كتاب : المذاكرة في ألقاب الشعراء
المؤلف : النشابي الإربلي

أصدُّ، وما الهجرُ الذي تحسبينهُ ... عزاءً بنا، إلا ابتلاع العلاقمِ
حياءً وبقيا أن تشيعَ نميمةٌ ... بنا، وبكم، أفٍ لأهلِ النمائمِ
وإنَّ دماً لو تعلمين جنيتهُ ... على الحيّ جانٍ مثله غير سالمِ
أما إنهُ لو كان غيرك أرقلتْ ... إليه القنا بالراعفاتِ اللهاذمِ
ولكنْ، وبيتِ الله ما طلَّ مسلماً ... كغرّ الثنايا واضحاتِ الملاغمِ
إذا هنَّ ساقطنَ الأحاديثَ للفتى ... سقوطَ حصى المرجانِ من سلكِ ناظمِ
رمينَ فأقصدنَ القلوبَ، ولا ترى ... دماً مائراً إلا جوىً في الحيازمِ
قوله: ساقطنا الأحاديث من قول جميل بن معمر العذري، وعمر بن أبي ربيعة.
فأما قول جميل:
ما صائبٌ من نابلٍ قذفتْ بهِ ... يدٌ وممرُّ العقدتينِ وثيقُ
له من خوافي النسرِ حمٌّ نظائرٌ ... ونصلٌ كنصلِ الزاغبي فتيقُ
قوله: فتيق يعني حاد، والزاغبي منسوب إلى رجل من الخزرج يقال له: زاغب.
على نبعةٍ روداء، أما خطامها ... فمتنٌ، وأما عودها فعتيقُ
بأوشكَ قتلاً منكِ يومَ رميتني ... نوافذَ لم يظهر لهنَّ خروقُ
والذي قاله عمر بن أبي ربيعة:
وأصابتْ مقاتلي بسهامٍ ... نافذاتٍ، وما تبينَ كلمُ
بحديثٍ بمثلهِ تنزلُ العص ... مُ، رخيمٍ، يشوبُ ذلك حلمُ
ومن مراثيه المستحسنة:
يرومُ جسيماتِ العلى فينالها ... فتىً من جسيماتِ المكارمِ راغبُ
فإن تمسِ وحشاً دراهُ، فلربما ... تواضحُ أفواجاً إليها المواكبُ
يحييونَ بساماً كأنَّ جبينهُ ... هلالٌ بدا، وانجابَ عنه السحائبُ
وما غائبٌ منْ يرجى إيابهُ ... ولكنهُ من غيبَ الموتُ غائبُ
وقال الآخر:
ولم تنأ دارٌ من مرجىً إيابهُ ... وتنأى بمن رصتْ عليهِ الحفائرُ
وقال الآخر:
كلُّ ذي غربةٍ سيرجعُ يوماً ... غيرَ غيابِ زائراتِ القبورِ
وأول من ابتدع هذا المعنى في قوله:
وكلُّ ذي غيبةٍ يؤوبُ ... وغائبُ الموتِ لا يؤوبُ
وأنشد محمد بن يزيد لأبي حية، وهو مما يفضل لتلخصه من التكلف:
رمتني، وسترُ الله بيني وبينها ... ولكنَّ عهدي بالنضالِ قديمُ

