الكتاب : أخبار أبي تمام
المؤلف : الصولي

رسالة الصولي إلى مزاحم بن فاتك
ما جاء في تفضيل أبي تمام
وهو
نسبه
حبيب بن أوس الطائي صليبةً، ومولده بقرية يقال لها جاسم، سيمر ذكرها في أخباره إن شاء الله.
فضله
حدثني محمد بن يزيد بن عبد الأكبر النحوي. قال: قدم عمارة بن عقيلٍ بغداد، فاجتمع الناس إليه، وكتبوا شعره، وسمعوا منه، وعرضوا عليه الأشعار، فقال له بعضهم: هاهنا شاعر يزعم قوم أنه أشعر الناس طراً، ويزعم غيرهم ضد ذلك، فقال: أنشدوني له، فأنشدوه:
غَدتْ تستجيرُ الدمعَ خوفَ نوىَ غدِ ... وعادَ قتاداً عندَهَا كلُّ مَرْقَدِ
وأنْقَذَهَا مِنْ غَمْرَةِ الموتِ أَنَّهُ ... صُدُودُ فِراقٍ لا صُدُودُ تَعَمُّدِ
فأَجْرَى لها الإِشْفَاقُ دَمْعاً مُورَّداً ... من الدَّمِ يَجْرِي فَوْقَ خَدٍّ مُوَرَّدِ
هيَ البدْرُ يُغنِيهاَ تَوَدُّدُ وَجْهِهاَ ... إلى كُلِّ من لاقَتْ وَإِنْ لم تَوَدَّدِ
ثم قطع المنشد، فقال عمارة: زدنا من هذا، فوصل وقال:
ولكنني لم أحْوِ وَفْراً مُجَمَّعاً ... ففُزْتُ بِه إلاَّ بشَمْلٍ مُبَدَّدِ
ولم تُعطِني الأيَّامُ نوماً مُسَكَّناً ... أَلَذُّ به بنَوْمٍ مُشَرَّدِ
فقال عمارة: لله دره، لقد تقدم صاحبكم في هذا المعنى جميع من سبقه على كثرة القول فيه، حتى لحبب الاغتراب، هيه! فأنشده:
وطولُ مُقامِ المرءِ في الحَيِّ مُخْلِقٌ ... لديباجَتَيْهِ فاغْتَرِبْ تَتَجدَّدِ
فإنِّي رَأيتُ الشَّمسَ زيِدَتْ مَحَبَّةً ... إلَى النَّاسِ إذْ لَيْسَتْ عليهم بِسَرْمَدِ
فقال عمارة: كَمُل والله، إن كان الشعر بجودة اللفظ، وحسن المعاني، واطراد المراد، واستواء الكلام، فصاحبكم هذا أشعر الناس، وإن كان بغيره فلا أدري!.
حدثني محمد بن موسى قال: سمعت علي بن الجهم ذكر دعبلاً فكفره ولعنه، وطعن على أشياء من شعره، وقال: كان يكذب على أبي تمام، ويضع عليه الأخبار، ووالله ما كان إليه ولا مقارباً له، وأخذ في وصف أبي تمام، فقال له رجل: والله لو كان أبو تمامٍ أخاك ما زاد على مدحك له، فقال: إلا يكن أخاً بالنسب، فإنه أخٌ بالأدب والدين والمودة، أما سمعت ما خاطبني به:
إن يُكْدِ مُطَّرَفُ الإخاءِ فإِنَّنَا ... نَغْدُو وَنَسْرِي في إِخَاءٍ تَالِدِ
أو يَخْتَلِفْ مَاءٌ الوِصَال فَمَاؤُنا ... عَذْبٌ تَحدَّرَ مِنْ غَمَامٍ وَاحِدِ
أو يَفْتَرِقْ نَسَبٌ يٌؤَلِّفْ بيْنَنَا ... أَدَبٌ أَقَمْنَاهُ مَقَامَ الوَالِدِ
سمعت أبا إسحاق الحري - رحمه الله - يذكر علي بن الجهم، وخبراً له مع أبي تمام، أظنه هذا أو ما يصححه، ولست أحفظه جيداً ولم أجده، لأني كتبته فيما أظن في كتب الحديثٍ وسمعته يقول: كان علي بن الجهم من كملة الرجال. وكان يقال: علمه بالشعر أكثر من شعره، فانظر إلى تفضيل هذا الرجل لأبي تمام، مع تقدمه في الشعر والعلم به، وتفضيل عمارة بن عقيلٍ له، والعلماء يقولون: جاء عمارة بن عقيلٍ على ساقة الشعراء.
ويصحح علم عليٍ بالشعر ما جاء به عبد الله بن الحسين قال، قال لي البحتري: دعاني علي ابن الجهم فمضيت إليه، فأفضنا في أشعار المحدثين إلى أن ذكرنا أشجع السلمي، فقال لي: إنه يخلي، وأعادها مراتٍ ولم أفهمها، وأنفت أن أسأله عن معناها، فلما انصرفت فكرت في الكلمة، ونظرت في شعر أشجع السلمي، فإذا هو ربما مرت له الأبيات مغسولةً ليس فيها بيت رائع، فإذا هو يريد هذا بعينه، أنه يعمل الأبيات فلا يصيب فيها ببيتٍ نادرٍ، كما أن الرامي إذا رمى برشقه فلم يصب فيه بشيءٍ قيل أخلى.
قال: وكان علي بن الجهم عالما بالشعر.
حدثني أبو بكر هرون بن عبد الله المهلبي قال: كنا في حلقة دعبل، فجرى ذكر أبي تمامٍ، فقال دعبل: كان يتتبع معاني فيأخذها، فقال له رجل في مجلسه: ما من ذاك أعزك الله؟ قال، قلت:
إِنَّ أمْرَأً أَسدَي إلىَّ بشافعٍ ... إليه ويرجُو الشكرَ مِنِّي لأحْمَقُ
شفيعَكَ فاشكُرْ في الحوائجِ إنه ... يصُونُك عن مكروهِها وهو يُخْلِقُ
فقال له الرجل: فكيف قال أبو تمام؟ قال، قال:

فلَقيِتُ بين يَديكَ حُلوَ عَطائِهِ ... ولَقيتَ بين يدَيَّ مُرَّ سُؤَالِه
وإذا امرُؤٌ أَسْدَي إلىَّ صنيعةً ... من جاهِهِ فكأنَّها من مالِه
فقال الرجل: أحسن والله، فقال: كذبت قبحك الله، فقال: والله لئن كان أخذ هذا المعنى وتبعته فما أحسنت، وإن كان أخذه منك. لقد أجاده فصار أولى به منك، فغضب دعبلٌ وقام.
قال أبو بكر: وشعر أبي تمام أجود، فهو مبتدئاً ومتبعاً أحق بالمعنى، ولدعبلٍ خبر في شعره هذا مشهور أذكره بسبب ما قبله.
حدثني محمد بن داود قال، حدثني يعقوب بن إسحاق الكندي قال: كانت على القاسم بن محمد الكندي وظيفة لدعبل في كل سنةٍ، فأبطأت عليه، فكلمني فأذكرته بها، فما برح حتى أخذها فقال دعبل:
إنَّ أمرأً أسْدَى إليَّ بشافعٍ
وذكر البيتين. وقد تبع البحتري أبا تمامٍ، فقال في هذا المعنى:
وعطاءٌ غيرِك إن بذْلتَ عنايةً فيِهِ عطاؤُكْ
حدثني أبو جعفر المهلبي قال، حدثني ابن مهرويه قال، حدثني عبد الله بن محمد بن جرير قال: سمعت محمد بن حازمٍ الباهلي الشاعر يصف أبا تمام، ويقدمه في الشعر والعلم والفصاحة، ويقول: ما سمعت لمتقدمٍ ولا محدثٍ بمثل ابتدائه في مرثيته:
أصمَّ بك النَّاعِي وإن كانَ أسمَعَا
ولا مثل قوله في الغزل:
ما إنْ رَأى الأقْوَامُ شَمْساً قَبْلَها ... أَفَلَتْ فَلَمْ تُعْقِبْهُمُ بظَلاَم
لو يَقْدِرُونَ مَشَوْا عَلَى وَجَنَاتِهمْ ... وعُيُونِهمْ فَضْلاً عَنِ الأقْدَامِ
حدثني سوار بن أبي شراعة قال، حدثني البحتري قال: كان أول أمري في الشعر، ونباهتي فيه، أني صرت إلى أبي تمامٍ وهو بحمص، فعرضت عليه شعري، وكان يجلس فلا يبقى شاعر إلا قصده وعرض عليه شعره، فلما سمع شعري أقبل علي وترك سائر الناس، فلما تفرقوا قال: أنت أشعر من أنشدني، فكيف حالك؟ فشكوت خلةً، فكتب لي إلى أهل معرة النعمان، وشهد لي بالحذق، وقال: امتدحهم، فصرت إليهم فأكرموني بكتابه ووظفوا لي أربعة آلاف درهم، فكانت أول ما أصبته.
حدثني أبو عبد الله العباس بن عبد الرحيم الألوسي قال، حدثني جماعة من أهل معرة النعمان قال: ورد علينا كتاب أبي تمامٍ للبحتري: يصل كتابي على يدي الوليد بن عبادة، وهو على بذاذته شاعر فأكرموه.
وسمعت أبا محمد عبد الله بن الحسين بن سعد يقول للبحتري، وقد اجتمعا في داره بالخلد، وعنده محمد بن يزيد النحوي، وذكروا معنىً تعاوره البحتري وأبو تمام: أنت في هذا أشعر من أبي تمام، فقال: كلا والله ذاك الرئيس الأستاذ، والله ما أكلت الخبز إلا به، فقال له محمد ابن يزيد: يا أبا الحسن، تأبى إلا شرفاً من جميع جوانبك!.
حدثني أبو عبد الله الحسين بن علي قال، قلت للبحتري: أيما أشعر، أنت أو أبو تمام؟ فقال: جيده خير من جيدي، ورديئي خير من ردئيه. قال أبو بكر: وقد صدق البحتري في هذا، جيد أبي تمام لا يتعلق به أحد في زمانه، وربما اختل لفظه قليلاً لا معناه، والبحتري لا يختل.
حدثني أبو الحسن الكاتب قال: كان إبراهيم بن الفرج البندنيجي الشاعر يجيئنا كثيراً، وكان أعلم الناس بالشعر، ويجيئنا البحتري وعلي بن العباس الرومي، وكانوا إذا ذكروا أبا تمام عظموه ورفعوا مقداره في الشعر حتى يقدموه على أكثر الشعراء، وكل يقر بأستاذيته، وأنه منه تعلم، وقال: هؤلاء أعلم أهل زمانهم بالشعر، وأشعر من بقي.
حدثني أبو الحسن علي بن محمد الأنباري قال، سمعت البحتري يقول: أنشدني أبو تمام لنفسه:
وَسَابحٍ هَطِلِ التَّعْدَاءِ هَتَّانِ ... عَلَى الجِرَاءِ أَميِنٍ غيرِ خَوَّانِ
أَظْمَى الفُصُوصِ ولم تَظْمأْ قوائمُه ... فَخَلِّ عَيْنَيَكَ فيِ ظَمْآنَ رَيَّانِ
فَلَوْ تَرَاهُ مُشِيحاً والحَصىَ زِيَمٌ ... بَيْنَ السَّنابِكِ مِن مَثْنَى وَوُحْدَانِ
أَيْقَنْتَ إنْ لَمْ تَثَبَّتْ أَنَّ حَافِرَهُمِنْ صَخْرِ تَدْمُرَ أَوْ مِنْ وَجْهِ عُثْمانِ
ثم قال لي: ما هذا من الشعر؟ قلت: لا أدري، قال: هذا المستطرد، أو قال الاستطراد، قلت: وما معنى ذلك؟ قال: يرى أنه يريد وصف الفرس، وهو يريد هجاء عثمان. فاحتذى هذا البحتري فقال في قصيدته التي مدح فيها محمد بن علي القمي ويصف الفرس أولها:

أهلاً بذلكُمِ الخيالِ المقْبلِ ... فَعَلَ الذي نَهْوَاهُ أو لم يفَعلِ
ثم وصف الفرس فقال:
وأغرَّ في الزمنِ البهيمِ محجَّلٍ ... قد رُحتُ منه على أغرَّ مُحجَّلِ
كالهيكلِ المْبنِيِّ إلاَّ أَنَّهُ ... في الحُسْنِ جاءَ كصورةٍ في هيكلِ
يَهْوِي كما تَهْوِي العُقَابُ إذَا رأَتْ ... صَيْداً وينتصبُ انتصابَ الأجْدَلِ
مُتوجِّسٌ برِقيقَتَينِ كأَنَّما ... يُرَيانِ مِن وَرَقٍ عليهِ مُوَصَّلِ
وكأنَّمَا نَفَضَتْ عَلَيْهِ صِبْغَهَا ... صَهْبَاءُ اللبرَدان أَوْ قُطْرُبُّلِ
مَلكَ العُيُونَ فإن بدَا أعطينَه ... نظرَ المحبِّ إلى الحبيبِ المقبلِ
مَا إن يَعَافُ قَذًى وَلَوْ أَوْرَدْتَهُ ... يوماً خلائقَ حَمْدَوَيْهِ الأحْوَلِ
وكان هذا عدواً للذي مدحه. فحدثني عبد الله بن الحسين وقد اجتمعنا بقرقيسياء قال، قلت للبحتري: إنك احتذيت في شعرك - يعني الذي ذكرناه - أبا تمام، وعملت كما عمل من المعنى، وقد عاب هذا عليك قوم، فقال لي: أيعاب على أن أتبع أبا تمام، وما عملت بيتاً قط حتى أخطر شعره ببالي؟ ولكنني أسقط بيت الهجاء من شعري. قال: فكان بعد ذلك لا ينشده، وهو ثابت في أكثر النسخ.
حدثني محمد بن سعيد أبو بكر الأصم قال، حدثني أحمد بن أبي فنن قال: حضرت أبا تمام وقد وصل بمائتي دينارٍ، فدفع إلى رجلٍ عنده منها مائةً، وقال: خذها. ثم قيل لي إنه صديق له، واستبنت منه خلةً فعذلته على إعطائه ما أعطى، وقلت: لو كان شقيقك ما عذرتك مع اضطراب حالك، فقال:
ذُو الوُدِّ مِني وذو القُربي بمنزلةٍ ... وإخوتي أُشوةٌ عنديِ وإخواني
عِصَابَةٌ جاوَرَتْ آدابُهم أَدبِي ... فَهُمْ وإنْ فُرِّقُوا في الأرض جيراني
أرواحُنَا في مكانٍ وَاحِدٍ وَغَدَتْ ... أَجْسامُنَا لِشَآمٍ أو خُراسانِ
قال ابن أبي فنن: وكان أبو تمام أحضر الناس خاطراً. وقد أجاد هذا المعنى إبراهيم بن العباس الصولي فقال:
أَمِيلُ معَ الذِّمامِ على ابنِ عمِّي ... وأقضِي للصَّديقِ على الشَّقِيقِِ
افَرِّقُ بين مَعْروفِي ومَنَّي ... وأجمعُ بَيْن مالِي والحقوقِ
وإمَّا تلْقَنِي حُرّاً مُطاعاً ... فإنكَ وَاجِدِي عبدَ الصَّديقِ
حدثني أبو الحسن الأنصاري قال، حدثني ابن الأعرابي المنجم قال: كان أبو تمامٍ إذا كلمه إنسان أجابه قبل انقضاء كلامه، كأنه كان علم ما يقول فأعد جوابه، فقال له رجل: يا أبا تمام. ولم لا تقول من الشعر ما يعرف؟ فقال: وأنت لم لا تعرف من الشعر ما يقال؟ فأفحمه. وحدثني أبو الحسين الجرجاني قال: الذي قال له هذا أبو سعيدٍ الضرير بخراسان، وكان هذا من علماء الناس، وكان متصلاً بالطاهرية. ولا أعرف أحداً بعد أبي تمام أشعر من البحتري، ولا أغض كلاماً، ولا أحسن ديباجةً، ولا أتم طبعاً وهو مستوى الشعر، حلو الألفاظ، مقبول الكلام، يقع على تقديمه الإجماع، وهو مع ذلك يلوذ بأبي تمامٍ في معانيه. فأي دليلٍ على فضل أبي تمامٍ ورياسته يكون أقوى من هذا؟.
قال أبو تمام:
يَسْتنْزِلُ الأملَ البعيدَ ببِشرِهِ ... بُشْرَى المُخِيلَةِ بالربيِع المغدِقِ
وكذَا السحائبُ قلَّما تدعُو إلى ... مَعْروُفِها الرُّوادَ ما لم تَبْرُقِ
فحسن هذا المعنى وكمله، ثم أوضحه في مكانٍ آخر واختصره فقال:
إنما البِشْرُ رَوْضةٌ فإذَا أَعْقَبَ بَذْلاً فَروْضَةٌ وغَديرُ
فما زال البحتري يردد هذا المعنى في شعره، ويتبع أبا تمام فيه، ويقع في أكثره دونه، قال في قصيدةٍ يمدح بها رافعاً:
كانتْ بشاشتُك الأولَى التي ابتدَأَتْ ... بالبِشْرِ ثم اقتبلْنَا بعدَها النِّعَما
كالمُزنِة استَوْبَقتْ أُولَى مَخيلتِها ... ثم استهلَّتْ بغُزْرٍ تَابَعَ الدِّيَمَا

فاحتذى معانيه واقتصها، فجذبته المعاني واضطرته إلى أن حكى لفظه في هذا، فصار يشبه لفظ أبي تمام، ولفظ البحتري في أكثر هذه أسهل؛ ثم ردد هذا المعنى البحتري فقال واستعاره للسيف:
مُشْرِقُ للنَّدَى ومِن حَسَبِ السَّيْ ... فِ لِمُسْتَلِّه ضياءُ حَديِدِهْ
ضَحَكَاتٌ في إثْرِهِنَّ العَطَايَا ... وَبُرُوقُ السَّحَابِ قبلَ رُعُودِهْ
ثم ردد المعنى وأسقط البشر منه وصير مكانه الرعد فقال في أبي الصقر:
يُولِيكَ صَدْرَ الَيْومِ قاصِيَة الغِنَى ... بِفَوائدٍ قَدْ كُنَّ أَمْسِ مَوَاعِدَا
سَوْمَ السَّحَائِبِ ما بَدَأْنَ بَوَارِقاً ... في عَارِضٍ إلاَّ ثَنَيْنَ رَوَاعِدَا
ثم ردد المعنى الأول بحاله، فقال في المعتز بالله وأحسن:
متهلِّلٌ طَلْقٌ إذا وعدَ الغِنَى ... بالبِشْرِ أتْبَعَ بِشْرَهُ بالنَّائِلِ
كالمُزْنِ إنْ سَطَعتْ لوامعُ بَرْقِهِ ... أَجْلَتْ لنَا عَنْ دِيَمةٍ أَوْ وَابِلِ
وهذا المعنى فإنما ابتدأه أبو نواس، فقال يمدح قوماً من قريش في أرجوزةٍ وصف فيها الحمام:
بِشْرُهُمُ قبلَ النَّوالِ اللاَّحِقِ ... كالْبَرْقِ يبدوُ قبلَ جُودٍ دَافِقِ
والغيثُ يخْفَي وقْعُه للرَّامقِ ... ما لم تَجِدْهُ بِدَليلِ البارقِ
ومن تبحر شعر أبي تمام وجد كل محسنٍ بعده لائذاً به، كما أن كل محسنٍ بعد بشارٍ لائذ ببشار، ومنتسب إليه من أكثر إحسانه، قال أبو تمام:
فَسَواءٌ إِجَابَتِي غَيْرَ دَاعِ ... وَدُعَائي بالقَاعِ غَيْرَ مُجيبِ
فقال البحتري نسخاً له:
وسأَلْتَ مَنْ لا يستجيبُ فكنتَ في اس ... تِخْبارِهِ كمجيبِ مَنْ لا يَسْأَلُ
وقال أبو تمام:
إذا القصائدُ كانتْ مِن مدائِحِهِمْ ... يوماً فأَنْتَ لَعَمْرِي من مدائِحها
فقال البحتري:
ومَنْ يَكنْ فاخِراً بِالشعرِ يُذكر في ... أَصنافِهِ فَبِكَ الأشْعارُ تَفتِخر
وقال أبو تمام:
وإذا أرادَ اللهُ نَشْرَ فَضيلةٍ ... طُويتْ أَتاحَ لها لِسَانَ حَسُودِ
فقال البحتري:
ولنْ تَسْتبينَ الدهرَ مَوْضعَ نِعْمةٍ ... إذا أنت لم تُدْلَلْ عليها بحَاسِدِ
وقال أبو تمام:
بُخْلٌ تَديِنُ بِحُلْوِهِ وَبِمُرِّهِ ... فكأَنَّهُ جُزْءٌ منَ التَّوحِيدِ
فقال البحتري:
وَتَدَيُّنٌ بِالبُخْلِ حَتَّى خِلْتُهُ ... فَرْضاً يُدَانُ به الإلهُ ويُعْبدُ
وقال أبو تمام:
أوْ يَخْتَلِفْ مَاءُ الوِصَالِ فَماؤُنَا ... عَذْبٌ تَحَدَّرَ مِنْ غَمامٍ وَاحِدِ
وإنما أخذه أبو تمام من قول الفرزدق:
يا بشْرُ أَنْتَ فَتَى قريشٍ كُلِّها ... وِيِشِي وريشُكَ من جناحٍ واحِدِ
فقال البحتري:
وَأَقَلُّ ما بيْنِي وبينَكَ أَننا ... نَرْمِي القبائلَ عَنْ قَبيلٍ واحدِ
وقال أبو تمام:
ثَوَى بالمشْرِقيْنِ لهم ضَجَاجٌ ... أَطَارَ قُلوبَ أَهْلِ المغربيْنِ
وإنما أخذه أبو تمام من قول مسلم:
لما نَزَلْتَ على أَدْنَى بِلاَدِهِمِ ... أَلْقَى إليكَ الأقاصِي بالمقاليدِ
فقال البحتري:
غَدا غَدْوَةً بَيْن المشارقِ إذ غَدَا ... فَبَثَّ حَرِيقاً في أقاصِي المغارِبِ
وجاذبني يوماً بعض من يتعصب على أبي تمام بالتقليد لا بالفهم، ويقدم غيره بلا درايةٍ فقال: أيحسن أبو تمام أن يقول كما قال البحتري:
تَسَرَّعَ حتى قال مَنْ شَهِدَ الوَغَى ... لِقاءُ أَعَادٍ أمْ لقاءُ حبائبِ؟
فقلت له: وهل افتض هذا المعنى قبل أبي تمام أحد في قوله:
حَنَّ إلى المَوْتِ حَتَّى ظَنَّ جَاهِلُهُ ... بأنه حَنَّ مُشْتَاقاً إلَى وَطَنِ
ولولا أنَّ بعض أهل الأدب ألف في أخذ البحتري من أبي تمام كتابا، لكنت قد سقت كثيراً مثل ما ذكرنا، ولكنني أكره إعادة ما ألف، وأجتنب أن أجتذب من الأدب ما ملك قبلي، إلا أنني سآتي بأبياتٍ من جملة ذلك تدل على جميعه إن شاء الله: قال أبو تمام:

شَهِدْتُ جَسيماتِ العُلاَ وَهْوَ غَائِبٌ ... وَلَوْ كانَ أيضاً شَاهِداُ كان غَائبَا
فقال البحتري:
نَصَحْتُكُمُ لَوْ كان للنُّصْحِ سامِعٌ ... لَدَى شَاهِدٍ عَن مَوْضعِ الفهْمِ غائبِ
على أن محمد بن عبيد الله العتبي قد قال:
قَوْمٌ حُضُورٌ غائِبْو اْلأذْهانِ ليسَ لها قُفُولُ
وقال أبو تمام:
فإِنْ أنا لَمْ يَحْمَدْكَ عَنِّي صاغِراً ... عَدُوُّكَ فاعْلَمْ أَنَّني غَيْرُ حامِدِ
فقال البحتري:
لَيُواصِلَنّكَ ذكُر شِعْرٍ سائرٍ ... يَرْويه فيكَ لحسِنِه الأعْدَاءُ
وكأن هذا المعنى من قولهم: من فضل فلان أن أعداءه مجمعون على فضله، وقولهم: خير المدح ما رواه العدو والصديق.
وقال أبو تمام:
ونَغْمَةُ مُعْتَفِي جدْوَاهُ أَحْلَى ... على أذُنيْهِ مِنْ نَغَمِ السَّماعِ
فقال البحتري:
نَشْوانُ يطَربُ للسؤَالِ كأنما ... غَنَّاهُ مالكُ طيئٍ أوْ معبدُ
وأول من أتى بفرح المسؤول، وطلاقة وجهه، ثم أخذه الناس فولدوه فقالوا: السؤال أحلى عنده من الغناء، وراجيه أحب إليه من معطيه، زهير، قال:
تراه إذا ما جئتَه متهلِّلاً ... كأنك تُعطيهِ الذي أنتَ سائلهُ
وقال أبو تمام:
ومُجَرَّبُونَ سَقَاهُمُ من بَأسِهِ ... فَإذَا لَقُوا فكأَنَّهم أغْمَارُ
فأخذه البحتري فقال:
مَلِكٌ لهُ في كل يومِ كريهةٍ ... إِقدامُ غِرٍّ واعتزامُ مُجَرِّبِ
فأما الذي نقله البحتري نقلاً، فأخذ اللفظ والمعنى، فقول أبي تمام يصف شعره:
مُنزَّهَةٌ عن السَّرَقِ الموَرَّي ... مكرَّمةٌ عن المعْنَى المُعادِ
فقال البحتري يصف بلاغةً:
لا يَعْملُ المْعنَى المكَرَّ ... رَ فِيهِ واللفظَ المرّدَّدْ
وقال أبو تمام:
البيدُ والعِيسُ والليلُ التَّمام معاً ... ثَلاثةٌ أَبداً يُقْرَنَّ فِي قَرَنِ
فقال البحتري:
اطلُبَا ثالثاً سِوَاىَ فإِنِّي ... رَابعُ العِيسِ والدُّجَى والبِيدِ
وأخذه أبو تمام من قول ذي الرمة:
وَلَيلٍ كجِلْبَابِ العَروسِ ادَّرَعْتُهُ ... بأربعةٍ والشخْصُ في العينِ واحدُ
أَحَمُّ عِلاَفِيٌّ، وأبيضُ صارِمٌ ... وأعْيِسُ مَهْرِيٌّ، وأروعُ ماجدُ
وقال أبو تمام:
تَفيِضُ سماحةً والمُزْنُ مُكْدٍ ... وتَقْطَعُ والحُسامُ العَضْبُ نَابِي
فقال البحتري:
يَتوَقَّدْنَ والكواكبُ مُطْفاَ ... ةٌ ويَقْطَعْنَ والسُّيُوفُ نوابِي
وقال الطائي:
لا تَدْعُوَنْ نُوحَ بنَ عمرو دَعوةً ... للخطْبِ إلاَّ أَنْ يكونَ جَليلاً
فقال البحتري:
يا أبا جَعْفرٍ وما أنتَ بالمدْ ... عُوِّ إلاَّ لِكلِّ أمرٍ كُبارِ
وقال أبو تمام:
ولقد أَردتُمْ مجدَه وجهَدَتُمُ ... فإذَا أَبانٌ قَدْ رسَا وَيلَمْلَمُ!
فقال البحتري ونقله لفظاً ومعنى:
وَلَنْ يَنْقُلَ الحُسَّادُ مَجْدَكَ بعدمَا ... تمكَّنَ رَضْوَى واطمأَنَّ مُتَالِعُ
وقال أبو تمام:
وتُشَرِّفُ العُلْيا وهَلْ مِنْ مَذْهَبٍ ... عَنْها وأنتَ عَلَى المعالِي قَيِّمُ
فقال البحتري:
متقلقلً الأحْشاءِ في طلبِ العُلاَ ... حتَّى يكونَ عَلَى المعالِي قيمِّا
وقال أبو تمام:
ويلبَسُ أَخلاقاً كِراماً كأَنَّها ... عَلَى العِرْضِ من فَرْطِ الحَصانَةِ أدْرُعُ
فقال البحتري، ولم يستوف، وكذلك هو في أكثر ما ذكرت يقع دوناً:
قومٌ إذا لبسُوا الدروعَ لموقفٍ ... لبِسَتْهُمُ الأخلاقُ فيه دُروعا
وقال أبو تمام:
وقد كانَ فَوْتُ الموتِ سَهلاً فردَّهُ ... إليهِ الحِفَاظُ المرُّ والخُلُقُ الوَعْرُ
فقال البحتري:
ولَوَ أنَّهُ اسْتَامَ الحياةَ لِنَفسِهِ ... وجَدَ الحياةَ رخيصَةَ الأسْبابِ
وهذا أيضاً من قول الآخر:
ولو أنهم فَرُّوا لكانُوا أعِزَّةً ... ولكنْ رَأَوْا صَبْراً على الموتِ أكرمَا
وقال أبو تمام:

