كتاب : القوافي
المؤلف : الأخفش الأوسط

بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسّر وأعن قال أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش، رحمة الله عليه: هذا تفسير علم القوافي، ما هي، وكم عدَّتها.
اعلمْ أن القافية آخر كلمة في البيت. وإنما قيل لها قافيةٌ لأنها تقفو الكلام. وفي قولهم قافية دليل على أنّها ليست بالحرف، لأن القافية مؤنثةٌ، والحرف مذكر، وإن كانوا قد يؤنثّون المذكّر. ولكن هذا قد سمع من العرب. وليست تؤخذ الأسماء بالقياس. ألا ترى أنَّ رجلاً وحائطاً وأشباه ذلك لا تؤخذ بالقياس، وإنما ننظر ما سمّته العرب فنتّبعه.
والعرب لا تعرف الحروف. أخبرني من أثق به أنّهم قالوا لعربي فصيح: أنشدنا قصيدةً على الدال وغيرها من الحروف، فإذا هم لا يعرفون الحروف.
وأنشد أحدهم:
لا يشتكين ألماً ما أنقين
ما دام مخّ في سلامي أوعينْ
فقلت: أين القافية؟ فقال: أنقين. وقالوا لأبي حية: ابن لنا قصيدة على القاف. فقال:
كفى بالنأي من أسماء كاف ... وليس لحبِّها إذ طال شافِ
ولم يعرف القاف.
وقد يجعل بعضهم القافية كلمتين. سألت أعرابياً، وأنشد:
بناتُ وطِّاءِ على خدِّ اللّيلْ
لأمِّ من لم يتَّخذهنَّ الويلْ
فقلت: أين القافية؟ فقال: خدّ الليل، لأنَّه إنما يريد الكلام الذي هو آخر البيت، لا يبالي قلَّ أو كثر، بعد أن يكون آخر الكلام.
وقد جعل بعض العرب البيت قافية. قال حسّان:
فنحكم بالقوافي من هجانا ... ونضربُ حينَ تختلط الدماءُ
وبعض العرب يجعل القوافي القصائد. وسمعت عربياً يقول: عنده قوافٍ كثيرةٌ، فقلت: وما القوافي؟ فقال: القصائد وسألت آخر فصيحاً. فقال: القافية القصيدة. ثم أنشد:
وقافية مثلِ حدِّ السِّنا ... نِ تبقى ويهلكُ من قالَها
يعني القصيدة. وأخبرني من أثق به أنه سمع هذا البيت:
نبّئتُ قافيةً قيلتْ تناشدها ... قومٌ سأتركُ في أعراضهم ندبا
ومن زعم أنَّ حرفَ الرَّويِّ هو القافيةُ، لأنه لازمٌ له، قلتَ له: إنَّ الأسماء لا تؤخذ بالقياس، إنما ننظرُ ما تسمّي العرب فنسمّي به. ونقول له: صحّة البيت لازمة، فهلاَّ تجعلها قافية. وتأليفه لازم له وبناؤه، فهلاَّ تجعل كلَّ واحدٍ من ذا قافية؟ ومن زعم أنَّ النصف الآخر كلَّه قافيةٌ قلت له: فما باله إذا بني البيت كلُّه إلا الكلمة التي هي آخره قيل: بقيت القافية. ولو قال لك شاعرٌ: اجمع لي قوافي، لم تجمع له أنصافاً، وإنما تجمع له كلمات، نحو: غلام وسلام.
ولو كانت القوافي هي الحروف كان قولُ الشاعر:
يا دارَ سلمَى، يا اسلَمي ثم اسلّمي
مع قوله:
فخندفُ هامةُ هذا العالمِ
غيرَ معيب، لأن القافيتين متفقتان إذ كانتا ميمين، ولجاز قال مع قيل، لأنك تقول: إذا اتفقت القوافي صحّ البناء وإذا تتّفق فسد. فإن كانت الحروف هي القوافي، فقد اتفقت في قال وقيل، لأنهما لامان. وإذا سمعت العرب مثل هذا قالوا: اختلفت القوافي. فقولهم: اختلفت القوافي، يدلُّ على أنهم لا يعنون الحروف. وجميع من ينظر في الشعر إذا سمع مثل هذا قال: اختلفت القوافي. فقولهم: اختلفت القوافي، يدلّ على أنهم لا يعنون الحروف.
والقافية عند الخليل ما بين آخر حرف من البيت إلى أول ساكن يليه مع المتحرّك الذي قبلَ الساكن. وقد جاء بيت من قول العرب:
وقافية بين الثنيّة والضّرس
زعموا أنّه يعني به الضاد. ولا أراه عناها، ولكنه أراد شدّة البيت وقال بعضهم: أراد السين. وأكثر الحروف تكون بين الثّنيّة والضرس. وإنما يجاوز الثنية من الحروف أقلهّا. وقد يجوز أن تجعل السين هي القافية في مجاز الكلام، لأنه آخر الحروف. ويجوز في هذا القياس أن تكونَ الياءُ التي للوصل، وجميع حروف الوصل، إذا لم يكن بعدهنَّ شيءٌ قافيةً. وجميع حروف الخروج كلُّ واحد منها قافية على المجاز، لأنه آخر الحروف.
إلى ذا رأيت العربَ يقصدون. وعلى ذا فسّر الخليل من غير أن يكون سمّى. ولكن ذكر اختلاف القوافي، فقال: يكون في القوافي التأسيس والرّدف وأشباه ذلك. فلو كانت عنده الحروف لم يكن يقول هذا، لأنَّ الحرفَ الواحد لا يكون فيه أشياء من نحو التأسيس والرّدف.
وقد وضع الخليل أسماء من الأفعال للقوافي. منها فيعل وفاعل وفال وفيل. فجعل كلِّ واحد من ذا قافية.
باب
عدة القوافي

وهي ثلاثون قافية، يجمعها خمسة أسماء: متكاوس، متراكبٌ، متداركٌ، متواترٌ، مترادفٌ.
فللمتكاوس منها واحدةٌ. وهي كلٌّ قافيةٍ تولت فيها أربع متحرّكات بين ساكنين، وذلك فعلتن، أربعة أحرفٍ متحركة بين نونها ونون الجزء الذي قبلها.
وللمتراكب أربعٌ. وذلك كلّ قافيةٍ توالت فيها ثلاثة أحرف متحركة بين ساكنين، وهي مفاعلتن مفتعلن فعلن، لأن في فعلن نوناً ساكنة، وآخر الجزء الذي قبله نونٌ ساكنةٌ، وفعل إذا كان يعتمد على حرفٍ متحرك نحو: فعول فعل، اللام الآخرة ساكنةٌ، واللام في فعول متحركةٌ.
وللمتدارك ستّ قواف. وذلك كلّ قافية توالي فيها حرفان متحركان بين ساكنين، وهي متفاعلن مستفعلن مفاعلن فاعلن، وفعل، إذا اعتمد على حرف ساكن، نحو فعولن فعل، اللام من فعل ساكنةٌ، والنونُ من فعلون ساكنةٌ، وإذا اعتمد على حرف متحرك، نحو فعول فل، اللام من فل ساكنة والواو من فعول ساكنةٌ.
وكان الخليلُ لا يجيز سقوط نون فعولن بعدها فل. ويقول: لأنَّ الحذف قد أخل به، فلا يحتمل ما قبله الزّحاف. ولا أراه إلا محتملاً، لأنه لم يكن معاقباً له.
وقد ذكر الخليل في الجملة ثلاثين قافية. ولم يذكر في التفسير إلا تسعاً وعشرين. فلا أدري أيّهما كان منه الغلط. إلا أنهم قد رووا هذا هكذا وقد ذكروا ما أخبرتك به.
وللمتواتر سبع. وذلك كل قافية فيها حرف متحرك بين حرفين ساكنين، وهي مفاعيلن فاعلاتن فعلاتن مفعولن وفعولن، فعلن، وفل إذا اعتمد على حرف ساكن، نحو فعولن فل.
وللمترادف اثنتا عشرة. وذلك كل قافية اجتمع في آخرها ساكنان، وهي متفاعلان مستفعلان مفتعلان مفاعلان فعلتان فاعليان فعليان مفعولان فاعلان فعلان مفاعيل فعول.

باب
الروي
وفي القوافي الرّويُّ. وهو الحرف الذي تبنى عليه القصيدة، ويلزم في كلّ بيت منها في موضع واحد، نحو قول الشاعر:
إذا قلَّ مال المرء قلَّ صديقُه ... وأومتْ إليهِ بالعيوبِ الأصابعُ
العين حرف الرّويّ، وهو لازمٌ في كلّ بيت.
وجميع حروف المعجم تكون روياً، إلاَّ الواوَ والياءَ والألفَ اللواتي يكنَّ للاطلاق، وهاء التأنيث، وهاء الإضمار إذا ما تحرك ما قبلها، وألف الاثنين، وواو الجمع إذا انضم ما قبلها.
ويلزم بعد الرّويّ الوصلُ والخروج.
أمّا الوصل فلا يكون إلا ياءاً أو واواً أو ألفاً كلّ واحدة منهن ساكنةٌ في الشعر المطلق.
ويكون الوصل أيضاً هاء، وذلك هاء التأنيث التي في حمزة ونحوها، وهاء الإضمار للمذّكر والمؤنّث متحركة كانت أو ساكنة، نحو هاء غلامهي وغلامها.
والهاء التي تبين بها الحركة نحو عليّه وعمه واقضه وادعه، تريد: عليَّ وعمّ واقض وادع. فأدخلت الهاء لتبين بها حركة هذه الحروف.
فكلّ هذه الهاءات لا يكنّ إلا وصلا، متحركات كنّ أو سواكن. ولا تجوز حركة واحدة منهن مع حركة خالفة لها. ولا تكون واحدةٌ منهن روياً، إلا أن يسكن ما قبلهن فيكنَّ روياً. ولا يكنَّ وصلا إذا سكن ما قبلهن، لأنَّ الوصل إنما يكونُ للحرف المتحرك، لأنه ياء تتبع كسراً، أو واو تتبع ضماً، والألف لا تتبعُ إلاَّ فتحاً. ولم يكن لهن اصولٌ في الكلام. وهذه الهاء مشبّهةٌ بهنّ، قد أجريتْ مجراهنَّ. وقد يجرونَ الهاءَ التي من الأصلِ مجرى هذه الهاءات.
وإنَّما أجروا الهاء مجرى الياء والواو والألف، لأنها حرفٌ خفيٌّ، ومخرجها من مخرج الألف، وتبين بها حركة ما قبلها في قولك: عليّه وأرمه وأغزه وعمّه. فإذا وصلتَ حذفتها. وتفعل ذلك في الألف من أنا، إذا وقفت قلت: أنا، تبين بالألف فتحة النون. فإذا وصلتَ ألقيتَ الألف. وقال بعضهم في السكون جهلا، فإذا وصلَ ألقى الألفَ. ولو لم يشتبها إلاَّ بالخفاء والخفّة كانت قد قاربتها. ألا ترى أنّ قوماً يقولون في الوقت: اضربه فيضمّون الباء لخفاء الهاء. وقد دعا ذلك قوماً إلى أن قالوا: هذه طلحت، فأبدلوا التاء مكان الهاء لخفائها.
وإنما اختصّ الوصل بالواو والياء والألف لأنهنَّ يتبعن ما قبلهن من المتحركات. فأرادوا زائداً يشبه ما قبله، فأتبعوا المكسور واواً، لأن الضم والواو جنس واحدٌ، وكذلك الفتح والألف، ولا تكون إلا بعد فتحة.

