كتاب : الفوائد والأخبار
المؤلف : ابن دريد
بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنَ الْرَّحِيْمِ
" ربّ زدني علماً " أخبرنا الشيخ الأصيل أبو بكر محمد بن الإمام الحافظ
أبي طاهر إسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن بن الأنماطي، قراءة عليه ونحن
نسمع، قيل له: أخبرنا الشيخ الجليل أبو المحاسن محمد بن السيّد بن فارس
الأنصاري الصفّار، قراءة عليه وأنت تسمع، فأقرّ به، قال: أنبانا القاضي
المنتجب أبو المعالي محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز القرشي، قال: قرأت
على أبي القاسم بن عبد المحسن بن عثمان بن غانم التِّنِّيسي القاضي
بِتنِّيس أخبركم أبو بكر أحمد بن عبيد الله بن محمد بن إسحاق، بقراءتك
عليه من أصله، ثنا أبو مسلم محمد بن احمد بن علي الكاتب البغدادي، ثنا أبو
بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزديّ، قال: أنشدنا أبو حاتم " من الطويل " :
فإِنَّ بنا لو تَعلمينَ لَغُلَّةً ... إِليكِ وما بالحائِماتِ غَليلُ
أَليسَ قليلاً نظرةٌ لو نظرتُها ... إِليكِ وكلاٍّ ليسَ منكِ قليلُ
وكنتُ إِذا ما جئْتُ أَحدثْتُ عِلَّةً ... فأَفَنْيتُ عِلاَّتي فكيفَ
أَقولُ
فما كلَّ حينٍ لي بأَرضكِ عِلَّةٌ ... ولا كلَّ حينٍ لي إِليكِ رسولُ
حدثنا أبو بكر، ثنا عبد الرحمن، عن الأصمعي، قال: سأل أعرابيُّ شيخا من
بني مروان، فقال له: أصابتنا سنون، ولي بضع عشرة بنتا، فقطع الشيخُ عليه
كلامهُ، فقال: أَمَّا الشتاء فوددتُ أنّ الله عزَّ وجلَّ ضرب بينكم وبين
السماء صفائح حديد، وجعل مَشَلَّها إلى البحر فلا يقطر عندكم قطرة، وأمَّا
البناتُ فليت الله أضعَفَهُنّ لك أَضعافا، وجعل بينهنّ أعمى مقطوع اليدين
والرجلين، ليس لهنَّ كاسب غيرك. فقال الأَعرابيُّ: والله ما أدري ما أقول
لك! لكنِّي أَراك قبيح المنظر، سَيِّء الخُلُق، وإِخالُك لئيم الأصل،
فأَعَضَّك الله بفُعول أُمَّهات هؤُلاء الجلوس حولَكَ. وانصرف عنهُ.
حدثنا أبو بكر، أنبأ عبد الرحمن، قال: قال عمي: سمعتُ إعرابيا يقولُ: اطلب
الرِّزقَ من حيثُ كُفل لك به، فإنَّ المتكَفِّل لك به لا يخيس بك، ولا
تطلبهُ ومن طالب مثلك لا ضمان لك عليه؛ إنْ وعدك أخلف، وإن ضمن بك خاس لك.
وبه، عن الأصمعيّ، قال: كانت العربُ تُسمِّي الشتاء: الناضح. فقيل لامرأة
منهم: أيُّما أشدُّ عليكم القيظُ أم القُرُّ؟ قالت: يا سبحان الله! من جعل
البُؤس كالأَذى؟ فجعلت الشتاء بؤسا، والقيظ أذى!.
حدثنا أبو بكر، ثنا أبو حاتم، عن العُتبيِّ، قال: كتب عمر بن عبد العزيز
إلى الحسن: أَمَّا بعد: فإذا أتاك كتابي فعظني وأوجز. فكتب إليه الحسنُ:
أَمَّا بعد. فأعص هواك، والسلام.
حدثنا أبو بكر بن دريد، ثنا عبد الرحمن، عن عمه، قال: سمعتُ أعرابيا يقولُ
لأبنه: كن بالوحدة آنس منك بجليس السوء، فإِنَّه ليس بحازم من استنام إلى
غير نفسهن ولا بوقور من عفَّ في غير منفعة.