وما العُرْفُ بالتَّسْويفِ إلا كخُلةٍ ... تَسَلَّيْتَ عنها حينَ شَطَّ مَزارُهَا
فقال البحتري:
وكنتُ وَقد أَمَّلْتُ مُرّاً لِنَائِلٍ ... كَطالبِ جَدْوَى خُلَّةٍ لا تُواصِلُ
ومما احتذى فيه البحتري أبا تمام، وقدر مثل كلامه فعمل معناه عليه، ما أخذه من قول أبي تمام:
هِمةٌ تنطِحُ النجومَ وَجَدٌّ ... ألِفٌ للحضيِضِ فهو حضيضُ
فقال البحتري:
متحير بعزم قائم ... في كل نازلة وجد قاعد
قال أبو تمام:
مُتَوَطِّئُو عَقِبَيْكَ فيِ طَلَبِ العُلاَ ... والمْجدِ ثُمَّتَ تَسْتوِي الأَقدامُ
فقال البحتري:
حُزْتَ العُلا سَبْقاً وصلَّى ثانياً ... ثم اسْتَوَتْ من بَعْدِه الأَقْدَامُ
وقال أبو تمام:
تَنْدَى عُفاتُكَ للعُفاةِ وتَغْتَدِى ... رُفَقاً إلى زُوَّارِكَ الزُّوَّارُ
فقال البحتري على تقديره:
ضَيْفٌ لَهُم يَقْرِي الضيوفَ ونازلٌ ... مُتَكَفِّلٌ فيِهمْ بِبِرِّ النُّزَّلِ
وقال أبو تمام:
عَطَفُوا الخُدورَ عَلَى البُدُورِ وَوَكَّلوا ... ظُلَمَ السُّتُورِ بِنُورِ حُورٍ نهَّدِ
فقال البحتري:
وَبِيضٍ أضَاءَتْ فِي الخُدُورِ كأنها ... بُدُورُ دُجىً جَلَّتْ سَوَادَ الحَنَادِس
حدثني عبد الله بن المعتز قال: حدثني أبو سعيد النحوي المعروف بصعودا عن أبي تمام الطائي قال: خرجت يوماً إلى سر من رأى، حين ولي الواثق، فلقيني أعرابي وقد قربت منها، فأردت أن أسأله عن شيءٍ من أخبار الناس بها، فخاطبته، فإذا أفصح الناس وأفطنهم، فقلت: ممن الرجل؟ قال: من بني عامر، قلت: كيف علمك بأمير المؤمنين؟ قال: قتل أرضاً عالمها، قلت فما تقول فيه؟ قال: وثق بالله فكفاه، أشجى العاصية، وقمع العادية، وعدل في الرعية، وأرعف كل ذي قلمٍ خيانته. قلت: فما تقول في أحمد بن أبي دؤاد؟ قال: هضبة لا ترام، وجندلة لا تضام، تشحذ له المدى، وتحبل له الأشراك، وتبغي له الغوائل، حتى إذا قيل كأن قد، وثب وثبة الذئب، وختل ختل الضب. قلت: فما تقول في محمد بن عبد الملك؟ قال: وسع الدانى شره، وقتل البعيد ضره، له كل يومٍ صريع لا يرى فيه أثر نابٍ، ولا ندب مخلبٍ. قلت: فما تقول في عمرو بن فرج؟ قال: ضخم لهم، مستعذب للذم. قلت: فما تقول في الفضل بن مروان؟ واستعذبت خطابه، قال: ذاك رجل نشر بعد ما قبر، فعليه حياة الأحياء وخفته الموتى. قلت: فما تقول في أبي الوزير؟ قال: كبش الزنادقة الذي تعرف، ألا ترى أن الخليفة إذا أهمله. سنح ورتع، فإذا هزه أمطر فأمرع؟ قلت: فابن الخصيب؟ قال: أكل أكلة نهم، فذرق ذرقة بشم. قلت: فما تقول في إبراهيم أخيه؟ قال: " أموات غير أحياءٍ وما يشعرون أيان يبعثون " . قلت: فما تقول في أحمد بن إسرائيل؟ قال: لله دره، أي قلقلٍ هو؟ غرس في منابت الكرم، حتى إذا اهتز لهم حصدوه. قلت: فما تقول في إبراهيم بن رياح؟ قال: أوبقه كرمه، وأسلمه حسبه، وله معروف لا يسلمه، ورب لا يخذله، وخليفة لا يظلمه. قلت: فما تقول في نجاح بن سلمة؟ قال: لله دره، أي طالب وترٍ، ومدرك ثأرٍ! يتلهب كأنه شعلةُ نار، له من الخليفة جلسة تزيل نعماً، وتحل نقماً. قلت: يا أعرابي، أين منزلك؟ قال: اللهم غفراً، إذا اشتمل الظلام فحيثما أدركني الرقاد رقدت! قلت: فكيف رضاك عن أهل العسكر؟ قال: لا أخلق وجهي بمسألتهم، أوأما سمعت قول هذا الفتى الطائي، الذي قد ملأ الدنيا شعره:
ومَا أُبالِي وخَيْرُ القَوْلِ أَصْدَقُهُ ... حَقَنتَ لي ماءَ وجهي أو حقَنْتَ دَمِي
قلت: فأنا الطائي قائل هذا الشعر! فدنا مبادراً فعانقني وقال: لله أبوك، ألست الذي يقول:
ما جُودُ كفِّكَ إن جادت وإن بخِلَتْ ... من ماءِ وجهي إذَا أخلقتُه عِوَضُ
قلت: نعم، قال: أنت والله أشعر أهل الزمان. فرجعت بالأعرابي معي إلى ابن أبي دؤاد، وحدثته بحديثه، فأدخله إلى الواثق، فسأله عن خبره معي، فأخبره به، فأمر له بمالٍ، وأحسن إليه، ووهب له أحمد بن أبي دؤاد، فكان يقول لي: قد عظم الله بركتك علي.
حدثني محمد بن القاسم بن خلادٍ قال: انصرفت يوماً من عند ابن أبي دؤادٍ، فدخلت إلى محمد ابن

منصور فوجدت عنده عمارة بن عقيل، وكان خلا له، وهو ينشده قصيدةً له في الواثق أولها:
عرَفَ الديارَ رُسُومُها قَفْرُ ... لَعِبَتْ بها الأرْوَاحُ والقَطْرُ
فلما فرغ منها قلنا له: ما سمعنا أحسن من هذه الرائية، أحسن الله إليك يا أبا عقيل! فقال: والله لقد عصفت رائية طائيكم هذا بكل شعرٍ في لحنها، قلنا له: وما هي؟ قال: كلمته التي هجا بها الأفشين، فقال محمد بن يحيى بن الجهم: أنا أحفظها، فقال: هاتها فأنشده:
الحقُّ أَبلجُ والسيوفُ عَوَارٍ ... فَحَذَار من أَسَدِ العَرينِ حَذارِ
فقال له عمارة: أنشدنا ذكر النار، فأنشد:
ما زالَ سِرُّ الكُفْرِ بين ضُلوعِه ... حتى اصْطَلَى سِرَّ الزِّنادِ الواري
ناراً يُساورُ جسْمَهُ من حَرِّها ... لَهَبٌ كما عَصْفَرتَ نِصْفَ إزارِ
طارتْ لها شُعَلٌ يُهدّم لَفحُها ... أَرْكانَهُ هَدْماً بغيرِ غُبارِ
ففصَلْنَ منه كُلَّ مَجْمَعِ مَفصِلٍ ... وفَعلْنَ فاقرةً بكُلّ فَقَارِ
قال أبو بكر: إنما قال: وفعلن، فخص هذه اللفظة لقول الله جل وعز " تظنُّ أَنْ يُفعلَ بِها فَاقِرَةٌ " ، ولقول الناس: فعل به الفواقر، أي الدواهي:
رَمَقُوا أَعَالَي جِذْعِه فكأنَّما ... وَجدْوا الهِلالَ عَشِيَّةَ الإفطار
ثم ذكر المصلبين فقال:
سُودُ اللباسِ كأنما نَسَجَتْ لُهمْ ... أَيْدِي الشُّمُوسِ مَدَارِعاً مِنْ قَارِ
بَكَرُوا وأسْرَوْا في مُتُونِ ضَوامرٍ ... قِيدَتْ لهم من مَرْبَطِ النجَّارِ
لا يبْرَحُون ومَنْ رآهُم خَالَهْم ... أبداً على سَفَرٍ من الأسْفارِ
جهِلُوا فلم يستكثِروُا مِنْ طَاعَةٍ ... مَعْروفَةٍ بِعمارَةِ الأعْمارِ
فقال عمارة: لله دره، لقد وجد ما أضلته الشعراء، حتى كأنه كان مخبوءاً له. قال محمد بن القاسم: فاعتقدت في أبي تمامٍ من ذلك اليوم أنه أشعر الناس، وما كان ذا رأيي من قبل.
حدثني أبو العباس عبد الله بن المعتز قال: جاءني محمد بن يزيد المبرد يوماً فأفضنا في ذكر أبي تمام، وسألته عنه وعن البحتري، فقال: لأبي تمام استخراجات لطيفة، ومعانٍ طريفةٌ، لا يقول مثلها البحتري، وهو صحيح الخاطر، حسن الانتزاع، وشعر البحتري أحسن استواءً، وأبو تمام يقول النادر والبارد، وهو المذهب الذي كان أعجب إلى الأصمعي، وما أشبه أبا تمام إلا بغائصٍ يخرج الدر والمخشلبة، ثم قال: والله إن لأبي تمامٍ والبحتري من المحاسن ما لو قيس بأكثر شعر الأوائل ما وجد فيه مثله. قال أبو بكر: وقول أبي العباس المبرد " ما أشبهه إلا بغائص " ، فإنما أخذه من قول الأصمعي في النابغة الجعدي: تجد في شعره مطرفاً بآلاف، وكساءً بواف.
حدثني عبد الله بن المعتز قال: كان إبراهيم بن المدبر يتعصب على أبي تمام ويحطه عن رتبته، فلاحاني فيه يوماً فقلت له: أتقول هذا لمن يقول:
غَدَا الشيبُ مُختطا بفَوْدَىَّ خُطَّةُ ... سبيلُ الرَّدَى مِنها إلى الموتِ مَهْيَع
هو الزَّوْرُ يُجْفَى والمُعاشِرُ يُجتَوَى ... وذُو الإلْفِ يُقْلَى والجديدُ يُرَفَّعُ
له منظَرٌ في العينِ أَبْيضُ ناصِعٌ ... ولكنَّهُ في القلبِ أسْودُ أسْفَعُ
ولمن يقول:
فَإنْ تُرْمَ عن عُمرٍ تَدَانَى به المَدَى ... فَخَانَكَ حتَّى لم يَجِدْ فيكَ مَنْزَعَا
فما كنْتَ إلاَّ السَّيْفَ لاَقَى ضرِيبةً ... فَقَطَّعَها ثمَّ انثْنَى فَتَقَطَّعَا
ولمن يقول:
خَشَعُوا لصَوْلتِكَ التي هي عندهُم ... كالموتِ يأتِي ليسَ فيه عارُ
فالمشيُ هَمْسٌ، والنداءُ إشارةٌ ... خَوْفَ انتقامِكَ، والحديثُ سِرار
أيامُنا مَصْقُولةٌ أطْرَافُها ... بِكَ واللياليِ كلُّها أَسْحارً
تنْدَى عُفَاتُكَ للعُفَاةِ وتغَتدِي ... رُفَقاً إلى زُوَّارِك الزُّوَّارُ
قال: وأنشدته أيضاً غير ذلك، فكأني - والله - ألقمته حجراًَ! قال أبو بكر: أما قوله " فقطعها ثم انثنى فتقطعا " فهو مأخوذ من قول البعيث:

وإنا لنُعِطي المشْرَفيَّةَ حقَّهَا ... فتقْطَعُ في أَيْمَانِنَا وَتَقَطَّعُ
ومن قوله أيضاً:
أَوْفَى به الدهْرُ من أحداثِه شَرَفاً ... والسَّيفُ يمِضي مِراراً ثمَّ يَنْقصِدُ
وأما قوله: " والليالي كلها أسحار " فهو من قول عبد الملك بن صالح، وسأله الرشيد: كيف ليل منبج؟ فقال: سحر كله، وقد أخذه ابن المعتز فقال:
يا رُبَّ ليلٍ سَحَرٍ كلُّه ... مُفْتَضِحِ البدْرِ عَليلِ النَّسيمْ
ولو جاز أن يصرف عن أحدٍ من الشعراء سرقة، لوجب أن يصرف عن أبي تمام لكثرة بديعه واختراعه واتكائه على نفسه، ولكن حكم النقاد للشعر، العلماء به، قد مضى بأن الشاعرين إذا تعاورا معنىً ولفظاً أو جمعاهما، أن يجعل السبق لأقدمهما سناً، وأولهما موتاً، وينسب الأخذ إلى المتأخر، لأن الأكثر كذا يقع، وإن كانا في عصرٍ الحق بأشبههما به كلاما، فإن أشكل ذلك تركوه لهما.
حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: جاءني فضل اليزيدي بشعر أبي تمام، فجعل يقرؤه علي، ويعجبني ممن جهل مقداره. فقلت له: الذين جهلوه كما قال:
لا يدهَمَنَّكَ من دهْمائِهِمْ عددٌ ... فإنَّ أكثرَهُمْ أو كُلَّهُمْ بَقَرُ
فقال لي: قد عابه جماعةُ من الرواة للشعر، فقلت: الرواة يعلمون تفسير الشعر ولا يعلمون ألفاظه، وإنما يميز هذا منهم القليل، فقال: هذه العلة في أمرهم.
وكنا عند أبي علي الحسين بن فهم، فجري ذكر أبي تمام فقال رجل: أيما أشعر: البحتري أو أبو تمام؟ فقال: سمعت بعض العلماء بالشعر - ولم يسمه - قد سئل عن مثل هذا فقال: وكيف يقاس البحتري بأبي تمام، وهو به، وكلامه منه، وليس أبو تمام بالبحتري، ولا يلتفت إلى كلامه؟.
حدثني القاسم بن إسماعيل أو ذكوان قال: سمعت عمك إبراهيم بن العباس الصولي يقول: ما اتكلت في مكاتبتي إلا على ما يجيله خاطري، ويجيش به صدري، إلا قولي: وصار ما كان يحرزهم يبرزهم، وما كان يعقلهم يعتقلهم، وقولي في رسالةٍ أخرى: فأنزلوه من معقل إلى عقال، وبدلوه آجالاً من آمال؛ فإني ألممت في قولي: " آجالاً من آمال " بقول مسلم بن الوليد:
مُوفٍ على مُهَجٍ في يومِ ذي رَهَجٍ ... كأَنه أَجَلٌ يَسْعى إلى أملِ
وفي " المعقل والعقال " بقول أبي تمام، ثم أنشد:
فإنْ باشَرَ الإِصْحَارَ فالبيضُ والقَنَا ... قِرَاهُ وأَحْوَاضُ المنَايا مَنَاهِلُهْ
وإن يَبْنِ حِيطاَناً عَلَيْهِ فإِنَّمَا ... أُولئكَ عُقَّالاَتُهُ لاَ مَعَاقِلُهْ
وإلاّ فأعْلِمْهُ بأنّكَ سَاخِطٌ ... وَدَعْهُ فَإنّ الخَوْفَ لا شَكَّ قاتِلُهْ
بِيُمْنِ أبيِ إسْحاقَ طَالَتْ يدُ الهُدَىوَقَامَتْ قَنَاةُ الدِّينِ واشْتَدَّ كَاهِلُهْ
هُوَ البَحْرُ مِنْ أَيِّ النِّواحِي أَتَيْتَهُفَلُجَّتُهُ المعرُوفُ والجُودُ سَاحِلُهْ
تَعَوَّدَ بَسْطَ الْكَفِّ حتَّى لو أنَّهُ ... ثَنَاهَا لِقَبْضٍ لَمْ تُجِبْهُ أَنَامِلُهْ
ثم قال لي: أما تسمع يا قاسم؟ قلت: بلى والله يا سيدي، قال: إنه اخترم وما استمتع بخاطره، ولا نزح ركي فكره، حتى انقطع رشاء عمره.
حدثني أبو الحسين بن السخي قال، حدثني الحسن بن عبد الله قال: سمعت إبراهيم بن العباس يقول لأبي تمام، وقد أنشده شعراً له في المعتصم: يا أبا تمام، أمراء الكلام رعية لإحسانك، فقال له أبو تمام: ذاك لأني أستضئ برأيك، وأرد شريعتك.
حدثني أبو عبد الله الحسين بن علي قال، حدثني سليمان بن وهب قال: رآني أبو تمام وأنا أكتب كتابا، فاطلع فيه ثم قال لي: يا أبا أيوب، كلامك ذوب شعري.
حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال: سألت أبي عن أبي تمام فقال: سمعني أبي وأنا ألاحي إنساناً في أبي تمام فقال لي: ما كان أحد من الشعراء يقدر أن يأخذ درهما واحداً في أيام أبي تمام، فلما مات أبو تمام اقتسم الشعراء ما كان يأخذه.
حدثني أبو الحسن علي بن إسماعيل قال، قال لي البحتري: أول ما رأيت أبا تمامٍ مرةً ما كنت عرفته قبلها، أني دخلت على أبي سعيد محمد بن يوسف وقد امتدحته بقصيدتي التي أولها:
أَأَفاقَ صَبٌّ من هَوىً فأُفيقَا ... أَوْ خَانَ عَهداً أو أطاعَ شفيقاَ؟

فأنشدته إياها، فلما أتمتها سر أبو سعيد بها وقال: أحسن الله إليك يا فتى، فقال له رجل في المجلس: هذا - أعزك الله - شعر لي، علقه هذا فسبقني به إليك، فتغير وجه أبي سعيد وقال: يا فتى قد كان في نسبك وقرابتك ما يكفيك أن تمت به إلينا، ولا تحمل نفسك على هذا، فقلت: هذا شعر لي أعزك الله، فقال الرجل: سبحان الله يا فتى، لا تقل هذا، ثم ابتدأ فأنشد من القصيدة أبياتا، فقال لي أبو سعيد: نحن نبلغ ما تريد، ولا تحمل نفسك على هذا فخرجت متحيراً لا أدري ما أقول، ونويت أن أسأل عن الرجل من هو؟ فما أبعدت حتى ردني أبو سعيد ثم قال: جنيت عليك فاحتمل، أتدري من هذا؟ قلت: لا، قال: هذا ابن عمك حبيب بن أوس الطائي أبو تمام، فقم إليه، فقمت إليه فعانقته، ثم أقبل يقرظني ويصف شعري، وقال: إنما مزحت معك. فلزمته بعد ذلك وكثر عجبي من سرعة حفظه.
حدثني علي بن إسماعيل قال: كنت عند البحتري فأنشدته وهو كالمفكر:
أَحْلَى الرجالِ من النساءِ مَواقعاً ... مَنْ كان أَشْبههَمُ بهنَّ خُدُودَا
فاطلب هُدُوءاً في التقلقلِ واستثرْ ... بالعيس من تحتِ السّهادِ هُجُودَا
من كل مُعْطِيةٍ على عَلَلِ السَّرَي ... وخْداً يَبيتُ النومُ فيهِ شريدَا
طلبتْ ربيعَ ربيعَةَ المُمْهَي لنا ... ووردْنَ ظِلَّ ربيعةَ الممدودَا
ذُهْلِيَّها مُرِّيَّهَا مَطَرِيَّها ... يُمْنَى يَدَيْها خالدَ بنَ يزيدَا
نسبٌ كأنَّ عليهِ من شمس الضُّحى ... نُوراً ومن فَلَقِ الصَّباح عَمُودَا
عُرْيانَ لا يَكْبُو دَليلٌ مِن عَمىً ... فيهِ ولا يَبْغِي عليه شُهودَا
شَرفٌ على أولَى الزمانِ وإنما ... خَلَقُ المَنَاسبِ أَنْ يكونَ جَديدَا
مَطَرٌ أبوك أبُو أَهِلَّةِ وَائِلٍ ... ملأَ البسيطةَ عُدَّة وعَديِدَا
وَرِثُوا الأُبُوَّةَ والحظوظَ فأصبَحُوا ... جمعُوا جُدُوداً في العُلا وجُدودَا
إِنَّ القوافَيِ والمساعَيِ لم تَزَلْ ... مِثلَ النظامِ إذا أصابَ فَريِدا
هي جوهَرٌ نَثْرٌ فإن ألَّفْتَهُ ... بالنَّظمِ صار قلائِداً وعُقودا
فقال: ما هذا؟ وهو فزع، فقلت له: ألا تعرفه؟ هذا لأبي تمام، فقال: أذكرتني والله وسررتني، لا تحسن هذا الإحسان أحد غيره.
حدثني محمد بن موسى بن حماد قال: كنت عند الحسن بن وهب، فدخل إليه أبو سليمان داود ابن الجراح كاتب أبي إسحاق إبراهيم بن العباس، فسأله عن خبره فأخبره بما أراده، ثم قال: ناظر اليوم أبو إسحاق رجلاً في دولة بني أمية ودولة بني العباس - مدها الله - فقال له الرجل: أين مثل شعراء بني أمية الذين كانوا في زمانهم؟ فقال له أبو إسحاق: إن كانت دولة بني أمية حلبة الشعراء فدولة بني هاشم حلبة الكتاب، فقال الحسن: ما يترك أبو إسحاق عصبيته للأوائل من الشعراء، والله ما كان في دولة بني أمية مثله، هلا قال: أنا أعد شعراء هذه الدولة، فعد كتاب تلك الدولة؟ ثم أقبل علينا الحسن فقال: أما البلاغة في الكتبة فما ينازع أهل هذه الدولة فيها، وأما الشعر فلا أعرف - مع كثرة مدحي له وشغفي به في قديمه ولا حديثه - أحسن من قول أبي تمام في المعتصم بالله، ولا أبدع معاني، ولا أكمل مدحاً، ولا أعذب لفظاً، ثم أنشد:
فتحُ الفُتوحِ تَعالَى أن يُحيطَ به ... نظمٌ من الشِّعرِ أو نثرٌ من الخُطَبِ
قال أبو بكر: ما سمعت " تعالى " إلا في هذا الخبر، والناس يروونه " المعلى "
فتحٌ تَفَتَّحُ أبوابُ السماءِ له ... وتَبُرزُ الأرضُ في أبرادِها القُشُبِ
يا يومَ وقعةِ عَمُّورِيَّةَ انصرفتْ ... عنكَ المُنَى حُفَّلا مَعْسُولةَ الحَلبِ
أبَقيْتَ جَدَّ بني الإسلامِ في صَعَدِ ... والمشركينَ ودَارَ الشِّركِ في صَبَبِ
أُمٌّ لُهمْ لَوْ رَجَوْا أن تُفْتَدَى جَعلُوا ... فداءَها كلَّ أَمٍّ منهمُ وأب
وبَرْزَةُ الوجهِ قد أعْيتْ رياضَتُها ... كِسْرَى وصدَّتْ صُدوداً عن أبي كرَبِ

من عهدِ إِسكندرٍ أو قبلَ ذلكَ قَدْ ... شابتْ نواصِي الليالي وَهيْ لم تَشِبِ
بِكْرٌ فما افتَرَعَتْها كفُّ حادثَةٍ ... ولا ترقَّتْ إليها هِمَّةُ النُّوَبِ
جَرَى لها الفالُ برْحاً يومَ أَنْقِرَةٍ ... إذْ غُودِرَتْ وَحْشَةَ السَّاحات والرَّحَبِ
لما رأتْ أختَها بالأمسِ قد خَرِبتْ ... كانَ الخرابُ لهَا أَعْدَي من الجربِ
لقد تَركْتَ أميرَ المؤمنينَ بها ... للِنَّارِ يَوْماً ذليلَ الصَّخرِ والخشَبِ
غادرتَ فِيهَا بَهيمَ الليل وَهْو ضُحًى ... يَشُلُّهُ وَسْطَهَا صُبْحٌ من اللَّهَبِ
حتى كأَنَّ جَلاَبيبَ الدُّجَى رَغَبِتْ ... عنْ لَوْنِها وكأنَّ الشّمسَ لم تَغبِ
ضوءٌ من النارِ والظَّلماء عاكفةٌ ... وظُلمةٌ من دخانٍ في ضُحىً شَحِبِ
قال أبو بكر: كذا قال أبو مالك - ضوء - ، والرواية - صبح -
فالشمسُ طالعةٌ من ذا وقد أَفَلَتْ ... والشمسُ واجِبةٌ مِنْ ذا ولم تَجِبِ
ما رَبْعُ مَيَّةَ مَعْمُوراً يُطيفُ به ... غَيْلانُ أَبْهَى رُبىً من ربعها الخرِبِ
ولا الخدودُ ولَوْ أُدْمِينَ من خجَلٍ ... أَشْهَى إلى ناظرٍ من خَدِّها التَّرِبِ
سماجةٌ غَنَيِتْ منها العيونُ بها ... عن كلِّ حُسنٍ بَدا أو منظَرِ عَجبِ
وحُسْنُ مُنقلَبٍ تبقَى عواقبُهُ ... جاءتْ بشاشَتُه من سُوءِ مُنْقَلَبِ
تدبيرُ معتصمٍ باللهِ منتقمٍ ... لله مُرْتقبٍ في الله مُرْتَغبِ
لم يَرْمِ قَوماً ولم يَنْهَدْ إلى بلدٍ ... إلا تقدَّمَهُ جيشٌ منَ الرُّعُبِ
لو لم يَقُدْ جَحْفَلاً يوْمَ الوَغَى لَغَدا ... من نَفْسِه وَحْدَها في جَحفلٍ لِجبِ
لما رأى الحربَ رأىَ العينِتَوْفَلِسٌوالحرْبُ مشتقةُ المعنَى من الحَرَبِ
ولي وقد أَلْجمَ الخَطِّىُّ مَنْطقَهُ ... بسَكْتَةٍ تحتَها الأحْشَاءُ في صخَبِ
بَصُرْتَ بالراحةِ الكُبرى فلم تَرَها ... تُنالُ إلا عَلَى جِسْرٍ من التّعَبِ
إن كانَ بينَ مرورِ الدهرِ من رحمٍ ... مَوْصُولةٍ وذِمامٍ غيرِ مُنْقَضِبِ
فبينَ أيامِكَ اللائِي نُصِرْتَ بِها ... وبين أيامِ بدرٍ أقربُ النَّسَبِ
ثم قال: هل وقع في لفظةٍ من هذا الشعر خلل؟ كان يمر للقدماء بيتان يستحسنان في قصيدة فيجلون بذلك، وهذا كله بديع جيد.
قال أبو أحمد: وما رأيت أحداً في نفس أحدٍ أجل من أبي تمام في نفس الحسن بن وهب. قال: وكان الحسن يحفظ أكثر شعر أبي تمام كأنه يختار من القصيدة ما يحفظه.
وقيل لأبي تمام: مدحت دينار بن يزيد! فقال: ما أردت بمدحه إلا أن أكشف شعر علي بن جبلة فيه، فقلت:
مَهاةَ النَّقَا لولاَ الشَّوَى والمآبِضُ
ولم يمدحه بغيرها.
حدثني به علي بن إسماعيل قال، حدثني علي ابن العباس الرومي قال، حدثني مثقال قال: دخلت على أبي تمام وقد عمل شعراً لم أسمع أحسن منه، وفي الأبيات بيت واحد ليس كسائرها، وعلم أني قد وقفت على البيت، فقلت له: لو أسقطت هذا البيت! فضحك وقال لي: أتراك أعلم بهذا مني؟ إنما مثل هذا مثل رجل له بنون جماعة، كلهم أديب جميل متقدم، فيهم واحد قبيح متخلف، فهو يعرف أمره ويرى مكانه، ولا يشتهي أن يموت، ولهذه العلة وقع مثل هذا في أشعار الناس.
حدثنا أبو أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: لما قدم أبو تمام إلى خراسان اجتمع الشعراء إليه فقالوا: نسمع شعر هذا العراقي، فسألوه أن ينشدهم، فقال: قد وعدني الأمير أن أنشده غداً وستسمعون، فلما دخل على عبد الله أنشده:
هُنَّ عوادِي يوسفٍ وصواحِبُهْ ... فعَزْماً فقِدْماً أدركَ السؤلَ طالبُهْ
فلما بلغ إلى قوله:
وقلْقَل نَأيٌ من خراسانَ جأشَها ... فقلتُ اطمئِنِّي أنضرُ الرَّوْضِ عازبُهْ
ورَكبٍ كأَطْرافِ الأَسِنَّةِ عَرَّسُوا ... على مِثْلِها والَّليْلُ داجٍ غَياهُبهْ

لأمرٍ عليِهمْ أَنْ تَتِمَّ صُدُورُه ... وليْسَ عليِهمْ أن تَتمَّ عواقبُهْ
على كلِّ رَوَّادِ المِلاَطِ تَهَدَّمَتْ ... عريكتُه العلياءُ وانضمَّ حالُبهْ
رعتْهُ الفيافِِي بعد ما كان حقْبةً ... رعاهَا وماءُ الروضِ ينْهَلُّ ساكِبهْ
ويروى - رعته الصحارى - ، ويروى - رعته الفيافي - جمع فيفاة، فصاح الشعراء بالأمير أبي العباس: ما يستحق مثل هذا الشعر إلا الأمير أعزه الله، وقال شاعر منهم يعرف بالرياحي: لي عند الأمير - أعزه الله - جائزة وعدني بها، وهي له جزاءً عن قوله، فقال الأمير: بل نضعفها لك، ونقوم بالواجب له. فلما فرغ من القصيدة نثر عليه ألف دينار، فلقطها الغلمان ولم يمس منها شيئاً، فوجد عليه الأمير وقال: يترفع عن بري، ويتهاون بما أكرمته به! قال فما بلغ بعد ذلك ما أراد منه.
قوله: " وركبٍ كأَطرافِ الأسِنَّةِ " ، مأخوذ من قول البعيث:
أطافَتْ بشُعْثٍ كالأسِنَّةِ هُجَّدٍ ... بخاشعِة الأصْوَاءِ غُبْرٍ صُحُونُها
وهذان البيتان:
وركْبٍ كأَطْرافِ الأسِنَّةِ عَرَّسُوا ... عَلَى مِثْلِها والّليْلُ داجٍ غَياهِبُهْ
لأَمْرٍ عَليْهِمْ أنْ تَتِمَّ صُدُورُهُ ... ولَيْسَ عليِهِمْ أنْ تَتِمَّ عَوَاقِبُهْ
فهما منقولان من قول الشاعر:
غلامُ وَغىً تَقَحَّمها فأَبْلَى ... فخان بلاءَهُ دهرٌ خَؤُون
فكان على الفتى الإقدامُ فيها ... وليس عليه ما جنَتِ المنُونُ
حدثنا محمد بن يزيد الأزدي قال، سمعت الحسن بن رجاءٍ يقول: ما رأيت أحداً قط أعلم بجيد الشعر قديمة وحديثة من أبي تمام.
حدثني الحسين بن إسحاق قال، سمعت ابن الدقاق يقول: حضرنا مع أبي تمام وهو ينتخب أشعار المحدثين، فمر به شعر محمد بن أبي عيينة المطبوع، الذي يهجو به خالداً، فنظر فيه ورمى به، وقال: هذا كله مختار. وهذا أدل دليل على علم أبي تمام بالشعر، لأن ابن عيينة أبعد الناس شبهاً به: وذلك أنه يتكلم بطبعه، ولا يكد فكره، ويخرج ألفاظه مخرج نفسه، وأبو تمام يتعب نفسه، ويكد طبعه، ويطيل فكره، ويعمل المعاني ويستنبطها؛ ولكنه قال هذا في ابن أبي عيينة، لعلمه بجيد الشعر أي نحوٍ كان.
حدثني محمد بن موسى قال سمعت الحسن بن وهب يقول: دخل أبو تمام على محمد بن عبد الملك فأنشده قصيدته التي أولها:
لهانَ علينا أن نقولَ وتفعلا
فلما بلغ إلى قوله:
وَجَدناكَ أنْدَى من رجالٍ أناملاً ... وأحسنَ في الحاجاتِ وجهاً وأجملاَ
تُضئُ إذا اسودَّ الزمانُ وبعضُهُمْ ... يرى الموتَ أن ينْهَلَّ أو يتهَلَّلاَ
وواللهِ ما آتيكَ إلا فريِضَةً ... وآتي جميعَ الناسِ إلا تنفُّلاَ
وليس امرُؤٌ في الناسِ كنتَ سلاحَهُ ... عَشٍيةَ يلَقى الحادثاتِ بأعزَلاَ
فقال له محمد: والله ما أحب بمدحك مدح غيرك لتجويدك وإبداعك، ولكنك تنغص مدحك ببذله لغير مستحقه، فقال: لسان العذر معقول وإن كان فصيحاً. ومر في القصيدة، فأمر له بخمسة آلاف درهم، وكتب إليه بعد ذلك:
رأيتُكَ سَمْحَ البيِع سَهْلاً وإنما ... يُغَالَي إذَا ما ضَنَّ بالبيِع بائعُهْ
فأما إذا هانتْ بَضَائعُ مالهِ ... فيُوشِكُ أن تَبْقَى عليه بضَائِعُهْ
هو الماءُ إن أجْمَعْتَهُ طابَ وِرْدُهُ ... ويُفْسِدُ منه أَنْ تُبَاحَ شَرائعُهْ
حدثني أبو بكر أحمد بن سعيد الطائي قال: كان ابن عبد كان وإسماعيل بن القاسم - وهما علمان من أعلام الكتاب والأدب - يقولان: البحتري أشعر من أبي تمام، قال: فذكرت ذلك للبحتري، فقال لي: لا تفعل يا ابن عم، فو الله ما أكلت الخبز إلا به.
حدثنا عبد الله بن الحسين، قال حدثني البحتري قال: سمعت أبا تمام يقول: أول شعر قلته
تَقَيِ جَمَحَاتي لستُ طوعَ مؤنِّبي
ومدحت بها عياش بن لهيعة، فأعطاني خمسة آلاف درهم.