وإنما وصلوا بهذه الحروف لأنّ الشعر وضع للغناء والحداء والتّرنّم. وأكثر ما يقع ترنّمهم في آخر البيت. وليس شيء يجري فيه الصوت غير حروف اللّين، الياء والواو السكنتين والألف فزادوهنّ لتمام البيت، واختصوهن لأنّ الصوت يجري فيهنّ.
ولولا خفاءُ الهاء ما جعلوها وصلاً. غير أنه قد يكون بعدها الخروج، والخروج لا يكون إلاّ بحرف اللين. وإذا لم يكن بعد الهاء شيء، وكان الشعر بها مستغنياً، فربما يدخلون الواو الساكنة ليجري الصوت فيها نحو:
لمَّا رأيت الدَّهرَ جماً خبلُهُو
ولم يجيزوا حروف الوصل بعضها مع بعض كراهية أن يختلف الصوت، لأنّ الصوت الذي يجري في الواو ليس كالصوت الذي يجري في الألف. فسوي بينها كما سوي بين حروف الرويّ.
فأمّا الخروج فلا يكون إلا ياء أو واواً أو ألفاً بعد هاء الإضمار إذا كانت وصلاً، نحو الألف التي بعد الهاء في قوله، وهو الأعشى:
رحلتْ سميَّةُ غدوةً أجمالها ... غضبى عليكَ، فما تقول بدا لها
والياء في قوله:
تجرّدَ المجنونَ من كسائِهي
والواو في قوله:
ومهمهِ عاميةٍ أعماؤهُ
فهذا ما يلزم بعد الرّويّ، فيما فسّرَ الخليل، من الحروف.
فأما ما يلزمٌ من الحروف قبل الرويّ فالردّف والتأسيس.
أمّا الردف فألفٌ ساكنةٌ إلى جنبِ حرف الرويّ من نحو الألف في قوله:
ودمنةٍ نعرفُها وأطلالُ
فهذه الألف لازمةٌ في هذا الموضع من القصيدة كلّها، لا يجوز معها غيرها.
ويكون الرّدف واواً ساكنة أو ياء ساكنة في هذا الموضع، تجتمعان في قصيدة، إذا انفتح ما قبلهما، نحو قول مع قيل، أو انضم ما قبل الواو وانكسر ما قبل الياء: نحو قولاً مع قيلا. فإن انكسر ما قبل الياء لم يجز معها ياء مفتوح ما قبلها، نحو: بيع مع بيع. وكذلك إذا انضمّ ما قبل الواو لم تجز مع واوٍ مفتوح ما قبلها، نحو قول مع قول.
وإنما اجتمعت الواو والياء، وفارقتا الألف لأنّهما أختان، تقلب كلّ واحدة منهما إلى صاحبتها. وتحذفان في الوقف في القوافي، وفي رؤوس الآي. والألف لا يفعل ذلك بها. وتكون الألف بدلاً من التنوين في: رأيت زيداً، وأشباهه إذا وقفت.
ولا تكون الياء والواو بدلاً من التنوين إلا في لغة رديئة.
وزعموا أنَّ الخليل كان لا يجيز يسوء، مثل يسوغ، مع يجيء، مثل يجيع. ويقول: لأنَّ الشاعر إذا خفّفَ الهمزة اختلفَ الرّويان، وذهب الرّدفان. وذلك عندنا جائزٌ، لأنّه إنما جعل حرف الرّويّ همزةً. ولو كان من لغته التخفيف لم تقع الهمزة روياً، لأنّ الهمزة لا تثبت في لغته في مثل هذا الموضع.
وكان من رأيه أن يجيز فلس مع رأس. وهذا نقضٌ للأول، لأنَّ رأس إن خفّفت همزته صارت ألفاً تكون ردفاً. وقد قالت الشعراء ذلك كثيراً.
وكان من قوله أن يجيز آدم مع درهم، وآخر مع معمر. والألف التي في آدم وآخر همزة مبدلة تشبه التأسيس، وهي تجعل تأسيساً. ولو جعلت آدم مع هاشم وآخر مع جابر لجاز. وهذا من قوله ولا يجوز في القياس آدم مع درهم في لغة من أبدل، لأنها مبدلةٌ، وليست بهمزةٍ. وإنما جاز أأدم مع درهم، لأنها همزةٌ محققةٌ في لغة من يجمع بين الهمزتين. فإذا أبدل فهي آلاف، مثل ألف ياتزر وياتسي. سمعنا من العرب، ورواه يونس.
ويجوز هذا الألف رأس إذا كانت مع شيء فيه ألف، نحو رأل مع مال، إذا خفّفت همزة راس ورال، وهي تجعل ردفاً. وألف جابر وهاشم من أصل الاسم. فمن هاهنا لم يجز آدم مع درهم في القياس. وإنما جاز رأس مع فلس على التحقيق. فأمّا البدل فلا، لأنها قد صارت ألفاً فلا تكون إلا ردفاً. وقال امرؤ القيس:
كأنَّ مكانَ الرّدفِ منه على رالِ
وهو الحوليُّ من النعام، وهو مهموزٌ في الأصلِ. فجعل معه ذيّال وبال.
وكان لا يجيز لؤلؤها مع يكلؤها. ويقول: لأنّه إن خفّف اختلف الرويّان. وهو لا يختلف، لأنَّك إذا خفّفتَ جعلتهما واوين مضمومتين. فإن قال: يغيّرهما الابدال، دخل عليه في هذا رأس مع فلس الذي قالته العرب، وكان هو أيضاً يقوله.

وقد تتّقي الشعراء نحواً مما اتقى. ولو قالوه لم يكن فساداً. ألا ترى أنهم يلزمون ما قبل هم وهما إذا كانا قافية، وما قبل التاء والكاف إذا كان كلُّ واحد منهما قافية، وليس هو بحرف روي، ولا حرف من اللّوازم. فيتّقون منهما مع فيهما، ومنهم مع فيهم. وإذا قالوا لك في قافية جعلوا ما قبل رويّها في أكثر اللام. فلم يستحسنوا معها بك وأشباه ذلك، وهو جائز. ومما ألزموا أنفسهم فيه مالاً يلزمهم قوله:
أطلال دارٍ بالسّباعِ فحمّتِ ... سألتَ، فلما استعجمت ثم صمّتِ
صرفتَ ولم تصرف ... ... نهال دموع العينِ حتىَّ تعمَّتِ
فلزمَ الميم في القصيدة كلّها. وزعموا أنّهم سألوا كثيراً عنها، فقال: لا يجوز غير الميم. وقد قال كثيّر فغيّر ما قبل التاء:
أصابَ الرّدىَ من كانَ يهوى لك الردى ... وجنَّ اللواتي قلنَ عزَّةُ جنَّتِ
وقلنَ لها: يا عزُّ، كلُّ مصيبةٍ ... إذا وطّنتْ يوماً لها النفسُ ذلّتِ
فجاء بالنونِ مع اللام. وقال الفرزدق فغيَّرَ:
وباكيةٍ تبكي هريماً، ولو رأتْ ... هريماً لداراتْ عينها فاسمدرَّتِ
يقاتلُ قبلَ الخيلِ فهوَ أمامَها ... ويطعنُ عن أدبارها إن تولَّتِ
وقال أبو الأسود، فلزم اللام في القصيدة:
حسبتَ كتابي إذْ أتاكَ تعرُّضاً ... لسيبكَ، لم يذهب رجائي هنالكا
نعيمُ بن مسعودِ أحقُّ بما أتى ... وأنتَ بما تأتي حقيقٌ كذلكا
وقد يلزمون الكسر قبل هذه الكاف، ولا يجيزون غيره. وكذلك قاله أكثر الشعراء. وما أرى اختلاف ذلك إلاَّ سناداً، لأن الشعراء لم تقله إلاَّ هكذا أو قبله تأسيسُ. ولا أبالي الحركة التي بعد التأسيس أن تختلف، ولا أعدّه عيباً، وهو قليلٌ. وكان الخليل يجيزه.
وإذا قفّوا بالكلمةِ التي فيها حرفٌ مضاعفٌ، ولم يجعلوا معه غيره، نحو: صبّاً وأبّاً، لا يكادونَ يجعلونَ معهما صعبا، وهما سواءٌ. وذلك جائزٌ جيدٌ.
وممّا لا يكون ردفُ الواو والياء إذا كانتا مدغمتين، نحو دوّا وجوّا، يجوز معهما عدوا وجروا وغروا. ويجوز مع حيّاً وليّا وظبيا ورميا. وذلك أنّهما لما أدغمتا ذهب منهما المدّ، فأشبهتا غيرهما من الحروف.
وإنّما جازت الواو مع الياء في الردّفِ، وفارقتهما الألف، لأنَّ الألفَ لا يتغيّرُ ما قبلها أبداً، ولا يكون إلا فتحاً. وما قبل الياء والواو يتغيّرُ، فتقول: القول والقول والقيل والبيع وكان في نحو ظبي وعدو، وأشباه هذا كثيرٌ فيهما. والألف حالها واحدٌ أبداً وحال ما قبلها. فلذلك فارقتهما. ومع ذلك أنَّ الياء والواو تدغم كلّ واحدة منهما في صاحبتها، نحو مقضى ومرمي، أدغمت واو مفعول في الياء. وتغيَّر الواو المتحركة للياء الساكنة تكون قبلها، نحو ميت وسيّد. وإنما أصلهما ميوت وسيود، وزنهما فيعل.
وأما التأسيس فألفٌ ساكنةٌ دون حرف الرّوي بحرف متحرك يكون بين حرف الروي وبينهما، يلزم في ذاك الموضع من القصيدة كلَّها، نحو ألف فاعل من لامه.
فإن كانت الألف من كلمة سوى الكلمة التي فيها حرف الروّيّ ولم يكن الرّويّ حرف إضمار، لم تجعل تأسيساً، وأجري في موضعها من القصيدة جميع حروف المعجم، نحو قول عنترة:
ولقدَ خشيتُ بأنْ أموتَ، ولم تدرْ ... للحرب دائرةٌ على ابني ضمضمِ
الشاتميْ عرضي ولم أشتُمها ... والناذرينِ إذا لمَ ألقَهما دمي
فهذه الألف لا تكونُ تأسيساً، لأنها منقطعة من ميم دمي، وليستْ من ضميره. وقال لعجّاج:
فهنَّ يعكفنَ به إذا حجَا
عكفَ النّبيطِ يلعبونَ الفنزجا
فهذه الألف لا تكون تأسيساً لأنها منفصلةٌ.
فإن كانت الألف منقطعة، وحرف الرّويّ من اسم مضمر، جاز أن تجعلَ الألف تأسيساً وغير تأسيس. قال الشاعر فألزم التأسيس:
إن شئتُما ألقحتُما ونتجتُما ... وإن شئتما مثلاً بمثلٍ كما هُما
وإن كان عقلٌ فاعقلا لأخيكما ... بناتِ المخاضِ والفصالَ المقاحما
فجعل ألف المقاحم مع ألف كما هما. وألف كما منقطعة، والرّويّ ميمها، وهو حرفٌ من إضمار لا يزول. وقال زهير:
ألا ليت شعري هل يرى الناسُ ما أرى ... من الدهر أو يبدو لهم ما بدا ليا
بدا ليَ أنِّي لستُ مدركَ ما مضى ... ولا سابقاً شيئاً إذا كانَ جائيا
فألف بدا منقطعةٌ من ليا.

وإنما تلزم هذه الألف المنقطعة، وتكون تأسيساً إذا كان حرف الرّويّ ضميراً، نحو ياء ليا، أو حرفاً من مضمر، نحو ميم هما في قوله كما هما، وياء هي في قوله هي ما هيا.
وقال أبو النجم:
وطالما وطالما وطالما
غلبت عاداً وغلبت الأعجَما فلم يجعل الألف تأسيساً، لأنه أراد أصل ما كانت عليه طال وما إذا لم يجعلهما كلمة واحدة. وهو قد جعلهما كلمة واحدة. وكان القياس أن يجعلها تأسيساً، لأنهما صارا كلمة واحدة. ولولا أنَّ ذا جاءَ ما أجزناه.
وإنما جاز في ألف كما هما وما هيا إلا أن تكون تأسيساً ولم يجز إلاَّ أن تكون ردفاً في المنفصل، لأنَّ التأسيس متراخٍ عن حرف الرّويّ، بينه وبينه حرف قوي، فصار كأنّه ليس من القافية. حتى دعاهم ذلك إلى أن أجازوا مع الألف التي في كلمة الرّويّ غيرها من الحروف.
قال العجّاج:
يا دار سلمى، يا اسلمي ثم اسلمي
ثم قال:
فخندفُ هامةُ هذا العالمِ
وكان رؤبة، فيما بلغني يعيب هذا. وهو قليلٌ قبيحٌ. وقال الأعشى فجعل المنفصل ردفاً، ولا يجوزُ إلاّ ذلك، وكذلك قالته الشعراء:
رحلتْ سميّةُ غدوةً أجمالَها ... غضبَي عليكَ، فما تقولُ بدا لَها
وقال رؤبة:
بكاءَ تكلى فقدتْ حميما
فهي تبكيِّ يا أبا وابنيما
جعل الألف التي في بدا ردفاً، وهي منفصلةٌ، ولام لها هي الرّويّ، والياءَ التي في وابنيما ردفاً، والميم في ما حرف الروي.
وليس المنفصل في التأسيس إذا جاء بعده حرفٌ من غير مضمر هكذا، ولكنه بمنزلة سائر حروف المعجم. وذاك أن رأى دما لو كان معه ملاكما لم يجز، لأنّ الألف المنفصلة إذا كان بعدها غير حرف إضمار، نحو دم وأشباه ذلك، فهي بمنزلة سائر حروف المعجم. وليس إذا حجا بمنزلة كما هما، لأنّ الميم حرف الرّويّ، وهو ها هنا حرف من مضمر، والجيم حرف ليس من مضمر، لأنه في موضع العين من فعل ولو جعلت رآهما مع رأى دما لجاز، لأنَّ رآهما قد تكون في حال ليس بتأسيس إن شئت، وتكون تأسيساً. ورأى دما لا تكون تأسيساً، لأن دماً ليس بمضمر. ورآهما تجعل مع ملاكما، فيكون تأسيساً. وإذا كانت مع رأى دما فهو مثل كونه مع شيء ليس فيه ألف.
وأمّا كتابك وثيابك فلا يكون إلا تأسيساً، لأنَّ ألف التأسيس ليست في كلمة أخرى وحرف الروي في كلمة، لأنّ الكاف لا تكون كلمةً، إنّما هي حرفٌ، وهو حرف الرّويّ.