حدثنا أبو بكر، ثنا الحسن بن خضر، عن أبيه، قال: أخبرني بعض الهاشميين،
قال: كنت جالسا عند المنصور بإرمينية، وهو أميرها لأخيه أبي العباس، وقد
جلس للمظالم، فدخل عليه رجلٌ فقال: إِنَّ: لي مظلمة، وإني أسألك أن تسمع
مني مثلا أضربه قبل أن أذكر مظلمتي، قال: قل. قال: إني وجدت الله تبارك
وتعالى خلق الخلق على طبقات، فاصبيُّ إذا خرج إلى الدنيا لا يعرف إلا
أُمُّه ولا يطلب غيرها، فإن فزع من شيء لجأ إليها؛ ثم يرتفع عن ذلك طبقة
فيعرف أنَّ أباه أعزُّ من أُمِّه فإن أفزعه شيء لجأ إلى أبيه؛ ثم يبلغ
ويستحكم " فيعرف أنّ سلطانه أعزُّ من أبيه " ، فإنَّ أفزعه شيء لجأ إلى
سلطانه، فإن ظلمه ظالم انتصر به، فإذا ظلمه السلطان لجأ إلى ربَّه
واستنصره، وقد كُنت في ذلك الطبقات، وقد ظلمني ابنك نُهيك في ضيعة لي في
ولايته؛ فإن نصرتني عليك وأخذت بمظلمتي، وإلاّ استنصرت الله عزَّ وجلَّ
ولجأت إليه، فانظر لنفسك أيُّها الأمير أو دع. فتضاءل أبو جعفر، وقال أعد
عليَّ الكلام، فأعاده. فقال: أمَّا أول شيء فقد عزلت أبنك نهيك عن ناحيته،
وأَمَرَ بِرَدِّ ضيعته.
حدثنا أبو بكر، ثنا الحسن بن خضر، عن أبيه، قال: مَرَّ المهديُّ على الجسر
علة بِرْذَوْنٍ له والناسُ حوله، وأعرابيُّ واقف وقال " من الطويل " :
عجبتُ لبحرٍ يَحملُ البَحر فوقَهُ ... على ظهرِ بَرِذَونٍ
حَوَاليه فَيْلَقُ
أَلا إِنَّ بِرْذَونٍ الخليفةِ لا يَني ... يَمُرُّ علينا بينَ بَحرين
يُعنقُ
تَرى تَحْتَهُ بَحراً تُغَشِّيْهِ ظُلَمةٌ ... ومِن فوقِهِ بَحْرٌ بهِ
الأَرضُ تُشرقُ
أَبِرذَونُ أَنَّي لا نَراك مُغَرَّقاً ... وَفَوقَكَ بَحْرٌ جودُ،
يتدفَّقُ
غَشيتَ بهِ أَمواجَ دِجلةَ غُدوةٍ ... فَكْادت بِهِ أَمُواجُ دجْلَةَ تغرقُ
حدثنا أبو بكر، ثنا أبو حاتم، عن الأصمعي، قال رأيتُ أعرابيا قد وضع يَدُه
بباب الكعبة وهو يقول: يا ربّ سائلك ببابك مَضَتْ أَيامُه وبقيت آثامه،
وانقطعت شهوتهُ وبقيت تَبعَتُه؛ فأرض عنه، واعف عنه، فإنما يُعفى عن
المسيء ويُتَاب على المحسن، وأنت أفضل من دعوتُ، وأكرم من رَجُوْتُ.
حدثنا أبو بكر، أنبا أبو حاتم، عن الأصمعي، قال: " قال " لنا يونس: كتب
عمر بن عبد العزيز إلى محمد بن كعب القُرَظي " أَمَّا بعد: فإذا أتاك
كتابي فعظني " . فكتب إليه إِنَّ ابن آدم مطبوع على أخلاق شتى كيس وحُمق،
وجُرأُة وجُبن، وحلم وجهل؛ فداو بعض ما فيك ببعض، وإذا صحبت فاصحب من كان
ذا نِيَّةٌ في الخير يُعنك على نفسك، ويكفيك مؤونة الناس، ولا تصحب من
الأصحاب من خطرُهُ عندك على قد حاجته إليك، فإذا انقطعت انقطعتْ أسباب
مَوَدَّتك من قلبه، وإذا غرست غرسا، من المعروف، فلا تُضق ذرعك أن
تَرَبَّة.