حدثني محمد بن عبد الله التميمي أبو عبد الله الحزنبل قال، حدثني سعيد بن جابر الكرخي قال، حدثني أبي قال: حضرت أبا تمام، وقد أنشد أبا دلف قصيدته البائية التي امتدحه بها، وعنده جماعة من أشراف العرب والعجم، التي أولها:
عَلَى مِثْلهِا من أَرْبُعٍ ومَلاعبِ ... أُذيِلَتْ مَصُوناتُ الدُّموعِ السَّواكبِ
أَمَيْدانَ لَهْوِى مَنْ أَتَاحَ لكَ الْبِلَى ... فأَصْبَحتَ مَيْدانَ الصَّبَا والجَنَائبِ
فلما بلغ إلى قوله:
إذَا العيِسُ لاقَتْ بي أبا دُلَفٍ فقدْ ... تقَطّع ما بيْنِي وَبيْنَ الَّنوائِبِ
إذا ما غَدا أَغْدَى كَريَمةَ مَالِهِ ... هَدِيّاً ولو زُفَّتْ لألأَمِ خَاطِبِ
وأَحْسَنُ مِنْ نَوْرٍ يُفتِّحُهُ الَّندَى ... بَيَاضُ العَطَايا في سَوَادِ المَطالبِ
إذا أَلْجَمَتْ يَوْماً لُجَيْمٌ وَحَوْلهَابنو الحِصْنِ نَجْلُ المُحصَنَاتِ النَّجائبِ
فإنَّ المنَايَا والصَّوَارمَ والقَنا ... أَقارِبُهم في الرَّوْع دُونَ الأَقَارِبِ
إذا افْتَخَرتْ يَوْماً تَمِيمٌ بِقَوْسِها ... وزَادَتْ على ما وَطَّدَتْ مِنْ مَنَاقبِ
فأَنْتُمْ بِذِي قَارٍ أَمَالَتْ سُيُوفُكُمْعُرُوشَ الذينَ اسْتَرهَنُوا قَوْسَ حَاجِبِ
مَحاسِنُ منْ مَجْدٍ مَتَى يَقْرِنُوا بِهَا ... مَحَاسِنَ أَقْوَامٍ تَكُنْ كاَلْمعَائِبِ
مكارمُ لَجَّتْ في عُلُوّ كأَنَّما ... تُحَاوِلُ ثَأراً عِنْدَ بَعْضِ الكَوَاكِبِ
أخذ هذا علي بن الجهم فوصف الفوارة فقال:
وفَوَّارَةٍ ثَأْرُها في السَّمَا ... ءِ فَلَيْسَتْ تُقَصِّرُ عَنْ ثَارِها
قال، فقال أبو دلف: يا معشر ربيعة ما مدحتم بمثل هذا الشعر قط، فما عندكم لقائله؟ قال: فبادروه بمطارفهم وعمائمهم يرمون بها إليه، فقال أبو دلف: قد قبلها وأعاركم لبسها، وسأنوب في ثوابه عنكم، تمم يا أبا تمام، فلما بلغ إلى قوله:
ولو كان يَفْنَى الشعرُ أَفنْاهُ ما قَرَتْ ... حياضُك منه في العُصورِ الذَّواهِبِ
ولكنَّهُ صَوْبُ العقولِ إذا انْثَنَتْ ... سحائبُ منها أُعقِبَتْ بسحائبِ
فقال أبو دلف: إدفعوا إلى أبي تمامٍ خمسين ألف درهمٍ، ووالله إنها لدون شعره، ثم قال له: ما مثل هذا القول إلا ما رثيت به محمد بن حميد، قال: وأي ذلك أراد الأمير؟ قال قولك:
وما ماتَ حتى ماتَ مَضْرِبُ سيفه ... من الضَّربِ واعتلَّتْ عليه القَنا السُّمْرُ
وقد كان فَوْتُ الموْتِ سهلاً فردَّه ... إليه الحَفَاظُ المُرُّ والخُلُقُ الوَعْرُ
فأَثْبتَ في مُسْتَنُقِعِ الموْتِ رِجْلَهُ ... وقال لها: من تحتِ أَخْمُصِكِ الحشْرُ
غَدَا غَدْوَةً والحمدُ حَشْوُ رِدائه ... فلمْ ينصرفْ إلاَ وَأَكْفانُه الأجْرُ
كأنَّ بني نَبْهانَ يومَ وفاتِه ... نُجومُ سماءٍ خَرَّ من بيْنِها البَدْرُ
يُعَزَّوْنَ عن ثَاوٍ تُعزَّى به العُلاَ ... ويَبْكِي عليه الجُودً والبأسُ والشِّعرُ
وددت والله أنها لك فيَّ! فقال: بل أفدي الأمير بنفسي وأهلي، وأكون المقدم قبله، فقال له: لم يمت من رثي بمثل هذا الشعر.
قال أبو بكر: ومن أعجب العجب، وأفظع المنكر، أن قوماً عابوا قوله:
كأنَّ بَني نَبْهانَ يومَ وَفاتِه ... نُجومُ سماءٍ خرَّ مِنْ بَيْنِها البدرُ
فقالوا: أراد أن يمدحه فهجاه، كأن أهله كانوا خاملين بحياته، فلما مات أضاءوا بموته، وقالوا: كان يجب أن يقول كما قال الخريمي:
إذا قمرٌ منه تَغَوَّرَ أوْ خَبَا ... بَدا قمرٌ في جانبِ الأُفْقِ يَلْمَعُ

ولا أعرف لمن صح عقله، ونفذ في علمٍ من العلوم خاطره، عذراً في مثل هذا القول، ولا أعذر من يسمعه فلا يرده عليه، اللهم إلا أن يكون يريد عيبه، والطعن عليه. ولم يعرض من يذهب هذا عليه، لعلم الشعر والكلام في معانيه وتمييز ألفاظه؟ ولعله ظن أن هذا العلم مما يقع لأفطن الناس وأذكاهم من غير تعليمٍ وتعبٍ شديد، ولزومٍ لأهله طويلٍ، فكيف لأبلدهم وأغباهم؟ وليس من أجابه طبعه إلى فنٍ من العلوم أو فنين أجابه إلى غير ذلك؛ قد كان الخليل بن أحمد أذكى العرب والعجم في وقته بإجماع أكثر الناس، فنفذ طبعه في كل شيءٍ تعاطاه، ثم شرع في الكلام فتخلفت قريحته، ووقع منه بعيداً، فأصحابه يحتجون عن شيء لفظ به إلى الآن.
وليت شعري، متى جالس هؤلاء القوم من يحسن هذا، أو أخذوا عنه، وسمعوا قوله؟ أتراهم يظنون أن من فسر غريب قصيدةٍ، أو أقام إعرابها، أحسن أن يختار جيدها، ويعرف الوسط والدون منها، ويميز ألفاظها؟ وأي أئمتهم كان يحسنه: الذي يقول وهو يهجو الأصمعي بزعمه:
إنَّي لأرفعُ نفسِي اليومَ عن رجُلٍ ... ما شكْلُهُ لِيَ شكْلُ بل هو النَّابِي
فيه المعائِبُ ما تَخْلُو وحُقَّ له ... لأنه كاذبٌ يُدْعَى لكّذَّابِ
لما التقيْنَا وقد جَدَّ الجِراءُ بنا ... جاءَ الجوادُ أمامَ الكَوْدنِ الكابِي
أو الذي يقول في مجلس بعض أجلاء الكتاب، وقد حلفه صاحب المجلس أن ينشده من شعره إن كان قال شعراً، فاستعفاه فلم يزل به إلى أن أنشده لنفسه:
مَنْ يشْتَرِي شَيْخاً بِدرْهَمَينِ ... قد شاخَ ثم دَرَّ مَرَّتْينِ
ليسَ له سِوَى ثَنِيَّتَيْنِ
فهذه أشعار أئمتهم، وما ظننت أن أحداً يتعلق بقليل الأدب يجهل هذا الذي عابوه على أبي تمام، ولا أن الله عز وجل يحوجني إلى تفسير مثله أبداً. وقد قالت الحكماء: لو سكت من لا يدري استراح الناس. وقالوا: بكثرة - لا أدري - يقل الخطأ. وقال بعض الأوائل: لقد حسنت عندي - لا أدري - حتى أردت أقولها فيما أدري. وقال بعض الشعراء:
سأَقَضْيِ بحَقٍّ يَتْبَعُ الناسُ نَهْجَهُ ... وينفَعُ أهلَ الجهلِ عند ذَوِي الخُبْرِ
إذا كنت لا تدري ولم تَسَلِ الذي ... تُرَى أنَّه يدْرِي، فكيف إِذَنْ تَدْرِي؟
وأنا مفسر ذلك إن شاء الله.
يروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب " صلوات الله عليه " أن رجلاً ذكر له بعض أهل الفضل فقال له: صدقت، ولكن السراج لا يضئُ بالنهار، فلم يرد " رضوان الله عليه " أن ضوء السراج ليس حالاً فيه، ولا أنه زالت عنه ذاته، ولكنه بالإضافة إلى ضوء النهار لا يضئ، ولم يطعن على ضوء النهار ولا على السراج، ولكنه قال: فاضل وأفضل منه، وقال الشاعر وأحسن:
أصفراء كان الوُدُّ مِنكِ مُباحَا ... ليالَي كان الهجْر منكِ مُزَاحَا
وكُنَّ جوارِي الحيِّ إذْ كنتِ فيهمِ ... قِباحاً، فلما غِبْتِ صْرنَ مِلاَحاَ
وما أراد إلا تفضيلها، ولم يطعن على أحد، والقباح لا يصرن ملاحاً في لحظةٍ، ولكنه أراد أنهن ملاح، وهي أملح منهن، فإذا اجتمعن كن دونها. وقال إبراهيم بن العباس الصولي:
ما كُنْتِ فيهِنَّ إلاَّ كُنْتِ واسِطَةً ... وكُنَّ دُونَكِ يُمْنَاهَا ويُسْراهَا
أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى عن إبراهيم بن العباس، وأملي شعر إبراهيم إملاءً، وكان يستجيد هذا، ولم يرد إبراهيم أن يذمهن وهن معها في نظم ولكنه فضلها؛ فأراد أبو تمام تفضيله عليهم وإن كانوا أفاضل. وليس ضياء البدر يذهب بالكواكب جملةً، ولا ينقل طبعها ولكن المستضئ به أبصر من المستضئ بالكواكب، فإذا فقد البدر استضاء بهذه وهي دونه، فكأن أبا تمام قال: إن ذهب البدر منهم فقد بقيت فيهم كواكب.
وقد أحسن الذي يقول:
ولَسْتُ بشاتمٍ كَعْباً ولكنْ ... على كعبٍ وشاعرها السلامُ
بنَانَا اللهُ فوق بِنا أَبيِنَا ... كما يُبْنَى على الثَّبِج السَّنَامُ
وكائنْ في المعاشِر مِن أُناسٍ ... أخُوهُمْ مِنْهمُ وهُمُ كِرامُ

فهذا المعنى الذي غزاه أبو تمام، وقد نطق به النابغة بعينه؛ فلو لزم أبا تمامٍ خطأ في هذا للزم النابغة، لأنه اعتذر إلى النعمان من ذهابه إلى آل جفنة ولم يذمهم، ولكنه فضله عليهم وشكرهم فقال:
ولكنَّني كنتُ امرءاً لَي جانِبٌ ... من الأرضِ فيه مُسْتَرادٌ ومُطْلَبُ
مُلوكٌ وإخوانٌ إذا ما أَتيتُهُمْ ... أُحَكَّمُ في أَموالِهِمْ وأُقَرَّبُ
أما ترى كيف مدحهم ثم قال:
كَفِعْلِكَ في قَوْمٍ أراكَ اصطنْعتَهمُ ... فلم تَرهُمْ في شُكْرِ ذلكَ أَذْنَبُوا
وهذا أحسن معارضةٍ وأوضح حجةٍ. يقول: لا تعب شكري لهؤلاء عندك، كما أنك إذا أحسنت إلى قومٍ فشكروك عند أعدائك، فليس ذلك بذنبٍ لهم، ثم فضله عليهم فقال:
ألم تَرَ أنّ اللهَ أَعْطاكَ سُورَةً ... تَرى كُلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذَبْذَبُ
بأنك شَمْسٌ والملوكُ كَواكِبٌ ... إذا طَلَعتْ لم يَبْدُ منهُنَّ كوكَبُ
وهذا مفسر بأشياء تؤول إلى معنى واحدٍ وهو: فضلك عليهم كفضل الشمس على الكواكب. وقيل: أراد أنك ما صلحت لي لم أحتج إلى هؤلاء وإن كان فيهم فضل، كما أن من أضاءت له الشمس لم يحتج إلى انتظار ضوء الكواكب.
فحدثني القاسم بن إسماعيل قال، سمعت إبراهيم بن العباس يقول: لو أراد كاتب بليغ أن ينثر من هذه المعاني ما نظمه النابغة ما جاء به إلا في أضعاف كلامه، وكان يفضل هذا الشعر على جميع الأشعار. وقد سبق النابغة إلى هذا شعراء كندة فقال رجل يمدح عمرو بن هندٍ من كلمة:
تكادُ تَمِيدُ الأرضُ بالناسٍ أنْ رأَوْا ... لَعمْرِو بن هندٍ عُصْبَةً وهُو عَاتبُ
هو الشمسُ وافتْ يومَ سعدٍ فأفضَلتْ ... على كلِّ ضَوْءٍ والملوكُ كواكبُ
أنشدها أبو محلم. وقد أتى أبو تمام بمعنى قول النابغة الذي فسره إبراهيم بن العباس نقلاً إلا أنه في الغزل:
وقالتْ أَتْنسَى البدرَ قلتُ تجلُّداً ... إذا الشمسُ لم تَغْرُبْ فَلاَ طَلَعَ البَدْرُ
فهذا الذي أراده أبو تمام، وقال النجاشي:
نِعمَ الفتى أنتَ إلاّ أنّ بيْنَكُما ... كما تفاضَلَ ضوءُ الشمسِ والقمرُ
وأنشد أبو محلم لصفية الباهلية، وفيه غناء للغريض فيما أظن:
أَخْنَى عَلَى مالكٍ رَيبُ الزمانِ وهَلْ ... يُبْقِى الزمانُ على شيءٍ ولا يَذَرُ
كُنَّا كأنجَمِ لَيلٍ بينَها قَمَرٌ ... يَجْلُو الدُّجَى فَهَوَى من بيننا القَمَرُ
فهذا كلام أبي تمام ومعناه بعينه. وقال جرير يرثي الوليد بن عبد الملك:
إنَّ الخليفةَ قد وَارتْ شَمائلَهُ ... غبراءُ مَلحُودَةٌ في جُولِها زَوَرُ
أَمْسَى بَنْوه وقد جَلَّتْ مُصِيبتهُمْ ... مِثلَ النجومِ هَوَى مِنْ بَيْنِها القمرُ
أفترى جريراً أراد أن يهجو الوليد، أو يقول إن بنيه زادوا بموته؟ وقال نصيب فأخذ معنى قول النابغة بعينه:
هُوَ البدرُ والناسُ الكواكبُ حَوْلَهُ ... وهلْ تُشْبِهُ البدرَ المضئَ الكواكبُ؟
ثم قالوا: فهلا قال كما قال الخريمي:
إذا قمرٌ منهم تغوَّرَ أو خَبَا ... بَدَا قَمَرٌ في جانبِ الأُفْقِ يلمعُ
فيجب على هذا أن يقال له: هلا قال الذي يقول:
عَفَتِ الديارُ محلُّها فمقامُها
ألا هُبِّي بصَحْنِكِ فاصْبَحيِنا
وهلا قال امرؤ القيس مكان:
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
لخوْلةَ أطلالٌ بُبرقَةٍ ثَهمَدِ
لأن المعنى الذي أراده أبو تمام ليس ما أراد الخريمي: لأن أبا تمام قصد التفضيل في السؤدد، والخريمي أراد التسوية فيه، وأبو تمام يقول: مات سيد وقام سيد دونه، والخريمي يريد: مات سيد وقام سيد مثله. فكيف يستحسن قوم ذهب هذا عليهم أن ينطقوا في الشعر بحرف بعدما فهموه؟ على أنهم أعذر عندي ممن يسمع منهم ويحكي قولهم. وإنما احتذى الخريمي قول أوس بن حجر:
إذا مُقْرَمٌ مِنَّا ذرا حَدُّنا بِهِ ... تَخمَّطَ فينا نابُ آخرَ مُقْرَمِ
وهذا كما قال أبو الطمحان القيني:
وإني من القومِ الذين هُمُ هُمُ ... إذا ماتَ منهم سيدٌ قامَ صاحبُهْ

كواكبُ دَجْنٍ كلَّما غابَ كوكبٌ ... بدا كوكبٌ تأوِي إليه كواكبُهْ
أَضاءَتْ لهم أحْسابُهم ووجوهُهمْ ... دُجَى الليلِ حتَّى نظمَّ الجَزْعَ ثاقِبُهْ
وقال آخر:
خِلافُة أهلِ الأرضِ فينا وراثةٌ ... إذا مات منا سيِّد قام سيِّدُ
وقال طفيل الغنوي:
كواكبُ دَجْنٍ كُلَّما انقضَّ كوكبٌ ... بدا وانجلتْ عنه الدُّجُنَّةُ كوكبُ
وقال آخر:
إذا سيِّدٌ منا مضَى لسبيلهِ ... أَقامَ عَمودَ المجدِ آخَرُ سيِّدُ
فهذا الذي أراد الخريمي.
ولولا الثقة بأن أشباه هذا تمر بهم فلا يعرفونها، فإن تكلفوها تكلموا فيها بالجهل، لصعب على أن يفهم هذا غير أهله، ومن يستحق سماع مثله. وهذه كتب جماعتهم ممن مضى وغبر، هل نطقوا فيها بحرفٍ من هذا قط، أو ادعوه، أو ادعاه مدع لهم، أو تعرضوا له؟ وفي هذا كفاية لمن خلع ثوب العصبية وأنصف من نفسه، ونظر بعين عقله، وتأمل ما قلت بفكره؛ فإن القلب بذكره وتخيله أنظر من العين لما فقدته ورأته، وقد أحسن ابن قنبر في قوله:
إن كنتَ لستَ معي فالذكرُ منك معيِ ... يراكَ قلبيِ وإنْ غُيِّبْتَ عنْ بصريِ
والعينُ تُبصِرُ مَنْ تَهوَى وتفقِدُه ... وناظرُ القلبِ لا يخلو من النظرِ
وكأن هذا من قول بشار:
قالوا بسَلمَى تَهْذِي ولم تَرَها ... يا بُعْدَ ما غَاولَتْ بِكَ الفِكَرُ
فقُلتُ بعضُ الحديث يَشغَفُنِي ... والقلب راءٍ مالا يرَى البصرُ
وشبيه بهذا في الشناعة عيبهم قوله:
لو خرَّ سيفٌ من العَيُّوقِ مُنصلتاً ... ما كان إلاَّ على هاماتهم يقعُ
وقد رواهُ قوم: " ما كان إلا على إيمانهم يقع " ولكنا نبين صوابه وخطأ عائبه على الرواية الأولى. وهي عندي التي قال. إنما أراد أبو تمام: كل حربٍ عليهم ومعهم، وأن كل سيف يقاتلهم ليسلبهم عزهم؛ وفي مثل ذلك يقول رجل من بني أبي بكر بن كلاب، أنشدناه محمد بن يزيد النحوي:
تَرْضَى الملوكُ إذا نَالتْ مقاتِلنَا ... ويأخُذُون بأعْلَى غَايةِ الحسَبِ
وكلُّ حَيٍّ من الأَحياءِ يَطلُبُنا ... وكلُّ حيٍّ له في قتلِنا أَرَبُ
والقتْلُ مِيتَتُنا والصَّبْرُ شِيمتُنا ... ولا نُراعُ إذا ما احْمرَّتِ الشُّهُبُ
وأراد مع ذلك أنهم لا يموتون على الفرش - والعرب تعير بذلك - وأن السيوف تقع في وجوههم ورؤوسهم لإقبالهم، ولا تقع في أقفائهم وظهورهم لأنهم لا ينهزمون، ولذلك قال كعب ابن زهير في قصيدته التي امتدح بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمنه بها بعد أن كان نذر دمه، وأولها:
بانَتْ سُعادُ فقلْبِي اليومَ مَتْبولُ ... مُتَيَّمٌ إِثرَهَا لم يُفْدَ مَكْبُولُ
فقال فيها يمدح قريشاً:
لا يقعُ الطَّعنُ إلا في نحورِهمِ ... ليسَ لهم عن حيِاضِ الموت تَهْليلُ
فلم لم يعيبوا هذا الشعر على كعبٍ، وقد سمعه النبي - عليه السلام - وأثاب عليه؟ حدثني محمد بن العباس قال، حدثنا أبو حاتمٍ عن أبي عبيدة قال: فخر رجل من ولد حبيب بن عبد الله بن الزبير فقال: أنا أعرق الناس في القتل، قتل لي خمسة آباءٍ متصلين. وقال آخر:
قَومٌ إذا خَطَر القَنا ... جَعلُوا الصُّدورَ لها مَسالِكْ
لبِسُوا القلوبَ على الدُّرُو ... عِ مُظاهِرينَ لدفْعِ ذلِكْ
حدثني أبو عمر بن الرياشي قال، حدثنا أبي عن الأصمعي عن أبي عمرو قال: لما بلغ عبد الله بن الزبير قتل أخيه مصعبٍ وصبره في الحرب، قال: إنا والله لا نموت حبجاً كما تموت بنو أمية، إنما نموت قعصاً بالرماح، وتحت ظلال السيوف. فلو كان هذا عاراً ما فخر به. وممن عير بالموت على الفراش سهم ابن حنظلة قال يعير طفيل بن عوف:
بِحَمْدٍ من سِنانِكَ غَيْرِ ذّمٍ ... أبا قُرَّانَ مُتَّ على مِثال
ومما يروى للسموؤل وهو للحارثي:
تَسيلُ على حَدِّ السُّيوفِ نُفوسُنَا ... وليسَتْ على غيرِ الحديدِ تَسيلُ
يُقَرِّبُ حُبُّ الموتِ آجالنَا لَنا ... وتكْرَهُهُ آجالُهم فتطولُ

وما ماتَ منا سَيدٌ في فراشِهِ ... ولا طُلَّ منا حَيْثُ كانَ قتيلُ
وجعل آخر نفوسهم غذاءً للمنايا فقال:
وإنَّا لَتَسْتَحْليِ المنايا نُفوسَنا ... وتَتْرُكُ أُخرَى مُرّةً ما تَذُوقُها
لنا نَبْعَةٌ تَهْوَى المنيَّةُ رَعْيَهَا ... فَقَدْ ذَهَبتْ إلا قليلاً عُرٌوقُها

أخبار أبي تمام مع أحمد بن أبي دؤاد
حدثني أبو بكر بن الخراساني قال، حدثني علي الرازي قال: شهدت أبا تمام، وغلام له ينشد ابن أبي دؤاد:
لقد أَنْسَتْ مَسَاوِئَ كلِّ دَهْرٍ ... محاسِنُ أحمدَ بنِ أبي دُؤادِ
فما سافرتُ في الآفاقِ إلاَّ ... ومِنْ جَدْواكَ راحِلتَي وَزَادِي
مُقيمُ الظَّنِّ عندكَ والأَمانيِ ... وإِنْ قَلِقَتْ رِكاَبي في الْبِلاَدِ
فقال له: يا أبا تمام، أهذا المعنى الأخير مما اخترعته أو أخذته؟ فقال: هو لي، وقد ألممت بقول أبي نواس:
وإِنْ جَرَتِ الألفاظُ منا بِمدْحَةٍ ... لغيرِكَ إنساناً فأنتَ الذي نَعْنِي
قال أبو بكر: وكنت يوماً في مجلسٍ فيه جماعة من أهل الأدب والعصبية لأبي نواس حتى يفرطوا، فقال بعضهم: أبو نواس أشعر من بشار، فرددت ذلك عليه، وعرفته ما جهله من فضل بشار وتقدمه، وأخذ جميع المحدثين منه، واتباعهم أثره، فقال لي: قد سبق أبو نواس إلى معانٍ تفرد بها، فقلت له: ما منها؟ فجعل كلما أنشدني شيئاً جئت بأصله، فكان من ذلك قوله:
إذا نحن أَثْنَيْنَا عليكَ بِصَالحٍ ... فأَنتَ كما نُثْنِي وفوقَ الذي نُثْنِي
وإِنْ جَرَتِ الألفاظُ يوماً بِمدْحَةٍ ... لغيرِكَ إنْسَاناً فأنتَ الذي نَعْنِي
فقلت: أما البيت الأول فهو من قول الخنساء:
فما بَلَغَ المُهْدُونَ للناسِ مدُحةً ... وإن أطنَبُوا إلاَّ الذي
(ص 143) ومن قول عدي بن الرقاع:
أُثنى فلا آلُو وأعْلمُ أنّه ... فوق الذي أثنى به
(ص143) وأما البيت الثاني فمن قول الفرزدق لأيوب بن سليمان بن عبد الملك:
وما وامَرَتْنِي النفسُ في رِحلَةٍ لها ... إلَى أَحدٍ إلاَّ إليك ضميُرها
حدثني أحمد بن إبراهيم قال، حدثني محمد بن روح الكلابي قال: نزل على أبو تمام الطائي، فحدثني أنه امتدح المعتصم بسر من رأي بعد فتح عمورية، فذكره ابن أبي دؤاد للمعتصم، فقال له: أليس الذي أنشدنا بالمصيصة الأجش الصوت؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن معه راويةً حسن النشيد، فأذن له، فأنشده راويته مدحه له، ولم يذكر القصيدة، فأمر له بدراهم كثيرةٍ، وصك ماله على إسحاق بن إبراهيم المصعبي. قال أبو تمام: فدخلت إليه بالصك، وأنشدته مديحاً له، فاستحسنه وأمر لي بدون ما أمر لي به المعتصم قليلاً وقال: والله لو أمر لك أمير المؤمنين بعدد الدراهم دنانير لأمرت لك بذلك.
حدثني أبو علي الحسين بن يحيى الكاتب قال، حدثني محمد بن عمرو الرومي قال: ما رأيت قط أجمع رأياً من ابن أبي دؤاد، ولا أحضر حجةً، قال له الواثق: يا أبا عبد الله رفعت إلى رقعة فيها كذب كثير، قال: ليس بعجبٍ أن أحسد على منزلتي من أمير المؤمنين فيكذب علي، قال: زعموا فيها أنك وليت القضاء رجلاً ضريراً، قال: قد كان ذاك، وكنت عازماً على عزله حين أصيب ببصره، فبلغني عنه أنه عمى من كثرة بكائه على أمير المؤمنين المعتصم، فحفظت له ذاك، قال: وفيها أنك أعطيت شاعراً ألف دينارٍ، قال: ما كان ذاك، ولكني أعطيته دونها، وقد أثاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن زهير الشاعر، وقال في آخر: أقطع عني لسانه. وهو شاعر مداح لأمير المؤمنين مصيب محسن، ولو لم أرع له إلا قوله للمعتصم صلوات الله عليه في أمير المؤمنين أعزه الله:
فاشدُدْ بهارُونَ الخلافةَ إِنه ... سَكَنٌ لوحْشِتها ودارُ قَرَارِ
ولقد علمتُ بأنَّ ذلكَ مِعصَمٌ ... ما كنتَ تتركهُ بغيرِ سِوَارِ
فقال: قد وصلته بخمسمائة دينار.
قال: ودخل أبو تمام على أحمد بن أبي دؤاد، وقد شرب الدواء فأنشده:
أَعْقَبكَ اللهُ صحةَ البدَنِ ... ما هتفَ الهاتفاتُ في الغُصُنِ

