ابنه القائم، فأبقاه على حاله مدة.
عيسى بن فطيس

كان عبد الرحمن بن محمد الناصر أمير الأندلس قد ولاه الكتابة العليا في حياة أبيه فطيس، وأبوه إذ ذاك صدر في وزرائه، فلما عزل الناصر للنصف من شهر ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وثلاثمائة جميع وزرائه بسبب أنكره عليهم، إلا رجلين منهم: أحمد بن عبد الملك بن شهيد ذا الوزارتين، وهو أول من ثنيت له بالأندلس، وأحمد بن محمد بن إلياس القائد، ولى في آخر هذه السنة عيسى بن فطيس الوزارة مكان أبيه، مضافةً إلى الكتابة، ثم عزله عنهما جميعاً بعد خمسة أيام من جمعهما له. وولى الكتابة عبد الرحمن بن محمد الزجالي، ثم وجه فيه وقد برز مع الناس لشهود الاستسقاء، وذلك يوم السبت لليلتين خلتا من جمادى الأخرى سنة ثلاثين فجيء به من المصلى، وأُقعد في بيت الوزارة، وتمادى له ذلك مع زيادة الحظوة إلى آخر خلافة الناصر.

أحمد بن سعيد بن حزم
ذكر أبو مروان بن حيان أن المنصور محمد بن عبد الله بن أبي عامر استوزره قبل سائر أصحابه في سنة إحدى وثمانين يعني وثلاثمائة في خلافة هشام المؤيد بالأندلس، واستخلفه أوقات مغيبه على المملكة، وصير في يده خاتمه، فلما تناهت حاله في الجلالة، وأملته الخاصة والعامة، اتهمه المنصور بأنه قد زهي عليه برأيه، وأنس منه عجباً بشأنه، فصرفه عن الوزارة وأقصاه عن الخدمة، دون أن يغير عليه نعمة، وكان يقول: والله إن ابن حزم للنصيح جيباً، الأمين غيباً، ولكنه زهي برأيه، وظن أن سلطاني مضطر إلى تدبيره ! فتردد في نكبته مدة، ثم أخرجه لينظر في كور الغرب باسم الأمانة، فرئم المذلة وتبرأ من الدالة، فلما زكن المنصور ذلك منه، أعاده إلى حسن رأيه فيه، وصرفه إلى خطته.
وذكر أبو عبيد الله الحميدي وقال فيه: والد الفقيه أبي محمد، كان وزيراً في الدولة العامرية ومن أهل العلم والأدب والخير، وكان له في البلاغة يد قوية، وحدث عن ابنه أبي محمد علي بن أحمد الفقيه قال: أخبرني هشام بن محمد بن هشام بن محمد بن عثمان المعروف بابن البشتني من آل الوزير أبي الحسن جعفر ابن عثمان المصحفي عن الوزير أبي رحمة الله عليه ، أنه كان بين يدي المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر في بعض مجالسه للعامة، فرفعت له رقعة استعطاف لأم رجل مسجون كان ابن أبي عامر حنقاً عليه لجرم استعظمه منه، فلما قرأها اشتد غضبه وقال: ذكرتني والله به ! وأخذ القلم يوقع، وأراد أن يكتب: يصلب فكتب: يطلق ورمى الكتاب إلى الوزير، قال: فأخذ أبوك القلم وتناول رقعةً وجعل يكتب بمقتضى التوقيع إلى صاحب الشرطة، فقال له ابن أبي عامر: ما هذا الذي تكتب ؟ قال: بإطلاق فلان إلى صاحب الشرطة؛ قال: فحرد وقال: من أمرك بهذا ؟ فناوله التوقيع، فلما رآه قال: وهمت ! والله ليصلبن ! ثم خط على ما كتب؛ وأراد أن يكتب يصلب فكتب يطلق قال: وأخذ والدك الرقعة فلما رأى التوقيع تمادى على ما بدأ به من الأمر بإطلاقه، ونظر إليه المنصور متمادياً على الكتابة، فقال: ما تكتب ؟ قال: بإطلاق الرجل، فغضب غضباً شديداً أشد من الأول، وقال: من أمرك بهذا ؟ فناوله الرقعة، فرأى خطه، فخط على ما كتب، وأراد أن يكتب يصلب فكتب يطلق فأخذ والدك الكتاب فنظر ما وقع به، ثم تمادى على ما كان بدأ به، فقال له: ماذا تكتب ؟ قال: بإطلاق الرجل، وهذا الخط ثالثاً، فلما رآه عجب وقال: نعم يطلق على رغمي، فمن أراد الله إطلاقه لا أقدر أنا على منعه ! أو كما قال.
عبد الملك بن إدريس الجزيري
عتب عليه المنصور أبو عامر محمد بن عبد الله بن أبي عامر، وكان في الغاية من البيان والخطابة، فصرفه عن الكتابة، ثم أخرجه من قرطبة واعتقله بإحدى القلاع المنيعة بشرق الأندلس، فقال في ذلك:
قالوا جفاه ثلاثاً ثم غرّبه ... فليس يرجو لديه حظوةً أبدا
جاروا وما عدلوا في القول بل حكموا ... على المقادير جهلاً لا هدوا رشدا
أليس يوقد نصل السيف ضاربه ... قبل الصّقال مراراً جمّةً عددا
حتى إذا ما سقى حدّيه ريّهما ... واهتّز لدناً دعاه الصارم الفردا
وما المهذّب إلاّ من تعرّقه ... زمانه مخطئاً طوراً ومعتمدا
من لم يذق طعم بؤساه وشدتها ... لم يدر لذّة نعماه ولا وجدا

ودون هذا الذي قالوه أقضيةٌ ... لله في حكمه لم يؤتها أحدا
لا بد للقدر المقدور من أمدٍ ... يلقاك فيه على حتمٍ وإن بعدا
وكتب من معتقله قصيدتة المشهورة في الناس وأولها:
ألوى بعزم تجلّدي وتصبّري ... نأي الأحبة واعتياد تذكّر
يقول فيها:
وأعلم بأن العلم أفضل رتبةٍ ... وأجل مكتسبٍ وأسنى مفخر
فاسلك سبيل المقتنين له تسد ... إنّ السيادة تقتنى بالدفتر
وبضمّر الأقلام يبلغ أهلها ... ما ليس يبلغ بالجياد الضّمّر
وفيها يقول أيضاً يصف المعقل الذي حبس فيه:
في رأس أجرد شاهقٍ عالي الذّرى ... ما بعده لموحّدٍ من معمر
يأوي إليه كل أعور ناعبٍ ... وتهبّ فيه كلّ ريح صرصر
ويكاد من يرقى إليه مرةً ... في عمره يشكو انقطاع الأبهر
وفي آخرها يخاطب بنيه:
لا تسأموا إحضاره رغباتكم ... فهباته مبسوطةٌ لم تحظر
وعسى رضى المنصور يسفر وجهه ... فيديل من وجه الفراق الأغبر
فرق له المنصور لما سمع هذا البيت، وكان سبباً إلى العفو عنه والإحسان إليه.
وقال ابن حيان، وذكر قصة ابن حزم الوزير مع ابن أبي عامر في إدلاله المفضي به إلى إذلاله: وفي مثل هذا السبيل كان غضبه على كاتبه عبد الملك بن إدريس المعروف بالجزيري وإقصاؤه له مرةً بعد مرة وتسييره له إلى طرطوشة وكان أكثر من يشركه أعطالاً من الآداب العربية لتوفرهم على علم العدد، وانهما كهم في التعاليم الديوانية التي استدروا بها الجباية وحصلوا بها المراتب العالية، فكان الجزيري يزري بهم ويحب الاشتمال على ابن أبي عامر، ويتصور فرط حاجته إليه في الإنشاء، ولم يكن من شأنهم، فسخط عليه المنصور، وأقصاه عن حضرته على فرط حاجته إلى خدمته، وقلد كاتبه على الحشم ديوان الرسائل، فاستجزأ به لذهاب مشيخة كتاب الرسائل في الوقت، ورضي بعد ذلك عن عبد الملك لما حمد حاله في الرياضة، ولم يزل يتولى له ديوان الرسائل إلى أن هلك المنصور.
ويقال: إن المنصور سجنه في مطبق الزاهرة مدة، فاستعطفه من الرسائل والأشعار بما أثمر تسريحه، فكتب إليه:
عجبت من عفو أبي عامر ... لا بدّ أن تتبعه منّه
كذلك الله إذا ما عفا ... عن عبده أدخله الجنّه
فسر المنصور بذلك، وأعاده إلى حاله، وأطلق له ما اعتقل من ماله، ثم استوزره بعده المظفر عبد الملك بن محمد بن أبي عامر.

عيسى بن سعيد القطاع
قال ابن حيان: اختلف عيسى إلى الديوان، وصحب محمد بن أبي عامر وقت حركته في دولة الحكم، فبلغ به المنازل الجليلة، وكان مشهوراً عنده بيمن النقيبة.
وحكي أن ابن أبي عامر كان في مجالس أُنسه بما يعمله من كيده ويبرمه من رأيه أكلف به مما يدار عليه من طيب العقار ويعلل به من سحر الأوتار، ولقد اكثر في ذلك ليلة على كاتبه الأخص عيسى بن سعيد، وكان أول كاتب كتب له قبل ملكه، فكان ينبسط عليه بسالف حرمته وقديم صحبته، فلما باعد بينه وبين شهوته، وقطع به مدة الليلة عن لذته قال: اللهم غفراً ! إما شراب ولذة وإما خدمة ومشقة، فإذا قد عزمت على صلة النهار بالليل، فأسكت المسمعة ولتحضر الخريطة، ثم أمر بما شئت نقم به على الحقيقة، فخلط الجد بالهزل مفسدة، وإنما نستجم بهذه الساعة الضيقه لقطع الأوقات الطويلة ! فضحك المنصور وقال: أضجرنا عيسى، وليس منا في شيء، ومن عدل بالأمر والنهي لذة فقد انتفى من الذكورة ! ثم توفر بقية الوقت على المنادمة.
خلف بن حسين بن حيان

كان من كتاب المنصور ابن أبي عامر، وهو والد أبي مروان حيان بن خلف صاحب التاريخ، وأخبر عن نفسه قال: بكتني المنصور يوماً على بعض ما أنكره مني تبكيتاً بعث من فزعي ما اضطربت منه، فأشفق علي وخفف عني، وأنفذني للوجه الذي استنكر فيه بطئي، فعدت بتمامه بعد أيام، فاستوقفني وأخلى مجلسه، ثم أدناني فقال: رأيت من ذعرك ما استنكرت، ومن وثق بالله برئ من الحول والقوة لله، وإنما أنا آلة من آلاته، أسطو بقدرته وأعفو عن إذنه، ولا أملك لنفسي إلا ما أملك من نفسي لسواي، فطامن جأشك فإنما أنا ابن امرأة من تميم، طالما تقوتت من غزلها، أغدو به إلى السوق وأنا أفرح الناس بمكانه، ثم جاء من أمر الله ما تراه، ومن أنا عند الله لولا عطفي على المستضعف المظلوم، وقهري للجبار الطاغي ! ذكر هذه الحكاية ابنه أبو مروان في أخبار الدولة العامرية من تأليفه، وفي مناقب المنصور محمد بن أبي عامر وهيبته التي لا يسامح في نقصانها أحداً من ولد ولا ذي خاصة، حتى حشيت أحشاء الناس ذعراً، ثم يأتي من كرم الإعتاب بهذا العجب العجاب.