أنشدنا أبو بكر " قال " أنشدنا الرِّياشيُّ " من الكامل " :
لَيس الكريمُ بمن يُدنِّس عرضَهُ ... ويَرى مروءتُهُ تكرُّمَ مَن مضى
حتى يشيد بناءَهم ببنائِه ... ويَزين صالحَ ما أَتَوْهُ بما أَتَى
أنشدنا أبو بكر، قال: أنشدنا الأُشنانداني " من الكامل " :
لا تقبلَنَّ نميمةً أُنبِئْتَهَا ... وتُحرَّزَنَّ مِنَ الذي أَنباكَهَا
لا تُرسلُنَّ مقالةً مشهورةً ... لا تَستطيع إِذا مَضْت إِدراكها
إِنَّ القُرُوضَ وإِنْ تَقَادَم عَهدها ... عِنْد الكريم، إِذا يَكُونُ،
قَضْاكها
وإِذا اللَئيمُ حَبَوْتَهُ بِمَوَدَّةٍ ... قَبَضَ المَوَّدَّة كَونَهُ
يَكماكها
حدثنا أبو بكر، ثنا عبد الرحمن، أخبرني عمي، قال: كَتَبَ أعرابيٌّ إلى
خالد بن عبد الله القسري " من الكامل " :
نَفْسِي تُحَلِلُ أَنَّ تَبُثَّكَ ما بِهَا ... لا يَزْرِيَنَّ بها
لَدَيكَ حَبَائُها
إِنِّي أَتِيْتُكَ حين ضَنَّ مَعَارِفِي ... ولَرُبَّ مَعْرِفَةٍ يَقتل
غِناؤُها
فافعَل بها المعروفَ إِنَّك ماجدٌ ... فَليأْتِينُّكَ شُكُرُها وثِناؤُها
فأمر له عشرة آلاف " درهم " .
قال أبو بكر: وأنشدنا عبد الرحمن: " من الوافر " :
ولا تَقطَع أَخاً لكَ عندَ ذنبٍ ... فإِنّ الذنبَ يغفرُهُ الكريمُ
ولا تَجْعَلْ على أَحَدٍ بظُلمٍ ... فَإِنّ الظُّلَم مرتَعُهُ وخيمُ
ولا تَعنفْ عليهِ وكن رفيقاً ... فعند الرفق يلتئم الكرامُ
حدثنا أبو بكر، ثنا عبد الرحمن، عن عمه، عن يونس، قال: دخَل أعراب على
خالد بن عبد الله، فأنشدوه وفيهم رجل ساكت لا ينطق، ثم قال لخالد: ما
يمنعني من إنشادك إِلاّ قلَّةُ ما قلتُ فيك من الشعر، فأمره أن يكتب في
رقعة، فكتب: " من الطويل " :
تَعرّضْتَ لي بالجودِ حتى نَعَشْتَني ... وأَعطَيتني حتى حسبتُكَ تلعبُ
فأَنت الندى وابنُ الندى وأَخو الندى ... حليفُ الندى ما للندى عنكَ مذهبُ
فأمر له بخمسين ألف درهم.
وقال آخر، فقال: أصلحك اللهُ! قد قلت فيك بيتين، ولست أنشدها حتى تعطيني
قيمتهما. قال: وكم قيمتهما؟ قال: عشرون ألفا. فأمر له بها، ثم أنشده: " من
الكامل " :
قد كانَ آدمُ قبلَ حين وفاتِهِ ... أَوصَاكَ وهو يجودُ بالحَوْبَاءِ
بِبَنيهِ أَنْ ترعاهمُ فرعَيْتَهُمْ ... فَكَفَيْتَ آدمَ عَيْلَةَ
الأَبناءِ
فأمر له بعشرين ألف أخرى، وجَلَدَهُ خمسين جلدة، وأمر أن يُنادي عليه: هذا
جزاء من لا يحسنُ قيمة الشِّعرِ.
حدثنا أبو بكر، ثنا أبو عثمان، ثنا أبو عمر الجرمي، عن الخليل،
قال: قال بعض الحكماء: ما شيء احسن من عقل زانهُ علم، ومن علم زانه حلم،
ومن حلم زانه صدق، ومن صدق زانه عمل، ومن عمل زانه رفق، ومن رفق زانه تقوى.
قال: وأنشدني: " من الطويل " :
وأَفضلُ قسمِ الله للمرءِ عقلُهُ ... فليسَ منَ الخيراتِ شيءُ يُقَارِبُه
إِذا أَكملَ الرحمنُ للمرءِ عقلُهُ ... فقَدْ كَملَتْ أَخلاقُهُ وضَرائِبُه
حدثنا أبو بكر، ثنا عبد الرحمن، عن عمه، عن أبي عمرو بن العلاء، قال:
السَّمهريُّ العُكْليُّ في تسعة نفر هو عاشرهم، ليُصيبوا الطريق، فرأى
غُرابا واقفا على بانة، فقال: يا قوم! إنكم تصابون في سفركم، فأطيعوني
وارجعوا. فأبوا عليه، فركب زَلَزهُ فرجع. فَسَلم، وقُتل التسعةُ، فأنشأ
يقول: " من الطويل " :
رأَيتُ غُراباً واقفاً فوقَ بانةً ... يُنَشْنِشُ أَعلى ريشِهِ ويطايرُه
فقلت:، " ولو أَني أَشاءُ زجرتُهُ ... بنفسَي، للهنديِّ: هل أَنت زاجرُه
فقال " : غرابٌ واغترابٌ من النَّوى ... وبانٌ فَبْينٌ من حبيبٍ تحاذرُه
فما أَعيفَ العكليَّ لا دَرَّ دَرَّهُ ... وأَزجَرَهُ للطيرِ لا عزَّ
ناصرُه
حدثنا أبو بكر، ثنا محمد بن سعدان الساجي، أحد أصحاب الشافعيّ، حدثني عليّ
بن عبد العزيز، صاحب أبي عبيد، حدثني أبو سعيد الربعي، حدثني محمد بن يزيد
بن حبيش، حدثني رجل من إخواننا، قال: بينما أنا بعرفة، إذ أنا بامرأةٍ وهي
تقول: (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلّ)، (وَمَنْ يُضَلِلْ اللهُ
فَلاَ هَادِي لهُ) فعلمت أنَّها ضَالَّةٌ، فقلتُ: لَعَلَّك ضَالَّة؟ قالت:
(فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمان وَكُلاًّ آتَيْنا حُكماً وعِلْماً)، فَأَنختُ
بَعيري، ونزلت عنه، وحملتها، فقلت: من أين أنت رحمك الله؟ قالت: (سبحانَ
الذي أَسرى بعبدِهِ ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأَقصى). فعلمت
أَنَّها من أهل بيت المقدس، فجعلتُ أسأل عن زقاق المقدسيين، حتى انتهيت
إلى قوم فسألوها فلم تُكَلِّمْهُمْ، فقالوا: لعلها حروريَّة لا ترى أن
تكلِّمنا، فقالت: (ولا تَقِفْ ما ليسَ لكَ به علمٌ) وحَانت منها التفاتة
فرأت طرداناً قد عرفتها، فقالت: (وَعَلاَمَات وبالنجمِ هُمْ يهتدون) فعلمت
أَنَّها تريد الطرَّادات، فقصدت بها نحوها، فقلت: من أنادي؟ وعن من أسأل؟
فقالت: (يا داود إِنّا جَعَلناكَ خَليفةً في الأَرض) (يا يحيى خُذ الكتاب
بقوَّة) يا زكريَّا إِنَّا نُبَشِرُكُ بِغُلامٍ اسمُه يحيى) فعلمت أنَّها
تريد داود ويحيى وزكريا، فجعلت أقول: يا داود، يا يحيى، يا زكريا، فخرج
عليَّ ثلاثة فتيان، فقالوا: أُمُّنَا وربِّ الكعبةِ، أضللنها منذ ثلاث.
فالتفتت إليهم، فقالت: (فابْعَثُوا أَحَدَكم بِوَرِقِكم هذه إلى المدينة
فلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزكى طعاماً، فلْيأْتكُم برزقٍ منه ولْيَتَلَطَّفْ)
فعلمت أَنَّها أمرتهم أن يزوِّدني فأخذوا مزاودي فذهبوا بها إلى السوق
فملأُوها، ثم أتوني بها، فقلت: ما حالُ هذه؟ قالوا: هذه أُمُّنا، ولمم
تتكلَّم بشيء سوى القرآن منذ ثلاثين سنة خَشْيَةَ أَن تَزِلَّ.
حدثنا أبو بكر، ثنا العكليُّ، ثنا عارم أبو العمان، ثنا حماد بن سلمة عن
عليّ بن يزيد، عن قبيصة بن مهران، عن ابن عباس، أنّ بخت نَضَّر رأى فيما
يرى النائم كأنّ صنما رأسه من ذهب، وصدرُهُ من فِضَّةٍ، وفخذاه من نُحاس،
وساقاه من فِخَّارٍ، فجاء حجر من السَّماء فوقع بالرَّأس فهشم الرأس "
والصَّدر " والفخذين والسَّاقين. فسأل سَحَرَتهُ وَكَهَنَتَهُ فلم يدروا
ما هو. فسأل دانيال، فقال: أَمَّا الرأس فأنت هو، وأمَّ الصدر فابنك من
بعدك، وأمَّا الفخذان النحاس فملك الروم وهو الملك الشديدُ، وأمَّا
الساقان فملك فارس يكونُ في آخر الزمان فيه ضعف ووهن، فيجيء نبيُّ من
العرب ويهشم تلك الأصنام كلَّها حتى يكون الدِّين كلُّهُ لله عزَّ وجلَّ.
قُرئ علي أبي بكر بن دريد الأزديّ، حدثنا عبد الأول بن مُرَيد،
ثنا محمد بن سلاَّم الجمحيُّ، ثنا حمادة بن سلمة، عن شيخ من أهل البصرة،
عن الحسن، قال: أَربع قواصم الظهر: إمام تطيعه ويُضلُّك، وزوجة تأمنها
وتخونك، وجار إن علم خيراً ستره، وإن علم شراً نَشَرَهُ، وفقر حاضر لا
يجدُ صاحبُهُ عنه متلوَّماً.
وعن أبي حاتم، ثنا العتبي، قال: لما وقف سليمان بن عبد الملك يزيد بن أبي
مسلم للناس على درج دمشق نصبه للمظالم، أقبل جرير على راحلته، فقال:
أفرجوا عنّي؛ حتى وصل إليه، ثم أنشأ يقول:
كَمْ في وعائِكَ من أَموال مُوتَمَة ... شُعْث صِغَارٍ وكم خَرَّبَت من
دارِ
وبه عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة، عن يونس، قال: كان في محراب غُمدان الذي
فيه سرير الملك كتاب في صدر المحراب بالمُسنِد؛ أَوَّلُ ما تقعُ عين
الداخل عليه: سَلِّط السُّكوت على لسانك، إن كان العافية من شأنك. وفي
الجانب الأيمن: السلطان نار، فانحرف عن مكافحتها. وفي الجاني الأيسر:
وَلِّ الكلام غيرك.
أخبرنا أبو بكر، ثنا عبد الأول، عن أبيه، عن الهيثم، قال: كان خالد ابن
عبد الله القُسريُّ يقول: لا يحتجب الوالي إِلاَّ ثلاث خصال إمَّا رجل
عَييٌّ، فهو يكره أن يطلَّع الناس على عِيِّه، وإمّا رجل مشتمل على سوءة
فهو يكره أن يعرف الناس ذلك؛ وإمّا رجل بخيل يكرهُ أن يسأل.
أخبرنا أبو بكر، أنبأ أبو حاتم، عن العتبيُّ، قال: قال زياد: ما غلبني
مُعاويةُ في السياسة إِلاَّ في أمر واحد. استعملت رجلا من بني تميم فكسر
الخراج ولحق بمعاوية. فكتبت إليه: إِنَّ هذا أدب سوء، فابعث به إِليَّ
فكتب إليَّ. لا يصلح أن نسوس الناس أنا وأنت سياسة واحدةً؛ فإنا إن نشتدَّ
نهلك الناس جميعا، ونخرجهم إلى سوء أخلاقهم. وإن لنَّا جميعاً أبطرهم ذلك؛
ولكن ألين وتشتدُّ، وتلين واشتدُّ، فإذا خاف خائف وجد باباً يدخله.
وعن العتبيُّ، قال: سمعت أبي يقول: أسوأ ما في الكريم أن يكفَّ عنك خيره،
وخير ما اللئيم أن يكفَّ عنك شرَّه.
أخبرنا أبو بكر، ثنا أبو حاتم، عن العتبيُّ، قال: قال معاوية لسعيد بن
العاص: كم ولدك؟ قال: عشرة والذُّكران فيهم أكثر. فقال معاوية، (ويهبُ لمن
يشاءُ الذكورَ) فقال سعيد: (تُؤْتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء).
أخبرنا أبو بكر، أنبأ أبو حاتم، عن أبي عبيدة، عن يونس، قال: حدثني رجل
أثق به، قال: حججت مرّةً فبيننا أنا أطوف، أعرابيُّ يدعو، فشغلني عن
دعائي، فإذا هو يقول: " اللَّهم إِنَّي أسألك قليلاً من كثير، مع فقري
إليه القديم، وغنائك عنه العظيم " . اللّهُمّ إنَّ عفوك عن ذنبي، وصفحك عن
جرمي، وسترك على قبيح عملي، عندما كان من خطئي وزللي، أطمعني في أن أسألك
ما لا أستوجبه منك. اللهم أذقني من رحمتك، وأريتني من قدرتك، وعَرَّفتني
من إجابتك؛ ما صرت أدعوك آمناً، وأسألك مستأنساً، لا خائفاً ولا جلاً، بل
مُدِلاً عليك بما قصَّرت فيه إليك، فإن أبطأ عني عببت بجهلي عليك؛ ولعلَّ
إبطاءه عني خير لي لعلمك بعاقبة الأمور. فلم أر مولى كريماً أصبر على عبد
لئيم منك عَلَيَّ، لأَنَّكَ تدعوني فأَوَلِّي، وتتحَّبب إليّ فأبغض إليك
نفسي، وَتُقَدِّمُ إِليَّ فلا أقبل منك كأن لي الطول عليك، فلا يمنعك ذلك
من الرحمة والإحسان إليَّ بجودك وكرمك، فارحمني بتفضُّلك وفضل إحسانك.
قال: فخرجتُ من الطوائف، فالتمستُ صحيفة ودواةً فكتبتُ الدعاءَ.
أخبرنا أبو بكر، ثنا أبو عثمان، ثنا أبو محمد التَّوَّزي، قال: بلغني عن
عبد الله بن عمر أنّ أبناً له مرضَ فجزع جزعاً شديداًن فلما مات خرج على
أصحابه متكحلاً مُدَّهناً، فقالوا: لقد أشفقنا عليك يا أبا عبد الرحمن؛
فقال: إذا وقع القضاء فليس إلاّ التسليم.
أخبرنا أبو بكر، أنبأ أبو عثمان، عن التَّوَّزي، قال: سمعت الأصمعيَّ
يقول: لم يبتدئ أحد من الشعراء مرثية أحسن من ابتداء " مرثية " . أوس بن
حَجَر: " من المنسرح " .
أَيتُها النفسُ أَجملي جزعاً ... إِنّ الذين تحذَرينَ وقَعَا
إنّ الذي جَمَعَ السماحةَ والنَّجدَةَ ... والحَزْمَ والقوى جُمَعَا
الألمعيُّ الذي يظنُّ بكَ الظَّنَّ ... كأنْ قد رأى وقد سمعَا
أخبرنا أبو بكر، أنشدنا أبو عثمان، قال: أنشدنا التَّوَّزي لبعض
الشعراء يرثي أخا له " من الطويل " :
طَوى الموتُ ما بيني وبينَ محمدٍ ... وليسَ لِمَا تَطوي المنيَّةُ ناشِرُ
لَئِن أَوْحَشَتْ مِمَّنْ أُحبُّ مَنَازِلُ ... لقد أَنِسَتْ مِمَّنْ
أُحبُّ المقابرُ
وكنتُ عليهِ أحذرُ الموتَ وحدَهَ ... فلم يَبْقَ لي شيءٌ عَليهِ أُحاذِرُ
أنشدنا أبو بكر، قال: أنشدنا أبو حاتم " من البسيط " :
لا تأْمنِ الدَّهرَ في طَرفٍ ولا نَفَسٍ ... وإِنْ تَمَنَّعْتَ
بالحُجَّابِ والحرسِ
فكمْ رأَيتُ سهامَ الموتِ نافِذَةً ... في جَنبِ مُدَّرِعٍ منها ومُتَّرِسِ
أخبرنا أبو بكر، ثنا أبو حاتم، عن التَّوَّزي، عن الأصمعيّ، ثنا عيسى بن
عمر، قال: كان عندنا رجل لَحَّانة، فلقي لَحَّانة مثله، فقال: من أين
أقبلت؟ فقال: من عند أهلونا. فحسده الآخر، فقال: أنا والله اعلم من أين
أخذتها. من المُنْزَل. قال الله عزَّ وجلَّ: (شَغَلَتْنَا أَموالُنا
وأَهلُونا).
أخبرنا أبو بكر، ثنا عبد الرحمن، عن عمه، قال: سمعت أعرابياً يقول: فَوتْ
الحاجة خير من طَلَبِها من غير أهلها. " قال: وسمعت آخر يقول: عزُّ
النَّزَاهَة أشرف من سرور الفائدة " . وسمعت آخر يقول: حَمْل المِنَن أثقل
من الصَّبر على العُدْم.
أنشدنا أبو بكر، قال: أنشدنا أبو حاتم، " من الوافر " :
رَأَيتُ الدَّهرَ بالأَشرافِ يَكبو ... ويرفَعُ رايةَ القومِ اللِّئَامِ
كأنَّ الدَّهرَ مَوتورٌ حَقودُ ... فَيَطلبُ وِتْرَهُ عند الكرامِ
أنشدنا أبو بكر، قال: أنشدنا عبد الرحمن، عن عمه، ولم يُسَمِّي قائله " من
السريع " :
رُبَّ غَريبٍ ناصِحِ الجيبِ ... وابنِ أَبِن متَّهَمِ الغَيبِ
ورُبَّ عَيَّابٍ لهُ مَنْظَرٌ ... مُشْتَمِلِ الثوبِ على العيبِ
والنّاسُ في الدُنيا على نَقْلَةٍ ... على شبابٍ وعلى شَيْبِ
أخبرنا أبو بكر، ثنا الأُشنانداني، ثنا العلاءُ بنُ الفضل، عن أبيه، قال:
قال الأحنف: من أمر العاقل أَلاًّ يتكلّفَ ما لا يطيق، ولا يسعى لما لا
يدرك، ولا ينظر فيما لا يعنيه، ولا ينفق إلاّ بقدر ما يستفيدُ، ولا يطلب
من الجزاء إلاّ بقدر ما عنده من الغناء.
أخبرنا أبو بكر، أنبأ أبو حاتم، ثنا العتبيّ، قال: مرض أبو يعقوب الخطابي،
فكنت أعوده عنايةً بأمره، فوجدت ليلةً قد صلح ثم مات، ولم نشعر به. فقيل
لي في النوم: مات أبو يعقوب! فخرجت إلى المسجد في المنام، فإذا الناس قد
فرغوا له، وإذا رجل يقول " من السريع " :
إِذا تَوَلَّى الرجلُ النّاجعُ ... بكى عليه المسجدُ الجامعُ
فلما خرجت لصلاة الصبح، إذ هو قد مات.
أخبرنا أبو بكر، أنبأ أبو حاتم، عن العتبيَّ، قال: قال رجل من جُلساء عُمر
بن عبد العَزيز لرجلٍ سمعه يتكلَّمُ بكلامٍ أعجبه: لله أبوك! أنَّي أوتيتُ
هذا العلم؟ فقال الرجل: إِنَّما قَصَّرَ بنا عن علم ما جهلنا تركنا العمل
بما علمنا، ولو أنَّا عملنا بن علمنا لأوتينا علماً لا نقوم له أبداً.
آخر الجزء.
الأخبار الملحقة بكتاب الفوائد والأَخبار
وبالإسناد: أنا أبو محمد هبة الله بن أحمد بن طاووس المقرئ إجازةً، قال:
أنشدني عمي أبو الغنايم سعيد بن عبد الله بن طاووس ببغداد، للوزير المغربي
" من مجزوء الكامل " :
إِني أَبُثُّك من حديثي ... والحديثُ ذو شجون
غَيَّرتُ موضع مسكني ... يوماً ففارقني السُكون
قلْ لي فأَوَّلُ ليلةٍ ... في القبرِ كيف ترى أَكون
قال: وأنشدني عمي الشيخ أبو الغنائم سعيد بن عبد الله بن طاووس " من
الخفيف " :
أَيها الشَّمسُ لي حبيبٌ ومَا لي ... من جميع الورى رسولٌ إِليهِ
بَلِّغِيه إِذا طلعتِ سلامي ... واشتياقي إِذا غربتِ عليهِ
واعلميهِ بأَن جسمي وقلبي ... وفؤادي ومهجتي في يديهِ
قال: وأنشدني عمي أيضاً، لبعضهم " من البسيط " :
وأَمطرت لؤلؤا من نرجسِ فَسَقَت ... وَرداً وعَضَّت على العَّنابِ بالبَردِ
إِنسَّيهٌ لو بدت للشمس ما طلعت ... من بعدِ رؤْيتها يوماً على
أَحدٍ
قال: وأنشدني عمي أيضاً، قال: سمعتُ ابن القشيري الإمام يُنشدًُ على
الكرسيِّ في المدرسة " من الكامل " :
إِني وهبتُ لظالمي ظلمي ... وعفوتُ ذاكَ لهُ على علمي
ورأَيُتهُ أَسدى إِليَّ يداً ... لمَّا أَنَارَ بجهلهِ حِلمي
ما زال يظلمُني وأَرحمُهُ ... حتى رَثيتُ لهُ من الظُّلمِ
وأخبرنا أبو بكر محمد بن الأنماطي، أنا الشيخ أبو المحاسن محمد بن السيّد
ابن فارس الأنصاري، قراءةً عليه، أنا القاضي أبو المعالي محمد بن يحيى:،
إجازةً، أنا أبو عبد الله محمد بن علي بن أحمد بن المبارك السُّلمي
البزَّاز، قراءةً عليه، أنا أبو عثمان الصابوني، ثنا أبو منصور حَمشاذ،
ثنا أبو جعفر الرزار ببغداد، ثنا إسحاق بن إبراهيم الخُتَّلي، قال: أنشدني
محمد بن عبد الله المؤَذن " من البسيط " :
كُلٌّ يدورُ على البقاءِ مُؤَمِّلاً ... وعلى الفَنَاءِ تُديرُهُ
الأَيَّامُ
والموتُ يَعملُ والعيونُ قريرةٌ ... تلهو وتعبثُ بالفتى وتنامُ
ومحمدٌ لكَ إِن سَلكتَ سَبيلَهُ ... في كلِّ خيرٍ قائدٌ وإِمام
وما كلُّ شيءٍ كانَ أضو هن كائنٌ ... إِلاَّ وقد جَفَّت بهِ الأَقلامُ
فالحمدُ لله الذي هو دائمٌ ... أَبدا وليسَ لِمَا سواهُ دوامُ
والحمدُ لله الذي لِجلالِهِ ... ولِحلمِهِ تتصاغَرُ الأَحلامُ
سُبحانهُ مَلِكٌ تعالى ذِكرُهُ ... فَلوجهِه الإِجلالُ والإِكرامُ