كيفَ وَجَدْتَ الدواءَ أَوجَدَك الله ... شِفَاءً بِه مَدَى الزَّمَنِ
لا نَزَعَ اللهُ منك صَالحةً ... أَبْليتَها من بلائك الحسنِ
لا زلتَ تُزْهَي بكلِّ عافِيَةٍ ... تَجْتَنُّهَا مِنْ مَعَارِض الفِتنِ
إنَّ بقاءَ الجوادِ أحمدَ في ... أعناقِنا مِنَّةٌ من المِنَنِ
لو أنَّ أَعمارَنَا تُطَاوِعُنَا ... شَاطَرَةُ العُمْرَ سَادةُ اليَمنِ
حدثني أبو عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالزائر قال: حدثني أبي قال: دخل أبو تمام على أحمد بن أبي دؤاد، وقد كان عتباً عليه في شيء فاعتذر إليه، وقال: أنت الناس كلهم، ولا طاقة لي بغضب جميع الناس! فقال له ابن أبي دؤاد: ما أحسن هذا فمن أين أخذته؟ قال: من قول أبي نواس:
وليسَ للهِ بمُستنْكَرٍ ... أنْ جَمعَ العاَلَم في وَاحِدِ
سمعت محمد بن القاسم يقول: قال ابن أبي دؤاد لأبي تمام: إن لك أبياتاً أنشدتها لو قلتها زاهداً أو معتبراً أو حاضاً على طاعة الله جل وعز لكنت قد أحسنت وبالغت فأنشدنيها، قال: وما هي؟ قال: التي قافيتها " فأدْخُلَهَا " فأنشده:
قل لابن طَوْقٍ رَحَى سَعدٍ إذَا خَبَطَتْ ... نَوائِبُ الدّهرِ أَعْلاَها وأَسْفلَها
أَصْبحتَ حَاتِمهَا جُوداً، وأَحنَفَها ... حِلْماً، وكَيِّسهَا عِلْماً وَدَغْفَلَها
مالي أَرى الحُجْرةَ الفَيْحاءَ مُقْفَلَةً ... عنِّي وقد طالما استفتَحْتُ مُقْفَلَهَا؟
كأنَّها جنَّةُ الفِردْوسِ مُعْرِضَةً ... وليسَ لي عَمَلٌ زَاكٍ فأدْخلَها
حدثني عون بن محمد قال، حدثني محمود الوراق قال: كنت جالساً بطرف الحير حير سر من رأى، ومعي جماعة لننظر إلى الخيل، فمر بنا أبو تمام فجلس إلينا، فقال له رجل منا: يا أبا نمام، أي رجلٍ أنت لو لم تكن من اليمن؟ قال له أبو تمام: ما أحب أني بغير الموضع الذي اختاره الله لي، فممن تحب أن أكون؟ قال من مضر. فقال أبو تمام إنما شرفت مضر بالنبي صلى الله عليه وسلم ولولا ذلك ما قيسوا بملوكنا وفينا كذا وفينا كذا، ففخر وذكر أشياء عاب بها نفراً من مضر، قال: ونمي الخبر إلى ابن أبي دؤاد وزادوا عليه، فقال: ما أحب أن يدخل إلى أبو تمام، فليحجب عني، فقال يعتذر إليه ويمدحه:
سَعِدتْ غُرْبةُ النَّوى بسُعَادِ ... فَهْيَ طَوعُ الإِتْهَامِ والإنْجادِ
شابَ رأسِي وما رأيتُ مَشيبَ الرَّ ... أُسِ إلاَّ من فَضْلِ شَيْبِ الفُؤادِ
وكذاكَ القُلوبُ في كلِّ بؤْسٍ ... ونَعيمٍ طلائعُ الأَجْسادِ
طال إِنكاريَ البيَاضَ وإنْ عُمْى ... مِرتُ شيئاً أَنْكَرتُ لَوْنَ السَّوادِ
يا أَبا عبد الله أَوْرَيتْ زَنْداً ... في يَدِي كَانَ دَائِمَ الإِصْلادِ
أنتَ جُبْتَ الظَّلاَمَ عن سُبُلِ الْ ... آمَالِ إذْ ضَلَّ كلُّ هَادٍ وحَادي
وضِيَاءُ الآمَالِ أَفْسَحُ في الطّرْ ... فِ وَفيِ القَلْبِ مِنْ ضِيَاء البِلاَدِ
ثم وصفَ قوماً لزموا ابن أبي دؤاد، وأنه أحظ به مع ذاك منهم، فقال:
لَزِمُوا مَرْكزَ النَّدَى وذَرَاهُ ... وعَدَتْنا عَنْ مِثلِ ذاكَ العَوادي
غيرَ أنَّ الرُّبَى إلى سَبَلِ الأَنْ ... وَاءِ أَدْنَى والحظُّ حظُّ الوِهَاد
بَعْدَ ما أَصْلَتِ الوُشَاةُ سُيوفاً ... قَطَعَتْ فيَّ وهْيّ غَيرُ حِدَاد
مِنْ أَحاديثَ حِينَ دَوَّخْتَها بالرَّ ... أيِ كانتْ ضَعيفَةَ الإِسْنَاد
فنَفَى عَنْكَ زُخْرفَ القَوْلِ سَمْعٌ ... لم يكُنْ فُرصَةً لِغيرِ السَّدَاد
ضَرَبَ الحِلْمُ والوَقَارُ عَليْه ... دُونَ عُورِ الكَلامِ بالأَسْداد
وحَوَانٍ أَبَتْ عليْها المعَاليِ ... أَنْ تُسْمَّى مَطِيَّةَ الأَحْقَاد
وقد أفصح عما قرف به، واعتذر منه إلى ابن دؤاد، فقال وهو عندي من أحسن الاعتذار:

سَقَى عَهْدَ الحِمى سَبَلُ العِهَادِ ... ورَوَّضَ حَاضِرٌ مِنْه وَبادِي
ثم قال:
وَإنْ يَكْ مِنْ بَنِي أُدَدٍ جَنَاحي ... فإنَّ أَثيِثَ رِيشيِ في إِيَادِ
لَهُمْ جَهْلُ السِّبَاعِ إذَا المنَايا ... تَمَشَّتْ في القَنَا وَحُلُومُ عَاد
لَقدْ أَنْسَتْ مَساوِئَ كلِّ دهْرٍ ... مَحاسِنُ أَحْمدَ بن أَبي دُؤَاد
مَتَى تَحْلُلْ بِهِ تَحْلُلْ جنَاباً ... رَضِيعاً لِلسَّوَاري والغَوادي
فما سَافَرْتُ في الآفَاقِ إلاّ ... وَمِنْ جَدْوَاكَ رَاحِلتَي وَزَادي
مقيمِ الظَّنِّ عِندَكَ والأمانِي ... وَإنْ قلقِتْ رِكاَبي في البِلاَدِ
وهذا من قول أبي نواس:
وَإنْ جَرَتِ الأَلفَاظُ يوماً بِمِدْحَةٍ ... لغْيِركَ إنْسَاناً فأَنتَ الذي نَعْني
مَعَادُ البْعثِ مَعْروُفٌ وَلكنْ ... نَدَى كفَّيْكَ في الدُّنْيَا مَعَادِي
أَتَانِي عَائِرُ الأنْبَاءِ تَسْرِي ... عَقَارِبُهُ بِدَاهِيَةٍ نَآدِ
بِأَنِّي نِلْتُ مِنْ مُضَرٍ وَخَبَّتْ ... إلَيْكَ شَكَّيِتِي خَبَبَ الجَوَادِ
لقد جَازَيتُ بالإحْسَانِ سُوءًا ... إِذَنْ وَصَبَغْتُ عُرْفَكَ بالسَّوَادِ
وَسِرْتُ أَسُوقُ عِيرَ اللُّؤْمِ حَتى ... أَنَخْتُ الكُفْرَ فيِ دَارِ الجِهَادِ
وَلَيْسَتْ رُعْوَتِي مِنْ فوْقِ مَذْقٍ ... وَلاَ جَمْرِي كمِينٌ في الرَّمَادِ
تَثَبَّتْ، إِنَّ قَوْلاً كانَ زُوراً ... أَتَى النُّعْمَانَ قَبْلَكَ عَنْ زِيَادِ
إلَيْكَ بَعَثتُ أَبْكَارَ المَعَانيِ ... يَلِيهَا سَائِقٌ عَجِلٌ وَحَادِي
يُذَلّلُها بِذِكرِكَ قِرْنُ فكْرٍ ... إذَا حَرَنتْ فتَسْلَسُ في الْقِيَادِ
مُنَزَّهَةُ عَنِ السَّرَقِ المُوَرَّي ... مُكَرَّمَةً عَنِ المعْنى المُعَادِ
تَنَصَّلَ رَبُّهَا مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ ... إلَيْكَ سِوَى النّصِيحَةِ وَالوِدادِ
وَمَنْ يَأذَنْ إلى الوَاشِينَ تُسْلَقْ ... مَسَامِعُهُ بأَلْسِنَةٍ حِدَادِ
وطال غضب ابن أبي دؤادٍ عليه، فما رضى عنه حتى شفع فيه خالد بن يزيد الشيباني، فعمل قصيدةً يمدح ابن أبي دؤاد، ويذكر شفاعة خالد بن يزيد إليه، وأغمض مواضع منها في اعتذاره فما فسرها أحد قط، وإنما سنح لي استخراجها لحفظي للأخبار التي أومأ إليها، فأما من لا يحفظ الأخبار فإنها لا تقع له، وأولها:
أَرَأََيْتَ أَيُّ سَوالِفٍ وَخُدُودِ ... عَنَّتْ لَنا بينَ الِّلوَى فَزَرُود؟
فقال فيها:
فاسْمَعْ مقالة زائرٍ لم تَشْتَبهْ ... أرْآؤُهُ عِنْدَ اشْتِباهِ البيدِ
أَسْرَى طَرِيداً لِلْحَيَاءِ مِنَ التَّي ... زَعَمُوا، ولَيْسَ لِرَهْبَةٍ بِطَريِدِ
كُنْتَ الرَّبيعَ أَمَامَهُ، وَوَرَاءَهُ قَمَرُ القَبائلِ خَالِدُ بن يَزِيدِ
فَالغَيْثُ مِنْ زُهُرٍ سَحابةُ رَأفةٍ ... وَالرُّكْنُ مِنْ شَيْبَانَ طَوْدُ حَديِد
زهر والحذاق قبيلتان من إيادٍ رهط ابن أبي دؤاد.
وَغَداً تَبَيَّنُ مَا بَرَاءَةُ سَاحَتِي ... لَوْ قدْ نَفَضْتَ تَهائِمي ونُجَودِي
هذَا الْوَليدُ رَأَى التَثَبُّتَ بَعْدَمَا ... قَالوا يَزيِدُ بنُ المُهَلَّبِ مُودِي
يعني الوليد بن عبد الملك، لما هرب يزيد بن المهلب من حبس الحجاج، واستجار بسليمان بن عبد الملك، وكتب الحجاج في قتله إلى الوليد، فلم يزل سليمان بن عبد الملك وعبد العزيز بن الوليد يكلمانه فيه، فقال: لابد من أن تسلموه إلي، ففعل سليمان ذلك، ووجه معه بأيوب ابنه، فقال: لا تفارق يدك يده، فإن أريد بسوءٍ فادفع عنه حتى تقتل دونه.
فَتَزَعْزَعَ الزُّورُ المؤَسَّسُ عِندَهُ ... وَبِنَاءُ هذَا الإِفكِ غَيْرُ مَشِيدِ

وتَمَكَّنَ ابنُ أبِي سَعيدٍ مِنْ حِجَي ... مَلِكٍ بشُكْرِ بني الملوكِ سَعيدِ
- ابن أبي سعيد - يعني يزيد بن المهلب، لأن كنية المهلب أبو سعيد.
- من حجي ملك - يعني سليمان بن عبد الملك. - بشكر بني الملوك - يعني آل المهلب، أن سليمان يسعد باقي الدهر بشكرهم له.
ما خَالدٌ لِي دُونَ اَيُّوبٍ وَلاَ ... عَبْدِ العَزِيزِ وَلَسْتَ دُونَ وَليدِ
يقول: شفيعي خالد بن يزيد، وليس هو عندك بدون عبد العزيز بن الوليد، وأيوب بن سليمان عند الوليد؛ هو بك أخص من ذينك بالوليد، ولا أنت دون وليدٍ في الرأي، وجميل العفو.
نَفْسِي فِدَاؤُكَ أَيُّ بابِ مُلمَّةٍ ... لم يُرْمَ فِيهِ إلَيكَ بالإقليدِ
لَمَّا أَظَلَّتْني غَمامُكَ أَصْبَحَتْ ... تِلْكَ الشُّهُودُ عَلَىَّ وَهْيَ شُهُودِي
مِنْ بَعْدِ مَا ظَنُّوا بأنْ سَيَكُونُ لِي ... يَوْمٌ بِبَغْيِهِمِ كَيَوْمِ عَبيدِ
يعني عبيد بن الأبرص: لقي النعمان في يوم بؤسه وهو يوم كان يركب فيه، فلا يلقاه أحد إلا قتله، وخاصة أول من يلقاه، فلقيه عبيد فقتله.
نَزَعوا بَسهْمِ قَطيِعةٍ يَهْفُو بِهِ ... ريِشُ العُقُوقِ فكَانَ غَيْرَ سَدِيدِ
وإذَا أَرَادَ اللهُ نَشْرَ فَضيِلَةٍ ... طُويِتْ أَتَاحَ لَها لِسَانَ حَسُودِ
لَوْلاَ اشْتِعالُ النَّارِ فيما جَاوَرتْ ... مَا كَانَ يُعْرفُ طِيبُ عَرْفٍ العُودِ
لَوْلاَ التَّخَوُّفُ لِلْعَواقِبِ لم تَزَلْ ... للِْحاسِدِ النُّعْمَى عَلَى المحْسُودِ
الحمد الله وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم تسليما.

أخبار أبي تمام مع خالد بن يزيد الشيباني
" بسم الله الرحمن الرحيم " حدثنا محمد بن يزيد النحوي، وكان قد عمل كتباً لطافاً، فكنت أنتخب منها وأقرأ عليه، فقرأت عليه من كتابٍِ سماه كتاب - الفطنِ والمحَنِ - قال: خرج أبو تمام إلى خالد بن يزيد بن مزيد، وإلى أرمينية، فامتدحه فأمر له بعشرة آلاف درهم ونفقةٍ لسفره، وأمره ألا يقيم إن كان عازماً على الخروج. فودعه ومضت أيام، فركب خالد ليتصيد، فرآه تحت شجرة وقدامه زكرة فيها نبيذ وغلام بيده طنبور، فقال: حبيب؟ قال: خادمك وعبدك، قال: ما فعل المال؟ فقال:
عَلَّمَني جُودُكَ السَّماحَ فَما أَبْ ... قَيْتُ شَيْئاً لَدَىَّ مِنْ صِلَتِكْ
مَا مَرَّ شَهْرٌ حَتىَّ سمَحْتُ بهِ ... كأنّ ليِ قُدْرَةً كَمَقْدُرَتكْ
تُنْقِقُ في اليَوْمِ بِالْهِبَاتِ وفي ... السَّاعَةِ مَا تَجْتَبِيِه في سَنَتِكْ
فلستُ أَدْرِي مِنْ أَينَ تُنفِقُ لَوْ ... لاَ أَنَّ رَبِّى يَمُدُّ في هِبَتِكْ
فأمر له بعشرة آلاف درهم أخرى فأخذها.
وكان قوله: - علمني جودكَ السماحَ - من قول ابن الخياط المديني، وقد امتدح المهدي فأمر له بجائزةٍ ففرقها في دار المهدي وقال:
لَمَسْتُ بِكَفِّي كَفَّهُ أبْتغِي الغِنَىوَلَمْ أَدْرِ أَنّ الْجُودَ مِنْ كَفِّهِ يُعْدي
فَلاَ أَنَا مِنْهُ ما أَفادَ ذَوُو الغِنَىأَفَدْتُ، وَأعْدَانِي فَبَدَّدْتُ ما عِنْدِي
فبلغ المهدي خبره، فأضعف جائزته، وأمر بحملها إلى بيته.
حدثني عبد الله بن إبراهيم المسمعي القيسي قال، حدثني أبي قال، حدثني أبو توبة الشيباني - ولم أر أفصح منه - قال: حضرت عشيرنا وأميرنا خالد بن يزيد، وعنده رجل كثير الفكاهة حسن الحديث، فأعجبني جداً، فقال الأمير أبو يزيد: أما سمعت شعره فينا؟ ما رأيت أحسن بياناً منه، ولا أفصح لسانا!
مَا لِكَثيبِ الحِمَى إلى عَقِدِهْ ... مَا بالُ جَرْعَائِهِ إلى جَرَدِهْ
إلى أن قال:
نِعْمَ لِوَاءُ الخَميسِ أُبْتَ بهِ ... يَوْمَ خَمِيسٍ عَالِي الضُحَى أَفِدِهْ
خِلْت عُقاباً بَيْضَاءَ فيِ حُجُرا ... تِ المُلْكِ طارَتْ منه وفي سُدَدِهْ
فَشَاغَب الجوَّ وَهْوَ مَسْكَنُهُ ... وقاتَلَ الرِّيحَ وَهْيَ مِنْ مَدَدِهْ
وَمرَّ تَهْفُو ذُؤابَتَاهُ عَلَى ... أَسْمَرِ مَتْنٍ يَوْمَ الوَغَى جَسِدِهْ

تَخْفِقُ أَثْنَاؤُهُ عَلَى مَلِكٍ ... يَرَى طِرَادَ الأبْطَالِ من طَرَدِهْ
وهَلْ يُسَاميِكَ في العُلاَ مَلِكٌ ... صَدْرُكَ أَوْلَى بالرُّحْبِ من بَلَدِهْ؟
أَخْلاَقُكَ الغُرُّ دُونَ رَهْطِكَ أَثْ ... رَى مِنهُ في رَهْطِهِ وَفيِ عَدَدِهْ
فما سمعت مثل قوله، وطربت فرحا أن يكون من ربيعة، فقلت: ممن الرجل؟ فقال: من طيئ، وولائي لهذا الأمير، فقلت: يا أسفي ألا تكون ربعياً أو نزارياً، ثم أمر له الأمير أبو يزيد بعشرة آلاف درهم بيضاً، ووالله ما كافأه. وفي هذه القصيدة ذكر شفاعة خالدٍ إلى ابن أبي دؤاد فيما تقدم ذكره، فقال:
باللهِ أَنْسَى دِفَاعَهُ الزُّورَ مِنْ ... عَوْرَاءَ ذي نَيْرَبٍ ومِنْ فَنَدِهْ
وَلاَ تناسَى أحيَاءُ ذيِ يَمَنٍ ... مَا كانَ مِنْ نصْرِهِ ومِنْ حشَدِهْ
آثَرَنِي إذْ جَعَلْتُهُ سَنَداً ... كلُّ امْرِئٍ لاَجئٌ إلى سَنَدِهْ
حدثني أبو بكر القنطري قال، حدثني محمد بن يزيد المبرد قال: كان خالد بن يزيد الشيباني بقية الشرف والكرم، وأوسع الناس صدراً في إعطاء الشعراء. دفع إلى عمارة بن عقيل ألف دينار لقوله فيه:
تَأْبَى خلائقُ خالدٍ وَفَعَالُهُ ... إلا تَجنُّبَ كلِّ أَمْرٍ عائبِ
وإذا حَضَرْنَأ الْبَابَ عِنْدَ غَدَائِه ... أَذِنَ الغَدَاءُ لَنَا برَعْمِ الحاجِبِ
قال: وأخذ أبو تمام بمدحه له أضعاف هذا.
وجدت بخط ابن أبي سعيد، حدثني إسماعيل بن مهاجر قال، حدثني وكيل للحسن بن سهل يعرف بالبلخي قال: استنشد خال بن يزيد أبا تمام قصيدته في الأفشين التي ذكر فيها المعتصم وأولها:
غَدَا المُلْكُ مَعْمُورَ الحَرَا وَالمْنَازِلِمُنَوَّرَ وَحْفِ الَّروْضِ عَذْبَ المَنَاهِلِ
فلما بلغ إلى قوله:
تَسَربَلَ سِرْبالاً مِنَ الصَّبْرَ وارْتَدَي ... عَليهِ بِعَضْبٍ في الكَريهِة قَاصِلِ
وَقَدْ ظُلِّلَتْ عِقْبانُ أَعْلاَمِهِ ضُحىًبِعِقْبَانِ طَيْرٍ في الدِّمَاءِ نَوَاهِلِ
أَقَامَتْ مَعَ الرَّاياتِ حَتَّى كأَنَّهَا ... مِنَ الجَيشِ إلاّ أَنَّهَا لَمْ تُقَاتِلِ
قال له خالد: كم أخذت بهذه القصيدة؟ قال: ما لم يرو الغلة، ولم يسد الخلة. قال: فإني أثيبك عنها، قال: ولم ذاك، وأنا أبلغ الأمل بمدحك؟ قال: لأني آليت لا أسمع شعراً حسناً مدح به رجل فقصر عن الحق فيه إلا نبت عنه. قال: فإن كان شعراً قبيحاً؟ قال: أنظر فإن كان أخذ شيئاً استرجعته منه!.
وقد أحسن أبو تمام في هذا المعنى وزاد على الناس بقوله: - إلا أنها لم تقاتل - ، وقد قال مسلم قبله:
قد عَوَّدَ الطيَر عاداتٍ وَثقْنَ بِها ... فهُنَّ يَتْبعْنَهُ في كلِّ مُرْتَحَلِ
وأحسن من هذا قول أبي نواس في العباس بن عبيد الله:
وَإِذَا مَجَّ القَنَا عَلَقاً ... وتَرَاءَى الموتُ في صُوَرِهُ
رَاحَ في ثنيْ مُفَاضَتِهِ ... أَسَدٌ يَدْمَى شَبَا ظُفُرِهْ
تَتآيَا الطَّيرُ غَدْوَتَهُ ... ثِقَةً بِالشِّبْعِ مِنْ جَزَرِهْ
ولا أعلم أحداً قال في هذا المعنى أحسن مما قاله النابغة، وهو أولى بالمعنى، وإن كان قد سبق إليه، لأنه جاء به أحسن. وقد ذكرنا شريطة السرقات قبل هذا، قال النابغة:
إِذَا ما غَدَوْا بالجيشِ حَلَّق فوقَهمُ ... عَصَائِبُ طَيْرٍ تَهْتدِي بَعصائِبِ
جَوَانحَ قد أَيْقَنَّ أَنَّ قَبيلَهُ ... إِذا مَا الْتَقَى الْجَمْعانِ أوَّلُ غالبِ
وهو من قول الأفوه الأودي في قصيدةٍ أولها:
يا بَنيِ هَاجَرَ سَاءَتْ خُطَّةُ ... أَنْ تَرُومُوا النِّصْفَ مِنَّا وَمَحَارْ
فقال فيها:
فَتَرى الطَّيْرَ على آثارِنَا ... رَأىَ عَيْنٍ ثِقَةً أَنْ سَتُمارُ
الحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى أله وصحبه وسلم تسليماً.

أخبار أبو تمام مع الحسن بن رجاء
" بسم الله الرحمن الرحيم "

حدثنا عون بن محمد الكندي قال، حدثني محمد بن سعد أبو عبد الله الرقي - وكان يكتب للحسن بن رجاء - قال: قدم أبو تمام مدحاً للحسن بن رجاء، فرأيت رجلاً علمه وعقله فوق شعره، واستنشده الحسن بن رجاء، ونحن في مجلس شربٍ فأنشده:
كُفِّى وَغَاكِ فَإنَّني لَكِ قَالِي ... ليسَتْ هَوَادِي عَزْمَتيِ بِتَوَالِي
أَنَا ذُو عَرَفْتِ فإنْ عرَتْكِ جَهَالةٌ ... فأَنَا المُقِيمُ قِيَامَةَ العُذَّالِ
فلما قال:
عادَتْ لَهُ أيامُهُ مُسْوَدَّة ... حتّى تَوَهَّمَ أَنّهُنَّ لَيَالِي
قال له الحسن: والله لا تسود عليك بعد اليوم. فلما قال:
لا تُنْكرِي عَطَلَ الْكَرِيِمِ مِنَ الغِنَى ... فالسَّيْلُ حَرْبٌ لِلْمَكانِ العَاليِ
وتَنَظَّرِي خَبَبَ الرِّكَابِ يَنُصُّهَا ... مُحْيِ القَرِيضِ إلىَ مُمِيتَ المَالِ
قام الحسن بن رجاء وقال: والله لا أتممتها إلا وأنا قائم، فقام أبو تمامٍ لقيامه، وقال:
لمَّا بَلغْنَا سَاحَةَ الحسَنِ انْقَضَى ... عنَّا تَمَلُّكُ دوْلَةِ الإمْحَالِ
بَسَطَ الرَّجَاءَ لَنَا بِرَغْمِ نَوَائِبٍ ... كَثْرَتْ بِهنَّ مَصَارِعُ الآمَالِ
أَغْلَى عَذَارَى الشِّعْر، إِنَّ مُهُورَهَا ... عِنْدَ الكِرَامِ إِذَا رَخُصْنَ غَوَالِي
تَرِدُ الظُّنُونَ بِهِ عَلَى تَصْدِيِقَها ... وَيُحَكِّمُ الآمَالَ في الأمْوَالِ
أَضْحَى سَمِىُّ أَبيِكَ فِيكَ مُصَدِّقاً ... بأَجَلِّ فَائِدَةٍ وَأَيْمَنِ فَالِ
وَرَأَيْتَني فَسَأَلْتَ نَفْسَكَ سَيْبَهَالِي، ثُمَّ جُدْتَ وَمَا انْتَظَرْتَ سُؤَالِي
كالْغَيْمِ لَيْسَ لَهُأُرِيدَ غِيَاثُهُأَوْ لَمْ يُرَدْ بُدٌّ مِنَ التَّهْطَالِ
فتعانقا وجلسا، فقال له الحسن: ما أحسن ما جليت هذه العروس! فقال: والله لو كانت من الحور العين لكان قيامك أوفى مهورها. قال محمد بن سعيد: فأقام شهرين فأخذ على يدي عشرة آلاف درهم، وأخذ غير ذلك مما لم أعلم به، على بخلٍ كان في الحسن بن رجاء.
حدثني أبو الحسن الأنصاري قال، حدثني نصير الرومي مولى مبهوتة الهاشمي قال: كنت مع الحسن بن رجاء، فقدم عليه أبو تمام فكان مقيماً عنده، وكان قد تقدم إلى حاجبه ألا يقف ببابه طالب حاجةٍ إلا أعلمه خبره، فدخل حاجبه يوماً يضحك، فقال: ما شأنك؟ فقال: بالباب رجل يستأذن ويزعم أنه أبو تمامٍ الطائي! قال: فقل له ما حاجتك؟ قال: يقول مدحت الأمير - أعزه الله - وجئت لأنشده، قال: أدخله، فدخل فحضرت المائدة، فأمره فأكل معه، ثم قال له: من أنت؟ قال: أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، مدحت الأمير أعزه الله، قال: هات مدحك، فأنشده قصيدةً حسنةً، فقال: قد أحسنت، وقد أمرت لك بثلاثة آلاف درهمٍ، فشكر ودعا، وكان الحسن قد تقدم قبل دخوله إلى الجماعة ألا يقولوا له شيئاً، فقال له أبو تمام: نريد أن تجيز لنا هذا البيت، وعمل بيتاً، فلجلج، فقال له: ويحك، أما تستحي، ادعيت اسمي واسم أبي وكنيتي ونسبي، وأنا أبو تمام! فضحك الشيخ وقال: لا تعجل علىَّ حتى أحدث الأمير - أعزه الله - قصتي: أنا رجل كانت لي حال فتغيرت، فأشار على صديق لي من أهل الأدب أن أقصد الأمير بمدح، فقلت له: لا أحسن، فقال أنا أعمل لك قصيدةً، فعمل هذه القصيدة ووهبها لي، وقال: لعلك تنال خيراً، فقال له الحسن: قد نلت ما تريد، وقد أضعفت جائزتك. قال: فكان ينادمه ويتولعون به فيكنونه بأبي تمام.
حدثني أبو بكر القنطري قال، حدثني محمد بن يزيد المبرد قال: ما سمعت الحسن بن رجاء ذكر قط أبا تمام إلا قال: ذاك أبو التمام، وما رأيت أعلم بكل شيءٍ منه.
حدثني علي بن إسماعيل النوبختي قال، قال لي البحتري: والله يا أبا الحسن لو رأيت أبا تمام الطائي، لرأيت أكمل الناس عقلاً وأدباً، وعلمت أن أقل شيءٍ فيه شعره!.