ذكر ماني المجنون
كان ماني شاعراً مفلقاً مبرزاً. فمن شعره:
وكأنما نهكتْ قوى أجفانهِ ... بالراحِ، أو سبيتْ بإغفاءِ
لو صافحَ الماءَ القراحَ بكفهِ ... لجرتْْ أناملهُ مع الماءِ
يرنو إلى نعمٍ بلحظةِ مسعفٍ ... ولسانهُ وقفٌ على لاءِ
ماءُ النعيمِ بخدهِ متقطرٌ ... والصدغُ منه كعطفةِ الراءِ
وقوله، وقد جاء في بيت واحد، بمعنيين، وابن الرقع جاء في بيتين بمعنى واحد. وروي عن الأصمعي أنه قل: أحسن ما قيل في العين قول ابن الرقاع:
وكأنها بين النساءِ أعارها ... عينيهِ أحورُ من جآذرِ جاسمِ
وسنان أقصدها النعاسُ، فرنقتْ ... في عينه سنةٌ، وليسَ بنائمِ
وروي عن إسحاق بن خلف، وكان شاعراً لأبي دلف، قال: قدم أبو دلف من بعض حروبه، وقد فتح الله على يديه، وكان له فرس قد وجد بركة في لقاء العدو، وهو راكبه، وإذا دخل المدينة ركبه. فعن لي أن أنظم شعراً في المعنى، وقد جازت جيوشه وجنوده. فأنا قائم ألوك الشعر وأفكر في النظم، رأيت رجلاً وفي يده قطعة تمر يأكلها، فلما سمع همهمتي بالشعر أنصت له، وترك أكل التمر، وقال لي: أ، ت شاعر. فأطرقت وأقبل أبو دلف، فوقفت له بباب الرصافة، فأنشأت أقول في الفرس:
كمْ كمْ تجرعهُ المنونُ فيسلمُ ... لو يستطيعُ شكا إليكَ له الفمُ
في كلِّ منبت شعرةٍ في جلدهِ ... خطٌ ينمقهُ الحسامُ المخذمُ
ما تدركُ الأرواحُ أدنى جريهِ ... حتى يفوتَ الريحَ، وهو مقدمُ
رجعتهُ أطرافُ الأسنةِ أشقراً ... واللون أدهم حين ضرجهُ الدمُ
وكأنما عقدَ النجومَ بطرفهِ ... وكأنه بعرا المجرةِ ملجمُ
فنظر ملياً وقال، وهو يأكل التمر، إسمع:
كراتُ لحظكَ في العدى ... تغنيكَ عن سلِّ الذكورِ
فسمع أبو دلف قولي وقوله، فقل لي: ما قلت مثل هذا. ثم طلب فهرب. وذكر أن جماعة تحدثوا عند ماني على أجود ما قيل في صفة الشعر، فقل شخص منهم: أحسن ما قيل قول كثير:

غراءُ تسحبُ من قيامٍ شعرها ... وتغيبُ فيهِ، وهو جثلٌ أسحمُ
فكأنها فيهِ نهارٌ مشرقٌ ... وكأنهُ ليلٌ عليها مظلمُ
قال: وماني مشغول بأكل قطعة ناطف في يده، فقال: إسمعوا ما قلت، قلنا: هات، فقال:
نشرتْ عليَّ غدائراً لتظلني ... خوفَ العداةِ، من العدوِّ الموبقِ
فكأنها، وكأنني، وكأنهُ ... صبحانِ باتا تحتَ ليلٍ مطبقِ
قال: فقلت: أنت أشعر وأحسن تشبيهاً، ذاك شبه شيئين بشيئين، وأنت شبهت ثلاثة أشياء بثلاثة.
ومن مليح غزله:
دعتني جهاراً إلى عشقها ... ولم تدرِ أني ما أعشقُ
فقمتُ، ومن مفرقي في الهوى ... إلى قدمي، ألسنٌ تنطقُ
وله:
ها أنذا تسقطني للبلى ... عن فرشي أنفاسُ عوادي
لو يحسدُ السلكُ على دقةٍ ... حقاً، لأضحى بعضَ حسادي
وله:
صعبتَ جداً، فما تراضُ ... وفي جناحي لكَ انخفاضُ
مالي إذا ما ظننتُ ظناً ... أخلفَ ظني بكَ انتقاضُ
ما يفعلُ السيفُ حين يمضي ... ما تفعلُ الأعينُ المراضُ
وله:
معذبُ القلبِ بالفراقِ ... قد بلغتْْْ نفسهُ التراقي
يحنُّ شوقاً إلى غزالٍ ... أزمعَ للبينِ بانطلاقِ
لم يبقِ منه السقامُ إلا ... جلداً على أعظمٍ دقاقِ
لولا تسليهِ بالتمني ... آذنتِ النفسُ بالفراقِ
ومن غزله:
هيفُ الخصورِ، قواصدُ النبلِ ... قتلننا بعيونها النجلِ
كحلَ الجمالُ عيونَ أوجهها ... فغنينَ عن كحلٍ بلا كحلِ
وكأنهنَّ إذا أردنَ خطىً ... يقلعنَ أرجلهنَّ من وحلِ
أخذ معنى البيت الثاني نت قول الآخر:
فلشعرها من شعرها رجلٌ ... ولعينها من عينها كحلُ
وأما قوله: يقلعن أرجلهن من وحل مأخوذ أيضاً من:
وبيض تطلى بالعبيرِ، كأنما ... يطأنَ، وقد أعنقنَ في جددٍ، وحلا