باب
ما يلزم القوافي من الحركات
وفي القوافي مما يلزم من الحركات الرَّسّ. وهي فتحة الحرف الذي قبل حرف التأسيس. نحو قول امرئ القيس:
دعْ عنكَ نهباً صيحَ في حجراتِهِ ... ولكن حديثاً ما حديثُ الرواحلِ
فتحةُ الواو هي رسٌ. ولا يكونُ الرّسّ إلا فتحة، وهي لازمةٌ.
ومنها الحذو. وهو حركة الحرف الذي قبل الردّف. وتجوز ضمّته مع كسرته، ولا تجوز مع غيره، نحو ضمة قول مع كسرة قيل، وفتحة قول مع فتحة قيل ولا يجوز بيع مع بيع.
ومنها التّوجيه. وهي حركة الحرف الذي يلي جنب الرّويّ المقيد. ولا يجوز مع الفتح غيره، نحو قوله:
قد جبر الدّين الإله فجبر
التزم الفتح فيها كلّها. ويجوز الكسر مع الضمّ في قصيدة واحدة. قال الشاعر:
مضبورةٍ قرواءَ هرْ جابِ فنقْ
ثم قال: ألّفَ شتَّى، ليس بالراعي الحمقْ وقد أجازوا الفتح مع هذا. قال:
وقاتمِ الأعماقِ خاوي المخترَقْ
وليس هذا كالألف والياء والواو في الرّدفِ. لأن تلك حروفٌ، فقبحَ جمعها في قصيدة واحدة. وهذه حركات، فكانت أقلَّ من الحروف وأضعفَ. ومن لم يجعل المفتوح مع المكسور والمضموم شبّهه بترك الألف مع الياء والواو في الرّدفِ. وقد جعلت الشعراءُ المفتوح مع المكسور والمضمومِ فأكثرت من ذلك. قال طرفه:
نزعُ الجاهلَ في مجلسِنا ... فترى المجلس فينا الحرمْ
ثم قال:
فهي تنضو قبل الداعي إذا ... جعل الداعي يخلُّ ويعمُ
ومنها المجرى وهي حركة حرف الرّويّ، فتحته وضمّتُه وكسرتُه. وليس في الرّويّ المقيّد مجرىً. والمقيدُ على ضربين مقيدٌ تمَّ به وزنه، نحو:
وقاتمِ الأعماقِ خاوي المخترقْ
فإن زدت فيه حركة كانت فضلاً على البيت ومفيَّد مدَّ عمّا هو أقصر منه، نحو فعول في ثاني المتقارب، مدَّ عن فعل عوضاً له من الوصل.

ومنها النفاذ. وهو حركة هاء الوصل التي تكون للإضمار. ولم يتحركْ من حروف الوصل غيرها، نحو فتحة ها أجممالها وكسرة هاء:
تجرّدَ المجنونِ عن كسائهِ
وضمَّةِ هاء:
وبلدٍ عاميةٍ أعماؤهُ
فهذا جميع ما ذكره الخليلُ من اللّوازم في القوافي من الحروف والحركات.
وفيها غير هذا لم يذكره. وهو أنَّ العربَ إذا أنشدت الشعر الذي في آخره الهاء الساكنة التي للمضمر المذكَّرِ، والبيت لا يحتاجُ إلى حركتها، حرّكوها بالضمّ، وزادوا بعدها واواً، نحو قوله:
أخطلَ، والدّهرُ كثيرٌ خطلهُوُ
ونحو:
ولمَّا رأيتُ الدَّهرَ جماً خبلهُو
كلُّهم يحرِّك الهاء، ويزيد الواو ويكسرها، ويزيد ياء، إذا كانت في موضع تكون في كلامهم مكسورة.
وكثيرٌ من العرب يحرّك الرّويّ المقيّدَ ويزيد عليه نوناً في الوصل. سمعت ذلك ممّنَ لا أحصيه من العرب في نحو:
وقاتمِ الأعماقِ خاوي المخترقنْ
ونحو:
ومنهلٍ وردتُه طامِ خالنْ
وزعم يونس أنه سمع ذلك من رؤبةَ.
وممّا لم يذكر الخليلُ التَّعدِّي والمتعدِّي، والغلوَّ والغالي أمّا التعدي فحركة الهاء التي للمضمر المذكر الساكنة في الشعر، نحو: خبلُهْ.
فالهاء متحركة إذا وصلت كلامك. والمتعدّي الواو التي تلحقها من بعدها، نحو:
تنفرُ منه الخيلُ ما لم نعزلُهُ
وكذلك الياء. فحركة الهاء التّعدّي، والياء المتعدّي. والغلوّ حركة قاف: وقاتم الأعماقِ خاوي المخترقنْ والنون هي الغالي.
وهذه الحركة والنونٌ والواو والياء لا يحتسب بهنَّ في البيت، إنّما هنَّ زوائد كزوائد الواو وسائر حروف العطف في أوّل البيت، وفي أوّل النصف الثاني، ثم لا يحتسب بهنَّ، وإنّما زادوهن كما يزيدون ما ولا في الكلام، وكما يزيدون الميم في ابن، فيقولون ابنم. الميم زائدة منونة.
وإنّما دعاهم إلى حركة الهاء وإدخال الواو أنّ ذلك كان حالها في كلامهم، فاستنكروا إسكانها، لأنّها لم تكن تجري هكذا على ألسنتهم، فأجروها على كلامهم. وجعلوا ما زادوا فيها زيادة في الشعر، إذ كان الشعر يحتمل الزيادة، ولا يكون ذلك كسراً له.
وأمّا حركة حروف الرّويّ المقيّد فإن أكثر الشعر مطلق. ومن لغة هؤلاء أن يزيدوا في المطلق النون في الوصل وكثر ذلك على ألسنتهم، واعتادوه فيما يحتاجون إليه. فجروا على ذلك فيما لا يحتاجون إليه، كما قال كثيرٌ من العرب: هذا الرّام، وهذا القاض، في الوقف. فحذفوا الياء، لعلمهم أن سيدخل عليه في الوصل حذف الياء للتنوين لئلا يجتمع ساكنان. ويقولون: هذا القاض، فيحذفون الياء، وليس بعدها ساكن، ولا يتخوّفونه، لأنّ هذا في أكثر كلامهم، تحذف منه الياء للتنوين إذا طرحت الألف واللام، وطرحت منه الياء. فلما كثر حذفها فيما يحتاجون إليه حذفوها فيما لا يحتاجون إليه.
ومنها الإشباع. وهو حركة الحرف الذي بين التأسيس والرّويّ المطلق. محو قوله:
يزيدُ يغضُّ الطرفَ دوني كأنَّما ... زوَى بينَ عينيهِ عليَّ المحاجمُ
كسرة هذه الجيم هي الإشباع، قد لزمتها العرب في كثير من أشعارها. ولا يحسن أن يجتمع فتح مع كسرٍ، ولا مع كسر ضمٌّ، لأنَّ ذلك لم يقل إلاَّ قليلاً.
وقد كان الخليل يجيز هذا، ولا يجيز التّوجيه إذا اختلف الفتح أو الكسر أو الضمّ. والتوجيه قد جمعته العرب وأكثرت من جمعه. وهذا لم يقل إلاَّ شاذاً. وهذا أجدر أن لا يجاز.
وقد لزم الأعشى الكسر في هذه القصيدة كلّها، وفي كلِّ شيءٍ. ولزمه امرؤ القيس. وجميع ما سمعنا من الشعر على هذا، إلاَّ الشيء القليلَ يشذّ. قال:
وخرجتِ مائلةَ التَّحاسرِ
في قوله:
قومْي علوْا قدماً بمجدِ فاخرِ ... لمعَ القطا تأتي لخمسٍ باكرِ
والمفتوح أقلُّ: يا نخلَ، ذاتَ السّدرِ والجداولِ
تطاوَلي ما شئتِ أنْ تطاوَلي
إنَّا سنرميكِ بكلِّ بازلِ
وكلُّ هذه الحروف والحركات قد تجتمع في قافية، إلاَّ التأسيسَ والرّدف، فإنّهما لا يجتمعان في قافية، ولا الرسُّ والحذو، ولا التعدِّي والمتعدِّي والغلوُّ والغالي. ويكون التعدي والمتعدي معها كلّها. وقد يكون الغلوُّ والغالي معها كلِّها، إلاَّ الخروجَ والنَّفاذَ. وقد ذكروا أنَّ لبيداً قال في قوله:
كبيشةُ حلَّتْ بعدَ أهلكَ عاقلا

ثم قال فيها: قاتلاً، ففتح. ولم نسمعه ولا شيئاً من نحوه إلا شاذاً وزعموا أنَّ هذه الأبياتَ من قولِ العرب:
يا نخلَ، ذاتَ السّدرِ والجداولِ
تطاوَلي ما شئتِ أن تطاولِي
إنَّا سنرميكِ بكلِّ بازلِ
رحبِ الفروجِ ليِّنِ المفاصلِ
نخلة: اسم موضع، فرخّمَ. قال أبو عثمان: سمعت أفصحَ الناس ينشدُ هذه الأبيات. وقال صخر الغي:
لو أنَّ أصحابي بنو معاويهْ
أهلُ جنوبِ نخلةَ الشّآميهْ
لم يسلموني للذئابِ العاويهْ
وفي القوافي الإقواءُ والإكفاءُ والسّنادُ والإيطاء.
أمّا الإقواءُ فمعيبٌ. وقد تكلمت به العرب كثيراً. وهو رفع بيتٍ، وجرُّ آخر، نحو قول الشاعر:
لا بأس بالقيوم من طولٍ ومن عظمِ ... جسمُ البغالِ، وأحلامُ العصافيرِ
ثم قال:
كأنَّهم قصبٌ جوفٌ أسافلُهُ ... مثقَّبٌ نفختْ فيه الأعاصيرِّ
جرّ قافية، ورفع أخرى. وقال النابغة:
سقطَ النّصيفُ، ولم تردْ إسقاطهُ، ... فتناولتْهُ واتّقتنا باليدِ
بمخضَّبٍ رخصٍ كأنَّ بنانَه ... عنمٌ يكادُ من اللطافةِ يعقدُ
وقد سمعتُ مثلَ هذا من العربِ كثيراً ما لا يحصى. قلَّ قصيدةٌ ينشدونها إلاَّ وفيها الإقواءُ، ثم لا يستنكرونه، وذلك لأنه لا يكسر الشعر. وكل بيتٍ منها شعرٌ على حياله.
وزعم الخليلُ أن الإكفاءَ هو الإقواءُ. وقد سمعته من غيره من أهل العلم. وسألت العربَ الفصحاءَ عن الإكفاء، فإذا هم يجعلونه الفسادَ في آخر الشعر، والاختلافَ، من غير أن يحدّوا في ذلك شيئاً. إلاّ أنني رأيت بعضهم يجعله اختلاف الحروف وأنشدته:
كأنَّ فا قارورة لم تعفصِ
منها حجاجا مقلةٍ لم تلخصِ
كأنِّ صيرانَ المهَا المنقِّزِ
فقال: هذا إكفاءٌ. وأنشده آخرُ قوافي على رحوف مختلفةٍ، فعابه، ولا أعلمه إلاّ قال: قد أكفأت. إلاّ أنني رأيتهم إذا قربت مخارج الحروف، أو كانت من مخرجِ واحد، ثم اشتدّ تشابهها، لم يفطن لها عامّتهم. والمكفأ في كلامهم هو المقلوب. وإلى هذا يذهبونَ. قال الشاعر، وسمعته من العرب:
ولما أصابتني من الدهرِ نبوةٌ ... شغلتُ، وألهى الناسَ عني شؤونُها
إذا الفارغَ المكفيَّ منهم دعوتُه ... أبرَّ، وكانت دعوةً يستديمُها
فجعل الميم مع النون لشبهها بها، لأنهما يخرجان من الخياشم، وأخبرني من أثق به من أهل العلم أنَّ بنتَ أبي مسافعٍ، امرأةً من العرب، قالت ترثي أباها، وقتل وهو يحمي جيفةَ أبي جهل:
وما ليثُ غريفٍ ذو ... أظافير وإقدامْ
كحبيِّ إذْ تلاقوا، و ... وجوهُ القومِ أقرانْ
وأنتَ الطاعنُ النَّجلا ... ء، منها مزبدٌ آنّ
وفي الكفِّ حسامٌ صا ... رمٌ أبيضُ خذّامُ
وقد ترحلُ بالرَّكبِ ... وما تخننِي بصحبانْ
جمعت بين النوم والميم لقربهما، وهو فيهما كثيرٌ. وقد سمعتُ من العرب مثل هذا مالا أحصي.
وسمعت الباءَ مع اللامِ، والميم مع الراء، كلّ هذا في قصيدة.
قال الشاعر:
ألا قد أرى لم تكن أمُّ مالكٍ ... بملكُ يدي أنَّ البقاءَ قليلُ
وقال فيها:
رأى من رفيقيهِ جفاءَ، وبيعُهُ ... إذا قامَ يبتاعُ القلاصَ ذميمُ
خليليَّ حلاَّ واتركا الرَّحلَ إنَّني ... بمهلكةِ، والعاقباتُ تدورُ
فليناهُ يشري رحله قالَ قائلٌ: ... لمنّ جملٌ رخوُ الملاطِ نجيبُ؟
وهذه القصيدة كلّها على اللامِ. والذي أنشدَها عربيّ فصيحٌ لا يحتشمُ من إنشاده كذا. ونهيناه غير مرة. فلم يستنكر ما يجيء به. ولا أرى قولَ الشاعر:
قد وعدتني أمُّ عمروٍ أن تا
تمسحَ رأسي، وتفلِّيني وا
وتمسحَ القنفاءَ حتَّى تنتَا
إلاَّ على هذا، لأنَّ قوله أن تا أخذ التاءَ من تمسحُ، وكانت مفتوحةَ فزادَ معها الألفَ، ثم أعادها حين قال تمسحُ. وكذلك الذي في وتفلّيني، إنما هي الواو التي في وتمسحُ القنفاءَ جعلَ ما قبل الألف حرف الرّويّ، وخالف بين الحروف، لأنَّ التاء قريبةُ المخرجِ من الواو، وليست بأبعد من الواو من الراء، واللام من الباء في قوله قليلُ وتدور ونجيبُ. وهذا من أقبحِ ما جاءَ، لبعدِ مخارجها.
فأما الميم والنونُ واللام فكثيرٌ. وعلى ذلك قول أبي جهل:

