كتاب : العقل والهوى
المؤلف : الحكيم الترمذي

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، والصلاة على رسوله محمد وعلى آله أجمعين:
باب العقل والهوى
أعوان العقل خمسون
وللعقل خمسون عوناً، وللهوى خمسون عوناً: قال أبو عبد الله رحمه الله، أما العقل أوله، ثم الفهم، ثم البصر، ثم المعرفة، ثم اليقين، ثم الفقه، ثم الوقف، ثم الحلم، ثم الإلهام، ثم الإخلاص، ثم التواضع، ثم السخاوة، ثم الصواب، ثم النصيحة، ثم الحسبة، ثم النية، ثم الشفقة، ثم المداراة، ثم الورع، ثم الشكر، ثم الرضا، ثم الصبر، ثم الخوف، ثم التقوى، ثم الجهد، ثم الاستقامة، ثم الزهد، ثم الفراسة، ثم الألفة، ثم الإنابة، ثم الشوق، ثم التضرع، ثم الحب، ثم الحفظ، ثم الصدق، ثم الهدى، ثم الذهن، ثم الفراغة، ثم الأمن، ثم التوكل، ثم الثقة، ثم القناعة، ثم التفويض، ثم العافية، ثم الراحة، ثم الخشوع، ثم التفكر، ثم العبرة، ثم الاستخارة، ثم السلامة، ثم المنزلة، ثم العزلة، ثم التهيؤ.
تفسير العقل وضده الهوى
تفسير العقل
فالعقل ما أكرم الله به العباد وضده الهوى، وشكل العقل اليقين، والعقل من العاقل، وهو عقد المؤمن بين إيمانه وبين أن يكفر، والهوى، هو عقد للكافر بين كفره وبين أن يؤمن، لقول الله تعالى: (يحول بين المرء وقلبه). يقول يحول بين المؤمن وبين أن يكفر، وبين الكافر وبين أن يؤمن، لأن الله تعالى خلقك، وهداك، وعرفك بوحدانيته، حتى عرفت أنه واحد لا شريك له. ولا يقدر الشيطان أن يشك بالله، لأجل تعريفه إياك فالمنّة لله على ذلك. والعقل أيضا عقد بين الطاعة والمعصية، فيعقد ويفتح: فحيث يكون العقد في والخوف والتفكر والحفظ والعاقبة عن هذا؛ فأول ما يشككه الشيطان بالمعصية. فحيث يغفر العبد عن هذا فيشككه الشيطان حتى يقع في الذنوب، ولم يذهب ذلك العقل الأول لأنه لا يرضى بقلبه بالمعصية لله، وإنما يرضى بقلبه لأجل نهمة النفس، حتى غفل عن عاقبة الذل والهوان، ويكون أيضاً عقداً بين بدعة المبتدع وبين سنة السني، فيعقد ويفتح فحيث يكون العقد في الخوف والحفظ والتفكر لعاقبته؛ فأول ما يشككه الشيطان حتى يوقعه في البدعة، فإذا أوقعه في البدعة؛ فلم يذهب ذلك العقل الأول عنه، ويكون ذلك أيضا عقداً بين زهد الزاهد وبين رغبة الراغب، فيعقد ويفتح، فحيث يكون العبد في الخوف والحفظ والتفكر لعاقبة الحساب الشديد، والحبس عن الجنة، والتقصير في الدرجة، وسؤال الله إياه من أين اكتَسَبْت، وفي ماذا أنفقت، وماذا أردت به؛ فأول ما يشككه الشيطان حتى يوقعه في الرغبة في الدنيا، فإذا أوقعه فلم يذهب عنه ذلك العقل الأول، فهذا تفسير العقل.
تفسير الفهم وضده الوهم
باب تفسير الفهم
وقال الفهم من الفهيم يكون بثلاثة أشياء: أوّله: بفراغة القلب، والثاني: بالتضرّع بينه وبين الله حتى يفهمه، والثالث: بالمطارحة والمناظرة والمذاكرة مع من يفهم أمر الدارين، ولا يفهمه إلاَّ البصراء؛ حتى يكون فهماً. وشكل الفهم البصر، وضد الفهم الوهم، وللفهم ثلاث علامات: أولهما: أنه معصوم من التّهلُكة، لأن الفهم يحفظه، والثاني: لا يغضب لأنه يفهم أصل كلّ شيء، ويتفكر بفهمه في عاقبته، والثالث: لا يتعجب من أمر الله، لأنه يفهم أن الله قادر على أن يفعل كلّ شيء.