سمعت الحسن بن الحسن بن رجاء يحدث أبا سعيد الحسن بن الحسين الأزدي، أن أباه رأى أبا تمام يوماً يصلي صلاةً خفيفةً، فقال له: أتم يا أبا تمام. فلما انصرف من صلاته قال له: قصر المال، وطول الأمل، ونقصان الجدة، وزيادة الهمة، يمنع من إتمام الصلاة، لا سيما ونحن سفر، فكان أبي يقول: وددت أنه يعاني فروضه كما يعاني شعره، وأني مغرم ما يثقل غرمه؟.
وقد ادعى قوم عليه الكفر بل حققوه، وجعلوا ذلك سبباً للطعن على شعره، وتقبيح حسنه، وما ظننت أن كفراً ينقص من شعرٍ، ولا أن إيماناً يزيد فيه. وكيف يحقق هذا على مثله، حتى يسمع الناس لعنه له، من لم يشاهده ولم يسمع منه، ولا سمع قول من يوثق به فيه؟ وهذا خلاف ما أمر الله عز وجل، ورسوله عليه السلام به، ومخالف لما عليه جملة المسلمين. لأن الناس على ظاهرهم حتى يأتوا بما يوجب الكفر عليهم بفعلٍ أو قولٍ، فيرى ذلك أو يسمع منهم، أو يقوم به بينة عليهم.
واحتجوا برواية أحمد بن أبي طاهر، وقد حدثني بها عنه جماعة أنه قال: دخلت على أبي تمام وهو يعمل شعراً، وبين يديه شعر أبي نواس ومسلمٍ، فقلت: ما هذا؟ قال: اللات والعزى، وأنا أعبدهما من دون الله مذ ثلاثون سنةً.
وهذا إذا كان حقاً فهو قبيح الظاهر، ردئ اللفظ والمعنى، لأنه كلام ماجنٍ مشعوفٍ بالشعر. والمعنى أنهما قد شغلاني عن عبادة الله عز وجل، وإلا فمن المحال أن يكون عبد اثنين لعله عند نفسه أكبر منهما، أو مثلهما، أو قريب منهما. على أنه ما ينبغي لجادٍ ولا مازحٍ أن يلفظ بلسانه، ولا يعتقد بقلبه، ما يغضب الله عز وجل، ويتاب من مثله؛ فكيف يصح الكفر عند هؤلاء على رجلٍ، شعره كله يشهد بضد ما اتهموه به، حتى يلعنوه في المجالس؟ ولو كان على حال الديانة لأغروا من الشعراء بلعن من هو صحيح الكفر، واضح الأمر، ممن قتله الخلفاء - صلوات الله عليهم - بإقرارٍ وبينةٍ، وما نقصت بذلك رتب أشعارهم، ولا ذهبت جودتها، وإنما نقصوا هم في أنفسهم، وشقوا بكفرهم.
وكذلك ما ضر هؤلاء الأربعة، الذين أجمع العلماء على أنهم أشعر الناس: امرأ القيس والنابغة الذبياني وزهيراً والأعشى، كفرهم في شعرهم، وإنما ضرهم في أنفسهم. ولا رأينا جريراً والفرزدق يتقدمان الأخطل عند من يقدمهما عليه بإيمانهما وكفره، وإنما تقدمهما بالشعر. وقد قدم الأخطل عليهما خلق من العلماء، وهؤلاء الثلاثة طبقة واحدة، وللناس في تقديمهم آراء.
حدثني القاسم بن إسماعيل قال، حدثنا أبو محمد التوجي عن خلف الأحمر قال: سئل حماد الراوية عن جريرٍ والفرزدق والأخطل أيهم أشعر؟ فقال: الأخطل، ما تقول في رجلٍ قد حبب إلى شعره النصرانية! وهذا أيضاً مزح من حماد، وفرط شعفٍ بشعر الأخطل. ولو تأول الناس عليه كما تأولوا على أبي تمام لكان ما قال قبيحاً، وما أحسب شعر أبي تمام، مع جودته وإجماع الناس عليه، ينقص بطعن طاعنٍ عليه في زماننا هذا، لأني رأيت جماعةً من العلماء المتقدمين، ممن قدمت عذرهم في قلة المعرفة بالشعر ونقده وتمييزه، وأريت أن هذا ليس من صناعتهم، وقد طعنوا على أبي تمامٍ في زمانهم وزمانه، ووضعوا عند أنفسهم منه، فكانوا عند الناس بمنزلة من يهذي، وهو يأخذ بما طعنوا عليه الرغائب من علماء الملوك، ورؤساء الكتاب، الذين هم أعلم الناس بالكلام منثوره ومنظومه، حتى كان هو يعطي الشعراء في زمانه ويشفع لهم؛ وكل محسنٍ فهو غلام له، وتابع أثره.
ومن الإفراط في عصبيتهم عليه، ما حدثني به أبو العباس عبد الله بن المعتز قال: حدثت إبراهيم بن المدبر - ورأيته يستجيد شعر أبي تمام ولا يوفيه حقه - بحديثٍ حدثنيه أبو عمرو بن أبي الحسن الطوسي، وجعلته مثلاً له، قال: وجه بي أبي إلى ابن الأعرابي لأقرأ عليه أشعاراً، وكنت معجباً بشعر أبي تمامٍ، فقرأت عليه من أشعار هذيل، ثم قرأت أرجوزة أبي تمام على أنها لبعض شعراء هذيل:
وعاذِلٍ عَذَلْتُهُ في عَذْلِهِ ... فَظَنَّ أَنَّي جَاهِلٌ مِن جَهْلِهِ
حتى أتممتها، فقال: اكتب لي هذه، فكتبتها له، ثم قلت: أحسنة هي؟ قال: ما سمعت بأحسن منها! قلت: إنها لأبي تمام فقال: خرق خرق!.

وكان عبد الله قد عمل بعد هذا الخبر كلاماً يتبعه به فكتبته عنه، قال عبد الله: وهذا الفعل من العلماء مفرط القبح، لأنه يجب ألا يدفع إحسان محسن، عدواً كان أو صديقاً، وأن تؤخذ الفائدة من الرفيع والوضيع، فإنه يروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ - صلوات الله عليه - أنه قال: الحكمة ضالة المؤمن، فخذ ضالتك ولو من أهل الشرك. ويروى عن بزر جمهر أنه قال: أخذت من كل شيءٍ أحسن ما فيه، حتى انتهيت إلى الكلب والهرة والخنزير والغراب. قيل: وما أخذت من الكلب؟ قال: إلفه لأهله، وذبه عن حريمه. قيل: فمن الغراب؟ قال: شدة حذره. قيل: فمن الخنزير؟ قال: بكوره في إرادته. قيل: فمن الهرة؟ قال: حسن رفقها عند المسألة، ولين صياحها.
قال أبو العباس: ومن عاب مثل هذه الأشعار، التي ترتاح لها القلوب، وتجذل بها النفوس، وتصغي إليها الأسماع، وتشحذ بها الأذهان، فإنما غض من نفسه، وطعن على معرفته واختياره. وقد روى عن عبد الله بن العباس رحمه الله أنه قال: الهوى إله معبود، واحتج بقول الله جل وعز: " أفرأيتَ مَنِ اتخذَ إلههُ هَوَاهُ " . انقضى كلام عبد الله.
حدثني علي بن محمد الأسدي قال: حدثني أحمد بن يحيى ثعلب قال: وقف ابن الأعرابي على المدائني فقال له: إلى أين يا أبا عبد الله؟ قال: إلى الذي هو كما قال الشاعر:
تَحْمِلُ أَشْبَاحَنَا إلى مَلِكٍ ... نَأخُذُ مِنْ مَالِهِ ومِنْ أَدَبِهْ
قال أبو بكر: فتمثل بشعر أبي تمام وهو لا يدري، ولعله لو درى ما تمثل به. وكذلك فعل في النوادر: جاء فيها بكثيرٍ من أشعار المحدثين، ولعله لو علم بذلك ما فعله.
وقد رأينا الأعداء يصدقون في أعدائهم، لا لنيةٍ في تقديمهم، ولا لمحبةٍ في رفعهم وتقريظهم، ولا لديانة يرعونها فيهم، ولكن يفعلونه حياطةً لأنفسهم، وتنبيهاً على فضلهم وعلمهم. فمن ذلك قول عمارة بن عقيل وقد أنشد قصيدةً للفرزدق يهجو بها جريراً: أكل والله أبي، أكل والله أبي! ومن ذلك قول الفرزدق، وقد سمع قول جريرٍ، حدثني به الفضل بن الحباب، قال: حدثني محمد بن سلام عن مسلمة بن محارب بن سلم بن زياد قال: كان الفرزدق عند أبي في مشربةٍ له، فدخل رجل فقال: وردت اليوم المربد قصيدة لجرير، تناشدها الناس، فامتقع لون الفرزدق، فقال له: ليست فيك يا أبا فراس قال: ففيمن؟ قال: في ابن لجأ التيمي، قال: أحفظت منها شيئاً؟ قال: نعم، علقت منها ببيتين، قال: ما هما؟ فأنشده:
لئِنْ عُمِّرَتْ تَيْمٌ زماناً بِعِزَّةٍ ... لقَد حُدِيَتْ تيمٌ حُدَاءً عَصَبْصَبا
فلا يَضْغَمَنَّ الليثُ عُكْلاً بِعِرَّةٍ ... وعُكْلٌ يَشَمُّونَ الفَرِيسَ المُنَيَّبَا
وفسر لي أبو خليفة وأبو ذكوان جميعاً هذا المعنى عن ابن سلام قال: الليث إذا ضغم الشاة ثم طرد عنها جاءت الغنم تشم ذلك الموضع فيغترها فيخطف الشاة، وعكل إخوة التيم وعدي وثورٍ، وهم بنو عبد مناة بن أدّ. يقول: فلا تنصروهم فأهجوكم وأدعهم. قال ابن سلام: ونحوه قول جرير:
وقُلتُ نَصَاحةً لبني عَدِيٍّ ... ثِيابَكُم وَنَضْحَ دَمِ القَتِيلِ
فقال الفرزدق: قاتله الله، إذا أخذ هذا المأخذ فما يقام له: يعني الروي على الياء. وقال ابن سلام حدثني رجل من بني حنيفة قال، قال الفرزدق: وجدت - ألياء - أم جرير وأباه، أي يجيد إذا ركبها. ومن ذلك قول الراعي في جريرٍ وقد هجاه، حدثني القاضي أبو خليفة الفضل بن الحباب قال: حدثني محمد بن سلام قال، حدثني أبو البيداء الرياحي قال: مر راكب يتغني:
وَعاوٍ عَوَى من غيرِ شيءٍ رمَيتُه ... بقافيةٍ أَنْفاذُهَا تَقْطُر الدَّمَا
خروج بأَفْوَاهِ الرِّجالِ كأَنَّها ... قَرَى هُنْدُوانّيٍ إذا هُزَّ صَمَّما
فقال الراعي: من بالبيتين؟ قال: جرير، قال: قاتله الله، لو اجتمعت الجن والإنس ما أغنوا فيه شيئاً. قال ابن سلام، قال الراعي: ألامُ أن يغلبني مثل هذا؟ حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا عمر بن شبة عن محمد بن بشار قال، قال بشار لراويته: أنشدني من قول حمادٍ فأنشده:
نُسِبْتَ إلى بُردٍ وأنتَ لغيرِهِفَهَبْكَ لِبُرْدٍ نِكتُ أمَّكَ مَنْ بُرْدُ؟
فقال: هاهنا أحد يسمع كلامي؟ قال: لا، قال: أحسن ابن الزانية!.

وهذا يكثر جداً، ولكنني أتيت بشيءٍ منه يدل على جميعه. ومثل هذا من نقص ذوي الفضل والمتقدمين في الصنائع من جميع الناس قبيح، وهو من العلماء أقبح. نعوذ بالله من اتباع الهوى، ونصر الخطأ، والكلام في العلم بالمحل واللجاج والعصبية.
حدثني عون بن محمد قال: شهدت دعبلاً عند الحسن بن رجاء، وهو يضع من أبي تمام، فاعترضه عصابة الجرجرائي فقال: يا أبا علي اسمع مني مما مدح به أبا سعيد محمد بن يوسف فإن رضيته فذاك، وأعوذ بالله فيك من ألا ترضاه، ثم أنشده:
أمَا إنَّه لو لا الخليطُ المودِّعُ
فلما بلغ إلى قوله:
لقد آسَفَ الأعداءَ مجْدُ ابن يوسُفٍ ... وذُو النَّقْصِ في الدُّنيا بذيِ الفَضْلِ مُولَعُ
هو السيلُ إنْ واجَهْتَهُ انْقَدْتَ طَوْعَهُ ... وتَقْتَادُهُ مِنْ جانِبَيهِ فَيَتْبَعُ
ولم أرَ نَفْعاً عند مَنْ لَيْسَ ضَائِراً ... ولم أرَ ضَراً عِنْدَ مَنْ لَيْسَ ينفَعُ
مَعاَدُ الورَى بعدَ الممَاتِ، وسَيْبُهُ ... مَعادٌ لنَا قبل المَماتِ ومَرْجِعُ
فقال دعبل: لم ندفع فضل هذا الرجل، ولكنكم ترفعونه فوق قدره، وتقدمونه وتنسبون إليه ما قد سرقه، فقال له عصابة: تقدمه في إحسانه صيرك له عائباً، وعليه عاتباً.

أخبار أبي تمام مع الحسن بن وهب
ومحمد بن عبد الملك الزيات حدثني عبد الرحمن بن أحمد قال: وجدت بخط محمد بن يزيد المبرد أن أبا تمام كتب إلى الحسن بن وهب يستسقيه نبيذاً:
جُعِلْتُ فِداكَ، عبد الله عِنديِ ... بعَقْبِ الهجْرِ منهُ والبِعَادِ
لَهُ لُمَةٌ منَ الكُتَّابِ بِيضٌ ... قضَوْا حقَّ الزيارَةِ والوِدادِ
وأحْسَبُ يَوْمَهمُ إنْ لمْ تَجُدْهُمْ ... مُصَادِفَ دعْوَةٍ منهُمْ جَمَادِ
فكَمْ نَوْءٍ من الصَّهْبَاءِ سَارٍ ... وآخَرَ منكَ بالمعْروُفِ غادِ
فَهَذَا يَسْتَهِلُّ عَلَى غَلِيلي ... وهَذَا يَسْتَهلُّ عَلَى تِلاَديِ
دعَوْتُهُمُ عَليكَ وكنتَ مِمنْ ... نُعَيِّنُهُ عَلَى العُقَدِ الجيِادِ
فوجه إليه بمائةٍ دنّ ومائة دينارٍ، وقال: لكل دنٍ دينار.
حدثني عبد الله بن المعتز قال: صار إلي محمد بن يزيد النحوي منصرفاً من عند القاضي إسماعيل، وكان يجيئني كثيراً إذا انصرف من عنده، فأعلمني أن الحارثي الذي يقول فيه ابن الجهم:
لَمْ يَطْلعَا إِلاَّ لآبدَةٍ ... الحارثي وكوكب الذَّنَبِ
دخل إلى القاضي إسماعيل، فأنشده شعراً لأبي تمام إلى الحسن بن وهب، يستسقيه نبيذاً لم أر أحسن منه في معناه، وأنه كره أن يستعيده أو يقول له اكتبه، لحال القاضي، فقلت له: أتحفظ منه شيئاً؟ قال: نعم، أوله:
جُعِلتً فِداك عبد الله عندي
قال: فأنشدته الأبيات وكنت أحفظها فكتبها بيده وهي هذه الأبيات التي ذكرناها.
حدثنا أحمد بن إسماعيل قال، حدثني عبيد الله بن عبد الله قال: استهدي أبو العيناء مطبوخاً، فوجهت إليه بشيءٍ منه، فاستقله وكتب إلي: أقول للأمير ما قاله أبو تمام لمحمد بن علي بن عيسى القمي، وقد استهداه شراباً فأبطأ رسوله، ثم وجه إليه بشرابٍ أسود قليلٍ، فكتب إليه:
قد عرفنا دلائلَ المنْعِ أوْ مَا ... يُشْبِهُ المنْعَ باحتباسِ الرَّسُولِ
وافتَضَحْنا عند الزَّبِيبِ بما صَحَّ ... لديْهِ مِنْ قُبْحِ وَجْهِ الشَّمُولِ
وهْيَ نَزْرٌ لو أنًّها من دُمُوعِ الصَّبِّ ... لم تَشْفِ منه حَرَّ الغليلِ
قد كتَبْنَا لك الأمانَ فَما تسألُ ... منْهَا عُمْرَ الزمان الطويل
كم مغطى قد اختبرنا نداه ... وعرضنا كثيره بالقليل
قال: فأرضيت أبا العيناء بعد ذلك.
ومثل قوله:
وهْي نَزْرٌ لَوْ أنَّها من دمُوع الصَّب
ما حدثنيه أحمد بن إبراهيم الغنوي قال: طلب أبو مالك الرسعني وخاله ذو نواس البجلي الشاعر من صديقٍ له نبيذاً، فوجه إليه بأرطالٍ يسيرة فكتب إليه:
لو كانَ ما أهْدَيْتَهُ إِثْمِداً ... لم يكْفِ إلاَّ مُقْلةً واحدَهْ

بَرَّدْتَ وَاللهِ عَلَى أنَّها ... إليكَ مِنَّا حاجةٌ بارِدَهْ
والبحتري يقول في نحو هذا لأبي أيوب ابن أخت الوزير:
لكَ الخيرُ، ما مِقدَارُ عَفْوي وما جُهْدِي ... وآلُ حُمَيدٍ عنْدَ آخِرِهم عِنْدي؟
تَتابَعتِ الطَّاءَانِ طُوسٌ وَطَيِّئٌ ... فَقُلْ في خُراسانٍ، وإنْ شِئْتَ في نَجْدِ
أَتَوْنِي بِلاَ وَعْدٍ وإنْ لم تَجُدْ لهُمْ ... بِرَاحِهِمِ راحُوا جَمِيعاً عَلَى وَعْدِ
ولم أرَ خِلا كالنَّبيذِ إذَا جفَا ... جفَاكَ لهُ خُلاَّنُهُ وذَوُو الوُدِّ
وممَّا دَهَى الفِتْيَانَ أنَّهُمُ غَدَوْا ... بِآخِرِ شَعبانٍ على أوَّلِ الوَرْدِ
غداً يَحْرُمُ الماءْ القَرَاحُ وَتَنْتَوِىوُجوهٌ مِنَ الَّلذَّاتِ مُشْجِيَةُ الفَقْدِ
أَعِنَّا عَلَى يَوْمٍ يُشَيِّعُ لَهْوَنَا ... إلَى ليلةٍ فيها لهُ أجَلٌ مُرْدِي
حدثني محمد بن موسى بن حماد قال: وجه الحسن بن وهب إلى أبي تمام وهو بالموصل خلعةً فيها خَزُّ ووشْىٌ. فامتدحَه ووصفَ الخلعة في قصيدةٍ أولها:
أَبُو عَليٍ وَسْمِيُّ مُنْتَجِعِهْ ... فاحلُلْ بأَعَلى وَاديِهِ أوْ جَرَعِهْ
ثم وصف الخلعة فقال:
وقد أتاني الرسولُ بالملبسِ الفَخْمِ ... لصيفِ امرئٍ ومُرْتَبَعِهْ
لو أَنها جُلِّلَتْ أوَيْساً لقدْ ... أسْرَعتِ الكِبْرياءُ فيِ وَرَعِهْ
رائقُ خَزٍّ أُجيدَ سَائِرُهُ ... سَكْبٍ تَدينُ الصَّبَا لمُدَّرِعِهْ
وَسِرُّ وَشيٍ كأنَّ شِعْريَ ... أحْيَاناً نَسِيبُ العُيُونِ مِنْ بِدَعِهْ
تَرَكْتَنِي سَامِيَ الجُفُونِ عَلَى ... أَزْلَمِ دَهْرٍ بِحْسْنِهَا جَذَعِهْ
يريد على دهر قديم وهو الأزلم لطوله وقدمه وجذعه، لأن يومه جديد، قال لقيط الإيادي:
يا قَوْم بَيْضَتُكُمْ لاَ تُفْجَعُنَّ بها ... إِني أخافُ عليها الأزلَمَ الجَذَعَا
وقد وصف خلعةً أخرى أحسن من هذا الوصف وجوده.
حدثني عون بن محمد قال، حدثني الحسين بن وداع، كاتب الحسن بن رجاء، قال: حضرت محمد بن الهيثم بالجبل وأبو تمام ينشده:
جَادَتْ مَعَاهِدَهُمْ عِهَادُ سَحَابةٍ ... ما عَهْدُها عندَ الدِّيارِ ذَميمُ
قال: فلما فرغ منها أمر له بألف دينار وخلع عليه خلعةً حسنةً، وأقمنا ذلك اليوم عنده، ومعنا أبو تمام، ثم انصرف وكتب إليه في غد ذلك اليوم:
قَدْ كسَانَا من كُسْوَةِ الصَّيْفِ خِرْقٌ ... مُكْتَسِ من مَكاَرِمٍ ومَسَاعِ
حُلَّةً سَابِرِيَّةً ورِداءً ... كَسَحَا القَيْضِ أو رِداءِ الشجاعِ
كالسَّرابِ الرَّقْراقِ في الحُسْنِ إلاّ ... أنّه ليس مِثلَه في الخِدَاعِ
قَصَبِيّاً تَسْتَرَجِفُ الريحُ مَتْنَيْ ... هِ بأمرٍ منَ الغُيُوبِ مُطاعِ
رَجَفَاناً كأنه الدهرَ منهُ ... كبِدُ الصّبِّ أوْحَشَا المُرْتاعِ
لاَزماً ما يَليه تَحْسَبُهُ جُزْ ... ءاً من المثْنَيَيْنِ والأَضْلاعِ
يَطْرُدُ اليومَ ذا الهجير ولو شُبِّ ... هَ في حَرِّهِ بِيَوْمِ الوَدَاعِ
خِلْعَةٌ مِنْ أَغَرَّ أرْوَعَ رَحْبِ الصَّ ... دْرِ رَحْبِ الفُؤَادِ رَحْبِ الذِّرَاعِ
سَوْفَ أَكْسُوكَ ما يُعَفِّى عليْها ... مِنْ ثَنَاءٍ كالبُرْدِ بُرْدِ الصَّنَاعِ
حُسْنُ هاتيكَ في العُيونِ وَهَذَا ... حُسْنُهُ في القُلُوبِ والأَسْمَاعِ
فقال محمد بن الهيثم: من لا يعطي على هذا ملكه؟ والله لا بقى في داري ثوب إلا دفعته إلى أبي تمام؛ فأمر له بكل ثوبٍ يملكه في ذلك الوقت.
ونحو قول أبي تمام في البيت الأخير قول عبد الصمد:
بأيْمَنِ طائرٍ وأَسَرِّ فَالِ ... وأَعْلَى رُتْبَةٍ وأجلِّ حالِ

شَرِبتَ الدُّهْنَ ثم خرجتَ منهُ ... خُروجَ المَشْرَفِيِّ من الصِّقالِ
تكشَّفَ عنكَ ما عايْنتَ منهُ ... كَماَ انكَشَفَ الغَمامُ عنِ الهِلالِ
لطُولِ سَلاَمةٍ ولطولِ عُمْرٍ ... بَلَغْتَ بكَ الطِّوَالَ من اللَّياليِ
وَقَدْ أَهْدَيتُ رَيْحَاناً طَرِيفاً ... بِهِ حاجَيْتُ مُسْتَمعِي مقَالِي
وما هو غَيْرُ حاءٍ بَعْدَ ياءٍ ... تُخُبِّرَ بَعْدَ ميمٍ قَبْلَ دالِ
ورَيْحَانُ النَّباتِ يعيشُ يَوْماً ... وليسَ يمُوتُ رَيْحَان المقَالِ
ولَمْ تكُ مُؤْثِراً رَيْحَانَ شَمِ ... عَلَى رَيْحَانِ أَسْمَاعِ الرِّجالِ
ولي أبياتٌ من قصيدة مدحت بها صديقاً لي، وصفت فيها الثياب، وما علمت أن أحداً وصفها حتى قرأت شعر أبي تمام، وقد أحسن فيه غاية الإحسان. قلت:
أين الدَّبِيقُّيِ الذي مَدَّتْ بِهِ ... أيدي النَّسَاءِ فجاءَ طَوْعَ المِغْزَلِ
غَمَضَتْ حَواشِيهِ لدِقَّةِ نَسْجِه ... مِنْ غَيْرِ تَضْليعٍ وغَيْرِ تَسَلْسُلِ
والثَّوْبُ قَدْ يَحْكِي بِدِقّةِ نَسْجِهِ ... نَسْجَ العناكِبِ بالمكانِ المُهْمَلِ
شُغِلَتْ به هِمَمُ المُلوكِ وأُمْهِلَتْ ... صُنَّاعُه فيه ولم تُسْتَعْجَل
فَغَدَا عليكَ مُهَلْهَلاً يَخْفَى عَلَى ... رَاحِ التِّجارِ وليسَ بالمُسْتَرْسِلِ
عِدْلُ الهَوَاءِ إذا صَفَتْ أقْطَارهُ ... وَأَرَقَّهُ نَسْجُ الخَرِيفِ المُقْبِلِ
أوْ مِثْلُ نَسْجِ الشَّمْسِ تَحْسِرُ دُونَهُ ... وتَكِلُّ عَيْنُ النَّاظِرِ المُتَأَمِّلِ
فَكأَنَّهُ عَرَضٌ يَقُومُ بِنَفْسِهِ ... مِنْ غَيْرِ مَا جِسْمٍ لَهُ مُتَقَبِّل
ولا أعرف شيئاً قبل هذا في وصف ثوبٍ ولا غزلٍ إلا ما حدثني به محمد بن يزيد النحوي قال: أنشدني عمرو بن حفص المنقري لأبي حنش النميري في رجلٍ ولي الإمارة بعد أن كان حائكاً:
للهِ سَيْفُكَ ما أَكَلَّ وُقُوعَهُ ... أَيامَ أنتَ بضرْبِه لا تَقْتُلُ
إلاَّ خُيُوطاً أُبْرِمَتْ طَاقَاتُها ... تُثْنَى بأَطْرافِ البنَانِ وَتُفْتَلُ
بِيضاً تُباهِي العَنكبوتَ بِنَسْجِهَا ... كالَّرقِّ رَقَّقَ غَزْلُهنَّ المِغْزَلُ
ما زلتَ تضْربُ في الغُزُولِ بِحَدِّهِ ... حتَّى حَدِبْتَ وَزَالَ مِنكَ المَفْصِلُ
أيامَ قِدْرُكَ لاَ تَزَالُ نَضِيجَةً ... مِنْ أَرْدَاهَاجٍ ليسَ فيه فُلْفُلُ
حدثني محمد بن موسى قال: كان أبو تمام يعشق غلاماً خزرياً كان للحسن بن وهبٍ، وكان الحسن يتعشق غلاماً كان لأبي تمام رومياً، فرآه أبو تمام يوماً يعبث بغلامه فقال: والله لئن أعنقت إلى الروم لنركضن إلى الخزر. فقال ابن وهب: لو شئت لحكمتنا واحتكمت، فقال له أبو تمام: أنا أشبهك بداود وأشبهني بخصمه. فقال الحسن: لو كان هذا منظوماً خفناه، فأما منثوراً فهو عارضٌ لا حقيقة له، فقال أبو تمام:
أبا عَليٍ لِصَرْفِ الدَّهْرِ والغِيَرِ ... وللحوادِثِ والأيامِ والعِبَرِ
أذْكَرْتَني أَمْرَ دَاودٍ وكُنْتُ فَتىً ... مُصَرَّفَ القَلْبِ في الأَهْوَاءِ والذِّكَرِ
أَعِنْدَكَ الشَّمسُ لم يَحْظَ المَغِيبُ بها ... وأنتَ مُضْطَرِبُ الأحْشاءِ بالقَمرِ
إِنْ أنتَ لمْ تَتْرُكِ السَّيْرَ الَحثِيثَ إلىجَآذِرِ الرُّومِ أَعْنَقْنَا إلى الخَزَرِ
إنّ القَطْوبَ لَهُ مِنِّي مَقَرُّ هوىً ... يَحْلُّ مِنِّي مَحَلَّ السَّمعِ والبصَرِ
وَرُبَّ أَمْنَعَ منه صاحباً وَحِمىً ... امْسَى وتِكَّتُه مِنِّي على خَطَرِ
جَرَّدْتُ فيهِ جِنُودَ العَزْمِ وانْكَشَفَتْ ... عنهُ غَيابتُها عَنْ نَيْكَةٍ هَدَرِ
سبحانَ مَنْ سَبَّحَتْهُ كلُّ جَارِحةٍ ... ما فيكَ مِنْ طَمَحَانِ الأيْرِ وَالنَّظَرِ

أنتَ المقيمُ فما تَعْدُو رواحِلُهُ ... وأَيْرُهُ أبداً منه على سَفَرِ
حدثني أحمد بن إسماعيل قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: قلت لأبي تمام: غلامك أطوع للحسن من غلام الحسن لك، قال: لأن غلامي يجد عنده مالا يجد غلامه عندي، أنا أعطي ذاك قيلاً وقالاً، وهو يعطي غلامي مالاً. وقد روى هذا الخبر على خلاف هذا.
حدثني أبو جعفر المهلبي قال، حدثني ابن أبي فننٍ قال: أنشد أبو تمامٍ محمد بن البعيث مدحاً له، وعند محمدٍ غلام خزري، ومع أبي تمام غلام رومي، فجعل محمد يلمحه، فقال أبو تمامٍ هذا الشعر الرائي، والأول أصح.
حدثني أبو الحسن الأنصاري قال، حدثني أبي وحدثني أبو الفضل الكاتب المعروف بفنجاخ قال: كان الحسن بن وهب يكتب لمحمد بن عبد الملك الزيات وهو يزر للواثق، وكان ابن الزيات قد وقف على ما بين الحسن بن وهبٍ وأبي تمامٍ في غلاميهما، فتقدم إلى بعض ولده، وكانوا يجلسون عند الحسن بن وهب، أن يعلموه خبرهما وما كان منهما، قالا: فعزم غلام أبي تمام على الحجامة، فكتب إلى الحسن يعلمه بذلك ويسأله التوجيه إليه بنبيذٍ، فوجه إليه بمائة دنٍ ومائة دينارٍ وخلعةٍ وبخورٍ، وكتب:
لَيْتَ شِعْري يا أمْلَحَ النَّاسِ عِنْديِ ... هلْ تَدَاوَيْتَ بالحِجَامَةِ بعْدِي؟
دَفَعَ اللهُ عنْكَ ليِ كُلَّ سُوءٍ ... بَاكرٍ رائحٍ وإنْ خُنْتَ عَهدِي
قدْ كتَمْتُ الهوى بمبلغِ جَهْدِي ... فَبَدا مِنه غَيْرُ ما كنتُ أُبْدِي
وَخَلعْتُ العِذارَ فلْيعْلَمِ النَّا ... سُ بأنِّي إِيَّاكَ أُصْفِي بُودِّي
وليَقُولٌوا بما أَحَبُّوا وإن كُنْ ... تَ وَصُولاً ولم تَرُعْنِي بصَدِّ
منْ عَذِيرِي مِنْ مُقْلَتَيْكَ ومِنْ إِشْ ... رَاقِ ثَغْرٍ من تَحْتِ حُمْرَةِ خَدِّ؟
ووضع الرقعة تحت مصلاهُ، وبلغ محمد بن عبد الملك خبر الرقعة، فوجه إلى الحسن فشغله بشيءٍ من أمره، ثم أمر من جاءه بالرقعة، فلما قرأها كتب فيها على لسان أبي تمام:
لَيْتَ شِعْرِي عَنْ لَيْتَ شِعْرِكَ هذَا ... أَبِهَزْلٍ تَقُولُهُ أمْ بِجِدِّ؟
فَلَئنْ كُنتَ في المَقَالِ مُحِقاً ... يا ابْنَ وهْبٍ لَقَدْ تَطَرَّفْتَ بَعْدِي
وتَشبَّهْتَ بِي وكُنْتُ أرَى أَنِّ ... ي أنا العاشقُ المُتيَّمُ وَحْدِي
أَتْرُكُ القَصْدَ في الأُمُورِ ولَوْلاَ ... عَثَرَاتُ الهَوَى لأَبْصَرْتُ قَصْدِي
لاَ أُحِبُّ الذي يَلومُ وإنْ كَا ... نَ حَرِيصاً عَلَى هَلاَكِي وجهَدْيِ
وأحِبُّ الأخَ المُشَارِكَ في الحُبِّ ... وإنْ لَمْ يكُنْ به مِثلُ وَجدْيِ
كنَدِيمَي أبي عَلَىٍ وَحَاشَا ... لَندِيمي من مِثْلِ شِقوةِ جَدِّي
إنَّ مَوْلايَ عبدُ غيري ولَوْلاَ ... شُؤْمُ جَدِّي لكانَ مَوْلاَيَ عَبْدِي
سَيّدي سَيّدي ومَوْلايَ مَنْ أَوْ ... رَثَنِي ذِلَّةً وَأَضْرَعَ خَدِّي
ثم قال: ضعوا الرقعة مكانها، فلما قرأها الحسن قال: إنا لله، افتضحنا والله عند الوزير! وأعلم أبا تمامٍ بما كان، ووجه إليه بالرقعة، قلقيا محمد بن عبد الملك وقالا له: إنما جعلنا هذين سبباً لتكاتبنا بالأشعار، فقال: ومن يظن بكما غير هذ؟ فكان قوله أشد عليهما.
حدثني محمد بن موسى بن حماد قال: كنت عند دعبل بن علي أنا والعمروي سنة خمسٍ وثلاثين بعد قدومه من الشام، فذكرنا أبا تمامٍ، فجعل يثلبه ويزعم أنه يسرق الشعر، ثم قال لغلامه: يا نفنف، هات تلك المخلاة، فجاء بمخلاةٍ فيها دفاتر، فجعل يمرها على يده حتى أخرج منها دفتراً، فقال: اقرءوا هذا، فنظرنا فإذا في الدفتر: قال مكنف أبو سلمى من ولد زهير بن أبي سلمى، وكان هجا ذفافة العبسي بأبياتٍ منها:
إن الضُّرَاطَ به تَصاعَد جَدُّكم ... فَتعاظموا ضَرِطاً بَِني القَعْقَاعِ
قال: ثم رثاه بعد ذلك فقال:
أَبَعْدَ أبي العباسِ يُسْتَعْذَبُ الدَّهرُ ... ومَا بعْدَهُ للدَّهرِ حُسْنٌ ولا عُذْرُ

ألاَ أَيُّهَا النَّاعِي ذُفَافَةَ وَالنَّدَىتَعِسْتَ وشُلَّتْ مِنْ أَنامِلكَ العَشْرُ
أَتَنْعَى لنا منْ قَيْسِ عَيْلاَنَ صَخْرةً ... تَفَلَّقَ عنها مِن جبالِ العِدَى الصَّخرُ
إذا ما أَبو العبَّاسِ خَلَّى مَكانَهُ ... فلا حَمَلَتْ أُنثَى ولا نالهَا طُهْرُ
ولا أَمطَرَتْ أَرْضاً سَماءٌ ولا جَرَتْ ... نُجومٌ ولا لَذَّتْ لِشَارِبِها الخَمْرُ
كأَنَّ بني القَعْقَاعِ يومَ وَفاتِه ... نُجُومُ سَماءٍ خَرَّ مِن بَينَهَا البَدْرُ
تُوُفِّيَتِ الآمَالُ بعدَ وَفاتِهِ ... وَأَصْبحَ في شُغْلٍ عَنِ السَّفَرِ السَّفْرُ
ثم قال: سرق أبو تمام أكثر هذه القصيدة، فأدخلها في شعره. وحدثني محمد بن موسى بهذا الحديث مرةً أخرى ثم قال: فحدثت الحسن بن وهبٍ بذلك، فقال لي: أما قصيدة مكنفٍ هذه فأنا أعرفها، وشعر هذا الرجل عندي، وقد كان أبو تمام ينشدنيه، وما في قصيدته شيءٌ مما في قصيدة أبي تمام، ولكن دعبلاً خلط القصيدتين، إذ كانتا في وزنٍ واحدٍ، وكانتا مرثيتين، ليكذب على أبي تمام.
حدثنا عبد الله بن الحسين قال، حدثني وهب بن سعيد قال: جاء دعبل إلى أبي علي الحسن بن وهبٍ في حاجةٍ بعد ما مات أبو تمام، فقال له رجل: يا أبا علي، أنت الذي تطعن على من يقول:
شَهِدْتُ لقَدْ أَقَوَتْ مَغَانيكُمُ بَعْدِي ... وَمَحَّتْ كما مَحَّتْ وشائِعُ مِن بُرْدِ
وَأَنْجَدْتُمُ مِنْ بَعْدِ إِتْهَامِ دَارِكمفيا دَمْعُ أَنْجِدْني عَلَى سَاكِني نَجْدِ
فصاح دعبل: أحسن والله، وجعل يردد:
فيا دَمْعُ أنجِدْني على ساكني نَجْدِ
ثم قال: رحمه الله، لو ترك لي شيئاً من شعره لقلت إنه أشعر الناس.
ولهذا الشعر خبر: حدثني عبد الله بن المعتز قال، جاءني محمد بن يزيد النحوي فاحتبسته، فأقام عندي، فجرى ذكر أبي تمام، فلم يوفه حقه؛ وكان في المجلس رجل من الكتاب نعماني، ما رأيت أحداً أحفظ لشعر أبي تمام منه، فقال له: يا أبا العباس، ضع في نفسك من شئت من الشعراء، ثم انظر، أيحسن أن يقول مثل ما قاله أبو تمام لأبي المغيث موسى بن إبراهيم الرافقي يعتذر إليه:
شَهِدْتُ لقَدْ أَقَوَتْ مَغَانيكُمُ بَعْدِي ... وَمَحَّتْ كما مَحَّتْ وشائِعُ مِن بُرْدِ
وَأَنْجَدْتُمُ مِنْ بَعْدِ إِتْهَامِ دَارِكمفيا دَمْعُ أَنْجِدْني عَلَى سَاكِني نَجْدِ
ثم مر فيها حتى بلغ إلى قوله في الاعتذار:
أَتانِي مَعَ الرُّكْبانِ ظَنٌّ ظَنَنْتُهُ ... لَفَفْتُ لَهْ رَأسي حَيَاءً مِنَ المَجْدِ
لقَدْ نَكَبَ الغَدْرُ الوفَاءَ بساحَتيِ ... إِذَنْ، وسَرَحْتُ الذَّمَّ في مَسْرَحِ الحمدِ
جَحَدْتُ إذَنْ كم مِن يدٍ لَكَ شَاكلتْيدَ القُرْبِ أَعْدَتْ مُستَهَاماً عَلَى البُعْدِ
وَمِن زَمَنٍ أَلبسْتَنيهِ كأَنهُ ... إذَا ذُكِرَتْ أَيامُهُ زَمَنُ الوَرْدِ
وكيفَ وَمَا أَخْلَلتُ بعدَك بالحِجَي ... وأنتَ فلم تُخْلِلْ بمَكْرمُةٍ بَعْدِي
أُسَرْبِلُ هُجْرَ القَوْلِ مَنْ لو هَجَوْتُهُ ... إِذَنْ لهجانِي عنهُ معروُفُه عِنْدي؟
كَريمٌ متى أَمدحْهُ أَمدَحْهُ وَالْوَرَى ... معي، ومتَى مَا لُمْتُهُ لُمْتُهُ وَحْدِي
فإِنْ يكُ جُرْمٌ عَنَّ أَوْ تَكُ هَفْوَةٌ ... عَلَى خَطإٍ مِنِّي فَعُذْرِي عَلَى عَمْدِ
فقال أبو العباس محمد ين يزيد: ما سمعت أحسن من هذا قط، ما يهضم هذا الرجل حقه إلا أحد رجلين: إما جاهل بعلم الشعر ومعرفة الكلام، وإما عالم لم يتبحر شعره ولم يسمعه. قال أبو العباس عبد الله بن المعتز: وما مات إلا وهو منتقل عن جميع ما كان يقوله، مقر بفضل أبي تمامٍ وإحسانه.
أما قوله:
أَأُلبِسُ هُجْرَ القَوْلِ مَنْ لو هَجَوْتُهُ ... إِذَنْ لَهَجَانِي عَنْهُ معروفُه عِندي
فهو منقول من شعرٍ حسنٍ لا يفضله شعر.

حدثني محمد بن زكريا الغلابي قال، حدثني عبيد الله بن الضحاك عن الهيثم بن عديٍ عن عوانة قال: أتى الحجاج بجماعةٍ من الخوارج من أصحاب قطريٍ، وفيهم رجلٌ كان له صديقاً، فأمر بقتلهم، وعفا عن ذلك الرجل ووصله وخلى سبيله، فمضى إلى قطري فقال له قطري: عاود قتال عدو الله الحجاج، فقال: هيهات! غل يداً مطلقها، واسترق رقبةً معتقها، ثم قال:
أَأُقَاتِلُ الحجَّاحَ عَنْ سُلْطَانِهِ ... بِيَدٍ تُقِرُّ بأَنَّهَا مَوْلاَتُهُ
إِنِّي إِذَنْ لأَخُو الدَّناءَةِ والذي ... عَفَّتْ عَلَى إحْسَانِهِ جَهَلاَته
مَاذَا أَقُولُ إذَا وَقفْتُ إزَاءَهُ ... في الصَّفِّ واحْتَجّتْ لَهُ فَعَلاَتُهُ؟
أَأَقُولُ جَارَ عَلَىَّ؟ لا، إِنِّي إِذَنْ ... لأَحَقُّ مَنْ جَارَتْ عَليْهِ وُلاَتُهُ
ويُحَدِّثُ الأَقْوامُ أَنّ صَنِيعَةً ... غُرِسَتْ لَدَىَّ فَحَنْظَلَتْ نَخَلاَتُهُ؟
هَذَا وَما طِبِّي بجُبْنٍ إِنَّني ... فيكُمْ لِمطْرَقُ مَشْهَدٍ وَعَلاَتُهُ
وجدت بخط أحمد بن إسماعيل بن الخصيب أن محمد بن عبد الملك أوصل إلى الواثق قصيدةً لأبي تمامٍ يمدحه بها أولها:
وَأَبِى المَنازِلِ إِنَّهَا لَشُجُونُ ... وَعَلَى الْعُجُومَةِ إِنّهَا لَتُبِينُ
فقرئت عليه، فلما بلغ إلى قوله:
جَاءَتْكَ من نظْمِ الِّلسانِ قِلاَدةٌ ... سِمْطاَنِ فيهَا الُّلؤلُؤ المكْنُونُ
حُذَيِتْ حِذَاءَ الحَضْرَمِيَّةِ أُرْهِفَتْ ... وأَجابَها التَّخْصِيرُ وَالتّلْسِينُ
إنْسِيَّةٌ وَحْشِيَّة كَثُرَتْ بَها ... حَرَكاتُ أَهْلِ الأرضِ وَهْيَ سَكون
أمَّا المعانيِ فهْيَ أَبْكارٌ إِذَا ... نُصَّتْ وَلَكنَّ الْقَوَافِيَ عُونُ
أَحْذَاكَهَا صَنَعُ الضّمِيرِ يَمُدُّهُ ... جَفْرٌ إذَا نَضَبَ الكلاَمُ مَعِينُ
وَيُسِئُ بَالإحسَانِ ظَنّاً لا كَمَنْ ... هُوَ بِابْنِهِ وبِشِعْرِهِ مَفْتُون
يَرْمِى بهِمِتَّهِ إلَيْكَ وَهَمِّهِ ... أَمَلٌ لهُ أَبداً عَلَيْكَ حَرُون
وَلَعلَّ مَا يَرْجُوهُ مِمَّا لمْ يَكنْ ... بِكَ عَاجِلاً أَوْ آجِلاً سَيَكونُ
فقال: ادفع إليه مائتي دينارٍ، فقال محمد: إنه قوى الأمل واسع الشكر، قال: فأضعفها له. وقد روينا من غير هذه الجهة أنه أمر له بمائة ألف درهمٍ.
وأنشدني محمد بن داود لأبي تمامٍ في آل وهبٍ ما أستحسنه:
كلُّ شِعْبٍ كنتُمْ به آلَ وَهْبٍ ... فَهْوَ شِعْبي وَشِعْبُ كلِّ أَدِيبِ
إِنَّ قَلْبي لكُمْ لكَاْلكَبِدِ الحَرَّ ... ى وقَلْبي لِغَيْركمُ كالقُلوبِ
ولو كان هذا البيت الثاني في مدح آل الرسول - عليهم السلام - والتفجع لما نالهم يوم كربلاء وبعده، لكان فيه أشعر الناس.
وقد روى مسعود بن عيسى قال، حدثني صالح غلام أبي تمام، المنشد كان لشعر أبي تمام، وكان حسن الوجه، قال: دخل أبو تمامٍ على الحسن بن وهبٍ، وأنا معه، وعلى رأسه جاريةٌ ظريفةٌ فأومأ إليها الحسن يغريها بأبي تمامٍ، فقالت:
يَا ابْنَ أَوْسٍ أَشْبَهْتَ في الفِسْقِ أَوْسَاوَاتَّخَذْتَ الغُلاَمَ إِلْفاً وَعِرْسَا
فقال أبو تمام:
أَبَرَقْتِ ليِ إذ لَيْسَ لِي بَرْقُ ... فتَزَحْزَحِي مَا عِنْدَنَا عِشق
مَا كُنْتُ أَفْسُقُ وَالشَّبَابُ أَخِي ... أَفَحِينَ شِبْتُ يَجْوزُ لِي الفِسْقُ؟
لِي هِمَّةٌ عَنْ ذَاكَ تَرْدَعْنِي ... وَمُرَكَّبٌ مَا خَانَهُ عِرْقُ

أخبار أبي تمام مع آل طاهر بن الحسين
حدثنا محمد بن إسحاق النحوي قال، حدثنا أبو العيناء عن علي بن محمد الجرجاني قال: اجتمعنا بباب عبد الله بن طاهر من بين شاعر وزائرٍ، ومعنا أبو تمام، فحجبنا أياماً، فكتب إليه أبو تمام:
أَيَّهذا العزيزُ قد مَسَّنَا الضُّرُّ ... جميعاً وَأهْلُناَ أشْتَاتُ
ولنَا في الرِّحَال شيخٌ كبيرٌ ... وَلَدَيْنا بِضَاعَةٌ مُزْجَاةُ

قَلَّ طُلاَّبُهَا فأَضْحَتْ خَسَاراً ... فَتِجَارَاتُنا بهَا تُرَّهَاتُ
فاحْتَسِبْ أَجْرَنَا وَأَوْفِ لنَا الكَيْلَ ... وَصَدِّقْ فإِنَّنا أَمْوَاتْ
فضحك عبد الله لما قرأ الشعر، وقال: قولوا لأبي تمام لا تعاود مثل هذا الشعر، فإن القرآن أجل من أن يستعار شيء من ألفاظه للشعر، قال: ووجد عليه.
حدثنا أبو عبد الله محمد بن موسى الرازي قال، حدثني محمد بن إسحاق الختلي، وكان يتوكل لعبد الله بن طاهر، قال: لما قدم أبو تمامٍ على عبد الله بن طاهر أمر له بشيءٍ لم يرضه ففرقه، فغضب عليه لاستقلاله ما أعطاه، وتفريقه إياه، فشكا أبو تمام ذلك إلى أبي العميثل شاعر آل طاهر، وأخص الناس بهم، فدخل على عبد الله بن طاهر فقال له: أيها الأمير، أتغضب على من حمل إليك أمله من العراق، وكد فيك جسمه وفكره، ومن يقول فيك:
يقُولُ في قُومَسٍ صَحْبي وَقدْ أَخَذَتْ ... مِنَّا السُّرَى وخُطَى المَهْرِيَّةِ القُودِ
أَمَطْلِعَ الشّمْسِ تَنْوِي أَنْ تَؤُمَّ بنَا؟ ... فَقُلتُ: كلاّ، ولكنْ مَطْلِعَ الجُودِ
قال: فدعا به ونادمه يومه ذلك، وخلع عليه، ووهب له ألف دينار وخاتما كان في يده له قدر.
حدثني أبو عبد الله محمد بن طاهر قال: لما دخل أبو تمامٍ أبرشهر، هوى بها مغنيةً كانت تغنى بالفارسية، وكانت حاذقةً طيبة الصوت، فكان عبد الله كلما سأل عنه أخبر أنه عندها، فنقص عنده، قال: وفيها يقول أبو تمام:
أَيَا سَهَرِي بَليْلةِ أَبْرَشَهْرٍ ... ذَمَمْتَ إليَّ يَوْماً في سِوَاهَا
شَكَرْتكِ لَيْلةً حسْنَتْ وَطَابَتْ ... أَقَامَ سُرُورُهَا ومَضَى كَراهَا
إذَا وَهَدَاتُ أَرْضٍ كانَ فِيهَا ... رِضَاكِ فَلاَ تَحِنَّ إلَى رُباهَا
سَمِعْتُ بهَا غِنَاءً كانَ أَحْرَى ... بِأَنْ يَقْتَادَ نَفْسِي مِنْ غِنَاهَا
ومُسْمِعَةٍ تَقُوتُ السَّمْعَ حُسْناً ... وَلَمْ تُصْمِمْهُ لاَ يُصَمْم صَداهَا
مَرَتْ أَوْتَارَهَا فَشَجَتْ وَشَاقَتْ ... فَلَوْ يَسْطيعُ سَامِعُهَا فَدَاهَا
وَلَمْ أَفْهَمْ مَعَايِنَهَا وَلكِنْ ... وَرَت كَبِدِي فَلمْ أَجْهَلْ شَجَاهَا
فَبِتُّ كأنَّنِي أَعْمَى مُعَنًّى ... يُحِبُّ الغَانِيَاتِ وَمَا يَرَاهَا
وقد أحسن أبو تمام في هذه الأبيات، على أن الحسين بن الضحاك قد قال، ورواه قوم لأبي نواس ولا أعلمه له، ولكن أبا جعفرٍ المهلبي أنشدنيه للحسين، وقد سمع فارسياً يغني:
وصَوْتٍ لبني الأحْرَا ... رِ أهلِ السِّيرَةِ الحُسْنَى
شَجِىٍ يأكُلُ الأَوْتَا ... رَ حَتَّى كُلُّها يَفْنَى
فما أَدْرِي اليَدُ اليُسْرَى ... بِهِ أَشْقَى أَمِ اليُمْنَى؟
وما أَفْهِمُ ما يَعْني ... مُغَنِّينَا إِذَا غَنَّى
سِوَى أَنِّىَ مِنْ حُبِّى ... له أَسْتَحْسِنُ المعْنَى
ويروى: - أنِّىَ من عُجْبي به - وأول من نطق بهذا المعنى وزعم أن أعجمياً شاقه وشجاه حميد بن ثور، إلا أنه وصف صوت حمامةٍ:
عجبْتُ لها أَنَّي يكونُ غِناؤُهَا ... فَصِيحاً ولم تَفْغَرْ بمنطِقِهَا فَمَا!
ولمْ أَرَ مَحْقُوراً لهُ مثلُ صَوْتِهَا ... أَحَنَّ وَ أجْوَى للحزيِنِ وأَكْلَمَا
ولَمْ أَرَ مِثْلِي هَاجَهُ اليَوْمَ مِثْلهُا ... ولاَ عَرَبِياًّ شَاقَهُ صَوْتُ أعْجَمَا
وأما قوله:
ومُسْمِعَةٍ تَقُوتُ السَّمعَ حُسْناً
فهو من قولهم: الغناء غذاء الاسماع، كما أن الطعام غذاء الأبدان.
حدثني محمد بن سعيد وغيره عن حماد بن إسحاق قال: كان مروان بن أبي حفصة يجيء إلى جدي إبراهيم، فإذا تغدى قال: قد أطعمتمونا طيباً، فأطعموا آذاننا حسناً.
وقال ابن أبي طاهر: قلت لأبي تمام: أعنيت بقولك أحداً:
فبتُّ كأنّنِي أَعْمَى مُعَنًّى ... يُحِبُّ الغانياتِ وما يَرَاها
فقال: نعم، عنيت بشار بن برد الضرير، قال: وأنا أحسبه أراد قوله:

يا قَوْمِ أُذْنِي لِبَعْضِ الحيِّ عَاشِقَةٌوالأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ العَيْنِ أَحْيَانا
قَالُوا: بِمَنْ لاَ تَرَى تَهْذِي؟ فَقُلتُ لَهُمْ:الأُذْنُ كاَلْعَيْنِ تُوفي القَلبَ مَا كانَا
حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال: مات ابنان صغيران لعبد الله بن طاهر في يومٍ واحد، فدخل عليه أبو تمامٍ فأنشده:
ما زَالَتِ الأيَّامُ تُخبرُ سَائِلاَ ... أَنْ سَوْفَ تَفْجَعُ مُسْهِلاً أو عَاقِلاَ
فلما بلغ إلى قوله:
مجدٌ تأَوَّبَ طَارِقاً حتَّى إذَا ... قُلنَا أَقَامَ الدهْرَ أصبحَ راحِلاَ
نَجْمانِ شاءَ اللهُ أَلاَّ يَطْلُعَا ... إلاَّ ارْتِدَادَ الطَّرْفِ حتَّى يأْفِلاَ
إِنّ الفجيعَةَ بالرِّياضِ نَوَاضِراً ... لأَجَلُّ مِنْها بالرِّيَاضِ ذَوَابِلاَ
لَوْ يَنْشَآنِ لكانَ هذا غارباً ... لِلْمَكْرُمَاتِ وكانَ هذا كاهِلاَ
كذا أنشده، وكذا ينشده الناس، والذي أقرأنيه أبو مالك عون بن محمد الكندي، وقال: قرأته على أبي تمام - لو يُنْسآنِ - أي: لو يؤخران، وهو الأجود عندي.
لَهْفَى عَلَى تِلْكَ المخَائِلِ فيِهمَا ... لو أُمْهِلَتْ حتَّى تكونَ شَمائِلاَ
لَغَدَا سُكُونُهمُاَ حِجًى وَصِبَاهُما ... كَرَماً وتِلْكَ الأرْيحيَّةُ نائِلاَ
إن الهِلاَلَ إذَا رأيتَ نُمُوَّهُ ... أَيْقَنتَ أَنْ سَيَصيرُ بدْراً كامِلاَ
كذا أنشد والصحيح - وصباهما حلما - وهو أجود من جهات، واحدةٍ: لأن - نائلاً - قد ناب عن الكرم، فيجئُ بالحلم ليجمع أصناف المدح. والأخرى: أن الحلم أحسن جواراً للحجي وهو العقل من الكرم. والأخرى: أنه جعل سكونهما حجيً أي عقلاً، وأريحيتهما نائلاً، فيجب أن يكون الصبا حلماً، حتى لا يكون تلك الفعلة إلا الحلم.
وإن أنصف من يقرأ هذا وأشباهه من تفسيرنا، علم أن أحداً لم يستقل بمثله، ولا علم حقيقة الكلام كما علمناه، إلا أن يتعلمه من هذه الجهة متعلم ذكي فهم فيبلغ فيه. وهذا دليل على حذق أبي تمام، وجهل الناس في الرواية، وهذا داءٌ قديمٌ. قال جرير لبعض الرواة: أسألك بالله من أشعر عندك: أنا أو الفرزدق؟ فقال: والله لأصدقك، أما عند خواص الناس وعلمائهم فهو أشعر منك، وأما عند عامة الناس ودهمائهم فإنك أشعر. فقال: غلبته ورب الكعبة وتقدمته، متى يقع الخاص من العام؟.
قال: فلما سمع هذا عبد الله، وكان يتعنته كثيراً، قال: قد أحسنت ولكنك تؤسفني وليس تعزيني، فلما قال:
قُل للأميِر وإنْ لَقيتَ مُوَقَّراً ... مِنْه برَيْبِ الحادِثاتِ حُلاَحِلاَ
إنْ تُرْزَ فيِ طَرَفَيْ نَهَارٍ واحدٍ ... رُزْءَيْنِ هاجَا لَوْعَةً وَبَلاَبِلاَ
فالثَّقْلُ لَيْسَ مُضَاعَفاً لِمطيَّةٍ ... إِلاّ إذا مَا كانَ وَهْماً بازِلاَ
شَمَخَتْ خِلاَلُكَ أَنْ يُؤَسِّيَكَ امْرُؤٌأَوْ أَنْ تُذَكَّرَ نَاسِياً أَوْ غَافِلاَ
إلاَّ مَوَاعِظَ قَادَهَا لَكَ سَمْحَةً ... إِسْجَاحُ لُبِّكَ سَامِعاً أَوْ قاَئِلاَ
قال: الآن عزيت، وأمر فكتبت القصيدة ووصله.
وهذا فإنما احتذى به أبو تمام قول الفرزدق، وقد ماتت له جارية نفساء، فوجد في بطنها صبي ميت:
وَجفْنِ سِلاَحٍ قد رُزِئْتُ فلمْ أَنُحْ ... عَليِه ولم أبْعَثْ عليهِ البَواكِيا
وفي جَوْفهِ من دَارِمٍ ذُو حفيِظةٍ ... لَو أنّ المنَايا أَنْسَأَتهُ لَياليَا!
وليس كلام أحسن من قوله: - وجفن سلاح قد رزئت - وتشبيهه هذا.
حدثني أبو بكر عبد الرحمن بن أحمد قال: سمعت أبا علي الحسين يقول: ما كان أحد أشعف بشعر أبي تمام من إسحاق بن إبراهيم المصعبي، وكان يعطيه عطاءً كثيراً.

حدثنا أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى قال، حدثني أبي قال: دخل أبو تمام على إسحاق بن إبراهيم، فأنشده مدحاً له وجاء إسحاق بن إبراهيم الموصلي إلى إسحاق مسلما عليه، فلما استؤذن له، قال له أبو تمام: حاجتي أيها الأمير أن تأمر إسحاق أن يستمع بعض قصائدي فيك، فلما دخل قال له ذلك، فجلس وأنشده عدة قصائد، فأقبل إسحاق على أبي تمام فقال: أنت شاعر مجيد محسن كثير الاتكاءِ على نفسك، يريد أنه يعمل المعاني. وكان إسحاق شديد العصبية للأوائل، كثير الاتباع لهم.
ويروي أن عبد الله بن طاهر حجبه فكتب إليه:
صَبْراً عَلَى المَطْلِ مَالَم يَتْلُهُ الكَذِبُ ... ولِلْخُطُوبِ إِذا سَامَحْتَها عُقَبُ
عَلَى المقادِيرِ لَوْمٌ إِنْ رُمِيتَ بهَا ... مِنْ قَادرٍ وَعَلي السَّعيُ وَالطَّلَبُ
يَأَيُّهَا المِلكُ النَّائِي برُؤْيَتهِ ... وَجوُدُهُ لمُرَاعِي جودِهِ كَثَبُ
لَيْسَ الحجَابُ بِمُقْصٍ عنْكَ لي أَمَلاً ... إِن السَّماءَ تُرَجَّى حِينَ تَحْتَجِب
ويروى أنه كتب بها إلى أبي دلف، وقيل إلى ابن أبي دؤاد، وقيل في إسحاق.
حدثني أحمد بن محمد البصري قال، حدثني فضل اليزيدي قال: لما صار أبو تمام إلى خراسان لمدح عبد الله بن طاهر كرهها، وأقبل الشتاء، فاشتد عليه أمر البرد، فقال يذم الشتاء ويمدح الصيف:
لم يَبْقَ للصيَّفِ لا رَسْمٌ ولا طَلَلُ ... وَلاَ قَشِيبٌ فيُسَكْسَى وَلاَ سَمَلُ
عَدْلاً مِنَ الدَّمْعِ أنْ يَبْكي المَصِيفَ كمايُبْكَي الشَّبَابُ ويُبْكَي الَّلهْوُ وَالغَزَلُ
يُمْنَى الزَّمَانِ طَوَتْ مَعْرُوفَهَا وَغَدَتْيُسْرَاهُ وَهْيَ لَنا مِنْ بَعْدِهِ بَدَلُ
وهي قصيدة سنذكرها في شعره، فبلغ شعره عبد الله بن طاهر، فعجل جائزته وصرفه.
حدثني أحمد بن إسماعيل بن الخصيب قال، حدثني عبد الله بن أحمد النيسابوري، وكان أديباً شاعراً، قال: استبطأ أبو تمامٍ صلة عبد الله بن طاهر، فكتب إلى أبي العميثل شاعر عبد الله، وكان دفع إليه رقعةً ليوصلها إلى عبد الله:
لَيْتَ الظِّبَاءَ أَبَا العَمَيْثَلِ خَبَّرَتْ ... خَبَراً يُرَوِّى صَادِيَاتِ الْهَامِ
إِنّ الأَمِيَر إذا الحَوَادِثُ أَظْلَمَتْ ... نُورُ الزَّمَانِ وَحِليَةُ الإِسْلاَمِ
واللهِ مَا يَدْرِي بِأَيَّةِ حَالَةٍ ... يُثْنِي مُجَاوِرُهُ عَلَى الأَيَّامِ
ألِمَا يُجَامِعُهُ لَدَيْهِ مِنَ الْغِنَى ... أَمْ مَا يُفَارِقُهُ مِنَ الإِعْدَامِ؟
وَأَرَى الصَّحِيفَةَ قَدْ عَلَتْهَا فَتْرَةٌفَتَرَتْ لَهَا الأَرْوَاحُ في الأَجْسَامِ
إنَّ الجِيَاد إذا عَلَتْهَا صَنْعَةٌ ... رَاقَتْ ذَوِي الآدَابِ وَالأَفْهَامِ
لِتَزَيُّدِ الأَبصَارِ فِيهَا فُسْحَةٌ ... وَتَأَمُّلٌ بإشَارَةِ القُوَّامِ
لَوْلاَ الأَمِيرُ وَأَنَّ حَاكِمَ رَأيِهِ ... في الشِّعْرِ أَصْبَحَ أَعْدَلَ الحُكّامِ
لَثَكِلْتُ آمَالِي لَدَيْهِ بأَسْرهَا ... ولكَانَ إِنْشَادِي خَفِير كلاَمي
وَلَخِفْتُ في تَفَرِيِقِهِ مَا بَيْنَنَا ... مَا قِيلَ في عَمْروٍ وفيِ الصَّمْصَامِ
فكتب إليه أبو العميثل:
أَفْهَمْتَنَا فَنَقَعْتَ باِلإفْهامِ ... فَاسْمَعْ جَوَابَكَ يَا أَبَا تَمامِ
إنّ الظِّبَاءَ سَنِيحُهَا كبَرِيِحهَا ... في جَهْلِهَا بِتَصَرُّفِ الأقوَامِ
جَفَّتْ بِأَيَّامِ الفَتَى وَبِرِزْقِهِ ... في اللَّوْحِ قَبْلُ سَوَابِقُ الأقْلاَمِ
قَدْ كُنْتُ حَاضِرَ كُلِّ مَا حَبَّرْتَهُ ... مِنْ مَنْطِقٍ مُسْتَحْكَمِ الإِبْرَامِ
فِيهِ لَطَائِفُ مِنْ قَريِضٍ مُونِقٍ ... نَطَقَتْ بِذَلِكَ أَلْسُنُ الْحُكَّامِ
مُلْسُ المتُونِ لَدى السَّماعِ كأنَّهَا ... لَمْساً ومَنْظَرَةً مُتُونُ سِلاَمِ

وَشَهِدْتُ مَا قَالَ الأميرُ بِعَقْبِهِ ... مِنْ أَنَّهُ عَسَلٌ بِمَاءِ غَمَامِ
وشَهِدْتُ أَجْمَلَ محضَرٍ من مَعْشَرٍ ... مَنَحُوا كريمَ القَوْلِ نَجْلَ كِرَامِ
فَعَلَيْكَ مَحْمُودَ الأَنَاءَةِ، إِنَّهَا ... وَالنُّجْحَ في قَرَنٍ على الأيَّامِ
وَذَكرْتَ عَمْراً قبْلَنَا وَفِرَاقَهُ ... صَمْصَامةَ النَّجَدَاتِ وَالإِقْدَامِ
وَاللهُ يَنْظِمُنَا بِعِزَّ أَميرِنَا ... وَطَوَالِ مُدَّتِهِ أَتَمَّ نِظَامِ
وله في مقامه بخرسان وتكرهه إياها أشعاراً سنذكرها في شعره إن شاء الله.