ما تنقمُ الحربُ العوانُ منِّي
بازلُ عامينِ حديثٌ سنِّي
لمثلِ هذا ولدَتني أمِّي
فما قبل الياء هو حرف الرّويّ. ولا يجوز أن يكون الياءُ روياً، وإن كان في الشعر مقيدُ، لأنَّ العرب لا تقيِّدُ شيئاً من الشعرِ تصلُ إلى إطلاقه في اللفظ إلاَّ وهو بين ضربِ أقصرَ منه، وضربٍ أطولَ منه، نحو فعول في المتقارب بين فعلون وبين فعلْ. فلا تكونُ لذلك الياء حرف الرّويّ لوصولهم إلى إطلاقها بأن تقول: منِّيا، وسنِّيا، وأمِّيا.
وأخبرني من أثقُ به عن ابن العجاج أنّه قال:
قبَّحتِ من سالفةٍ ومن صدغْ
كأنّها كشيةُ ضبٍّ في صقُعْ
جعل إحداهما عيناً، والأخرى غيناً. وأمَّا يونس فروى عن أبي عمرو أنَّه جعلهما غينين، وقال: لولا ذلك لو أروهما وروى عن العرب:
فليت سِماكياً يحارُ ربابُهُ ... يقادُ إلى أهلِ الغضَا بزمامِ
فيشربَ منه جحوشٌ، ويشيمهُ ... بعيني قطامِي أغرَّ يمانِ
فجاءَ بالميم والنونِ. وسمعت منه:
أأنْ ردَّ أجمالٌ، وفارقَ جيرةُ، ... وصاحَ غرابُ البينِ، أنت حزينُ
تنادوا بأعلى سحرةٍ، وتجاوبَتْ ... هوادرُ في ساحاتِهم وصهيلُ
فرددنا عليه هذا غير مرَّةِ، والبيتين الأوّلين على نفر من أصحابه ممّن ليس بدونه، كلّهم لا يستنكر هذا. والقصيدة الأولى على الميم، في يمان شآم، قافيتُها مكان يمان شآم. والثانية على النون، مكان صهيلُ حنينُ. وكثيرٌ منهم يسمّي هذا الإكفاء كما ذكرت لك. وإنّما الإكفاء المخالفةُ. قال الشاعر:
ودويَّة قفر ترى وجهَ ركبْها ... إذا ما علوْها مكفأ غيرَ ساجعِ
المكفأ ههنا: الذي ليس بموافق. وليس قولهم في قول الشاعر:
بالخير خيراتٍ وإنْ شرّاً فا
ولا أريدُ الشرَّ إلاَّ أنْ تا
إنه أراد الفاء والتاء بشيء. ألا ترى أنكَ لو قلتَ: رأيت فا عمراً، ورأيت زيداً تا عمراً، لم يستدلَّ به أنك تريد عمراً. وكيف يريدون هذا وهم لا يعرفون الحروف.
ولا يجوز أن تجعل ألف المدّ رويّاً، نحو الرّجلا. لو جاز هذا لجازت الياء والواو الزائدتان أن تكونا روياً، نحو الرّجلو والرّجلي. وهذا لا يقوله أحدٌ من العرب، ولم يجئ في شيء من الشعر ولكن ما قبل الألف هو حرفُ الرّويّ وخالف ما بين الحروف، كما قال الشاعر:
إذا نزلتُ فاجعلاني وسطا
إنِّيَ شيخٌ لا أطيقُ العنَّدا
وهذا كثيرٌ. وقد ذكرنا قبل هذا أبياتاً كثيرة في هذا الباب سمعناها من العرب. والعنَّدُ: جمع ناقة عنود، وهي الصعبةُ التي تذهبُ عن الطريق. والعنَّدُ: جمع عاندٍ، والمعنى واحد.
ومن قال: إنه أرادَ بقوله: وتلِّيني وا الواو لكنَّه رخم قيل له: وكيف يرخّم اسمٌ على ثلاثة أحرف؟ لم يجئ هذا في شيء، ولم يقله أحدٌ في قياس إذا كان الثاني ساكناً أو متحركاً. والبغداديون يرخّمون عمر.
وجميع ما ذكرنا من هذا المختلف الرّويّ إنما هو غلطٌ. وهو يشبه من الكلام: هذا جحر ضبّ خربِ.
وأمّا السّناد فهو كلُّ فساد قبلَ حرف الرّويّ مما هو في القافية: سمعت ذلك من غير واحد من أهل العلم. نحو قول الشاعر:
ألم ترَ أنَّ تغلبَ أهلُ عزٍّ ... جبالُ معاقلِ ما يرتقينْا
ثم قال:
شربنا من دماء بني عقيلِ ... بأطرافِ القنا حتى روينا
وقد زعموا أنّ هذا البيت ليس من هذه القصيدة. كسر ما قبل الياء من روينا، وفتح ما قبلها من يرتقينا. فصارت قينا مع وينا.
ومن السّناد قول رؤبة في قول الخليل:
وقاتمِ الأعماقِ خاوي المخترقْ
ألّفَ شتَّى، ليس بالراعي الحمقْ
فجاء بالكسر مع الفتح. وهذا عندنا جائز لكثرةِ ما جاء منه. وقال العجّاجُ:
يا دارَ سلمَى، يا اسلمَى ثم اسلمَي
ثم قال:
فخندف هامةُ هذا العالمِ
فجاء بألف التأسيس. ولم يجئ بها في شيء من البيوت غير هذا، وبيت آخر:
مباركِ، للأنبياء خاتمِ
وأمّا ما سمعت من العرب في السّناد فإنهم يجعلونه كلّ فساد في آخر الشعر، ولا يحدّون في ذلك شيئاً. وهو عيبٌ عندهم. ولا أعلم إلا أنني قد سمعت بعضهم يجعل الإقواء سناداً. وقال الشاعر:
فيها سنادٌ وإقواءٌ وتحريدُ
فجعل السّناد غير الإقواء، وجعله عيباً. ومن السناد أيضاً قوله:
تعرفُ في قعدتِهِ وحبوَتهْ

أنَّ الغداءَ إن دَنا من حاجتِهْ
وامتدَّ عرشا عنقهِ للقمَتهْ
وأمّا الإيطاءُ فردّ كلمة قد قفي بها مرة، نحو قافية على رحل، وأخرى على رحل، في قصيدة. فهذا عيبٌ عند العرب، لا يختلفون فيه. وقد يقولونه. قال النابغة:
أو أضعُ البيتَ في خرساءَ مظلمةٍ ... تقيّدُ العيرَ، لا يسري بها السَّاري
وقال فيها:
لا يخفضُ الرّزَّ عن أرضٍ ألمَّ بها ... ولا يضلُّ على مصباحِهِ السَّاري
وأما قوله:
يا ربِّ، سلِّمْ سد وهنَّ الليَّلهْ
وليلةً أخرى، وكلَّ ليلهْ
فليس بإبطاء، لأنَّ إحداهما بالألف واللام، والأخرى بغير ألفٍ ولام. فهذا جائزٌ. وإذا كثر الإيطاء كان أعيبَ عندهم. وإن طالت القصيدة، وتباعد ما بين الإيطاءين كان أحسن. وإن كان أحدها في صفة، والأخرى في صفة أخرى كان أحسنَ، لأنّ أخذه في صفة أخرى مشبّه بابتداء قصيدة أخرى. لا يكاد يأخذُ في صفة أخرى إلاَّ يصرّع في أوّل القصيدة. ويقول: لا بل قل في كذا وكذا، ودع كذا وكذا، أو عدّ عنه. فكأنه قد قطع.
وما لا يكاد يوجد في الشعر البيتان الموطآن ليس بينهما بيت أو بيتان غير موطأين في القصيدة، وثلاثة أبيات. فهذا لا يكاد يوجد، لأنَّ العيب لا يحتمل أن يكون أكثر من غير العيب. وقد قال ابن مقبل:
أو كاهتزازِ ردينْي تداولُهُ ... أيدي التِّجارِ فزادوا لِينا
نازعتُ ألبابَها لُبِّي بمقتصدٍ ... من الحديثِ حتى زدننَي لِينا
ليس بينهما شيءٌ، وهو شاذ. وقد جاءت أبياتٌ أخر من الرجز كلُّ بيت منها قافيته الله الله.
فإذا قفيتَ بلفظ في بيتين معناهما مختلفٌ، نحو ذهب تريد به الفعل، وذهب تريد به الاسم، لم يكن ذلك إيطاء. وكذلك رجل ورجل إذا كان أحدهما علماً كزيد، لأنَّ العلم ليس لغيره من الأسماء. والخليل يراه إيطاء إذا اتفّق اللفظ، واختلف المعنى.
وأمّا لرجل وبرجل وأشباه ذلك ممّا تدخل عليه العوامل ممّا ليس بمبنى معه، فإن اجتمع ذلك فهو إيطاء. وليس هذا كالرجل ورجل، لأنَّ الألف واللام لازمتان للاسم، قد صيّرتاه معرفة. وليس لزومهما فيه كلزوم حرف الجرِّ. ألا ترى أنك تدخل عليه ما يعمل فيه، وتصرفه وفيه الألف واللام.
وأمّا لم تضربي، وأنت تعني المرأةَ، فيجوز مع لم تضرب، وأنت تعني الرجل، لأنّ اللفظ مختلفٌ. وليست الياء في تضربي كاللام في رجل، لأنَّ الياءَ قد ثبتت مع الفعل، ودخلت فيه لمعنى.
وأمّا هي تضرب، وأنت تضرب، فلفظهما واحدٌ، ومعناهما واحدٌ، لأنَّك تعني الفعل فيهما جميعاً. وليس الفعل بصاحب الفعل. وجميع هذا إيطاءٌ. وكذا الزَّوج إذا عتيتَ المرأة، وزوج إذا عنيت الرجل. فالزوج أوّل، كان هو الرجل بعينه، وهو المرأة بعينها. والفعل غير صاحب الفعل. فإنّك حين قلت تفعل للمرأة، وتفعل للرجل، قد ذكرت شيئاً هو لشيئين. وحين قلت زوجٌ للرجل، وزوجٌ للمرأة، قد جئتَ بشيئين لأنثى وذكر. وإنّما معنى الزوج أنّه مع آخر. فمعناه في الرجل والمرأة واحد. فلم يدلّ على تذكير ولا تأنيث.
وأمّا جللٌ للصغير والكبير فلا يكون إيطاء.
وسمعت من العرب من يجعل الرجل عرساً. فإذا جعلت قافية عرساً تريد به الرجل، وقافية عرسا تريد به المرأة، لم يكن إلاّ إيطاء، لأنّه كأنه شيء واحد ... فقال جليل، ثم قال جليل، فهو للرجل والمرأة سواءٌ. لأنَّ هذا بمنزلة شيء واحد، لأنَّ شيئاً هو لكلِّ شيء، وهو غير ما هو سواه.
فإن قال قائلٌ: كيف لا تجيز شيء مع شيء إذا كنت تعني بأحدهما غير ما تعني بالآخر؟ قلت: لأنّ شيئاً إنما هو لكلّ شيء. ولست تستفيد إذا ذكر شيئاً دون شيء، كما لا تستفيد في زوج دون زوج أكثر من الرجل. والغلام داخل في هذا. لأنّ الغلام قد يكون صغيراً وكبيراً، وكذلك الرجل، وجميع الأشياء كلّها على هذا.
وأمّا فخذ وفخذ وعنقٌ وعنقٌ، وأشباه هذا ممّا يسكنُ وسطه، فإذا كان في قافية يجوز فيها الإسكان والتحريك لم يجز الجمع بين المسكن والمحرّك، فيقول في قافية عنق وفي أخرى عنق، لأنَّ الذي يسكن يريد به لفظ متحرك، ولكنه يستثقله، ويلفظه كذا. وذلك سواء.
وكذلك الجهد والجهد، والضعف والضّعف، جمعهما إبطاء، لأنّ الذي يقول الجهد يريد الجهد.