وثلاثة أشياء من فعال الفهم، أولهما: تفنن الكلام، لأنه يفهم في الدقائق، والثاني بصير بالحجة، والثالث: مشغول بأحكام أمر البدن.
تفسير البصر وضده العصيان
باب تفسير البصر
وقال البصر من البصير يكون بسبعة أشياء: أحدهما: يخبر بعلم الاختلاف والموافقة بمتابعة الموافقة والحجة لا بمتابعة الخلاف، والثاني: يعلم المحكم والمتشابه بمتابعة المحكم لا بمتابعة المتشابه، والثالث يعرف الناسخ من المنسوخ بمتابعة الناسخ لا بمتابعة المنسوخ، والرابع: يفهم الحكم من الأحاديث والأدب والتخويف والتغليظ حتى يميز بعضها عن بعض، والخامس: يبصر السنة والبدعة بمتابعة السنة لا بمتابعة البدعة، والسادس: يعقل الجماعة في الفرقة بمتابعة الجماعة لا بمتابعة الفرقة، والسابع: يفقه الحجة والداحضة لأن النجاة يوم القيامة تكون بالحجة لقول الله تعالى: (هاتوا برهانكم) ولا يقول هاتوا رجالكم، فلذلك ينبغي للمتعلم ألاّ يتعلم العلم من العالم إلا بالحجة، ولا يقبله من غير حجة.

والبصر والمعرفة شكل، وضد البصر العصيان، وللبصر ثلاث علامات: أوله: يحب المداراة لأن المداراة جنة لإظهار ما يُعْلم ويبصر فيه، والثاني: يحب المواساة لأن المواساة ترق القلب، والثالث: يحب المعافاة وبالمعافاة يزيد في حب الجماعة.
وثلاثة أشياء من أفعال البصير: أولها: ألاّ يدع أمر دينه في أحد لأنه بصير بعيوب الناس، والثاني: شحيح بأمر دينه لأنه يبصر أن ترك أمر دينه أشد عليه من قطع لحمه وإهراق دمه؛ فلذلك يكون مشفقاً على أمر دينه، والثالث: لا يكون طامعاً فيما في أيدي الناس، لأنه يذكر بقلبه أن من طمع فيما في أيدي الناس يفسد قلبه، ولا يصيب البصير إلا بمتابعة العلم بالحجة والبصر في اختلاف الأمة، حتى يُعلم الناسخ والمنسوخ والمخالطة مع العلماء.

تفسير المعرفة
باب تفسير المعرفة
وقال البصر والمعرفة واليقين شكل، وضد المعرفة النكرة، وتفسير المعرفة تصديق راست اشتاختن بالفارسية كما قال الله تعالى في كتابه: (فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين)، فالمعرفة تصديق القلب بإقرار اللسان، والمُعرَّف الله عرفه بتعريفه، حتى يعرف العارف حقيقة الله، وحقيقة ما بتعريفه إيَّاه، والبصير الله بصره بتبصيره حتى يبصر للبصير بتبصير مبصره إياه، وليس للخلق فيه تكلُّف ولا مقدرة، والفهم كذلك واليقين، لأنهما لا يكونان إلاّ بفعل الله تعالى.
تفسير اليقين وضده الشك والتحير
باب تفسير اليقين
وقال: اليقين والفهم والبصر والمعرفة شكل، وضد اليقين الشكّ، والشك والتحير شكل.
علامات المؤمن ثلاث
وللمؤمن ثلاث علامات: أولها: لا يهتم لشيء من مصلحة نفسه وعياله، وإن كان هو وإيَّاهم يئنُّ في مفاوز بلا شيء من الطعام والماء ليقينه بوصول مصلحة الخَلْق إليهم من الله بمقدارها في مواقيتها، والثاني: يعبد الله ويذكره ذكراً ويعمل له عملاً كأنه يراه عياناً ليقينه بأن الله يراه، ويرى قلبه وجوارحه وجميع سعيه عياناً، لا يغفل عن رؤيته ورؤية كل ذلك طرفة عين، والثالث: يكون مستعداً للموت باجتراء عن قلبه، لأحكام كل سعي يدركه في هذا اليقين، الذي هو فيه الحجة لله خالصاً، كأنه هو آخر سعيه من الدنيا باغتنام كل شدة تنزل به، بيقينه بارتحالها منه بنزول الراحة به ورؤية ثوابها من نفس إلى نفس، ليقينه بأن ما قضى عليه لم يكن ليخطئه في وقته، ثم لا يبالي بكمال الحجة لملامة الناس، ولا يبالي بمفاجأة الموت بقيامه بما يحب الله ويرضاه في اليقين الذي هو فيه.