أحمد بن علي الجرجرائي أبو القاسم
نكبه الحاكم بن العزيز العبيدي صاحب مصر وأمر به فقطعت يداه جميعاً لجناية جناها أو تجناها هو عليه، فما ارتاع لما أصابه. وحكي عنه أنه عصب يديه إثر قطعهما وانصرف إلى ديوانه فجلس لخدمته على عادته وقال: إن أمير المؤمنين لم يعزلني وإنما عاقبني لجنايتي ! فجعل الناس يعجبون منه، وكان جلداً حازماً ضابطاً داهيةً فصيحاً، فلما بلغ ذلك الحاكم استعظمه له، وشرف به لديه، ورق على فظاظته لما نزل به، فرقاه إلى الوزارة، وإنما كان قبل في أحد الدواوين، فوزر له بقية أيامه، ثم لأبنه الظاهر مدة ولايته ثم لأبنه المستنصر ابن الظاهر نحواً من ثماني سنين.
وأراد المعز بن باديس الصنهاجي صاحب القيروان مكايدته، فجعل يكاتبه مستميلاً له ومعرضاً بالتحدث معه على بني عبيد الله، وكتب له بخطه قطعة يتمثل بها، منها:
وفيك صاحبت قوماً لا خلاق لهم ... لولاك ما كنت أدري انهم خلقوا
فقال الجرجرائي: ألا تعجبون من هذا الأمر ؟ هذا صبي مغربي بربري يحب أن يخدع شيخاً بغدادياً عربياً ! وإنما اتهمه بفعل ذلك ليوقع بين القوم ووزيرهم إن عثر على هذه الرموز؛ ثم قال: والله لا جيشت إليه جيشاً، ولا تحملت في إهلاكه نصباً، وأباح للعرب العبور بمجاز النيل من جهة قبائل الأعراب، وكان ذلك محظوراً ممنوعاً، وجعل لكل عابر منهم فرواً وديناراً، فأجاز منهم خلقاً عظيماً من غير أن يأمرهم بشيء لعلمه أنهم لا يحتاجون إلى وصاة، وأقاموا بناحية برقة وما جاورها، ولم يكن لهم أثر أمداً طويلاً، ثم قدم منهم مؤنس بن يحيى الرياحي إلى القيروان فسكنها أعواماً، وآل أمرهم إلى أن هزموا المعز بن باديس ثاني عيد الأضحى سنة ثلاث وأربعين وأربع مائة في ثلاثة آلاف فارس، وهو في أعداد عظيمة وجموع كثيفة، وأخربوا القيروان وتغلبوا على نواحيها، وتكاثروا بعد ذلك بإفريقية والمغرب إلى اليوم.
محمد بن سعيد التاكرني أبو عامر
ذكر أبو محمد بن حزم الفقيه أنه كان أحد القادمين مع المهدي محمد ابن هشام بن عبد الجبار على عبد الرحمن بن أبي عامر والساعين عليه؛ قال: ثم ولي عبد العزيز بن عبد الرحمن بلنسية، فكان محمد بن سعيد من أخص الناس به، ومتولي تدبير أموره إلى أن مات.
وقال ابن بسام وذكر أبا عامر هذا في الذخيرة: لما انقرضت الدولة العامرية وانشقت عصاها، وأدارت الفتنة المبيرة رحاها، كان أحد من مرق من ظلمائها، وآوى إلى جبل عصمه من مائها، فاستقر في بلنسية وأميرها حينئذ مظفر ومبارك صاحبه وكانا من عبيد العامرية، فانتظم في سلكهما، وشاركهما في مراتب ملكهما، إلى أن أجابا صوت المنادي، وخلا منهما النادي؛ وأفضى ملكهما وملك من كان بهذا الأُفق الشرقي يعني من الأندلس من تلك الطائفة العبدى المجابيب إلى عبد العزيز وهو الملقب بالمنصور، فنهل أبو عامر في دولته وعل، ونهض بأعباء مملكته واستقل.
وحكي أن مجاهداً كتب يوماً إلى المنصور عبد العزيز رقعة لم يضمنها غير بيت الحطيئة حيث يقول:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي

فلما وردت على المنصور أقامته وأقعدته، وكاد يمرق من إهابه فضلاً عن ثيابه، واستحضر أبا عامر التاكرني، فقال له: تطأطأ لخطبك واسمع المراجعة عنه؛ وعنون وبسمل وكتب هذا البيت:
شتمت مواليها عبيد نزارها ... شيم العبيد شتيمة الأحرار
فسلا المنصور عما كان فيه، وألحق أبا عامر بوزرائه، فنال جسيماً من دنياه.

أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد
سعي به إلى المعتلي يحيى بن علي بن حمود في خلافته بقرطبة، فنكبه واعتقله، فقال في ذلك ما أورده أبو مروان عبد الملك بن غصن الحجاري في رسالته في صفة السجن والمسجون التي كتب بها إلى المأمون يحيى بن ذي النون يستعطف ابن حمود ويعتذر إليه:
قريبٌ بمحتلّ الهوان بعيد ... يجود بشكوى حزنه فيجيد
بغى ضرّه عند الإمام فناله ... عدوٌّ لأبناء الكرام حسود
وما ضرّه إلا مزاحٌ ورقّةٌ ... ثنته سفيه الذكر وهو رشيد
جنى ما جنى في قبة الملك غيره ... وطوّق منه بالعظيمة جيد
وما بي إلاّ الشعر أبثثته الهوى ... فسار به في العالمين بريد
أفوه بما لم آته متعرّضاً ... لحسن المعاني عندهم فأزيد
فإن طار ذكري بالمجون فإنني ... شقيٌ بمنظوم الكلام سعيد
يقول فيها:
إلى المعتلي عاليت همّي طالباً ... لكرّته إنّ الكريم يعود
همامٌ أراه جوده سبل العلا ... وعلّمه الإحسان كيف يسود
نفى الذمّ عنه أن طي بروده ... عفافٌ على سن الشباب وجود
تؤدّي إلينا أنه سبط أحمدٍ ... مخايل فيه للهدى وشهود
ومنها:
حنانيك إن الماء قد بلغ الزبى ... وأنحت رزايا ما لهنّ عديد
ظمئت إلى صافي الهواء وطلقه ... فهل لي يوماً في رضاك ورود
ولي حرمةٌ حاشا لمثلك أن يرى ... مضيعاً لها وهو الغداة شهيد
فلا يعر من رحماكم من عليكم ... مطارف مما حاكه وبرود
جواهر شعرٍ شاكل المجد درّها ... كما شاكلت جيد الفتاة عقود
فصفح عنه وخلى سبيله، فقال من قصيدة يشكره ويهنئه بفتح أولها:
فريق العدا من حدّ عزمك يفرق ... وبالدهر ممّا خاف بطشك أولق
تيممته والسعد حولك جحفلٌ ... وقارعته والنصر دونك خندق
يقول فيها:
أدرت رحى الحرب الزّبون بساحةٍ ... وغالبته والجوّ بالبيض يعبقّ
فلما حوت كفاك رمّة أمره ... وشدّ بكفّ الحصر منه المخنّق
وأسقيته من جمّة الأمن صافياً ... إذا ذاقه من ذاقه يتمطّق
وكم لك مثلي مسترقّ مكارمٍ ... بعفوك من رقّ المنيّة يعتق
كشفت سماء المجد عنك فلم أجد ... سوى كرمٍ عن طيب خيمك ينطق
وردت رياض العفو منك فجادني ... بأرجائها من مزن نعماك مغدق
فإن أنا لم أشكرك أبيض معرقاً ... فلا هزّني للمجد أبيض معرق
ثم خدم المستظهر أبا المطرف عبد الرحمن بن هشام المرواني إذ بويع له بالخلافة بقرطبة بعد القاسم بن حمود، وكان من كتابه.
أبو القاسم بن المغربي
أوقع الحاكم العبيدي بوالده وأهل بيته ونذر دم أبي القاسم هذا، فهرب إلى مكة، وكان في الرتبة العالية من الأدب والعلم، ثم صار إلى ميافارقين فتقلد وزارة أميرها، وانغمس في النعيم بعد إظهار الزهد ولبس الصوف وفي ذلك يقول:
تبدّل من مرقّعةٍ ونسكٍ ... بأنواع الممسّك الشفوف
وعنّ له غزالٌ ليس يحوي ... هواه ولا رضاه بلبس صوف
فعاد أشدّ ما كان انتهاكاً ... كذاك الدهر مختلف الصروف

وبعد هذا راسله صاحب الموصل فصار إليه وتقلد وزارته، ومنها انتقل إلى وزارة بغداد في خلافة القائم بالله أبي جعفر عبد الله بن القادر، وعنه كتب رسالته المشهورة في الرد على اليهود الحبابرة وإلزامهم الجزية؛ ثم خاف من الأتراك فخرج من بغداد مستتراً وقد لبس ثياباً رثةً، ولف على وجهه منديلاً لئلا يمتاز من جملة العامة، وفي ذلك يقول:
تمرّست مني العلا بامرئٍ ... قد علق المجد بأمراسه
أروع لا يرجع عن تيهه ... والسيف مسلولٌ على رأسه
يستنجد النجدة من رأيه ... ويستقلّ الكثر من بأسه
وسقط إلى الموصل ثانية، ثم لحق بميافارقين وأقام بها إلى أن استدعي من بغداد إلى الوزارة ثانية.

أبو الوليد بن زيدون
قال ابن حيان: كان أبو الوليد من أبناء وجوه الفقهاء بقرطبة في أيام الجماعة والفتنة، وبرع أدبه، وجاد شعره، وعلا شأنه، وانطلق لسانه، فذهب به العجب كل مذهب، وهون عنده كل مطلب، وكان علقه من عبد الله بن أحمد المكوي أحد حكام قرطبة ظفر أحجن أداه إلى السجن، فألقى نفسه يومئذ على أبي الوليد ابن جهور في حياة والده أبي الحزم، فشفع له وانتشله من نكبته، وصيره في صنائعه.
وذكر غيره أنه خاطب ابن جهور من معتقله برسالة يقول فيها: إن سلبتني أعزك الله لباس إنعامك، وعطلتني من حلي إيناسك، وغضضت عني طرف حمياتك، بعد أن نظر الأعمى إلى تأميلي لك، وسمع الأصم ثنائي عليك، وأحس الجماد باستنادي إليك، فلا غرو فقد يغص بالماء شاربه، ويقتل الدواء المستشفي به، ويؤتى الحذر من مأمنه، وإني لأتجلد فأقول: هل أنا إلا يد أدماها سوارها، وجبين عضه إكليله، ومشرفي ألصقه بالأرض صاقله، وسمهري عرضه على النار مثقفه، والعتب محمود عواقبه، والنبوة غمرة ثم تنجلي، والنكبة سحابة صيف عن قريب تقشع، وسيدي وإن أبطأ معذور:
وإن يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللائي سررن ألوف
وليت شعري ما الذنب الذي أذنبت ولم يسعه العفو ! ولا أخلو من أن أكون بريئاً فأين العدل ؟ أو مسيئاً فأين الفضل ؟ وما أراني إلا لو أُمرت بالسجود لآدم فأبيت، وعكفت على العجل، واعتديت في السبت، وتعاطيت فعقرت الناقة، وشربت من النهر الذي ابتلي به جنود طالوت، وقدت الفيل لأبرهة، وعاهدت قريشاً على ما في الصحيفة، وتأولت في بيعة العقبة، ونفرت إلى العير ببدر، وانخزلت بثلث الناس يوم أُحد، وتخلفت عن صلاة العصر في بني قريظة، وأنفت من إمارة أُسامة، وزعمت أن خلافة الصديق فلتة، ورويت رمحي من كتيبة خالد؛ وضحيت بالأشمط الذي عنوان السجود به، لكان فيما جرى علي ما يحتمل أن يسمى نكالاً، ويدعى ولو على المجاز عقاباً:
وحسبك من حادثٍ بامرئٍ ... ترى حاسديه له راحمينا
فكيف ولا ذنب إلا نميمة أهداها كاشح، ونبأ جاء به فاسق ! ووالله ما غششتك بعد النصيحة، ولا انحرفت عنك بعد الصاغية، ولا نصبت لك بعد التشيع فيك، ففيم عبث الجفاء بأذمتي، وعاث في مودتي، وأنى غلبني المغلب وفخر علي الضعيف، ولطمتني غير ذات سوار ! مالك لا تمنعني قبل أن أُفترس، وتدركني ولما أُمزق، وقد زانني اسم خدمتك، وأبليت الجميل في سماطك، وقمت المقام المحمود في بساطك:
ألست الموالي فيك نظم قصائدٍ ... هي الأنجم اقتادت مع الليل أنجما
ويشبه قوله ولا ذنب إلا نميمة ... ما كتب به بعضهم إلى أمير أحس منه تغيراً: ما زال الحاسد لي عليك أيها السيد الأمير ينصب الحبائل، ويطلب الغوائل، حتى انتهز فرصة فأبلغك تشنيعاً زخرفه، وكذباً زوره، وكيف الاحتراس ممن يحضر وأغيب، ويقول وأُمسك، مرتصد لا يغفل، وماكر لا يفتر، وربما استنصح الغاش، وصدق الكاذب، والحظوة لا تدرك بالحيلة، ولا يجري أكثرها على حسب السبب والوسيلة ؟ فأجابه الأمير معتباً: حضور الثقة بك أعزك الله يغني عن حضورك، وصدق حالك يحتج عنك، وما تقرر عندنا من نيتك وطويتك يغني عن اعتذارك.
وذكر الحصري في زهر الآداب أن ابن المعتز كتب إلى بعض الوزراء بذلك، وبينهما يسير خلاف.
ورسالة ابن زيدون طويلة جليلة، وفي نكبته هذه يقول:
يا للرزايا لقد شافهت منهلها ... غمراً فما أشرب المكروه بالغمر !