وقال بعضهم: الجهد والجهد ليس بإيطاء، ولكنها لغةٌ ألا ترى أنّه لو جعلَ في قافية يحب، وفي أخرى يحب، وفي قافية منتن، وفي أخرى منتن، لكانَ إيطاء. ومن زعم أنَّ ذا ليس بإيطاء دخل عليه أن يزعم أن رمى ورمى، وعالم وعالم، إذا جمع بينهما، وأحدهما ممالٌ، غير إيطاء. وهذا لا يقوله أحدٌ.
ولو جمعت بين بدا بذا وما لذا، فجعلت الذال روياً أو الألف كان ذلك إيطاء. فإن قلت: كرّرت حرف الرّويّ، فقد يدخل عليك أن تفعل هذا بجميع المنفصل الذي ليس بمضمرٍ. وهذا لا يكون، إنما يكون هذا في الاسم المضمر، نحو بدا بك ورمى بك.
وأمّا كتابهم مع ثيابهم فليس بإيطاء، لأنَّ هم اسم مضمر لازم لما قبله حتى كأنّه بعضه. وكذلك دعاهم مع رماهم. وكذلك كلّ موضع يكون المضمر فيه لازماً للأول. وإنما يعرف لزومه للأول في الواحد، ألا ترى أنّ دعاه ورماه لا تستطيع أن تفصل منه المضمر. ولو جاء كما هي مع ألا هي، أو كما هما مع ألا هما، كان إيطاء لأن هذا منفصل من الأول، وهو مبتدأ، تقول: ألا هو وألا هي.
وأمّا أتى به ورمى به، وأتى بهما مع رمى بهما، فقد أكثرت من جمعه الشعراء. وكذلك جميع حروف الجر ممّا ليس باسم، إذا ألزقوها بحروف الإضمار. وذلك أنَّ مجراها في كلامهم كمجرى ما ليس فيه حرفٌ. وإذا لم يكن فيه حرف جر فهو متصل بالأوّل. وإجراؤهم إيّاه مجراه أنّهم يقولون: أزيداً مررت له، فيجرونه مجرى أزيداً ضربته. ويقولون: أزيداً كنت له، يجرونه مجرى أزيداً كنته. ومع هذا أن حرف الجر، الذي هو حرف واحد، غير منفصل مما بعده إذا كان مضمراً، حتى قد يضمر معه الساكن، فنقول: لي وبي، فقد صار معه الساكن. فتقول: لي وبي، فقد صار هو المضمر بمنزلة شيء واحد. والمضمر غير منفصل ممّا قبله، فصار هو والمضمر كشيء واحد متصل بما عمل فيه.
وأمّا تضرب وتضرب فليس بمنزلة لرجل وكرجل، لأنَّ دخول التاء على ضرب قد غيّره إلى بناء آخر يدخله الإعراب. وكذلك لم تضربي لأن الياء من البناء، ولو جعلت هذا للرجل لم تكن الياء فيه. ألا ترى أنك تدخل عليهما العامل كما تدخله على ما فيه الألف واللام. وهي أقوى من الألف واللام، لأنك قد تلقي الألف واللام، ولا تغير البناء، وتثبت الإعراب على حاله.
وأمّا غلامي إذا أردت به الإضافة مع غلام في غير الإضافة فليس بإبطاء، لأنَّ هذه الياء قد ألزمت الميم الكسرة، وصيّرته إلى أن بني عليها. وقولك: لرجل، ليس هذا الكسر الذي فيه ببناء.
وزعموا أن الخليل كان يجعل ما كان لفظه واحداً، واختلف معناه إيطاء. وهذا ينكر، وقد قال هو بخلافه، لأنَّه قد جوز ذهب إذا أريد به الفعل مع ذهب إذا عني به الاسم، وهو الذّهب، والرجل مع الرجل إذا كنت تعني بأحدهما الرجولة، والآخر العلم. ولو كان هذا إيطاء لكان قول الشاعر:
هذا جنايَ وخيارهُ فيهِ
إذْ كلُّ جانٍ يدُه إلى فيهِ
إيطاءً، لأنَّ لفظهما واحدٌ. وأنشدني هذين البيتين يونس، وسمعهما من العرب. فإن قال: فإنّ لفظ هذين قد يختلف في بعض المواضع، قلت: فإنَّ رجلاً إذا كان علماً لم يخالف لفظ رجلاً إذا لم يكن علماً.
قال أبو الحسن: وفي القوافي النّصب والبأو. وذلك كل قافية سليمة من السّناد، تامّة البناء. فإذا جاء ذلك في الشعر المجزوء لم يسمّوه نصباً ولا بأوا، وإن كانت قافيته قد تمت، نحو قوله:
قد جبرَ الدّين الإلهُ فجبر
سمعنا ذلك من العرب.
وليس ذا ممّا سمّى الخليل، وإنما تؤخذ الأسماء عن العرب. وقد يجوز وضع الاسم ليفصل به الشيء من غيره. وليس هذا كالأسماء التي هي أعيانٌ، لأنّ هذه الأسماء عامّة. كلُّ ما كان في مثل البسيط فهو بسيطٌ. وليس كل من كان في حال زيد اسمه زيد.
وفي الشعر التضمين، وليس بعيب، وإن كان غيره أحسن منه. ولو كان كلُّ ما وجد ما هو أحسن منه قبيحاً كان قول الشاعر:
ستبدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً ... ويأتيكَ بالأخبارِ منْ لم تزوّدِ
رديئاً، إذا وجد ما هو أشعر منه. فليس التضمين بعيب كل أنّ هذا ليس برديء. والتضمين نحو قول حاتم:
أماويَّ، إنْ يصبحْ صدايَ بقفزةٍ ... من الأرضِ، لا ماءٌ لديَّ ولا خمرُ
تريْ أنَّ ما أنفقتُ لم يكُ ضرَّني ... وأنَّ يدي ممّا بخلتُ به صفرُ
وقول النابغة:

وهمْ وردوا الجفارَ على تميمٍ ... وهمْ أصحاب يومِ عكاظَ، إنيِّ
شهدتُ لهم مواطنَ صالحاتٍ ... أتينَهُمُ بودِّ الصدرِ مِني
وفي الشعر الرّمل، وهو عند العرب عيبٌ. وهو ممّا تسمّي العرب. وهو كلّ شعر مهزول، ليس بمؤلّف البناء. ولا يحدّون في ذلك شيئاً. وهو نحو قول عبيد:
أقفرَ من أهلهِ ملحوبُ ... فالقطّبيّاتُ فالذَّنوبَ
ونحو قول ابن الزِّبعري:
ألا لله قومٌ و ... لدتْ أختُ بني سهمِ
هشامٌ وأبو عبد ... منافٍ مدرهُ الخضمِ
وعامة المجزوء يجعلونه رملاً.
وفيه التّحريد. ولا يحدّون فيه شيئاً، إلاَّ أنهم يريدون به غير المستقيم، مثل الحرد في الرجلين.
سمعت كثيراً من العرب يقول: جميع الشعر قصيد ورمل ورجزٌ. أما القصيد فالطويل، والبسيط التام، والكامل التام، والمديد التامّ، والوافر التامّ، والرجز التامّ. وهو ما تغنّى به الركبان، ولم نسمعهم يتغنّون إلا بهذه الأبنية. وقد زعم بعضهم أنّهم يتغنّون بالخفيف. والرّمل كلّ ما كان غير هذا من الشعر وغيره الرجز، فهو رملٌ. والرّجز عند العرب كلّ ما كان على ثلاثة أجزاء، وهو الذي يترنمون به في عملهم وسوقهم، ويحدون به. وقد روى بعض من أثق به نحو هذا البيت عن الخليل: هذا من باب ما يكون رويا من الياس والواو والألف اعلم أن الياء والواو والألف إذا كنّ من الأصل، وكانت الياءُ والواو ساكنتين أو متحركتين، جعلنَ روياً. وكذلك الزوائد إذا بنين مع الكلمة. أمّا اللواتي من الأصل فياء يرمي ويقضي، وواو يغزو ويدعو. وألف قضى ورمى. والزوائد اللاتي بنين مع الكلمة نحو ألف بشرى ومعزى، وواو قمحدو وقلنسو إذا أردت قمحدوة وقلنسوة، وياء رباعي وقراسيّ. فكلّ هؤلاء يجعلن حروفاً للرويّ.
وإن شئت لم يجعلن روياً، وشبّهتهنّ بالياء والواو والألف اللاتي هنَّ مدّاتٌ. قال الشاعر: ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري ثم قال:
السّترُ دونَ الفاحشاتٍ وما ... يلقاكَ دونَ الخيرِ من ستر
فجعل الراء روياً، والياء، وهي من الأصل، وصلاً وقال:
فهنّ يعكفن به إذا حجا
عكف النبيطِ يلعبون الفنزَجا
فجعل ألفَ حجا، وهي من الأصل، وصلاً، وجعل الجيم روياً. وكذلك واو يغزو لو جاءت في قافية جعلتها وصلاً. وما جاء من الألفات، اللاتي هنّ من الأصل، روياً أكثر من الواو والياء. قال الشاعر:
ذكرتُ والأهواءُ تدعو للهوَى
والعيسُ بالرّكبِ يجاذبنَ البرَى
فجعل الألف روياً. وهذا كثير.
والممال من ذلك وغير الممال سواءٌ. لو قال قفا مع حبلى، أو قفا مع فتى، كان ذلك جائزاً، لأنه وإن أمالها فهي الألف ألا ترى أنَّ عالم يجوز مع قادم، وليس أحدٌ يميل قادماً. فلو كان إذا أمال صارت ياء لصارت ألف عالم ياء، ولم تكن تأسيساً. ولكنّ الإمالة كهمز بعض العرب ألفات الوقف اللاتي يكنّ في موضع التنوين. وذلك أن بعض العرب يقول في الوقف: رأيت رجلا. كأنه يهمز الألف. فإذا وصل أذهبها. فلو كان إذا أمال لم يجزها مع غير الممال للزمه إذا قال: رأيت عمرأ، فهمز، أن يجعله في الشعر المقيّد، ويجعل الهمزة روياً لأنّها، ليست تلك الألف التي هي بدل من التنوين. وأحسنه أن لا يميل، فيقول: رأيت حبلى مع قفا. ولو شاء أمال حبلى مع قفا، فإنّ ذلك كثير مّما تقوله العرب.
قال الشاعر فيما جعل من الزائد، الذي يبنى مع الكلمة روياً:
ألم تكنَ حلفتَ بالله العلِي
أنَّ مطاياكَ لمنْ خيرِ المطِي
فجعل الياء رويا، وهي الياء التي في موضع ياء فعيل، وألقى المتحركة لمّا احتاجَ إلى إلقائها. وقد قال قومٌ: إنه ألقَى الزائدة. وليس ذلك بحسنٍ، لأنَّه مستخفٌّ للأوّلِ، فإنّما يرتدغ عند الثاني. فلما جاء لفظٌ لا يكونُ مع الأولِ تركته كما تقف على الثقيل بالخفّة لذلك.
وإنما طرحَ الزوائد في التصغير وأشباهه لأنّه يريد بناء غير البناء الذي هو فيه. فإن أراده في ذا قال مغزو وعدو، إذا أراد البناء لأنّه إذا خفّف الأولى صارت الآخرة ياء. تقول إذا خفّفت: مغزو، كما خفّفت العلي، بقيت واواً خفيفة وقبلها حركةٌ، فتقلبها ياءً كما فعلت في أدل ونحوه.