ذكر أبي الفضل جعيفران المجنون
قيل: أتى رجل جعيفران فقال له: يا أبا الفضل شعرك رديء. فغضب وقال:
سوفَ أهجوكَ إنْ بقيت بشعرٍ ... ليسَ إن قوموهُ فلسينِ يسوى
ويقولونَ ذا رديٌ، وحسبي ... أنْ يقولوا له رديءٌ، ويروى
قال جامع الكتاب: لا يؤخذ على جعيفران إذ قال: يسوى والصواب: يساوي. وقد وقع في مثل هذا أبو عتاهية فقال:
ولربما سئلَ البخي ... لُ الشيءَ لا يسوى فتيلا
وقال في أبي العباس ابن الخصيب حين اتجه إلى البصرة:
ليتَ شعري أيُّ قومٍ أجدبوا ... فأغيثوا بكَ من طولِ العجفْ
نظرَ الرحمنُ بالرحمى لهم ... وجرمناكَ بذنبٍ قد سلفْ
يا أبا العباسِ، يا أحمدُ، عشْ ... وامضِ مصحوباً، فما منكَ خلفْ
ومن هجائه في جعفر:
ما جعفرٌ لأبيهِ ... ولا لهُ بشبيهِ
أضحى لقومٍ كثيرٍ ... فكلهمْ يدعيهِ
وله:
قد جاءنا شاعرٌ ظريفٌ ... يعرفُ فينا بحسنِ صوتِ
قال: أنا الحضرميُّ، قلنا ... كمْ من كنيفٍ بحضرموتِ
وحدث الثقفي قال: قدم علي جعيفران، وأنا عند أبي سعد الوصيفي، فأخرته عنده، لعسى آخذ منه شيئاً. فغفل الوصيفي عنه في العطية، وهو يلزمه عنده، ويوكل من يحفظه. فوجد الفرصة في الهرب. ولما علم الوصيفي أحضر غلمانه، وضربهم وقال: لا بد منه هذه الساعة. فتفرقوا في طلبه، فوجدوه عند دكان رجل بقال، وقد كتب رقعة، وهو يتربها. فلزموه، وأخذوا الرقعة منه، وانهزم. فحملوا الرقعة إلى صاحبهم، وإذا فيها إلى الثقفي:
يا صاحبي من ثقيفِ ... يا مؤنسي وأليفي
يئستُ من كلِّ خيرٍ ... عندَ ابنِ سعدِ الوصيفي
فرحتُ لا بطفيفٍ ... ولا بغيرِ طفيفِ
سوى طعامٍ يسيرٍ ... خلفتهُ في الكنيفِ
كأنني في خروجي ... خرجتُ من بيتِ كوفي
ومما يتمثل به من شعره:
ما جئتُ في حاجةٍ أسرُّ بها ... إلا توانيتَ، ثمَّ قلتَ: غدا
لا جعلَ الله لي إليكَ، ولا ... عندكَ، ما عشتُ، حاجةً أبدا
وله:
بتُّ ضيفاً لهشامِ ... في شرابي وطعامي
وسراجي الكوكبُ الدر ... يُّ في كلِّ ظلامِ
لا حراماً أجدُ الخب ... زَ، ولا غيرَ حرامِ
تستبينُ الجوعَ مني ... في حديثي وكلامي
ذكر عباس المشوق المجنون

كان مطبوعاً، كثير النادرة، حسن الشعر. ومن شعره لأهل البصرة:
رفضتُ بالبصرةِ أهلَ الغنى ... إني لأمثالهمُ رافضُ
منهمْ أناسٌ لا أسميهمُ ... طعمُ الندى، عندهمُ، حامضُ
وأنشد المبرد له:
أنا العباسُ أفطنُ منْ رأيتمْ ... أخذتُ بدردرياتِ الشتاءِ
إذا ما الريحُ هبتْ لي شمالاً ... وأظهرَ لي الجبابَ ذوو الغناءِ
قعدتُ في حمامِ عمروٍ ... فلم أبرحْ إلى بعد العشاءِ
وقمتُ إلى الأتونِ أبيتُ فيهِ ... بغيرِ وسادةٍ، وبلا غطاءِ
وإما خالد الموسوس، فهو خالد الكاتب. وقد ذكرناه في شعراء الكتاب. والله أعلم بالصواب.