لا يهنإ الشامت المرتاح خاطره ... أني معنّى الأماني ضائع الخطر
هل الرياح بنجم الأرض عاصفة ... أم الكسوف لغير الشمس والقمر
إن طال في السجن إيداعي فلا عجبٌ ... قد يودع الجفن حدّ الصارم الذّكر
وإن يثبّط أبا الحزم الرضا قدرٌ ... عن كشف ضرّي فلا عتبٌ على القدر
لا تله عني فلم أسألك معتسفاً ... ردّ الصّبا غبّ إيفاءٍ على الكبر
وفيها يقول أيضاً من قصيدة فريدة:
لعمر الليالي إن يكن طال نزعها ... لقد قرطست بالنّبل في مقتل النبل
تحلت بآدابي وإنّ مآربي ... لسانحةٌ في عرض أُمنيّةٍ عطل
اُخصّ لفهمي بالقلى وكأنما ... يبيت لذي الفهم الزمان على دخل
وأُجفى على نظمي لكل قلادةٍ ... مفصّلة السّمطين بالمنطق الفصل
ولو أنني أسطيع كي أُرضي العدا ... شريت ببعض العلم حظاً من الجهل
أبا الحزم إني في عتابك مائل ... إلى جانبٍ تأوي إليه العلا سهل
حمائم شكري صبّحتك هوادلاً ... تناديك من أفنان آدابي الهدل
جوادٌ إذا استنّ الجياد إلى مدىً ... تمطّر فاستولى على أمد الخصل
ثوى صافناً في مربط الهون يشتكي ... بتصهاله ما ناله من أذى الشّكل
أإن زعم الواشون ما ليس مزعماً ... تعذّر في نصري وتعذر في خذلي !
ولم استثر حرب الفجار ولم أُطع ... مسيلمةً إذ قال: إني من الرسل
وإني لتنهاني نهاي عن الذي ... أشار به الواشي ويعقلني عقلي
هي النعل زلّت بي فهل أنت مكذبٌ ... لقيل الأعادي إنها زلّة الحسل
ألا إنّ ظني بين فعليك واقفٌ ... وقوف الهوى بين القطيعة والوصل !
ثم تهيأ له الفرار من السجن إلى أن شفع فيه كما تقدم فظهر ! ولما ولي أمر قرطبة أبو الوليد بن جهور بعد أبيه أبي الحزم نوه به، وأسنى خطته وقدمه في الذين اصطنع لدولته، وأوسع راتبه، وعينه للنظر على أهل الذمة في بعض الأمور المعترضة، وقصره بعد على مكانه من الخاصة والسفارة بينه وبين الرؤساء، فأحسن التصرف في ذلك، وغلب على قلوب الملوك.
واتفق أن عن له مطلب بحضرة إدريس بن يحيى بن علي الحسني بمالقة فأطال الثواء هنالك، واقترب من إدريس خف على نفسه، وأحضره مجالس أُنسه، فعتب عليه ابن جهور، وصرفه عن ذلك التصرف قبل قفوله، ثم عاد إلى حسن رأيه فيه.
واجتذبه المعتضد عباد بن محمد، فهاجر عن وطنه إليه، ونزل في كنفه، وصار من خواصه، يجالسه في خلواته، ويسفر له في مهم رسائله، لفضل ما اُوتيه من اللسن والعارضة؛ ثم كتب له بعد أبي محمد بن عبد البر فكانت الكتب تفد من إنشائه إلى شرق الأندلس، فيقال: تأتي من إشبيلية كتب هي بالمنظوم أشبه منها بالمنثور ! وهلك المعتضد، فأقره ابنه المعمتد محمد بن عباد على حاله، وزاد في تكرمته، وأعرض عن الساعين به، واستعمل بعد وفاته ابنه أبا بكر محمد بن أبي الوليد.

محمود بن علي بن أبي الرجال
نكبه المعز بن باديس الصنهاجي، وكان هو وأبوه وأهل بيته برامكة إفريقية، وفي علي منهم يقول أبو عبد الله محمد بن شرف:
جاور عليّاً ولا تحفل بحادثةٍ ... إذا ادّرعت فلا تسأل عن الأسل
إسمٌ حكاه المسمّى في الفعال فقد ... حاز العليّين من قولٍ ومن عمل
فالماجد السيد الحرّ الكريم له ... كالنعت والعطف والتوكيد والبدل
زان العلا وسواه شانها وكذا ... للشمس حالان في الميزان والحمل
وربما عابه ما يعجزون به ... يشنا من الخصر ما يهوى من الكفل
سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل
وتوفي علي مستوراً، وكان في حياته ينذر بنكبة ابنه محمود هذا في السن التي نكب فيها، فوافق ذلك ما قال ! ثم قال: شفعت أُخت المعز فيه فعفا عنه وخلع عليه وأُعطي للوقت بعض ضياع أبيه، وفي هذه النكبة يقول محمود:

وإخوانٍ تخذتهم دروعاً ... فكانوها ولكن للأعادي
حسبتهم سهاماً صائباتٍ ... فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا قد صفت منّا قلوبٌ ... لقد صدقوا ولكن من ودادي

أبو المطرف عبد الرحمن بن أحمد بن مثنى
كتب للمنصور أبي الحسن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن أبي عامر صاحب بلنسية، وكان معه على بلاغته وبيانه وتقدمه في غير ذلك من العلوم كما وصف في رسالته إليه عند انفصاله عنه، يرققه على أهله وأبنائه: ولما تيقنت أن حالي لا ترم، وأن شعثي لا يلم، أبديت العزمة وأكدت الرغبة، وأخلق بمن نبذ نبذ النوى، وطرح طرح القذى، أن يشتد استيحاشه، ولا يطمئن جأشه؛ ووالله لولا اليأس ما تحركت، ولو انقطاع الرجاء لتماسكت، وهو الذي تشهد لي به العقول ويقضي علي به التحصيل، ولن ترى طارداً للحر كالياس.
وقد قال الآخر:
وإنّك لن ترى طرداً لحرٍّ ... كإلصاقٍ به طرف الهوان
وأيم الله لقد صبرت حتى عذرت، وأقمت حتى تهدمت، ومبلغ نفس عذرها مثل منجح، وأنا أستودع مولاي ودائع أقمن بحرمه، واعتصمن بذممه، وأوين إلى ظله، ولبسن أثواب فضله، وأستودعه استيداع من عظم وجده لبعاده، وخلف بين يديه فريقاً من فؤاده، وإني حيث خيمت، وأين يممت، لعبد شاكر ومعتقد نعمة ناشر، لا أفتر ولا اني، ولا أرتدع ولا أنثني، وحسبي بما سينهى إلى مولاي عني، وينمى إليه على قرب الدار وبعدها مني، وكذلك يعلم الله حسن ذكري لأكابره الجلة، وخلصائه العلية، وأسأل الله قبل وبعد أن يجزي بالنيات، ويقارض على المقامات، وأقول قول الموجع: بعد الزمن قطع مني عصمتي، وأدال لديك حرمتي؛ وأول هذه الرسالة:
قدر الله واردٌ ... حين يقضى وروده
فأرد ما يكون إن ... لم يكن ما تريده
ومن فصولها: وغير ذاهب على مولاي جلية حالي وسوء مآلي، وما منيت به من الجد العاثر والتأخر الظاهر، وما قلت إلا بالذي علمت سعد وفي علمه الجلي وفهمه الذكي أن الإناء إذا امتلأ يفيض، وأن الصبر على المعضل يغيض، وأن للاحتمال مدى ثم ينقطع، وللتحمل منتهى ثم يرتفع، ومملوكك لما غلبه جلده، وتناهى بشأنه كمده، وأظلم في عينيه ضوء النهار، وسد عليه طريق الاختيار، لم يجد بداً من مضايقة العسرة من النفار، خجلاً من الشمات اللاحق له، وتألماً من الخلل الملم به:
وللموت خيرٌ من حياةٍ يرى لها ... على المرء ذي العلياء مسّ هوان
متى يتكلم يلغ حسن كلامه ... وإن لم يقل قالوا عديم بيان
وكان ارتحاله من بلنسية إلى طليطلة، فاستوزره المأمون يحيى بن ذي النون، وألقى إليه بأموره كلها، فشهر اكتفاؤه وشكر غناؤه؛ ولأبن حيان في الثناء عليه إسهاب وإطناب، وأعتبه المنصور في بنيه، فلحقوا به على ما أحب، وتزايدت حظوته عند ابن ذي النون، وظهرت كفايته، فلما توفي المنصور عبد العزيز ببلنسية، وقدم ابنه عبد الله، أنفذه ابن ذي النون مع قائد من خاصته في جيش كثيف أمرهم بالمقام معه، وشد ركنه، فسكنت الدهماء عليه.
عبد الملك بن غصن الحجاري
نكبه المأمون بن ذي النون، واعتقله مع جماعة من النبهاء بوبذة من أعمال حضرة طليطلة، فكتب إليه رسالة في صفة السجن والمسجون، والحزن والمحزون دلت على مكانه من العلم والأدب والحفظ، وأودعها ألف بيت من شعره في الأستعطاف، منها قوله:
أزاح الدهر حلو الماء عني ... على ظمأٍ وأسقاني زعاقه
وبالمرجوّ إن أظفر به من ... رضا المأمون يحلي لي مذاقه
وناس لفّني بهم شقاءٌ ... ألمّ فزمّ في ساقي سباقه
ولم يك لي بذاك العير عيرٌ ... ولا بقطيع ذاك الذّود ناقه
وربّتما استحال السعد نحساً ... فذاق المعتدي ممّا أذاقه
وأعمى عينٍ أهدى من قطاةٍ ... وشدّ بمثل مفحصها وثاقه
إذا صار الهلال إلى كمالٍ ... وتمّ بهاؤه فأرقب محاقه
وإنّ عبوس هذا الدهر يأتي ... على أثر البشاشة والطّلاقه
أضاع الدهر مني علق فهمٍ ... إذا نظر المميّز منه راقه
وأيّ فتى لتقديم الأيادي ... لديه وأيّ عبدٍ للعتاقه !
وقوله:

وخلٍّ يسلّيني على بعد داره ... ويكشف من كرب المشوق المتيّم
ودادي موقوفٌ عليه وخلّتي ... وفكري مشغولٌ به وتوهمي
على أنني من ضيق سجني وحيلتي ... بليت كما حدّثت عن حفش أيّم
أُجانب فيه ذكر خلّي كرامةً ... وأخجل من طيف الخيال المسلّم
أرى نوب الدنيا تروح وتغتدي ... فمن فرحٍ ناءٍ وهمٍّ مخيّم
إذا شئت إسعاف الزمان وعطفه ... فبادر بدار المسرع المتغنّم
وناد بيا يحيى يحيّك بالمنى ... وثنّ بإسماعيل تسم وتعظم
بعطفة ذي المجدين أرجو من الردى ... خلاصي ولو أُلقيت في شدق أرقم
وقوله:
نحن في حالةٍ لأيسر منها ... يتلظّى الردى وتبكي الخطوب
مالنا في وطء البسيطة حظٌ ... لا ولا في نشق الهواء نصيب
في محلٍّ كأنه ظلف شاةٍ ... ليس فيه لذي دبيبٍ دبيب
وكأنّ الكبل الثقيل إذا ما ... رنّ في الساق للخطوب خطيب
إن رمتنا يد الخطوب بقوسٍ ... طالما كان سهمها لا يصيب
أو يكن عثّر الزمان فمرجوٌّ ... لإنعاشنا القريب المجيب
قد أجاب الإله دعوة نوحٍ ... حين نادى بأنه مغلوب
وشفى ذو الجلال علّة أيّو ... ب وقد شارف الردى أيوب
وانقضى سجن يوسفٍ وقد استي ... أس وارتدّ مبصراً يعقوب
فرق له المأمون لما وقف على هذه الرسالة وأطلقه وعفا عنه.