ومما لا يكون إلا روياً الياء والواو اللتان للإضمار، إذا انفتح ما قبلهما، نحو أو واستحيوا ورموا، وياء يخشى ويسعى. وإنما منعهنَّ أنْ يكنَّ وصلاً أنهن لسن على ا قبلهن، فلم يشبهنَ المدّات.
فأمّا الياء التي قبلها كسرةٌ، والواو التي قبلها ضمّةُ، نحو ياء اضربي واذهبي، وواو اذهبوا واخرجوا، فيكونان وصلاً لأنهما على ما قبلهما، فأشبهتا حروف المدّ اللاتي يلحقن بالقوافي، وليس لهنَّ أصولٌ في الكلام. وقد تجعل ياء اضربي، وواو اضربوا روياً، لأنّهما بنيتا مع الكلمة، وجاءتا لمعنى فأشبهتا الواوَ والياء اللتين من الأصل، وأن لم يكونا في قوّتهما.
وأمّا ألف اذهبا واضربا فلا تكون روياً، لأنَّ الألف قريبة الشبه من الهاء، تبين بها الحركة من أنا إذا وقفت، كما تبين بالهاء في عليّه وأشباه ذلك. فضعفت الألف، ولم نجدها في شيء من الشعر روياً. وليست مثل ألف بشرى، لأنَّ هذه الألف دخلت على ضرب بعدما بنى للواحد، وثبت في الكلام. فأشبهت ألف رأيت زيداً. فأما بشرى فلم يثبت منها في الكلام بشر، ثم ألحقت الألف. فألفها قد بنيت معها، وجاءت لمعنى، لأنّها قد بنيت.
وفرق بين الألف في اضربا، والياء في اضربي، والواو في اضربوا، لأنَّ الواو والياء إذا انفتح ما قبلهما لم يكونا إلا روياً لم يختلفْ في ذلك. وليست هكذا حال الألف.
وقد جعلها قومٌ روياً، وقالوا: لأنّها بنيت مع الكلمة، والهاء لا تبنى مع الكلمة. وهذا قوّى أنَّ اضربا بناءٌ على حياله، ولم تلحق الألفُ اضرب، كما تلحق الهاء.
وأمّا ياء الإضافة، نحو كتابي ومالي وأشباه ذلك، إذا كانت الياء ساكنةً فقد يجوز أن تكون روياً، وهو قليلٌ. شبهّوها بياء الأصل وياء اضربي إذا لزمت ما قبلها حتى لا يقدر على فصلها منه. قال الشاعر:
إني امرؤ أحمي ذمارَ اخوتِي
إذا رأوا كريهةً يرمونَ بي
رميكَ بالدَّلوينِ في قعرِ الرَّكي
جعل الياء روياً، وهذا قليلٌ. وأن لا يكون روياً أحسنُ. وكذلك قاله الشعراء. لأنّها أضعف من ياء أضربي، لأنَّها تحذف في النداء والندبة، فيقولون: يا غلام اضرب، ويا غلاماه. وأخبرني من أثق به أنّ ناساً من أهل الحجاز يقولون: هذا غلام، في الوصل وفي الوقف. وأخبرني من سمع من العرب: هذا غلام قد جاءني، في الوصل. فهذه الياء ضعيفة، ليست لها قوة ياء اضربي. ولو لم يكن فيه إلاَّ أنَّ العرب قد قالته كان ذلك كافياً.
وأما ياء النّسبة فإذا خفّفتْ في الشعرِ وأسكنتْ فإنَّ أكثرهم يجعلها روياً، لأنَّها خفّفت من متحرك لا يكون إلا روياً. وهي مع هذا لم يدخلها حذفٌ كما دخل يا غلامي. فهي أقوى. قال الشاعر فجعلها روياً:
إنَّ عدياً كتبت إلى عدي
وجعلتْ أموالَها في الحطَمي
إرهنْ بنيكَ عندهمْ أرهنْ بَنِي
وهذا جاهليٌ. وقال آخر:
إنِّي لمنْ ينكرني ابن اليثرِبي
قتلتُ علباءَ وهندَ الجملِي
وابناً لصوحانَ على دين علي
وقد يجوز أن تجعلها روياً، وتشبّهها بالياء التي دخلت للمدّة، وهي زائدةٌ لم تبن مع الكلمة، كما شبهت ما هو من الأصل بها.
وكلُّ هذه الهاءات والواوات التي ذكرت في هذه الأبواب إذا تحرّكن لم يكن إلاَّ روياً، ولم يجز أن يكون وصلاً، نحو لن يقضيه، ولن يرميه. والفرق بين ياء غلامي وقفاي وياء النّسبة إذا أسكنت أنّهم إنما أسكنوها اضطراراً، وياء غلامي فيها لغتان الإسكان والتحريك.

هذا باب
ما لا يكون رويا
اعلم أن الألف، والياء والواو إذا كانتا مدّتين، وكنّ زوائد يتبعن ما قبلهن، ولم يكن لهنَّ أصولٌ في الكلام فإنَّهن لا يكنَّ روياً أبداً. نحو قول الشاعر:
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
وقوله:
قد رابَني حفص فحدِّثْ حفصا
وقوله:
لا تشتُمِ الناسَ كما لا تشتمُ
واعلم أنَّ كلّ ياء وواو وألف تحذفُ في الوقف فإنَّها لا تكون روياً أبداً. وأنت مخيّر في غرهن، إن شئت جعلته روياً، وإن شئت وصلا.
نحو قوله:
أقلِّي، اللَّومَ، عاذلَ، والعتابْ ... وقولي إنْ أصبتُ لقد أصابْ

وإنما منعهنَّ أن يكنَّ روياً أنَّهنْ ليس لهنَّ أصول في الكلام، وإنّما هنّ مزيداتٌ على ما قبلهنّ لتمام الشعر. وإنّما زادوهنّ من بين الحروف لأنّ الشعر وضع للغناء والترنّم والحداء. وأكثر ما يكون ذلك في آخر البيت. فزادوا حروفاً يجري فيها الصوت. وذلك أنّ الصوت لا يجري إلاّ في حروف المدّ واللّين، وهن الياء والواو الساكنتان والألف.
وأمّا الهاء نحو هاء حمزة، وهاء الإضمار نحو غلامه وغلامها، والهاء التي تبين بها الحركة، نحو هاء آرمه وأغزه وعمّه، تريد ارم واغز وعمّ، فإنما أدخلت الهاء لتبين بها حركاتهن فجعلوهنَّ وصلاً إذا تحرّك ما قبلهن بحركة هاء الإضمار. شبهوهنَّ بالياء والواو والألف. وإن كانت الهاء لا يجري فيها الصوت، فلأنها حرفٌ ضعيفٌ خفيّ المخرج. فأشبهه بخفائه حروف اللّين. ومع ذا أنَّ مخرجها ومخرج الألف واحد. وقد أجريت الألف مجراها، فبينوا بها حركة نون أنا في الوقف، كما بينوا حركة ميم عمّه في الوقف بالهاء.
وقد بلغَ من خفائها أنّهم إذا كانت هاء الإضماء التي للمذكر بعد حرف مجزوم أو ساكن ضمّوه في الوقف، فقالوا: اضربه ومنه، ولم تضربه. وقال بعضهم فكسر: ضربته وشتمته سمعنا ذلك من العرب في تاء التأنيث خاصة. فهذا يدلّك على خفاء الهاء وغموضها.
فإذا سكن ما قبل الهاء التي للإضمار، والتي لم تبين بها الحركة، نحو هاء هناة وسعلاة، والتي للتأنيث، كنَّ روياً ولم يكنّ وصلاً، لأنَّ الساكن لا يكون له وصل، إنما الوصل للحرف المتحرك يولّد مثل حركته. وذلك أنَّ مثل القطاة والقناة، ومثل فيه وفيها، الهاء في جميع هذا حرف الرّويّ. وقد جاء مثل يغزوها ويرميها في قصيدة. وهي قول الشاعر:
أمّا القطاة فإني سوف أنعتُها ... نعتاً يوافقُ نعتي بعضَ ما فيها
وقال:
لانَ حتى لو مشى الذَّ ... رُّ عليه كادَ يُدميه
وقال:
قسْ بالتجارِبِ أغفالَ الأمور كما ... تقيسُ نعلاً بنعلٍ حين تحْذوها
وقال:
أموالُنا لذَوي الميراثِ نجمعُها ... ودورُنا لخرابِ الدهر نبنيها
فجمع الواو والياء لأنَّ الياء ساكنةٌ، ولا يكون للساكنِ وصل ولا مجرى. ألا ترى أن قول الشاعر:
وقاتم الأعماقِ خاوي المخترق
ليس فيه مجرى ولا وصلٌ لمّا قيّد. وكذلك كلُّ ما قيّد لا وصل له. ألا أنَّ بعض العرب قد يدخله الغلوّ والغالي كما وصفت لك. وقد تجري الهاء التي من نفس الكلمة هذا المجرى، تجعل هاء منبه وأبله وصلاً، فيكون أبله مع عبله، ومنبّه مع شربه، ولا تكونُ وصلاً إذا سكن ما قبلها، نحو وجه وشبه. ولا تكون الهاء منها إلاَّ روياً. وإذا تحرك ما قبلها فإنّها أن تكون روياً أجود. قال رؤبة:
قالتْ أبيْلي لي ولم أسبهِ
ما العيشُ إلا غفلةُ المدّلَّهِ
فجعل الهاء روياً.

هذا باب
ما يجوز من الساكن مع المتحرك في ضرب واحد
فمن ذلك فعلن في السريع يجوز مع فعلن إذا كان مقيّداً، ولا يجوز في الإطلاق. وإنّما جاز في المقيّد لأنَّه إذا سكن اعتمد الساكن على حرف قبل الرّويّ لا يزول، نحو تعلم، تعتمد العين على اللام فتقوى. ولو كانت اللام هي الرّويّ، وكانت بعدها حرف وصل، كانت العين تعتمد على الرّويّ.
وحرف الرّويّ أضعف، لأنّه قد يزول من الرفع إلى الجرّ، ومن الجرّ إلى النصب. ويدخله الحذف والإعلال. ألا ترى أن آخر البيتِ لا يدخله الزّحاف أبداً، ولا يكاد يزاحف في الجزء الذي فيه القافية.
وكان الخليل يقول: إنّما يجوز فعلن مع فعيلن، لأن هذا الجزء أصله مفعولات. ففعلن هو مفعو، وفعيلن هو معلا، لأنّ الفاء والواو يفعان للزّحاف.
قال أبو الحسن: وهذا مذهب ضعيف، لأنه لا يدري أن العرب أرادت هذا بعينه، أو أخرجت شعراً من شعر، وإن كان قد يقول الرجل منهم أعاريض لم يقلها أحد قبله. ولم نسمع بما زعم الخليل أنّها خرجت منه.
وقد أجازوا فعلن مع فعلن في الكامل إذا قيّد. أخبرني من أثق به عن المفضّل أنه سمعه من العرب. وأنشدني غيره قصيدة لعدي بن زيد، قال:
من آل ليلى دمنةٌ وطللْ ... قد أقفرتْ، فيها النعامُ زجلْ
ولقد غدوتُ بسابحٍ مرحِ ... ومعي شبابٌ كلّهمْ أخيلْ
معطي الجراءِ كأنّهُ وعلٌ ... نهدٌ ممرٌّ خلقُه مكمَلْ

فهذا شاذٌ قليلٌ، وليس مثل السريع، لأنّ ذاكَ في السريع لم تجئ قصيدةٌ إلا وهذا الاختلاف فيها. وهذا البناء من الكامل قليلٌ، ولم يجئ فيه إلا شاذاً.
ولو قال قائل: إنّ إسكان هذا كالإسكان في الزّحاف، لم يكن به بأسٌ. ولا أراه جازَ، إلا أن المقيّد لم يبق فيه إجراء صوت ولا مدّ له. فرأوا أنه موضع السكون وترك المدّ فجاز هذا السكون فيه لذلك. وأمّا:
لا يبعدنْ قومي الذين همُ ... سمُّ العداةِ وآفةُ الجزرِ
الخالطينَ نحيتَهم بنضارِهمْ ... وذوي الغِنى منهمْ بذي الفقرِ
فجمع في المطلقِ بين الساكن والمتحرك، فلأنّه صدرُ متفاعلن، وإسكان ثانية جائزٌ كثيرٌ فلذلك أجازوه.
وإذا احتاج الشاعر إلى مثل حركة بكر في الرّفع قال: بكر، وفي الجرّ بكر. حرّكها بحركة الآخر، لأنّ الآخر قد تدخله الألف في السكت، فتبين حركته، ولكنّه على حركة ما قبله. فيقول: رأيت البكر، والعلم والجحر، إن اضطرّ في الشعر. وذلك لأنهم قد يتبعونه الأول في الجرّ والرفع فيقولون: هند، إذا وقفوا، وهذا علم، لأنهم لو ضمّوا الأسوط صار فعل، وليس في كلامهم فعلْ. ويقولون: مررت بجمل، فيضمّون الميم على الجيم، لأنّهم لو كسروها على اللام صارت فعل، وليس في كلامهم فعل اسماً. قال الشاعر فيما حرّك فيه الساكنُ:
أنا ابن ماويّة إذ جدَّ التَّقُرْ
سمعته ممن أثق به. وسمعت من ينشده ساكناً. وقال:
علّمنا إخوانّنا بنو عجلْ
الشّغزبيَّ واعتقالاً بالرِّجلْ