أخبار أبي تمام مع أبي سعيد الثغري
أبي سعيد محمد بن يوسف الثغري
الطائي الحميدي
حدثني عبد الله بن الحسين بن سعد قال، حدثني البحتري قال: أبو سعيدٍ الثغري طائي من أهل مرو، وكان من قواد حميدٍ الطوسي، ومن أول شعرٍ مدحه به أبو تمام قوله:
مِنْ سَجَايا الطُّلُولِ ألاّ تُجِيبَا ... فَصَوَابٌ منْ مُقْلَتِي أَنْ تَصُوبَا
قال: وما أخذ أبو تمام من أحدٍ كما أخذ منه، ليس أنه كان يكثر له، ولكن كان يديم ما يعطيه.
حدثني عبد الرحمن بن أحمد بن الوليد قال، حدثني أبو أحمد محمد بن موسى بن حماد البربري قال، حدثني صالح بن محمد الهاشمي قال: دخلت على أبي سعيدٍ الثغري فأخرج لي كتاباً من أبي تمام إليه، ففتحته فإذا فيه:
إِنِّي أَتَتْنِي مِنْ لَدُنْكَ صَحِيفَةٌ ... غَلَبَتْ هُمُومَ الصَّدْرِ وَهْيَ غَوَالِبُ
وَطَلَبْتَ وُدِّي والتَّنَائِفُ بَيْنَنَا ... فَنَدَاكَ مَطْلُوبٌ وَمَجْدُكَ طَالِبُ
وذكر أبياتاً سنذكرها في شعره تماماً لهذا، ثم قال لي: كتبت إلى أبي تمامٍ كتاباً، وقرنته ببرٍ له، فجعل جوابه هذا الشعر، ولم يخاطبني بحرفٍ سواه.
حدثني عون بن محمد قال: قدم على أبي تمامٍ رجل من إخوانه، وكان قد بلغه أنه قد أفاد وأثرى، فجاءه يستميحه، فقال له أبو تمام: لو جمعت ما آخذ ما احتجت إلى أحدٍ، ولكني آخذ وأُنفق، وسأحتال لك، فكتب إلى أبي سعيد بقصيدة منها:
لاَ زِلْتَ مِنْ شُكْرِي في حُلَّةٍ ... لاَبِسُها في سَلَبٍ فَاخِرِ
يَقُولُ مَنْ تَقْرَعُ أَسْماعَهُ ... كَم تَرَكَ الأوَّلُ لِلآخِرِ
لي صَاحِبٌ قَدْ كانَ لي مُؤْنِساً ... وَمَألَفاً في الزَّمَنِ الغَابرِ
تَحْمِلُ مِنْهُ العِيسُ أُعْجُوبَةً ... تُجَدِّدُ السِّخْريَّ للِسَّاخرِ
ذَا ثَرْوَةٍ يَطْلُبُ مِنْ سَائلٍ ... وَمُفْحَماً يَأخُذُ مِنْ شَاعِرِ!
فَصَادَفتْ مَالِي بِإقْبَالِهِ ... مَنِيَّةٌ مِنْ أَملٍ عَائِرِ
فَشَارِكِ المقمُورَ فِيهِ وَلاَ ... تَكُنْ شَريِكَ الرَّجُلِ القَامِرِ
فَرِفْدُكَ الزَّائرِ مَجْدٌ وَلاَ ... كَرِفْدِكَ الزَّائِرَ للِزَّائِرِ
فوجه لأبي تمامٍ بثلثمائة دينارٍ، وللزائر بمائتي دينارٍ، قال: فأعطاه أبو تمامٍ خمسين ديناراً حتى شاطره.
أخبار أبي تمام مع أحمد بن المعتصم
حدثني محمد بن يحيى بن أبي عباد قال، حدثني أبي قال، شهدت أبا تمامٍ ينشد أحمد بن المعتصم قصيدته التي مدحه بها:
مَا في وُقُوفِكَ سَاعَةً مِنْ بَاسِ ... تَقْضِي ذِمامَ الأَرْبُعِ الأَدْرَاسِ
فَلَعَلَّ عَيْنَكَ أنْ تُعِينَ بِمَائِهَا ... وَالدَّمْعُ مِنهُ خَاذِلٌ وَمْوَاسِي
والناس يروون هذا - أن تعين بمائها - وهو تصحيف، فلما قال:
أَبْليَتَ هذَا المَجْدَ أَبْعَدَ غَايَةٍ ... فِيهِ وَأَكرَمَ شِيمةٍ ونِحَاسِ
إِقْدَامَ عَمْروٍ في سَماحَةِ حَاتِمٍ ... في حِلْمِ أَحْنَفَ في ذَكَاءِ إِيَاسِ
قال له الكندي، وكان حاضراً وأراد الطعن عليه: الأمير فوق من وصفت، فأطرق قليلاً، ثم زاد في القصيدة بيتين لم يكونا فيها:
لاَ تُنْكِروُا ضَرْبِي لَهُ مَنْ دُونَهُ ... مَثَلاً شَروُداً في النَّدَى وَالبَاسِ

فالله قد ضَرَبَ الأَقَلَّ لِنُورِهِ ... مَثَلاً منَ المِشْكَاةِ وَالنِّبْرَاسِ
قال: فعجبنا من سرعته وفطنته، وقد روى هذا الخبر على خلاف هذا، وليس بشيءٍ، وهذا هو الصحيح.
ويروى أنه عيب عليه قوله، وقد أنشد هذه القصيدة التي فيها:
شَابَ رَأْسِي وَما رَأيت مُشَيِبَ الرَّ ... أْسِ إلاّ من فَضْلِ شَيْبِ الفُؤَادِ
فزاد فيها من لحظته:
وكَذَاكَ الْقُلوُبُ في كلِّ بُؤسٍ ... وَنَعيِمٍ طَلاَئِعُ الأجْسَادِ
حدثني أحمد بن إسماعيل قال: حدثني عبد الله بن الحسين ولست أدري من عبد الله هذا قال: سمعت أبا تمام ينشد أحمد بن المعتصم في علةٍ اعتلها:
أَقْلَقَ جَفْنَ العَيْنَيْنِ عَنْ غُمُضِهْ ... وَشَدَّ هَذَا الحَشَا عَلَى مَضَضِهْ
شَجىً بَما عَنَّ لِلأَميِر أبي ال ... عَبَّاسِ أَمسْىَ نَصْباً لِمعْتَرِضِهْ
منْ الآُلَى نَسْتَجِيرُ منْ شَرَقِ الدّهْ ... رِ بِهمْ إنْ أَلَمَّ أوْ جَرضَهْ
صَاغَهُمْ ذُو الجلاَلِ مِنْ جَوْهَرِ المَجْ ... دِ وَصاغَ الأَنامَ مِنْ عَرَضِهْ
سَهْمٌ مِنَ المُلكِ لاَ يُضَيِّعُهُ ... بَارِيهِ حَتَّى يَهْتَزَّ في غَرَضِهْ
وهذه من أحسن كنايةٍ في التعريض بالخلافة:
صِحَّتُهُ صِحَّةُ الرَّجَاءِ لَنا ... في حِينِ مُلْتَاثهِ وَمُنْتَقَضِهْ
فإنْ نَجِدْ عِلةً نُعَمَّ بهَا ... حتَّى كأَنَّا نُعَادُ مِنْ مَرَضِهْ
فقال له أحمد بن المعتصم: ما أبين العلة عليك! فقال: إنها علةُ قلبٍ تميت الخاطر، وتسد الناظر، وتبلد الماهر!.

أخبار أبي تمام مع مخلد بن بكار الموصلي
حدثني أحمد بن إبراهيم قال، حدثني بدر غلام مخلد قال: دخل أبو تمام الحمام ومخلد فيه، وإذا عليه شعر كثير، كأنه قد ألبس مسحاً، فقال له أبو تمام: ما هذا؟! قال: حذراً من لسانك أن ينسبني إلى البغاء.
حدثني أبو سليمان النابلسي قال، قيل لأبي تمام: قد هجاك مخلد، فلو هجوته؟ قال: الهجاء يرفع منه، قيل: أليس هو شاعراً؟ قال: لو كان شاعراً ما كان من الموصل. يعني أن الموصل لم تخرج شاعراً. قال أبو سليمان: وأصل مخلد من الرحبة ثم أقام بالموصل.
حدثني أحمد بن محمد البصري، غلام خالدٍ الحذاء الشاعر وراويته قال، حدثني الخليع الشاعر القرشي قال: كان أول شعر هجا به مخلد أبا تمام قوله:
أنت عندي عربيُّ ... الأَصْلِ ما فيكَ كلامُ
عربيُّ عربيُّ ... أَجَإِيٌّ ما تُرامُ
شَعْر فَخْذَيْكَ وساقَيْكَ ... خُزَامَي وثُمَامُ
وضلُوعُ الشِّلوْ مِنْ صَدْ ... رِكَ نبعٌ وبَشَامُ
وَقَذَى عينيْكَ صَمْغٌ ... وَنَواصِيكَ ثَغَامُ
لو تحركْتَ كذا لانْ ... جَفَلَتْ منكَ نَعامُ
وظِبَاءٌ مُخْصِبَاتٌ ... ويَرَابِيعُ عِظَامُ
أنَا ما ذنْبَي إِنْ خَا ... لفَنَي فيكَ الأَنَامُ؟
وَأَتَتْ مِنكَ سَجايَا ... نَبَطِيَّاتٌ لِئَامُ
وَقَفاً يَحْلِفُ أَنْ مَا ... عَرَّقَتْ فِيكَ الكِرَامُ
ثُمَّ قَالُوا: جَاسِمِيٌّ ... مِنْ بَنِي الأَنْبَاطِ خَامُ
كَذَبُوا، مَا أنْتَ إلاَّ ... عَرَبيٌّ مَا تُضَامُ
بَيْتُهُ مَا بَينَ سَلْمَى ... وَحَوَالَيْهِ سِلاَمُ
وَلَهُ مِنْ إِرْثِ آبا ... ءٍ قِسِىٌّ وَسِهَامُ
وَنَخِيلٌ بَاسِقَاتٌ ... قَدْ دَنَا مِنْهَا صِرَامُ
أَنْتَ عِنْدِي عَرَبيٌّ ... عَربيٌّ وَالسَّلاَمُ
وأنشدني أبو جعفر مولى آل سليمان بن علي لمخلدٍ في أبي تمام:
انْظُرْ إلَيْهِ وَإلَى خُبْثِهِ ... كيفَ تَطَايا وَهْوَ مَنْشُورُ
ثُمَّ عَلَى طَاقٍ شَخِيتِ الْقُوَى ... نِسْبَتُهُ وَالُّلؤْمُ مَضْفُورُ

وَيْلكَ، مَنْ دَلاَّكَ في نِسْبَةٍ ... قَلْبُكَ مِنْهَا الدَّهْرَ مَذْعُورُ
لَوْ ذُكِرَتْ طَاءٌ عَلَى فَرْسَخٍ ... أَظْلَمَ في نَاظرِكَ النُّورُ
وأنشدني أبو سليمان الضرير لمخلدٍ في أبي تمام:
لَوِ امْتَخَطْتَ وَبْرَةً وَضَبَّا ... وَامْتَشَّتْ اليَرْبُوعَ نِيّاً صُلْبَا
وامْتَصَّتَ الحَنْظَلَ غَضّاً رَطْباَ ... وَلَمْ تَذُقْ مَاءً نُقَاخاً عَذْبَا
وَبُلْتَ بَوْلَ جَمَلٍ قَدْ هَبَّا ... ولَمْ تَرُمْ إلاَّ الْجِمَالَ كَسْبَا
ثمَّ قَعَدْتَ الْقُرْفُصَا مُنْكَبَّا ... تَحْكي عرَابيَّ فَلاةٍ قَلْبَا
إِنْ دَخَلَ الإيوَانَ صَاحَ الكرْبَا ... حَتَّى يَحُلَّ جَعْجَعَاناً رَحْبَا
ولَوْ نَكَحْتَ حِمْيَراً وكَلْبَا ... وقَيْسَ عَيْلاَنَ الْكِرَامَ الْغُلْبَا
بِالشَّامِ حَيْثُ زَجْرُهَأ يُلبَّي ... لاَ حَيْثُ أَضْحَى النَّسَبُ الْمُرَبَّي
يُصْبِحُ عَبْداً وَيَرُوحُ رَبَّا ... ثُمَّ اتَّخَذْتَ اللاَّتَ فيِنَا رَبَّا
وَلَمْ تَسَمِّ القُطْنَ إلاّ عُطْبَا ... وَقُلتَ لِلْعَيْرِ الْبَلِيدِ حَوْبَا
مَا كُنْتَ إلاّ نَبَطِياً قَلْبَا ... لَوْ نَقَرَ الصَّخْرَ أَفَاضَ غَرْبَا
حتَّى يُسِيحَ لِلنَّبَاتِ شِرْبَا ... ويُنْبتَ الْحَبَّ بهِ وَالْقَضْبَا
هيَّجْتَ مِنيِّ شَاعِراً أَرَبَّا ... يُدِيُر في حُسَاماً عَضْبَا
مُهنَّداً مَدَّاحَةُ مِسَبَّا ... يَلحَبُ أَعرَاضَ اللِّئَامِ لَحْبَا
وهذا الفن قد سبق مخلد إليه: قال أبو نواسٍ في أبي خالدٍ الفارسي، وخرج إلى البدو شهرين فصار نميريا، وعاد فأنكر الميازيب، فقال: ما هذه الخراطيم التي لا أعرفها؟ فقال فيه أبو نواس:
يَا رَاكبِاً أَقْبَلَ مِنْ ثَهْمَدٍ ... كَيْفَ تَرَكْتَ الإبلَ وَالشِّاءَا؟
وَكيْفَ خَلَّفْتَ لِوَى قَعْنَبٍ ... حَيْثُ تَرَى التَّنُّومَ وَالآءَا
جَاءَ مِنَ البَدْوِ أَبُو خَالدٍ ... وَلَمْ يَزَلْ بِالمصْرِ تَنَّاءَ
يَعْرفُ لِلنَّارِ أَبُو خَالِدٍ ... سِوَى اسْمِهَا في النَّاسِ أَسْمَاءَ
إذَا دَعَا الصَّاحبَ يَهْيَا بِهِ ... وَيُتْبِعُ الْيَهْيَاءَ يَهْيَاءَ
لَوْ كُنْتَ مِنْ فَاكِهةٍ تُشْتَهَى ... لِطيبِهَا كُنت الغُبَيْرَاءَ
لاَ تَعْبُرُ الحَلْقَ إلىَ دَاخِلٍ ... حَتَّى تَحَسَّى فَوْقَها المَاءَ
وقد سبق أبو نواس أيضاً إلى هذا: حدثني مسبح بن حاتم العكلي قال، حدثني يعقوب بن جعفر قال: أمر إسماعيل بن علي لحماد عجردٍ بخمسة آلاف درهمٍ، فمطله بها كاتبه محمد بن نوح، فقال فيه حماد:
قَالَ ابنُ نُوحٍ لي وَقَدْ ... أظْهَرَ بَعْضَ الْغَضَبِ
أَنْتَ الذي نَفَيْتَني ... في الشِّعْرِ عَنْ نُوحٍ أبي؟
فَقْلْتُ: لاَ،لاَ تَرْمِنِي ... مِنْكَ بِمَحْضِ الكَذِبِ
وَيْحَكَ لَمْ أفْعَلْ وإنْ ... كُنْتَ سَقِيمَ الحَسَبِ
لَكنَّنيِ كُنْتُ فَتىً ... عَلاَّمَةً بِالنَّسَبِ
فَقْلْتَ لي: نُوحٌ أبي، ... فقلتُ: جَاوِزْ بِأَبِ
فَلَمْ تُجَاوِزْهُ وَفيِ ... ذَلِكَ بَعْضُ الرِّيَبِ
فَيَا ابنَ نُوحٍ، يَا أَخَا ال ... حِلْسِ، وَيَا ابْنَ القَتَبِ
وَمَنْ نَشَا وَالِدُهُ ... بَيْنَ الرُّبَى وَالكُثُبِ
يَا عَربي يَا عَربِي ... يَا عَربي يَا عَربِي
ولما مات أبو تمام رثاه مخلد بهجاءٍ فقال:
سَقَتْ حَتَارَكَ يَا طَائِيُّ غَادِيَةٌ ... مِنَ المَنِيِّ وَقُطْعَانٌ مِنَ الكَمَرِ

فَنَوْءُ جُرْدَانَ أَشْهَى لاَ أَشُكُّ بِهِإلىَ حَتَارِكَ مِنْ نَوْءَيِنْ مِنْ مَطَرِ
حَرُّ الحُلاَقِ وَبَرْدُ الشِّعْرِ أَتْلَفَهُفَجَاءَهُ المَوْتُ مِنْ حَرٍّ وَمِنْ خَصَرِ
وكان أبو تمام لا يجيب هاجياً له، لأنه كان لا يراه نظيراً ولا يشتغل به.
حدثني أبو العشائر الأزدي الشاعر قال، حدثني أبي قال: قلت لأبي تمام: ويحك قد فضحنا هذا الموصلي بهجائك فأجبه، قال: إن جوابي يرفع منه، وأستدر به سبه، وإذا أمسكت عنه سكتت شقشقته، وما في فضل مع هذا عن مدح من أَجتديه.
وقال فيه مخلد:
يَا نَبِيَّ الله في الشِّعْرِ وَيَا عيَسى بنَ مَرْيَمْ
أََنْتَ مِنْ أَشْعَرِ خَلْقِ اللهِ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ!
وقد هجا أبا تمام من هو أشعر من مخلد: حدثني محمد بن موسى الهاشمي، وأبو الربيع المنقري قالا: عزم أبو تمام على الانحدار إلى البصرة والأهواز لمدح من بهما، فبلغ ذلك عبد الصمد بن المعذل فكتب إليه:
أَنْتَ بينَ اثنَتَينِ تَغْدُو مَعَ النَّا ... سِ وَكِلْتَاهُمَا بِوَجْهٍ مُذَالِ
لَسْتَ تَنْفَكُّ طَالِباُ لِوصَالٍ ... مِنْ حَبِيبٍ أوْ طَالباً لِنَوَالِ
أيُّ مَاءٍ لَماءِ وَجْهِكَ يَبْقَى ... بَعْدَ ذُلِّ الْهَوَى وَذُلِّ السُّؤَالِ؟
فلما قرأ الشعر قال: قد شغل هذا ما يليه، فلا أرب لنا فيه، وأضرب عن عزمه.
وجدت في كتبي: وقال الوليد يهجو أبا تمام، وهي قصيدة اخترت منها:
دَعِ الهِجَاءَ فإِنَّ اللهَ حَرَّمَهُ ... وَاقْصِدْ إلَى الَحقِّ إنَّ الحَقَّ مُتَّسِع
وَاذْكُرْ حَبيبَ بْنَ أَوْشُونَا وَدِعْوَتَهُ ... فإنّ طَيّاً إذَا سُبُّوا بِه جِزَعُوا
إنْ يَقْبَلوُكَ أبَا النُّقْصَانِ يَحْتَقبْواعَاراً وتَخفِضُ منهُمْ كلَّ مَا رَفَعُوا
لَوْ أنَّ عَبْدَ مَنَافٍ في أَرُومِتهِمْ ... تَقَبَّلوُكَ لَمَا ضَرُّوا وَلاَ نَفَعُوا
وَإنْ نَفَوكَ كما يَنفُونَ كَلْبَهُمُ ... عَنِ الصَّمِيمِ أَصَابُوا الحَقَّ وَانْتَفَعُوا
إِنْ يَرْقَعُوا بِكَ خَرْقاً في أَدِيمِهِمِقالَ العِبَادُ جَمِيِعاً: بِئْسَما رَقَعُوا
مِرْبَاعُ قَوْمكَ نَاقُوسٌ وَشَمْعَلةٌفَاذْكُرْ مَرَابِيَعُهمْ فِيهَا إذَا ارْتَبَعُوا
ولَوْ تُنَاطُ بِطَىٍ كُلُّ مُخْزِيَةٍ ... لكُنْتَ أخْزىَ لَهمْ منْهَا إذا اجتْمَعُوا
إِنِّي هَجَوْتُكَ عَنْ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ ... بِأَنَّ شِعْرَكَ قَدْ أَوْدَى بهِ الفَزَعُ
إنّ القُرُومَ إذَا أبْدَتْ شَقَاشِقَهَالِلْهَدْرِ لَمْ يَدْنُ منْ أَعْطَانِهَا الْهُبَعُ

ما روي من معائب أبي تمام
حدثني هارون بن عبد الله المهلبي قال: سئل دعبل عن أبي تمام قال: ثلث شعره سرقة، وثلثه غثٌ، وثلثه صالح.
وقال محمد بن داود، حدثني ابن أبي خيثمة قال، سمعت دعبلاً يقول: لم يكن أبو تمام شاعراً، إنما كان خطيباً، وشعره بالكلام أشبه منه بالشعر، قال: وكان يميل عليه، ولم يدخله في كتابه - كتاب الشعراء - .
وحُكى أن ابن الأعرابي قال، وقد أنشد شعراً لأبي تمام: إن كان هذا شعراً فما قالته العربُ باطلٌ!.
حدثني محمد بن الحسن اليشكري قال: أنشد أبو حاتم السجستاني شعراً لأبي تمام، فاستحسن بعضه واستقبح بعضاً، وجعل الذي يقرؤه يسأله عن معانيه فلا يعرفها أبو حاتم، فقال: ما أشبه شعر هذا الرجل إلا بثيابٍ مصقلاتٍ خلقانٍ، لها روعة وليس لها مفتش.
حدثني القاسم بن إسماعيل قال: كنا عند التوجي، فجاء ابن لأبي رهم السدوسي، فأنشده قصيدةً لأبي تمام يمدح بها خالد بن يزيد أولها:
طَلَلَ الجميعِ لقدْ عَفَوْتَ حَميدَا ... وكفَى عَلَى رُزْئي بذاكَ شَهيِداَ
قال: فجعل يضطرب فيها، وكنت عالما بشعره، فجعلت أقومه، فلما فرغ قال: يا أبا محمد، كيف ترى هذا الشعر؟ فقال: فيه ما أستحسنه، وفيه مالا أعرفه ولم أسمع بمثله، فإما أن يكون هذا الرجل أشعر الناس جميعاً، وإما أن يكون الناس جميعاً أشعر منه!.
وحكى عن ابن مهرويه عن أبي هفان قال، قلت لأبي تمام: تعمد إلى درةٍ فتلقيها في بحر خرءٍ، فمن يخرجها غيرك؟.

حدثني أبو صالح الكاتب قال، سمعت أبا العنبس يقول، وكان جاراً لي: راسل أبو تمام أم البحتري في التزويج بها، فأجابته وقالت له: اجمع الناس للإملاك، فقال: الله أجل من أن يذكر بيننا، ولكن نتماسح ونتسافح، فكان معها بلا نكاح.
وهذا إنما كذبه أبو العنبس، واحتذى به حديثاً حدثه به الكديمي عن الأصمعي قال: جاء أسود وسوداء إلى أبي مهدية فقالا له: قد أردنا التزويج فاخطب لنا، فقال: إن الله أجل من أن يذكر بينكما، فاذهبا فاصطكا لعنكما الله!.
وقال قوم: هو حبيب بن تدوس النصراني، فغير فصير أوساً.
حدثنا جماعة من ابن الدقاق قال، قرأنا على أبي تمام أرجوزة أبي نواس التي مدح بها الفضل ابن الربيع:
وبلدةٍ فيها زَوَرْ
فاستحسنها وقال: سأروض نفسي في عمل نحوها، فجعل يخرج إلى الجنينة، ويشتغل بما يعمله، ويجلس على ماء جارٍ، ثم ينصرف بالعشى، فعمل ذلك ثلاثة أيام، ثم خرق ما عمل وقال: لم أرض ما جاءني.
حدثني أحمد بن سعيد قال، حدثنا محمد بن عمرو قال، قال ابن الخثعمي الشاعر: جن أبو تمامٍ في قوله:
تروحُ علينا كلَّ يومٍ وتَغْتَدي ... خُطوبٌ يكادُ الدَّهرُ منهنَّ يُصرَعُ
أيصرع الدهر؟ قال: فقلت له: هذا بشار يقول:
وما كنتُ إلاَّ كالزمانِ إذا صَحَا ... صَحَوْتُ، وإن ماقَ الزَّمانُ أَمُوقُ
قال: فسكت، قال: فقلت له: وأبوك يقول:
وليَّنَ لي دَهْري بأتباعِ جُودِهِ ... فكِدْتُ لِلِينِ الدهرِ أنْ أعقِدَ الدهْرَا
الدهر يعقد؟ قال: فسكت.
وقال محمد بن عبد الملك بن صالح يهجو أبا تمام:
قد جاءني والمقالُ مختلفٌ ... شعرُ أبي ناقصٍ على بُعُدِهْ
فكانَ كالسَّهمِ صَافَ عن سَدَدِ القْو ... لِ وَعَنْ قَصْدِهِ وعَنْ أَمَدهْ

ما رواه أبو تمام
حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال، حدثني أبو بكر محمد بن إبراهيم بن عتابٍ قال، حدثني أبو تمامٍ الطائي قال: مر الطرماح بمسجد البصرة، وهو يخطر في مشيته، فقال رجل: من هذا الخطار؟ فقال: أنا الذي أقول:
لقد زادني حُبّاً لِنفسَي أنني ... بغيضٌ إلى كلِّ امرئٍ غيرِ طائِلِ
إذا ما رآني قَطَّع الطَّرفَ دُونَه ... ودُونِيَ فِعْلَ العَارفِ المتجاهلِ
ملأتُ عليه الأرضَ حتى كأنّها ... مِن الضِّيقِ في عينينه كِفَّةُ حَابِلِ
حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال، حدثني أبو الفضل أحمد بن أبي طاهرٍ قال، حدثني أبو تمام حبيب بن أوس الطائي قال، حدثنا العطاف بن هارون عن يحيى بن حمزة قاضي دمشق - وكان فيمن تولى قتل الوليد بن يزيد - قال: إني لفي مجلس يزيد بن الوليد الناقص، إذ حدثه فكذبه، فعلم يزيد أنه قد كذبه، فقال له: يا هذا، إنك تكذبُ نفسك قبل أن تكذبَ جليسكَ. قال: فما زلنا نعرف الرجل بعد ذلك بالتوقي.
حدثنا أحمد بن يزيد قال، حدثني أحمد بن أبي طاهرٍ قال، حدثني أبو تمام قال، حدثني شيخ من الحي قال: كان فينا رجل شريف، فأتلف ماله في الجود، فصار بعد لا يفي، فقيل له: أصرت كذاباً؟ فقال: نصرة الصدق أفضت بي إلى الكذب! قال أبو بكر: فنقل هذا ابن أبي طاهرٍ شعراً له، فقال:
قد كنتُ أنجِزُ دهراً ما وَعَدْتُ، إلى ... أنْ أتلفَ الدهرُ ما جَمَّعْتُ من نَشَبِ
فإنْ أكنْ صِرتْ في وَعْدِي أخا كذبٍ ... فَنُصْرَةُ الصدقِ أفضَتْ بي إلى الكذبِ!
حدثنا أحمد بن يزيد قال، حدثنا ابن أبي طاهرٍ قال، حدثني أبو تمام قال، حدثني كرامة بن أبان العدوي قال، حدثني رجل من عاملة من بني زهدمٍ قال، قال عدي بن الرقاع: ما أسمعت عمر ابن الوليد بن عبد الملك مديحاً قط إلا كدت أسمع حديث نفسه بحبائي؟ قال: فو الله إني بعد هذا الحديث لفي مجلس عمر، إذ دخل عليه عدي، فأنشده شعراً فيه، فدعا مولى له فقال: هات نقيضة هذه القصيدة، فظننت أنه ينشده شعراً، فأتى ببدرةٍ فيها عشرة آلاف درهمٍ فدفعها إليه.

حدثنا أحمد بن يزيد المهلبي قال، حدثني أحمد بن أبي طاهرٍ قال، حدثني أبو تمام قال، حدثني أبو عبد الرحمن الأموي قال: وصف ابن لسان الحمرة، وهو ربيعة بن حصن من بني تيم اللات بن ثعلبة، قوماً بالعي فقال: منهم من ينقطع كلامه قبل أن يصل إلى لسانه، ومنهم من لا يبلغ كلامه أذن جليسه، ومنهم من يقتسر الآذان فيحملها إلى الأذهان عبأً ثقيلا.
حدثني أحمد قال، حدثني أحمد قال، حدثني أبو تمامٍ قال: كان يزيد بن الحصين بن تميم السكوني لا يعطي، فإذا أعطى أعطى كثيراً، ويقول: أحب أن تكون مواهبي كتائب كتائب، ولا أحب أن تكون مقانب مقانب.
حدثنا أحمد قال: حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو تمامٍ عن رجلٍ من كلبٍ قال: كنت مع يزيد بن حاتمٍ بإفريقية، فاعترض دروعاً وبالغ فيها، وكانت جياداً، فقيل له في ذلك، فقال: إنما أشترى أعماراً لا دروعا!.
حدثني أحمد بن يزيد قال، حدثنا أبي عن عمه حبيب بن المهلب قال: ما رأيت قط رجلاً مستلئماً في حربٍ إلا كان عندي بمنزلة رجلين اثنين، ولا رأيت رجلين حاسرين في حربٍ قط إلا كانا عندي بمنزلة رجلٍ واحدٍ.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو تمامٍ قال، حدثني كرامة قال: قدم رجل من ولد معدان بن عبيد المعني من عند البرامكة، فقلنا له: كيف تركتهم؟ فقال: تركتهم وقد أنست بهم النعمة حتى كأنها بعضهم! قال أبو تمام، قال كرامة: فحدثت بهذا ثعلبة بن الضحاك العاملي فقال: لقد سمعت من بعض أعرابكم نحواً من هذا: قدم علينا غسان بن عبد الله بن خيبري في عنفوان خلافة هشام، فرأى آل خالد القسري، فقال: إني أرى النعمة قد لصقت بهؤلاء القوم حتى كأنها من ثيابهم! قلت: فإن صاحب هذا الكلام ابن عم صاحب هذا الحديث فيما أرى، أما ترى كلامه ابن عم كلامه؟.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو تمامٍ قال، حدثنا كرامة قال: تكلم رجل في مجلس الهيثم بن صالح فهذر ولم يصب، فقال: يا هذا، بكلام أمثالك رزق الصمت المحبة!.
حدثنا أحمد بن يزيد قال، حدثنا أحمد، قال حدثنا أبو تمامٍ قال، حدثني سلامة بن جابر النهدي قال: سمعت أعرابياً يصف قوماً لبسوا النعمة ثم عروا منها، فقال: ما كانت نعمة آل فلانٍ إلا طيفاً ولى مع انتباههم!.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو تمامٍ عن سلامة بن جابر قال: سأل هشام أسد بن عبد الله القسري عن نصر بن سيارٍ وكان عدوه فقال: ذلك رجل محاسنه أكثر من مساويه، لا يضرب إلا انتصف منها، لا يأتي أمراً يعتذر منه، قسم أخلاقه بين أيام الفضل، فجعل لكل خلقٍ نوبةً، لا يدري أي أحواله أحسن، ما هداه إليه عقله، أو ما كسبه إياه أدبه! فقال هشام: لقد مدحته على سوء رأيك فيه، فقال: نعم، لأني فيما يسألني أمير المؤمنين عنه كما قال الشاعر:
كَفى ثَمَناً لما أَسْدَيْتَ أَنِّي ... صَدَقْتُكَ في الصَّديقِ وفي عِدَاى
وَأنِّي حين تَنْدُبُنيِ لأَمْرٍ ... يكُونُ هَواكَ أغْلبَ مِن هَوَاى
قال: ذاك الظن بك.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو تمامٍ قال، حدثني محمد بن خالد الشيباني قال: قال رجل يوماً لرقبة بن مصقلة العبدي: من أي شيء كثرة شكك؟ قال: من محاماتي عن اليقين!.
حدثنا أحمد بن يزيد قال، حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال، حدثني أبو تمام قال، حدثني أبو عبد الرحمن الأموي قال: ذكر الكلام في مجلس سليمان بن عبد الملك فذمه أهل المجلس، فقال سليمان: كلا، إن من تكلم فأحسن، قدر على أن يسكت فيحسن؛ وليس كل من سكت فأحسن، قدر أن يتكلم فيحسن.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد بن أبي طاهرٍ قال، حدثني أبو تمام قال، حدثني شيخ من بني عدي بن عمرو قال: نزلت عندنا أحوية من طيئ، فكنت أتحدث إلى فتىً يتحدث إلى ابنة عمٍ له، وهو من أقرح الناس كبداً، فسار فريقها الأدنى إلى الغور، وغبر في أهل بيته، فاشتد جزعه، فقال: يا ابن عم، إن الصبر عن المحبوب أشد من الصبر على المكروه.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال، حدثني حبيب بن أوس الطائي قال،حدثنا قلابة الجرمي قال: قال يزيد بن المهلب يوماً لجلسائه: أراكم تعنفوني في الإقدام! قالوا: نعم، والله إنك لترمي بنفسك في المهالك، فقال: إليكم عني، فو الله لو لم آت الموت مسترسلاً، لأتاني مستعجلاً؛ إني لست آتي الموت من حبه، إنما آتيه من بغضه! وقد أحسن الحصين بن الحمام المري حيث يقول:
تأَخَّرْتُ أستبْقي الحياةَ فلم أجدْ ... حَيَاةً لِنفْسي مثلَ أن أتقدَّمَا
حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد عن أبي تمام قال، قال رجل من بني عمرو بن تميم: يزعم الناس أن السيوف مأمورة تقطع وتكهم، والله ما رأيت يزيد بن المهلب قط فنبا سيفه، فقال ثابت قطنة: والله لو لم تكن السيوف مأمورةً، لصيرتها يد يزيد مأمورةً!.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد بن أبي طاهر عن أبي تمام قال، حدثني مالك بن دلهمٍ عن ابن الكلبي قال: مات ابن لأرطاة بن سهية المري يقال له عمرو - وسهية أم أرطاة وأبوه زفر أحد بني مرة في زمن معاوية - فجزع عليه حتى ذهب عقله أو قارب، فوقف على قبره فقال:
وقفتُ على قبرِ ابن سَلْمى فلم يَكُنْ ... وُقُوفي عليه غَيْرَ مَبْكىً وَمَجْزعِ
عن الدهْرِ فاصْفَحْ إنه غَيْرُ مُعْتَبٍ ... وفي غير مَنْ قد وَارتِ الأرضُ فاطمَعِ
هل أنتَ، ابن سَلْمَى إن نظرتُكَ، رَائحٌ ... معَ القومِ أو غَادٍ غَداةَ غدٍ معي؟
حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو تمامٍ قال: تذاكرنا الكلام في مجلس سعيد بن عبد العزيز التنوخي وحسنه، والصمت ونبله، فقال: ليس النجم كالقمر، إنما تمدح السكوت بالكلام، ولا تمدح الكلام بالسكوت، وما أنبأ عن شيءٍ فهو أكثر منه.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو تمامٍ قال، حدثني أبو عبد الرحمن الأموي قال: تكلم رجل عند هشامٍ فأحسن، فقال هشام: إن أحسن الحديث ما أحدث بالقلوب عهداً.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا حبيب بن أوسٍ قال، حدثني عمرو بن هاشم السروي قال: تحدثنا عند محمد بن عمرو الأوزاعي - والأوزاع من حمير - ومعنا أعرابي من بني عليم ابن جنابٍ لا يتكلم، فقلنا له: بحقٍ ما سميتم خرس العرب، ألا تحدث القوم؟ فقال: إن الحظ للمرء في أذنه، وإن الحظ في لسانه لغيره، فقال الأوزاعي: وأبيه لقد أحسن.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو تمامٍ قال: قال رجل لرجل: ما أحسن حديثك! فقال له: إنما حسنه حسن جوار سمعك.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال، حدثني أبو تمامٍ قال، حدثني يحيى بن إسماعيل الأموي قال، حدثني إسماعيل بن عبد الله قال، قال جدي: الصمت منام العقل، والنطق يقظته، ولا منام إلا بيقظةٍ، ولا يقظة إلا بمنامٍ.

صفة أبي تمام وأخبار أهله
حدثني عون بن محمد قال: كان أبو تمام طوالاً، وكانت فيه تمتمة يسيرة، وكان حلو الكلام فصيحاً، كأن لفظه لفظ الأعراب.
حدثني علي بن الحسن الكاتب قال: رأيت أبا تمامٍ وأنا صبي صغير، فكان أسمر طوالاً.
حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال: كنت جالساً مع ابن عتاب، فمر بنا رجل من الكتاب، فجلس إلينا وكان فصيحاً مليح الحديث، فأطال معنا ثم قام، فقال لي ابن عتاب: ما رأيت رجلاً أشبه لفظاً بأبي تمامٍ من هذا إلا حبسة قليلةً كانت في لسان أبي تمام.
حدثني عبد الله بن عبد الله قال: كان لأبي تمامٍ أخ يقال له سهم، وكان يقول الشعر، فمن شعره:
ونازَعْتُهُ شَيئاً إليه مُبَغَّضاً ... فلما رأى وَجدْي به صار يَعْشَقُهْ
فَدَعْه ولا تحزَنْ على فائزٍ بِه ... فإنَّ جَديداتِ الَّليالي سَتُخْلِقُهُ
حدثني سوار بن أبي شراعة قال، حدثني البحتري قال: كان لأبي تمامٍ أخ يقال له سهم، وكان يقول شعراً دوناً، فجاء إلى أبي تمام يستميحه فقال له: والله ما يفضل عني شيء، ولكني أحتال لك، فكتب إلى يحيى بن عبد الله بقصيدةٍ أولها:
إِحْدَى بنِي بكرِ بن عبدِ مَنَاهِ ... بيْنَ الكثيبِ الفَرْدِ فالأمْوَاهِ
فقال فيها:
سَهْمُ بنُ أَوْسٍ في ضَمَانِكَ وَاثِقٌ ... أَنْ لَسْتَ بالنَّاسِي ولا بالسَّاهي

أَجْزِلْ له الحظَّينِ مِنَكَ وكُنْ له ... رُكْناً عَلَى الأيَّامِ ليسَ بِوَاهِي
بِوِلايتيْنِ ولاَيَةٍ مَشْهورةٍ ... في كُورَةٍ ووِلايةٍ بالَجْاهِ
هُوَ في الغِنَى غَرْسِي، وَغَرسُكَ في العُلا ... أَنَّي أردتَ، وأنتَ غَرْسُ اللهِ
حدثني أحمد بن إسماعيل قال، حدثني أبو سهل الرازي قال: لما ولي محمد بن طاهرٍ خراسان، دخل الناس لتهنئته، فكان فيهم تمام بن أبي تمام الطائي فأنشده:
هنَّاكَ رَبُّ الناسِ هَنَّاكا ... ما مِنْ جزَيلِ المُلْكِ أعْطَاكاَ
قَرَّتْ بِما أُعطيِتَ يا ذَا الحِجَي ... والبَاسِ والإنْعامِ عَيْناكاَ
أَشْرقَتِ الأَرضُ بِما نِلتَهُ ... وَأَوْرقَ العُودُ لِنَجْواكاَ
فاستضعفت الجماعة شعره وقالوا: يا بعد ما بينه وبين أبيه! فقال محمد لعبد الله بن إسحاق، وكان يعرفه الناس وهو على أمره: قل لبعض شعرائنا: أجبه، فغمز رجلا في المجلس، فأقبل على تمامٍ فقال:
حيَّاكَ ربُّ الناسِ حيَّاكا ... إِنَّ الذي أمَّلْتَ أخْطاكا
مَدحْتَ خِرْقاً مُنْهباً مالَهُ ... ولَوْ رأى مدْحاً لَواسَاكا
فهاك إِنْ شِئْتَ بها مِدْحَةً ... مِثلَ الذي أَعْطَيْتَ أعْطَاكا
فقال تمام: أعز الله الأمير، إن الشعر بالشعر رباً، فاجعل بينهما رضخاً من دراهم حتى يحل لي ولك! فضحك محمد وقال: إن لم يكن معه شعر أبيه، فمعه ظرف أبيه، أعطوه ثلاثة آلاف درهم، فقال عبد الله بن إسحاق: ولقول أبيه في الأمير عبد الله بن طاهرٍ:
أَمَطْلِعَ الشَّمسِ تَنْوِي أنْ تَؤُمَّ بنا؟ ... فقُلتُ: كلاَّ، ولكنْ مطْلِعَ الجُودِ
ثلاث آلافٍ أخرى، قال: ويعطي ذلك.

أخبار لأبي تمام متفرقة
حدثني أبو جعفر أحمد بن يزيد المهلبي قال، حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه - وكان ابن مهرويه هذا يسمع معنا من المغيرة بن محمد المهلبي وغيره بالبصرة، ولم أسمع منه شيئاً عن الحمدوي - قال: سمعت أبا تمامٍ يقول: أنا كقولي:
نَقِّلْ فُؤادَكَ حيثُ شِئْتَ مِن الهَوَى ... ما الحبُّ إلاّ للحبيبِ الأَولِ
كم مَنْزلٍ في الأرضِ يألَفُهُ الفَتَى ... وحَنينُهُ أبداً لأوَّلِ مَنْزِلِ
وحكى محمد بن داود هذا الشعر في كتابه وقال: أخذه من قول ابن الطثرية:
أَتانِي هَوَاها قبلَ أنْ أعرِفَ الهَوى ... فصادَفَ قلباً فارِغاً فتَمَكَّنَا
وهو عندي بقول كثيرٍ أشبه، ومنه أخذه:
إذا وصَلَتْنَا خُلَّةٌ لِتُزِيِلَها ... أَبَيْنَا وقُلْنَا: الحَاجِبِيَّةُ أوَّلُ
وهو يتعلق أيضاً بما قاله من جهةٍ: حدثنا أحمد بن يزيد المهلبي قال، حدثنا أبي قال: أنشدت يوماً لجرير:
وما زَالَ معْقُولاً عِقَالٌ عَن النَّدى ... وما زَالَ مَحبُوساً عَنِ الخَيْرِ حَابِسُ
حكى محمد بن داود أن أبا عبد الله أحمد بن محمد الخثعمي الكوفي قال لأبي تمامٍ وقد اجتمعا فقام أبو تمام إلى الخلاء: أتدخلك؟ فقال: نعم، لا نحملك.
حدثني أحمد بن موسى قال: أخبرني أبو الغمر الأنصاري عن عمرو بن أبي قطيفة قال: رأيت أبا تمام في النوم فقلت له: لم ابتدأت بقولك:
كَذَا فَلْيجِلَّ الخطْبُ وليَفْدَحِ الأَمْرُ
فقال لي: ترك الناس بيتاً قبل هذا، إنما قلت:
حَرامٌ لَعْينٍ أنْ تَجِفَّ لَهَا شُفرُوَأَنْ تَطْعَم التَّغْميِضَ مَا أَمْتَعَ الدهرُ
كذا فليجل...
حدثني علي بن الحسن الكاتب قال: الذي يقول فيه أبو تمام:
يَاسَمٍيَّ النبِيِّ في سُورَةِ الجنِّ ... ويا ثانيَ العزيزِ بِمْصرِ
هو عبد الله بن يزيد بن المهلب الطرهباني، من أهل الأنبار، كاتب أبي سعيد الثغري، ثم كتب بعده لابنه يوسف.
حدثني ابن المتوكل القنطري قال: دخل أبو تمام إلى نصر بن منصور، فأنشده مدحاً له، فلما بلغ إلى قوله:
أَسَائِلَ نَصْرٍ، لاَ تَسَلْهُ، فَإنَّهُ ... أَحَنُّ إلى الإِرْفَادِ مِنْكَ إلى الرِّفْدِ

قال له نصر: أنا والله أغار على مدحك أن تضعه في غير موضعه، ولئن بقيت لأحظرن ذلك إلا على أهله، وأمر له بجائزةٍ سنيةٍ وكسوة. قال: فمات نصر بعد ذلك في شوال سبعٍ وعشرين ومائتين.
حدثنا أحمد بن إسماعيل قال، حدثني من سأل أبا تمام عن قوله:
غُرْبَةٌ تقَتْدَي بِغُرْبِة قَيْس بْ ... نِ زُهَيْرٍ وَالحارِثِ بن مُضَاضِ
فقال: أما غربة قيس بن زهير العبسي فمشهورة، وهذا الحارث بن مضاض الجرهمي زوج سيدة من إسماعيل بن إبراهيم، ثم تحدث بحديثٍ طويلٍ، قد ذكرناه في شعره عند هذا البيت.
حدثني محمد بن البربري قال، حدثني الحسن بن وهبٍ قال: قلت لأبي تمام: أفهم المعتصم بالله من شعرك شيئاً؟ قال: استعادني ثلاث مراتٍ:
وَإنَّ أَسْمَجَ مَنْ تشْكُو إليْهِ هَوىً ... مَنْ كانَ أحْسَنَ شَيءٍ عِندَهُ العَذَلُ
واستحسنه، ثم قال لابن أبي دؤاد: يا أبا عبد الله، الطائي بالبصريين أشبه منه بالشاميين.
حدثنا أبو عبد الله الألوسي قال، أخبرني أبو محمد الخزاعي المكي صاحب - كتاب مكة - عن الأزرقي قال: بلغ دعبلاً أن أبا تمامٍ هجاه عندما قال قصيدته التي رد فيها على الكميت وهي:
أَفِيِقي مِن مَلاَمِكِ يا ظَعِينَا ... كَفَاكِ اللّوْمَ مَرُّ الأرْبَعينَا
فقال أبو تمام:
نَقَضْنَا لِلْحطَيْئَةِ أَلْف بَيْتِ ... كَذَاكَ الحيُّ يَغْلبُ أَلفُ مَيْتِ
وذَلكِ دِعْبلٌ يرجوُ سَفَاهاً ... وَحمُقاً أنْ ينَالَ مَدىَ الكُمَيْتِ
إذا مَا الحيُّ نَاقَضَ جِذْمَ قَبْرٍ ... فَذَلكُمُ ابنُ زَانِيَةٍ بِزَيْتِ
وأن دعبلاَ قال لما بلغته هذه الأبيات:
يا عَجَبَا مِنْ شاعرٍ مُفْلِقٍ ... آبَاؤُهُ في طَيِّئٍ تَنْمِي
أُنْبِئْتُهُ يَشْتِمُ مِنْ جَهْلِهِ ... أُمِّي، وَمَا أَصْبَحَ مِنْ هَمي
فَقُلْتُ: لكنْ حَبَّذَا أُمُّهُ ... طَاهِرَةٌ زَاكِيَةٌ عِلْمِي
أَكْذِبُ وَاللهِ عَلَى أُمِّهِ ... كَكِذْبِهِ أيضاً عَلى أُمِّي!
وقد رويت هذه الأبيات التائية لأبي سعد المخزومي، ورويت الأبيات الميمية لغير دعبلٍ في أبي تمام.
وزعم ابن داود أن محمد بن الحسين حدثه قال: زار الحسن بن وهبٍ وأبو تمام، أبا نهشل بن حميدٍ، فقال أبو تمام وقد جلسوا:
أعَضَّكَ اللهُ أَبَا نَهْشَلِ
ثم قال للحسن: أجز، فقال:
بِخّدِّ رِيمٍ شَادِنٍ أَكْحَلِ
ثم قال لأبي نهشل: أجز، فقال:
يُطمِعُ في الوصْلِ فإن رُمْتَهُ ... صَارَ مَعَ العَيًّوقِ في مَنْزِلِ
حدثنا ميمون بن هرون قال، حدثني صالح غلام أبي تمام قال: غضب على أبو تمام فكتبت إليه بهذا الشعر، وهو أول شعر قلته قط:
إذَا عاقَبْتَنِي في كلِّ ذَنبٍ ... فما فضْلُ الكرِيمِ عَلَى اللَّئيمِ؟
فإِنْ تكُنِ الحوادِثُ حَرَّكَتْنِي ... فإنَّ الصَّبْرَ يَعْصِفُ بالهُمُوم
فجاءني إلى الموضع الذي كنت فيه فترضاني.
وجدت بخط عبد الله بن المعتز: صار أبو تمام إلى أحمد بن الخصيب في حاجةٍ له أيام الواثق، فأجلسه إلى أن أصابته الشمس، فقال:
تغَافلَ عنَّا أحمدٌ مُتَنَاسِياً ... ذِمَامَ عُهُودِ المدْحِ والشُّكْرِ والحمْدِ
نَمُوتُ مِنَ الحَرِّ المُبَرِّحِ عِنْدَهُ ... وحاجاتُنَا قَدْ مِتْنَ من شِدَّةِ البَرْدِ!
حدثني أبو ذكوان قال، حدثني عمك أحمد بن عبد الله طماس قال: كنت عند عمي إبراهيم بن العباس، فدخل عليه رجل فرفعه حتى جلس إلى جانبه أو قريباً، ثم حادثه إلى أن قال له: يا أبا تمام، ومن بقي ممن يعتصم به ويلجأ إليه؟ فقال: أنت فلا عدمت، قال: وكان إبراهيم تاماً فأنشده:
يَمُدُّ نِجادَ السَّيفِ حَتى كأَنَّهُ ... بأَعْلَى سَنَامَيْ فَالِجٍ يتَطَوَّحُ
وَيُدْلِجُ في حاجَاتِ مَنْ هُو نَائمٌ ... وَيُورِي كَريَماتِ النَّدَى حِينَ يَقْدَح
إذَا اعْتَمَّ بالبُردِ اليَمَانِيِّ خِلْتَهْهِلاَلاً بدَا في جَانِبِ الأُفْقِ يَلْمَحُ

يَزيِدُ عَلَى فَضْلِ الرِّجالِ فَضِيلَةً ... وَيَقْصُرُ عَنْهُ مَدْحُ مَنْ يَتَمَدَّحُ
فقال له: أنت تحسن قائلاً وراوياً ومتمثلاً، فلما خرج تبعته، فقلت: أمل على هذه الأبيات، فقال: هي لأبي الجويرية العبدي يقولها للجنيد بن عبد الرحمن فأخرجتها من شعره.

وفاة أبي تمام
ومبلغ سِنِّه
حدثني محمد بن خلفٍ قال، حدثني هرون بن محمد بن عبد الملك قال: لما مات أبو تمام قال الواثق لأبي: قد غمني موت الطائي الشاعر، فقال: طيئ بأجمعها فداء أمير المؤمنين والناس طراً؛ ولو جاز أن يتأخر ميت عن أجله، ثم سمع هذا من أمير المؤمنين لما مات!.
حدثني محمد بن موسى قال: عني الحسن بن وهبٍ بأبي تمام، وكان يكتب لمحمد بن عبد الملك الزيات، فولاه بريد الموصل فأقام بها سنةً، ومات في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين ومائتين، ودفن بالموصل.
حدثني عون بن محمد الكندي قال: قرأت على أبي تمام شيئاً من شعره في سنة سبعٍ وعشرين ومائتين، وسمعته يقول: مولدي سنة تسعين ومائةٍ. قال: وأخبرني مخلد الموصلي أن أبا تمام مات بالموصل، في المحرم سنة اثنتين وثلاثين ومائتين.
حدثني أبو سليمان النابلسي قال، قال تمام بن أبي تمامٍ: مولد أبي سنة ثمانٍ وثمانين ومائةٍ، ومات في سنة إحدى وثلاثين ومائتين.
مراثي أبي تمام
أنشدني أبو الغوث لأبيه، يرثي أبا تمامٍ ودعبلاً:
قَدْ زَادَ في كلَفيِ وَأَوْقَدَ لَوْعَتي ... مَثْوَى حَبيِبٍ يَوْمَ ماتَ وَدِعْبِلِ
وَبَقَاءُ ضَرْب الخْثَعمِيِّ وَشِبْههِ ... مِنْ كلِّ مُضْطَرِبِ القَريحِةَ مُهْمِلِ
أَهْلُ المعَانِي المستْحَيِلِةِ إنْ هُمُ ... طَلَبُوا البَدَاعَةَ وَالكَلاَمِ المُعْضِلِ
أَخَوَىَّ، لاَ تَزَلِ السَّمَاءُ مُخِيَلةً ... تَغْشَاكُمَا بِحَياً مُقِيمٍ مُسْبِلِ
جَدَث عَلَى الأَهْوَازِ يَبْعُدُ دُونَهُ ... مَسْرَى النَّعِيِّ وَرِمَّةٌ بِالموْصِلِ
ورثاه الحسن بن وهبٍ فقال:
سَقَتْ بالموْصِلِ القَبْرَ الغَريبَا ... سُحَائِبُ يَنْتَحبْنَ لَهُ نَحيبَا
إذَا أَطْلَعْنَهُ أَطْلَقْنَ فيِهِ ... شَعِيبَ المُزْنِ مُنْبَعِقاً شَعِيبَا
وَلَطَّمتِ البُرُوقُ لَهَا خُدُوداً ... وَشَقَّقَتِ الرُّعُودُ لَهَا جُيُوبَا
فإِنّ تُرابَ ذَاكَ الْقَبْرِ يَحْوِي ... حَبيباً كَانَ يُدْعَى ليِ حَبيِبَا
ظَرِيفاً شَاعِراً فَطِناً لَبيِباً ... أَصِيلَ الَّرأْيِ في الْجُلَّى أَرِيبَا
إِذَا شَاهَدْتَه رَوَّاكَ ممَّا ... يَسُرُّكَ رِقَّة مِنْهُ وَطِيبَا
أَبَا تَمَّامٍ الطّائيَّ، إِنَّا ... لَقِينَا بَعْدَكَ العَجَبَ العَجِيبَا
فَقَدْنَا مِنْكَ عِلْقاً لاَ تَرَانَا ... نُصِيبُ لَهُ مَدَى الدُّنْيَا ضَرِيبَا
وَكُنْتَ أَخاً لنَا تُدْنِي إِلَيْنَا ... صَمِيمُ الوُدِّ وَالنَّسَبَ القَرِيبَا
وَكانَتْ مَذْحِجٌ تُطْوَى عَلَيْنَا ... جَمِيعاً ثُمَّ تَنْشُرُنَا شُعُوبَا
فَلَمَّا بِنْتَ نَكَّرَتِ اللّيَالِي ... قَرِيبَ الدَّارِ وَالأَقْصَى الْغَريبَا
وَأبْدَي الدَّهْرُ أَقْبَحَ صَفْحَتَيِهْ ... وَوَجْهاً كالِحاً جَهمْاً قَطُوبَا
فأَحْرِ بأَنْ يَطيبَ المَوْتُ فيهِ ... وَأَحْرِ بِعيشَةٍ ألاَّ تَطِيبَا
وقال علي بن الجهم يرثيه:
غَاضَتْ بدَائِعُ فِطْنَةِ الأَوْهَامِ ... وَعَدَتْ عليْهَا نَكْبَةُ الأيَّامِ
وَغَدَا القَريِضُ ضَئِيلَ شَخْصٍ بَاكِياً ... يَشْكُو رَزيَّتَهُ إلى الأَقْلاَمِ
وَتَأَوَّهَتْ غُرَرُ الَقوَافيِ بَعْدَهُ ... وَرَمَى الزَّمَان صَحِيحَهَا بِسَقَامِ
أَوْدَى مُثَقِّفُهَا وَرَائِضُ صَعْبِهَا ... وَغَديِرُ رَوْضَتهَا أَبُو تَمَّامِ

وأنشدني أبو جعفر المهلبي، وأبو محمد الهدادي، لأحمد بن يحيى البلاذري، يرثي أبا تمامٍ، ويهجو أبا مسلم بن حميدٍ الطوسي:
أَمْسَى حَبْيبٌ رَهْنَ قَبرٍ مُوحِشٍ ... لَمْ تُدْفَعِ الأَقْدَارُ عَنْهُ بِأَيْدِ
لمْ يُنْجِهِ لمَّا تَنَاهَي عُمْرُهُ ... أَدَبٌ، وَلَم يَسْلَمْ بقوةِ كيْدِ
قد كُنتُ أَرْجُو أَنْ تنَالَكَ رْحَمةٌ ... لِكنْ أَخَاف قَرَابةَ ابن حُمَيْدِ!
وقال فيه الحسن بن وهبٍ أيضاً:
فُجِعَ القَريضُ بخاتَمِ الشُّعراءِ ... وغَديرِ رَوْضَتِهَا حَبيبِ الطَّائي
مَاتَا مَعاً فتجاوَرَا في حُفْرَةٍ ... وكذاكَ كاناَ قبلُ في الأَحيَاءِ
وقال محمد بن عبد الملك يرثيه وهو وزير:
نَبَأٌ أَتَى مِنْ أَعظَمِ الأَنْبَاءِ ... لَمَّا أَلَمَّ مُقَلْقِلُ الأَحشَاءِ
قاَلُوا: حَبيبٌ قد ثَوَى، فأَجبْتُهُمْ: ... نَاشَدْتُكُمْ لاَ تَجْعَلُوهُ الطّائيِ
وقال أيضاً:
ألاَ للهِ مَا جَنَتِ الخُطُوبُ ... تُخُرِّمَ مِنْ أَحِبَّتِنَا حَبِيبُ
فَماتَ الشِّعْرُ مِنْ بَعْدِ ابنِ أَوْسٍ ... فَلاَ أَدَبٌ يُحَسُّ وَلاَ أَديِبُ
وكُنْتَ ضَرِيبَ وَحْدِكَ يا ابنَ أَوْسٍ ... وَهَذا النَّاسُ أخلاقٌ ضُروبُ
لِئنْ قَطَعَتْكَ قَاطِعَةُ المنَايَا ... لَمِنْكَ وَفيكَ قطِّعتِ القُلوبُ
وقال عبد الله بن أبي الشيص:
أَصْبَحَ في ضَنْكٍ منَ الأَرْضِ ... أكثَرُ في الأرضِ منَ الأرْضِ
مَنْ عَرْضُ ذِكْرَاهُ وَمَنْ طُولهُا ... كالأرْضِ ذَاتِ الطُّوِل وَالعَرْضِ
أَكْرِمْ بِمَلْحُودٍ يُدَانَي إلى ... وَجْهِكَ يا ابْنَ الْكَرمِ المحْضِ
مَا في حَبيبٍ لي، ابنَ أوْسٍ، أُسىً ... يَجْمَعُ بَينَ الجَفْن والغُمْضِ
حارَ ذَوُو الآدَابِ إذْ فَوجِئُوا ... منْهُ بَيْومٍ غَيْرِ مُبْيَضِّ
طَوْدٌ مِنَ الشِّعْرِ دَعَا بَعْضُهُ ... بَعْضاً، فَهْدَّ البَعْضُ بالبَعْضِ
بَحْرٌ مِنَ الشِّعْرِ لَهُ جَائِشٌ ... مُلْتَطِمٌ بالُّلؤْلُؤِ الْبَضِّ
كأنما الشِّعْرٌ شِعَارٌ لَهُ ... أَوْ وَرَقٌ في غُصُنٍ غَضِّ
لما أَتَمَّ اللهُ فِيكَ الذيِ ... أَمَّلتَ مِنْ بَسْطٍ وَمنْ قَبْضِ
رَمَاكَ رَامٍ لِلمْنَاَيَا وَمَا ... آذَنَ عِنْدَ. الرَّمْىِ بِالنَّبْضِ
لَوْ كانَ لِلشِّعْرِ عُيُونٌ بَكَتْ ... لِكَوْكَبٍ لِلشِّعْرِ مُنْقَضِّ
وقال، ووجدته بخط ابن مهرويه:
يا حُفْرَةَ الطّائيِّ، أَيَّ امْرِئٍ
شِعَارُهُ أَنتِ وَلَمْ تَشْعُرِي
كَمْ بَيْنَ أَثْنَائكِ منْ حِكْمَةٍ