تفسير الفقه وضده التحير
باب تفسير الفقه
والفقه من الفقيه يكون بثلاثة أشياء: أولهما: بالمناظرة والمذاكرة، والثاني: بالمدارسة، والثالث: بفهم حجّة الأحكام أن يعلم أنه ليس حكم ولا مسألة ولا كلمة حق إلا لها حجة، فالفقه والبصر في أمر الدين شكل، وضد الفقه التحيُّر، والتحير والشك شكل.
وثلاثة أشياء من علامات الفقيه: أولهما: أن يكون آيساً من الخلق لأن الفقه يُقنعه ويُغنيه عن الناس، والثاني: يحب المخالطة مع الذين يتكلمون بالفقه حتى يزداد له كلّ يوم فقهاً في أمر الدين، والثالث: لا يخاف أن يتكلم في السّر والعلنية لأن الفقيه يُعينه على تهذيب الكلام وتزيينه.
وثلاثة أشياء من فعال الفقيه: أولهما: أن يتكلم في أمر الدين في الحلال والحرام، حتى يوضح للناس بيان الحق من الباطل، والثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لقوله تعالى: (كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر). والثالث: يتكلم بالفتيا والقضاء بين الناس، ولا يصيب الفقيه الفقه إلا بالتذكرة والمناظرة مع الفقهاء والبصراء في أمر الدين.
تفسير الوقف وضده التعجيل
باب تفسير الوقف
أولها: بتذكرة خوف العاقبة، والثاني: بتذكرة خاتمة العقل، والثالث: بتذكرة خوف خاتمة الأمل وخوف خاتمة الأجل، والرابع: بتذكرة الجزاء، والخامس بتذكرة العذاب، والسادس: بتذكرة الله، والسابع: بتذكرة الحفظة، والثامن: بتذكرة خوف مفاجأة ملك الموت، والتاسع: بتذكرة منفعة الوقف، فإن لم تكن هذه التسعة إلاّ واحدة فالوقف يكون بذلك، وشكل الوقف الحلم، وضد الوقف التعجيل.
علامات الواقف ثلاث

وللواقف ثلاث علامات: أولها: إذا أراد أن يدخل في عمل فيقف ويتفكر في عاقبته إن كان رشداً أو صواباً مضى، وإن كان غياً أو خطأ انتهى، والثاني: يقف حتى يتفكر كيف هذا الفعل أمرجوّ هذا العمل بالثواب أم بخوف العقاب، والثالث: يقف حتى يتفكر في حجته ويشغل نفسه بطلب حجته لأن الله تعالى إذا أقامه بين يديه فيقول لِمَ فعلت ولا بد له من الإجابة.
وأربعة أشياء من فعال الواقف: أولها: الصبر لأنه لا بد للواقف من الصبر حتى يفهم حجته ويقيمها، والثاني: الجهد لأن الواقف لا يقدر أن يقيم حجته إلا بالجهد، والثالث: التضرع بقلبه بينه وبين الله عزَّ وجلَّ حتى يُفهِّمه حجته ويستعين ربه على تفهمه، والرابع: الإرادة ولا يكمل الوقف للواقف إلاّ بحفظ إرادته، ولا يصيب الوقف إلا بخوف العاقبة لأنه ذاكر كأنه على شفير جهنم، فإن لم أقل كما حكم الجبَّار وإلاَّ فيكُبني فيها، ويعلم حين نتكلم أن لم تكن هذه الكلم كما حكم الجبار يحرقني الله بنار تتلظى، وإن كان في العمل فيعلم أنه ألاّ يكون من الذي يحبّ الله ويرضاه فيعاقبني وكل فعل منه كذلك. فنعم الباب الوقف فطوبى لمن وفقه الله بالوقف، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " المؤمن واقف والمنافق وثَّاب " .
حدثنا صالح بن عبد الله الترمذي، وجرير بن عبد الحميد الضبي عن عطاء بن السائب عن محارب بن دثار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل، يا معاذ إن المؤمن قيده القرآن عن كثير مما تهوى نفسه وشهواتها وحال بينه وبين أن يهلك فيما تهوى بإذن الله، يا معاذ إن المؤمن يتوقع الموت صباحاً ومساءاً، يا معاذ إن المؤمن لا يأمن قلبه ولا تسكن روعته ولا يطمئن من اضطرابه حتى يخلف جسر جهنم، يا معاذ إن المؤمن من يعلم أن عليه رقيباً على سمعه وبصره ولسانه ويده ورجليه وبطنه وفرجه اللمع واللمحة ببصره وكحل عينيه وجميع سعيه فالتقوى رفيقه، والقرآن دليله، والخوف محجته، والشوق مطيته، والحذر قرينه، والوجل شعاره، والصلاة كهفه، والصيام جُنّته، والصدقة فكاكه، والصدق وزيره، والحياء أميره، وربه من وراء ذلك بالمرصاد، يا معاذ إني أحب لك ما أحب لنفسي ولقد أنهيت لك ما أنهى إليّ جبريل فلا يكون أحد أسعد بما أتاه الله منك.
تفسير الحلم وضده الحدّة

باب تفسير الحلم
فالحلم من الحليم يكون بثلاثة أشياء: أحدهما: بالعقل، والثاني: بالعلم، والثالث: بالاستيحاء من الملك الجبار.
فشكل الحلم السكينة، وضد الحلم الحدّة، وللحلم ثلاث علامات: أولها: لا يحب الجدال لأنه لا خير في الجدال، والثاني: ينتهي عن أعراض المسلمين لأنه قد أصاب الحلم، والثالث: يغضب على من طعن في المسلمين لأن الطعن في المسلمين ذنب عظيم بعد ألاّ يكون مبتدعاً أو فاسقاً معلناً بفسقه.
وثلاثة أشياء من فعال الحليم: أولها: أن يكون حسناً، والثاني: يكون كلامه بالرفق واللين لأنه صاحب حلم، والثالث: أن يكون مبتسماً في وجوه الإخوان. ولا يصيب الحليم الحلم حتى يستحي من الله فإذا استحيا من الله فلا يحابي أحداً بإظهار حقه فنعم الشيء الحلم، فطوبى لمن وفقه الله للحلم.
تفسير الإلهام وضده الوسوسة
تفسير الإلهام
فشكل الإلهام دلالة الخير، وضد دلالة الخير دلالة الشر، ودلالة الشر والوسواس شكل، وضد الإلهام الوسوسة فينبغي لكل مؤمن أن يعلم الإلهام من الوسوسة، فإذا أردت أن تعلمها فانظر حين تدخل في عمل ورأيت في قلبك التعجيل وذهاب خوف عاقبة ذلك الذي كنت تتفكر قبل أن تدخل في العمل وأخذ منك حلاوة ذلك العمل، فاعلم أنه من الوسواس، وتكون دلالة ذلك العمل منه، وإذا دخلت في عمل وكنت إليه ذاكراً عاقبته خائفاً عقوبته، ويكون خوفك من الازدياد ورجاك في عصمة الله لك ألاّ يوفقك الله على هذا في المهالك، فاعلم أن تلك التذكرة من الإلهام، وهو الذي دلك على هذا فاستبشر وكن ذاكراً لمنّة الله بما فهمك بعلمها، فطوبى لمن وفقه الله للإلهام له. وإن الناس في الإلهام على تسعة أوجه.
تفسير الإخلاص وضده الرياء
تفسير الإخلاص
فالإخلاص من المخلص يكون بسبعة أشياء:

أحدها: بالتوكل على الله، والثاني: بالتفويض إلى الله، والثالث: بألاّ يأس عن المخلوقين، والرابع: بتذكرة ضعف الخلق وقلة حيلتهم، والخامس: بتذكرة العزّ والذي والرفعة والوضع من الله لا من المخلوقين، لقول الله تعالى: (قل اللهم مالك الملك) والسادس: بتذكرة جزاء الأعمال بعد الموت عند الميزان والجنة، والسابع: بتذكرة وسوسة الشيطان إياه الرياء والثناء والمحمدة بألاّ يقبل ذلك منه.
فشكل الإخلاص الاستقامة على ذلك العمل، وضده الرياء، وللمخلص ثلاث علامات: أولها: أن يخاف من المحمدة لأنه يبطل عمله، ويعطل عمره في تلك الأعمال، ولا يرجو الثواب إلاّ من الله، والثاني: لا يخاف ملامة اللائمين، لأن من خاف من ملامة الناس ترك كثيراً مما كان لله فيه رضا ويكون خوفهم ملامة الله، والثالث: لا يحب المعذرة لأن صاحب المعذرة لا يكون مخلصاً.
وثلاثة أشياء من فعال المخلص: أولها: أن يتكلم بالحق، وإن كان مراً ولا يبالي ممن يكون، والثاني: أن يعمل بالحق ولا يتركه مخافة الناس وإن لم يكن له عون لأن الله تعالى يعينه في طاعته، والثالث: إذا أراد أن يعمل من مخافة الله فلا يدع شيئاً من مخافة الناس، فإن مخافة الله تمنع قلبه من مخافة الناس، ولا يكون الرجل مخلصاً حتى يجتهد في هاتين الخصلتين، أولها: أن يجتهد حتى يكرمه الله بالأمن وقد يكفل الله له من مصلحة نفسه. والثاني: أن يكون ذاكراً لضعف الناس إنهم لا يقدرون أن يصنعوا به شيئاً غير الذي قدره الله له فاخلص العمل لله، فنعم الباب الإخلاص، فطوبى لمن رزقه الله ووفقه للإخلاص.

تفسير التواضع وضده التكبر والبطر
تفسير التواضع
والتواضع من المتواضع يكون بخمسة أشياء: أحدهما: بتذكرة أوله أنه خُلق من نطفة، والثاني: بتذكرة أوسطه أنه صاحب البول والغائط والنتن والقبح والقمل وسائر ما يعتريه من عيوب، والثالث: بتذكرة آخره أنه يصير جيفة منتنة ثم يصير تراباً رميماً، والرابع: بتذكرة ضعفه وقلة حيلته عند أدنى شدة نزلت به لا يستطيع أن يردّها عن نفسه، وقال: النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من عبد يتواضع لله عز وجل إلاّ رفعه الله " ، والخامس: بتذكرة ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: " إن أوله نطفة وأوسطه القيح والدم والبول والغائط وآخره جيفة في القبر " .
وضد التواضع التكبر، والتكبر والعجب شكل. وللتواضع ثلاثة علامات: أولها: أن يلبس الصوف والخلقان لأن فيه ذل النفس، والثاني: يحب الغربة لأن في الغربة مذلة لنفسه، والثالث: لا يحب معرفة الناس لأن في معرفة الناس عزاً.
وثلاثة أشياء من أفعال المتواضع: أولها: أن ذله لا يشغل بطلب المعذرة لأن في المعذرة إيقاع الذل عن نفسه ومد العز إلى نفسه، والثاني: لا يغضب على أحد بهوى نفسه لأن الغضب من فعل الجبارين، والثالث: إذا عمل عملاً من أعمال البر في السر فلا يظهره، فإن في إظهاره عزاً، وإذا طلب العزّ ترك التواضع، ولا يكون الرجل متواضعاً حتى يكون ذاكراً ممن خُلق، خُلق من نطفة منتنة، ويكون ذاكراً إلى ما يصير عاقبته ومصيره إلى ميتة جيفة.
وقال الحسن، " كيف يفخر ابن آدم وقد خرج من سبيل البولين " ؛ وقال أيضاً: " كيف تفخر وأولك نطفة وآخرك جيفة " ، فنعم الباب التواضع، فطوبى لمن وفقه الله للتواضع.
تفسير السخاوة وضدها البخل
تفسير السخاوة
السخاوة من السخي، تكون بخمسة أشياء: أحدها: بتذكرة المقدور، والثاني: بتذكرة الخلف، والثالث: بقصر الأمل، والرابع: بتذكرة فراغ تهيؤ إجابة الموت، والخامس: بتذكرة كثرة البقاء في الآخرة وخفة الحساب.
فشكل السخاوة غناء القلب، وضد السّخاوة البخل، والبخل وفقر القلب شكل وللسخي ثلاثة علامات: أولها: أن لا يكون محباً للشيء، لأن من أحبّ شيئاً لا يقدر على السخاوة، والثاني: يحب الضيف حتى ينقص ما عنده من حطام الدنيا، ويزيد في الدرجات عند الله، والثالث: يرى الشيء على نفسه حملاً ثقيلاً فيعمل في خفته.
وثلاثة أشياء من فعال السخي:

أولها: أن لا يمنع الشيء عن موضعه لأن سخاوته لا تدعه أن يمنعه، والثاني: إذا وصل إليه شيء فلا يكون شغله إلا أن يصيب موضعاً حتى يضعه فيه، ويفرغ قلبه لعبادة الله ولسانه ويده، والثالث: حب المؤاخاة بينه وبين الأتقياء حتى يأكلوا من شيئه لأنه أهل السخاوة. ولا يصيب السخي السخاوة إلا بخصلتين: أحدهما: قصد الأمل، والثاني: بالتهيؤ للموت.
فنعم الباب السخاوة لمن وفقه الله للسخاوة لأنه إنما يسخو لنفسه من مال غيره، ويبقي لنفسه ثواباً كثيراً دائماً باقياً لعمر فإن من عمر فان، ومال ذاهب، فأي شيء أهون من ترك شيء لا شيء يغنيه للشيء لأنه يصير لا شيء إذا فني، ويبقى الشيء أبداً من غير تركة ذلك مرّة شيئاً بل نفعه الله بفراغه بما يغنيه بالعز والسر لما قبل موته.

تفسير الصواب وضده الخطأ
تفسير الصواب
والصواب من المصيب يكون بثلاثة أشياء: أحدها: أن يكون علمه بالحجة، حتى يكون قوله بالصواب، والثاني: يخرج العيوب من نفسه حتى تكون أعضاؤه بالصواب، والثالث: يخرج الآفة من قلبه حتى يكون قلبه بالصواب.
فشكل الصواب الحق، وضده الخطأ، والخطأ والباطل شكل، وللمصيب ثلاثة علامات: أولها: أن لا يحب المداهنة لأن المداهن لا يقدر على الصواب، والثاني: لا يحب الخصومة والجدال لأن فيه نقصان الرجل وعداوته، والثالث: يحب العاقبة لأن فيها سلامة لأمر دينه.
وثلاثة أشياء من فعال المصيب: أولها: أن لا يكتم الشهادة لمن أحسن إليه، أو أساء إليه، أو مدحه، أو ذمه، لأن قيامه على الصواب يكثر، والثاني: أن يكون موفياً بالعهود، والثالث: أن يكون مؤدياً للأمانة لأنه قد أصاب طريق الصواب.
ولا يصيب الرجل الصواب حتى يخرج من قلبه الآفة، ومن نفسه العيوب كلها، فنعم الباب القيام بالصواب، فطوبى لمن وفقه الله للصواب، والقيام به، لأن له به العزّ والسرور وراحة البدن والأمن له من عقوبات الله وملامته، وعقوبات الناس وملامتهم له بذلك، لأن المصيب أمين، مسرور، مكرم، مدّاح، عزيز، والمخطئ: خائف، مهان، متعب، ذليل.
تفسير النصيحة وضدها الحسد
تفسير النصيحة
والنصيحة من الناصح تكون بثلاثة أشياء: أحدهما: بالقدر والحرمة: التي في قلبه للمؤمنين، والثاني: أن يرى نجاة نفسه بالنصيحة لهم، والثالث: بأن النصر والدولة تكون مع النصيحة في عاقبتها.
وشكل النصيحة الشفقة، وضدها الحسد، وللناصح ثلاث علامات: أولها: ألا يختار الشيء على المسلمين، ومن يختار الشيء على المسلمين فكيف يقدر على أن ينصح لهم، والثانية: لا يمنع العلم منهم، والثالث: يجب أن يعاون المسلمين حتى ينصح لهم.
وثلاثة أشياء من أفعال الناصح: أولها: أن يكون أكثر كلامه في آفة عيوب الناس، حتى يرجعوا منها ويعينهم على الصواب، والثاني: يعظم قدرهم حتى يرغبهم في الآخرة، والثالث: لا يرغب فيما في أيديهم فإن رغب فيما في أيديهم فقد ترك نصيحتهم، ولا يصيب الناصح النصيحة حتى يرى نجاة نفسه من المسلمين بما أعطاهم الله من الكرامة؛ فطوبى لمن وفقه الله بالنصيحة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا أن الدين النصيحة " وقال جرير بن عبد الله " بايعت النبي صلى الله عليه وسلم بالنصيحة لكل مسلم لنه ناصح نفسه في كل ذلك، لأن له بذلك أجراً ومثل أجور من بلغ نصيحة إلى الأبد مع ماله من العز والراحة والمحبة وحسن الثناء والدعاء له بذلك، لأنّ الناصح عزيز في الدنيا والآخرة، وشرفها وسرورها، وللخائن ذل في الدنيا والآخرة وهوانها.
تفسير الحسبة وضدها الاستغناء عن البر
تفسير الحسبة
والحسبة تكون من المحتسب بثلاثة أشياء: أحدهما: بتذكرة حاجته إلى ذلك المعروف والبرّ، والثاني: بتذكرة حاجته إلى ثواب ذلك البرّ والمعروف، والثالث بتذكرة حاجته إلى رضا الرّب بذلك البرّ والمعروف.
وشكل الحسبة النية، وضدها الاستغناء عن ذلك البر، وللمحتسب ثلاث علامات: أولها: النفعة للخلق، والثاني: يخوفهم من شرور الدنيا وعذاب الآخرة، والثالث: يجب ريادتهم في العلم والعبادة والورع، وثلاثة أشياء من فعال المحتسب: أولها: أن يزور كل من يحبه في الله حتى يرى ما حاله وأمره، والثاني: يقيم نفسه بحوائج المسلمين في أمر دينهم، والثالث: لا يمنّ على أحد بما ينفعهم.

ولا يصيب الرجل الحسبة ولا يقدر عليها حتى يذكر نفسه محتاجاً إلى رضا الله وثوابه، فإذا ذكر ذلك قدر على لحسبة، فنعم الباب الحسبة، فطوبى لمن وفقه الله في الحسبة لأن من ذكر ثواب عمل الآخرة طابت نفسه به ورغب فيه وحرص عليه وثقل عن الدنيا لقلة خيره وكثرة آفته حتى يراه كأنه لا شيء.

تفسير النية فضد نية الخير نية الشر
تفسير النية
والنية من الناوي تكون بأربعة أشياء: أحدهما: بكسر رغبته في الدنيا، والثاني بقصد الأمل، والثالث: بعجلته عن الحياة، والرابع: بشغله بطلب الآخرة.
فضد نية الخير نية الشر، ونية الشر مع طول الأمل شكل، وضد طول الأمل قصر الأمل، وقصر الأمل مع نية الخير شكل، وللناوي ثلاث علامات: أولها: معصوم بها من الخطايا لأن نيته إلى غيره، والثاني: أمن الزلات لأن صاحب النية قلّ ما يزل، والثالث: يترك كل عمل فيه من الخير لأن نيته لا تتحول على خير الأعمال.
وثلاثة أشياء من فعال الناوي: أولها: أن يعمل بالوقف حتى يتبين له، والثاني: يتفكر حتى يتبين النية من الأمل، والثالث: قائم على الهوى والرأي حتى يكسره، ويكون متابعاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصيب الناوي النية حتى يكسر الرغبة في الأمل، ويشغل نفسه في عمل الآخرة، فنعم الباب النية، فطوبى لمن وفقه الله للنية، لأن نية الناوي كرأس المال للتاجر، وكالعمر لطالب الآخرة بما يصلح جميع شأنه إنه عزيز مكرم مراح، وصاحب الأمل ذليل مهن متعب في الدنيا والآخرة.
تفسير الشفقة وضدها العداوة
تفسير الشفقة
والشفقة تكون من المشفق بثلاثة أشياء: أحدها: بتذكرة منزلة المؤمنين عند الله وكرامتهم عليه، والثاني: بتذكرة حاجته إلى معونة المسلمين والمؤمنين إياه لما يعلم أنه وحده ضعيف ولا يقدر أن يحكم أمر دينه إلا بمعونتهم إياه، والثالث: بتذكرة حاجته إلى شفاعتهم يوم القيامة ويجوز أن يكون نجاته بشفاعتهم.
فضد الشفقة العداوة، والعداوة والحسد شكل، وضد الحسد النصيحة، والشفقة والنصيحة شكل، وللمشفق ثلاثة علامات: أولها: أن لا يحب العداوة، والثاني: لا يحب الحسد، والثالث: لا يحب المبادرة ولا الطعنة.
وثلاثة أشياء من فعال المشفق: أولها: اللطف، والثاني: الحلم، والثالث: يحب كل مسلم.
ولا يصيب الرجل الشفقة حتى يذكر منزلة المؤمنين عند الله، فنعم الباب الشفقة لمن وفقه الله، فطوبى لمن وفقه الله للشفقة لأن شفقته عليهم تروم إلى شفقته على نفسه مع ما له من الخيرات بها في الدنيا والآخرة، مع الدعاء إلى الأبد بأنه عزيز، مكرم، آمن، والحاسد ذليل، مهان، خائف من الدنيا والآخرة.
تفسير المداراة وضدها المداهنة
تفسير المداراة
والمداراة تكون في المداري بثلاثة أشياء: أحدهما: بتذكرة فضل الجماعة، وصلاة الجماعة والحج والعيدين وما يشابههما، والثاني: بتذكرة فساد الوحدة لأنه ينبغي لك أن تكون معتزلاً بقلبك عنهم ولا تعتزل عنهم بالجوارح، والثالث: بتذكرك نصيحتك لله ولرسوله وللمؤمنين.
فضد المداراة المداهنة، والمداهنة والتملق للدنيا شكل، وضد التملق للدنيا التملق لأمر الدين، والتملق لأمر الدين والمداراة شكل. وللمداري ثلاث علامات: أولها: يحب الجماعة، والثاني: يخاف من العزلة، والثالث: يحب الاحتمال.
وثلاثة أشياء من فعال المداري: أولها: لا يؤثر الشيء لأجل أمر الدين وحب الجماعة، والثانية: لا يمسك الكلام عن أحد، والثالثة: يكون في صحبة الخلق، فيداري معهم لأجل زيادتهم، ولا يصيب الرجل المداراة حتى يكون ذاكراً فضل الجماعة وفساد الوحدة، ثم يخاف من هوى نفسه، فإذا خاف من هوى نفسه فيقدر على المداراة بين الناس، فنعم الباب المداراة لمن وفقه الله، فطوبى لمن وفقه الله بالمداراة، لأن المداري مضطر بين الناس فيود حفظ نفسه على طلب مرضاة الله ومحبته بالاجتناب عما كره الله، لا يريد لهم الإثم لأجلهم.
تفسير الورع وضده الإقبال
تفسير الورع
فالورع من التورع يكون بخمسة أشياء:

أحدهما: بالعلم، والثاني: بتذكرة منه لما عليه ورغبته فيما له والثالث: بتذكرة عظمة الله، وجلاله وقدرته وسلطانه، والرابع: بتذكرة استحيائه من الملك الجبار، والخامس: بتذكرة خوفه من غضب الله عليه، وبقائه له على الشبه. وشكل الورع الحذر، وضد الورع الإقبال، وضد الحذر الجفاء، والجفاء والإقبال شكل.
وللمتورع ثلاثة علامات: أولها: يحب قلة الشيء لأن في قلة الشيء سلامة له في أمر دينه، والثاني: قلة الكلام في نجاة من سؤال الله إياه، ماذا أردت به، والثالث: قلة الأكل لأن فيه كسر البدن وزيادة في الدرجات وشرحاً للقلب وطريقاً للورع والتفكر.
وثلاثة أشياء فعال المتورع: أولها: أن يكون كلامه بالوزن والحجة والخوف، والثاني: قيامه على الحذر بالليل والنهار، والثالث: مشتغل ببدنه فلا يتفرغ إلى عيوب الناس.
ولا يصيب المتورع الورع حتى يتفكر في عظمة الله وقدرته وهيبته وسلطانه فيهاب منه ويستحي فإذا استحيا منه يقدر على الورع، والورع في كلام العرب الوقف، يقال أروع يا غلام أي قف، وهو الوقف بين الحلال والحرام، فنعم الباب الورع لمن رزقه الله، وطوبى لمن وفقه الله بالورع.

تفسير الشكر وضده كفر النعمة
تفسير الشكر
والشكر من الشاكر يكون بثلاثة أشياء: أحدهما: بتذكرة الزيادة لأن الله عز وجل قال: (لئن شكرتم لأزيدنكم)، والثاني: بتذكرة منَّة الله عليه، والثالث: بتذكرة القدر والقسمة الذي قسم الله حتى يعلم شكر نعمة الله بما نزل من الشدة.
وضد الشكر كفر النعمة، وكفر النعمة والشكوى شكل، وضد الشكوى الحمد، والشكر والحمد شكل.
وللشاكر ثلاثة علامات: أولها: أن يحب الجهد لأنه يجتهد حتى يؤدي شكر ما أنعم الله عليه، والثاني: بتذكرة التضرع، والثالث: يحب العبادة حتى يؤدي ما أعطاه الله.
وثلاثة أشياء من فعال الشاكرين: أولها: أن يكثر ذكر منّة شكر الله عليه، والثاني: يعتبر بمن ابتلاه الله بالشقاوة والسعادة، لقوله: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة)، والثالث: أن يجتهد حتى يؤدي الشكر.