باب
التقييد والإطلاق
اعلم أنَّ الجزء إذا تمَّ بحرفِ الرّويّ لم يكن فيه إلا التقييد، نحو قوله:
وقاتم الأعماقِ خاوي المخترقْ
فقولُه ولمخترقْ مستفعلنْ، فلو أطلقته جاء أكثر من مستفعلن، لأنه يجيء ترقي، فيكون الجزء مستفعلتن وهذا لا يكون. وكذلك:
سبقنا البرية في غزونا ... بحملِ المزادِ ونوطِ القربْ
فقوله قرب فعل. ولا يكون ها هنا قربي، لأنه يكون فعلن، ولا يكون ها هنا. فهذا المقيّد الذي لا يجوز إطلاقه، وهذا الذي لا يجوز إطلاقه يجوز فيه المرفوع والمنصوب والمجرور والمجزوم، والخفيف والثقيل. قال الشاعر:
أصحوت اليوم أمْ شاقتكَ هرْ ... ومنَ الحبِّ جنونٌ وسعرْ
فراءُ هر مثقّلةٌ، وراء سعر مخفّفة مرفوعة. وقال فيها:
أيها القلبُ، تناهَ وانزجِرْ ... إنّما للمرءِ، فاعلمْ، ما قدِرْ
وأمّا قوله:
صفيّةُ قومي، ولا تجزَعي ... وبكّي النساءَ على حمزهْ
فمطلق، لأنَّ الزاي حرف الرَّويّ، وهي متحركةٌ والهاء وصلٌ. وإن شئت قلت: على حمزتي، فجعلت التاء روياً، وجعلته فعل، لأنَّ الهاء إذا وصلت صارت تاءً. والتاءُ لا تكونُ وصلاً. وقد وضعت العرب التاءَ مع الهاء في أشعارها كثيراً. قال أبو النّجم:
أقولُ إذْ جئنَ مدبَّجاتِ:
ما أقربَ الموتَ منَ الحياةِ!
ومنهم من يقول: الحياة فيجعلها تاءً في الوقف لئلاَّ يختلف الرويُّ، كما فعل في الوصلِ. ولأنَّ الوقف في القوافي يجيء على غير الوقف في الكلام. يقولون:
أقلّي اللّومَ، عاذلَ، والعتابا
ويحذفون كثيراً ممّا لا يحذفُ في الكلام. ومع ذا أنَّ ناساً من العرب يقفون على هاء التأنيث بالتاء، فيقولون: حمزت.
فأمّا ما يجوز فيه التقييد والإطلاق فالمتقارب، نحو:
كأنّي ورحلي إذا رعتُها ... على جمزَى جازئٍ بالرِّمالْ
وفي الرّملْ:
يا بني الصّيداء، ردّوا فرسي ... إنَّما يفعلُ هذا بالذلّيلْ
وفي الكامل نحو: أبُنَيَّ، لا تظلمْ بمكةَ لا الصغيرَ ولا الكبير فليس شيء يجوز فيه التقييد والإطلاق غيرَ هذه الأبيات الثلاثة، وما كان عل بنائها. وذلك لأنَّ في بنائها شعراً أقصر منها وأطولَ، فمدّوها عن الأقصر، وقصروها عن الأطول. ألا ترى أنَّ في المتقارب فعولن وفعل، وفعول بينهما. وفي الرّملِ فاعلاتن وفاعلنْ، وفاعلان بينهما. وفي الكامل متفاعلاتنْ ومتفاعلنْ، ومتفاعلانْ بينهما.
فجاز هذا، كما يثقَّلونَ ما ليس بثقيل. قال الشاعر:
أقولُ إذ خرَّتْ على الكلكلِّ
ثم قال:
ببازلٍ وجناءَ أو عيهلِّ
وقال:
تعرَّضتْ لي بمكان حلِّ
تعرُّضَ المهرَةِ في الطّولِّ

يريد: الكلكلِ والعيهلِ والطّول، فثقل، لأنّ قوماً من العرب يقولون: هذا خالدُّ، فيثقلون في الوقف، وأجازوه في الإطلاق. جعلوه كأحرفٍ تزادُ في الكلام مثل ما يلحق من الياء للمدّ مما لم يكن في الكلام. قال الشاعر:
تنفي يداها الحصى في كلِّ هاجرةٍ ... نفي الدراهيمِ تنقادُ الصياريفِ
فكما زيدتْ هذه الياء فكذلك بيتُ التثقيل. وقال:
لقد خشيتُ أن أرى جدبَّا
في عامنا ذا بعدما أخصبّا
يريد: جدبا وأخصبا. ثم قال:
ثمَّتَ جئتُ حيَّةً أصمَّا
ضخماً يحبُّ الخلقَ الأضخمَّا
وسمعت من العرب من يقول: الضّخمّا، يريد الضّخم. فهذا أشدّ، لأنّه حرّكَ الخاء، وثقّل الميم.
وقد يجوز في هذا القياس تقييد الطويل إذا كان آخره مفاعيلن، لأنَّه إذا قيد جاء مفاعيل من مفاعيلن، وفعولن، وقد جاء. قال الشاعر:
كأنَّ عتيقاً من مهارةِ تغلبٍ ... بأيدي الرِّجال الدافنين ابن عتابْ
وقد فرَّ حصنٌ هارباً وابن عامرٍ ... ومن كانَ يرجو أن يؤوب فما آب
فهذا جائز. وكان الخليل لا يجيزه. وأخبرني من سمع قصيدة امرئ القيس هذه من العرب مختلفة، قالوا: فإنما هي على التقييد:
أحنظلَ لو حاميتمُ وصبرتُمُ ... لأثنيتُ خيراً صادقاً ولأرضان
ثياب بني عوفٍ طهارَى نفيَّةٌ ... وأوجهُهُمْ بيضُ المشاهدِ غرَّانْ
ولا يحمل هذا على: جحر ضبّ ضربٍ، لأنَّ ذل ليس بقياسٍ، والتقييد في هذه القصيدة قياس. وقد قال فيها:
وأنعمَ في حال البلابلِ صفوانْ
ويجوز ذلك في الرَّملِ الذي على أربعة أجزاءٍ، نحو قوله:
قيلُ، قمْ فانظرْ إليهم ... ثم دع عنك السّمودْ
لأنَّه إذا جعله فاعلانْ صار بين فاعلاتُن وفاعلنْ. فهو مثل ما جاء في القياس، ولم نسمعه. ولا أراه إلاَّ لقلَّة هذا الشعر وضعفه. وكان في الكامل أجود، لأنَّ الجزء الذي في الكامل زائدٌ. وأنت إذا قيّدتَ هذا نقصته، فهو أضعف.
ولا يجوز أن تكون الياءُ في قول الشاعر:
بازل عامين حديثٌ سنِّي
لمثلِ هذا ولدَتْني أمِّي
هي الرِّويِّ فيكونَ مقيَّداً، لأنَّه في بنائه شيءٌ أقصرُ منه، فيذهب هذا عنه حتى يصير بينه وبين مستفعلن. والميم والنون هما الرّوي. واختلفا كما ذكرت لك من اختلاف حرف الرّويّ، نحو قوله:
إذا نزلتُ فاجعلاني وسطا
إنِّيَ شيخٌ لا أطيقُ العنَّدا
وليس هذا مثلَ: على حمزهُ، لأنَّ الزايَ هو الرّويّ. وهذا مطلقٌ. وهو إذا جعل الياء هي الرّويّ كان مقيّداً، ولا يجوز تقييده كما لا يجوز تقييدُ: من لم تزوّد، و: من الناتج، لأنَّ تعديل أنصاف الأوائل بأواخرِها أن تطلق. فإذا وصلتَ إلى الإطلاق لم يجز التقييد.

باب
ما يجتمع في آخر ساكنان في قافية
وذلك لا تبنيه العرب إلاّ أن يجعلوا الأوّلَ منهما حرف لين. كذلك قالوه في جميع أشعارهم. وذلك نحو فاعلان في الرّمل، ومستفعلان وزحافه في البسيط، ومتفاعلان وزحافه في الكامل، وفاعلان ومفعولان في السريع، ومفعولان في المنسرح، وفعول في المتقارب. كلّ هذا لا يكون الحرف الذي يلي آخر حرف منه إلاّ حرف مدّ، لأنّه لمّا اجتمع ساكنان كان ذلك ممّا يثقلُ، ولا يكون إلاّ في الإدراج. والقصيدة عندهم بيوتها مدرجةٌ بعضها إلى بعض. فأدخلوا المدّ واللّين ليكونَ عوضاً من ذهاب التحريك وقوةً على اجتماع الساكنين.
وقد جاء بغير حرف لين، وهو شاذّ، لا يقاس عليه:
أرخينَ أذيال الحقيِّ واربعنْ
مشيَ حييّاتٍ كما لمْ يفزعنْ
إنْ تمنعِ اليومَ نساءٌ تمنعنْ
وقد أخبرني من أثقُ به أنِّه سمع:
أنا جريرٌ كنيتي أبو عمرو
أجبنُاً وغيرُه تحت السّترْ
وقد سمعتُ من العرب:
أنا ابن ماويّةَ إذْ جدَّ النَّقر
اسكن القاف. وهي في مستفعلان وما أشبهه ممّا زاد على الجزء أمثلُ، لأنّه لم ينقص منه شيء فيستدرك بالمدّ. وتركُ اللّين في فاعلان في الرّملِ وما أشبهه أقبحُ منه، لأنّه منقوصٌ من فاعلاتن، فترك المدّ فيه أقبحُ، لمّا نقص. وكذلك كلُّ ناقصٍ
هذا باب
ما يكون فيه حرف اللين مما ليس فيه ساكنان

وذلك كلّ شعر نقص من آخره من أتمِّ بنائه حرفٌ متحرّكٌ أو زنةُ متحرّك. ولا يحتسب في ذلك بما يقع للزحاف. من ذلك فعولن في الطويل، لا بدَّ فيها من حرف لين، لأنها ناقصةٌ ومن مفاعيلن، بينها وبينه حرفان، الساكن منهما قد يقع للزحاف. فإنما يحتسبُ بالمتحرّك.
ومنه فعلنْ في البسيط، لا يد فيه من حرف لين، لأنَّ أصله فاعلن، فألقيت النونُ، وأسكنت اللام، فقد ذهبَ ساكنٌ وحركة، وتانكَ زنة متحرّك. وقد جاء فيه فاعلن، سمعناه من قاتله:
وبلدة قفرةٍ، تمسي الرياحْ بها ... لواغباً، وهي ناءٍ عرضُها خاويَهْ
قفرٍ عقامٍ، ترى ثورَ النِّعاجِ بها ... يروحُ فرداً، ويلقى إلفَه طاويهْ
وأما فعلن فيكون في المديد، فيكون بغير حرف لين، لأنَّه كثرَ نقصه من فاعلاتن أن يدرك بحرف لين، وإن كانوا قد يلزمون حرفَ اللّينِ الشعرَ الضعيف القليلَ ليكون أتمَّ له وأحسنَ. فممّا قيلَ بغير حرف لين قوله:
دينَ هذا القلبُ من نعمٍ ... بسقامٍ ليس كالسُّقمِ
إنَّ نعماً أقصدتْ رجلاً ... آمناً بالخيفِ أنْ ترمي
وكذلك فعولنْ في البسيط يكونُ بغير حرف لين، لأنَّه قد جزئ وكثرَ نقصانه بأن ذهب منه جزءٌ لا يدركُ ذلك بحرف لينٍ.
وكذلك مجزوء الوافر يكونُ بغير حرف لين. قال الشاعر:
ألا من نعى الأخوي ... نِ أمُّهما هي الثَّكلَى
تسائلُ منْ رأى ابنيْها ... وتستشفَي فلا تُشفى
وفعولُن في الوافر لا بدَّ فيه من حرفِ اللّين وقد جاء بغير لين. أخبرني بهما من سمعهما من العرب بغير لين، وكذا وصفهما الخليل بغير لين.
وأمّا فعلاتن في الكامل الذي على ستّة فلا يكون إلاّ بحرف لين، لأنَّك أذهبت من متفاعلنْ التّنوينَ، وأسكنتَ اللام، فذهب منه متحرّكٌ. وقال امرؤ القيس هذا البناءَ بغير لين. قال:
ولقدْ رحلتُ العنسَ ثم زجرْتُها ... قدماً، وقلتُ: عليكِ خيرَ معدِّ
و:
وعليكِ سعدَ بنَ الضِّبابِ، فسمِّحي ... سيراً إلى سعد، عليكِ بسعدِ
قال بعضهم: إنّما ألقى عين متفاعلنْ. وهو مذهبٌ. وكذلك مفعولن فيه.
وأمّا فعلاتن ومفعولن في الذي على أربعة أجزاء منه ففي القياس أن يكون بغير حرف لين لأنه نقص مه ما لا يدرك بحرف لين. ولم نسمعه بغير حرف لين. وذلك أنه شعرٌ ضعيف قليل، قد نقصوه، فأرادوا أن يعدِّلوه حتى يكون النصفُ الآخرُ مثلَ الأوَّلِ. فإذا جاءَ فأجزه.
وأما مفعولن في الرّجز وفعولن فلا يكون إلاَّ بحرف لين، لأنّك أسقطت نون مستفعلن، وأسكنت اللام. فذهب منه زنةُ متحرك.
وأمّا فعولن في الهزج فمن جعله مجزوءاً لم يجعله بحرف لين. وينبغي أن يكون مجزوءاً، لأنّه لا يكادُ يجيء شعر من أشعار العرب فيه نحو هذه الأجزاء إلاَّ قد بني على ستة أجزاء. فإن لم تأخذ بهذا تركت أشياء من المقاييس. ومن قال إنّ فعولن ناقصةٌ من مفاعيلن، ليس بمجزوء لزمه حرفُ اللّين.
وأما فعلن في السريع فيكون بغير لين، لأنَّهم قد نقصوا من الجزء ما لا يدرك بحرف لين.
وكذلك مفعولن في المنسرح الذي على جزءين، لأنَّه قد كثر نقصانه.
وفعولن في الخفيف يكون بغير لين، لأنَّه كثرَ نقصه.
وفاعلاتن في المضارع يكون بغير لين، لأنَّه إن كان مجزوءاً فقد كثرَ نقصانه. وإن كان تاماً لم يحتج إلى ذلك فيه.
وكذلك فاعلاتن في المجتثّ يكون بغير لين. أخبرنا من يوثق به أنَّ قوله:
جنٌّ هببنَ بليلِ ... يندبن سيِّدَ هنَّهْ
معروفٌ في شعر العرب. وليس في ذا حرف لين.
وأما فاعلن في السريع فلمَّا نقصوه من فاعلان لم يصلوا فيه إلى حرف اللّين، لأنَّ في آخره حرفين متحرّكين، فلو أدخلوا حرف اللّين لم يكن بدٌّ من حركته. وإذا تحرّكَ ذهب منه المدُّ.
وأمّا مفاعلن في الطويل فإنَّه سقط منه ما كان يسقط للزحاف، وذلك لا يحتسب به. فإن قلت: هلاَّ قيّدتَ
ويأتيكَ بالأخبارَ منْ لم تزوِّدِ
حتى يكون فعولنْ وقيَّدتَ
لا تكسعِ الشَّولَ بأغبارها ... إنَّكَ لا تدريَ منِ الناتجُ

وتركتَ اللّينَ، لأنك اضطررتَ إلى تركه كما تركته في المتحركين. فإنك لو فعلت ذلك كنت غير معدّل للبيت. وأحسن الشعر عندهم أن يكون معتدلاً. فإذا وصولا إلى الذي هو أحسنُ لم يصنعوا الذي هو أقبحُ. وهم إذا تركوا حرف اللّين من قولك: من الناتجُ، وأشباهه، ولم يطلقوه لم يكن مثلَ النّصف الأوّل.

