كتاب : البديع في وصف الربيع
المؤلف : أبو الوليد الإشبيلي

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم. قال أبو الوليد إسماعيل بن محمد بن عامر رحمة الله تعالى ورضوانه عليه: أما بعد حمد الله على فضله المتناهي، والصلاة والسلام على خاتم رسله وناهج سبله، فإن أحق الأشياء بالتأليف، وأولاها بالتصنيف ما غفل عنه المؤلفون، ولم يعن به المصنفون مما تأنس النفوس إليه، وتلقاه بالحرص عليه. وفصل الربيع آرج وأبهج، وآنس وأنفس، وأبدع وأرفع من أن أحد حسن ذاته أو أعد بديع صفاته. وحسبي بما يعلم الكل منها، ويخبر به الجميع عنها، شهيداً لما نقلته، دليلاً على ما قلته، وهو مع هذه الصفات الرائقة، والسمات الشائقة، والآلات الفائقة، لم يعن بتأليفه أحد، ولا انفرد لتصنيفه منفرد.
قال مؤلفه أبو الوليد رحمة الله عليه: فلما رأيت ذلك جمعت هذا الكتاب مضمناً ذلك الباب، ولست أودعه إلا ما أذكره لأهل الأندلس خاصة في هذا المعنى، إذ أوصافهم لم تتكرر على الأسماع، ولا كثر امتزاجها بالطباع، فتردها شيقة، وترودها تيقة، وإنما ذلك لتضييع أهل بلدهم لأكثرها، وغفلتهم عن جلها إنكاراً لفضلها مدة بقاء أهلها، فإذا انقرضوا تأسفوا بقدر ما كانوا تعسفوا، وحينئذ لا يجدون إلا قليلاً يغيب في كثيرها، وثماداً يفيض عند بحورها، ولعمري إن هذه العلة مما صححت استغرابها، وأكدت استحسانها واستعذابها.
وأما أشعار المشرق، فقد كثر الوقوف عليها، والنظر إليها، حتى ما تميل نحوها النفوس، ولا يروقها منها العلق النفيس، مع أني أستغني عنها ولا أحوج إلى ذكرها بما أذكره للأندلسيين من النثر المبتدع، والنظم المخترع، وأكثر ذلك لأهل عصري إذ لم تغب نوادرهم عن ذكري.
وأما من بعد عصره، وكم فيهم من جليل قدره، فقلما أوردت لهم شيئاً للعلة التي تقدم ذكري لها من إهمالها وتضييعها.
ولأهل المشرق في تأليف أشعار شعرائهم، وتدوين أخبار علمائهم، الفضل علينا والسبق لنا، حتى لقد يجمعون خشينها مع حسنها، ويضيفون لحنها إلى لحنها، لا قلة ميز بها بل تحرجاً عن تركها. ولو جرى أهل الأندلس على تلك الطريقة لأوردت على الحقيقة أمثال ما أوردت وأضعاف ما اجتلبت. لكن أهل المشرق على تأليفهم لأشعارهم، وتثقيفهم لأخبارهم مذ تكلمت العرب بكلامها، وشغلت بنثرها ونظامها إلى هلم جرا..،لا يجدون لأنفسهم من التشبيهات في هذه الموصوفات ما وجدته لأهل بلدي على كثرة ما سقط منها عن يدي بالغفلة التي ذكرتها عنها، وقلة التهمم بها، وعلى قرب عهد الأندلس بمنتحلي الإسلام، فكيف بمنتحلي الكلام، ولو تأخروا في إدراك المشرقيين في كل نحو وغرض، وتقهقروا عن لحاقهم في كل جوهر وعرض، لكانوا أحقاء بالتأخر، أحرياء بالتقهقر. فكيف يرى فضلهم وقد سبقوا في أحسن المعاني مجتلى، وأطيبها مجتنى، وهو الباب الذي تضمنه هذا الكتاب، فلهم فيه من الاختراع الفائق، والابتداع الرائق، وحسن التمثيل والتشبيه، ما لا يقوم أولئك مقامهم فيه. والفضل في هذا الصنع الجميل لذي الوزارتين القاضي الجليل المنقطع المثيل، ولابنه الحاجب الشهاب الثاقب نثره عباد، ورحمة الله على العباد مولي وسيدي أبقاهما الله ستراً علي. فهما اللذان أقامت مقعد الهمم يد اهتبالهما. وأمطرت أرض الفطن سماء أفضالهما، فدرت الدرر من تلك الفكر التي يسعيان لتحصين مرادهما وتحسين مرادهما.

وتأمل أيها الناظر في كتابي تأمل اليقظ المتقد، والمميز المنتقد تر أغرب التشبيهات، وأعجب الصفات، وأبرع الأبيات، وأبدع الكلمات لمن كان حواليهما من مسند إليهما، معول عليهما، ومتصرف بين أيديهما، ومتورك على أياديهما. وإنما ذلك لترادف إحسانهما، وتعاقب امتنانهما وقديماً قيل: اللها تفتح اللها، وبقدر ذلك أعملوا الفكر، وأنعموا النظر، فنظموا في جودهما درراً من الكلام، لا تسلك على سلكها غير الأيام، وكسوا جميل فعلهما جملاً من الجمال تبقى بقاء الليالي. فلله درهما من ملكين نفقا سوق الأدب الكاسدة، وأصلحا حال العلم الفاسدة فكثر المنتحلون لها والمتحلون بها، ولولاهما - أطال الله بقاءهما وأدام اعتلاءهما - ما انفردت لهذا التأليف، ولا شغلت فكري بهذا التصنيف، ولا منيت نفسي به، ولا وثقت بها في ترتيبه. لكن بفضلهما الجزيل، وفعلهما الجميل، لاح السبيل، وعلمت كيف أقول، فجزاهما الله عما يوليان من الأيادي الحسان التي تداركتنا وقد بلغت القلوب حناجرها، وشحذت الخطوب خناجرها، وكشرت النوب عن أنيابها، وأدالت الأيام إعتابها بعتابها جزاء يجوز رضاهما، بل يجوز مناهما، وبعد العجز عن استيعاب جزيل إفضالهما، واستكمال جميل إقبالهما، فنعود إلى ما وعدنا به، ونجتلب ما بيننا على اجتلابه، وبالله ذي الجلال والإكرام العون على البدء والتمام.

باب
ما جاء في الربيع والأنوار من البديع المختار
قال أبو الوليد إسماعيل بن عامر: من الصواب في الدواوين، والحذق في التواليف أن يضاف المثل إلى مثله، ويقرن الشكل بشكله، فيقصد الطالب أي معنى شاء فيجد مقصده، ويعتمد القارئ أي فصل أراد فيلفي معتمده.
وهذا الباب كثير الفصول، غزير الفروع والأصول، على قلة الوصف له، والقول فيه، لكني رددته إلى ثلاثة فصول، وقصرته عليها، وقيدته بها.
فالفصل الأول: القطع في الربيع التي لم يسم فيها نور، ولا قصد بوصفها منه نوع.
والفصل الثاني: القطع التي لم تنفرد بوصف نوار، بل اشتملت على وصف نورين أو أنوار.
والفصل الثالث: في القطع المنفردة كل واحدة منها بنور على حدة، فمن طلب شيئاً قرب عليه وجدانه، ولم يغرب عنه مكانه.
وبعد الرغبة في التسديد والتوفيق والهداية إلى سواء الطريق، نبدأ بالفصل الأول في الربيع، ونذكر:
الفصل الأول
القطع التي لم يسم فيها نور
ولا قصد بوصفها منه نوع
قال أبو الوليد: من المستحسن في هذا الباب قول أبي عمر أحمد بن عبد ربه:
وروضة عقدت أيدي الربيع بها ... نوراً بنور وتزويجاً بتزويجِ
بملقح من سواريها وملقحة ... وناتج من غواديها ومنتوجِ
توشحت بملاة غير ملحمة ... من نورها ورداء غير منسوجِ
فألبست حلل الموشي زهرتها ... وجللتها بأنماط الديابيجِ
سواريها: سحائبها الآتية ليلاً، من السرى، وهو سير الليل. وغواديها: الآتية في الغداة.
ومن غريب الوصف في عجيب الرصف قول أبي عمر أحمد بن فرج الجياني:
أما الربيع فقد أراك حدائقا ... لبست بها الأيام وشياً رائقا
فكأنما تجتر أذيال الصبا ... فيها البروق أزاهراً وشقائقا
متقسمات بينها وسم الهوى ... تحكي المشوق تارة والشائقا
من قانيء خجل وأصفر مظهر ... للوجد كالمعشوق فاجا العاشقا
وكأنما نثرت على أجفانها ... غر السحائب لؤلؤاً متناسقا
فإذا الصبا لعبت به في روضة ... ذكر الفراق بها بكى وتعانقا
شبه اضطراب النوار بالرياح وقرب بعضها من بعض، وسقوط الندى منها بذلك الاضطراب بالتعانق عند الفراق والبكى من أجله. ولأبي عمر أيضاً فيه قطعة غريبة التشبيه وهي:
يا غيم أكبر حاجتي ... سقي الحمى إن كنت تسعفْ
رشف صداه فطالما ... روى الصدى فيه الترشفْ
واخلع عليه من الربي ... ع ووشيه برداً مصنفْ
حتى ترى أنواره ... وكأنها أعشار مصحفْ
وتخال مرفض الندى ... في روضه شكلاً وأحرفْ

وكتب عمر بن هشام إلى صديق له يستدعيه في رأس الربيع من جنة له فأحسن إحساناً يقرب على من تأمله ويبعد على من رامه: كتبت والأرض تستطير باستطارة شوقنا إليك، وتهم أن تستقل بنا نحوك إذ صرنا بروضة استعارت لون السماء بخضرتها، وزهر نجومها بأنوارها، وبدور تمها بأقمارها. فقد افترشنا ثوب السماء، وحوينا زهرة الدنيا، وبيننا متطلعة إليك بأعناق الغزلان ولسمع حسك مصيخة الآذان، فإن عجلت قهقهت طرباً، وتبودرت نخبا، وإن أبطأت أظلم في أعيننا النور، وكادت الأرض بنا تمور، والسلام.
قال أبو الوليد: في آخر هذه الرسالة من وصف الكؤوس، وسرور النفوس بمن خوطب فيها وكوتب بها ما لم أعدبه، ولاقصدت قصد ذكره لكني لو فصلته منها لأخللت بها، فمن الأشياء أشياء يزداد حسنها بما وصلت به، وقرنت معه، وربما أن في كتابي مثل هذا فمن رآه فليعلم أني إنما أسعى في استكمال الحديث واستيعاب الخبر لئلا أخل بما ابتدئ به بالنقص منه، ولست أفعل هذا إلا فيما يكون تبعاً لما أقصد إلى جمعه وأشغل بتأليفه.
ولذي الوزارتين القاضي - أدام الله عزه ووصل حرزه - قطعة نثر، بل نفثة سحر، جاوب بها أبا عامر بن أبي عامر - رحمه الله - وقت كونه بإشبيلية وقد كتب إليه يسأله إباحة الخروج له إلى بعض ضياعه للتنزه في فصل الربيع. والقطعة بعد صدرها: وقفت على كتابك - أكرم به - وفهمت ما تضمنه وهي أوقات التنزه وأحيان التفرج فقد أشرقت الأرض وزهي الروض وأقبل فصل الربيع بكل حسن بديع، وأفصحت الطير بعد عجمتها، وأبدت النواوير غرائب زهرتها، وكست الورق شجرها وغطت الزروع مدرها فلست ترى إلا خضرة تسطع وثماراً تينع تجلو الصدى من الكبد الحرى وتزيح الأسى عن النفوس المرضى، وقد قال عليه السلام: " روحوا الأنفس فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد " وهذا كله بما من الله به من الغيث المغيث، فله الشكر واصباً والحمد دائماً على آلائه التي تترى ونعمه التي لا تحصى وهذا فيض بديهته وعفو سجيته، ولو روى لكان أرفع على أن لا أرفع، وأبدع على أن لا أبدع حرس الله حوباءه، وصان ذكاءه. ومن البديع في وصف الربيع ما جاء به أبو عمر يوسف بن هارون الرمادي في قصيد يمدح به الوزير ابن بلشر فقال بع صدرمنه:
على روضة قامت لنا بدرانك ... وقام بنا فيها الذباب بمسمع
إذا ما شربنا كأسنا صب فضلها ... على فضل كأس المسمع المتخلع
كأن السحاب الجون أعرس بالثرى ... فلاح شوار الأرض في كل موضع
رياض يضاحكن الغزالة بعدما ... بكت فوقها عين السماء بأربع
كأن سرور الأرض خزن سحابها ... إذا ما بكت لاحت لنا في تصنع
كأن سرور الأرض حزن سحابها ... إذا ما بكت لاحت لنا في تصنع
حبائب لا يسمحن إلا بلحظة ... وشمة أنه للمحب الممتع
بدائع ما أبدى الوزير بنانه ... إلى صكه إلا أتانا بأبدع
شبهخط ممدوحه بالربيع في حسن منظره، وجمال مخبره، ودخوله إلى المدح في هذا الموضع مفضل له مستحسن منه والغزالة: الشمس يقال: طلعت الغزالة ولا يقال: غابت الغزالة وقال الأصمعي الغزالة: وقت طلوع الشمس وليست الشمس والجون من الأضداد يكون الأبيض والأسود. وهو هاهنا الأسود والتصنع التحسن والتزين.
ومن حسن ماله في هذا المعنى قوله في قصيدة يمدح العارض أحمد بن سعد بعد وصف سحابة ورعد وبرق وهو:
كست الأرض بساطاً رائقاً ... بطنها سداه والأرض تسج
أخرجت أسرارها إذ أحرجت ... رب سر أحرج الصدر خرج
كمحب ضاق وجداً صدره ... فبدا ما كان في الصدر اختلج
صاح إن يبهجك وجه حسن ... فليكن وجه الربيع المبتهج
أعرس الروض ومن قيناته ... أم من خالف في الاسم السمج
تتغنى أولاً في رجز ... فإذا امتدت تغني في الهزج
ثم دخل إلى المدح كدخوله المتقدم فقال:
وكأن الروض من خط أبي ... بكر العارض وشي ودبج
قيناته: مغنياته، واحدتهن قينة. ومن خالف في الاسم السمج أراد أم الحسن لأن الحسن ضد السمج. ولأبي عمر أيضاً قطعة حسنة يصف فيها الربيع من قصيد مطول بديع التشبيهات بديع الصفات يمدح به أبا علي البغدادي - رحمه الله - والقطعة بعد صدر من القصيد:
في إثرها وقعت ملاحم تجتلي ال ... تأريخ بين سحائب ومحولِ

فكأنها جيش بدهم خيول ... غاز إلى جيش بشهب خيول
قامت رواعدها يدق طبول ... في حربها وبروقها بنصول
ولت جنود المحل ثم تحصنت ... في قلب كل متيم معذول
بكت السحاب على الرياض فحسنت ... منها غروساً من دموع ثكول
فكأنها والطل يشرق فوقها ... وشي يحاك بلؤلؤ مفصول
غلبت على شمس النهار فألبست ... منها ظهيرتها ثياب أصيل
فنزلت في فرش الرياض ولم يكن ... ليحوزها مثلي بغير نزول
سلب العمامة بيننا متعمم ... لطمت سوالفه يدا مغلول
فوضعت في فمه فعل الذي ... يهوى بريق حبيبه المعسول
غنى الطراة من الذباب لنا بها ... طرباً فهجن شمائلاً بشمول
روض تعاهده السحاب كأنه ... متعاهد من علم إسماعيل
قوله:فكأنها جيش بدهم خيول البيت، شبه السحاب في اسودادها بالخيل الدهم، والأرض في ابيضاضها قبل النبات بالخيول الشهب، وهذا من أبدع ما أستعير لهذا الموضع ومما حسنه ذكر الغزو بينهما وقوله: سلب العمامة بيننا متعمم البيت أراد ظرف الخمر الذي تسميه العامة الكوز. شبه مقبضه في عنقه بيدي مغلول. وعمامته فدامه وهو من مخترعاته الطريفة، ومبتدعاته الشريفة.
ووما حسن له - رحمه الله - في هذا المعنى قطعة من قصيدة شأي فيها من تقدم يمدح بها ابن القرشية وهو عبد العزيز بن المنذر بن عبد الرحمن الناصر لدين الله بعد أبيات غريبة في صفات عجيبة وهي:
تأمل بإثر الغيم من زهرة الثرى ... حياة عيون متن قبل التنعم
كأن الربيع الطلق أقبل مهدياً ... بطلعة معشوق إلى عين مغرم
تعجبت من غوص الحيا في حشا الثرى ... فأفشى الذي فيه ولم يتكلم
كأن الذي يسقي الثرى صرف قهوة ... تنم عليه بالضمير المكتم
أرى حسناً في صفحة قد تغيرت ... كبشر بدا في الوجه بعد التجهم
ألا يا سماء الأرض أعطيت بهجة ... تطالعنا منها بوجه مقسم
وإن قالت الأرض المنعم أرضها ... لي الفضل في فخر عليك فسلمي
فخضرة ما فيها يفوقك خضرة ... ونوارها فيها ثواقب أنجم
وإن جئتها بالشمس والبدر والحيا ... مفاخرة جاءت بأسنى وأكرم
بعبد العزيز ابن الخلائف والذي ... جميع المعالي تنتمي حيث ينتمي
ودخوله في هذ الموضع إلى المدح ومفاخرته بين السماء والأرض من المعاني التي سبق فيها واستولى على الأمد بها. وقوله: كأن الذي يسقي الثرى صرف قهوة البيت شبه فيه إفشاء الأرض نوارها وخضرتها بالمطر بإفشاء المرء أسراره المكتومة بالقهوة وقوله ينم مستقبل من النميمة يقال: ينم بكسر النون وضمها والكسر أفصح وقوله: بوجه مقسم أي محسن من القسام وهو الحسب وقوله: فسلمي أراد: فأذعني لها وأقر بفضلها ولعبد الملك بن النفيل قطعة محكمة في هذا المعنى كتب بها إلى المنصور بن أبي عامر رحمه الله بأرملاط:
انظر إلى حسن الزمان كأنما ... يلقاك عن بشر لوجهك مبشر
بكت السماء على الربى فتبسمت ... منها ثغور عن عقائل جوهر
أهدى الربيع إليه سكب سمائه ... فكسا الثرى من كل لون أزهر
ضحكت متون الأرض عند بكائه ... عن أبيض يقق يروق وأصفر
وكذاك لم تكشف سريرة روضة ... يوماً بأفصح من غمام ممطر
غيث أرانا كل نور ضاحكاً ... متطلق منها بنور أنور
متبختر في مشيه فكأنه ... ثان لها عطفاً وكاسر محجر
وكأنما زهر الرياض كواكب ... حسرة لنا عن كل أزهر مقمر
فصل السرور بقهوة مشمولة ... تغنيك عن قبس ومسك أذفر
شبه بشر الزمان ببشر وجه ممدوحه في أول بيت وشبه ضياء الخمر بالقبس وريحها بالمسك إذأقام مقامها في أخر بيت.
وللكاتب أبي الأصبغ عيسى بن عبد الملك بن قزمان من جملة قصيد مطول قطعة في هذا المعنى وهي إثر وصف البرق:
كم ذا أكن ضميره من روضة ... والغيث ملآن بنور زاهر
يخفي ويضمره الحيا فكأنه ... بحر تستر فيه نور جواهر
حتى إذا ما عانق الروض الثرى ... طلعت أوائل نبته المتظاهر
متخالفات في الربى فنظائر ... حسناً وفي الألوان غير نظائر
ترنو إليك جفونها عن أعين ... أحلى وأملح من عيون جآذر

لا شيء أحسن منظراً إذا قسته ... أو مخبراً من حسن روض ناضر
إن جئته أعطاك أجمل منظر ... أو غبت زادك في النسيم الحاضر
وقال أبو أيوب بن سليمان بن بطال المتلمس في هذا المعنى فأحسن:
تبدت لنا الأرض مزهوة ... علينا ببهجة أثوابها
كأن أزاهرها أكؤس ... حدتها أنامل شرابها
كأن الغصون لها أذرع ... تناولها بعض أصحابها
وقد أعجب النور فيها الذباب ... فيهزج من فرط إعجابها
كأن تعانقها في الجنوب ... تعانق خوذ وأترابها
كأن ترقرق أجفانها ... بكاها لفرقة أحبابها
مزهوة مفعولة من الزهو ومعناه متعجباً من حاله متكبراً لجمالها وترقرق الأجفان امتلاؤها بالدمع واستعارها للنور أجفانا.
وقال محمد بن مسعود البجاني فأحسن في الوصف كل الإحسان:
أما ترى الأرض ألبست حللاً ... من نسج أيدي السحائب الصوب
كأن أشجارها وقد كسيت ... بدائعها من حليها المعجب
من أحمر كالعقيق منظره ... وأصفر كالفريد لم يثقب
وأبيض فوقه سقيط ندى ... كماء ورد في عنبر أشهب
وثمر في الغصون تحسبه ... جامد مر في الجو لم يسكب
أو أنجم الشرق بان مطلعها ... فسرنا من مشرق إلى مغرب
خرائد يلتقينا في عرس ... تسكن حيناً وتارة تلعب
والماء يجر ي خلال ساحتها ... كأنه جسم فضة ذوب
للصبا نفحة تذكرنا ... طيب نسي الصبا فما أطيب
والطير في أيكها مغردة ... كأنها في منابر تخطب
أعجب بها من نواطق خرس ... توجز حيناً وتارة تسهب
تفهمني عجمة بألسنها ... معنى الكلام المبين المعرب
وللوزير أبي عامر بن شهيد رحمه الله في الربيع قطعة عجيبة من قصيدة طويلة مشتملة على أوصاف سواها مسغتربة ومعان غيرها مستعذبة والقطعة:
سهر الحيا برياضها ... فأسالها والنور نائم
حتى اغتدت زهراتها ... كالغيد باللجج العوائل
من ثيبات لم تبل ... كشف الخدود ولا المعاصم
وصغار أبكار شكت ... خجلاً فعاذت بالكمائم
حييت بطوفان الحيا ... فتضاحكت والجو واجم
أصناف زهر طوقت ... درر تذوب بكف ناظم
من باسم باك إلي ... ك ند وباك وهو باسم
وقال الوزير أبو عامر بن مسلمة يصفه بوصف أبدع فيه وأغرب وأنبأ عن حذقه وأعرب، أنشدنيه موصولاً بوصف الحاجب - أدام الله عزه ووصل حرزه - وهو:
أهلاً وسهلاً بوفود الربيع ... وثغره البسام عند الطلوع
كأنما أنواره حلة ... من وشي صنعاء السري الرفيع
أحبب به من زائر زاهر ... دعا إلى اللهو فكنت السميع
بث على الأرض درانيكه ... فكل ما تبصر منها بديع
كأنما الحاجب ذو المن وال ... م إحسان إسماعيل مولى الجميع
أهدى إليه طيب بأخلاقه ... فنحن منها دهرها في ربيع
لا زال يبقى سالماً ما دعت ... قمرية في فنن ذي فروع
قال أبو بكر عبادة بن ماء السماء يصفه بأوصاف بديعة وتشبيهات رفيعة وبدأ بذكر السحابة:
ولعوب عشقت روض الثرى ... فهي تأتيه على طول البعد
فيرى الروض إذا ما وصلت ... أرج العرف من الطيب الجسد
عطراً ملتبساً ملتحفاً ... في سرابيل من الحسن جدد
كمحب زار محبوب له ... فتحلى للقاه واستعد
وإذا ما ودعت أبصرتها ... في نحول العاشق الصب الكمد
تلحظ النور بلحظ فاتر ... مثل جفن حائر فيه رمد
وجفون النور تهمي بالبكاء ... كجفون الصب من فقد الجلد
فهما في حيرة عند النوى ... كمحبين أحسا بالبعد
ولأبي بكر أيضاً قطعة بديهية وهي:
أما ترى باكراً النور الذي نجما ... كأنه آيب من غيبة قدما
والقطر ساق له والبرق يعجله ... سقياه فعلة داعي الشرب بالندما
كأنه سلك در حل أو كلف ... بكى فلما دنا محبوبه ابتسما
كأنه مبدئه في الأفق منتثراً ... أعاده في أنيق الروض منتظما
فلا ترد على الساقي حكومته ... فإن دين الهوى راض بما حكما

أشار إلى حسن الساقي في آخر بيت وأحسن منها مجتلى وأطيب مجتنى في هذا المعنى ما أنشدنيه لنفسه الفقيه أبو الحسن علي ممتزجاً يمدح الوزير أبو بكر عبد الله ذي الوزارتين القاضي - أعزهما الله - وهو:
قد قلت للروض ونواره ... نوعان تبري وفضي
وعرفه مختلف طيبه ... صنفان خمري ومسكي
ووجه عبد الله قد لاح لي ... وهو من البهجة دري
شم غرسك الأرضي إن الذي ... أبصرته غرس سماوي
حسنك نوري بلا مرية ... وحسن عبد الله نوري
أضحى صغير وهو في قدره ... نيلاً كبير الشأن علوي
قوله شم أمر من شام يشيم إذا سل وأغمد من الأضداد وهو ها هنا الأغماد ومعنة القطعة أنيق ومغزها دقيق. ومن الصفات المطبوعة في الكلمات المصنوعة قطعة لأبي الحسن أنشدنيها وهي:
وقفت على الروض في يوم طش ... وللدجن ظل كظل الغبش
وقد صقل الطل نواره ... وأذهب ما فوقه من نمش
فما غصن يشتكي عطلة ... ولا شجر يتشكى عطش
ترى النبت صنفين من بهجة ... فمن مستقل ومن منفرش
ومن لابس ثوب طاووسة ... ومن مترد موشي الحنش
وفص من النور لم ينتقش ... وثان لطبع المنى قد نقش
جمال يحير لب الفتى ... ويكسبه من شرور دهش
ومن النهاية في الحسن والإحسان قول أبي عبد الله بن محمد بن سليمان المعروف بابن الحناط في قصيد أوله:
راحت تذكر بالنسيم الراحة ... وطفاء تكسر الجنوح جناحا
يعني السحاب ثم خرج من وصفها بعد أبيات إلى وصف الروض فقال:
جادت على التلعات فاكتست الربا ... حللاً أقام لها الربيع وشاحا
فانظر إلى الروض الأريض وقد غدا ... لبكا الغوادي ضاحكاً مرتاحا
والنور يبسط نحو ديميتها يداً ... أهدى لها ساقي الندى أقداحا
وتخاله حيي الحيا من فوحه ... بذكيه فإذا سقاه فاحا
وأخبرني الفقيه أبو الحسن بن علي قال: كان في داري بقرطبة حائر صنع فيه مرج بديع وظلل بالياسمين فنزهت إليه أبا حفص التدمري في زمن الربيع فقال: ينبغي أن تسمي هذا المرج السندسة وصنع على البديهة أبياتاً تشاكل هذا الباب وتطابق غرض الكتاب وهي:
نهار نعيمك ما أنفسه ... وربع سرورك ما آنسه
تأمل ... وقيت ملم الخطو ب فعل الربيع وما أسسه
بحائر قصرك من صوغه ... دنانير قد قارنت أفلسه
وأسطار نور قد استوثقت ... وسطر على الغمر قد طلسه
ونبت له مدرع أخضر ... بصفرة أصباغه ورسه
فأبدع ما صاغ لكنه ... أجل بدائعه السندسه
مدارعها خضرة غضة ... أعاد النعيم لها ملبسه
كأن الظلال علينا بها ... أواخر ليل على مغلسه
كأن النواوير في أفقها ... نجوم تطلعن في حندسه
ومهما تأملت تحسينها ... فعيني بقرتها معرسه
محل لعمرك قد طيب ال ... إله ثراه وقد قدسه
المغلسه جمع مغلس وهو الداخل في الغلس. ولصاحب الشرطة أبي بكر القوطية في هذا المعنى الذي غرضت في كتابي وقصدته بتأليفي نوادر مبتدعة ومعاني مخترعة وقطعة من السحر مقتطعة ستقع في أبوابها وتوضع مع أشكالها فمن بديع ما أنشدنيه قوله:
ضحك الثرى وبدا لك استبشاره ... واخضر شاربه وطر عذاره
وربت حدائقه وآزر نبته ... وتفطرت أنواره وثماره
واهتز ذابل نبت كل قرارة ... لما آتى متطلعاً آزاره
وتعممت صلع الربا بنباتها ... وترنمت من عجمة أطياره
وكأنما الروض الأنيق وقد بدت ... متلونات غضة ألوانه
بيض وصفراً فاقعات صائغ ... لم ينأ درهمه ولا ديناره
سبك الخميلة عسجداً ووذيلة ... لما غدت شمس الظهيرة ناره
فتوسد الديباجة وافترشنا له ال ... وشي الذي من غير صنع داره
وتصوغت ريح الرياض كأنما ... فت العبير بأرضها عطاره
فاشرب إذا اعتدل الزمان ووزنه ... وإذا استوى بالليل نهاره
شبه الروض بالصائغ وأبيض نوره وأصفره بدراهمه ودنانيره والخميلة: مسترق الرمل والوذيلة: الصفيحة من الفضة وجمعها على فعائل وأبدع من هذا وأطبع ما أنشدنيه لنفسه:
لما رآى العام زمان الربي ... ع الطلق قد نشر عرف الكبى

أجرى إلى غايته مجهداً ... فكلما رام لحاقاً كبا
والنور قد بث دنانيره مفضضاً ... إن شئت أو مذهبا
إستعمل الحيلة لما ونى ... ولم يجد عن قصده مذهبا
فقال: أسلفني يوماً بشه ... ر فأجابته رياض الربا:
هذا الربا والله في وحيه ال ... منزل قد حرم فعل الربا
ومما يوازي هذه القطعة دقة ويشاكلها رقة قوله:
قد أخذ الأفق في البكاء ... واغرورقت مقلة السماء
فالأرض إن أظهرت جفاء ... أرسل عينيه بالبكاء
كأنه عاشق مشوق ... يشكو هواه إلى الهواء
مرجياً أن يلين منها ... ما أظهرته من الجفاء
حتى إذا راضها سفيراً ... صدت بوجه من الحياء
وانتقبت بالنبات عنه ... والتحفت عنه في رداء
وللوزير الكاتب أبي حفص بن برد في هذا المعنى قطعة نثر مقطعة من السحر في رسالة كتب بها عند صدره من دانية إلى الوزير الكاتب أبي إسحاق بن حمام وقد خرجا متنزهين في ما يقرب من مدينة قرطبة في زمن الربيع يصف حسن شمائلها ويورد شرف فضائلها وهي - أعني القطعة - بعد صدر: كيف شاهدت أنهارها وقد درت عليها أخلاف الأنوار فأتأفتها؟ وأنوارها وقد سرت إليها خيالات الأنداء فأرقتها؟ وكيف تأملت الربيع وقد صاغ لمفارقها تيجانا؟ وفتق لمعاصيمها أردانا؟ فكأنما راسلت الأرض زهر النجوم مع كدر الغيوم أن تبديها عند جلائها؟ في هيئة سمائها. وكيف عاينت انشقاق تلك الأباطح عن نهرها السابح؟ كأنه فضة تحتها نار، فليس لها أبداً قرار، يلبس للريح لأمه، ويسل على الشمس صمصامه.
قوله: أخلاف الأنواء من حسن الاستعارة. وأتأأقتها: ملأتها. وبعد هذا وقبله من المعاني الطريفة، والنوادر الظريفة، ما يحل من الأسماع محل السماع، ويجري على الأفواه مجرى الأمواه، ولكنها ليست مما قصدت إلى جمعه، ولا عنيت بذكره.
قال أبو الوليد: فجاوبه الوزير الكاتب أبو إسحاق بن حمام عن تلك المعاني بشكلها براعة وبزاعة، وعلى تلك الفصول بمثلها صياغة وصناعة، وفي آخر جوابه أوصاف في أصناف النواوي، وتشبيهات لأنواع الأزاهير تعجب متأمليها، وتعجز متتبعيها، وهي إثر ذكر الأنواء: قد نسجت لها من زهر الربيع حللاً، وسقتها من مججتها عذباً غللاً، وأطلعت فيها آثار الغيوم أشباه النجوم، فازدانت بأبهج لبوس، وبرزت للناظرين في حلي العروس، كأنما اختلست لفظك فلبسته، أو أمكنها كلامك فتوشحته، فمن قانيء صبغ الهواء غلائله، وغذت السماء خمائله، لا يشتكي من نداها بشرق، ولا يبيت من ظمأ على فرق حتى بدا في لون شفق، فكأنما شرب رحيقاً،أو لبس عقيقاً أو كأنما خاف عدلاً فاحمر خجلاً. يحمل من طله فرائد. كأنها أدمع خرائد. أو فاقع يجنيك تبراً، ويريك من لونه سحراً، يلقاك من حسنه في أجمل منظر، ويختال من جلابيبه في معصفر، كأنما خافت هجراً، واستشعرت ذعراً. ترنو إليك بمقل حسان لا تنطبق منها الأجفان. فكأنما تشكو سهراً، أضعف منها نظراً إلى تحاسين قد لبست ثوب بهائها وضحكت عند بكاء سمائها. تروقك من حسنها فنون، وترنو نحوك منها عيون. فمن بصير وأكمه، وكحيل وأمره.
قوله: عذباً غللاً، الغلل: الماء الجاري بين الأشجار عن الأصمعي. أبو عبيدة: الغلل: الماء الظاهر الجاري، وهو الغيل أيضاً والقانيء: الأحمر. والفاقع: الأصفر. ويقال في الأسود: حالك وحانك. وفي الأبيض: يقق والأكمه: المولود أعمى. والأمره: الذي لا يكتحل.
ومن السني البديع، والسري الرفيع، في فصل الربيع ما أنشدنيه أبو جعفر بن الأبار موصولاً بمدح الحاجب وهو:
لبس الربيع الطلق برد شبابه ... وافتر عن عتباه بعد عتابه
ملك الفصول حبا الثرى بثرائه ... متبرجاً لوهاده وهضابه
فأراك بالأنوار وشي بروده ... وأراك بالأشجار خضر قبابه
أمسى يذهبها بشمس أصيله ... وغدا يفضضها بدمع جنابه
عقل العقول فما تكيف حسنه ... وثنى العيون جنائباً بجنابه
بالحاجب المأمول أضحك ثغره ... فرحاً وأنطق جهرنا بصوابه
بعماد هذا الدين والملك الذي ... تتبادر الأملاك لثم ركابه
هز الصعاد فأرعدت من خوفه ... وعلا الجياد فأصبحت تزهى به

عتباه: رضاه. وعتابه: سخطه. ووهاده. المواضع المنخفضة. ونجاده: المرتفعة. جنائباً: موقوفة النظر عليه. وقوله: هز الصعاد: جمع صعدة: وهي القناة النابتة مستقيمة لا تحتاج إلى ثقلف وتقويم. وله أيضاً في هذا المعنى قطعة بديعة الغرض موصولة بمدح أبي - وقاه الله بي - وهي:
استيشر الدهر بعد ما استبصر ... فراق منه الرواء والمخبر
وجرد الجو ثوب دكنته ... واكتست الأرض ثوبها الأخضر
وأضحكت عن بديع زهرتها ... لما بكى الغيث قبل واستعبر
ما در درُّ الغمام منتثراً ... إلا انتحى الروض نظم ما ينثر
ولا انتضى البرق فيه أنصله ... إلا دم المحل بينها يهدر
لولا عقيق البروق حين سرى ... لم يكن الروض يثمر الجوهر
حدائق بل كأنها حدق ... تهجع طوراً وتارة تسهر
إذا صبت نحوها الصبا فتقت ... للأنف مسكاً من ردعها أذفر
أرض تباهي السماء مشرقة ... بكل نجم من زهرها أزهر
وقبل ما فاخرت كواكبها ... بالغر والصيد من بني حمير
بكل غيث إذا السماء صحت ... وكل ليث إذا القنا كسر
وكل سهم إذا انتحى غرضاً ... وكل شهم إذا علا منبر
بحار جود تفيض من كرم ... حسبت ذا المجد بينها الكوثر
قوله: وكل شهم. الشهم: الذكي القلب.
وقال صاحب الشرطة أبو بكر بن القوطية يصف الربيع ويمدح ذا الوزارتين أبا عمرو أحمد بن إسماعيل بن عباد:
أما ترى الروض جوهرياً ... ينظم در السما مليا
والنور من فضة وتبر ... متى غدا النبت صيرفيا
حتىكأن الربيع ملك ... يحيي لها نورها البهيا
ترى نواويره كتبر ... محض وآزار قسطريا
قد مد نطعاً على رباها ... ينتقد المحض والرديا
مثل انتقاد العلا أبا عم ... رو نجل عباد السريا
الراجح الواضح المحيا ... والحول القلب الكميا
والمنجب المعجب افتناناً ... والمنبه المدره الذكيا
قال أبو الوليد: ومما قلته في هذا المعنى قطعة موصولة بمدح الحاجب - أطال الله بقاءه وحرس حوباءه - وهي:
أبشر فقد سفر الثرى عن بشره ... وأتاك ينشر ما طوى من نشره
متحصناً من حسنه في معقل ... عقل العيون على رعاية زهره
فض الربيع ختامه فبدا لنا ... ما كان من سرائه في سره
من بعد ما سحب السحاب ذيوله ... فيه ودر عليه أنفس دره
فأحل جفونك فيه تجل صدا بها ... لولا انبراء جماله لم تبره
واشكر لآذار بدائع ما ترى ... من حسن منظره النظير وخبره
شهر كأن الحاجب ابن محمد ... ألقى عليه مسحة من بشره
ملك تملك رقنا بمكارم ... جعلت له غفر النجوم كعفره
لا زال خطب زمانه في أسره ... فلقد رأيت به هواي بأسره
الغفر: نجم. والغفر: التراب. يقال غفر وغفر فكأنه لعلو منزلته وسمو درجته قد استويا في بعدهما منه وتباينهما عنه وأسره في شطر البيت: في ملكه وتحت حكمه من الأسر المعروف وبأسره في القافية بمعنى كله وجميعه. يقال: أخذت الشيء بأسره أي جميعه. ولي أيضاً في مثل ذلك:
بكت السماء فأضحكت سن الثرى ... بمدامع نظمت عليه جوهرا
فكأنها خرقاء تنثر عقدها ... وكأنه مستغنم أن ينثرا
عكفت يداه على نظام فريده ... وجمانه فرداً لذاك مشمرا
فأعاده أبهى لطرف منظرا ... وأعده أذكى لأنف مخبرا
فانظر محاسنا للربيع تبرجت ... لولا الربيع لما تجلت لورى
ومن المستحسن المستغرب والمستطاب المستعذب في هذ المعنى قطعة لأبي بكر بن نصر كتب بها إلي في زمن الربيع يسألني الخروج إلى حيث يبدو كماله ويظهر جماله والقطعة:
انظر نسيم الروض رق فوجهه ... لك عن أسرته السرية يسفر
خضل بريعان الربيع وقد غدا ... للعين وهو من النضارة منظر
قد طرزت منه البرود وطررت ... بالوشي فهو مطرز ومطرر
وكأنما تلك الرياض عرائس ... ملبوسهن معصفر ومزعفر
أو كالقيان لبسن موشي الحلى ... فلهن من وشي اللباس تبختر
أرض مدبجة الروابي غضة الت ... تلعات فهي عن العبير تعبر
يتعطل العطر المسك الذكي لعرفها ... وبه الزمان وحسنه يتعطر

مصفوفة أنماطها ممدودة ... حبراتها تبدو إليك وتظهر
فكأنما صنعاء أهدت وشيها ... ورمت مطارفها الطريفة عبقر
حسن يقدر في الربيع ولا ترى ... ذا الحسن إلا في الربيع يقدر
أنوار أشجاء غدت أوراقها ... ورقاً ترقرق بالحباب فتقطر
فاسمع لصحبك أن تروض رياضها ... معهم فإن عيونك بها تنظر
مهد لهم نحو البطاح نزاهة ... غراء تزهى بالسماح وتفخر
فلما وصلت هذه القطعة إلي، ووردت علي، أثارت مني كامناً، وحركت ساكناً، في ما ندب إليه وحض عليه، فخاطبت أبي - وقاه الله بي - برسالة فيها بعض أصناف هذه الأوصاف أسأله إباحة الخروج فبلغني أملي. والرسالة بعد صدرها: لما خلق الربيع من أخلاقك الغر وسرق زهره من شيمك الزهر حسن لكل عين منظره وطاب في كل سمع خبره وتاقت النفوس إلى الراحة فيه ومالت إلى الإشراف على بعض ما تحتويه من النور الذي كسا الأرض حللاً لا يرى الناظر في أثنائها خللاً فكأنها نجوم نثرت على الثرا وقد ملئت مسكاً وعنبراً إن تنسمتها فأرجة أو توسمتها فبهجة تروق العيون أجناسها وتحي النفوس أنفاسها:
فالأرض في بردة من يانع الزهر ... تزري إذا قستها بالوشي والحبر
قد أحكمتها أكف المزن وأكفه ... وطرزتها بما تهمي من الدرر
تبرجت فسبت منا العيون هوى ... وفتنة بعد طول الستر والخفر
فأوجدني بمعانيك سبيلاً إلى أعمال بصري فيها لأجلو بصيرتي بمحاسن نواحيها فالفصل على أن يكمل أوانه وينصرم وقته وزمانه فلا تخلني من بعض التشفي منه لأصدر نفسي متيقظة عنه فعهدي بمثل ما سألته بعيد وشوقي إليه شديد والنفوس تصدأ كما يصدأ الحديد ومن أجمها فهو السديد الرشيد واكفه في الشعر هاطلة غزيرة.
ومن المصنوع المطبوع في وصف الربيع ما أنشدنيه لنفسه أبو القاسم البلمي وهو:
انظر ونزه ناظريك بروضة ... غناء ما زالت تراح وتمطر
لتريك من صنعاء صنعة وشيها ... بمطارف من تستر لا تستر
ألوانها شتى وطيب نسيمها ... يقصى العبير به وينسى العنبر
تراح من الريح مثل تمطر من المطر.
قال أبو الوليد: وخرجت متنزهاً في زمن الربيع إلى بعض ضياعي فكتبت منها إلى صاحب الشرطة أبي الوليد ابن العثماني قطعة نثر تحتمل أن تدخل في هذا الباب وهي بعض صدرها: قد علم سيدي أن بمرآه يكمل جذلي ويدنو أملي وقد حللت محلاً عني الجو بتحسينه وانفرد الربيع بتحصينه فكساه حللاً من الأنوار بها ينجلي صدأ البصائر والأبصار فمن مكموم يعبق مسكه ولا يمنعه مسكه ومن باد يروق مجتلاه ويفوق مجتناه في مرآه ورياه فتفضل بالخفوف نحوي وتعجيل اللحاق بي لنجدد للأنس مغاني قد درست ونفك من السرور معاني قد أشكلت ونشكر للربيع ما أرانا من البديع إن شاء الله.
المكموم: هو الذي في كمامته لم يبد ومسكه: جلده أعني الكمامة.

الفصل الثاني
القطع التي لم تنفرد بنوار
وإنها اشتملت على نورين أو أنوار
قال أحمد بن هشام بن عبد العزيز بن سعيد الخير بن الإمام الحكم - رضي الله عنهم - يصف النرجس والورد من جملة قصيد مطول:
انظر إلى الروض في جوانبه ... أحمره ضاحك وأصفره
إذا هفت فوقه الرياح سرى ... بهفوها مسكه وعنبره
نرجسه تستجد صفرته ... حتى كأن الحبيب يهجره
والورد يختال في منابته ... تطويه أكمامه وتنشره
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه:
باكر الروض في رياض السرور ... بين نظم الربيع والمنثور
في رياض من البنفسج يحكي ... أثر العض في بياض الصدور
وترى السوسن المنعم يحكي ... ذهباً نابتاً على كافور
وكتب عمر بن هشام بن قلبيل إلى صديق له يستدعيه في زمن. الربيع ويصف ما عنده من النواوير بوصف بديع: نحن - أكرمك الله - على بسط الرياحين ودرانك الورد والياسمين ووشي رياض مونقه، حاكتها أيدي الربيع المغدقة. تلاحظنا عن أعين النرجس والسوسان، بأحلى محاجر وأجفان، وتبسم عن نور الأقحوان بمثل الدر والمرجان، فهي متضوعة عن لطائم المسك، متنفسة بأرج الورد، جذلة بهجة، فائحة أرجة، فإن تقارن حسنها بحسن وجهك فهي حالية مشرقة، وإن عطلت من ضياء غرتك فهي باكية مطرقة.

ولعبد الزكي بن عثمان الأصم قطعة حسنة في الورد والأقاح وهي:
وغضيض من جنى الور ... د حكى الصبح انفجارا
وأكاليل أقاح ... ي يخالسن حذارا
مشرئبات إلى الشم ... س بأحداق حيارا
إن سقاه الطل في السر ... ر تضاحكن جهارا
ولأبي مروان عبد الملك بن سعيد المرادي قصيد سري يمدح به الناصر لدين الله - رحمه الله - وفيه أوصاف لنواوير وتشبيهات في أزاهير فمنها قوله:
كأن جني الورد أحد حوله ... جنى سوسن مستطرف اللون أزهر
خدود العذارى المخجلات تحفها ... عوارضها مبيضة لم تخفر
وأعين عقيان بأجفان لؤلؤ ... على كل فرع كالزمرد أخضر
وللحاجب أبي الحسن جعفر بن عثمان المصحفي - رحمه الله - في هذا المعنى أبيات بارعة، فيها تشبيهات رائعة وهي:
انظر إلى الروض الأريض تخاله ... كالوشي نمق أحسن التنميق
وكأنما السوسان صب مدنف ... لعبت يداه بجيبه المشقوق
يوم الوداع ومزقت أثوابه ... جزعاً عليه أيما تمزيق
والنرجس الغض الذكي محاجر ... تعبت من التسهيد والتأريق
يحكي لنا لون المحب بلونه ... وإذا تنسم نكهة المعشوق
وكأن دائرة الحديقة عندما ... جاد الغمام لها برشف الريق
فلك من الياقوت يسطع نوره ... فيه كواكب جوهر وعقيق
شبه أوراق السوسن في افتراقها بجيب مشقوق، وهو معنى دقيق أنيق، وقد تداوله جماعة وأظنه من اختراعه وتشبيهه الأخير في الحديقة من التشبيهات العقم على الحقيقة.
ولأبي القاسم بن هانئ الأندلسي قطعة بديهية سرية كلها سنية يصف فيها الورد والياسمين والنرجس صنعها في مجلس جعفر بن الأندلسية وقيل في مجلس جعفر بن فلاح وهي:
وثلاثة لم تجتمع في مجلس ... إلا لمثلك والأديب أريب
الورد في شمامة من فضة ... والياسمين وكل ذلك عجيب
والنرجس الغض الذكي ولونه ... لون المحب إذا جفاه حبيب
فاحمر ذا وابيض ذا واصفر ذا ... فبدت دلائل كلهن غريب
فكأن هذا عاشق وكأن ذا ... ك معشق وكأن ذاك رقيب
وقال أبو عبد الملك الطليق وهو مروان بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الرحمن الناصر لدين الله يصف الورد والبهار في قصيد مشهور له لم يصنع بعده ولا قبله على عروضه وقافيته ما يوازيه جمالاً ولا يضاهيه كمالاً والوصف بعد صدر في سواه:
وكأن الورد يعلوه الندى ... وجنة المعشوق تندى عرقا
يتفقا على انبهار فاقع ... خلته بالورد يطوي ومقا
كالمحبين الوصولين غدا ... خجلاً هذا وهذا فرقا
يا لها من أنجم في روضة ... قد ترقت من رباها أفقا
ودنت منها إلى شمس الضحى ... حدق للنور تصبي الحدقا
تشبيه الورد بوجنة المعشوق كثير إلا أنه أعرب بزيادة الندى ومقابلته بالعرق وقوله بتفقأ أراد ينشق وينجاب ومنه حديث أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - : نحن عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيضته التي تفقأت عنه. أراد انشقت وانجابت ودل على البهارة بين الورد. وقال أبو عمرو يوسف بن هارون الرمادي يصف الورد والأقاحي:
وفي الورد غضاً والأقاحي محاسن ... سرقنا من الأحباب للمتشوق
خدود عذارى لو تقصى حياؤها ... وأفواه حور لو سمحنا بمنطق
هذان التشبيهان معروفان لا سيما قلبهما ولكن لو فهما حسنتهما معاً وأبدعت فيهما بدعاً.
وللمتوكل بن أبي الحسين قطعة بديعة يصف فيها نواوير وهي:
في رياض بسطها زهر ... مظهر من أيكها قببا
نرجس يرنو بلحظته ... نحو ورد طالما انتقبا
فترى ذا سافراً خجلاً ... وترى ذا عاشقاً نصبا
وترى الخيرية مكتتماً ... مثل لص كان أن يثبا
فإذا ما الليل ستره ... أظهر الفتكة واستلبا
ولأبي بكر بن هذيل قطعة رفيعة الصفات بديعة التشبيهات في نواوير عدة وهي:
حديقة نفس تملأ النفس بهجة ... وتثنى عيون الناظرين بها حسرى
كأن جني الجلنار ووردها ... عشيقان لما استجمعا أظهرا خفرا
كأن جنى سوسانها في سنا الضحى ... كؤوس من البلور قد حشيت تبرا
كأن عيون النرجس الغض بالندى ... عيون تداري الدمع خيفة أن يدرى

كأن جنى الخيري في غبش الدجا ... نسيم حبيب زار عاشقة سرا
كأن ينابيع المياه مراجل ... تفور وقد أذكت لهن الحصى جمرا
شبه المياه في آخر البيت بالمراجل وهي قدور واحدها مرجل. وللوزير أبو عامر بن شهيد - رحمه الله - قصيد يمدح بها سليمان المستعين بالله - نضر الله وجهه - في فصل النيروز وفيه قطعة عجيبة في نواوير عدة:
وأتاك بالنيروز شوق حافز ... وتطلع للزور غب تطلع
وفاك في زمن عجيب مونق ... وأتاك في زهر كريم ممتع
فانظر إلى حسن الربيع وقد جلت ... عن ثوب نور للربيع مجزع
فكأن نرجسها وقد حشدت به ... زهر النجوم تقاربت في مطلع
أو أعين الأحباب حين تراسلت ... باللحظ تحت تخوف وتوقع
وبها البنفسج قد حكى بخضوعه ... وقنولون في سواد مشبع
خد الحبيب وقد عضضت بحنة ... فشكا إليك بأنة وتوجع
وكأنما خيريها تحت الدجا ... بين الأزاهر قام كالمتطلع
يرجو زيارة من يحب لوعده ... كلفاً فبات مراقبها لم يهجع
وكتب الوزير أبو عامر بن مسلمة وبين يديه ورد وسوسان ونيلوفر إلى صاحب الشرطة أبو بكر بن القوطية يسأله وصفها وشرط في رغبته أن يكون أول الشعر:
وثلاثة لما اجتمعن بمجلس ... نبهن مني همة لم تنعس
فأضاف أبو بكر إليه بديهة أبياتاً سرية تعجز من رامها روية وبعث بها إليه وهي:
وثلاثة لما اجتمعنا بمجلس ... نبهن مني همة لم تنعس
ودعون حي على الصبوح فشقنني ... بدعائهن إلى لقاء الأكؤس
ورد كمثل دم الوريد وسوسن ... غض بسوسي الغلائل مكتس
ويزينه نيلوفر أوراقه ... ورق جرى من فوق أخضر أملس
فإذا سرت أنفاسها لك أبرأت ... بلطيف رياها عليل الأنفس
الورد والسوسان والنيلوفر ال ... أرج المشم محرك وموسوسي
فاقت بحسن روائها وأريجها ... فيها من النوار أعمر مجلسي
وأنشدني أيضاً لنفسه صاحب الشرطة أبو بكر بن القوطية أبياتاً يصف فيها الورد والسوسان قصر على جميع تشبيهاتها وبديع صفاتها الحسن والإحسان وهي:
قم فاسقنيها على الورد الذي فغما ... وباكر السوسن الغض الذي نجما
كأنما ارتضعا خلفي سمائهما ... فأرضعت لبناً هذا وذاك دما
جسمان قد كفر الكافور ذاك وقد ... عق العقيق احمراراً وما احتشما
كأن ذا طلية نصت لمعترض ... وذاك خد غداة البين قد لطما
أولا فذاك أنابيب اللجين وذا ... جمر الغضى حركته النار فاضطرما
قوله: على الورد الذي فغما أي الذي سدت ريحه الخياشيم. وقوله: الذي نجم أي الذي طلع والطلية: سفحة العنق، وهي واحدة الطلى. ولغة ثانية في الطلية: طلاه. ونصت: رفعت. وأنشدني لنفسه الوزير أبو عامر بن مسلمة قطعة يصف فيها البهاروالبنفسج بأوصاف غريبة، ويشبهها بتشبيهات عجيبة:
قدم البهار مع البنفسج فاشرب ... ن عليهما بين الرياض الغضة
هذا كمعشوق وعاشقه وذا ... مثل الحزين دموعه مرفضة
وترى البهار كأنه ياقوتة ... صفراء تحملها أكف بضه
قد سترت حذر الرقيب معاصماً ... بمطارف خضر وأبدت فضة
وجرى النضار بها فحسن خلقها ... كمثال معشوق تشكا مرضة
وكأن ذاك بخدها وبنحرها ... عند العيان لنا بقايا عضة
قوله: كن ذاك أشار إلى البنفسج إذا بعد ذكره لاشتغاله بوصف البهار.
وللوزير أبي عامر بن مسلمة أيضاً قطعة في جملة من النواوير وعدة من الأزاهير أبدع من المتقدمة على ألا أبدع وأرفع منها على ألا أرفع تضمن من التشبيهات غريبها ومن الصفات عجيبها أنشدنيها موصولة بمدح ذي الوزارتين القاضي - وصل الله حرمته وأدام عزته - وهي:
وروضة مشرقة ... بكل نور مجتنى
فيها بهار باهر ... ونرجس يشكو الضنى
وياسمين أرضه ... ونوره تلونا
كالليل مخضراً ول ... كن بالنجوم زينا
فاجتني ورداً وارداً ... وسوسناً ملسنا
وحوله نيلوفر ... فتنة ران إن رنا
تخاله مضارباً ... من المها تروقنا
والأس أس كاسمه ... بنوره قد حسنا
تنويره جواهر ... من غير بحر تقتنى
وحبه من سبج ... أو سندس قد لونا

وقد بدا فيها البنف ... سج الندي العض الجن
وأرضه مطارف ... خضر أتتنا بالمن
طابت بطيب ماجد ... فاق سناء وسنا
ذاك ابن عباد عما ... دي وسراجي في الدنا
فهو يثير الحق وال ... عدل ويحيي السننا
ونوره مسك فتي ... ت حسنه يفتننا
قاض بنشر عدله ... طابت لنا أزمننا
لا زال يبقى ما علا ... قمري أيك فننا
وللوزير أبي عامر بن مسلمة أيضاً قطعة بديهية سرية كلها سنية قالها وبين يديه ثلاثة أنوار: خيري وبنفسج وبهار وأنشد:
وثلاثة لما اجتمعن بمجلسي ... أقررنا عين تنزهي وتأنسي
نمام طيب في بهار باهر ... وبنفسج أضحى حبيب الأنفس
فالسبق منها للبهار لأنه ... يأتي ونور الروض لم يتحسس
ثم البنفسج فهو يتلوه لنا ... راقت ملاحته فاصبح مؤنسي
يحكي لنا المسك الفتيت بلونه ... في أرض عنبرة كلون السندس
والخير في الخيري إلا أنه ... يخفي النسيم نهاره بالمجلس
ويذيعه بالليل فهو بفعله ... وبصنعه هذا صديق الحندس
فاقت نواوير الرياض تلوناً ... فغدت لها مثل النجوم الكنس
وقال يونس بن مسعود الرصافي يصف الورد والخيري:
يتطلعن أنجماً بعيون ... كالخواتم زانها التفصيص
في راض كأنما الورد فيه ... ن عذارى تجنهن خصوص
هب خيريها بليل وقد نا ... م نهاراً كما تهب اللصوص
أظن البيت الأول في البهار إذ هي صفته وله أيضاً:
وكأن سوسنه مداهن فضة ... تحوي خلوقاً بالعبير مطيبا
وتخال نرجسه بها تبراً على ... قضب الزمرد حين قام مركبا
وكأن أعينه عيون حيائب ... قد أبصرت يوم الندى مترقبا
والورد تحسبه خدود كواعب ... كادت من التوريد أن تتلهبا
وكأنما الخيري خد عضة ... لحظ الحبيب صبابة وتحببا
وصنع الفقيه أبو الحسن بن علي قصيدة يصف فيها نواوير الربيع بوصف حسن بديع ويمدح بها ذا الوزارتين القاضي - أدام الله عزه ووصل حرزه - وأنا أذكر منها قطعة تشاكل هذا الباب. وهي بعد صدر من القصيد:
كأنما الروض لما ... وشت يد المزن أرضه
بكل حمراء صرف ... وكل بيضاء بضه
كواكب في سماء ... من الزبرجد محضه
كأن طل الأقاحي ... مدامع مرفضه
أو لؤلؤ فوق أرض ... من المها مبيضه
كأنما الورد صدر ... أبقى به اللثم عضه
أو خد أغيد قد أخ ... جلته حال ممضه
كأنما النهر نصل ... جلا الصياقل عرضه
كأنما غدر الما ... ء في المروج الغضه
إذا التقين مراء ... أو أكؤس من فضه
كأنما الشمس في الجو ... و حين يقطع عرضه
وجه ابن عباد الند ... ب حين تأمل قرضه
حوى بطول يديه ... طول الثناء وعرضه
المرائي، جمع مرآة مثل مكواة ومكاوي. وهو تشبيه قوي سري جداً.
قال أبو الوليد: فلما بلغني ذلك صنعت قصيداً علىذلك النحو وأنا ذاكر أيضاً منه قطعة تليق بهذا الباب وهي من أوله:
انظر إلى النهر واعجب ... لحسن مرآه وأرضه
قد حل بين رياض ... من النواوير غضه
فيها بهار بهي ... بدا فزين أرضه
كأنه جيد تبر ... يلوح في طوق فضه
ونرجس مثل لون ال ... مهجور فارق غمضه
وأقحوان أنيق ... بروده مبيضه
قد طرزتها بتبر ... عين الندى المرفضه
وباقلاء قد آبدى ... بنوره الحسن محضه
كأنما هو خال ... بخد بيضاء بضه
كأنما النهر أفق الس ... ماء عانق أرضه
وقد كسا عدوتيه ... من الأزاهر مخضه
كما ابن عباد الند ... ب قد كسا الصون عرضه
سمح على المال فظ ... دأباً يجدد فضه
له من الجاه حظ ... على التواضع عضه

فلما أشدته القاضي - أبقاه الله - سر سرور متشيع في غذي إنعامه، وربي أيامه، وأمرني باستحضار صاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية، والأديبين أبي جعفر بن الأبار وأبي بكر بن نصر وأمرهم عنه - لا زال ماضي الأمر - بالعمل في ذلك المعنى على العروض والقافية، فلم أقدم شيئاً على استحضارهم، وإيراد ما أمرني به عليهم. فصنعوا في ذلك من ليلتهم أشعاراً رائعة السمات، فائقة الصفات، فمن ذلك شعر أبي بكر بن القوطية وهو من أوله:
بشاطيء الواد نهر ... كسا الدرانك أرضه
خضراً وصفراً وحمراً ... وبعضها مبيضه
نمارق وزراب ... من النواوير غضه
فالورد وجنة خود ... بيضاء غراء بضه
كما البنفسج خد ... أبقى به الهشم عضه
والياسمين نجوم ... حازت من الحسن محضه
روض بديع متى ما ... تجل به الطرف ترضه
تقيد اللحظ حسناً ... فليس يسطيع نهضه
حكى سجايا ابن عبا ... د الكريم وعرضه
قاض على الحق ماض ... راض به لو أمضه
اسم ابتداء تعالى ... أن يحسن الدهر خفضه
أراد أنه رفيع القدر، لم تقدر خفضه نوب الدهر، وهو معنى كالسحر. ومن شعر أبي جعفر بن الأبار وهو من أوله:
لا ترض للحظ غضه ... والمح من النور غضه
خد الربيع تبدى ... فصل بلحظك عضه
شقائق شق قلبي ... رواؤها واقتضه
كأنما الأرض منها ... خريدة مفتضه
ونرجس متغاض ... كأنما الحزن مضه
يرنو بطرف كحيل ... كمن يحاول عمضه
وسوسن إن تشمه ... فكالوذائل بضه
أو ألسن الدر صيغت ... أو الطلى المبيضه
والأقحوان نجوم ... ليست ترى منقضه
كانت ختاماً عليه ... منه كمائم غضه
فحاول الجو فضاً ... بفضة الطل فضه
لم يضحك الروض إلا ... دموعه المرفضه
ما زال يولى فيولي ... من كل ود محضه
حتى إذا الورد حيى ... وعارض المسك عرضه
أبدى علائل حمراً ... إزارها منفضه
كأنما المزن جيش ... يحاول الأفق عرضه
ثم دخل إلى المدح من هنا دخولاً مستحسناً فقال مخاطباً لممدوحه:
كأنما البرق فيه ... على اجتدائك حضه
كأنما الرعد قصفاً ... بكم يهدد ومضه
كأنما الريح تبغي ... لبعض شأوك نهضه
كأنما البحر عاف ... إليك قد شد غرضه
ومد بالنهر كفاً ... لكي تعجل قرضه
قوله: ما زال يولى أراد يتعاهد بالولي وهو مطر الربيع ويولي الثاني: هو المعروف يسدى إليه، وقوله: عارض المسك عرضه، العرض: اليح يقال: فلان طيب العرض، ومنتن العرض أي الريح. والعرض أيضاً: وادي اليمامة، وكل واد عرض. والعرض أيضاً: ما ذم به الإنسان أو مدح. وقوله: قد شد غرضه الغرض: حزام الفرس، ومنه الغرضة. ومن شعر أبي بكر بن نصر، وهو من أوله أيضاً:
أما ترى الأرض خضرا ... ء بالأزاهر غضه
كأنها في ملاة ... من الزبرجد محضه
وفوق ذلك نور ... يعانق البعض بعضه
من نرجس ذي جفون ... دموعها مرفضه
مصفر لون كصب ... به غرام أمضه
لحظ لجين ولكن ... على صفا التبر عضه
والسوسن الغض نور ... حمى عن الذم عرضه
كأنه ضاحك عن ... عوارض مبيضه
مفلجات طوال ... تلبست بالفضه
وللنوائر عرض ... والورد أخر عرضه
غض وبض ولكن ... لم ينصف الدهر غضه
الآس أدوم برءاً ... والورد أسرع مرضه
ومن المدح:
جاور نداء تصادف ... من طيب العيش خفضه
ما أضمر الكفر إلا ... من بات يضمر بغضه
وإن عصاه مناو ... فما يني أن يفضه
ولو تحصن منه ... برأس رضوى لرضه
ثم إن الوزير الكاتب أبا الأصبغ بن عبد العزيز عرف ذلك فصنع شعراً على هيئتها في المعنى والغرض، ومنه:
يا من تأمل روضاً ... به النواوير غضهْ
وعاين الحسن منها ... قد زين البعض بعضهْ
فالأقحوان بياض ... كأنه سمط فضهْ
والنرجس الغض تبر ... في صفرة منه محضهْ
والورد ماء ونار ... سالا على وجه بضهْ
ضدان في صحن خد ... قد ألفا بعد بغضهْ

والنهر سبك لجين ... جرى فزين أرضهْ
ومن المدح:
قاضٍ يكافح عنا ال ... عدا ويهجر غمضهْ
أسدى وأولى جميلاً ... فأجمل الله قرضهْ
أيامه الغر ماء ... صفا لمن رام خوضهْ
فالعمر فيها قصير ... والدهر فيها كغمضهْ
وهذا البيت غاية، ووصف الورد نهاية، وإن كان معروفاً في وصف الخدود فقلبه إلى وصف الورد مما أحسن فيه، وأغرب به.
ولما أكمل أبو الأصبغ إنشاد هذا الشعر أمر القاضي - أعزه الله - والدي عبده الناصح له دأبه الحسن فيه ظاهره وغيبه بالجلوس بين يديه ثم أمل بديهة عليه:
أبلغ شقيقي عني ... مقالة لتمضهْ
بأن وصف الأقاح ... ي الذي وصفته لم آرضهْ
هلا وصفت الأقاحي ... بأكؤس من فضهْ
قيعانها ملبسات ... صرف النضار ومحضهْ
أو لا فصفر اليواقي ... ت في خواتم فضهْ
أو النجوم تساقط ... ن في المها المبيضهْ
أو لا فجام مهاة ... بالخمر في كف بضهْ
قد باكرته وأبقت ... من فضلها فيه بعضهْ
قال أبو الوليد: سمعت أبي وأبا الأصبغ يقولان: والله ما أكمل إملاء الأبيات بتلك التشبيهات الرائقة، والصفات الرائعة إلا ونحن قد بهتنا من سرعة بديهته، وقدرة فكره على تهذيب قوافيها، وتذهيب معانيها في أسرع من لا في اللفظ، وأعجل من رجع اللحظ، والمعني فيها، والمردرد عليه بها هو الوزير أبو الأصبغ في وصفه المتقدم للأقاحي حين قال:
فالأقحوان بياضاً ... كأنه سمط فضهْ
لأنه وصف بياضه ولم يصف صفرته، فجمعها القاضي - أعزه الله وأحسن ذكراه - بتشبيهات كلها مستول على غاية الكمال، مستوف نهاية الجمال. ولو وقع تشبيه من تلك التشبيهات لموسوم بهذه الصناعة، متخذ لها كالبضاعة، بعد إعمال فكره فيه وإشغال ذهنه له، لكنه مستندراً مستغرباً، فكيف باجتماعها على حسنها وانطباعها له - أعزه الله - بديهة مع كثرة اشتغاله بالفرائض عن هذه النوافل التي لا يتحلى بها، ولا يتجلبب بجلبابها.
قال أبو الوليد: وهذه القطعة كان يجب أن تكون باب القطع المنفردة لأنها في الأقاحي على حدة. لكني لو فصلتها من الشعر الذي اتصلت به، والمعنى الذي وقعت فيه لكنت مفرقاً بين الطرف وحوره، والخد وخفره، ففيها من التشريف لمن خوطب بها، وعني فيها ما يبقى في نسله وينبيء عن فضله. وقال أبو الحسن علي بن أبي غالب في المعنى الأول والقافية والعروض موصولاً بمدح أبي - أطال الله في عمره - وأبقى علي ستره - :
نبه جفونك للرو ... ض واهجرن كل غمضهْ
قد نبه الطل منه ال ... جفن الذي كان غضهْ
من بين ورد كخد ال ... حبيب حاولت عضهْ
وسوسن قد حكى لي ... سوالف الغيد بضهْ
ونرجس منع السه ... د جفنه أن يغضهْ
كلون صب تشكى ... قلى الحبيب وبغضهْ
ومن بهار يدلي ... جماجماً منه غضهْ
كأنه معرض عن ... محدث لم يرضهْ
كأنه نقر التب ... ر في مداهن فضهْ
وبعد أبيات دخل إلى المدح، فقال: يعني الروض:
كأنما ضمنت من ... معتق المسك محضهْ
فأشبهت من طباع اب ... ن عامر الندب بعضهْ
وأنشدني بنفسه أيضاً أبو الحسن بيتين مرماهما رشيق، ومغزاهما دقيق، في الخيري والنيلوفر، وهما:
كأنما الخيري حب غدا الن ... نيلوفر الغض عليه رقيبْ
فهو إذا طبق أجفانه ... بالليل لاقاك بنشر وطيبْ
وأنشدني أيضاً لنفسه وصفاً في السوسن والباقلاء حسن التشبيه أبدع وأغرب فيه وهو:
ومن سوسن غض النبات كأنه ... كؤوس لجين لم تشن بنبالِ
إذا ما بدا فيها الحباب حسبتها ... سوالف غيد قلدت بلآلِ
ونور نبات الباقلاء كأنه ... شنوف لجين ضمخت بغوالِ
ولأبي بكر بن نصر وصف أكثر نواوير الربيع في قصيد بديع حسن التشبيهات غريب الصفات مدح به أبي - أبقاه الله لي - فقال يخاطبه بعد أبيات:
أسلالة من عامر سلني عن ال ... أنوار تحصل عندك الأنوارُ
لله نيسان ففيه تم ما ... قد كان قبل بدا به آذارُ
أما البقاع فإنها جادت لنا ... بشموس نور بينها أقمارُ
كالأقحوان بديهة فاسمع له ... في الوصف ما فيه اللبيب يحارُ

هو ضاحك الأسنان لما أن بكت ... عين السماء ودمعها مدرارُ
فتراه يبسم عن ثنايا فضة ... تبدو إليك لثاتهن نضارُ
وشقائق النعمان قمص أشبعت ... في حمرة فلها بذا إيثارُ
وكأنها وسط البقاع وقد علت ... قضبان آس في ذراها نارُ
وإذا تأملت البهار تأملاً ... أيقنت أن المسك منه معارُ
قضب الزمرد مورقات فضة ... ولها النضار مخلصاً نوارُ
والنرجس الغض الأنيق يغض أل ... حاظاً مراضاً ما لها أشفارُ
مترقرق بحباب طل مثلما ... بدرت دموع للمحب غزارُ
واعجب لخير الرياض فإنما ... هو بين أنوار الرياض خيارُ
بالليل للسمار ينشر نشره ... لينال ردع نسيمه السمارُ
فإذا أضاء الصبح أخفى نشره ... وتمزقت من دونه الأوطارُ
والسوسن الفينان صفة فإنه ... غض تكاد تذيبه الأبصارُ
وكأنما صرف اللجين بروده ... منه شعار لاصق ودثارُ
وإذا دنا للأنف من مستنشق ... فله به من ردعه آثارُ
وإذا ذكرت الورد فاعلم أنه ... للنور أجمع في الرياض منارُ
متدثر بغلائل حمر الحلى ... تنجاب دون جيوبه الأزرارُ
طيب لأنفاس النفوس ومنظر ... للعين إلا أنه غرارُ
أما وصفه البهار فهو كوصف أبي عمر القسطلي له، ويمكن أن يأخذه أو يوافقه، وقول أبي عمر فيه:
غصون الزمرد قد أورقت ... لنا فضة نورت بالذهبْ
وسيأتي في بابه مع أشكاله وأمثاله. وأنشدني أبو بكر بن نصر وصفاً مستحسناً في نواوير عدة وأزاهير جملة موصولاً بمدح ذي الوزارتين القاضي - أيد الله يده وحصد من حسده - وهو من جملة قصيد مطول:
وقد راقني من يانع النور فاقع ... وقان وأحوى حالك اللون أسودْ
غلائل خير وأقباء سوسن ... وقمصان نسرين يروق توقدهْ
وكم سبط للنور يسطع نوره ... تمر به ريح الصبا فتجعدهْ
إذا الأقحوان الغض أبدى تبسماً ... تبدى من الورد النضير توردهْ
ويزهى الشقيق العصفري بلونه ... إذا فاقع الحوذان جاد تولدهْ
وما الخرم الكحلي إلا كأنه ... من الحسن طرف جال في الجفن إثمدهْ
ومن نرجس نضر يروقك دره ... وياقوته السامي به وزبرجدهْ
وكم للربيع الطلق نوراً منوراً ... تنتجه أيدي الحيا وتولدهْ
كما ولد الإفضال في حمص والندى ... سليل ابن عباد الجواد محمدهْ
ليعتمد الوراد بحر يمينه ... فذلك بحر طامح الموج مزبدهْ
قوله: ومن نرجس يعني البهار، وصفته على ذلك دالة، وياقوتة السامي لو أمكنه أن يذكر لونه فيقول: المصفر أو نحوه لكان أتم إذ ألوان اليواقيت كثيرة لكنه اكتفى بشهرة الموصوف. وهذا للشعراء كثير. ومن اللباب في هذا الباب رسالة كتب به الوزير أبو حفص أحمد بن محمد بن برد إلى الوزير أبي الوليد بن جهور وصف فيها نواوير خمسة، وغرضه تفضيل الورد بينها وتقديمه عليها بصفات كلها حر الألفاظ، وتشبيهات جميعها حور الألحاظ، والرسالة: أما بعد يا سيدي ومن أفديه بنفسي، فإنه ذكر بعض أهل الأدب المتقدمين فيه، وذوي الظرف المعتنين بملح معانيه، أن صنوفاً من الرياحين وأجناساً من أنوار البساتين جمعها في بعض الأزمنة خاطر بنفوسها، وهاجس هجس في ضمائرها، لم يكن لها بد من التفاوض فيه والتحاور، والتحاكم من أجله والتناصف، وأجمعت على أن ما ثبت في ذلك من العهد، ونفذ من الحلف، ماض على من غاب شخصه، ولم يأت منها وقته فتخيرت من البلاد أطيبها بقعة، وأخصبها بجعة، وأظلها شجراً، وأغضرها زهراً وأعطرها نفس ريح، وأرقها دمع ندى. ثم أخذت مجالسها وانبرت على مراتبها وقام قائمها فقال:

يا معشر الشجر وعامة الزهر، إن اللطيف الخبير الذي خلق المخلوقات، وذرأ البريات باين بين أشكالها وصفاتها، وباعد بين منحها وأعطياتها، فجعل عبداً وملكاً وخلق قبيحاً وحسناً. فضل على بعض بعضاً حتى اعتدل بعدله الكل، واتسق على لطيف قدرته الجميع، وأن لكل واحد منا جمالاً في صورته، ورقة في محاسنه، واعتدالاً في قده، وعبقاً في نسيمه، ومائية في ديباجته قد عطفت علينا الأعين، وثنت إلينا الأنفس وأصبت بنا الأكف، وأزهت بمحضرنا المجالس حتى سفرنا بين الأحبة، ووصلنا أسباب القلوب، وتحملنا لطائف الرسائل، وحيينا اللهو، واحتضنا السرور، وأخذنا جعالة البشرى، وأكرمنا بنزل الرفادة، وأسنيت لنا صلة الزيادة، وصيغ فينا القريض، وركبت على محاسننا الأعاريض، فطمح بنا العجب، وازدهانا الكبر، وحملنا تفضيل من فضلنا، وإيثار من آثرنا على أن نسينا الفكرة في أمرنا، والتمهيد لعواقبنا، والتطيب لأخبارنا، وادعينا الفضل بأسره، والكمال بأجمعه، ولم نعلم أن فينا من له المزية علينا، ومن هو أولى بالرياسة منا، ومن يجب له علينا التحرج ومد اليد بالمبايعة، وإعطاء مجهود المحبة، وبذل ذات النفس، وهو الورد الذي إن بذلنا الإنصاف من أنفسنا، ولم نرتكض في بحر عمانا، ولم نمل مع نزع هوانا، دنا له، ودعونا إليه، واعترفنا بفضله، وقلنا برياسته، واعتقدنا إمرته، وأصفينا محبته، فمن لقيه منا حياه بالملك ووفاه حق الإمامة، ومن لم يدرك زمن سلطانه، ولم يأت على عدان دولته، اعتقد ما عقد عليه، ولبى إلى ما دعي إليه. فهو الأكرم حسباً والأشرف زمناً، والأتم خصالاً، والذي إن فقدت عينه لم يفقد أثره، وغاب شخصه لم يغب عرفه، والطيب إليه كله محتاج، وهو عن كيفه مستغن، وهو أحمر والحمرة لون الدم، والدم صديق الروح، وصيغة الحياة، وهو كالياقوت المنضد في أطباق الزبرجد عليها فرائد العسجد.
وأما الأشعار فبمحاسنه حسنت، وباعتدال جماله وزنت، وإننا ما نعتقد إلهامنا إلى هذه المحمدة، واستنظافاً من دنس تلك المذمة إلا من أجل النعم المقسومة لنا والأيادي المتصلة بنا. وكان ممن حضر هذا المجلس، وشهد هذا المشهد من مشاهير الأزهار، ورؤساء الأنوار النرجس الأصفر، والبنفسج والبهار والخيري النمام.
فقال النرجس الأصفر: والذي مهد لي حجر الثرى، وأرضعني ثدي الحيا، لقد جئت بها أوضح من لبة الصباح، وأسطع من لسان المصباح، ولقد كنت أسر من التعبد له، والشغف به، والأسف على تعاقب الموت، والرجعة دون لقائه ما أنحل جسمي، ومكن سقمي، وإذ قد أمكن البوح بالشكوى فقد خف ثقل البلوى. ثم قام البنفسج فقال: على الخبير سقطت أنا والله المتعبد له، الداعي إليه، المشغوف به كلفاً، المغضوض بيد النأي عنه أسفاً، وكفى ما بوجهي من ندب وبجسمي من عدم نهوض، ولكن في التأسي بك أنس، وفي الاستواء معك وجدان سلو. ثم قام البهار فقال:
ثم قالوا: تحبها؟ قلت: بهراً ... عدد النجم والحصى والتراب
لا تنظرن إلى غضارة منبتي، ونضارة ورقي، وانظر إلي وقد صرت حدقة باهتة تشير إليه، وعيناً شاخصة تندى بكاء عليه:
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
ثم قام الخيري النمام فقال: والذي أعطاه الفضل دوني، ومد له بالبيعة يميني، ما اجترأت قط إجلالاً له، واستحياء منه. على أن أتنفس نهاراً، أو أساعد في لذة صديقاً أو جارا. فلذلك جعلت الليل ستراً، واتخذت جوانحه كناً. فلما رأت استواء آرائها على التفضيل له، واعتدال مذاهبها في الدعاء إليه قالت: إن لنا أصحاباً، وأشكالاً وأتراباً، لا نلتقي بها في زمن، ولا نجاورها في وطن، فهلم فلنكتب بذلك كتاباً، ولنعقد به حلفاً، ولنضع من شهادتنا ما يحتمل في الأقاصي والأداني عليه.

نسخة كتاب
بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما تحالفت عليه أصناف الشجر، وضروب الزهر، وسميها وشتويها، وربيعها وقيظيها، حيث ما نجمت من تلعة أو ربوة، وتفتحت من قرارة أو حديقة، عندما راجعت من بصائرها، وألهمت من رشادها، واعترفت بما سلف من هفواتها، وأعطت للورد قيادها، وملكته أمرها، وأخلصت له محبتها، وعرفت أنه أميرها المقدم بخصاله فيها، والمؤمر بسوابقه عليها، واعتقدت له السمع والطاعة والتزمت له الرق والعبودية، وبرئت من كل نور نازعته نفسه المباهاة له، والانتزاء عليه في كل وطن، ومع كل زمن، فأية زهرة قص عليها لسان الأيام هذا الحلف، فلتعرف أن رشادها فيه، وقوام أمرها به، ولتحمد الله كثيراً على ما هداها إليه، واستنقذها من الضلال بتبصرته، ولتشهده على اعتقادها، والله شاهد على الجميع. شهادة النرجس:
شهد النرجس والله يرى ... صحة النيات منها والمرضْ
أن للورد عليه بيعة ... أكدت عقداً فما إن تنتقضْ
شهادة البنفسج:
شهد البنفسج أنه ... للورد عبد تملك ِ
يسعى بقلب ناصح ... في حبه مستهلكِ
شهادة البهار:
شهد البهار ذو الجلالة عالم ... بصحيح ما يبدي وما يخفيهِ
أن الإمارة في الأزاهر كلها ... للورد لا يؤتى له بشبيهِ
شهادة الخيري النمام:
شهادة الخيري براً صادقاً ... قوله أبعد عنها الدركْ
أن أزهار الثرى أجمعها ... أعبد والورد فيها ملكْ
هذا يا سيدي ما انتهى في المعنى إلي، ففضلك في تصفحه، والتجاوز عما وقع من زلل في نقله، فأنت السابق الذي نجري في غباره، ونهتدي بمناره، ولولا علمي بموقع هذه الملح منك لم أجشمك مؤونة النظر فيما كتبت منها لك إن شاء الله.
قال أبو الوليد: إسماعيل بن محمد بن عامر: ولي رسالة أردفتها على هذه مشتملة على وصف سبعة أنوار على ما انتهت إليه غاية اختياري وغرضي في الرد بتفضيل البهار على الورد خاطبت بها ذا الوزارتين القاضي سيف الحق الماضي - كبت الله أعداءه، وأدام عليهم إعداءه - وهي: يا مولاي الذي رقه لي شرف، وجوده علي سرف، ومن أبقاه الله لرفع شأن ودود، ووضع شأن حسود. كان اجتماع بعض النواوير واتفاق طائفة من الأزاهير على تقديم الورد عليها، وتفضيله بينها، وتخيره للخلافة منها ما قد وقفت عليه ونظرت إليه مما عني بجمعه وانفرد لذكره أبو حفص بن برد الوزير الكاتب، وسراج الأدب الثاقب. وكانت النواوير المتفقة عليه، والداعية حينئذ إليه: البنفسج والخيري النمام والبهار، والنرجس الأصفر، وكتبت كتاباً إلى صنوف الأنوار وضروب الأزهار تأمرها بالوقوف عند ما وقفت، والاتفاق على ما اتفقت.
فأول من رأى الكتاب، وعاين الخطاب، نواوير فصل الربيع التي هي جيرة الورد في الوطن، وصحابته في الزمن، فلما قرأته أكبرت ما فيه، وبنت على هدم مبانيه، وبعض معانيه، وعرفت الورد بما عليه فيما نسب إليه من استحقاقه ما لا يستحقه واستئهاله ما لا يستأهله، وقالت له: من مدح أمرأً بما ليس فيه فقد بالغ في هجائه وبينت ذلك له بياناً رأى الرشد فيه عياناً، وجمعت على مجاوبة مكاتبيها، ومراجعة مخاطبيها بما بدا لها من سوء تدبيرها، وضعف رأيها ثم رأت أن مخاطبة من أخطأ تلك الخطية، وأدنى نفسه تلك الدنية، تدبير دبري، والتخلي عنه رأي غير مرضي. فكتبت إلى الأقحوان والخيري الأصفر إذ هما يحاوران تلك في أوطانها ويصاحبانها في أزمانها.

ونسخة الكتاب
من نواوير فصل الربيع الأزهر
إلى الأقحوان والخيري الأصفر:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلت إلينا بيعة اشترى بها من سعى فيها، وفغر عن فيها، " خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين " ولو استحق الورد إمامة، أو استوجب خلافة، لبادر بها آباؤنا، ولعقدها أوائلنا التي لم تزل تجاوره في مكانه، وتجيء معه في أوانه.

وأما من عقد تلك البيعة، وكتب تلك الصحيفة فلم ير له قط صورة ولا تلا من ذمه سورة، فإذا قد جهلت قدره، ولم تعلم أمره هلا شاورت مصاحبيه واستخبرت مختبريه حتى تقف على حقيقة خبره، وتعلم جلية خيره، فبأي شيء أوجبت تقديمه، ورأت تأهيله لما غيره أشكل له، وأحق به، وهو نور البهار البادي فضله بدو النهار، والذي لم يزل عند علماء الشعراء، وحكماء البلغاء مشبهاً بالعيون التي لا يحول نظرها، ولا يحور حورها، وأفضل تشبيه للورد الخد عند من تشيع فيه، وعني به، وأشرف الحواس العين، إذ هي على كل منول عون، وليس الخد حاسة، فكيف تبلغه رياسة؟:
أين الخدود من العيون نفاسة ... ورياسة لولا القياس الفاسد؟
وأصح تشبيه للورد وأقربه من الحق قول الحكيم ابن الرومي في شعره الطائي. لقد وافق ووفق وشبه وحقق، فقفا - وفقكما الله ولا أخلاكما من هداه - بالنواوير المخاطبة لنا، المسخنة لأعيننا، واعرضا عليها مطلبنا، وبينا لها مذهبنا، وأنبا البهار مفرداً تأنيباً يقيمه ويقعده، ويقصده فيقصده، على مشاركته على نفسه وسعايته في إبطال حقه، فلولا استجابته لها، وكونه معها، ما تحصن لتلك مراد، ولا تحسن لها مراد، وحياه عنا بالسلام الأثير بعد الملام الكثير، و والله العظيم حقه الواسع رزقه، لو جاورناه في وطن، أو صحبناه في زمن، لبايعناه منذ مدة مبايعة لعبيد، ونفديه لفضله علينا بالطريف والتليد، وراجعانا بعد هذا بالمذهب التي تبني عليه، وتجري إليه فإن وافقت لم يشذ علينا من النواوير إلا من لم تشهر عينه، ولا يعد فينا صيته وأينه مع أن جماعتنا تعلم فضل ما صنعناه، وتوالي من وليناه، وإن خالفت لم تستضر مخالفتها ولم نضطر إلى محالفتها، فنحن جل النواوير، وعمدة الأزاهير، نعقد للبهار ونقدمه على جميع الأنوار.
فوصل كتابها إليهما، وورد خطابها عليهما وعندهما البنفسج والخيري النمام، والنرجس مشاورة لهما، ومستمدة بآرائهما في الخروج عما دخلت فيه، والتخلص مما اكتسبت به سوء الأثر. وقبيح الخبر من تقديم الورد على البهار على أنه ملك الأنوار. والخيري الأصفر والأقحوان يكثران تأنيبها، ويسفهان أراءها، ويجددان الشكر لله على استنقاذهما مما ورطها فيه، وتأخيرها عما ألحقها به.
فلما وصل كتاب النواوير الربيعية وهي متصلة من تلك الخطيئة وقع منها مواقع الماء من ذي الغلة الصادي، وقالت: الآن يصقل من أذهاننا الصادي. وأعاد الخيري الأصفر والأقحوان التأنيب لها والتعديد عليها فقالت: لا تكثروا لومنا، ولا تطيلا تأنيبنا، فلو لم تكن لنا سقطة، ولا نسبت إلينا غلطة، لخرجنا عن الأمر المعلوم والحد المعروف، فلا بد للكل من تدبير دبري ورأي غير مرضي، وقد قيل: اللبيب من عدت سقطاته، والأريب من حصلت هفواته. إذ قد استيقظا من نومة الجهل، فأغمد عنا سيف العذل، ووالله إننا لأحقاء بالتأنيب، أحرياء بالتثريب، إذ عجلنا عظيمة لم تنعم النظر فيها، وأنفذنا كبيرة لم نعان عويص معانيها، وقديماً حمد التأني وذمت العجلة. ومن أمثالهم: رب عجلة تهب ريثاً ورحم الله القائل:
وقد يكون مع المستعجل الزلل
لكننا نصفع قفا الحوبة بيد التوبة، ونجلو دجا الاقتراف بصبح الاعتراف. فسر الخيري والأقحوان بما بدا منها من إقرار بذنوبها، والاعتذار من خطاياها وبنت معاً على مجاوبة الأنوار الربيعية بإنقاذ ما رغبته وإكمال ما ابتدأته. ثم خرجت بأسرها إلى البهار معتذرة إليه متنصلة مما جنته عليه، وسألته العفو عن ذنوبها، والإمساك عن تأنيبها، والطاعة لها بالتقدم عليها، والتملك لجميعها. فأجابها إلى رغبتها وأطلبها في طلبتها، وأنشدها قول بن المعتز:
دية الذنب عندنا الاعتذار

ثم قرأ عليه الأقحوان والخيري الأصفر كتاب النواوير الربيعية إليهما، فلما وصلا إلى الفصل الذي سألوهما فيه التعديد عليه والتأنيب له قال: والله ما دخلت معهم فيما أحدثوه، ولا تابعتهم على ما صنعوه إلا حياء من تعريفهم بما لا يجهله الجاهلون، ولا يغلط فيه الغالطون، وليس من ترك حقه ملوماً، إنما الملوم من تسور على غير حقه، وادعى سوى واجبه، ولولا بدو ذلك لجميعكم، وظهوره إلى رفيعكم ووضيعكم، ورغبتي في استنقاذكم من رق الضلالة، وفككم من ربق الجهالة، ما أطلعت فيما رغبتموه، ولا صبرت لما أردتموه، ولا عرفتكم من فضلي بما سكت أولاً عليه، ولا ندبتكم من حقي إلى ما لم أندبكم قبل إليه. فقالت: مثلك انقاد إلى رغبة مؤمليه، وأيد سالف أياديه، وغفر ذنوب عشيرته، وصفح عن حيرته، وجرى على أخلاق الملوك في الصفح عن المملوك. وجاوب الأقحوان والخيري الأصفر نواوير الربيع الأزهر، بما نفذ من حسن القدر ونسخة كتابهما:

بسم الله الرحمن الرحيم
وصل إلينا كتابكم، وورد علينا خطابكم تبينون فيه ضعف ميز مقدمي الورد ومبايعيه، وسوء رأي موليه ومؤمليه، وتلك قصة غابت عنا، وبعدت بفضل الله منا، وقد ظهر ضعفها إلى من تولى، وتبين سخفها لمن ولى، وإذ وقفتموها فوافقتموها فهي النعمة الجزيلة، والمنة الجليلة، ونحن على مبايعة البهار، والكتاب إلى جميع الأنوار. وسيصل إليكم ويرد عليكم. فلما نفذ هذا الكتاب إلى النواوير الربيعية بتمام القضية المرضية قالت للبهار: من تمام كرمك، وكمال نعمك إباحة العقد لك بالاتفاق عليك، وإنقاذه إلى صنوف الأنوار وضروب الأزهار. فأباح لها ذلك وكتبت بين يديه هنالك:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب مبكري الأنوار، وسابقي الأزهار إلى من غاب عنها بشخصه، ولم يحضرها بنفسه. أما بعد: فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو مستنقذنا من الفعلة القبيحة والدنية الصريحة التي نفذ بها كتابنا إليكم، وورد بإكمالها خطابنا عليكم، وتلك غلطة ظهرت لكم، وسقطة لم تغب عنكم، ولعمر الحق الذي إليه نرجع، وبه في أمرنا نقطع، لقد ظهر إلينا فساد ما خصصنا عليه، وقبح ما ندبنا إليه، بعد إنقاذه وإكماله، والتدبير لجميع أحواله، ولم نسقط إلا بتعجيل التدبير، ولا خير في الرأي الفطير، وإذ قد اجتمع الرأي من سراتكم ومنا، وصدر الاتفاق عن كبرائكم وعنا، فهي النعمة التي بها تنتظم أمورنا، ويراعى أميرنا، وقد بايعنا البهار الباهر جماله، والظاهر كماله على ما رضيتم به، ورغبتم فيه، وقد وضعنا شهاداتنا على صدق من نياتنا. وكان كاتب الصحيفة البنفسج: فقيل له: ابدأ شهادتك.
شهادة البنفسج
النثر: والله ما أضعف أملي، وضاعف عللي، وأوهن مني السوق، وقللني في كل سوق، إلا الدخول في تلك الوحول والبعد عن الخلق الكريم، والصراط المستقيم، في تأخير هذا الملك العظيم، الذي بتقديمه الآن أرجو أن دائي قد لان: والنظم له:
أما البنفسج فهو يشهد أنه ... متذمم مما جنى متنصلُ
متبرئ من بيعة الورد التي ... لم يبر منها داؤه المتأصلُ
متبين فضل البهار وعالم ... أن البهار هو المليك الأفضلُ
شهادة النرجس
النثر: تباً لتلك الفعلة الدميمة، والقضية الدميمة التي جلبتني جلباب السقم، وسربلتني سربال الهرم، ولولا بداري إلى نسخها وتحيلي في فسخها، لذهب نفسي الأرج الذي به أبتهج. والنظم له:
أشهد النرجس إشهاد محق ... أن بدر الورد في الملك محقْ
ورأى أن البهار المجتلى ... في سماء الحسن بالملك أحقْ
فمتى كذب قول أبداً ... قيل في قولته هذي صدقْ
شهادة الخيري
النثر: والله ما أرق بصري، وأرق بشري، وأغاض نهاراً ماء بشري، وأغمد فيع سيف نشري، إلا معصية الحق في تلك القضية، وطاعة الهوى في تلك الخطية، فالحمد لله الذي أحال الحالة الموبقة لي لا محالة. والنظم له أيضاً:
أشهد الخيري أن الخير في ... نقض ما أخطأ فيه أولا
موقناً أن البهار المرتضى ... بهر الأملاك حالاً وحلى
فهو الموقظ أنوار الربا ... من سنات سنها فيها البلى
شهادة الأقحوان

النثر: إن رمت أداء شكر الله على فضله المتناهي في استنقاذه لي من تلك القبيحة، والدنية الصريحة لم أؤد الفرض، ولا استطعت القرض، فالإقرار بالعجز نهاية، والاعتراف بالقصور غاية، فاستئنائي هناك، وسكوني إذ ذاك أنبتا ورقي ورقا، وجعلا فلقي فلقا. نظمه:
أشهد الأقحوان أن جناه ... كافر بالذي سواه جناهُ
قائل قول من تبرأ قدماً ... من هوى من قضى عليه هواهُ
إن نور الربا عبيد وكل ... للبهار البهي يقضي ولاهُ

شهادة الخيري الأصفر
الثر: الحمد لله الذي عصمني من تلك الدنية، ولم يخيبني عن هذه النية، وبها بقيت غضارتي، وتأكدت نضارتي، ووهب لي الذهب الإبريز ملبسا، والمسك النفيس نفسا. والنظم له:
أصفر الخيري يشهد ... أن عقد الورد قد ردْ
ويرى أن البهار ال ... منتقى أعلى وأمجدْ
ملك يقظان يأتي ... وصنوف النور هجدْ
هذا يا مولاي ما استطعت عليه، وانتهت مقدرتي إليه، فإن وافقك فبفضلك المشهور، أو كانت الأخرى فبالباع المنزور. ولك المن على الوجهين، والطور في الحالتين. أبقاك الله لأحوالنا تصلحها ولآمالنا تنجحها، وصنع لك، وبلغك أملك.
ولأبي جعفر بن الأبار في عدة من الأنوار أوصاف ساطعة الأنوار في رسالة كتب بها إلى صاحب الشرطة أبي الوليد بن العثماني، وكان سببها أني خرجت متنزهاً في فصل الربيع لأِشرف على منظره البديع، وكان أبو جعفر بن الأبار في جملة من صحبني، وخاصة من تبعني، وتخلف أبو الوليد لعذر لحقه أوجب تخلفه. فلما انصرفنا سأل أبا جعفر وصف نزاهتنا، وذكر راحتنا وإيراد ما اطلعنا عليه، ونظرنا إليه مما تأسف على البعد منه، والانتزاح عنه. فكتب إليه بهذه الرسالة وفيها فنون الرقة والجزالة، ووصلها بمدح الحاجب - وصل الله حرمته وأدام عزته - وهي بعد صدرها: كتبت تسألني - لا خاب سائلك ولا حرم آملك - كيف كان تنزهنا وتوجهنا مع أبي الوليد شاكر خلتك، وحامد صحبتك. أراد - أبقاه الله ووقاه - التنزه إلى بعض ضياعه في فصل الربيع عندما أشفق من انصرامه وضياعه، وكنت في جملة من اصطحب لا في صفوة من انتخب. فأمكنت من السير غرته، والصبح قد شدخت غرته، وجبين الجو طلق وغلائل السماء رزق، وحاجب الشمس متطلع، وجيد الأنس متتلع، وريق العيش خصر، وبرد الأرض خضر، قد فوف من الزهر، بمثل الأنجم الزهر، والرياض راضية من الحيا متبرجة بعد الحياء، أهدت لها المزن دررها، فأبدت يواقتها ودررها، وخشيت بالكتم عقوقها، فاستنفدت زمردها وعقيقها. إن حيتك بالشقائق فكاللدات الشقائق، مغلفات العصائب، منشرات الذوائب. أو بالنرجس والورد فكالعيون النواظر إلى الخدود النواضر، بل ذاك صبح مشتمل على شمس أصيل وهذا خجل مستول على خد أسيل، أو سفرت عن البنفسج الأنيق، فكلابس ثوب المسك الفتيق، وكأنما كسته لعستها الشفاه، فإذا تنسمه أو توسمه المحزون شفاه، شرقت بالطل مقلها، وضمخت بالمسك حللها، فما زلنا في أحسن مراد، وأقرب غاية مراد، من التماح يانع ذلك الزهر، حتى احتللنا قرية بشاطئ النهر، ولسان الهجير قائلة: لا تخطئكم بها القائلة، فأرحنا الجياد من البهر، ونمنا بها إلى صلاة الظهر، ثم قضينا الفرض، وشددنا الغرض، نؤم جانب الشرف متيامنين، ونقصد سمته متبادرين، حتى أرتنا غرته جمالها، وكستنا أشجاره ظلالها، فما زلنا نستعرض قراه إلى أن دعانا إلى قراه بواسطة منه ومقلة الشمس غضيضة، وحشاشتها مريضة، فأجبناه إلى رغبته وحللنا بعقوته، وبتنا نتفدى بالنفوس، ونتعاطى نخب الكؤوس، من مدام الآداب، لا من مدام الأعناب، يتضوع عنها خلوق الشيم، ويضحك عليها حباب الكرم، وربما مزجناها بماء المزاح من غير لغو ولا جناح، فما زلنا نأخذها بالآذان ونشربها بالأذهان، حتى تبسم الليل عن صبحه وقص جناح جنحه، فاشتملنا برد الائتلاف، واتفقت آراؤنا على الانصراف إلى حضرة المجد العليا، مقر عماد الدين والدنيا إسماعيل بن محمد بن عباد خير واطئ للصعيد ومرور للصعاد، من بخل نداه وقيد البرق مداه، وضمخ الآفاق ثناؤه، وبهر العيون سناؤه، ورجح بالجبال حلمه، وأحاط بالليل علمه أدام الله له العز، ووصل له التأييد والحرز.

قوله: متتلع متفعل، من التلع وهو الإشراف يقال: تلع جيد الظبي إذا أشرف. وقوله: من الحيا وبعد الحياء، الأول منهما مقصور والثاني ممدود وهو الاستحياء وقوله: من البهر البهر: الكلل. واتدعنا: افتعلنا من الدعة، قوله: مرو للصعاد الصعاد، جمع صعدة: وهي القناة النابتة مستقيمة.
قال أبو الوليد: ومما يصلح أن يكون في هذا الباب ما وقع في النواوير من تفضيل وتغليب أو جرى بينها من تفاضل وتفاخر. فإن تلك القطع تشتمل على مدح نور، وذم آخر فهما موصوفان، ولم تتفرد القطعة بنور وإنما اشتملت على نورين، وتضمنت وصف شيئين، وأكثر ما وقع هذا قديماً في الورد والبهار وأنا ذاكر ما وقع إلي في ذلك المختار، وقد وقع إلي في غيرهما قليل، وكله يقع هنا إن شاء الله. فما وقع إلي في الرد على ابن الرومي في تفضيله البهار على الورد قول أبي عثمان سعيد بن فرج الجياني وقول ابن الرومي في ذلك كثير ومذهبه مشهور، وقصيد أبي عثمان رد على قصيد ابن الرومي الذي أوله:
خجلت خدود الورد من تفضيله ... خجلاً، توردها عليه شاهدُ
وهو من أوله إلى آخره أعني قصيد أبي عثمان:
عني إليك فما القياس الفاسد ... إلا الذي أدى العيان الشاهدُ
أزعمت أن الورد من تفضيله ... خجل وناحله الفضيلة عاندُ
إن كان يستحيي لفضل جماله ... فحياؤه فيه جمال زائدُ
والنرجس المصفر أعظم ريبة ... من أن يحول عليه لون واحدُ
لبس البياض لصفرة في وجهه ... صفة كما وصف الحزين الفاقدُ
والآن فاسمع للبراهين التي ... قطعت فليس يحيد عنها حائدُ
الورد تيجان الربيع فأيما اخ ... تار الفخار متوج أو ساجدُ
ولمن يكون الفضل في حكم العلا ال ... موعود عنه أو النديم الواعدُ
مهلاً فما هو بالتقدم قائد ... كلاً ولا ذا بالتأخر طاردُ
وانظر إذا اعتدل الزمان وغنت ال ... أطيار فهو لشجوهن مساعدُ
موف على الغصن النضير كأنه ... في منبر بين الحدائق قاعدُ
والنرجس المنحط إما راكع ... ذلاً إلى عفر الثرى أو ساجدُ
وجعلت للأسماء حظاً زائداً ... مهلاً فما هذا سبيل قاصدُ
اسم الذي فضلت إن فتشته ... وخرمت أوله فرجس راكدُ
والورد كيف خرمته وخبنته ... ود تود به ورد عائدُ
ودع البقاء فما ترى من جملة ... إلا وأفضلها يكون البائدُ
يفنى خيار الخلق في الدنيا وما ... شيء سوى إبليس فيها خالدُ
والضد كل الضد قولك إنه ... ينهي النديم بلحظه ويساعدُ
فأعرته عين الرقيب فللعمى ... والسمل طرف للأحبة راصدُ
وإذا فخرت على الخدود بمقلة ... يرقانها باد فأصلك فاسدُ
ولو آن فعلاً للكواكب في الثرى ... ربى الرياض كما يربي الوالدُُ
وتنازع النوار شبه صفاتها ... ما كان غير الورد فيها الماجدُ
الورد وقاد التوقد ناضر ... والنجم ناري مضيء واقدُ
قوله: ولمن يكون الفضل في حكم العلا البيت رد على قول ابن الرومي:
شتان بين اثنين هذا موعد ... بتسلب الدنيا وهذا واعدُ
فجعل الورد لتأخره موعداً بانقضاء الربيع والبهار لتبكيره واعداً به، ورد الجياني عليه مقنع لأن الموعود به أجل من النذير الواعد عنه: وقوله: يفنى خيار الناس.. البيت، رد على قوله:
وإذا احتفظت به فأمتع صاحب ... ببقائه لو أن حياً خالدُ
لأن البهار يبقى بنضرته أياماً، والورد أسرع ذبولاً. وقول الجياني: وجعلت للأسماء حظاً زائداً.. رد على ابن الرومي في قوله:
اطلب بعيشك في الملاح سميه ... أبداً فإنك لا محالة واجدُ
جعل من محاسنه التسمي به عندهم، فنرجس في أسمائهم كثير. وذلك لا حجة له ولا عليه. وقوله: ولو آن فعلاً للكواكب في الثرى... للأبيات، رد على بيتي ابن الرومي وهما:
هذي النجوم هي التي ربتهما ... بحيا السحاب كما يربي الوالدُ
فانظر إلى الأخوين من أدناهما ... شبهاً بوالده فذاك الماجدُ
شبه البهار بالنجوم. ولصاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية في المعنى والقافية، قصيد مستول على غاية الكمال، مستوف نهاية الجمال موصول بمدح ذي الوزارتين القاضي الأجل، الرفيع المحل. وهو من أوله إلى آخره:

كسفت خدود النرجس المصفر من ... حسد، وقد يذوي العدو الحاسدُ
واصفر حتى كاد أن يقضي أسى ... لما رأى الورد الذي هو واردُ
هيهات للورد الفضائل كلها ... وإن ادعى التكذيب فيه معاندُ
فصل القضية أن هذا ممتع ... فصل الربيع، وكل نور بائدُ
يأتي ونوار الثرى متزحزح ... وكذا الرئيس من المشابه واحدُ
هذا مقر للسماء بفضلها ... فيما غذته به وهذا جاحدُ
وترى تباين ذاك في وجهيهما ... باللون والنشر الذي هو شاهدُ
كم بين مصطنعين: هذا كافر ... إفضال سيده، وهذا حامدُ
هذا له خلق العجوز وهذه ... عذراء في حمر المجاسد ناهدُ
وكفى افتخاراً أن هذا نافق ... غضاً ومبتذلاً وهذا كاسدُ
لو لم يكن للورد إلا أنه ... يفنى ويبقى ماؤه المتعاهدُ
وله منافع لا تجمل كثرة ... ومرافق مشكورة وفوائدُ
والنرجس المصفر ليس بنافع ... ميتاً ولا في الروض إذ هو وافدُ
هذا عقيم لا يشاد بذكره ... أبداً وعقب الورد باق خالدُ
أخوان مقرونان لم يتنازعا ... شبهاً وبينهما إخاء تالدُ
هذا يبشر بالحياة وذاك ين ... ذر بالممات إذ أتاه العائدُ
أين الحياة من الممات نفاسة ... ورياسة لولا القياس الفاسدُ
ومن هنا دخل إلى مدح ذي الوزارتين القاضي الجليل فقال:
يا أيها القاضي المصفى جوهراً ... والسيد الندب الشريف الماجدُ
احكم فإن العدل شيمتك التي ... أوصى لها جد إليك ووالدُ
فغدوت طفلاً في المهاد وأنت للم ... حكم الذي أعيى البرية ماهدُ
قوله: أين الحياة من الممات البيت هو لابن الرومي وأتقن الرد عليه فيه، وبيت ابن الرومي:
أين العيون من الخدود نفاسة ... ورياسة لولا القياس الفاسدُ
وأنشد لنفسه الشيخ أبو عبد الله بن مسعود قطعة بديعة تضمنت أوصافاً مطبوعة يصف البهار، ويفضل الورد عليه وهي:
ولابس ثوب الضنى ... من حسد قد اكتأبْ
كأنما أحداقه ... أقداح تبر منتخبْ
من الحيا مترعة ... أجل مشروب شربْ
يسعى بها محتسباً ... بلا أدى ولا نصبْ
ساق على ساق له ... تزهى بمخضر قصبْ
زبرجد مبتهج ... تكاد ليناً ينقضبْ
إذا الصبا غنت له ... وماس عن ثقل الحببْ
صبا لبعض بعضه ... فيلتقي ويصطحبْ
يقول للورد: أنا ... بر حبيب يقتربْ
قال له الورد: لقد ... أخطأت يا من لم يصبْ
أنت إذا ما صحفوا ... وأنصفوا بيت خربْ
أنا الذي لم أختلق ... ما قلته ولم أحبْ
أشبه شيء بالخدو ... د الزهر ريعت من كثبْ
وأنت عين دهرها ... في مثل دهر قد كلبْ
فانشعبت أسرابه ... خوفاً بدمع منسربْ
واصفر من هم كما ... يفعل مخصوم غلبْ
الفضل للورد وإن ... أبى علي وحربْ
طيب وطب وشذاً ... ومنظر ينفي الكربْ
سلطان الآنوار علي ... رغم الغبي المضطربْ
كما ابن عباد حمى ال ... إسلام سلطان العربْ
قوله: بر حبيب هو تصحيف نرجس، وبيت خرب تصحيفه مقلوباً أيضاً. وإن أبى علي هو ابن الرومي لما فضل البهار على الورد. وحرب مثل غضب، ومنه قيل: ليث محرب أي مغضب وقوله: طيب وطب وشذاً، الشذا: العرف والريح الطيبة. وقال بعض الأندلسيين يرد على ابن الرومي بيتيه الطائيين وأحدهما:
وقائل لم هجوت الورد معتمداً؟ ... فقلت: من قبح ما فيه ومن عمطهْ
ويقبح ذكر البيت الثاني وهو مشهور، والرد عليه للأندلسي:
لعائب الورد قل ما أنت من نمطه ... قد فلت هجراً فتب في القول من غلطهْ
الورد خد حبيب حين تلثمه ... فيغتدي أثر الأسنان في وسطهْ
ولأبي جعفر بن الأبار في إقرار البهار بفضل الورد قطعة حسنة السرد موصولة بمدح ذي الوزارتين القاضي سيف الحق الماضي وهي:
طلع النرجس في أكفافه ... قائلاً للورد: قد برحت بي
لم تزل تورث جسمي سقماً ... مبكياً عيني بدمع الحببِ
كيف خلطت وغلبت على ... سيد الأنوار يا للعجبِ
إنما اسمي تحت شكواي فلا ... توقعوني تحت ريب الريبِ

أنا لولا طمعي أن نلتقي ... ما أقلتني حيناً قضبي
فضله فضل ابن عباد أبي ال ... قاسم القاضي قريع العربِ
ملك لو لم يمجد بالثنا ... قال للعالم: حسبي حسبي
قوله: إنما اسمي تحت شكواي يعني برحت بي لأن برحت بي تصحيف نرجس. وله أيضاً في تصحيفه مفضلاً للورد بيتان استولى فيهما على غاية الإحسان وهما:
الورد أحسن ورد ... يروى به لحظ عينِ
ونرجس الروض مهما ... صحفته برح بينِ
هذا ما انتهى إليه ذكري في التفاضل بين البهار والورد. وكتب الوزير الكتب أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري إلى المنصور بن أبي عامر - رحمه الله - عن بنفسج العامرية يوم الأضحى سنة ثلاث وثمانين وثلاث مئة، رسالة موصولة بشعر، جمالها باهر، وكمالها ظاهر احتج له فيهما احتجاجاً طريفاً، عضده به عضداً ظريفاً، وآثره على النرجس والبهار بإشارات جليلة المقدار.

والرسالة
منح الله مولاي صدق النظر، وعرفه جلية الخبر، وأطال مدت،ه ووصل سلامته وعزته إذا تدافعت الخصوم - أيد الله المنصور مولاي - في مذاهبها، وتنافرت في مفاخرها، فإليك مفزعها وأنت المقنع في فصل القضية بينها لاستيلائك على المفاخر بأسرها، وعلمك بسرها وجهرها، وقد ذهب البهار والنرجس في وصف محاسنهما، والفخر بمشابههما كل مذهب. وما منهما إلا ذو فضيلة، غير أن فضلي عليهما أوضح من الشمس التي تعلونا، وأعرف من الغمام الذي يسقينا، فإن كانا قد تشبها في شعريهما المرتفعين إلى مولاي - أبقاه الله وأيده - ببعض ما في الأرض من جواهر الأرض، ومصابيح السماء، وهي من الموات الصامت، فإني أتشبه بأحسن ما زين الله به الإنسان، وهو الحيوان الناطق من أدوات خلقه، وأنفس ما ركب فيه من مواد حياته، مع أني أعطر منهما عطراً، وأحمد خبراً، وأكرم إمتاعاً شاهداً وغائباً، ويانعاً وذابلاً وكلاهما لا يمتعك إلا ريثما يبدو للعيون، ويسلم من الذبول، ثم تستكره الأنوف شمه وتستدفع الأكف ضمه فأين هذه الحال من الاستمتاع بي رطباً، وادخاري في خزائن الملوك جافاً وتفضيلي على ألسنة الحكماء، وتصريفي في منافع الأعضاء، وإن فخراً باستقلالهما على ساق هي أقوى من ساقي فلا غرو أن الوشي ضعيف، والهوى لطيف والمسك خفيف:
وليس المجد يدرك بالصراع
كما قال حكيم الشعراء، وقد أودعت - أيد الله المنصور - قوافي الشعر من وصف مشابهي ما أودعاه من وصف مشابههما وحضرت بنفسي لئلا أغيب من حضرتهما. فقديماً فضلوا الحاضر وإن كان مفضولاً ولهذا قالوا: ألذ الطعام ما حضر لوقته وأشعر الناس من أنت في شعره. ولمولاي - أيده الله - أن يعدل باختياره الصحيح، ويفصل بحكمه العدل إن شاء الله. والشعر:
شهدت لنوار البنفسج ألسن ... من لونه الأحوى ومن إيناعهِ
بمشابه الشعر الأثيث أعاره ... قمر الجبين الصلت نور شعاعهِ
ولربما جمد النجيع من الطلى ... بصوارم المنصور يوم قراعهِ
فحكاه غير مخالف في لونه ... لا في روائحه وطيب طباعهِ
ملك جهلنا قبله سبل العلا ... حتى وضحن بنهجه وشراعهِ
أما نداه فهو صنو للحيا ... في صوبه لم أعن في إقلاعهِ
في سيفه قصر لطول نجاده ... وكمال ساعده وفسحة باعهِ
قال أبو الوليد: ووقع بين الوزير أبي الأصبغ بن عبد العزيز وصاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية قطعتان، يفضل أبو الأصبغ الخيري، وأبو بكر البنفسج وقطعة أبي الأصبغ موصولة بمدح ذي الوزارتين القاضي - حرس الله حوباءه وأطال بقاءه - وهي:
ما للبنفسج يدعي التفضيلا ... متحاملاً ويعد ذاك جميلا
هيهات قد برح الخفاء فعد إلى ... حكم التناصف واترك التخييلا
الفضل للخيري إلا أنهم ... جهلوا ولما يحسنوا التأويلا
قهر البنفسج منظراً ويفوقه ... في الشم بالمسك الذكي دليلا
ورأى التستر بالنسيم لصبحه ... ظرفاً فعطل صبحه تعطيلا
وإذا أتى الليل البهيم بنشره ... أبدى له للزائرين قبولا
كمهذب الأخلاق يهجر بالضحى ... خلاً ويدني بالمساء خليلا
أو شارب ترك الصبوح تحفظاً ... فإذا أتى الليل أساغ شمولا
هو فاتك الأفعال يدرع السرى ... وتراه يطلب بالنهار خمولا

والخير في الخيري في اسمه ... هو فاضل فاستأهل التفضيلا
يا أيها القاضي الذي من عدله ... أضحى الزمان بغرة محجولا
أنت الشهيد له وعلمك حاكم ... عدل وحسبك شاهداً مقبولا
فاحكم على من قد تعاطى ظلمه ... واعقد بما تقضي له تسجيلا
الرأي منك مهذب مستحكم ... والعلم فيك وتحكم التأويلا
من كان إسماعيل والده الرضى ... فكفاه فخراً أن يكون سليلا
أنتم حلي للزمان محسن ... قد كان عطل قبلكم تعطيلا
وقصيد أبي بكر بن القوطية في الرد عليه ممتزج بمدح الحاجب - أطال الله عمره وأبقى علينا ستره - وهو:
نبل البنفسج فاحتوى التفضيلا ... وكذا البنفسج لن يزال نبيلا
لما شأى نور الربيع بطيبه ... وحوى من الشرف الصريح أثيلا
فضل النوار فحاز دون جميعه ... قصب السباق ولم يكن مفضولا
متشبهاً في سبقه بالحاجب ال ... أعلى عماد الدين إسماعيلا
ملك علا غر الملوك المعتلي ... ن أباً وجداً في العلا وقبيلا
كم طاولوه في الفخار ففاتهم ... عرضاً إلى المجد التليد وطولا
متشبهين بما يمثله لهم ... لو أحسنوا التشبيه والتمثيلا
كتشبه الخيري بالمزري به ... ليحوز من تلك الخصال فتيلا
وإذا اعتزى فإلى البنفسج يعتزي ... وإليه ينسب كي يعز قليلا
ما للكر نبي الخليفة يبتغي ... فضل الرئيس المعتلي تخييلا
أو ما درى أن البنفسج لم يزل ... فوق الأكف جلالة محمولا
من أين للخيري اللئيم طلاقة ال ... سمح الكريم ولن يزال بخيلا
متستر طول النهار بعرفه ... كي لا يرى لنسيمه مسؤولا
حتى إذا طرق الظلام سخا به ... إذ لا يرى إلا القليل سؤولا
زهم المشم إذا تقادم قطفه ... شيئاً قليلاً أو أحس ذبولا
وإذا قرأت منافع النوار لل ... حكماء أصبح بينها مجهولا
والنفع غضاً إن تشأ أو يابساً ... هو للبنفسج كله محصولا
لا يستحيل نسيمه في الحالتي ... ن ولا إذا استنشقته معمولا
وذخيره الخلفاء والأملاك لا ... يخلون منه مجنساً مفصولا
فليحظ بالقدح المعلى فاخراً ... وليرجع الخيري عنه ذليلا
وللوزير أبي عامر بن مسلمة قطعة بديعة مطبوعة أشار فيها إلى تفضيل البهار على النرجس وهي:
ونرجس هب يرنو ... بمقلة ليس تطرفْ
مثل النجوم تساقط ... ن في رداء مفوفْ
يحكي البهار ولكن ... بهارنا منه أصلفْ
له فضيلة سبق ... لغيره ليس تعرفْ
فعج عليه فدتك الن ... نفوس واشرب لتظرفْ
وللفقيه أبي الحسن بن علي قطعة سرية يفضل فيها الخيري الأصفر على النمام وهي:
أرى أصفر الخيري يبدي من الضنا ... تباريح مكلوم الفؤاد سقيمهِ
ويكذبه سحر بأعين نوره ... وقضب به تندى بماء نعيمهِ
وعرف ذكي يقصر المسك دونه ... ولا يبلغ الكافور طيب شميمهِ
يساجل آفاق السماء بروضة ... وأنجمها حسناً بصفر نجومهِ
وذي هفوة قد ظن أن شقيقه ... وحارسه قد بذه بنسيمهِ
فقلت: اتئد في الظن واسمع لمنصف ... بصير بتجبر النظام عليمهِ
أفي القدر مخدوم لديك وخادم ... وذو كرم في المجد مثل لئيمهِ
وسيان طيباً ليله ونهاره ... وليس خصوص الخير مثل عمومهِ
وما تفل في يومه مثل عاطر ... ولا لحق في الفخر مثل صميمهِ
ففال: بحق قلت وهي مقالتي ... وللحق نور لائح في أديمهِ
وللوزير أبي عامر بن مسلمة أبيات محكمة في تفضيله أنشدنيها موصولة بمدح ذي الوزارتين القاضي - أدام الله علوه وكبت عدوه - وهي:
أصفر الخيري عندي ... أرفع الخيري قدرا
فهو لا يمنع عرفاً ... وهو لا يحميك عطرا
مثل لون الذهب الخا ... لص لكن فاق نشرا
وغدا يحكي اليواقي ... ت إذا ما كن صفرا
مثله استوجب مني ... أبداً شكراً وسكرا
مثلما استوجب قاضي ال ... عدل من ذا الخلق شكرا
ملك غر أيادي ... ه على الأسماع تترى
ملك ما زال يولي ... ني تقريباً وبرا
قارض الله أيادي ... ه مطيلاً منه عمرا

ولأبي جعفر بن الأبار أبيات جليلة المقدار أشار فيها إلى تفضيله وهي:
أصباه حب سميه ... فغدا الضنا من زيهِ
وهوى الهوى بفؤاده ... فاصفر غض جنيهِ
مثن على المللوين لا ... كشقيقه وسميهِ
حسب الزمان تفاؤلاً ... بالخير من خيريهِ
فاحثث كؤوس مدامة ... تلق الغليل بريهِ
صفراء قلدها المزا ... ج لشربها بحليهِ
قوله: على المللوين يعني الليل والنهار. لا كشقيقه وسميه يعني الخيري النام. وفي هذا البيت فضل الأصفر. ولصاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية في تفضيله أبيات بديهية سرية وهي:
وأصفر نرجسي اللون نمام ... مبرإ من صنوف النقص والذامِ
زها اعتلاء على النمام يجمعه ... به اسمه فعل ذي لب وإلهامِ
فقال: لي الفضل إني في النهار وفي ... ليلي أنم وفي صبحي وإظلامي
وأنت يا مدعي اسمي طول يومك لا ... تدنى اطراحاً إلى خيشوم شمامِ
وإن لونك من لون النحاس ولو ... ني في ملاحته ضرب من السامي
قال أبو الوليد: لما كثر الكلام في تفضيل الخيري الأصفر، صنعت قطعة ربما كان فيها بعض الرد على من فضله، وبخس النمام أكثر حقه، ولم يرع حسن خَلقه وخُلقه وهي:
يا من يذم خلائق النمام ... ويحطه عن خطة الإكرامِ
قدك اتئد عن لومة جهلاً به ... فجماله زار على اللوامِ
هو أشهر الخيري حسناً فاحبه ... من بينه بتحية وسلامِ
متنزه عن أن يرى مستهتراً ... إلا إذا اكتحل الورى بمنامِ
مستطرف في خلقه مستظرف ... في خلقه مستحسن الإلمامِ
لم يرض إلا المسك مسكاً جسمه ... وبه يبوح إليك في الإظلامِ
والمتمني أبداً إليه نضاره ... في الفضل أن يعزى إلى النمامِ
اصفر من حسد له وكآبة ... لما شآه بحسنه البسامِ
لو كانت الشمس المنيرة سرمداً ... لم تلق بالإجلال والإعظامِ
قولي: إلا المسك مسكاً المسك: الجلد، والغرض تشبيه لونه بلون المسك

الفصل الثالث
القطع المفردة كل قطعة منها بنور على حدة
قال أبو الوليد: يجب أن نبدأ بأول الأنوار، وأبكر الأزهار وهو من النواوير الربيعية، نور البهار. ولكن ما كان من النواوير باقياً في كل وقت، وثاوياً مع كل فصل، هو أول على الحقيقة، وصدر في هذه الطريقة كالآس والياسمين، فأما الآس فقد فضل قديماً على ضروب الأنوار وصنوف الأزهار، وصيغت في ذلك حسان الأشعار، إذ شجره يقوم مقام النوار ثم يزيده نواره جمالاً ثانياً، ويضيف إليه كمالاً زائداً وأما الياسمين فإن نوره لا ينقطع أبداً كله ولا يذهب جميعه. فنبدأ بهما ثم نذكر النواوير على أزمنتها.
الآس
قال أبو الوليد: من حسن ما قيل فيه ما أنشدنيه لنفسه الشيخ أبو عبد الله بن مسعود وهو:
الآس آس لأسى ... كل فؤاد مكتئبْ
في كل فصل زاهر ... وما سواه منقلبْ
إذا سرى منه الشذا ... في آخر الليل وهبْ
أهدى لأرواح به ... أرواح روح وطربْ
كأنه في جنة ال ... خلد نما ثم اقتضبْ
لو نافر النور إلى ... عدل صحيح المعتقبْ
وصحفت نصبته ... جاء نبياً فغلبْ
قوله: أرواح روح الأرواح هنا جمع ريح، والروح: الراحة. والأرواح الأول: جمع روح وقوله: جاء نبياً يعني أن هذا اللفظ تصحيف آس مقلوباً. ومما فيه من حسن التشبيه قول أبي عمر الرمادي في قطعة تضمنت وصف غيره وهو:
خلوف من الريحان راقت كأنها ... وإن حسنت في لحظنا لمم شعثُ
ومما يقرب من هذا - وإن كانت فيه زيادة - بيت أبي الحسن بن علي أبي غالب:
فما شئت من آس تفتح نوره ... كما أخلست هام لها شعر جثلُ
يقال: أخلس الرأس إذا بدا شيبه. ومن الفائت الفائق، والرائع الرائق في وصفه قطعة خاطبني بها الوزير أبو عامر ابن مسلمة وبعث معها مطيباً وهي:
يا واحد الأدباء والشعراء ... وابن الكرام السادة النجباءِ
إني بعثت مطيباً نمقته ... من روض داري دارك الغناءِ
من آسه لازلت تأسو عاطراً ... وتبيد ما يعدو من الأعداءِ
يحكي بطيب عرفه وبحسنه ... خلقاً خليقاً منك بالإطراءِ

هو كالسماء إذا بدت مخضرة ... لاحت عليها أنجم الجوزاءِ
فاقبله من صب بحبك وده ... ألا تزال أخا علاً وعلاءِ
قال أبو الوليد: فجاوبته عن هذه الألفاظ البديعة، والمعاني الرفيعة. بما يمكن أن يدخل في هذا الباب ويوافق بعض غرض هذا الكتاب وهو:
يا من حبوت بوده حوباء ... وهي الفداء له من الأسواءِ
وصل المطيب معرباً عن طيب من ... أهداه مكتئباً من الإهداءِ
أظميته من بعد ما أرويته ... بمدامة فيها دواء الداءِ
ما كان أشهر طيبه لو لم يكن ... متستراً بالقطعة الغراءِ
أربى عليه نظمك الحلو الحلى ... فانحط بعد الرتبة العلياءِ
إن كان نور الآس في ورقاته ... نوراً بدا في ليلة ظلماءِ
فجمال خلقك حين ينظم عقده ... كالبدر ينظم أنجم الجوزاءِ
ومن المستحسن المستغرب، والمستطاب المستعذب، ما أنشدنيه لنفسه فيه صاحب الشرطة أبو بكر بن القوطية وهو:
أما ترى الريحان أوراقه ... تلتف تجعيداً ولا تنبسطْ
دقيقة اللمات في رؤوسها ... كأنه أسود جعد قططْ
وقد غدا تنويره جوهراً ... ففي الموامي والربا يلتقطْ
حتى إذا ما مل من مكثه ... في عوده المشرق فيه سقطْ
منكشفاً عن ثمر أسود ... كأنه من نفض حبر نقطْ
قوله: لموامي جمع موماة وهي القفر، ويقال: بوباة فيها أيضاً. والربا جمع ربوة وهو ما ارتفع من الأرض. ومن المشرق جماله، المونق كماله، المعدوم مثاله ما أنشدنيه لنفسه أبو جعفر ابن الأبار وهو:
وآس كاسمه للهم آس ... تتيه به حلى الزمن القشيبِ
ترسل كالغدائر مرسلات ... بها قطط ونم بكل طيبِ
وكتم نوره فبدت لآل ... مدحرجة لها عرف الحبيبِ
كأن الصبح شق به جيوباً ... فغادر فيه أزرار الجيوبِ
ونافسه الورى شغفاً وحباً ... فعود سود حبات القلوبِ
هذا الوصف مستوعب لجميع أحوال الآس لأن نوره أولاً مبيض ثم يسود. وله أيضاً فيه وصف يوازي هذا ويضاهيه، وهو:
لا أيأس الآس هامي السكب مدرار ... فهو الوفي وكل النور غدارُ
تكاد تثمر نفس الصب من جذل ... إذا بدا ثمر منه ونوارُ
كأنما ألبسته المزن خضر حلى ... لها من المسك والكافور أزرارُ
هذا ما وقع إلي في الآس، وحين أكملته أبدأ بما ورد علي في الياسمين.

الياسمين
قال أبو الوليد: أبدع ما قيل فيه، وأبزع ما شبه به، وأرفع ما أمل علي لنفسه فيه ذو الوزارتين القاضي - حرس الله حوباءه وصان ذكاءه - وهو:
وياسمين حسن المنظر ... يفوق في المرأى وفي المخبرِ
كأنه من فوق أغصانه ... دراهم في مطرف أخضرِ
قال أبو الوليد: هذا التشبيه معدوم التشبيه. ومما يوازيه دقة، ويضاهيه رقة قوله أمله علي - أبقاه الله - وهو:
وياسمين حسن المجتلى ... كأنه في قضبه الضافيهْ
زمرد رصع ما بينه ... مداهن من فضة صافيهْ
وأمل - أعزه الله، وأحسن ذكراه - علي فيه له قطعة قوية الوصف، سرية الرصف وهي:
سبحان من أنشأ ذا الياسمين ... خلقاً بديعاً للنهى والعيونْ
كأنما الأغصان من تحته ... والورق المخضوضر المستبينْ
زمرد نضد فوق الربا ... وهو على أعلاه در مصونْ
آيات صدق شاهدات بأن ... ليس لمن أبدعها من قرينْ
وهذه التشبيهات كلها، والصفات بأسرها هي فيه وهو في شجره، ولو لم يكن كذلك لم تشبه خضرته وأكثر ما وصف في هذه الحال، ولم يقع في نواره مفرداً إلا قول أبي عمر الرمادي وهو من الصفات المطبوعة والتشبيهات البديعة:
انظر إلى روض ياسمين ... لم يرد الورد وهو واردْ
كأنه عدة ولوناً ... أكف حور بلا سواعدْ
قال أبو عمر أحمد بن فرج يصف بقاءه ويقرض وفاءه:
ليس كالياسمين نور الرياض ... هو باق والنور أجمع ماضِ
فاقض بالفضل للوفاء على الغد ... ر تكن إن حكمت أعدل قاضِ
ومن السحر الحلال، المستوفي نهاية الكمال، قول ذي الوزارتين أبي عمرو عباد - أعزه الله - وقد دخل بستاناً لي اكتسبته من نوافل كرمه وسوابغ نعمه، فرأى ياسميناً فيه فقال بديهة:
كأنما ياسميننا الغض ... كواكب في السماء تبيضُّ

والطرق الحمر في جوانبه ... كخد عذراء ناله عضُّ
شبه النور بالكواكب، وخضرة ورقه بخضرة السماء، ولم أسمع لأحد قبله وصف حمرته وهي تكثر عند قلة الياسمين في زمن الشتاء وتقل عند كثرته.
وللوزير أبي عامر بن مسلمة فيه وصف رائق، وتشبيه رائع، وصله بمدح ذي الوزارتين المذكور - أعزه الله وأسبغ عليه نعمه - وهو:
وذكي العرف لاقا ... نا على كرسي ملكهْ
أرضه الخضراء بحر ... نوره فيه كفلكهْ
ياسمين قد غدت أن ... وارنا طوعاً لملكهْ
طوع حر الشعر عبا ... داً وقد أومى لسلكهْ
ماجد ينقاد منه ال ... أدب الغض لملكهْ
مالكه يوقن منه ... ومناويه بهلكهْ
ومن المعاني الدقيقة في الألفاظ الأنيقة ما أنشدنيه لنفسه فيه الوزير الكاتب أبو الأصبغ بن عبد العزيز وهو:
وياسمين بعرشه أشرف ... عرفه العرف قبل أن يعرفْ
تكامل الطيب والجمال به ... فهو من الفضل فوق أن يوصفْ
كأنما خلقه البديع إذا ... تزاحم النور قبل أن يقطفْ
سرير ملك عليه مشملة ... خضراء والقطن فوقها يندفْ
ومن التشبيه السري والتمثيل السني، قول الفقيه أبي الحسن بن علي وشبه مجلس الأنس بالحرب وهو:
وشرب أدلجوا للأنس لما ... أصيغ على يد الشجر الذمارُ
سرت بهم إلى ثغر التصابي ... ركاب لا يخاف لها عثارُ
فخلوا آمنين على الأماني ... فكان لهم من الشجر انتصارُ
عريش الياسمين لهم سماء ... وخضرة أرضه لهم قرارُ
به حجف من النوار بيض ... مفضضة وأرماح صغارُ
فوجه نهارهم بالظل ليل ... وليلهم بأنجمه نهارُ
فإن أوحشت من شمس تبدت ... عليك بشمس كفرها العقارُ
وما شهد الكرام وغى كحرب ... جراح المقصدين بها جبارُ
قوله: جبار أي لا دية فيها ولا مطالبة بها وقوله: به حجف، الحجف صغار الترسة. وأرماح صغار: يعني النواوير المتعلقة منه أول ما تبدو.
ومن الصفات السرية وصف صاحب الشرطة أبي بكر بن القرطية:
وأبيض ناصع صافي الأديم ... تطلع فوق مخضر بهيمِ
نزيه النفس همته المعالي ... ذكي العرف مسكي النسيمِ
فلست تراه إلا عند ملك ... وإلا عند خاصتي كريمِ
شأى النوار فارتفع اعتراشاً ... عليه كهيئة الملك العظيمِ
كأن ثماره المجني منها ... سماء قد تحلت بالنجومِ
وأنشدني لنفسه فيه أبو علي إدريس بن اليمان قطعة حسنة التشبيه وهي:
أمير النور يأمرني بشرب ... ولست أطيق عصيان الأميرِ
فخذ كأس السرور فاسقنيها ... على ود الأمير على السريرِ
نجوم من لجين تجتليها ... سماء زبرجد خضل نضيرِ
تزيد على الأقاحي في ابتسام ... كما زاد الكبير على الصغيرِ
وينخفض الشذا المسكي عنها ... كما انخفض الصغير على الكبيرِ
قال أبو الوليد: هذا ما وقع إلي في الياسمين البستاني وعثرت على قطع في الياسمين البري وهو الظيان، وليس يبقى مدة العام، إنما هو ربيعي، ولكن قدمته على الربيعية لتسميه باسم المتقدم، وانتسابه إليه، واشتباهه به، فوصلت ذكره بذكره. وما قيل فيه مع أن وصفه لم يكثر، وذكره لم يتكرر فليس يحتمل إفراداً وإنما يجب أن يكون تبعاً لهذا، وخلق شجره ونوره كخلق البستاني إلا أن نوره أصغر. فمن أطبع ما قيل فيه وأبدعه وأعلى ما شبه به وأرفعه أبيات لذي الوزارتين القاضي الجليل المنقطع المثيل أملها علي وهي:
ترى ناضر الظيان فوق غصونه ... إذا هو من ماء السحائب يغتذي
وحفت به أوراقه في رياضه ... وقد ُقد بعض مثل بعض وقد حذي
كصفر من الياقوت يلمعن بالضحى ... منضدة من فوق قضب الزمرذِ
وله - أعلى الله ذكره وأيد أمره - في صفرته خاصة تشبيه بديع، وتمثيل رفيع أمله علي، وهو:
كأن لون الظيان حين بدا ... نواره أصفراً على ورقهْ
لون محب جفاه ذو ملل ... فاصفر من سقمه ومن أرقهْ
وأنشدني فيه لنفسه الوزير الكاتب أبو الأصبغ بن عبد العزيز أبياتاً معجبة تضمنت أوصافاً مغربة، وهي:
فضائل الظيان معروفة ... تروق في المنظر والخبرِ
فاق النواوير معاً أنه ... منزه يأوي إلى البرِ

وأنه يأنف أن يقتنى ... على سبيل الملك والقسرِ
فآثر الصحراء مستأنساً ... في ليله بالأنجم الزهرِ
متى تزره تلق من عرفه ... ما شئت من طيب ومن عطرِ
أبراده خضر ولكنها ... مخصوصة باللبن الصفرِ
وللفقيه أبي الحسن بن علي فيه وصف رائع وتشبيه بارع في قطعة موصولة بمدح ذي الوزارتين القاضي وهي:
إذا نور الظيان في خضر قضبه ... وراح بثوب من دجا الري قد حذي
أفادك من صفر اليواقيت أنجماً ... له طالعات في سماء زمردِ
كأن سناه في الرياض وحسنه ... بحسن ابن عباد ورياه محتذي
قال أبو الوليد: وحين أوردت ما وقع إلي في الآس والياسمين من بديع الشعر الموزون نذكر الأنوار على أزمنتها ونبدأ بالأول منها وهو نور البهار.

البهار
وقال أبو الوليد: ويسمى البهار النرجس، وأكثر أشعار المشرقيين اسمه فيها النرجس وأما الأندلسيون فاستعملوا الاسمين، وذكروا اللغتين.
فمن أبدع تشبيه وقع إلي فيه قول أحمد بن هشام بن عبد العزيز بن سعيد الخير ابن الإمام الحكم، وقد بعث به إلى الإمام عبد الرحمن الناصر لدين الله وهو:
يا مليكاً من الملوك مصفى ... والذي جل أن يحدد وصفا
عبدك الشاكر المؤمل أهدى ... نرجساً كالعبير نشراً وعرفا
كلما فاح نشره قلت: إلف ... في دجا الليل عاطر زار إلفا
وإذا ما لحظته قلت: ألحا ... ظ خليع قد مال سكراً فأغفى
منه مثل الإبريز في صفرة اللو ... ن ومنه مثل الجمان المصفى
فكأني بما أقلب منه ... صيرفي أضحى يحاول صرفا
وقول إسماعيل بن بدر وهو حلال من السحر:
أهدي إليك من النوار أحسنه ... قد ضل في وصفه من قلبي الناسُ
كأنها نقر من فضة وضعت ... فيها من الذهب الإبريز أكواسُ
على الزمرد قامت عند منبتها ... في كل نوارة مفتوحة كاسُ
وقال الحاجب أبو الحسن جعفر بن عثمان المصحفي يصفه بألفاظ رطبة، ومعان عذبة، وأشار في أول بيت إلى ممدوح لم يسمه، وهي:
بنفسي وأهلي طالع خلت أنه ... بأخلاق معشوق العلا يتخلقُ
حكى الفضة البيضاء والتبر منظراً ... ولكنه بالنفس ألطى وأعلقُ
فصيح إذا استنطقته عن زمانه ... وما خلت أن النور من قبل ينطقُ
يبثك أنفاس الحبيب وإنها ... لأذكى من المسك الذكي وأعبقُ
أتانا على عهد الشتاء مبشراً ... بعهد يروق الناظرين ويونقُ
وقال أبو عمر احمد بن فرج - وقيل: أخوه عبد الله - يصفه:
ونرجس تطرف أجفانه ... كمقلة قد دب فيها الوسنْ
كأنه من صفرة عاشق ... يلبس للبين ثياب الحزنْ
قال أبو الوليد: جرى في ثياب الحزن على مذهب أهل الأندلس، إذ ثياب حزنهم بيض وهو تشبيه بديع، وتمثيل رفيع، ومعنى مطبوع.
ومن التشبيهات العقم التي تدل على يقظة الفهم، قول ابن القرشية عبد العزيز ابن المنذر بن عبد الرحمن الناصر لدين الله - رضي الله عنهم - وهو:
كأن الثرى ستر تمد خلاله ... بأكواس راح راحهن الكواعبُ
يسترن من فرط الحياء معاصماً ... بأكمامهن الخضر عمن يراقبُ
جعل قضبه الخضر معاصم مستورة بأكمام خضر، وجعل أكفها مبيضة وكؤوسها مصفرة. وأنشدني الفقية أبو الحسن بن علي الأشجعي النحوي يصف بهاراً أخرجه إليه أحد بني بخت وسأله وصفه، فقال على البديهة:
ما للبهار نظير في النواوير ... إذ صار أول مخصوص بتبكيرِ
أما ترى الصب والمعشوق قد جمعا ... في لونه بين تبييض وتصفيرِ
كأنما رق للعشاق منظره ... فعجل النور من بين النواويرِ
أحبب به فلقد أنبا بطلعته ... عن السرور وإتمام التباشيرِ
وكتب الوزير أبو مروان بن الجزيري إلى المنصور أبي عامر بن أبي عامر وهو بأرملاط، عن بهار العامرية في كانون الأول الكائن في سنة ثلاث وثمانين وثلاث مئة:
بسم الله الرحمن الرحيم

أطال الله بقاء المنصور مولاي، وأدام عزه، وهنأه سروره، وسوغه نعمه عنده، إني - أيد الله المنصور مولاي - لما استقلت زهرتها مائلة قضبي، وتنبهت من سنتها نائمة جفوني، ونمت بعطرها ساطعة روائحي، وافترشت ديباج حديقة بكر وسميها، وتتابع وليها فالتقى ثرياها، وأخذت الأرض زخرفها وازينت وطاب صعيدها حتى كأن ترابها فتيت المسك، أو سحيق الكافور، عن لي زهو بحسني وارتياح لحالي، وإعجاب بمكاني، وشاركت ذلك دواعي هزة الشوق إليك، وشواجي لوعة البعد عنك حين فارقت محلي، وآثرت بالزيارة غيري فحركن مني ساكناً، وبعثن لي على مناجاة الشعر خاطراً. فأجابني منه ما ضمنته غرائب وصفي وأهديته إلى مولاي مع محاسن شخصي الذي هو غرس همته وابن نعمته لعل فعلي أن يوافق منه قبولاً، ويقسم لي من حسن تذكره نصيباً بواسع تفضله وسابغ تطوله، وكريم تحاوره. والشعر:
حدق الحسان تقر لي وتغار ... وتضل في صفة النهى وتحارُ
طلعت على قضبي عيون كمائمي ... مثل العيون تحفها الأشفارُ
وأخص شيء بي إذا شبهتني ... درر تنطبق سلكها دينارُ
أهدت له قضب الزمرد ساقه ... وحباه أنفس عطره العطار ُ
أنا نرجس حقاً بهرت عقولهم ... ببديع تركيبي فقيل: بهارُ
إني لمن زمن الربيع تربني ... قطع الرياض وتلقح الأمطارُ
فأكون عطراً للأنوف ومنظراً ... بهجاً تهافت نحوه الأبصارُ
وتحية بين الندام تحت لي ... نخب الكؤوس وتنطبق الأوتارُ
وأقل جود العامري محمد ... ألف حكت حدقي وتلك نضارُ
عشر تعد من المئين لأنمل ... عشر يصرفها وهن بحارُ
قوله: ألف حكت إنما أنث الألف لصرفها إلى الدراهم، وأما الألف فمذكر. ولا يحتاج إلى ذكر أكثر من هذا المدح، كما لا يحتاج إلى إطراء النظم والنثر بأكثر من أنهما حلال في السحر. ومن الحسن السري قول أبي عمر القسطلي يصفه في قطعة موصولة بمدح المظفر بن أبي عامر وهي:
دعيت فأصغ لداعي الطرب ... وطاب لك الدهر فاشرب وطبْ
وهذا بشير الربيع الجديد ... يبشرنا أنه قد قربْ
بهار يروق بمسك ذكي ... وصنع بديع وخلق عجبْ
غصون الزمرد قد أورقت ... لنا فضة نورت بالذهبْ
إذا جمعت في حبال الحرير ... وقامت أمامك مثل اللعبْ
فمن حقها أن ترى الشاربين ... وقد نفقت سوقهم بالنخبْ
وأن يسألوا الله طوال البقاء ... لعبد المليك مليك العربْ
فلولا مجالسه لم ترق ... ولولا شمائله لم تطبْ
وأنشدني الفقيه أبو الحسن بن علي للفقيه أبي عثمان بن البر قريبه:
ألا فاسقني روح النفوس وأنسها ... ولين بماء المزن في المزج مسها
وشعشع لنا شمس الشمول ببدرها ... وأجر علينا بالمسرة كأسها
فأنت ترى أقمار نرجس روضنا ... خلاف السماويات جاوزن شمسها
محاسن لو دانت أخا العي باقلاً ... إذا بذ سحبان البرايا وقسها
وأنشدني لنفسه فيه الوزير أبو عامر بن مسلمة قطعة غريبة التشبيهات عجيبة الصفات، وهي:
قد جاءنا رائد الربيع ... بمنظر رائق بديعِ
هو البهار الذي تعلى ... وجل في حسنه الرفيعِ
كأنه مقلة تشكى ... إلى الحيا قلة الهجوعِ
أكف كافورة قد أومت ... بكأس تبر إلى الربيعِ
أو شعلة النار وسط ماء ... جسد من ثوبه النصوعِ
وله فيه قطعة توازي هذه جمالاً، وتضاهيها كمالاً كتب بها إلى أبي - وقاه الله بي - وبعث معها بهاراً مبكراً:
أيا ماجداً لم يزل جوده ... يلوح كما لاح ضوء النهارِ
ويا من أحل بأمواله ... سماحاً أخل بصوب القطارِ
بعثت إليك بنور البهار ... حكى فضة حول محض النضارِ
هو الدر نظم من بينه ... يواقيت فاقعة الإصفرارِ
أو الماء صير من فوقه ... إذا ما تأملته ضوء نارِ
نهار ولكنه باهر ... فعوض من ذاك باسم البهارِ
كما بهرت منك سيما العلا ... فألبست البدر ثوب السرارِ
بقيت ووقيت صرف الردى ... فإنك في كل أمر مداري
ومما يستحسن فيه وتستغرب معانيه قول صاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية وهو:
زمرد أورقت أغصانه درراً ... فراح كالراحة البيضاء منفطرا

يقل ياقوتة صفراء فاقعة ... كأنها التبر من فوق اللجين جرى
هو النهار ولكن رد نقطته ... مكيدة تحته النوار إذ وغرا
ثمت دعاه بهاراً كي يهجنه ... وقد حوى قصبات السبق إذ بهرا
كمقلة دب في أجفانها وسن ... فرنقت غير أن لم تدر طعم كرى
وأهدى صاحب الشرطة أبو بكر المذكور مطيب بهار إلى الوزير أبي عامر بن مسلمة وكتب معه أبياتاً رائقة السمات، فائقة الصفات وهي:
قل لريحانة العلا والمكارم ... والكريم النجار وابن الأكارمْ
قد بعثنا إليك يا خير ناش ... بالدنانير فوق محض الدراهمْ
لم يسس طبع هذه جعفر قط ... ط ولا ضرب تلك راحة قاسمْ
ببهار يحكي جمالك حسناً ... وحكى عرفك الذكي لناسمْ
يتشكى الظما وفي يدك الري ... ي فإن لم تروه كنت ظالمْ
دمت للمهرجان والعيد والني ... روز إلفاً من الحوادث سالمْ
فجاوبه الوزير أبو عامر بن مسلمة بديهة بأبيات تشاكلها براعة وتشابهها بزاعة وهي:
في النرجس الغض شبه لا خفاء به ... للنيرين يرى في طالع الزهرِ
فصفرة الشمس قد ردته صفرتها ... وقد مبيضه من صفحة القمرِ
كأن ياقوتة صفراء قد طبعت ... في غصنه حوله ست من الدررِ
حسن يدل على إتقان صانعه ... سبحانه مبدع الأخلاق والصورِ
وله أيضاً فيه قطعة موصولة بمدح ذي الوزارتين القاضي - أطال الله عمره كما أطاب ذكره - وهي:
أرى في البهار النرجسي تلألؤاً ... عيون الورى مشغوفة بالتماحهِ
كأن الرياض الخضر صغن لباسه ... بشكلين من ماء الغمام وراحهِ
أو الدهر رداه سروراً بشخصه ... رداءين من إسفاره وصباحهِ
فحلته في لونها ذهبية ... وفضية أثناء عقد وشاحهِ
جمال به حل الربيع قراره ... ومنه كسا لا شك نور أقاحهِ
كما قد تحلى الدهر من بعد عطلة ... بجود ابن عباد وفضل سماحهِ
به نيلت الآمال في كل بغية ... وبوشر برد الأمن تحت جناحه
ومن البديع المختار فيه ما أنشدني لنفسه أبو جعفر بن الأبار وهو:
أما ترى الروض راضاه الحيا فبدا ... للنرجس الغض فيه لحظ مبهوتِ
مثل العيون رنت أشفارها درر ... لكن أناسيها صفر اليواقيتِ
الأناسي: جمع إنسان وهو ناظر العين وحدقتها.

البنفسج
وأنشدني فيه لنفسه أبو علي إدريس بن اليمان بيتين سابقين. وقال أبو قاسم بن هانئ الأندلسي:
بنفسج جمعت أنواره فحكت ... كحلاً تشرب دمعاً يوم تشتيتِ
أو لازوردية أربت بزرقتها ... وسط الرياض على زرق اليواقيتِ
كأن قضبانه والريح تحملها ... أوائل النار في أطراف كبريتِ
وللوزير الكاتب أبي الأصبغ بن عبد العزيز فيه قطعة أغيت في الجمال فأعيت أهل الكمال، موصولة بمدح الحاجب - حجبه الله عن النوائب - وهي:
وبنفسج أربى على النوار ... وأفادنا عطراً بلا عطارِ
فكأن أعلاه في فيروزج ... وبساطة في خضرة الأشجارِ
وافاك في وقت الزيارة قائماً ... وقد انحنى للوحي بالأسرارِ
هو مسكة خلقت لها أوراقها ... في لونها من صنعة الجبارِ
أو رقعة زرقاء من كبد السما ... في يوم صحو فتنة النظارِ
أو لمة الحسناء تحسب وسطها ... للزعفران مواضع الآثارِ
أو لجة كحلاء هزتها الصبا ... فتكسرت ليناً على مقدارِ
أو درع حاجبنا أتته صقلية ... وقد انبرى للفتك بالكفارِ
ملك قلوب الأسد بين ضلوعه ... وبوجهه قمر من الأقمارِ
فإذا سطا فالصبح داج مظلم ... وإذا عفا فالليل في إسفارِ
ومن المعاني الجزلة في الكلمات العذبة ما أنشدني لنفسه فيه أبو عامر بن مسلمة وكتب به إلى ذي الوزارتين أبي أيوب بن عباد - أبقاه الله - في زمن البنفسج وهو:
يا من تحلى به الفخ ... ر والسناء يتوجْ
ومن بجود يديه ... باب الغنى غير مرتجْ
ومن بطيب ثناه ... نار العلا تتأججْ
إذا انتشيت فعرج ... على رياض البنفسجْ
تجد به روض حسن ... في ثوب أرض مدبجْ
فثم فاعكف وباكر ... مدامة تتوهجْ
ترى زمرد أرض ... منه اليواقيت تنتجْ

كأنه لجة البح ... ر غاص فيها ملججْ
فأخرج الزرق لكن ... بغيرها لم يعرجْ
حكى حسام أبي أي ... وب المتضرجْ
أعني ابن عباد الما ... جد الكريم المتوجْ
وأنشدني لنفسه فيه الفقيه أبو الحسن بن علي أحسن ابتداع وأغرب اختراع موصولاً بمدح ذي الوزارتين أبي عمرو بن عباد - أدام الله عزته ووصل حرمته - وهو:
ألا حبذا المحبوب نور البنفسج ... وأحبب بمرآة البديع وأبهجِ
حياة وروح لعليل نسيمه ... ومنظره أنس المتيم والشجي
ونواره كالعقد في صدر غيد ... لمختلس سهو الرقيب ومدلجِ
وحمر اليواقيت الوضاء وصفرها ... تألفتا في لونه المضرجِ
فلو نظمته الحاليات لأشرقت ... جواهره في كل قرط ودملجِ
محاسنه من حسن عباد الرضا ... ولألاؤه من وجهه المبتلجِ
وله أيضاً بيتان استوليا على أمد الإحسان وهما:
إذا ما نواوير البنفسج أطلعت ... جواهرها في الروض نثراً بلا سلكِ
رأيت سماء وشحت درع خضرة ... عليها نجوم طالعات من المسكِ
ولأبي جعفر بن الأبار فيه قطعة جيدة الحبك حسنة السبك موصولة بمدح الحاجب - لا أعد منا الله جاهه كما أعدمنا أشباهه - وهي:
صاد الزمان ورو غلة صاد ... بمدامة لم تعد مولد عادِ
أو ما ترى ثغر الثرى مبتسماً ... لك عن مراد مونق ومرادِ
وبنفسج الروض الأغر كأنه ... في حسنه لعس عليه بادِ
لا بل كأجنحة الفراش تألفت ... نسقاً وقد خضبت من الفرصادِ
روض يظل اللحظ يعبد حسنه ... كعبادة العليا بني عبادِ
يزهي المحافل والجحافل منهم ... أسنى عميد للورى وعمادِ
الحاجب المحجوب طاهر عرضه ... بندى جواد في الرهان جوادِ
صلتان ما زالت حداد سيوفه ... وقناه تكسو الشرك ثوب حدادِ
قوله: صاد أول القطعة أمر من صاديته إذا درايته. وصاد الثاني اسم الفعل من الصدى وهو: العطش والفرصاد: التوت وقوله: في الرهان جواد. معناه سابق وجواد قبله بمعنى كريم وحداد سيوفه معناه: قاطعة ماضية، وحداد الثاني: لبسة الحزن وهيئته. ولأبي علي إدريس بن اليمان فيه قطعة رفيعة الوصف، بديعة الرصف وهي:
فتق الثرى من نوره بكواكب ... دعج النواظر والخدود عجائبِ
فأدر علي الكأس بيضختية ... في دولة النجم الرفيع الثاقبِ
طبع الربيع على بشاشته به ... طبع الشبيبة فوق ثدي الكاعبِ
شبه لونه بلون أطراف الثدي وهو من الاختراع السري. وبيضختية: منسوبة إلى بيضخت قرية بعينها. وأنشدني لنفسه أيضاً فيه بيتين أنيقي التشبيه وهما:
وأريضة حاك الغمام برودها ... وسقى بريق الغانيات برودها
ضحك البنفسج فوقها فكأنما ... نثرت به خضر الحمام عقودها
شبهه بلون أطواق القماري، وهي موضع العقود ممن يستعملها، وهذا التمثيل مفضل له مستحسن منه. قال أبو الوليد: هذا ما عثرت عليه في البنفسج، وحين أوردته أبدأ بالخيري النمام إذ يقرب من حسنه ويشاركه في لونه.

الخيري النمام
أطبع ما جاء فيه، وأبزع ما شبه به قول أبي مروان المرادي وهو:
ينم مع الإظلام طيب نسيمه ... ويخفى لدى الإصباح كالمتسترِ
كعاطرة ليلاً لوعد محبها ... وكاتمة صبحاً نسيم التعطرِ
هذا المعنى ابتذله الشعراء بعده، وهو اختراع حسن له. ولأبي عمر يوسف بن هارون الرمادي فيه تشبيه حسن من قصيدة بديهي وهو:
انظر غرائب للخيري ظاهرة ... عند الظلام وعند الصبح تستترُ
كأنه سارق طبيباً تفرق في الظ ... ظلماء فهو بنم الريح مشتهرُ
وقال أبو عمر أحمد بن دراج القسطلي يصفه في قطعة سرية موصولة بمدح المظفر بن أبي عامر - رحمه الله - وهي:
غدا غير مسعدنا ثم راحا ... يساعدنا طرباً وارتياحا
وخير فاختار شرب الغبوق ... ولج فليس يرى الاصطباحا
فإن آنس الصبح نام وشح ... وإن آنس الليل نم وفاحا
كما خير الله عبد المليك ... فاختار في راحتيه السماحا
وفي صهوات الخيول الرجال ... ومن أدوات الرجال السلاحا
فعم القريب ندى والبعيد ... وروى السيوف دماً والرماحا

ولأبي القاسم بن شبراق فيه وصف بديع وتشبيه مطبوع في قطعة موصولة بمدح المنصور لن أبي عامر - رحمه الله - وهي:
وبنفسجي اللون يكتم طيبه ... عند الشروق وفي الظلام ينم بهْ
فكأنه ذو مذهب ألفى الدجا ... ستراً وأمسك مصبحاً عن مذهبهْ
أو مستسر عن غريم فاقه ... غربت لجاجاً نفسه بتطلبهْ
والصبح من غرمائه ولأجل ذا ... لك يستسر تلوذاً عن مطلبهْ
قد كان يأخذه الصباح بغفلة ... لو لم ينم عليه مطلع كوكبهْ
ككتائب الرعب التي تتقدم ال ... منصور وهو بإثرها في موكبهْ
فتفر قبل حلوله عند العدا ... علماً بأن النصر أمر خص بهْ
ومن الباهر جماله، الظاهر كماله، قطعة لصاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية موصولة بمدح أبي - أبقى الله علي ستره ورزقني بره - وهي:
ومضرج الأثواب مسكي النفس ... فكأنما اشتقت حلاه من الغلسْ
شرك البنفسج في الأديم فلونه ... من لونه فكأنه منه اختلسْ
يسري إذا طرق الظلام نسيمه ... ويظل يكمن بالنهار كذي دلسْ
متنكراً حتى المساء وإنما ... سلطانه بالليل فهو من الحرسْ
جنس يخالف كل جنس في التعر ... ري والتلبس والتوحش والأنسْ
فتراه طول نهاره متجرداً ... من عرفه ومع الدياجي ملتبسْ
وتراه طول نهاره متوحشاً ... فإذا دنا وقت الظلام له أنسْ
أنس المعالي بابن عامر الذي ... عمرت بدولته منازلها الدرسْ
أحيى الرياسة بالسياسة فهو مف ... صح لكنها... بعد الخرسْ
وعلا فلم يرث العلا والمجد عن ... جد له نكس ولا جد تعسْ
نور توقد فاستبان بلمحه ... ما كان أشكل قبل ذلك والتبسْ
ولبعض الأندلسيين فيه مغزى دقيق ومعنى رقيق، وقيل: إنه لعبادة بن ماء السماء وهو:
وكأن الخيري في كتمه الطي ... ب فقيه مغرى بطول رياءِ
يظهر الزهد بالنهار ويمسي ... فاتكاً ليله مع الظرفاءِ
وقال الوزير أبو عامر بن مسلمة يصفه بأبدع وأغرب وهو:
وروضة محفوفة ... بكل حسن مقترحْ
خيريها بخلقه ... عن كل نور منتزحْ
يكتم أسرار الهوى ... فإن أتى الليل يبحْ
مغتبق ليس يرى ... في دينه أن يصطبحْ
ومن التشبيه العلي قول الفقيه أبي الحسن بن علي وهو:
ما أكرم الخيري في فعله ... يسهر إذ نور الربا ناعسُ
كأنما خاف عليه العدا ... فهو له في ليله حارسُ
قال أبو علي إدريس بن اليمان يصفه بوصف متقدم الإحسان وهو:
مراشف الخيري حو لعس ... كأنه قد قبلته الشمسُ
أو نفست للمسك فيه نفس ... الطيب في الليل عليه حبسُ
وماله تحت النهار حس ... كأنما الضوء عليه حبسُ
قوله: قبلته الشمس: يعني أن لونه كلون من أثرت فيه الشمس، وإلى هذا أشار وإياه أراد. وله أيضاً فيه تشبيه عجيب أنشدنيه وهو:
أهلاً بسار طيب لا سارب ... أضحى هواه مضرباً بضرائبِ
يا ناجم الخيري جادك كل ذي ... ثغر لجيب الدجن فوقك جائبِ
أعطيت أنفاس الحبيب معطراً ... وخلقت من خيلان ثوب الكاتبِ
ومما كثر شغف أهل الميز به، واستحسان ذوي الفهم له قول أبي جعفر الأبار وهو:
لا تعذلوا الخيري في كتمه ال ... طيب استتاراً فهو عين الصوابْ
الصبح شبه الشيب في لونه ... فعافه والليل شبه الشبابْ
وأنشدني لنفسه فيه أبو بكر بن نصر أبياتاً مطبوعة تضمنت أوصافاً بديعة وهي:
أحب من الإخوان ندباً مبادراً ... نقي الحلى مما يدنس طاهرا
يلم بليل للمدام منادماً ... وينفض عني حين يصبح سائرا
وريحاننا الخيري محضاً فإنني ... تخيرته بين النواوير ناضرا
لما أنه يضحي مع العرف عاطلاً ... نهاراً ويمسي مدة الليل عاطرا
كأن له لب الأريب فما يرى ... مشاهدة اللذات إلا مساهرا
قال أبو الوليد: وبعث إلي صاحب الشرطة أبو الوليد بن العثماني مطيب خيري مبكر، وكتب معه قطعة نثر مقتطعة من السحر، وهي بعد صدرها:

بعثت بخبري جاز حد التبكير بأنسه، فحاز قصب السبق في أبناء جنسه، منظره أربى على المسك بنضرته، ومخبره قصر عن شيمك على بسطته، فأقبله بحق المجد عليك، ووسائل الحمد إليك، بهجاً منظره، أرجاً مخبره، إذا دنا الظلام ونام الأنام إلا من استدعى عرفه، واستجدى عرفه.
فجاوبته والجواب بعد صدره: فلما تعاهدت خيريك عهاد شيمك، ودامت عليه ديم كرمك، بكر متنعماً منها متنفساً عنها، ولا ند له إلا الند ولا مسك له إلا المسك، وقد قبضته مشغوفاً به مستلذاً بقربه، متعجباً من حسن اختياره لاستتاره باستهتاره تحت جناح الظلام ليسلم من الجناح والملام. وقد صنعت فيه أبياتاً بديهية متأخرة، فأغض على ما فيها محسناً إلى مهديها. وهي:
نهار خيريك في ليله ... كذلك الليل نهار الأديبْ
ينم فيه وينام الضحى ... تصاوناً عن كل أمر معيبْ
كأنما الليل حبيب له ... فهو إذا حل اكتسى كل طيبْ
كأنما الصبح رقيب له ... فيرعوي عند طلوع الرقيبْ
الند: المثل. والند: الطيب. والمسك: الجلد. قال أبو الوليد أكثر ما وصف من الخيري هذا النمام، وقلما ما وصف الأصفر وأنا ذاكر ما وقع إلي فيه:

الخيري الأصفر
من ذلك قول أبي عمر القسطلي:
أعاره النرجس من لونه ... تفضلاً وازداد من طيبهِ
وناسب النمام لما انتهى ... إلى اسمه الأدنى وتركيبهِ
وما يجري واحداً منهما ... إلا كبا في حين تقريبهِ
وأحسن من هذا قول الفقيه أبي الحسن بن علي وهو:
كأنما الخيري مستهتر ... بالحب قد أنحله العشقُ
صفرته تنطق عن حاله ... ورب حال دونها النطقُ
أعاره المزن رداء الندى ... وصفرة المتشح البرقُ
ما أوجه اللذات محجوبة ... إذا تبدى وجهه الطلقُ
وحين أحضرنا ما في الخيري الأزهر، نبدأ بالنرجس الأصفر.
النرجس الأصفر
قال الوزير أبو مروان عبد الملك بن جهور - رحمه الله - يصفه فأبدع وأعجب وأحسن وأغرب أنشدنيه له حفيده عبد الله، وهو:
واصفر حتى كأن الإلف يهجره ... وطاب حتى كأن المسك ينثرهُ
واخضر أسفله من تحت أصفره ... فراق منظره الباهي ومخبرهُ
يا نرجساً ظل قدامي تنم له ... ريح تذكرني شوقي فأذكرهُ
زمرد مائل من فوقه ذهب ... معين نابه منه ومحجرهُ
هيجت لي شجناً قد كان فارقني ... ذكرتني بالذي ما زلت أؤثرهُ
وكتب الوزير الكاتب أبو مروان بن الجزيري إلى المنصور أبي عامر - رحمهما الله - عن نرجس العامرية في أول يوم من كانون الآخر سنة ثلاث وثمانين وثلاث مئة فأبدع واخترع وهو:
حيتك يا قمر العلا والمجلس ... أزكى تحيتها عيون النرجسِ
زهراً تريك بشكلها وبلونها ... زهر النجوم الجاريات الكنسِ
طلعت مطالعها على مخضرة ... من سوقها كسيت برود السندسِ
فتزينت حسناً أتم تزين ... وتنفست طيباً ألذ تنفسِ
وملكن أفئدة الندامى كلما ... دارت بمجلسهم مدار الأكؤسِ
ملك الهمام العامري محمد ... للمكرمات وللنهى والأنفسِ
لبس الزمان وأهله من عهده ... وفعاله المشكور أكرم ملبسِ
فإذا ذهبت إلى الثناء فقفه من ... بين الأنام على علاه واحبسِ
ولأبي عمر القسطلي فيه قطعة بديعة تضمنت أوصافاً رفيعة، موصولة بمدح المظفر بن أبي عامر وهي:
شكلان من راح وروضة نرجس ... يتنازعان الشبه وسط المجلسِ
متباهيين تلوناً بتلون ... متباريين تنفساً بتنفسِ
فكأنها من حد سيفك تلتظي ... وكأنه من طيب خلقك يكتسي
يا من علا من رتبة في رتبة ... حتى غدا وسط النجوم الخنسِ
وابن الذين هداهم ونهاهم ... أدب الملوك وأسوة للمؤنسي
ومن أنفس ما ملح به في النرجس قطعة للوزير الكاتب أبي الأصبغ بن عبد العزيز وكان يلبس ثوباً رفيع القدر، نرجسي اللون، وهي:
رأيت عباداً له ملبس ... في حشوه الجود معاً والكرمْ
فقلت سبحان العزيز الذي ... أودع ذا الثوب رفيع الهممْ
أروع في سؤدده سابقاً ... أبيض مثل البدر بادي الشممْ
كأنما صفرة أثوابه ... وطيبها نرجسه إذ تشمْ

قد كنت يا نرجس من قبل ذا ... تبخس من حقك ما قد علمْ
فالآن فافخر في جميع الورى ... على النواوير وحاشاك ذمْ
بعز من قد حزت تشريفه ... وفضل من لا فارقته النعمْ
وأنشدني لنفسه الفقيه أبو الحسن بن علي في النرجس الكبير الذي تسميه العامة القادوسي تشبيهاً بالقادوس على لغتهم، وصوابه القدس أبياتاً رقاقاً تضمنت معاني دقاقاً موصوله بمدح الحاجب سراج الدين الثاقب وهي:
في النرجس القدسي النور والقصب ... حسن يفوق به تربيه في النسبِ
له من التبر كأس قاعه لحج ... موسع العلو قد أبداه للعجبِ
مشم طيب إذا استنشيت زهرته ... وظرف أنس إذا ما شئت للنخبِ
ومائل الجيد من سكر النعيم به ... حكى ثنى الثمل المشغوف باللعبِ
كغادة ثوبها من سندس طلعت ... للشرب في كفها كأس من الذهبِ
فكيف يعقل حظ النفس من طرب ... من كان يلحظ هذا الحسن من كثبِ
ثم دخل إلى المدح فقال:
يا حاجباً رقمت في الكتب سيرته ... بالحبر وانتقشت بالتبر في القضبِ
ويا عماداً له يوماً ندى ووغى ... ذا للأيادي وذا للبيض واليلبِ
إن دمت للعجم لم يعجم لها خبر ... وأعرب السعد بالإقبال للعربِ
قوله: حسن يفوق به تربيه يعني النرجس الأصفر المعروف، والنرجس المسمى بالبهار وقوله قاعه لحج اللحج: الضيق، ولم أر لأحد قبله في هذا الصنف من النرجس وصفاً، وهو معدوم عندنا بإشبيلية.. وكان كتب إلي مع هذه القطعة بيتين وهما:
اسأل أبا عامر عنه ابن مسلمة ... تسأل خبيراً بمعنى الظرف والأدبِ
إن صار قوم إلى قصف على مهل ... طواهم بخطا التقريب والخببِ
وقال صاحب الشرطة أبو بكر بن القوطية يصفه في أبيات وهي:
زبرجد فوقه نضار ... مخلص لم تذبه نارُ
كأنما هب من كراه ... وسنان أو شفه انكسارُ
وطاب عند المشم حتى ... للمسك من بينه انتشارُ
قد شارك الدهر فهو ليل ... وافاه من صبحه اصفرارُ
فأول الخلق منه ليل ... ومنتهى خلقه نهارُ
أبدعه في الرياض منش ... له على الخلقة اقتدارُ
شبه خضرة سوقه بسواد الليل، والخضرة والسواد عند العرب بمنزلة. ويقرب من معنى هذا القطعة ما أنشدنيه لنفسه فيه الفقيه أبو الحسن بن علي وهو:
أرى النرجس التبري يعنو له الفكر ... ويقصر عن أوضافه النظم والنثرُ
كأن الدجا قد صاغ خضرة ثوبه ... وألقى عليه حسن صفرته الفجرُ
تخال به في الروض أقيال معشر ... ثيابهم خضر وتيجانهم صفرُ
يحييك بالتأنيس رونق حسنه ... ويلقاك منه قبل رؤيته النشرُ
قال أبو الوليد: ولي قطعة في النرجس موصولة بمدح ذي الوزارتين عباد - وصل الله حرمته وأطال مدته - وهي:
وروض أريض لم يزل يغتذي بما ... يروح عليه من سحاب ويغتدي
بدا النرجس المصفر فيه مباهياً ... بلون كلون المستهام المسهدِ
ترى كل نور منه فوق قضيبه ... كلمة تبر فوق جيد زبرجدِ
إذا ما سرى منه نسيم لواله ... سرى عنه جلباب الجوى المتوقدِ
حكى منظراً نصراً وخبراً خلائق الن ... نجيب أبي عمرو سليل محمدِ
فداه عداه كم له من فضيلة ... وفضل ندى يغني به كل مجتدِ
قال أبو الوليد: هذا ما جمعته في النرجس، ويجب أن نبدأ بذكر الورد، ونورد ما وقع إلينا فيه من تمثيل حسن وتشبيه.

الورد
لم يوجب تأخير أمره، ولا ولد إرجاء ذكره تأخر منزله، ولا انحطاط رتبته، وإنما بنينا أن نقدم من تقدم به زمانه، ونبدأ بمن بكر به أوانه، وقد مضت مشاهير الأنوار المبكرة التي كثر القول فيها، وتردد الوصف لها.
فمن المستندر في الورد قول الحاجب أبي الحسن جعفر بن عثمان المصحفي وقد أهدى إليه الوزير زياد بن أفلح ورداً سيق إليه من ريه في شهر كانون الآخر وهو - أعني قول المصحفي - :
لعمرك ما في فطرة الروض قدرة ... تحيل بها مجرى الزمان عن الحدِّ
ولكنما أخلاقك الغر نبهت ... بربعك في كانون نائمة الوردِ
كأنك قد أمطرتها ديمة المجد ... وأجريت في أغصانها كرم العهد

فلما وصل هذا النظم المستملح إلى زياد بن أفلح بعث إليه بوردة كان احتبسها لنفسه فكتب إليه ثانية بيتين وهما:
فاجأني كانون بالورد ... فزادني وجداً إلى وجدِ
ورد العلا أهدى لنا وردة ... يا حبذا الورد من الوردِ
ومن السري السني قول الوزير الكاتب أبي مروان الجزيري رحمه الله:
أهدى إليك تحية من عنده ... زمن الربيع الطلق باكر وردهِ
يحكي الحبيب سرى لوعد محبه ... في طيب نفحته وحمرة خدهِ
وكتب أيضاً أبو مروان إلى الوزير أبي مروان عبد الملك بن شهيد في أخريات أيام الورد بأبيات أنيقة الصفات وهي:
قل للوزير الذي جلت فضائله ... فسر لنا شرح معنى سال سائلهُ
وأي وصليه موجوداً ومفتقداً ... أولى وأجدر أن ترعى وسائلهُ
وقد أتاك لتوديع على عجل ... خضراً مقانعه حمراً غلائلهُ
فامنحه منك قبولاً واقض نهمته ... من الوداع فقد شدت رواحلهُ
لا زلت دهرك محبواً زيارته ... إذا انقضى عامه وافاك قابلهُ
وبلغني أن الوزير ابن شهيد جاوبه بأبيات لم تقع إلى ولا وردت علي. وأنشدني الوزير أبو عامر بن مسلمة للوزير أبيه - رحمه الله عليه - أبياتاً مطبوعة كتب بها إلى الوزير عيسى بن سعيد يستدعيه إلى الفصد، تضمنت وصفاً حسناً للورد وهي:
ما يطيب التفجير دون صديق ... ممحص مخلص شقيق شفيقِ
وقد اخترته نهاراً بهياً ... كمحياك مستنير الشروقِ
عندنا الورد قد تألف من لو ... نين لون المها ولون العقيقِ
كخدود تبرقعت بحياء ... فوق ديباجها الأنيق الدقيقِ
فتفضل وخف نحو صديق ... أنت في نفسه أجل صديقِ
ونزل أبو عمر يوسف بن هارون الرمادي على بني أرقم بوداي آش فقدم إليه فيما أكرم به طبق ورد، وكان في فصل الشتاء فاستغربه، ثم أخذ منه وردة واحدة وقال بديهية:
يا خدود الحور في إخجالها ... قد علتها حمرة مكتسبهْ
اغتربنا أنت من بجانة ... وأنا مغترب من قرطبهْ
واجتمعنا عند إخوان صفاً ... بالندى أموالهم منتهبهْ
عصبة إن سئلت عن نسبة ... فإلى أرقمها منتسبهْ
إن لثمي لك قدامهم ... ليس فيه فعلة مستغربهْ
لاجتماع في اغتراب بيننا ... قبل المغترب المغتربهْ
ومما يستحسن فيه، وتستملح معانيه، قطعة لأبي عمر أحمد بن دراج القسطلي، موصولة بمدح المظفر بن أبي عامر - رحمه الله - وهي:
ضحك الزمان لنا فهاك وهاته ... أو ما رأيت الورد في شجراته؟ِ
قد جاء بالتأريخ من أغصانه ... وبخجلة المعشوق من وجناتهِ
وكساه مولانا غلائل سيفه ... يوماً يسربله دماء عداتهِ
من بعد ما نفخ الحيا من روحه ... فيه وعرف المسك من نفحاتهِ
إن كان أبدع واصف في وصفه ... فلقد تقاصر عن بديع صفاتهِ
كمديح سيف الدولة الأعلى الذي ... أعيا فأغيا في مدى غاياتهِ
ملك ينم الجود في لحظاته ... واليمن والإيمان في عزماتهِ
وحياته إن كان أبقى حاجة ... لمن ارتجاه غير طول حياتهِ
ولأبي القاسم بن شبراق في وردة لم تفتح وصف حسن مستملح:
خجلت إذ تأملتها العيون ... خجلاً في احمرارها يستبينُ
وردة وردت دموعي شوقاً ... للتي خدها بها مقرونُ
بنت غصن يقر بالكرم الده ... ر لها في رياضها والغصونُ
واستسرت عن العيون حياء ... وعرا عرفها الذكي سكونُ
سترت وجهها ببرقعها واس ... تقبلنا من الفتون فنونُ
كالفتاة الحيية انتقبت كي ... لا يرى وجهها الجميل المصونُ
وكتب الوزير أبو عامر بن مسلمة إلى ذي الوزارتين أبي عمرو عباد - أعزه الله وأحسن ذكراه - في زمن الورد يصفه فأحسن الوصف وأبدع التشبيه أنشدنيه وهو:
عباد يا خير الورى ... ومن به تزهى المدحْ
يا قمر الأرض ومن ... علا سماء ورجحْ
أما ترى الورد وقد ... رنا بطرف ولمحْ
كأنه دم جرى ... على طلى بيض وضحْ
أو خد غض عضه ... لحظ محب فانجرحْ
كأنما نسيمه ... عن خلق منك نفحْ

وبعث الفقيه أبو الحسن بن علي بورد مبكر في سباط إلى ذي الوزارتين القاضي - أعزه الله وأذل عداه - وكتب معه:
ليهنك يا واحد المكرمات ... وأهدى الملوك لقصد الصراطِ
جني من الورد قد حثه ... إليك تودده في سباطِ
وما ذاك أيام إقباله ... ولا وقت تنضيده في البساطِ
أصاب بإسراعه فاحبه ... وغفراً لسائره فهو خاطِ
وقال أيضاً الفقيه أبو الحسن يصفه في قطعة رائقة متضمنة لصفات فائقة موصولة بمدح ذي الوزارتين القاضي - أيد الله يده وحصد من حسده - :
للورد فضل السبق عند المفخر ... بالمنظر السامي وطيب المخبرِ
ورق من الياقوت نظم فوقه ... شذر من الذهب السبيك الأصفرِ
ونسيم فوح ليس يبلغ طيبه ... عبق العبير ولا دخان العنبرِ
نقص الزمان ضنانة من عمره ... وكذا النفيس القدر غير معمرِ
والنور غير الورد ليس لشخصه ... دون السباطة ذابلاً من مقصرِ
والورد يرفع غضه ويبيسه ... رفع الأكف طروف مسك أذفرِ
عمت منافعه كما عم الورى ... جود ابن عباد فريد الأعصرِ
وله أيضاً فيه بيتان استوليا على غاية الإحسان وهما:
نظر إلى الروض غير متئد ... تبصر جمالاً يصوغه الدهرُ
كأنما الورد فيه أطباق يا ... قوت عليها مغالق صفرُ
ولصاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية فيه قطعة سرية موصولة بمدح ذي الوزارتين أبي أيوب بن عباد أبقاه الله وأسبغ عليه نعماه وهي:
نور الربا خول والورد سلطان ... بذا قضى قبل آذار ونيسانُ
سر طوته فصول العام حاسدة ... لفضله إذ له السلطان والشانُ
حتى إذا ما الربيع الطلق نم به ... بدا وقد ضاق عن مثواه كتمانُ
معالجاً فتح أوراق تطبقه ... كما يعالج فتح العين وسنانُ
حتى تفتح من أكمام بردته ... كما تفتح بعد النوم أجفانُ
أما النسيم فطيب لا أكيفه ... واللون حسناً به الألوان تزدانُ
فما سوى الورد في النوار من ملك ... ولا كمثل أبي أيوب سلطانُ
ملك يريك اهتزاز الروض يتبعه ... حلم رسا منه فوق الأرض ثهلانُ
وللوزير الكاتب أبي حفص بن برد فيه أبيات بديعة ورفيعة التشبيه وهي:
هذا الربيع وكنت ترقبه ... فانظر بعيشك كيف تصحبهُ
قد نشرت حلل النبات به ... فبدا مفضضه ومذهبهُ
والورد قد سمت الغصون به ... تجلوه والأبصار تخطبهُ
والشمس قد ضرب الضحاء بها ... في صبغه فذكاء تلهبهُ
فكأن من يهواه مخجله ... وكأن رياه مطيبهُ
وكتب أبو جعفر بن الأبار إلى الوزير أبي عامر بن مسلمة في زمن الربيع يصف الورد ويحضه على إيثار الأنس، وجلاء صدأ النفس، فأحسن إحساناً يقرب على متأمليه، ويبعد على متناوليه، ووصف الورد بعد صدر متقدم من الشعر:
الورد ورد للعيون من الظما ... فاذكر أذمته الوكيدة واحفظِ
في لبسة التقوى يروقك منظراً ... فامنحه بالإنصاف طرفك والحظِ
وإذا الهجوع نأى فخير منوم ... وإذا السرور دنا فأحسن موقظِ
يا ممطري بفعاله ومقاله ... ومحافظي بوداده لا محفظي
افطن إذا أبدى الزمان تبالهاً ... وإذا تواهن جفنه فاستيقظِ
وبكل صرف فاستقد من صرفه ... وافظظ برقتها عليه وأغلظِ
فالهم يفرق من لآليء فرقها ... والحزن يطفأ عن سناها الملتظي
صفراء صفر الكأس من جثمانها ... تتخطف الأبصار مهما يلحظِ
لا زلت تسلم يا بن مسلمة الرضا ... معطي الأمان من الخطوب البهظِ
قوله: في لبسة التقوى يعني الحياء، ومن قول الله تعالى: " وريشاً ولباس التقوى " ، قيل: الحياء. وقوله: محافظي. هو من الحفظ والمراعاة. ومحفظي: من الإحفاظ وهو الإغضاب. وقوله: فالهم يفرق: يرتاع، ويفزع. والفرق لغة في المفرق من الرأس. وقوله: صفر الكأس من جثمانها: الصفر: الخيالة، والجثمان: الجسم، وفيه لغتان جثمان وجسمان. فجاوبه الوزير أبو عامر بن مسلمة بأبيات بديعة الصفات بزيعة الكلمات وهي:
يا واحد الأدباء غير مدافع ... ومن اغتدى في الفهم ناراً تلتظي
وافاني الشعر البديع نظامه ... فأزاح عني كل أمر محفظِ

فخراً لورد الروض إذ حاز المدى ... ببدائع من ذهنك المتيقظِ
الورد عندي في الخدود نفاسة ... ورياسة مهما يقس أو يلحظِ
هو آخر وله التقدم أولاً ... كم آخر قد حاز مفخر من حظي
وقد اعتمدت على الذي حبرته ... في نظمك الزاري بلفظ اللفظِ
وفضضتها صفراء يعشي ضوؤها ... حدق العيون الرانيات اللحظِ
قال أبو الوليد: وأهدى إلي صاحب الشرطة أبو بكر بن القوطية ثلاث وردات ليلة المهرجان، وكتب إلي معها أبياتاً أنيقة المعنى دقيقة المغزى وهي:
بعثت بأغرب الأشياء طراً ... وأعجبها لمختبر ومخبرْ
بورد ناعم غض نضير ... يروقك ناسماً طوراً ومبصرْ
أتى في المهرجان فكان فوق ال ... بكير غرابة وهو المؤخرْ
وإغراب المؤخر عن أوان ... يجيء به كإغراب المبكرْ
ولما أن غشيت الروض منه ... بروض فيك من مدحي منورْ
وقلت له: استمع لحلى كريم الس ... سجايا منتقى من سر حميرْ
تفتح من كمائمه وأبدى ... من النفحات ما قد كان أضمرْ
فماء ثناؤك العالي سقاه ... ومن أخلاقك العليا تفطرْ
فأوسعه القبول ودم عزيزاً ... مكيناً ما جرى نجم وغورْ
فلما وردت الورد الثلاث علي، ووصلت إلي، بعثت إلى أبي - وقاه الله بي - وكتبت إليه معها أربعة أبيات بديهية وي:
يا من تأزر بالمكارم وارتدى ... بالمجد والفضل الرفيع الفائقِ
انظر إلى خد الربيع مركباً ... في وجه هذا المهرجان الرائقِ
ورد تقدم إذ تأخر واغتدى ... في الحسن والإحسان أول سابقِ
وافاك مشتملاً بثوب حيائه ... خجلاً لأن حياك آخر لاحقِ
ولي أيضاً فيه قطعة موصولة بمدح أبي - أبقى الله علي ظله وقدمني إلى المنون قبله - وهي:
إنما الورد في ذرى شجراته ... كأجل الملوك في هيئاتهْ
راشق منظراً وخبراً وفذ ... في حلاه التي حلت وصفاتهْ
نفحة المسك من شذا نفحاته ... خجل الخد من سنا خجلاتهْ
مزجت حمرة اليواقيت بالدر ... ر فجاءت به على حسب ذاتهْ
مثلما جاء من سماح وبأس ... خلق الحميري سم عداتهْ
إن يعد فالوفاء حتم عليه ... فرضه في صلاته كصلاتهْ
ولي قطعة نثر كتبت بها إلى صاحب الشرطة أبي الوليد بن العثمان وبعثت معها ورداً مبكراً: بعثت بخدود المعشوقين قد أدمتها ألحاظ العاشقين، وأدمنت عليها ناظرة فتساقطت هكذا ناضرة فاحكم على العيون للخدود على ألا تعود إلى الصدود والسلام.
قال أبو الوليد: وحين استوفيت ما حصل عندي من الوصف للورد أبدأ بذكر ما عثرت عليه من المستحسن في وصف السوسن فهو صاحب الورد في زمانه، ومشاركه في أوانه.

السوسن
قال أبو الوليد: يقال: سوسن وسوسان بالألف ودونها، وقد تكررت في الشعر اللغتان، وترددت التسميتان. فمن مليح ما جاء فيه، وشبه به، قول أبي عمر أحمد بن فرج الجياني وهو:
بعثت بسوسن نضر ... ينم كجونة العطرِ
كأكؤس فضة فيها ... نفايا شهلة الخمرِ
أو الوجنتان منك دنت ... إلى وجناتي الصفرِ
وللوزير الكاتب أبي مروان بن الجزيري فيه وصف مفضل له، مستحسن منه وهو:
وملسن الطاقات أبيض ناصع ... يزهى بأصفر من جناه فاقعِ
أعداد زهرته إذا حصلتها ... ست سوى عدد الرقيب السابعِ
سكنت قرارة حجره كلفاً به ... كالأم تكلف بالصغير الراضع
صافي الأديم إذا تخلق صدره ... بخلوق أرؤسها الذكي المائع
أهدى الصبابة والهوى بنسيمه ... وبديع منظره الأنيق الرائع
سموه بالسوسان ظلماً واسمه ... في ما خلا ساسان غير مدافع
لما استذاع بفارس كلفت به ... أملاكه فدعته باسم شائع
الرقيب: هو القائم في وسط السوسنة وساسان: اسم ملك فارسي. أراد بهذا التمليح التنويه به، والترفيع من قدره. ومن المستندر المستحسن في وصف السوسن، قول أبي عمر الرمادي وهو:
سوسن كالسوالف البيض لاحت ... لمحب متيم من حبيبِ
قد أعارت عيوننا كل حسن ... وأعارت أنوفنا كل طيبِ
بعضها عاشق لبعض فبعض ... لمحب والبعض للمحبوبِ

فالحبيب المبيض منها إذا اصفر ... ر سواه اصفرار صب كئيبِ
لهما ثالث أناف كواش ... قام يحكي هواهما كالخطيبِ
فهما وهو في جميع المعاني ... كحبيب وعاشق ورقيبِ
ولأبي بكر يحيى بن هذيل فيه تشبيه أنيق، وتمثيل دقيق وهو:
ورب سوسنة قبلتها كلفاً ... ومالها غير نشر المسك منشوقِ
مصفرة الوسط مبيض جوانبها ... كأنها عاشق في حجر معشوقِ
ولأبي بكر هذا فيه قبل أن يتفتح وصف استحسن واستملح وهو:
فأول ما يبدو فخلق سبيكة ... مخلصة بيضاء أتقنها السبكُ
بنت نفسها فوق الزمرد واقفاً ... فلاحت كمثل الدر ضمنه السلكُ
جنى سوسن لولا سنا بشراته ... لما زين الأفواه ثغر ولا ضحكُ
ولبعض شعراء الأندلس وقد دخل على المنصور بن أبي عامر - رحمه الله - وبين يديه ثلاث سوسنات إحداها لن تفتح، فسأله وصفها فقال بعد أبيات لم أحتج إلى ذكرها:
تبدو ثلاث من السوسان قائمة ... وما تشكى من الإعياء والكسلِ
فبعض نواره بالحسن منفتح ... والبعض منغلق عنهن في شغلِ
كأنها راحة ضمت أناملها ... ممدودة ملئت من جودك الخضلِ
وأختها بسطت منها أناملها ... ترجو نداك كما عودتها فصلِ
قال أبو عمر أحمد بن دراج القسطلي يصفه فأحسن وأبدع، وأغرب واخترع:
إن كان وجه الربي مبتسماً ... فالسوسن المجتلى ثناياهُ
يا حسنه سن ضاحك عبق ... بطيب ريا الحبيب رياهُ
خاف عليه الحسود عاشقه ... فاشتق من ضده فسماهُ
وهو إذا مغرم تنسمه ... خلى على الأنف منه سيماهُ
كما يخلي الحبيب غالية ... في عارضي إلفه لذكراه
قوله: خاف عليه الحسود. البيت، يعني أنه سماه سوءاً وهو حسن خوف العين والحسد، وهو تمليح مستحسن.
ولأبي عمر أيضاً فيه وصف ثان معدوم المثال موسوم بالجمال صح عندي أن عبادة بن ماء السماء كان يقول: لم يخترع بالأندلس في معنى من المعاني كاختراع القسطلي في السوسان وهو في قطعة مطولة كتب بها إلى المظفر ابن أبي عامر أنا ذاكر منها ما تشبث بذكر السوسان من المستحسن وهو:
جهز لنا في الروض غزوة محتسب ... واندب إليها من يساعد وانتدبْ
واهزز رماحاً من تباشير المنى ... واسلل سيوفاً من معتقة العنبْ
وانصب مجانيقاً من النيم التي ... أحجارهن من الرواطم والنخبْ
لمعاقل من سوسن قد شيدت ... أيدي الربيع بناءها فوق القضبْ
شرفاتها من فضة وحماتها ... حول الأمير لهم سيوف من ذهبْ
مترقبين لأمره وقد ارتقى ... خلل البناء ومد صفحة مرتقبْ
كأمير لونة قد تطلع إذ دنا ... عبد المليك إليه في جيش لجبْ
فلئن غنمت هناك أمثال الدمى ... فهنا بيوت المسك فاغنم وانتهبْ
تحفاً لشعبان جلا لك وجهه ... عوضاً من الورد الذي أهدى رجبْ
واستوف بهجتها وطيب نسيمها ... فإذا دنا رمضان فاسجد واقتربْ
الشرفات: أوراق السوسن، والسيوف: النواوير المصفرة في أسفلها. والأمير القائم وسط السوسنة هو من الاختراعات الشريفة، والابتداعات البديعة.
ولأبي بكر عبادة بن ماء السماء إلى صديق له يستهديه سوسناً أبيات وصفه فيها وصفاً مستحسناً:
دمت بإنعام وإحسان ... إن أنت أنعمت بسوسانِ
لو كان نفساً حيوانية ... ما كان إلا نفس إنسانِ
كأنه أنمل حسناء لم ... تخضب يديها خوف غيرانِ
وأنشدني لنفسه فيه الوزير أبو عامر بن مسلمة أبياتاً مطبوعة محكمة وهي:
وسوسن راق مرآه ومخبره ... وجل في أعين النظار منظرهُ
كأنه أكؤس البلور قد صنعت ... مسدسات تعالى الله مظهرهُ
وبينها ألسن قد طرفت ذهباً ... من بينها قائم بالملك تؤثرهُ
كأنه خلق ميم في تعقفه ... مداده ذوب عقيان يصفرهُ
قال صاحب الشرطة أبو بكر بن القوطية يصفه بأوصاف سرية وهي:
أما ترى الروض حسا ... بياً نحا إقليدسه
فصور السوسن من ... دائرة مسدسه
مدهنة من فضة ... بتبرها ملبسه
واضحة فاضحة ... صاحبها مدلسه
إن رام كتم لثمها ... وشمها انظر معطسه
تجد بقايا طيبه ... بأنفه محتبسه

وفوقها رقيبة ... منها لها محترسه
نابلة رامحة ... سائفة مترسه
كان اسمها نسوس لا ... كن قرئت منكسه
قوله: فوقها رقيبة يعني القائمة وسط السوسنة. نابلة: ذات نبل، جعل التي تحدق بالرقيبة في أسفلها نبلاً وجعل أيضاً منها رماحاً في قوله: رامحة وسائفة: يحتمل أن يجعل الوشائع الصفر التي حول الرقيبة سيوفاً ويحتمل أن تكون السيوف الأوراق البيض. ومترسة: ذات ترس. ولا شك أنه من الأوراق البيض. وقوله: نسوس أراد مستقبل فعل الساسة، وهو مليح فيه معنى التنويه به. وللفقيه أبي الحسن بن علي فيه أوصاف حسنة وتشبيهات جيدة فمنها قوله:
أرى صفرة السوسان فوق بياضه ... كصفو مدام في إناء مفضضِ
بدا مثل حق العاج في فرع غصنه ... بأكرم ملبوس وأجمل معرضِ
ولما دنا وقت النثار تشققت ... نواويره عن حلي حسن له نضي
كذاك حقاق الحلي صون لما حوت ... كفات له من خاتل متعرضِ
قوله: نضي بمعنى: جرد. كفات له: أي ستر. قال الله عز وجل: " ألم نجعل الأرض كفاتاً " أي ستراً. وخاتل: بمعنى خادع.
وأنشدني أيضاً لنفسه أحسن تشبيه موصولاً بمدح ذي الوزارتين أبي عمرو عباد - حرس الله نفسه، كما قدس غرسه - وهو:
كأنما السوسن الدري ألسنة ... تمجد الله مجري التبر في غربه
أندى النواوير إن قبلت صفحته ... حباك من طيبه حظاً ومن ذهبه
وما أرى غير عباد له شبهاً ... في الحسن والفوح والمأثور من أدبه
ومن المستندر المختار أبيات كبت بها أبو جعفر بن الأبار وهي:
أنعم فقد حسن الزمان وأحسنا ... وتبالهت عنك الخطوب لتفطنا
أو ما ترى برد الربيع مفوفاً ... يصبي العيون بمجتلى وبمجتنى
والسوسن العبق الجيوب تخاله ... من ناصع الكافور صور ألسنا
حفت قراضات النضار مجرداً ... منه أقلتها قصيرات القنا
فكأنما أوراقه وكأنه ... بيض سللن لقتل جان قد جنى
المجرد: هو القائم وسط السوسنة. والقراضات: هي النواوير الصفر في أسفلها وكأنه في آخر بيت كناية راجعة إلى المجرد، وهو تشبيه قوي وتمثيل سري.
ولأبي جعفر بن الأبار أيضاً أبدع تشبيه وهو:
كأنما السوسن الغض ... ض منظراً حين يلحظ
فهر بهاؤون در ... مشطب قد تعظعظ
الفهر: القائم وسط السوسنة، والهاؤون: سائرها وتعظعظ: مال وعدل. ولأبي علي إدريس بن اليمان فيه أوصاف مستطرفة، وتشبيهات مستظرفة منها قوله:
ممهى الحسن مشقوق الجيوب ... له وجه البريء من الذنوبِ
تفرج عن مناكبه قميص ... تفرج لوعة الدنف الكئيبِ
وقد علت عمامته بورس ... فقام بلا خطاب كالخطيبِ
على أنبوب كافور يراع ... تضمن بطنه ينبوع طيبِ
الممهى: المرقق: يقال: أمهيت السيف أمهيه: إذا أرهفته وجلوته. وبنى القطعة كلها على وصف القائم وسط السوسنة.
ولأبي علي إدريس بن اليمان أيضاً قطعة بديعة التشبيه موافقة الوصف لكل ما فيه وهي:
وضاحك كالفلق ... عن فلج في روقِ
على جفاني مرود ... مذهب مندلقِ
كمنتج من غرق ... وخارج من نفقِ
بين اصفرار فاقع ... على ابيضاض يققِ
كأنما كلاهما ... في راحة أو طبقِ
برادة من ذهب ... في ورق من ورقِ
الفلج: الفرجة بين الأسنان، والروق: طولها. والحفافان: الجانبان وعنى بالمرود القائم وسط السوسنة. والمندلق: الناتيء المندفع.
قال أبو الوليد: ولي فيه قطعة فيها اختراع تشبيه وصلتها بمدح الحاجب - حجبه الله بي عن النوائب - وهي:
وسوسن يتهادى ... للأنس بالراحتين
نعم المواصل لو لم ... يعد بنأي وبين
كأنما خلقه الفذ ... ذ خسة من لجين
أو أنمل بضة ما ... تركبت في يدين
وبينها حارس لا ... ينام طرفة عين
علا وأشرف منها ... على جمال وزين
كما علا الحاجب المن ... تقى على الشعريين
ملك به حال دهري ... بين الخطوب وبيني
قال أبو الوليد: ووقعت إلي في السوسن الأزرق وهو الخرم صفات محكمة وتشبيهات متقدمة.

الخرم
فمن بديعها ورفيعها قول الوزير أبي عامر بن مسلمة وهو:

ألا حبذا السوسن الأزرق ... ويا حبذا حسنه المونقُ
حكى لونه لون فيروزج ... جرى وسطه ذهب مشرقُ
وللفقيه أبي الحسن بن علي فيه أبدع اختراع وأغرب تشبيه وهو:
لاح لي خرم الصحارى فراق ال ... عين تدبيجه العجيب وورده
جاء كالزائر الموافي لوعد ... بعد أن طال بالأحبة عهده
أطلعت حلتاه وشياً وتبراً ... زان ذا رقمه وذا لازورده
أي نصل يفري الحوادث لو دا ... م لجانيه ماؤه وفرنده
وله أيضاً فيه قطعة موصوة بمدح أبي - وقاه الله بي - وهي:
بز ثوب البهاء واللألاء ... زهر الروض خرم الصحراءِ
عاف ثوب البياض لون أخيه ... وتردى بحلة زرقاءِ
لتراه العيون في حلة يح ... كي سنا نورها أديم السماءِ
لو حواها الطاووس أصبح لا شك ... ك مهناً بملك طير الهواءِ
عزة في طباعه وعلو ... قد أناف به على العلياءِ
كحبيب بن عامر فهو فذ ... في اقتناء العلا وكسب الثناءِ
ومن التشبيه السني فيه والوصف السري له قول صاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية وهو:
ومغرب اللون في مسلاخ طاووس ... فيروزجي بصنع الله مغروسِ
كأنما اختلست قطعاً غلائله ... من الغمائم أو فضل الحناديسِ
شخت المآزر لاذي الظهائر قد ... أتاك يرفل في ثوب له سوسي
كأنه كسف أفق ماله حبك ... أو لازورد أو أذناب الطواويسِ
كأن رشح سقيط الظل أوسطه ... نضح يمد على آثار تدنيسِ
لا زال في مجلسي آنا بهيئته ... ولا توخى اسمه شملي ولا كيسي
إنما عمى في البيت الآخر الخرم اسمه، دعا ألا يتوخى الخرم شمله ولا كيسه.
قال أبو الوليد: ولي فيه تشبيه طابقه وهو:
وخرم حلو الحلى ... يبدو لعيني من لمح
تلوناً ومنظراً ... كأنه قوس قزح
قال أبو الوليد: لم يقع إلي في السوسنين غير ما أوردته. ومن النواوير المشاهير التي كثر القول فيها والوصف لها نور النيلوفر، وأنا مودع بابه ما حصل عندي فيه من المستندر.

النيلوفر
من السابق في ميدان التفضيل الفائق عند أهل التحصيل قول ذي الوزارتين القاضي الجليل أمله علي وهو:
يا حسن بهجة ذا النيلوفر الأرج ... وطيب مخبره في الفوح والأرجِ
كأنه جام در في تألفه ... قد أحكموا وسطه فصاً من السبجِ
وله - أعزه الله وأذل عداه - يصفه بوصفين غريبين، ويشبهه بتشبيهين، عجيبين في قطعة واحدة وهي:
كأنما النيلوفر ال ... مستحسن الغض البهج
مقلة خود ملئت ... سحراً وغنجاً ودعج
أو خاتم من فضة ... وفصه من السبج
شبه في البيت الثاني بالعين السواد الذي بين بياضه وهو أولى بهذا التشبيه، وأحق أن يصاغ فيه من كل ما شبه بالعين من البهار وغيره الذي لا سواد فيه يؤيد حقيقة تشبيهه وينصر صحة تمثيله. ومثل هذا التشبيه المعدوم التشبيه، والتمثيل المنقطع المثيل لو وقع لمشتغل بصناعة الشعر، عاكف على صناعة النظم مجهد نفسه فيها معان لمعانيها لاستغرب غاية الاستغراب، واستعجب نهاية الاستعجاب. فكيف ترى فضله وتعاين نبله. وهو لا يعاني هذا ولا يتفرغ له، وإنما هو عفو سجيته وفي بديهته - صان الله لنا حذقه كما أوجب علينا حقه - .
وقال أبو عمر يوسف بن هارون الرمادي يصفه فأبدع بدعاً في قطعة جمعت الجزالة الرقة معاً وهي:
إذا سقى الله روضة مطراً ... فخص بالسقي كل نيلوفرْ
تستر أوراقه زمرده ... ليلاً وعند النهار لا تسترْ
خافت عليه اللصوص فاشتملت ... عليه ليلاً من خوف أن يظهرْ
إذا الزنابير من مغالقه ... لم تتحفظ فبينها تقبرْ
كأن أجفانه جفون الذي ... أهواه لا تستطيع أن تسهرْ
كأنها كؤوس فضة فرشت ... قيعانها بالزمرد الأخضرْ
تنعم في حسنه ونكهته ... فأنت في منظر وفي مخبرْ
الزنابير: جمع زنبور، وهي النحل، وإنما عنى بالبيت انغلاق أوراقه ليلاً، وقصد النحل دون غيرها لأن النيلوفر يسمى قاتل النحل لطلبها أبداً أكل ما داخل أوراقه فربما فعلت ذلك وقت انغلاقه فامتنعت من الخروج.

ولم أر لكل من صنع فيه، وعني بوصفه ذكر أمر الزنابير إلا للفقيه أبي الحسن ابن علي في قطعة عجيبة أنشدنيها وهي:
ما لنيلوفر الحدائق يقظا ... ن مع النور هاجعاً في ظلامهْ
أشبه الإنس في تصرف حالي ... ه ووقتي سهاده ومنامهْ
وتوقيه في الدياجي بإغلا ... ق نواويره وضم كمامهْ
لقبوه بقاتل النحل لما ... أبصروا النحل مقصداً لسهامهْ
لم يجر في القصاص إذ ذلك لص ... سارق بالنهار شهد ختامهْ
وللوزير الكاتب أبي الأصبغ بن عبد العزيز في انغلاقه تشبيه دقيق، وتمثيل أنيق وهو:
ونيلوفر فاق في فضله ... صنوف النواوير من شكلهِ
وفاتهم بالذي حازه ... كما قصر الكل عن نيلهِ
يبيح نهاراً لزواره ... محياً يرغب في وصلهِ
ويمنع بالليل من وجهه ... ليأخذ بالحزم في فعلهِ
كبائع عطر بحانوته ... ضياء النهار إلى ليلهِ
فإن جاءه الليل أفضى به ... إلى سده وإلى قفلهِ
وأنشدني لنفسه فيه الوزير أبو عامر بن مسلمة أبياتاً رائقة تضمنت أوصافاً رائعة موصولة بمدح الحاجب - لا أعد منا الله جاهه كما أعدمنا أشباهه - :
يا حبذا النيلوفر الطالع ... ومجتلاه الناضر الناصعُ
كأنه مخزنة من مهاً ... في وسطها زمرد ساطعُ
وحوله ألسنة ستة ... من فضة أتقنها صانعُ
كل لسان أبيض ناصع ... والطرف منه أصفر فاقعُ
قام على خضراء من سوقه ... فكل إبريق له راكعُ
ركوع أملاك الورى للذي ... نداه دان والحيا شاسعُ
ذاك ابن عباد سليل العلا ... الحاجب المرتفع الرافعُ
دام دوام الدهر في عزة ... تبقى ويبقى الحاسد الخاضعُ
وللفقيه أبي الحسن بن علي تشبيه لونيه وصف متناه ليس له مواز ولا مضاه وهو:
كأنما زهرة النيلوفر اختلست ... قطعاً من الليل قد حف الصباح بهِ
فالنور منقطع عن جزم عنصره ... والليل ممتنع من حكم غيهبهِ
فعل أشتهما من أصل طبعهما ... ماذا تألف من شمل الجمال بهِ
ولصاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية في جميع أحواله وصف أغرب عن كماله وهو:
وذات جسم كاللجين المنسبك
مبيضة الأثواب من نسج البرك
خضر سراويلاتها حصر التكك
كأنما العنبر فيها قد فرك
والمسك في قيعاها قد امتسك
ناسكة نهارها مع النسك
حتى إذا الليل تدانى واشترك
وآن أن يأتي المحب المنتهك
غلقت الباب وقالت: هيت لك
ومن السحر المنتحل، والكلام المنتخل في حالاته كلها، وصفاته بأسرها، ما أنشدنيه لنفسه أبو جعفر بن الأبار موصولاً بمدح ذي الوزارتين القاضي - أدام الله أيامه وأسبغ علينا إنعامه - وهو:
وناصع اللون أسود الحدقه ... جفونه بالعشاء منطبقهْ
كذي دلال لم يستطع أرقاً ... فنام والنور واصل أرقهْ
هام به الليل والنهار معاً ... فصد عن ذا وخص ذامقهْ
لا تمتروا في الذي تضمنه ... تلك سويداء قلب من علقهْ
نيلوفر أحكمت بدائعه ... لا يحتوي خلقه ولا خلقهْ
طاهر ثوب كأن خالقه ... من عرض قاضي القضاة قد خلقهْ
سليل عباد الذي حشمت ... منه وجوه السحائب الغدقهْ
المجد أفق غدا له قمراً ... والحق حق حوى به طبقهْ
ومما يشاكل هذا براعة، ويشبهه بزاعة قوله: أيضاً فيه موصولاً بمدح ذي الوزارتين أبي عمرو عباد - أعز الله وأحسن ذكراه - وهو:
إذا النور خص بمدح فما ... لنيلوفر الروض لا يعبدُ
وأوراقه كعبة من لجين ... توسطها الحجر الأسودُ
توسط عباد المرتجى ... لظى الضرب والحرب إذ توقدُ
همام إذا هم أضحت له ... متون الظبى والقنا ترعدُ
إذا شئت وجدان أفضاله ... وجدت وشرواه لا يوجدُ
قوله: شرواه الشروى: المثل. وأنشدني أيضاً لنفسه في تشبيه خَلقه وخُلقه بيتين سريين وهما:
كأن نيلوفر الرياض إذا ... ما الليل أدجى أوهم أن يدجي
رومية بضة منعمة ... تضم طفلاً لها من الزنج
ومما يشبه أيضاً فيه أسوده بالزنجي قول أبي القاسم البلمي وهو تشبيه مفضل له، مستحسن منه، وهو:

ونيلوفر غدا يخجل الرا ... ني إليه نفاسة وغرابه
كمليك الأحبوش في قبة بي ... ضاء يرنو الدجا فيغلق بابه
جنح ليل لما تجسم شخصاً ... قد من صفحة الضحى جلبابه
الأحبوش: لغة في الحبش. وقال أبو الوليد: ولي في لونه وصف ربما طابق، وتمثيل عساه وافق، وهو:
وروضة رضيت عن ... صوب الحيا المستمرِّ
فأظهرت نور نيلو ... فر منير أغرِّ
كمحبر من لجين ... فيه بقية حبرِ
قال أبو الوليد: قد أكملت من النواوير ما وقع إلي فيه الوصف الكثير، وبقيت نواوير وقعت إلي فيها أوصاف يسيره وقطع قليلة، ولكني أذكرها على علاتها، وأورد منها ما حسنت تشبيهاتها، وجادت صفاتها، فمنها نور اللوز.

نور اللوز
كاد أن يكون أبكر النواوير، وأول الأزاهير، ولم أعامله بالتأخير إلا لقلة الوصف له والقول، وذلك كل ما يأتي مما يبكر، وإنما له التأخير من أجل قلة القول فيه، والتشبيه له. فمن المستحسن في نور اللوز قطعة فائقة الوصف، رائقة الرصف أنشدنيها لنفسه صاحب الشرطة أبو بكر بن القوطية موصولة بمدح ذي الوزارتين أبي عمرو عباد أعزه الله:
وأبيض اللون ذفلي غلائله ... عليه من نسج كانونين أبرادُ
يقول مبصره: سبحان فاطره ... كيف استقلت بهذا الحسن أفرادُ
يزور والنور لم تفتح كمائمه ... ولا تقدمه للزور ميعادُ
كأنه رائد أو طالع نجداً ... أو قائد وصنوف النور أجنادُ
تشبه الخوخ في حسن النوار به ... يا قوم حتى من الأشجار حسادُ
نور حوى قصب المضمار منفرداً ... كما حوى قضبات السبق عبادُ
الطاعن الخيل قدماً والقنا قصد ... والسيف منقصف والرمح منآدً
والموقد النار جوداً للضيوف وقد ... جف المزاد وخف الرحل والزادُ
وللوزير أبي عامر بن مسلمة فيه أبيات حسنة السبك جيدة الحبك وهي:
يا زهر اللوز لقد فقت في ال ... إحسان والحسن فأنت البديعْ
قد حزت حسنين وحازت نوا ... وير الربا حسناً فأنت الرفيعْ
تعلو بهار الروض حسناً فقد ... أصبحت مخصوصاً بحب الربيعْ
قد أمك الوصاف إذ شبهوا ... غيرك بالخد وجار الجميعْ
فلونك المشرب في حمرة ... من يره أصبح لا يستطيعْ
دفعاً لما قلت إذا عاينوا ... جمالك النورين عند الطلوعْ
فقت النواوير اعتلاء فما ... في زهرها غير سميع مطيعْ
قال أبو الوليد: ووقع إلي في نور الأقحوان قطع تستولي على ميدان الإحسان أنا ذاكر جملتها ومورد جميعها.
الأقحوان
قال أبو الوليد: أنشدني لنفسه فيه الوزير أبو عامر بن مسلمة بيتين بديعين في التمثيل رفيعين في التشبيه وهما:
وأقحوان راقني نوره ... إذ ظل يرنو بعيون حسانْ
كأنه مدهنة من مهاً ... محكمة في وسطها زعفرانْ
وللفقيه أبي الحسن بن علي فيه قطعة معجبة تضمنت أوصافاً مغربة موصولة بمدح ذي الوزارتين القاضي - أطال الله بقاءه وأدام في درج العز ارتقاءه - وهي:
إذا ميزت أنوار كل خميلة ... فنور الأقاح الغض منها ثغورها
تألفن دراً فوق أغصان سندس ... ونكهة طيب بالصبا تستثيرها
شكت قضفاً بين النواوير فاتقت ... وجاءت إلى غدرانها تستجيرها
بنور ابن عباد أضاءت وأشرقت ... ومن وجهه السامي تألف نورها
ولو أملته واستجارت بقربه ... لذل مناويها وعز نصيرها
قوله: شكت قضفاً القضف: الرقة، وهو تمليح مليح في صحبتها الغدر، وربما كانت في غيرها. ومن المستطرف المستظرف قوله:
كأن نور الأقاحي ... در تضمن عسجدْ
أو لؤلؤ حول صفر ... من اليواقيت نضدْ
وقد بدا في غصون ... مخضرة كالزبرجدْ
تهدي لك المسك فوحاً ... مع الأصائل والندْ
يزيده اللحظ حسناً ... والعين نوراً مجددْ
ومن السابغ برد كماله، السائغ ورد جماله، قول أبي جعفر بن الأبار في بركة على جوانبها أقحوان وهو:
وبركة بالأقاح محدقة ... تخال ريح الصبا بها صبهْ
يحل فيها الحباب حبوته ... إذا جرت للصبا بها هبهْ
كأنها راحة بها غصن ... حفت من الدر حولها لبهْ

شبه تكسر الماء براحة: وهي الكف فيها غضن، والغضن: التشنج والتكسر وشبه ابيضاض الأقحوان واتصاله وإحداقه بالبركة بلبة در. واللبة: العقد العالي، سمي بموضعه من الصدر.
ولأبي القاسم البلمي فيه تشبيه حسن أنشدنيه وهو:
راق عيني منظر الأقحوان ... بنفيس اللجين والعقيانِ
كفه بالحبيب سوك فاه ... بعد عود الأراك بالزعفرانِ
قال أبو الوليد: ولي في بركة عليها أقحوان تشبيه تضمنه بيتان وهما:
كأن الثرى صيرفي له ... نطوع من اللازورد البديع
يقلب فيه من الأقحوا ... ن درهم من ضرب كف الربيع
هذا ما عثرت عليه وانتهيت باجتهادي إليه في نور الأقحوان من التشبيهات الحسان وحين أكملته أورد ما وقع إلي من المستندر في الشقر.

الشقر
ويسمى شقائق النعمان، وسأذكر ما رأيت من التشبيه في هذا الباب إن شاء الله. فمن جيد التشبيه فيه وحسن التمثيل له قول الفقيه أبي الحسن بن علي موصولاً بمدح ذي الوزارتين القاضي - كبت الله أعدءه وأدام عليهم إعداءه - وهو:
إن الشقائق من حمر الخدود قد اش ... تقت ومسودها من حالك اللممِ
كأنها في المروج الخضر أبنية ... حمر قد اصطلمحت من قانيء الأدمِ
يا بن الذي قد حماها في منابتها ... فلم تزل في حمى منه وفي حرمِ
معروفة باسمه في كل مطلع ... محفوظة المنتهى مرعية الذممِ
جدد لها من وكيد العهد حرمتها ... وصل لها محدث الإكرام بالقدمِ
قوله: يا بن الذي قد حماها يخاطب ذا الوزارتين القاضي - أعزه الله - لأنه ابن النعمان الملك الذي نسبت إليه الشقائق وجاء في الخبر قال: خرج النعمان يوماً فمشى حتى انتهى إلى الظهر وقد اعتم بنبته من أحمر وأصفر وإذا فيه من هذه الشقائق شيء لم ير مثله، فقال: احموها. فحموها. فسميت شقائق النعمان بذلك حكى هذا أبو حنيفة ورفعه إلى أعشى بكر وذكر أنه كان حاضر النعمان يومئذ. وله أيضاً فيه أبيات عجيبة ضمنها هذا المعنى وهي:
أصبحت طلع الشقائق نهباً ... لجناة الورى بكل طريقِ
لو أعيد النعمان حياً لراعى ... غير وان لها مضاع الحقوقِ
وكأن السواد فيها غوال ... بسطت في مداهن من عقيقِ
أو نثير من طيب المسك محض ... صب بالعمد في كؤوس الرحيقِ
ومن الصفات المستحسنة قول الوزير أبي عامر بن مسلمة وهو:
يا نديمي قم اصطبح ... وعلى العود فاقترحْ
إنما العيش بالسما ... ع وبالناي والقدحْ
وتأمل حسن الشق ... ئق تنشط إلى المدحْ
مثل كأس العقيق في ... قاعه المسك يلتمحْ
ومن الصفات السنية المحكمة فيه قول صاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية وهي:
وحالك اللون كلون المسكِ
كأنما أحداقه من سكِّ
مدرع ثوباً دقيق السلكِ
كأنما صباغه باللكِّ
أزرى بلون الورد لوما يحكي
نسيمه كان بغير شكِّ
ما بين أنوار الربا كالملكِ
قال أبو الوليد: ولي فيه بيتان ربما أنفرد بتشبيهه وهما:
رياض يحييها الحيا بانسكابه ... فتسفر للنظار عن منظر نضرِ
إذا ما بدت فيها الشقائق خلتها ... شعور العذارى لحن في الخمر الحمرِ
لم أعثر في الشقائق على غير ما أوردت، ولا وجدت في وصفها سوى ما ذكرت. ووقعت إلي في نور الباقلاء صفات جيدة وتشبيهات حسنة أذكرها بأسرها وأورد جميعها.
نور الباقلاء
فمن بديع ما قيل فيه، ورفيع ما شبه به قول صاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية وهو:
وبنات للباقلاء تبدت ... كعيون تفتحت من رقادِ
فبياض منها مكان بياض ... وسواد منها مكان سوادِ
وقال أبو جعفر بن الأبار يصفه في قطعة موصولة بمدح أبي - أطال الله لي عمره، ورزقني بره - فاستكمل الصفات بأبدع تشبيهات وأرفع تمثيلات والقطعة:
وباقلاء باقل ... يعجب حسناً من رمق
كأنما نوراه ... إذ راق خلقاً وخلق
أذقان بيض غلفت ... لمبصر ومنتشق
أو أعين حور جرت ... إلى مآقيها الحدق
وهدبها مستبطن ... في ورق من الورق
أو جنح ليل بقيت ... منه بقايا في فلق
أو سبج في درر ... أو ثنن بها بلق
كأن للمسك بها ... مشقاً بنيات طرق

وعرفه معرف ... بأنه فيه فتق
كأن نجل عامر ... من خلقه طيباً خلق
ملك إذا صال عفا ... حلماً وإن سيل اندفق
إن بخل الغيث سخا ... أو عنف الدهر رفق
قوله: جرت إلى مآقيها الحدق بديع غريب لأن السواد الذي جعله حدقة العين هو في ناحية من النور، وليس متوسطاً له، فكأن الحدقة قد جرت إلى المأق وهو طرف العين مما يلي الأنف. وهدبها مستبطن.. البيت وهو مما أكمل به الوصف وتمم التشبيه، لأن في الورقة التي ظاهرها الصفة المتقدمة خطوطاً سوداً جعلها هدباً لتلك العيون وهي التي عنى بقوله:
كأن للمسك بها ... مشقاً بنيات طرق
وقوله: أو ثنن بها بلق جمع ثنة وهي الشعر الذي يكون على مؤخر الرسغ. قال أبو الوليد: ولي فيه تشبيه ربما يوافق وتمثيل كأنه يطابق وهو:
أرى الباقلاء الباقل اللون لابساً ... برود سماء من سحائبها غذي
ترى نوره يلتاح في ورقاته ... كبلق جياد في جلال زمرذِ
ودخلت بستاناً لي مع الفقيه أبي الحسن بن علي وكان به باقلاء قد نور، فأخذ من نوره وصنع مصراعاً وسألني إجازته، ففعلت وزدت بيتاً آخر ومصراعه:
سبج في كأس در ... ............
وزيادتي:......... ... أو كسوف وسط بدرِ
أو غوال في لآل ... أو غشاء بين فجرِ
ووقعت إلي أيضاً في الباقلاء بعينه قطع مستطرفة وأوصاف مستظرفة تشبهت بالنور فرأيت ذكرها فمنها وصف الوزير أبي عامر بن شهيد - رحمه الله - في قطعة بديعة بزيعة مطبوعة مصنوعة وهي:
إن لآليك أحدثت صلفا ... فاتخذت من زمرد صدفا
تسكن ضراتها البحور وذي ... تسكن للحسن روضة أنفا
هامت بلحف الجنان فاتخذت ... من سندس في جنانها لحفا
تثقبها بالثغور من لطف ... حسبك منا ببر من لطفا
أكل ظريف وطعم ذي أدب ... والفول يهواه كل من ظرفا
وقال لي الفقيه أبو الحسن بن علي: رأيت في يد صديق حبة باقلاء شديدة سواد القشر وكلفني وصفها فقلت بديهة:
فص من العاج حقه سبج ... ممتزج بالجمال مزدوجُ
فيه سواد يزين غرته ... كأنه مقلة بها دعجُ
يؤثر رطباً ويابساً أبداً ... ويستبي النفس فوحة الأرجُ
وأخبرني أيضاً قال: طالعت بستاناً لي بغربي قرطبة، وكان فيه باقلاء فجعل بعض الغلمان ينقي منه ويناولني فقلت:
ريم سبى مقلتي تورده ... يسل سيف الهوى ويغمدهُ
جار على جرجر فخربه ... وظل من قشره يجردهُ
وكلما ابتز ثوب واحدة ... منها حبتني بحبها يدهُ
فقلت مستطرفاً لفعلته ... وزاد في نبله تعمدهُ
كلاكما لا عدمت حسنكما ... ينشق عن لؤلؤ زبرجدهُ
فارتاب بي وانثنى على خجل ... وحبه ساقط يبددهُ
قوله: جار على جرجر الجرجر لغة في الباقلاء وقوله: ينشق عن لؤلؤ زبرجده فاللؤلؤان من هذا وهذا الحب والثغر. والزبرجدان منهما: القشر والشارب الأخضران. وفي القطعة من جيد الصناعة وحسن الصياغة ما يعجب الناظر ويعجز الخاطر.
قال أبو الوليد: وفي بزر الكتان أوصاف موسومة بالإحسان أنا أذكرها إن شاء الله تعالى.

نور الكتان
قال أبو جعفر بن الأبار يصفه بوصف نادر مختار وهو:
وبزر كتان أوفى ... بكل وهد ونجدِ
كأنه حين يبدو ... مداهن اللازوردِ
إذا السماء رأته ... تقول: ذا من فرندي
قال أبو الوليد: ولي فيه قطعة أخرى.
كأن نور الكتان حين بدا ... وقد جلا حسنه صدا الأنفسْ
أكف فيروزج معاصمها ... قد سترتهن خضرة الملبسْ
أو لا فزرق الياقوت قد وضعت ... على بساط يروق من سندسْ
ووقع إلي في نور الغالبة وصف حسن الذكر أذكره لئلا أدع مستحسناً أجده.
نور الغالبة
قال الوزير الكاتب أبو القاسم بن الخراز يصفه فأحسن وأغرب وأبدع وأعجب وهو:
ورختجي سحابي قوائمه ... خضر حكى ياسميناً في تفتحهِ
تميس قضبانه والريح تعطفها ... مشي النزيف تهادى في ترنحهِ
كأن أوراقه في حسن خضرتها ... من الزمرد أسناه وأملحهُ
تخير الشط في الأنهار منبته ... ففار بالعرف في معنى تبطحهِ
وغالب النور حتى قيل غالبة ... فحسبه غالباً كافي مرشحهِ

قال أبو الوليد: ووقع إلي في نور الرمان قطعتان حسنتان ولم يتأخر عن غيره إلا بتأخر وقته وإبطائه عن أوان نظرائه.

نور الرمان
فمن التشبيهات العقم فيه قول أبي القاسم بن هانئ الأندلسي في كمامة نوارة سقطت منه وهو:
وبنت أيك كالشباب النضرِ
كأنها بين الغصون الخضرِ
جنان باز أو جنان صقرِ
قد خلفته لقوة بوكرِ
كأنما مجت دماً من نحرِ
أو سقيت بجدول من خمرِ
أو نبتت في تربة من جمرِ
لو كف عنها الدهر صرف الدهرِ
جاءت بمثل النهد فوق الصدرِ
تفتر عن مثل اللثات الحمرِ
في مثل طعم الوصل بعد الهجرِ
ومن التشبيهات الأنيقة، والتمثيلات الدقيقة قول أبي جعفر بن الأبار في كمائم هذا النوار وهو:
أعجب بأيك الرمان حين بدا ... نواره المحتوي مدى السبقِ
مثل أكف الدمى محنأة ... أو كبنان الحمائم الورقِ
أو كحقاق تفتحت فبدت ... غلائل وسطها من البرقِ
الجلنار
وللوزير أبي عامر بن مسلمة في وصف الجلنار أبيات بديعة رفيعة المقدار وهي:
وجلنار بنوره يزهر ... أوراقه فتنة لمن أبصرْ
قد شبه الورد في تضاعفه ... وقارب اللون حلة العصفرِ
مثل ثمار الرمان زاهرة ... لكنه منظر بلا مخبرِ
قال أبو الوليد: ولي فيه قطعة ربما وافقت صفته وطابقت هيئته وهي:
وجلنار تبدى ... يختال في جل نارِ
أحلى حلى من جميع ال ... أنوار والأزهارِ
حكى خدود العذارى ... قد شربت باحمرارِ
وخمشت بأكف ال ... ألحاظ والأبصارِ
جل نار في القافية مفصول، وإنما هو جل من نار واتفق فيه تشبيه وتجنيس.
الخاتمة
قال أبو الوليد: إسماعيل بن عامر: هذا ما عثرت عليه، وانتهيت بكثرة البحث إليه، وإن وقع إلي بعد وصف رائق أو معنى فائق ألحقته في هذا الكتاب ووضعته في موضعه من كل باب، والبشر غير معصوم، ومن بذل جهد نفسه فليس بمذموم. وحسبي أني قد جمعت من غرائب الأندلسيين ونوادرهم، وأوردت من فضائلهم ومآثرهم ما يمكن أن يتغمد به، ويصفح من أجله عما عرض من زلل، أو وقع من خطل، فربما أدخلت لأهل عصري ما يقرب من البديع، ولا يبعد عن الربيع، فمن نقد ذلك فليعلم أني لم أجهله، وإنما تحفظت من ناظميه، وأغضيت لهم على ما فيه، وليس ذلك إلا في أبيات يسيرة، وصفات غير كثيرة، والله المستعان على التوفيق والهادي إلى سواء الطريق.
تم كتاب البديع في وصف الربيع بحمد الله وعونه، وصلى الله على محمد خيرته من خلقه وعلى أهله وسلم تسليماً.