أبو محمد بن عبد البر
كتب للمعتضد عباد بن محمد بإشبيلية، وله عنه الرسالة البديعة في قتل ابنه إسماعيل، ويقال إنه كتبها دون روية؛ ثم سعي به إليه حتى غير عليه، فاحتال للخلاص من يديه، سمعت بعض شيوخي يحكي أن أباه الإمام أبا عمر بن عبد البر سار في أمره من مستقره بشرق الأندلس، وهو حينئذ يتردد بين بلنسية وشاطبة، فلأول دخوله على عباد نادى رافعاً صوته: ابني يا معتضد ابني يا معتضد: فشفعه فيه، وانصرفا عنه محفوفين بالإكرام، ومكنوفين بالاحترام.
وقال ابن بسام في الذخيرة: لما شأى أبو محمد بالأندلس الحلبة، وتبحبح صدر الرتبة، تهادته الآفاق، وامتدت إليه الأعناق، ففاز به قدح عباد بعد طول خصام والتفاف زحام، فأصاخ أبو محمد لمقاله، وتورط في حباله، وغص أبو الوليد بن زيدون بمقدمه، فجهد زعموا كل جهد في إراقة دمه، ولما رأى أبو محمد أنه قد باء بصفقة خسران، وأن العشاء قد سقط به على سرحان، أدار الحيلة، والتمس على الخلاص الوسيلة؛ زعموا أنه لم يزل نافر النفس منقبض الأنس، فلما استشعر الحذر وأحس بالتغير، ألقى عصا التسيار، وأخذ في اقتناء الضياع والديار، حتى ظن عباد أنه قد رضي جواره، واستوطن داره، فاستنام إليه برسالة إلى بعض خلفائه من رؤساء الجزيرة، فجعل أبو محمد يتفادى منها ويتثاقل عنها؛ قال: ولما انسل من يد عباد انسلال الطيف، ونجا وسله كيف، رجع إلى مستقره من الشرق، وأدار الحيلة على أبي عمر بن الحذاء، فعوضه بضياعه وعقاره، وزين له اللحاق بدار بواره وسوء قراره؛ وقد كان عباد قبل ذلك يستهويه ويستدرجه ويدليه، فلما طلع عليه لم يزد على أن اسره وقصره وأظهر من الزهد فيه أضعاف ما كان يعده ويمنيه، وجعل أبو محمد بعد ذلك يتنقل في الدول، كالبدر يترك منزلاً عن منزل، وقد جمع التالد إلى الطارف، وكتب عن أكثر ملوك الطوائف.
أبو بكر محمد بن سليمان بن القصيرة

حكى ابن بسام أنه نشأ في دولة المعتضد؛ قال: وشهر بالعفاف فلزمه، ويسر للعلم فعلمه وعلمه، وكانت له نفس تأبى إلا مزاحمة الأعلام، والخروج على الأيام، وهو دائماً يغض من عنانها فتجمح، ويطأطيء من غلوائها فتتطاول وتطمح، ممتنعاً من خدمة السلطان، وقاعداً بنفسه عن مرتبة نظرائه من الأعيان، بين عفة تزهده، وهيبة من المعتضد تقعده، وذكر أن ابن زيدون نبه عليه للمعتضد آخر دولته، فتصرف فيها قليلاً إلى أن أفضى الأمر إلى المعتمد فأنهضه إلى مثنى الوزارة، وأكثر ما عول عليه في السفارة، فسفر غير ما مرة بينه وبين ملوك الطوائف بالأندلس حتى انصرفت وجوه آمالهم إلى يوسف بن تاشفين أول ظهور اللمتونيين، فسفر بينهما مراراً فكثر صوابه، واشتهر في ذات الله مجيئه وذهابه، واضطر المعتمد إليه قريباً في آخر دولته، فعظمت حاله، واتسع مجاله، واستولى على دولته استيلاءً قصر عنه أشكاله، إلى أن كان من خلعه ما كان، وذلك في رجب سنة أربع وثمانين وأربع مائة، فكان أبو بكر أحد من حرب، وفي جملة من نكب، وأقام على تلك الحال نحواً من ثلاثة أحوال، حتى تذكر ابن تاشفين ما كان من حسن خليقته، وسداد طريقته؛ ويقال إن سبب ذلك الذكر كتاب ورد عليه من صاحب مصر لم يكن بد منه في الجواب عنه، فاستدعاه من حينه، وولاه كتب دواوينه، ورفع شأنه وأعلاه، وولي بعده ابنه علي بن يوسف فأقره على ما كان يتولاه.

ابن الوكيل اليابري
كان أبو بكر عيسى بن الوكيل الكاتب مستعملاً في غرناطة في الدولة اللمتونية، فحكى نه أنكر عليه مال جليل يبلغ عشرة آلاف دينار، فقبض عليه وأُشخص منكوباً إلى مراكش، فلما بلغ الموكلون به مدينة سلا وبها يومئذ بنو القاسم المعروفون ببني العشرة، رباب السماح وأرباب الأمداح ويذكر أن جدهم الأكبر أحمد بن محمد بن المدبر قال قصيدته الشهيرة يمدح القاضي أبا الحسن، ويستجير به، وسأل إيصالها إليه، فبادر عند الوقوف عليها إلى المخاطبة بتضمن المال وتحمله، وسؤال الصفح عنه والإبقاء عليه بإعادته إلى عمله، فصدر جوابه بالإسعاف والإسعاد، وعاد ابن الوكيل إلى غرناطة أنبه معاد، وأول القصيدة:
سل البرق إذ يلتاح من جانب البلقا ... أقرطي سليمى أم فؤادي حكى خفقا
ولم أسبلت تلك الغمامة دمعها ... أريعت لو شك البين أم ذاقت العشقا
يقول فيها:
غريبٌ بأرض الغرب فرّق قلبه ... فآوت سلا فرقاً ويابرةٌ فرقا
إذا ما بكى أو ناح لم يلف مسعداً ... على شجوه إلا الغمائم والورقا
ومنها في المدح:
حياءٌ يغضّ الطرف إلاّ عن العلا ... وعرضٌ كماء المزن في الحزن بل أنقى
وفضلٌ نمير الماء قد خضّل الربا ... وعدلٌ منير النّجم قد نوّر الأُفقا
بلغنا بنعماك الأمانيّ كلّها ... فما بقيت أُمنيّةٌ غير أن تبقى
أبو جعفر أحمد بن عطية

صنيعة الإيالة الحفصية على الحقيقة، ونشأة عنايتها الكريمة وهدايتها العتيقة، بها بهر بهاؤه، واشتهر ابتداؤه وانتهاؤه، حتى ساق الأيام بل الأنام بعصاه، واستوسق له أدنى الشرف وأقصاه، وهو أحد من سودته براعته، ولم توجد بداً من اصطناعه صناعته، وكان في أول أمره قد كتب لإسحق بن علي بن يوسف ابن تاشفين فلما دخلت مراكش عنوة من جهة باب إيلان يوم السبت الثامن عشر لشوال سنة إحدى وأربعين وخمس مائة، وقتل إسحق وطائفة من أصحابه، توارى أبو جعفر ودخل في غمار الناس، وبلغ به الجد في الاستخفاء والاستتار إلى أن ارتسم في المرتزقين من الرماة ليتبلغ بما يجرى عليه، إلى أن ثار الدعي المعروف بالماسي واستفحل أمره، فنهد إليه الأمير المعظم المجاهد المقدس المبارك الأرضى المرحوم أبو حفص ناصر دعاية التوحيد المحفوف الراية بالظهور والتأييد، الذي حبيت بالمضاء صوارمه وصرائمه، وسبيت له من كل ذي كفر وغي كرائمه، فقتله الله على يديه وانهزم أصحابه، وذلك يوم الخميس السادس عشر لذي الحجة سنة اثنتين وأربعين، وأمر رضوان الله عليه بإحضار مخاطب عنه بذلك الفتح العظيم والمنح الجسيم، فنبه على أبي جعفر وقد أخفى نفسه في رماة العسكر، وتنكر جهده وهو المعروف غير المنكر، فدعا به لسعادته، وأوعز إليه بإرادته، فكتب رسالته التي أورثته تشريفاً وتكريماً، وصيرته أغر محجلاً بعد أن كان بهيماً، وبسببها أُوثر بالكتابة الكلية والوزارة، وهي عادة هذا البيت المعروف البركة والطهارة، ما أعتلق به معتلق إلا أمن من العوادي، ولا ألتفت إلى عجز إلا لحق بالهوادي، لا زالت أبواب معروفة وسماحه لها كظيظ من الزحام، وما يصدر عن صفائحه وصفاحه يعول الأولياء بالإنعام، ويغول الأعداء بالانتقام:
آمين آمين لا أرضى بواحدةٍ ... حتى أُضيف إليها ألف آمينا
ومن فصول هذه الرسالة المباركة: كتابنا هذا من وادي ماسة بعد ما تجدد من أمر الله الكريم ونصره المعهود المعلوم " وما النصرُ إلا من عِنْدِ الله العزيزِ الحكيم " ، فتح بهر الأنوار إشراقاً، وأحدق بنفوس المؤمنين إحداقاً، ونبه من الأماني النائمة جفوناً وأحداقاً، واستغرق غايات الشكر استغراقاً، فلا تطيق الألسن لكنه وصفه إدراكاً ولا لحاقاً، جمع أشتات الطلب والأرب، وتقلب في النعم أكرم منقلب، وملأ دلاء الآمال إلى عقد الكرب:
فتحٌ تفتّح أبواب السماء له ... وتبرز الأرض في أثوابها القشب
وقد تقدمت بشارتنا به جملة، حين لم تعط الحال بشرحه مهلة، كان أولئك الضالون المرتدون قد بطروا عدواناً وظلماً، واقتطعوا الكفر معنى واسماً، وأملى لهم الله ليزدادوا إثماً، وكان مقدمهم الشقي قد استمال النفوس بخز عبلاته، واستهوى القلوب بمهولاته، ونصب له الشيطان من حبالاته، فأتته المخاطبات من بعد وكثب، ونسلت إليه الرسل من كل حدب، واعتقدته الخواطر أعجب عجب، وكان الذي قادهم إلى ذلك، وأوردهم تلك المهالك، وصول من كان بتلك السواحل ممن ارتسم برسم الانقطاع عن الناس فيما سلف من الأعوام، واشتغل على زعمه بالقيام والصيام، آناء الليل وأطراف الأيام، لبسوا للناس أثواباً، وتدرعوا للرياء جلباباً، فلم يفتح الله لهم للتوفيق باباً.

ومنها في ذكر الدعي: فصرع بحمد الله لحينه، وبادرت إليه بوادر منونه، وأتته وافدات الخطيات عن يساره ويمينه، وقد كان يدعي أنه بشر بأن المنية في هذه الأعوام لا تصيبه، والنوائب لا تنوبه، ويقول في سواه قولاً كثيراً، ويختلق على الله إفكاً وزوراً، فلما عاينوا هيئة اضطجاعه، ورأوا ما خطته الأسنة على أضلاعه، ونفذ فيه من أمر الله تعالى ما لم يقدروا على استرجاعه، انهزم ما كان لهم من الأحزاب، وتساقطوا على وجوههم تساقط الذباب، واعطوا عن بكرة أبيهم صفحات الرقاب، ولم تقطر كلومهم إلا على الأعقاب، فامتلأت تلك الجهات بأجسادهم، وآذنت الآجال بانقراض آمادهم، وأخذهم الله بكفرهم وفسادهم، فلم يعاين منهم إلا من خر صريعاً، وسقى الأرض نجيعاً، ولقي من الهنديات أمراً فظيعاً، ودعت الضرورة باقيهم إلى الترامي في الوادي، فمن كان يؤمل الفرار منهم ويرتجيه، ويسبح طامعاً في الخروج إلى ما ينجيه، اختطفته الأسنة اختطافاً، وأذاقته موتاً ذعافاً، ومن لج في الترامي على لججه، ورام البقاء في ثبجه، قضى نحبه شرقه، وألوى بذقنه غرقه، ودخل الموحدون إلى البقية الكائنة فيه يتناولون قتلهم طعناً وضرباً، ويلقونهم بأمر الله هوناً عظيماً وكرباً، حتى انبسطت مراقات الدماء على صفحات الماء، وحكت حمرتها على زرقته حمرة الشفق على زرقة السماء، وظهرت العبرة للمعتبر، في جري الدماء مجاري الأبحر.

كاتب صلاح الدين يوسف بن أيوب
كان على ديوانه كاتب له يعرف بصفي الدين، فسعي به إليه، وقدر عنده أنه أتلف مالاً كثيراً، وحمل على محاسبته فأمر بها فكانت سياقة الحساب عليه سبعين ألف دينار، حكى الأصبهاني كاتبه المعروف بالعماد في تاريخ فتوحه الشامية أنه ما طلبها ولا ذكرها؛ قال: ثم لم يرض له العطلة فولاه ديوان جيشه، وأولاه ما دنت له به مجاني جاهه وعيشه !
أبو عبد الله محمد بن عياش
قبض على مخدومه الملقب بالرشيد في سنة أربع وثمانين وخمس مائة، واعتقل برباط الفتح من سلا إلى أن قتل هنالك، واستتر هو مدةً ثم صفح عنه، فظهر واستكتب بمراكش، واتصلت نباهته وحظوته أزيد من ثلاثين سنة واستعمل أبناؤه معه وبعده، وكان الداعي بعد نكبته إلى استعماله ما عرف من كفايته واستقلاله، ورسالته في غزو بلاد الروم سنة اثنتين وتسعين هي جذبت بضبعه، وحكمت في نصبه للاشتغال برفعه، حتى رسا في الرياسة أركاناً، وسما على أهل عصره مكاناً؛ ومن فصولها: وأن تعلموا أن الجيوش وإن كثرت جنودها، وانتشرت ذات اليمين والشمال بنودها، فلا ثقة إلا بالواحد الذي يغلب والكتائب الباغية كثيرة الأعداد، ولا استظهار إلا بسيفه الذي يضرب والسيوف في مضاجع الأغماد، وإلا فما يؤثر الخميس العرمرم إذا لم يكن السعد من نفره، وما يغني شجر القنا إذا لم يكن العون من شريه والفتح من ثمره، وما تفيد عيونه الزرق إذا كان صنع الله محجوباً عن بصره !.
ومنها يصف معقلاً: وهو حصن يتلفع بالعنان، ويقتنص الطائر بالسنان، وينفث الشجاعة في روع الجبان الهدان، على طود قد سافر في الجو مغترباً، ولم يرض بالجبال أكفاء ولا بالبسيطة منتسباً، ينظر إلى ما يجاوره نظر الجارح المحلق في السماء، أو الشهاب الراجم في حندس الظلماء، ففتحه الله وحده قبل الخلوص إليه من العروج، والنزول عليه من السروج، فتحاً تفاءل به التوحيد فيما يؤمله، وقال أهله: اللهم اجعله مفتاح كل باب نستقبله !.
ومنها: صوبنا على طليطلة قاعدة الصفر وأم بلاد الكفر، وجئناها من جهات أبواب قشتالة وهي الجهات التي كانوا يأمنون من أُفقها، ولا يسدون باباً يفضي إلى طرقها، فأخذهم العذاب من حيث لا يشعرون، وعرفوا التخاذل من حيث كانوا ينصرون، واستقبلتهم العبر أفواجاً أفواجاً، وجاءتهم النذر تأويباً وإدلاجاً، إلى أن نزلنا بظاهرها الشمالي وكم لجيوش الإسلام لم توقع بصراً على حدودها، ولا جرت صعدة في صعيدها، فرد ما كان يليها منها نفنفاً، وقاعاً صفصفاً ... ثم تظاهر الموحدون ثاني يوم فيما أعطاهم الله تعالى من قوة العدة والعديد، وفاضوا على أعطافها في بحور الخيل وأمواج الحديد، كل قبيلة في شعارها الموسوم، وعلى مدرجها المرسوم، كأنهم من البحر لج موجه متراكب، أو سحاب خريف زعزعته الجنائب ...

ثم أجازنا وادي تاجو إلى جنابها الإسلامي، وهو منشأ دوحها المائس الأعطاف، وحدائقها الغلب وجناتها الألفاف ... وفيه المنية التي كانت جنة الكافر ومأواه، وحظه من أُولاه وأُخراه، فكر على الجميع المؤمنون كرةً، فكان انجعافه بإذن الله مرة، ولم يكن بين رؤيته في ملاءة الحسن والابتهاج، وتضاؤله في شعر مسودة كالليل الداج، إلا بمقدار ما غير الله نعمته بالبؤس، وبدله من الأمن والخفض بالخوف والجوع وهو شر لبوس ... وطالما كانت حجراً على النوائب، بسلاً على الجيوش الكثيفة والكتائب، وها هي اليوم وخيل الله تمرع في شعابها آمنةً، ورماح الموحدين تندق في أبوابها طاعنةً أسيرة الركب وقعيدة الخطب وضعيفة الحيل، ولقىً بين أرجل الخيل، ليس بينها وبين المجاز ناقوس يضرب، ولا صليب ينصب؛ لا إهلال لغير الله، ولا نداء إلا بذكر الله، حتى ينجز الله وعده في سنامها، ويفيض نور الملة المحمدية على ظلامها.
وهذا الغزو الذي يسر في طاغية الروم كل مرام، وعم سرارة أرضه بالسير فيها عاماً بعد عام، أهل البيت الحفصي الكريم يتولى، وعن آرائهم المرتضاة وسيوفهم المنتضاة، حل وتجلى، حظ سواهم منه زهيد، وشهيدهم على ما أقول شهيد، لا جرم أن رأيتهم الحمراء نصرت على بني الأصفر السمحة البيضاء هي التي فعلت هناك الأفاعيل، ودمغت بالحق الذي عقدت لإقامته الأباطيل، عادة في الحفاظ عدوية، وشنشنة مخزومية لا أخزمية، وحسب الدول بسلف أربوا على الملوك الأُول، يجدون مر المهالك أحلى من العسل، ويعتقدون أعلى الممالك ما بني على الأسل، خلفهم خليفة الله في عباده وبلاده، ومجاهد الكفار والمنافقين فيه حق جهاده، القائم الهادي بالحق الواضح البادي، والعدل المقاص في الحاضر والبادي، فملك البسيطة حزنها وسهلها، وتقلد الإمامة وكان أحق بها وأهلها، مناقب تبهر النجوم الثواقب، وشمائل تفاخر الأواخر والأوائل، استحقت على الأمراء الممادح والمحامد، واسترقت من الشعراء القصائد والمقاصد، فلو أُنسئ أبو نواس لما اعتمد سواه بقوله، وإن كان طويل الثناء قاصراً عن طوله:
إذا نحن أثنينا عليك بصالحٍ ... فأنت كما نثني وفوق الذي نثني
وإن جرت الألفاظ يوماً بمدحةٍ ... لغيرك سلطاناً فأنت الذي نعني

أبو عبد الله بن نخيل
لما أتاح الله صلاح الأمم، وإيضاح الأمم بهذه الإمارة المطاعة، وأباح لإفريقية أن تراح من عذاب الفرقة برحمة الجماعة، قلد ملكها وسلطانها، ليعمر بالهداية أوطانها، ويدحر حزب الغواية وشيطانها، صفوة الأملاك ونكتة الأفلاك، الذي ضحكت الآناء لما اعتدلت بشيمه، وبكت السماء لما أكلت الأرض من كرمه، الأمير المعظم الأعلى المجاهد المقدس الأرضى المطهر المرحوم أبا محمد، سقى الله سحب الرضوان ضريحه، وقدس مثواه المستودع من المجد لبابه ومن الجود صريحه، فدفع كل ضر ورض، وأطلع لمحاورتي سنة وفرض، ومحاولتي بسط وقبض " ذُريّةً بعضُها من بعض " ؛ ملوك بهاليل، ليس إلا عمائمهم تيجان وأكاليل، راضون في الله غضاب، كأنهم تحت الحبى هضاب، للقرى والقراع خبهم وإيضاعهم. وبالخطيات، واليراع توقيعهم وإيقاعهم، يبدأون بحق الله ثم النائل، ويحقنون حتى ماء وجه السائل، باء الكملة بالنقص عن كمالاتهم، وجاء ما أدرج حمالة حاتم وحلم قيس بن عاصم من حلومهم وحمالاتهم:
غطاريف من قومٍ ثوى الملك فيهم ... فلم يبق من بعد الحلول ترحّلا
أُصولهم منصورةٌ بفروعهم ... إذا قام منهم آخرٌ كان أوّلا
فما يشهدون الحرب إلاّ إذا غلت ... ولا يشترون الحمد إلاّ إذا غلا

جدوا وجادوا، وشدوا كما شاءوا وشادوا، وفعلوا مثل ما فعلت أوائلهم وزادوا، فطفيء جمر الهياج المشبوب، ويجيء عقب المكروه المحبوب، وأصبح الثأي وهو المرءوب، والصنيع وهو المربوب، وذلك من سنة ثلاث وستمائة إلى عامنا هذا الموفي أربعين حجةً، وردت فيها السخلة مع الضرغام، وردت شامخات المعاطس حليفة الرغام، إلا برهةً غاب عنها منازلو أُسد الغاب، ومساجلو البحار والسحاب، بالمنن الرغاب، فبودرت عندها بالحرب والحرب، وغودرت وحشة الساحات والرحب، ثم عاد الرمي إلى النزعة، وفرج الله الضيقة والزلزال بالسعة والدعة، واستوسع بعدها نطاق الملك، وعاد أهل المغرب والأندلس بالنجاة من الهلك، فأرزت إلى هذه الحضرة العلية البلدان، كما يأرز إلى المدينة النبوية الإيمان، وما هي إلا الخلافة حقاً، عم إشراق نورها غرباً وشرقاً، لما أقامت الدين، وقامت بكلمة الموحدين، فانتظمت الأرجاء والآفاق، وحسمت الشقاق والنفاق، وما عدت الإجماع والإصفاق.
وكان ابن نخيل لأول هذه الإيالة المباركة ممن فاز بقدح النباهة المعلى، وعاد بعد العطل من الوجاهة المحلى، نقلته السعادة من ديوان الأعمال إلى ديوان الرسائل، وأعلقته بأعظم الحرمات وأشرف الوسائل، فأجاد الإنشاء وتبوأ من رفيعات المراتب حيث شاء، مفرداً لخلوص الحماية وجموحها، ومعتمداً بخصوص العناية وعمومها، لا استثناء عليه في توقيع، ولا اقتصار به على ترفيع، وهذه فصول من رسالته السلطانية في وقيعة شيذو من نواحي سبتة منتصف صفر سنة أربع وستمائة، وقد انتصر الحق من الباطل، ففرق جموعه، وأذهب بسطوته الغالبة ودعوته العالية جميعه، وأيد الله طائفة التوحيد على حزب الشيطان المريد، تأييداً أراق بسيفه القاصل نجيعه، وبين لكل ذي بصر سديد وسمع شهيد أن هذا الأمر هو أمر الله الذي لا يزال نافذ الأقدار في الإيراد والإصدار مطيعه، وأن عدوه وإن تراخى به الأمد فلا بد أن ينزل موعده الصادق منيعه، ويحط رفيعه، والحمد لله على ذلك حمداً يستمد وحي النصر المؤزر والفتح المدخر وسريعه.
ومنها في ذكر الشقي الميورقي: فحشد من قبائل دباب وزغب ونفات، ومن انقاد إليهم من برابر تلك الجهات، من قادهم إليه الحين بزمام الخدع والترهات، وأقبل بمن التف عليه من أولئكم الطغام، وبقايا الاجتياح والاصطلام، يتقرى المنازر والمناهل، ويوهم بكثرة من جمعه من هذه القبائل، وخرج الموحدون إليهم مستعينين بالله وبما عوده من النصر عليهم، فلما حققوا عزمهم وصححوا في التصميم نحوهم علمهم، ورأوا أنهم فوقوا لثغرهم المثغورة أسهمهم، طار بهم الفرار، ونبا بهم القرار، وولوا سراعاً لا يستبد بسيرهم دون الليل النهار، والموحدون أعزهم الله ينتظرون الوقت الذي لا يبعد مداه في هلاكهم، ولا يفلتون منه بعد إدراكهم، فلما تراءى الجمعان، وضاق متسع المجال عن الدماء والطعان، وشيمت السيوف كالبوارق الخواطف في اللمعان، وحملت الكتائب على الكتائب كالرعان على الرعان، جرى الموحدون أعزهم الله على عادة صبرهم، فعرفهم الله ما أحبوه من عوائده الكريمة مع أميرهم، فلم يكن إلا لمحة بارق، أو خلسة مسارق، حتى استلحمت السيوف أحزاب الضلال، وتبرأ منهم رجيمهم المغرور تبرؤ من كان وعدهم بالمحال، فقتلوا مئين وعشرات وآحاداً، وفر غويهم الشقي جريحاً لم يصحبه من ذلك الجم إلا فرادى، وامتلأت الأيدي من غنائمهم فهي تشل في حزن وسهل سوقاً وطراداً، وكفلت الموحدين عناية الله تعالى، فلم ينل العدو منهم نيلاً، ولم يمل الضرر عليهم ميلاً، بل أشوت سهامه، وخاب والحمد لله أمله ومرامه، ولم يبق من هذا العدو إلا ذماء، ولقد ظل بعد هذه الوقيعة لا تحميه مع العرب أرض ولا سماء، فإنه أتى في هذه الحركة منهم بمن لم يطر له قبل بجناب، واستهوى بحبالاته الكاذبة وآماله الذاهبة من عاد لأرضه بجريعة الذقن ولم يعد شاب ولا تاب، وترك الحلائل في المحامل تتوزعها أيدي الناهبين فلا تدركه حفيظة الانتهاب، وطالعناكم بهذه المسرة العظمى والموهبة الكبرى عشي اليوم المشهود والوقت المحمود، لتحمدوا الله بجميع محامده وتشكروه، وتذيعوا بلاءه الجميل لكم ولكافة المسلمين على أيدي أوليائهم الموحدين وتنشروه.

ومن رسالته السلطانية أيضاً في الوقيعة الكبرى بوادي أبي موسى سنة ست وستمائة: وإلى ذلكم وصل الله بالنجاح أسباب آمالكم، وختم بالفلاح صحائف أعمالكم، فإن الموحدين أعزهم الله لما قفلوا من حركتهم الأولى إلى ديارهم، وانصرفوا من تمام أغراضهم في اتباع الأعداء وأوطارهم، أقبل هذا العدو الأشقى فيمن التف عليه من غدرة بني رياح كفرة النعمى، يؤمون هذه الجهة الإفريقية حنيناً إليها، وصبابة لم تزل تعطف عليها، ظناً منهم أن هذه العصابة المنصورة، والجماعة المحمودة في سبيل الله المشكورة، قد ألقت عصا التسيار، وأخلدت إلى الراحة من طول السفار، وكانت قد تلقتهم بأطراف الزاب جماعة بني مالك مزيدة وجموع دياب، فقوت رجاءهم في الهجوم على البلاد، وصدقت أملهم الكاذب فيما عزموا عليه من الفساد، فأخذ الموحدون أعزهم الله في الحركة إليهم، والورود بحول الله وقوته عليهم، بعزائم لا تثني بالأمل، وحفائظ لا ترضى بالقول دون العمل، حتى نزلوا القيروان، وهي قطب منازل الأعراب ومراد سوامهم عند ازدحامهم في مثل هذه الأحوال الصعاب، والأعداء حينئذ نزلوا بظاهر قفصة يرتقبون ورود بقية دباب من طرابلس إجابة لما قدموه من ندائهم، وإهابةً بهم إلى إعادتهم في الفساد وإبدائهم، وأقبلت عصابة التوحيد على استدعاء من ألفته من عوف والشريد، وندبهم إلى أن يأخذوا بحظهم من خدمة هذا الأمر السعيد، وطلبوا بأن يحضروا بالأهل والمال، ليلقوا أكفاءهم في مثل تلكم الهيئة والحال، وللعرب عادات في الرحيل جميعاً، لا تعطي الخفوف إلى المقصود سريعاً، فسار بهم الموحدون على هيئتهم في التواني سيراً، ولم يذعروا لهم بإخراجهم عن معتادهم طيراً، ولما سمع الأعداء برحيلهم من القيروان رحلوا من قفصة إلى الحمة يبرقون ويرعدون، ويهددون باللقاء ويوعدون، ثم عطفوا من هنالكم على نفزاوة ليتقوتوا من ثمراتها، ويستدروا ريثما تصلهم أمدادهم أخلاف خيراتها، فلما أبطأ رسولهم، وتقلص بطول الانتظار مأمولهم، انصرفوا على أدراجهم إلى زميط فقطعوا حزن دمر مسلمين للدمار، ونزلوا من شعفات الجبال إلى قرار البوار، وعجل الموحدون إليهم فوردوا قابس والأرض تحرق من بأسهم، وذبالات الذوابل أضوأُ في سماء العجاج من شمسهم، وعون الله يحقق عندهم في يومهم ما مد لهم من النصرة في أمسهم، فلما تجهزوا منها بجهازهم، واستكملوا ما عليه عولوا من تمييزهم وتفرغوا لنجازهم، ثنوا للأعداء أعنة الجياد، وأقبلوا وهم من صرائم العزائم أمضى من البيض الحداد، وقطعوا لهم المراحل شفعاً، لا يذوقون النوم إلا غراراً مثل حسو الطير ماء الثماد، فجعلوا يستدرجون عزائم التوحيد وحادي المنايا يحدوهم إلى مضاجعهم أن انزلوها، ولسان القضاء المقدور يخاطب المشرفيات الذكور، أن حطوا عن منازل الكواهل رءوس رؤساء الباطل واستنزلوها، وكان مرامهم في هذا المطال بالنزال، والوقوف للحتوف أن تنفد أزودة الموحدين وعلوفاتهم، ريثما يلحق بهم من استدعوا ليعودوا من الهرب إلى الطلب، ويحلوا منزلة الفائز بالغلب وحسن المنقلب " ويأبى الله إلاّ أنْ يُتمَّ نُورَه " ، ويكمل لأمره العظيم في الأعداء أُموره، ولم يعلموا ان لله بهذه العصابة المجاهدة عن حريم البلاد، الكافة أيدي هؤلاء الأحزاب المراد، عنايةً لا يفتقرون بها إلى الأزواد، ورعايةً تحميهم من النوب الشداد، وتؤويهم من فضله وإحسانه إلى أرحب جناب وأرغب عتاد، ولم يزل ذلك دأبهم، وما انفك إعلانهم بالمقابلة بكتم قربهم حتى حلوا بمنهل يعرف بوادي أبي موسى من سفح جبل نفوسة وفيه أتاهم من نفات وآل سليمان وآل سالم وجموع وافرة من الأعراب وأحلافها الأعاجم ما سال أتيهم بالدهم الداهم، وأعجبتهم كثرتهم فلم تغن عنهم شيئاً وكأنما اجتمعوا للهزائم، فعاجوا من هنالكم وقد بيتوا بزعمهم ما لا يرضى من القول، وبرئوا لحولهم من القوة والحول، وضمن الغدرة من بني رياح مع شقيهم لقاء عصابة التوحيد، وزعموا له أنهم حديد العرب، ولا يفلح الحديد إلا بالحديد، وتركوا دباباً ومن التف بها لعوف وأحلافها والشريد، وأتوا بربات الخدور في الهوادج كالأزهار في الكمائم وقدموا من حمر النعم وسودها ما صار الدو بتموجها كالبحر المتلاطم، وجاءوا بزهوهم وبأوهم يزفون زفيفاً، ويسمعون من رعود الوعيد قصيفاً، ومن نيوب الحروب صريفاً، واستدعى الموحدون من ربهم

نصره المعهود، واستمدوا طوله المحمود، وعولوا على حوله وقوته لا على العدد والعديد، واستلأموا غدران الدروع تحت جداول المداوس، وتهللت بالنصر وجوههم فكانوا كالأقمار في شموس القوانس، وتنكبوا من أراقم القسي ألدغ على البعد من حيات البسابس، وتأبطوا كل خطار تطرد كعوبه، قد ركب فيه نجم ولكن في ثغر البحار غروبه، وساروا لعدوهم كأنهم بنيان مرصوص، وتيقنوا أن نصر الله بالصابرين المحتسبين مخصوص، وكان يوم ضباب، وشمسه من قوام الغمام في حجاب، فلما تعالت في فلكها، وانقادت في زمام الاستسلام إلى ملكها، ورمقت من خلال غيمها ظهرت كتائب الباطل سوداً كقلوب أهلها، وقد مالت الأرض طولاً وعرضاً بخيلها ورجلها، فحمل الموحدون عليهم حملةً أزالتهم عن مصافهم فولى شقيهم منهزماً لأول دفعة، ولم يطق وقوفاً عندما رأى من بوارق الخوافق لمعة !.ه المعهود، واستمدوا طوله المحمود، وعولوا على حوله وقوته لا على العدد والعديد، واستلأموا غدران الدروع تحت جداول المداوس، وتهللت بالنصر وجوههم فكانوا كالأقمار في شموس القوانس، وتنكبوا من أراقم القسي ألدغ على البعد من حيات البسابس، وتأبطوا كل خطار تطرد كعوبه، قد ركب فيه نجم ولكن في ثغر البحار غروبه، وساروا لعدوهم كأنهم بنيان مرصوص، وتيقنوا أن نصر الله بالصابرين المحتسبين مخصوص، وكان يوم ضباب، وشمسه من قوام الغمام في حجاب، فلما تعالت في فلكها، وانقادت في زمام الاستسلام إلى ملكها، ورمقت من خلال غيمها ظهرت كتائب الباطل سوداً كقلوب أهلها، وقد مالت الأرض طولاً وعرضاً بخيلها ورجلها، فحمل الموحدون عليهم حملةً أزالتهم عن مصافهم فولى شقيهم منهزماً لأول دفعة، ولم يطق وقوفاً عندما رأى من بوارق الخوافق لمعة !.
ومنها: واستحر القتل في كثير من زعمائهم ورؤسائهم، ومات كل مذكور من شجعانهم وحمسائهم، واستحوذت القبائل على أموالهم وولدانهم ونسائهم، ونجا الشقي في نفر قليل إلى جهة الإبل، فاتخذها حصناً، وجعلها لبناء فراره من زلازل الجحافل ركناً، وحف من حف من الموحدين والعرب به فلم يبرحوا يتنسفون ما اعتصم به من النعم نسفاً، ويسومونه في نفسه وأصحابه خسفاً، ولم يصرفهم عنه إلا إقبال الليل، وما انسحب له على الآفاق من ذيل !.
ومنها: وكانوا قد قدموا الهوادج أمام الآبال، ودبروا أن تكون لهم حمى يرشقون من يريدها من خللها كالنبال، وقد قيل النساء أغلال الرجال، والحريم مظنة الآجال، فكروا عندها مستميتين، ودافعوا عنها للنفوس الدنية منها مفيتين، ولم يزالوا في أثناء انهزامهم يعطفون عند خدورهم، وأنامل العوامل تجذب أرواحهم من صدورهم، وبساط ما قدموه من أموال وعيال يطوى بقبضهم، وجانب الحق يعلو كلما جد الجد في خفضهم، وقبائل الموحدين على راياتهم تركض في آثارهم، حتى أسلموا ما كانوا عنه يدافعون قهراً، وأسالت جداول المناصل من دمائهم نهراً.
ومنها: ولم ينج عدو الله إلا بذمائه، وغادر في المعترك وجوه أهله وقرابته وأصحابه وأحبائه، فما رأى يوماً قط أشد منه عليه، ولا انتهى به الأمر مذ كان إلى ما انتهى به الآن إليه، والموحدون على أولهم في طلابه، والولوج عليه حيث يمم من أبوابه !.

وبلغ ابن نخيل ما ليس عليه مزيد من الارتفاع المشيد، وغلب على مشرفه بالاصطناع غلبة جعفر على الرشيد، فنهى وأمر آمناً من التعقب، وأورد وأصدر نائماً عن الترقب، وقد فوض إليه في كافة الأمور، وقصرت عليه قصص الخاصة والجمهور، إلى أن كنف بالسعايات الممضة، وقذف باحتجان ما يخرج عن الحسبان من الذهب والفضة، فما أثرت في التقاص ثروته، ولا اعترت على انتقاص حظوته، بل صم عنها المجد الصميم سمعاً، وعم المنتسبين إليه والمتجنين عليه قبضاً وقمعاً، صوناً للنعمة المهنأة من تكديرها، وصرفاً للظنون السيئة عن تقديرها، حتى أقصر من بغى عليه كما انبغى، واستبصر في مظاهرته لما ظهرت له استحالة ما ابتغى، وكم أسمع بلسان الحلم والاحتمال مناصبيه ولا سنيه من كهل يفيض في حديثه وحدث، جواب المأمون في الحسن بن سهل: الدنيا أقصر أمداً من أن تبلغ برجل منزلةً ثم تنقصه منها لغير حدث، وعلى حسن الرأي فيه حمله مدة سلطانه، وبصفايا أياديه أنهض أمله لإبلاغه في تأمل النعم وإمعانه، لا يسامح في أمره مناقشاً منافساً، ولا يفاتح بذكره راجياً تغيره إلا أسكته يائساً، إفادةً للمحافظة الملوكية على حفظ الحرمة، وزيادةً على ما حكى من كرم المشارطة في الصحبة والخدمة ! ذكر أبو جعفر بن النحاس أن علي بن زيد الكاتب استصحبه بعض الملوك فقال علي: أصحبك على ثلاث، قال: وما هي ؟ قال: لا تهتك لي ستراً، ولا تشتم لي عرضاً، ولا تقبل في قول قائل حتى تستبرأني، قال: هذا لك، فمالي عندك ؟ قال: لا أُفشي سرك ولا أُؤخر عنك نصيحة ولا أُوثر عليك أحداً؛ قال: نعم الصاحب المستصحب أنت ! فأين بواذخ المكرمات من هذه المكرمة الباذخة، والمأثرة اللائحة في الزمان البهيم كالشادخه، كلا لقد أعيت كلا، وأطلعها واحدة في الفضل الواحد فضلاً، ولما نزف منه بحر السماحة، ونسف بوفاته رضوان الله عليه طود الرجاحة، فانطوى الكمال المنشور، واستعسر النوال الميسور، أولاه بنوه الأمراء المعظمون المؤيدون المكرمون رضي الله عنهم ما ورثوه من مكارم الأخلاق، وتجافوا له عما جناه وحباه من أخاير الذخائر ونفائس الأعلاق، ولقد أصابه الدهر بما أصابه، وجرعه بعدهم خطبانه وصابه، فأحضر في وقت ستمائة ألف دينار، سوى ما ظهر من حلي وآنية واثاث وكراع وعقار، هذا وسماحهم يستحقر له مقدارها، وتراثهم الكريم لا يبلغ معشارها، أبوا إلا أن يشبهوا أباهم، ورأوا خير ثيابهم ما كان على سواهم:
ذي المعالي فليعلون من تعالى ... هكذا هكذا وإلاّ فلا لا

وأما الحضرة الإمامية فإعتاب الكتاب شأنها، لا برحت يباري البحر بنانها، ويباهي السحر بيانها، ما شئت من إقالة وإغضاء على بطالة، ومسامحة لحصر في وجازة وهذر في إطالة، لا تحوج أخا الذنب إلى الإعتذار، ولا تبتهج ابتهاجها بالعفو مع الإقتدار، كم حقنت من دم، وصفحت عن ذي ندم، وأخذت بيد في عثرة بقدم، وأرشدت من حيران لا يعرف متأخراً من متقدم، عائدة على المريب بترك التثريب، عود الشباب على المشيب، والرباب على الجديب، وعامدة إلى المليم بعطف الحليم، عمد الحباء إلى العديم، والشفاء إلى السقيم، فلا يأس من روح الله برجائها، ولا أرج للمحاسن ما لم تتضوع من أرجائها، رب جبر من إسجاحها عضده عيان، ولطف لإبقائها بعثه ليان؛ أما وحرمها العتيق وكرمها العريق ما لعدها عديل ولا من فضلها بديل، فكيف لا أهيم برضاها وهو من الشقوة أمان ! وأشيم بارق شيمها وهو للثروة ضمان ! وإذا حكي أن النعمان بن المنذر لقي في يوم بؤسه شاباً من العرب رق لكلفه، وقد سأله لقاء ابنة عمه قبل تلفه، فقال: ومن يضمنك ؟ قال: كاتبك هذا، ولم تكن بينهما معرفة؛ فقال النعمان: أتفعل على شريطة القتل إن أخلفك ؟ قال نعم ! فذهب الشاب وأتى في آخر النهار وقال للكاتب قم أُبرئك مما ضمنته، ودخلت معي تحته، وأتيا إلى النعمان، فعجب منهما وقال للشاب: ما الذي حملك على الانصراف إليه بعد ما أفلت منه ؟ قال: خشيت أن يقال ذهب الوفاء ! ثم قال للكاتب: وأنت ما حملك على ضمانه على أن أقتلك عنه ؟ قال: خشيت أن يقال ذهب الكرم ! فقال النعمان: وأنا قد عفوت عنه خشية أن يقال ذهب العفو ! وأسقط يوم البؤس فلم يكن له يوم بؤس بعدها ... فمالي لا أرجو إعادة النعيم بعادة الإنعام، وإسقاط الجفوة باقساط الاحترام، لا سيما وعذري إلى مولانا أيده الله عذر الذي استقال وقد مثل بين يدي مثله، وهيهات لا يوجد مثل له، فقال: إن كانت زلتي قد أحاطت بحرمتي فإن عفوك محيط بها، وكرمك موقوف عليها، وأنشد:
إني إليك سلمت كانت رحلتي ... أرجو الإله وصفحك المبذولا
إن كان ذنبي قد أحاط بحرمتي ... فأحط بذنبي عفوك المأمولا
هبني أسأت، نعم أسأت، أُقرّكي ... تعفو ويزداد التطوّل طولا

أبو الربيع بن سالم

شيخي الذي أورثني هذه الصناعة، ورضي اتخاذها لي بضاعة، وضمن أن لا إضاقة ولا إضاعة، جاعلاً قول ابن أبي الخصال شاهداً في الاعتلاق بها والاتصال: من جمع بلاغةً وخطاً لم يخش في دولة الأفاضل حطاً، فاسترجحت حصاته، وأقبلت عليها قابلاً وصاته، غير مستبدل بها خطة ولا متبوئ دونها خطة، لكيلا أنقض ما أبرم، وأرتبط خلاف ما استكرم، وكان هو قدس الله أشلاءه، وأجزل من النعيم المقيم جزاءه قد عني بها في شبيبته، فعتب عليه والي بلنسية حينئذ وحجبه رائحاً عليه وغادياً، وألزمه مكاناً قاصياً، كان به قاضياً، فخاطبه مستعطفاً برسالة منها: وبعد فكتب الذي قصر، ثم عاين قصده وأبصر، واقترف فاعترف، واجترح فلم ير أجدى من أن قرع باب المغفرة واستفتح، وفي علم المولى أن العبيد أهل الخطأ ومظنة السعي المستبطأ، إن أعرقوا النزع عن قوس الاجتهاد، وأصابوا شاكلة المراد، فكالسهام في قرطسة مراميها، إصابتها منسوبة إلى راميها، وإن تنكبوا مرتضى السعي الحميد، وتجنبوا مقتضى الرأي السديد، فغير نكر من شيم العبيد، ومتى نوقشوا الحساب على كل زلة، وعوقبوا في كل ضلة، أفناهم العقاب سريعاً، وأهلكهم التأديب جميعاً، وإنما بقاؤهم بأن يسبل الموالي على هفواتهم ستر الإغضاء، ويقربوا عليهم مدارك الإرضاء، وهو أدب الله تعالى في عباده حين خلقهم نطفاً، ثم درجهم في مناقل النشء مكتنفين إحساناً منه ولطفاً، حتى إذا سواهم رجالاً وأوسع لهم في الدنيا وزخرفها مجالاً، أذهلهم شكر النعم عن شكر المنعم، وشغلهم التقلب في نعمائه عن توفية حقه وأدائه، فيمهلهم سبحانه انتظاراً لمتابهم، وترقباً لمآبهم، وقصداً منه تعالى لأن يظهر في كل حي أثر رحمته التي وسعت كل شيء، وليهتدي القادرون من عباده إلى فضيلة العفو عند الاقتدار، وجمال الصفح والتجاوز في هذه الدار، ولو يؤاخذهم تبارك وتعالى اسمه بمكسوبهم، ويعاقبهم في بداية ذنوبهم، لوقعت المجازاة منه على عدل بما كانوا يصنعون، ولكنه " يَقْبَلُ التوبةَ عن عِباده ويَعْفُو عن السيّئاتِ ويعلمُ ما يَفْعلون " ، والعبد أيد الله مولانا من جملة العبيد، " منهم أُمةٌ مقتصدةٌ وكثيرٌ منهم ساء ما يعملون " ، فما أسلف من صواب فببركة مستعمله، وما اقترف من خطإ فمن كسبه وعمله، وقد مد يمين الإقرار، ثم أبدى صفحة الاستغفار لمولى حريص على الصفح يشتمل أثوابه، مصيخ إلى صرخة مكروب يفتح لها أبوابه، ضارعاً في أن يراجع سعادته، ويعاود من لثم اليمين الطاهرة واجتلاء لألاء الغرة الباهرة عادته، وإذا كان العفو جلياً رائقاً في جيد الاقتدار، ورأياً لائقاً بذوي الأقدار، ومعنى لاحقاً بأفضل مساعي الأبرار، فسيدنا أولانا بنفيسه، وأحراهم بتفريج الكرب وتنفيسه، ذلك بما خوله الله من جوامع الفضل الذي لا تشذ عنه صالحة من الأعمال، ولا يتعذر عنده أمل من الآمال، والعبد متنسم روح القبول، ومتوسم بجميل الثقة بفضل مولاه تسني المأمول، فإن حق تنسمه، وصدق توسمه، فيا طيب محياه، وسعادة دينه ودنياه، وإن تكن الأُخرى والعياذ بالله، وحاشا مولانا من ذلك حاشاه، فمن أي مولى سواه نلتمس العفو، وفي أي مورد نتسوغ الصفو:
والله ما ندري إذا ما فاتنا ... طلبٌ إليك من الذي نتطلّب
فأصبر لعادتك التي عودّتنا ... أو لا فأرشدنا إلى من نذهب
فلما وقف على كتابه، أسعف بإعتابه.
ثم لم يزل في السيادة مشاهد الزيادة إلى أن ختم الله بالشهادة.
ولهذا الشعر قصة ذكرها يستقبل به القبول، وشرحها ليس من العدل عنه العدول: حكى ابن عبد ربه عن الأصمعي قال: قدم على يزيد بن المهلب قوم من قضاعة ثم من بني ضنة وضبط هذا الاسم بالنون المشددة وكسر الضاد المعجمة فقال رجل منهم:
والله ما ندري إذا ما فاتنا ... طلبٌ إليك من الذي نتطلّب
ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد ... أحداً سواك إلى المكارم ينسب
فأصبر لعادتك التي عوّدتّنا ... أو لا فأرشدنا إلى من نذهب
فأمر له بألف دينار، فلما كان في العام المقبل وفد عليه فقال:
مالي أرى أبوابهم مهجورةً ... وكأنّ بابك مجمع الأسواق
خافوك أم هابوك أم شاموا الندى ... بيديك فاجتمعوا من الآفاق

إني رأيتك للمكارم عاشقاً ... والمكرمات قليلة العشّاق
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
ويقال فيما حكى أبو علي البغدادي في النوادر وغيره إن عبد الملك بن مروان دخل عليه هذا الضني فأنشده الأبيات الثلاثة التي في آخرها:
........................ ... أو لا فأرشدنا إلى من نذهب
فقال عبد الملك: إلي إلي ! وأمر له بألف دينار؛ ثم أتاه في العام المقبل فقال:
يربّ الذي يأتي من الخير إنّه ... إذا فعل المعروف زاد وتمما
وليس كبانٍ حين تمّ بناؤه ... تتبّعه بالنقض حتى تهدّما
فأعطاه ألفي دينار؛ ثم أتاه في العام الثالث فقال:
إذا استمطروا كانوا مغازير في الندى ... يجودون بالمعروف عوداً على بدء
فأعطاه ثلاثة آلاف دينار.

خاتمة المؤلف
قال المؤلف: قد أوردت ما أردت من هذه المآثر الكرام، المحفوظة النظام، واقتداء خلفاء الله به جل جلاله في التجاوز عن الذنوب العظام، مما نويت باجتلائه الإلماع، وأعفيت من تشعب أبوابه الأسماع، سوى أشياء لبعض ما يمر نظائر، ليس التدريج إليها ولا التعريج عليها بضائر، وكل ذلك بالنسبة إلى الحلم الإمامي والإسجاح، كالذبالة باهرت أنوار الصبح الوضاح، والصبابة كاثرت تيار اليم الطفاح، يوم ابتز ما كان باليد اللسان، واستفز العجل الذي خلق منه الإنسان، فيالمسرف على نفسه خائف، ومستشرف طوي بالإهمال طي الصحائف، لا جرم أنه تبوأ رتبة مرفعة، فربأ عن إسلامها كهلاً بعد إحرازها يفعة، متوقفاً عن الانحدار في الوقوف مع الإختيار، ومتوكفاً قبول الإعتذار بالبيت السيار:
لا تهنّي بعد أن أكرمتني ... فشديدٌ عادةٌ منتزعه
فصدر ما أثلج الصدر من إعفاء، وظهر إبقاء أوفى على الأمل أي إيفاء، ثم في صبيحة اليوم الثالث، هجم علي بالكارب الكارث، أُصير إلى الإقصاء من التقريب، وأُخير بين التشريق والتغريب، ومعاذ الله لا اختيار في خطتى خسف، هذا لو أن جناحاً وبالاً دون كسر وكسف، فكيف ولا حراك موجود، ولا مستنجد إلا منجود، في هاجم للآمال هادم، وناجم بالأهوال داهم، وعلى ما دفعت إليه من ارتباك، لمتعسف كاب، ومتأسف باك، من ولهى وواله، كل يجد على زواله، ويحد في إعواله، شرعت في المسير، وضرعت إلى الله في التيسير جالياً للجلاء والرحيل أوجهاً تصلاه، وتالياً من محكم التنزيل " لا تَقْنَطوا من رحمةِ الله " ، وحسبي السميع البصير، " نعمَ المولى ونعم النّصير " فقل في يوم عصيب، رماني بسهم للفراق مصيب، ولم يدع لي فيما سوى الإضاعة وإزجاء البضاعة من نصيب، أرى ضد ما تمنيت، وشرى بثمن بخس ما اقتنيت، واستشرى في محو ما وحيت، وهدم ما بنيت، حتى عيل الاصطبار وغلب الاستعبار، للتفكر في بث الأشجان وبت الأشطان، والتذكر لولوج الامتحان بالخروج عن الأوطان، أيان سلمها الإسلام آيساً، وتدبرها التثليث آنساً، وخلال ذلك من حسن الظن بالخلال الكرام ما حمل على أن قلت في بدء الحال، وبين يدي العمل على الترحال، مرتقباً خفايا الألطاف، ومقترباً بهدايا الاستعطاف، لاتضاح دلائل الحدب، ونجاح رسائل الأدب:
لمبشّري برضاك أن يتحكّما ... لا المال أستثني عليه ولا الدّما
تالله لا غبن أمرؤٌ يبتاعه ... بحياته فوجوده أن يعدما
أيّ المعاذر أرتضي لجناية ... عظمت ولكن ظلّ عفوك أعظما
ندمي على ما ندّ مني دائمٌ ... وعلامة الأوّاب أن يتندّما
يا طول بؤسي مبسلاً بجريرتي ... إن لم تجزني بالتجاوز منعما
مولاي رحماك التي عوّدتني ... إني اعتمدتك خاضعاً مسترحما
فأحقّ من تولي الإقالة عاثرٌ ... لم يستحبّ على الهدى قطّ العمى
أقصاه عنك تزلفٌ بخطيئةٍ ... خال الصواب خلالها وتوهما
ولقد تحفّظ في المقالة جهده ... لكنّه نمي الحديث ونمنما
مولاي عبدك ماله من معدلٍ ... عن دار عدلك منذ حلّ وخيّما
لو أنّه يجد الحياة كريمةً ... في غيرها لرأى المنيّة أكرما
إن ينتزح ناديك عنه يقترب ... منه وإن لا تحمه يلج الحمى

متهافتاً مترامياً متطارحاً ... متوصّلاً متوسّلاً متحرّما
قد علّمته تجنب الجهل العلا ... يكفيه أن قوّمته فتقوّما
هيهات يصحو أو يواقع سلوةً ... من لم يزل برضاك مغرى مغرما
أهون بما لاقاه من هونٍ إذا ... لاقاك مرتاحاً له متبسّما
وجثا يقبّل قبل راحتك الثرى ... غرداً بما أوليته مترنّما
بمتابةٍ رسخ الهدى أثناءها ... علماً وقام الحقّ فيها معلما
وكتبت إلى النجل الطاهر والقمر الباهر الأمير الأمجد الأسعد الوارث عن آبائه الطاهرين إنجاز ما وعد وإخلاف ما أوعد، أبي عبد الله نصر الله لواءه وحرس مجده المؤثل وعلياءه، وكافأ اهتمامه الكافي طارق الهموم الوافي، بالخصوص من الأفضال والعموم واعتناءه أستشفع بمقامه، وأستدفع انتقام الأيام بإنعامه:
مولاي دامت لك السّعود ... أخطأت أخطأت لا أعود
مالي براحٌ ولا انتزاحٌ ... موتي في أرضكم خلود
كن لي شفيعاً إلى إمام ... ليس على فضله مزيد
عادته العفو والموالي ... تعفو إذا أخطأ العبيد
وأظل شهر رمضان على ارتماض لفقد المسكن والسكون، وانقباض من تبسط الشجون الجون، فشفعت وتر الاستقالة، وضرعت أثناء الشمل المصدوع بهذه المقالة، أعد قومي البشرى، ولا أستبعد فوزي باليسرى:
بشرى بإسفار صباح النجاح ... عن صفحة الصفح وخفض الجناح
قد آذن المنّ بحوز المنى ... وأعلن الكدح بفوز القداح
هذا افتتاح الصوم مستقبلاً ... عن اختتام بالرضى وافتتاح
إن الإمام الهادي المرتضى ... أكّد بالعطف شروط السّماح
لين سجايا عاطراتٍ كما ... هزّ الرياحين هبوب الرياح
وحسن إسجاحٍ يليه الندى ... لذا انفساخٌ ولذاك انسياح
لو جبل الدهر على حلمه ... لم يك منه للنفوس اكتساح
عفو الإمام الحقّ عن خاطئٍ ... أشرف للغايات منه طماح
قد راضه بالكبح تأديبه ... ولم يجاهر عامداً بالجماح
أذنب لكن تاب من فوره ... وفي قبول التوب رفع الجناح
حسبي شفيعاً لك في هفوتي ... حبٌ ونصحٌ وثناءٌ صراح
برّح بي الشوق إلى حضرةٍ ... ليس لمن وفّق عنها براح
وهمت فيها باقترابٍ فلم ... تثمر لي الأقدار غير انتزاح
لا زلت والزلاّت شأن الورى ... تهتزّ للصفح اهتزاز الصّفاح
فما راعني غير الأمان تسفر فيه البشراء، والانصاف من الزمان تبشر به السفراء، في وقت زان مطلعه سعيداً، وكان مقدمه قبل العيد عيداً، فقلت مستقصراً سرفي لقصد الإغضاء، ومستحقراً لوامي بشكر اليد البيضاء:
قابلت نعماك بالسّجود ... لله من عطفةٍ وجود
ولم أجد للحياة عدماً ... وفي وجود الرضى وجودي
قد وصل الأمن والأماني ... بعد المضادّة والصدود
فإن أكن قبل في صبوبٍ ... فهأنا اليوم في صعود
نبّهت بالعفو عن خمولي ... وكنت للهفو في خمود
هذا ظهوري من التّواري ... هذا نشوري من الهمود
لا وحشةٌ للوعيد عندي ... أزاحها الأُنس بالوعود
يا مبدئاً في العلا معيداً ... أُيّدت بالمبدئ المعيد
بأيّ حمدٍ وإن تناهى ... أُثني على صنعك الحميد
صفحت عمداً عن الخطايا ... وتلك من عادة العميد
وغير بدعٍ ولا بعيدٍ ... صفح الموالي عن العبيد
أينقص اليأس من رجائي ... وذلك الفضل في مزيد
أيّ امرئٍ في الورى شقي ... يأوي إلى أمرك السعيد
ما غرّة العيد أجتليها ... يوم رضاك الأغرّ عيدي
وقلت بعد ذلك مشيداً بالتشفيع، ومشيراً إلى كرم الصنيع:
أيا بشراي قد وضح القبول ... وصحّ من الرضى أملٌ وسول

وشفّع نجله الأزكى إمامٌ ... لمن صرمت وسائله وصول
فما لسواهما في الصفح عني ... يدٌ عليا ولا منٌّ جزيل
أقالني الخليفة من عثاري ... فماذا في إقالته أقول
وكم قبحت ممالأة الليالي ... عليّ ورأيه الحسن الجميل
أنا العبد الشكور لما حبتني ... به علياه والمجد الأثيل
وإخلاصي به المولى عليمٌ ... وإن لم يأت إجرامي جهول
أذوب إذا أُحجّب عنه شوقاً ... إليه فكيف لو أزف الرحيل
وهذا ما جعلته مسكة الختام ولبثة التمام:
أجار من الخطب الأمير محمدٌ ... فقمت بما أولاه أُثني وأحمد
ويوم أتتني بالبشارة رسله ... سجدت وفي التبشير لله يسجد
وأملت بالشكر المزيد من الرضى ... وأيّة نعمى كالرضى تتزيّد
وظائف ما أهملت حيناً أداءها ... وبعض شهودي الأمس واليوم والغد
همامٌ كفاني الحادثات اعتناؤه ... وقد عنّ لي منها مقيمٌ ومقعد
فلا منّةٌ إلا له في تخلّصي ... بيمن مساعيه الكرام ولا يد
ومن يك فرعاً للإمامة والهدى ... فإنّ جناه الغضّ مجدٌ وسؤدد
رآني مردود الشرائع كلّما ... تقرّبت بالإخلاص أُقصى وأُبعد
نصيبي من الآداب حرفتها التي ... شقيت بها جاراً لمن بات يسعد
وللحظّ لحظٌ كلّ دوني خاسئاً ... كأني وإياه شعاعٌ وأرمد
فجمّع من شملي وشملي مفرّقٌ ... ورفّه من شربي وشربي مصرّد
وصرّح بالبقيا وما زال منعماً ... له مصدرٌ في الصالحات ومورد
وكانت هوىً ألقى إليها بي الهوى ... فخلّصني منها معانٌ مؤيّد
تشفعت فيها للإمام بنجله ... ونعم شفيع المذنبين محمد !
نجزت الرسالة الموسومة بإعتاب الكتاب، صنعة الإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن أبي بكر القضاعي المعروف بابن الأبار، رحمه الله تعالى ورضي عنه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.