هذا باب
إجماع العرب في الإنشاء واختلافها
أمّا إذا أرادوا الحداء والغناء والتّرنّم فإنَّ كلهم يتبع الرّويّ المضمون واواً، والمفتوح ألفاً، والمكسور ياء، والساكن إذا كان مطلقاً ياء في الوقف والوصل، فيما ينّونُ منه وما لا ينوّن. فمن ذلك قوله:
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
وقوله:
أعطى فأعطَى حسبَاً ورزْقا
وقوله:
أطرَباً وأنتَ قنَّسريُّ
وما لا ينوَّن:
الحمدُ لله الوهوبِ المجزلِ
وقوله:
أقلِّي اللومَ، عاذلَ، والعِتابا
وقوله:
أفاطمَ، مهلاً بعضَ هذا التَّدلُّلِ
وإنّما ألحقوا هذه الحروفَ التي يجري فيها الصوت إذا أرادوا الترّنّم لأنّ الصوت لا يجري في غيرها. فلمّا أرادوا التّرنّم ألحقوا هذه الحروف التي يجري فها الصوت.
فأمّا إذا لم يريدوا التّرنّم فأهل الحجاز يتركونه على حاله في التّرنّم، ليفصلوا الشعر من غيره. وأمّا ناسٌ كثيرٌ من تميمٍ وقيسٍ فإنّهم إذا لم يريدوا التّرنّم جعلوا الذي يلحقون نوناً. فيقولون:
داينتُ ليلى، والدُّيونُ تقضنْ
و:
الحمد للهَ الوهوبِ المجزِلِ
و:
متى كانَ الخيامُ بذي طلوحٍ ... سقيتِ الغيثَ أيَّتُها الخيامُنْ
يفعلون هذا في الوصل. وربما فعله بعضهم في الوقف، لأنَّه يريد الوصلَ، فينقطع نفسه.
وبعضهم يقف على المنصوب، منوّناً كان أو غير منوّن، بالألف، فيقول:
أقلِّي اللومَ، عاذلَ، والعتابا
وإذا وقفَ في الرّفع والجرِّ أسكنَ، فقال: أيّتها الخيامْ
أفاطمَ، مهلاً بعضَ هذا التَّدَلُّلْ
وسمعت من العرب من يقف على الرّويّ المنصوب، إذا كان من الفعل، أو من شيء لا يدخله تنوينٌ في وجه من الوجوه، بالتنوين فيقول:
ولا تبقي خمورَ الأندَرينْ
وينشدون:
أهدمُوا بيتكَ لا أبالكْ
وحسبوا أنَّكَ لا أخالكْ
وأنا أمشي الدَّألَى حوالَكْ
فلا يلحقونَ الألفَ. وهذا لا يكون إلاَّ مطلقاً، إلاَّ أنَّهم يريدون الوقف. وقال هؤلاء:
بشبّان يرون القتل مجداً ... وشيبٍ في الحروبُ مجرَّبينْ
يسكت بغير ألفٍ، لأنَّ هذا لا يدخلُه تنوينٌ بوجه من الوجوه، وأما:
تسفُّ الجلَّةُ الخورُ الدَّرِينا
فيقفون عليه بالألف في وقفه، لأنَّه لو لم يكن بالألف واللام كان منوَّناً. وكلُّ ما كان كذلك ألحقَ الألفَ في وقفه. ويقول هؤلاء:
أقلِّي اللّومَ، عاذلَ، والعتابا
لأن العتابَ إذا لم يكن بألف ولام كان منوّناً، فلذلك ألحقوه الألف في السّكتِ.
وإنما أدخل من أدخل النونَ لأنَّه رأى أنّ الكلام إذا وصل نوّن فنوّنه. وقد دعاهم ذلك أن نوّنوا المقيّد. أخبرنا يونس وغيره ممّن يوثق به أنَّ رؤبة كان يقول:
وقاتمِ الأعماقِ خاوي المخترقنْ
لأنَّه كان اعتادَ التنوين في الوصل. والرّويّ يجري فيه المنوّن وغير المنوّن مجرىً واحداً. فلذلك نوّن. وقد دعاهم ذلك إلى أن قالوا:
لمّا رأيتُ الدهرَ جمّاً خيلُهو
فألحقوا الواوَ في الوصل، لأنَّهم قد اعتادوا زيادتها في الكلام جعلوها كبعض ما يزاد في الشعر، ولا يحتسب به.
وأمّا إدخالهم الواو والياء والألف في الوقف فكما قال ناسٌ من العرب: هذا زيدو، ومررتُ بزيدي.
وسمعنا من العرب من يجري الرّويّ في الوقف مجراه في الكلام، فيقول:
أقلِّي اللَومَ، عاذلَ، والعتابْ
و:
سقيتِ الغيثَ أيَّتُها الخيامْ
و:
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزِلْ
و:
قد رابني حفصٌ، فحرِّكّ حفصْ
فإذا وصل ألحق المضموم واواً، والمفتوح ألفاً، والمكسور ياء. وكذلك الساكن إذا كان مطلقاً. وهؤلاء من قيس.
وقد يجرون الواو والياء إذا كانتا من الأصل، وكانتا وصلاً، مجرى المدَّتين. فإذا وقفوا عليهما وقفوا كما يقفون على الزائد، فيحذفهما من يحذف الزائد، فيقول:

ولأنت تفري ما خلقتَ وبعض القوم يخلق ثم لا يفر ولو كانت يدعو في قافية أجروها هذا المجرى. فإذا كانتا روياً لم تحذفا، لأنَّهما بمنزلة قاف:
وقاتم الأعماقِ خاوي المخترَقْ
وهذه الواوُ والياء لا تحذفانِ في الكلام. فإذا كانت ياء لا تحذف في الكلام فهي في الرّويّ أجدر أن لا تحذفَ، نحو ياء القاضي.
فأمّا يخشى ويقضي فأجريت مجرى زيد، فلا تحذف في الوقف، لأنَّ ألف زيداً لا تحذف في الوقف، فلا تكون التي من الأصل أسوأ حالاً منها، وهي تثبت في الكلام. لا يقول أحدٌ إلاَّ
داينتُ ليلى، والدُّيون تقضَى
وقد أجرى قومٌ واو الإضمار وياء الإضمار مجرى هذا. أخبرني من أثق به عن العرب أنّه سمع منهم:
وهمْ وردُوا الجفارَ على تميمٍ ... وهمْ أصحابُ يومِ عكاظَ، إنْ
يريد: إنِّي. وقالَ:
جزيتُ ابنَ أوفى بالمدينةِ قرضهُ ... وقلتُ لشُفاع المدينةِ: أوجفْ
يريد: أوجفوا وإنّما أجروا هذه الياء والواو مجرى الزائدتين اللتين هما مدّتان، لأنّهما مثلهما في اللفظ والمدّ. وذلك قليل ضعيف، لأنّ هذه الياء والواو واللّتين للإضمار جاءتا لمعنى كما جاءت الهاء في قوله:
كما رأيتُ الدهرَ جماً خبلُهْ
فهذه الهاءُ لا يحذفُها كلُّ أحدٍ، إلاَّ أنَّهم زعموا أنَّ حذفَها روي، ولم نسمعه من ثقة. وهو قبيحٌ لأنَّ الهاءَ ليست بحرفِ مدّ. وقد جاء بيتٌ مقيّدٌ حذفوا فيه واو الجمع، سمعتُه من غير ثقة:
كريمةٌ قدرتُهمْ إذا قدرْ
وهو في القياس جائزُ فإذا جاء مثله فأجزهُ.
واعلم أنَّ المجزوم والساكن يوضعان في القوافي المجرورة، لأنَّ الشعر موضع اضطرار. وهم إذا اضطرُّوا إلى حركة الساكن حرّكوه بالجرّ، إلا أن يكون ساكنٌ أصلُه الضّمُّ، نحو مذ، إذا اضطررتَ إليه في القوافي ضممته، كما تقولُ مذ اليوم، فتحرّكه بالضمِّ. وإذا كان ساكنٌ أصله الفتح فاضطررت إليه في القوافي فتحته، نحو من، لو اضطررت إليها في القوافي فتحتها، فقلت منا، كما تقول من القوم. وإن شئت كسرتَ من، لأنًّهم قد قالوا من القوم، ومن ...
وإذا أطلقت شيئاً من بنات الواو والياء مجزوماً ألحقته ما يكون فيه في الرفع والجرِّ والنصب. تقول: لم يغزو، ولم يقضي، ولم يخشى، إذا كانت في قافية. وإنّما ألحقوا هذه الحروف من المدّ في القوافي ليبيّنوا أنّهم في شعر، وأنّهم يريدون أن يصلوه بكلام، كما قال بعضهم، قالا: وهو يريد قال. ولكنّه أراد الوصل، فجعل المدّة دليلاً عليه.
تم كتاب القوافي بحمد الله ومنَّه هذا آخر الكتاب في أكثر النسخ. وقد يوجد في بعض النسخ بعد هذا الموضع زيادةٌ عن الأخفش أيضاً، وهي: قال أبو الحسن سعيدٌ: وإذا كان آخر الحروف هما أو همو للمضمر فلا يكون حرف الرّويّ إلاّ الميم، لا يجوز غير ذلك.
وأمّا هو وهي فلا يجوز أن يكون ما قبل الهاء حرف الرّويّ، وتكون الهاء وصلاً، وتكون الياء والواو خروجاً، لأنَّ الياء والواو أصلُهما التحرك. وإن شئت جعلت الياء والواو حرف الرّويّ، وكان مقيّداً. وإن شئت أطلقتَ فقلتَ: هيا وهوا، الياء والواو حرف الرّويّ. ولا تكون الهاءُ حرف الرّويّ، لأنَّ والواو متحرّكتان. ولا تكون الواو والياء إذا تحرّكتا وصلاً.
فإن قلت: إني أسكن الواو والياء وأجعل الهاء حرف الرّويّ، فإنَّ ذلك لا يجوز إلا أن يكون ما قبل الهاء ساكناً، نحو: كما هي وألا هو. فإن تحرّك ما قبلها وأجزت إسكان الياء والواو، نحو: قال هو، وتقول هي، صارت الهاء حرف الرّويّ، والياءُ والواو وصلاً. ولا تكون الهاء وصلاً، لأنّ المنفصل لا يكون وصلاً.
وقد جعلوا الهاء حرف الرّويّ في قوله:
قالت أبيلي لي ولم أسبّهِ:
ما السِّنُّ إلاَّ غفلةُ المدلَّهِ
ولا تكون الهاء في نحو هي وهو، إذا تحرَّكَ ما قبلَها أو سكنَ، إذا كانت مفصولةً، وصلاً. إلاَّ أنَّها قد وجدناها، وما قبلها متحرِّكٌ، حرف الرّويّ. وقد مضى ذكر ذلك.
هذا آخر الزيادة. والأشبه أن تكون من تعليق الكتاب عن أبي الحسن، غير أنّها من أجود ما تضمّنه هذا الكتاب.
نجز على يد العبد الضعيف أحمد بن عبد الله بن عبد الله الأندلسي الواديآشي، عفا الله عنه، وغفر له ولوالديه ولجميع المسلمين.
الحمد لله وحده، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلّم