كتاب : ادب الخواص
المؤلف : الوزير المغربي

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الحسين بن علي: اللهم أنا نستوهبك التأمل، و ما فيه من شفاء الجهل، و نستعيذ بك من التقليد و ما فيه من إضاعة العقل، و نسألك ان تجعل لنا منك سلطاناً، و تصل بين أفعالنا و بين رضوانك سبباً، و لا يؤثر عنا قولنا إلاّ و له إلى أوامرك منزع و لطف، و لا ينفذ لنا عمل إلاّ و له في طاعتك نسب و لو ضعف، و أن تجعل بمفازة من الضلال و الفساد، و على متن سبيل من الرشاد و الصلاح، و أن تعيننا على مجاهدة العدو الخاص، و مكافحة القِرن اللاصق، من نفس إلى السوء نزوع، و من لسان بالقول طموح، و من قول مجذوذ، فليس له فعل يصله، و من نيةٍ غفل فليس لها موضع تظهر فيه، و من التجاهل بفضيلة الصمت، و الاحتجاج للغو المنطق بغريزة الطبع.
و قد عجب المتأملون من عقل لا يمضي سلطانه على نفسه، و هو يريغ نفاذ أمر من غيره، و الإنسان يسفه القاصب له، و يثرب على المولع بسبه، و يزنه بالكذب، و يعزوه إلى قول ما لم يعلم و إلى المؤاخذة على الظنن، و إلى إرسال اليد و اللسان قبل اليقين و الثَّلج، و لا يحس أنَّ الداء الذي أضرع خصمه للملامة، و الحج عدوه في التغليظ و المذمة هو و هي سلطان العقل، و انتقاص الجلد عن صرف اللسان و قد اشرب للقول، و عن حبسه قد تهيأ للبثِّ، و أنه هو قد كان يجب أن يكون من ذلك على أبعد البعد و في المعرفة بعيبه على أبصر الرأي و أوضح الأمر، لا أن يتعقبه بمثله، و يصل إمداده من فعله، و يستمله من فاعله المذموم عنده، و يصير صدى فيه لخصمه المشنإ إليه، و يروون عن عبد الله بن العباس انه قال: من لم يملك نفسه فليس بأهل أن يملك غيره. و قال بعض الحكماء: العاجز من عجز عن سياسة نفسه. و قال الشاعر:
أبدأ بنفسك فأنهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك تسمع إن وعظت و يقتدى ... بالقول منك، و يقبل التعليم
و يحكون عن عبد الله بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله أبن العباس أنه لما شاع في الفساد في عامة رعيته، شاور نصحاءه، فقال بعضهم: الرأي أن تجمع قوماً فتصلبهم، و قال آخرون: بل تعمر بهم السجون. و اختلفوا في القول، فقال: ليس الرأي شيئاً مما قلتم، و لكن الرأي أن أبدأ فأصلح نفسي، فإذا صلحت نفسي صلحت باطني، و إذا صلحت باطني دب الصلاح، و تفشا في رعيتي. قالوا: وفقك الله، و عمل بذلك الرأي فرأى الخير عليه، و قد قال البحتري:
ولست أعجب من عصيان قلبك لي ... يوماً إذا كان قلبي فيك يعصيني
و قريب من قول البحتري شعر انشدنيه أبو مسلم عن هارون بن عبد العزيز بن المعتمد عن تغلب، أو المبردالشك مني:
يهم بحران الجزيرة قلبه ... و فيها غزال فاتن الطرف فاتره
يوازره قلبي عليّ و ليس لي ... يدان بمن قلبي علي يوازره

و اللسان جارحة يكمل بها النطق و المذاق، فما على من تكلم بما لا يعنيه و في غير موقعه أن يتذوق ما لم يحصل في قرارة فمه، و أن يتمطق بالهواء طول دهره، و أن يعاتب ماضغه و يصرف بأنيابه في غير ساعة اغتدائه، على أنه لو استحسن ذلك لما وجب أن يستحسن إدامة الكلام لغير حينه، و اللهج من القول بما لا ينفعه في شيء من أمره لأن الأول قبيح و غير ضار، و الثاني قبيح و ضار و فاحش قتال، و هو أصل المضرة بالأذى، كما هو أصل المضرة بالأذى، و كما هو أصل المضرة بالعيب فهو موجه بالمعرة، و معهم مخول في المساءة و اللسان عضو مثل اليد و الرجل، فما على من تكلم عاجزاً عن ملك لسانه، و ملقياً إلى التهلكة الخرق و الجهل بيده، أن يبعث بأنامله دائماً لغير بطش، و أن يلبط بقدمه سرمداً لغير سعي، ثم يطرد المقياس عليه بأن ينغض برأسه في جميع أوقاته، و أن يواقح به كل صفات تبدو لعينه. قد علم الله و علم العالمون أن الآفة ليست شيئاً غير لعجز و التعاجز، و غير أن يعود الخاطر الوكال، و يحل عنه رباط النهضة و الاعتزام، و غير الانسياح مع جريه الماء قبل جهد النفس في الخلاص، و الميل مع هبّة الريح من غير أعذار بالاستمساك و نعوذ بالله أن نخرق بنعمه فنعيدها نقماً، و أن نفسد مثابته فنجعلها عقاباً، فإن اللسان نعمة من الله على عبده، فإن احسن أيالته و لملك تدبيره و ذلل بالرياضة جامحه، و ركزه و راء قلبه، و أوطأه اعقاب تمييزه و تدبره، و لم يرسله إلا لخير في الدنيا أو لخير في الآخرة من إحراز نفع، و أنفع العز و إزاحة مضرة، و أقتل الضر الذل، فذاك هو الذي يطب به إحسان بطبه، و يستديم الأنعام بحسن سياسته، و إن أرسله و شأنه، و أعفاه من ولاية العقل عليه، و أجراه في الوعث و الخبار، و أنطقه بالصواب و المحال، أكتبه حصائده في النار على وجهه، بعد أن تكسوه في الدنيا ليط عار لا ينسل منه، و تحوش له من العداوات منزعجا لا قرار معه، كما قال أبو عبد الله محمد بن ميسرة و كان بليغاً شاعراً و فقيهاً ناسكاً، و صاحب نظر و تأمل، و بيان و تبحر:
اكثر من الصديق ... لكل يوم ضيق
من أكثر العدوا ... لم يستطع هدوا
و قال آخر:
و ما أودعت أحشاء الليالي ... أضر عليك من حقد الرجال
و قال طريح بن إسماعيل الثقفي:
لا تأمنن إمرأً أسكنت مهجته ... غيضاً و إن قيل: إن الجرح يندمل
و أقبل جميل الذي يبدي و جار به ... و ليحرسنك من أفعاله الرجل
و قال حريث بن جابر الخنفي:
لا تأمنن الدهر حراً ظلمته ... و إن نمت فأعلم أنه غير نائم
إذا كان ذا عودٍ صليب و مرةٍ ... ركوباً لإحناء الأمور العظائم
و قال آخر محدث:
نم عن معاداة الرجا ... ل فإنها حسك المضاجع
و إذا أذيت فحام عند ... الضيم مجتهداً، و مانع
و قال آخر في المعنى الأول:
إن كان يعجبك السكوت فإنه ... قد كان يعجب قبلك الأخيارا
و لئن ندمت على سكوتٍ مرةً ... فلقد ندمت على الكلام مرارا
كأنه منظم من قول بعض الأوائل: الندم على السكوت خير من الندم على القول. و قال أكثم: رب قولٍ أشد من صول. و قال أيضاً: و أحسن الصمت يكسب المحبة و يروى أن لقمان قال: الصمت حكم و قليل فاعله.
و قال الحسن بن علي عليه السلام و قد ليم على كثرة الصمت : إني وجدت لساني سبعاً إن أرسلته أكلني. و قيل لعبد العزيز بن مروان: أنت من أطول الناس لساناً فإذا رقيت المنبر تكلمت بكلام نزر، فقال: إني لأستحيي من ربي عز و جل إن آمرهم بما لا أفعل فلا جرم أن هذا القول من عبد العزيز صيره إلى أن يقول فيه المادح و هو نصيب مولاهم:
يقول فيحسن القول أبن ليلى ... و يفعل فوق أحسن ما يقول
فتى لا يرزأ الخلان إلاَّ ... مودتهم، و يرزؤه الخليل
و قال بعض الحكماء: من أطلق أمله فلا قنوع له، و من أطلق لسانه أهدر دمه. و قال آخر منهم. من ضاق قلبه أتسع لسانه، و سب رجل عابداً فقال العابد: لولا أن الله يسمعك لأجبتك. و هذا قول حسن. و قال المجشر بن النعام أحد بني كعب بن مالك بن غياث بن تغلب:

أليس هبلتما ثلباً و زوراً ... يعد عليكما لو تعقلان؟!
من الرفث الذي لا خير فيه ... يحش بكل آنسة حصان
و قال شداد بن أوسٍ بن ثابت و هو ابن أخي حسان بن ثابت الشاعر : ما تكلمت بكلمةٍ منذ كذا و كذا حتى أخطمها و أزمها.
و في ارتهان القائل بقوله، و محاذرته لعقبى الطغيان منطقه قال الشاعر العنقسي و أحسن:
ألم تر كعباً كعب غورين قد قلا ... معالي هذا الدهر غير ثمان
فمنهن تقوى الله بالغيب إنها ... رهينة ما تجني يدي و لساني
هذا البيت الذي يليق باستشهادنا:
و منهن جري جحفلا لجب الوغا ... إلى جحفل يوماً فيلتقيان
و منهن تجريد الأوانس كالدمى ... للذاتها من كاعب و عوان
و منهن شربي الكأس و هي لذيذة ... من الخمر لم يمزج بماء شنان
و منهن تقواد الجياد لعازبٍ ... من الوحش في دكداكة و متان
في أبيات أكثر من ذلك استوفى فيها عدد الثمان الخصال التي قدم في صدر قوله، ولم نكتبها.
و قوله: من الخمر لم تمزج بماء شنان يشبه أن يكون قد أغار عليه سلم الخاسر و هو سلم بن عمرو بن حماد بن عطاء بن ياسر بن مولى عبد الله بن جدعان و كان هو يدعي ولاء محمد بن أبي جعفر و في ذلك يقول من أبيات:
لقد أتتني عن المهدي متعبة ... تظل من خوفها الأحشاء تضطرب
مولاك مولاك لا تشمت أعديه ... فليس قبلك لي ذكر و لا نسب
و أما الجماز الشاعر و هو ابن أخي سلم و كان شاعراً ظريفاً و هو الذي يقول في سنان الخصي:
ظبي سنان شريكي ... فيه و بئس الشريك
فلا سنان ي " 0000 " ... و لا يدعني " 00000 "
و هو أعني الجماز الذي أنشد إنساناً مقطعات فقال: ما تزيدني على البيتين و الثلاثة؟ فقال له الجماز: أردت أن أنشدك مذارعة؟! و كان يقول: انهم من موالي أبي بكر بن أبي قحافة، و أبو بكر من عبد الله جدعان قريب يجمعهما تيم بن مرة، و الله أعلم.
قال سلم في معنى الشعر الأول الذي أوردناه:
أمزج الراح براح ... و اسقني قبل الصباح
ليت لي خمراً بماءٍ ... و فساداً بصلاح
و قد قال غيره من المحدثين:
و بالحيرة لي يوم ... و يوم بالأكيراح
إذا ما عزنا الماء ... مزجنا الراحَ بالراحِ
و قد قال حماد عجرد لمحمد بن أبي العباس السفاح نحواً من هذا القول، و كان استناده لما ولي الكوفة، و ذاك أن أبا جعفر كان أنفذه والياً عليها بعد قتل إبراهيم بن حسن رحمهم الله قالوا فوافاه في أشد القيظ، و لقد لط لحيته بالغالية حتى كأنه خضاب، و صعد المنبر فخطب، و لحيته تقطر على قبائه فسماه أهل البصرة لذلك أبا الدبس فلزمه هذا اللقب حتى هلك، و كان أبو جعفر لما ولاه أنفذ معه الزنادقة و المجان ليلهو ببعضهم، و ليبغضه إلى الناس، و كان معه في جملتهم حماد عجرد و هو حماد بن عمر بن يونس أبن كليب مولي بني سواءة بن عامر بن صعصعصة و إنما سمي عجرداً لأنه نزع ثيابه فرآه بدوي فقال: تعجردت يا غلام، العجرد العريان، و العجرد الشديد الغليظ، و العجرد الذهب في غير هذا الموضع، و كان حماد يذكر بترسلٍ و بيان مع شعره، و قد أرتسم بالصناعة، و كتب لجماعة من رؤساء الدولة العباسية، و قد سمي بعجرد قبله، قال الخليل بن أحمد: كان في ربيعة رجل يقال له عجرد، نازع رجلاً في موازنة فوجأه بجمع كفه فقضى عليه، فأخذت عاقلته ديته، و قال شاعرهم:
يا قوم من يعذر من عجرد ... القاتل المرء على الدانق
لما رأى ميزانه شائلاً ... و جاه بين الأذن و العاتق
فخر من واجأته ميتاً ... كأنما دهده من حالق
فبعض هذا الوجء يا عجرد ... ماذا على قومك بالرافق؟

فقال محمد يوماً لحماد: أتحب من الأشربات الماء؟ قال: يشكرني فيه الحمار و البعير قال: أ فتحب اللبن؟ قال: لقت استحييت مما رضعت من ثدي أمي. فقال: أ فتحب السويق؟ قال: شراب المسافر العجلان و لست منه. قال: فما تقول في الخمر؟ قال: تلك صديقة روحي قال: فضمه إليه، و قال: لا جرم و أنت صديق روحي. و قال له يوماً: أي المواضع أحب إليك أن تشرب عليه؟ قال فقال: إني لأجب ممن لم تحرقه الشمس و لم يؤذه المطر كيف يشرب على شيء غير وجه السماء.
و لم يزل حماد مع محمد، و من شعره يمدحه، و غنى له فيه حكم الوادي المغني - و هو حكم بن يحيى بن ميمون، و ميمون كان حجاماً للوليد بن عبد الملك فأعتقه و إنما قيل له حكم الوادي لأنه كان يخدم عمر الوادي، و هو عمر بن داود مولى عمر بن عثمان بن عفان، و يأخذ عنه الغناء، و كان عمر من أهل وادي القرى:
أرجوك بعد أبي العباس إذ بانا ... يا كرم الناس أعراقاً و عيدانا
فأنت أكرم من يمشي على قدمٍ ... و أنظر الناس عند المحل أغصانا
لو مج عودٌ على قوم غضارته ... لمج عودك فينا المسك و ألبانا
فأظهر محمد أنه يعشق زينب بنت سلمان بن عبد الله بن العباس و كان يركب إلى المربد كثيراً يتصدى لها و يطمع في النظر إليها. و قال لحماد فصنع على لسن محمد:
يا ساكن المربد هيجت لي ... شوقاً فما أنفك بالمربد
سوف أوافي جفرتي عاجلاً ... يا منيتي إن أنت لم تسعدي
و عما له أيضاً - و قد قيل: إنه لمحمد نفسه:
زينب ما ذنبي و ما ... الذي غضبتم فيه، و لم تغضبوا؟
و الله ما أعرف لي عندكم ... ذنباً، ففيما العتب يا زينب؟
و من شعر محمد بن العباس نفسه لم يعنه عليه أحد، أنشده المدائني:
قولاً لزينب: لو رأيت ... تشوفي لكي و أشترافي
و تلددي كما أرا ... ك و كان شخصك غير خاف
و وجدت ريحك ساطعاً ... كالبيت جمر للطواف
و تركتني و كأنما ... قلبي يوجأ بالأشافي
و كان محمد هذا قوي ضليعاً، و يحكى أنه كان يلوي العمود و يلقيه إلى أخته ريطة فترده، و عاتبه المهدي يوماً و هو أمير فغمز ركابه حتى ضاق و ضغط رجله فلم يقدر على إخراجها حتى رده فأخرجها، فمثل الآن و قايس بين قوة حسه و بين وهن قوى نفسه، و إنخذال روحانية قلبه، و إسفافه لمطمع شائن إذا كان محصولاً، و تعرضه لحرام فاضح لو كان محللاً، و أجعل ذلك - إن شئت شكاً على الأطباء، و اعتراضاً على روايتهم عن جالينوس إن قوى النفس تابعة لمزاج البدن، و هو في غير موضع من كتبه، يروم أن يبين أن مزاج البدن تابع لقوى النفس أيضاً.
ثم إن أبا جعفر سمى محمداً على يد خصيب الطبيب، فمات، و كتبت أمه إلى أبي جعفر تشكوه، فأمر بحمله إليه فضربه ثلاثين سوطاً خفافاً، و حبسه أياماً، ثم وهب له ثلاث مائة درهم و أطلقه. و قد قيل أنه استعفى من ولاية البصرة فأعفاه، و وردت " ؟ " فمات ببغداد و كان خصيب هذا زنديقاً - فما قيل لا يعتقد شياً و يتظاهر بالنصرانية، و حبسه أبو جعفر لحدث أحدثه، فمات في مطبقه، و كان يقول: لو أسامت كنت رافضياً، و كان من العلماء المبرزين، و أخبرت عنه إنه كان يقول: حبس البول أمرن للمثانة. و قيل له: ما يذهب أكل الطين؟ فقال: لب المر، و في القولين نظر على قانون الطب. و في خصيب هذا يقول الحكم بن محمد بن قنبر المازني البصري:
و لقد قلت لأهلي ... إذ أتوني بخصيبٍ:
ليس و الله خصيبٌ ... للذي بيّ بطبيبٍ
إنما يعلم طبي ... من به مثل الذي بي
و لما مات محمد بن أبي العباس و قد " ؟ " الكوفة و البصرة محمد بن سلمان بن علي أخو زينب، طاب حماداً طلباً حثيثاً فاستجار حماد بقبر سلمان بن علي و قال:
إن أكن مذنباً فأنت ابن من كا ... ن لمن كان مذنباً غفاراً
يا ابن بنت النبي إني لا اجعل ... إلا إليك منك الفرارا
غير إني جعلت قبر أبي أيو ... ب لي من حوادث الدهر جارا
لم أجد لي من الأنام مجيراً ... فاستجرت التراب و الأحجارا

فلم ينفعه ذلك شيئاً عند محمد بن سلمان، فكتب إليه:
قل لوجه الخصي ذي العار إني ... سوف أهدي لزينب الأشعارا
قد لعمر فررت من شدة الخوف، و أنكرت صاحبي جهارا
و ضننت القبور تمنع جاراً ... فاستجرت التراب و الأحجارا
فإذا القبر ليس لي بمجيرٍ ... فحشى الله ذاك القبر نارا
و ما أحسبه ظفر به. و نعود فنجدد من شأننا - بتوفيق الله - .
قال صاحب اللواء:
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخزان
و قال أيضاً:
و جرح اللسان كجرح اليد
و تبعه الأخطل فقال:
أفحمت عنكم بني النجار و قد علمت ... عليا معد، و كانوا طال ما هدروا
حين إستكانوا و هم مني على مضضٍ ... و القول ينفذ ما لا تنفذ الأبر
و قال غيره - و أحسبه طرفة - :
فإن القوافي يتلجن موالجاً ... تضايق عنها أن تولجها الأبره
قد ألم بهذا اللفظ دون المعنى أبو نصر بن نباتة، بقية شعراء العراق، و هو مادح أبي وجدي:
فلا تحتقرن عدواً رماك ... و إن كان في ساعديه قصر
فإن الحسام يقد الرقاب ... و يعجز عما تنال الابر
و قال طرفة - و احسن - :
و تقصد عنك مخيلة الرجل ال ... عريض، موضحة عن العظم
بحسام سيفك أو لسانك و ال ... كلم الرصين كأغرب الكلم
و قال عمر بن عبد العزيز: التقي ملجم. و حدثنا أن يونس - عليه السلام - قيل له من بعد خروجه من بطن الحوت، و قد أطال الصمت: لم لا تتكلم؟ فقال: الكلام صيرني إلى بطن الحوت. و روى أن رسول الله صلى الله عليه و آله أنه قال: " إن من الكلام عيالا " و أنا أرى أن هذه اللفظة من الكلم التي أعطي رسول الله صلى الله عليه و آله جوامعها لحسنها و بيانها و إيجازها. و قال بعض عامة بلدانا الحلبيين في قصة له: رب كلمه، أزلت نعمة، و قال الشاعر:
إن كان في العي آفات مقدرة ... ففي البلاغة آفات تساويها
و هذا كثير لا ينساه إلا الساهي، و باهر لا يذل عنه إلا المحين، و قد أنشدني منشد من أبيات بيتاً صحيح القسمة، يعجبني، و هو:
هي الخطوب فمن ماضٍ و منتظر ... و هو الأنام فمن ساهٍ و معتبر
و لعلم الله اللسان سبع عقور، و رائد للمنية صدوق، جعله مزموماً مخطوماً، و عن التصرف بذاته عاجزاً مقصوراً، فليس يجري ما لم يجره فارسه من العقل، و لا يفعل ما لم يأمره أميره من الرأي، و لم يجعله كالعين التي ترى ما نحاه اللاحظ بطرفة و ما لم ينحه، و كالأذن التي ما قصد السامع لاستماعه و ما لم يقصده. و كل ذلك لأنه صاحب الفتك و الإمضاء، و ينبوع الشر و البلاء، و كان إبراهيم بن أدهم الزاهد الناسك يطيل السكوت فليم في ذلك فقال: الكلام على أربعة وجوه: فمنه كلام ترجوه منفعته و تخشى عاقبته، فالفضل فيه السلامة منه، و كلام لا نرجو منفعته و لا تخشى عاقبته فأقل ما في تركه خفة المؤونة على بدنك و لسانك، و كلام لا ترجو منفعته و تخشى عاقبته، و هذا هو الداء العضال، و من الكلام كلام ترجو منفعته، و لا تخشى عاقبته، و هو الذي يجب عليك نشره، فإذا به قد بهرج ثلاثة أرباع الكلام، هذا على بلاغة إبراهيم بن أدهم و حكمته و كثرة معارضته أهل البيان، و هو الذي سأل عبد الله بن شبرمة بن طفيل الضبي قاضي أبي جعفر عن مسألة فأسرع الجواب فقال: تأن. فقال له ابن شبرمة: إذا سهل الطريق لم أحتشد و هذا نسيبه يروى لأياس بن معاوية مشهور، و في إبراهيم بن أدهم يقول محمد بن كناسة، و كان إبراهيم من أخواله بني عجل:
رأيتك لا يكفيك ما دونه الغنى ... و قد كان يكفي دون ذلك أبن أدهما
و كان يرى الدنيا صغيراً كبيرها ... و كان لحق الله فيها معظما
و اكثر ما يلفى مع القوم صامتاً ... و إن قال بذّ القائلين و أحكما
و محمد بن كناسة هذا شاعر محسن، و أهل النقد يستحسنون قوله:
على حين أن شابت لداتي و لم أشب ... فمنها لحى مبيضة و قرون
و ناصيت رأس الأربعين و أقبلت ... قساوة جني الشباب تلين
و هو صاحب هذا الشعر و السائر:

في انقباض و حشمة فإذا ... رأيت أهل الوفاء و الكرم
أرسلت نفسي على سجيتها ... و قلت ما قلت، غير محتشم
و من قوله:
قعدت عن الإخوان عن غير ما قلى ... على غير نقصٍ في الإخاء و لا الود
و لكن أيامي تخرمن مرتي ... فما أبلغ الحاجات إلا على جهد
و من قوله يرثى حماداً الرواية - في أبيات معروفة:
فهكذا يفسد الزمان و يف ... نى العلم فيه، و يذهب الأثر
يرون أن ذلك منظور به قول عبد الله بن العباس و قد دلى زيد بن ثابت في قبره: من سره أن يرى كيف ذهاب العلم فهكذا ذهابه، و هو القائل لما أبغض زوجته و مر بجذع مصلوبٍ:
أيا جذع مصلوب أتى دون صلبه ... ثلاثون حولا كاملاً هل تبادل؟
فما أنت بالحمل الذي قد حملته ... بأعرض مني بالذي أنا حامل
و كل هذا حسن، أو واقف بين الحسن و القبيح، فأما الذي يوافق هواي و يصنع في نفسيصنيع الواعظ الحسن في قلوب المخلصين، و ليس يستحق ذلك في حقيقة النقد إلا أني معجب به فقوله في نكبة أبي أيوب المورياني، و لعل استحساني إياه لموافقته شجناً في نفسي في هذا الوقت:
لا ترى زاجراً لهمِّ القلوب ... كالرضا بالموكَّل المكتوبِ
فاتق الله و ارضَ بالقصد حظاً ... لا تسيلنَّ في سبيل الذنوبِ
لا يغرنَّك الذي غرَّ قوماً ... شربوا من حتوفهم بذنوببِ
طلعت شمسهم عليهم نهاراً ... و أتتهم نحوسهم بغروبِ
قد رأيت الذي أدالت و نالت ... وقعه الدهر من أبي أيوبِ
و عدنا إلى كلام ابن أدهم، و قوا ابن أدهم في تزييف المنطق و المشورة بالصمت نسيب لقولهم: أبلغ الصمت ما يكون الكلام شراً منه، و كان حبيب بن أوس الطائي الشاعر يحكيعن أبي مسهر أحمد بن مروان الرملي النحوي قال: تكلم رجل في مجلس الهيثم بن صالح. فقال له الهيثم: يا هذا بكلام أمثالك رزق الصمت المحبه و قد أحسن الشاعر إذ قال:
سأهجر ما يخاف علي منه ... و أترك ما هويت لما خشيتُ
لسان المرء ينبي عن حجاه ... و عيُّ المرء يستره السكوتُ
و مثل البيت الأول قول جامع هذا التعليق:
أطعت العلى في هجر ليلى و إنني ... لأضمر فيها مثل ما يضمر الرندُ
صريمة عزم لم يكن من رجالها ... سوى من العشاق قبل و لا بعدُ
رأيت فراق النفس أهون ضيرةً ... عليَّ من الفعل الذي يكره المجدُ
و في نحو من هذا الأقوال المخبرة عن التسلي قول المؤلف أيضاً:
حبيبٌ ملكت الصبر بعد فراقه ... على أنني علقتهُ و الفتهُ
محا حسن يأسي شخصه من تذكري ... فلو أنني لاقيته ما عرفتهُ
و له أيضاً في نحو من ذلك، و لعله مُحَيَّنٌ بذكره، و ناطق بالشهادة على تقصيره و عجزه:
و لاعبٍ بالهوى يؤمل أن يظ ... هر لي جفوة و أهواهُ
قلت لقلبي و قد تتبعه: ... يا قلبُ إما أنا و أما هو!!
و في المعنى الأول قال قائل مصيب: عيُّ صامتٍ خيرٌ من عيِّ ناطق. و من هاهنا قال بشار:
و عيُّ القيام كعبيِّ الكلام ... و في الصمت عيِّ كعبيِّ القلم
و في بعض الأحاديث إن ابن آدم إذا أصبح كفرت أعضاؤه للسان، و قالت: اتق الله فإنك إن استقمت استقمنا و إن اعوججت اعوججنا، و حدثني بعض شيوخنا بإسناد رفعه إلى أبي الدرداء أنه قال: لأن يعثر الرجل حتى يخر لوجهه خير له من أن يعثر بلسانه، و أنشدني هذا الشيخ في منظوم هذا المعنى لبعضهم:
يموتُ الفتى من عَثرَة بلسانه ... و ليس يموت المرءُ من عَثرة الرجلِ
فعثرته من فيه تُودي برأسهِ ... و عثرته بالرِّجل تُوسىَ على مهلِ

و قال أبو الفضل الريعي - من ولد ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب - حدثني محمد بن ذياد مؤدب المعتز - قال: بينا أنا جالس مع المعتز و الزَّبير بن بكار يقرأ عليه أخبار أبي السائب و كان المتوكل قال لي: إذا غضبت عليه فلا تضربه، و قل ليندون الخدم يضربه، قال: فترك المعتز الزبير، و قام يلعب مع الخدم، و قد كنت ظننت أنه قام لحاجة، فقلت ليندون: أما ترى إلى الأمير ترك شيخاً من قريش جالساً في سواده، و قام يلعب؟! لو كانت يدي مطلقةً عليه لأوجعته ضرباً، فقام إليه يندون ليضربه فهرب منه المعتز، فلم يزل يراوغه حتى سقط في عثرة، فدميت رجله، ففزعنا و بادرنا إليه و قال له الزبير: يا سيدي لو أعلمتني أنك قد ضجرت لقمت و لم أوذك فقال المعتز: لا بأس هوّن عليك و أنشد:
يُصابُ الفتىَ من عَثرةٍ بلسانه ... و ليس يصابُ المرءُ من عثرة الرجلِ
قال أبو الفضل: فحدثت بهذا الحديث أبا عبد الله بن حمدون فقال لي: أنا أحدثك عن أبيه المتوكل بنحوٍ من هذا، كنا عنده في اليوم الذي قتل في ليلته، فقام لحاجة، فلما رجع قمنا، و المنتصر جالس، فلما قرب منه قام، فنظر إليه المتوكل و قال له: اجلس يا محمد، و أقبل علينا فقال:
هُم سَمَّنوا كَلباً ليأكل بعضَهُم ... و لو أخذوا بالحزم ما سمَّنوا كلباً
قال أبو عبد الله: فوالله ما صلينا عتمة من تلك الليلة و المتوكل من أهل الدنيا.
و نرجع إلى ما كنا فيه فنقول: قد كان يجب أن نقدم بين يدي هذا القول الرغبة الى الله في المعافاة من سورة الغضب و من غشية الأنف، و من البلوغ في طاعة الحنق إلى ما يردي الحلم، و إلي ما يهزم الرأي، و إلى ما يزين إطلاق اليد و اللسان بما يجنى منه الندم بعد ساعة فعله، و يوجد منه الأسف و اللهف غب يوم كونه، و قد ينجد على اماتة الغيظ و قتله، و ينفع في تَمصُّل الحقد و ذوبه أن تكون النفس كاملة وقوراً، و بأمور الزمن عروفاً، و ان يكن اللسان حديداً و القلب شديداً، فإن كمال الآلة يحبب الاقالة، و علوَّ القدرة يزين التكرم و الترفع عن المعاقبة، و قد قال قائل مجرب:
كُنْ حاقداً ما دُمتَ ليتَ بقادر ... فإذا قَدِرْت فخلّ حقدكَ و اغفر
و اعذُرْ أخاك إذا أساءَ فَرُبَما ... لجّتْ إساءتهُ إذا لم تَعذُرِ
و كثيراً ما يقطع بالمخاطب عيه فيفزع إلى السّفه، يتل الغبيّ البئ حصره فيطلب إخفاء أمره بالشغب، و ذلك أخفض المواقف، و الأم الهزائم و قال علقمة بن علاثة في نحو من هذا المعنى: أول العيّ الاختلاط، و أسوء القول الإفراط هاهنا الاضطراب لشدة الغضب، فأما إذا أيقن أنه التام الحسنى، و الموفور للعلى فهو عند نفسه البحر الذي يلتهم كل ما ألقي فيه و هو ساج ساكن و الطود الذي يحتمل كل ما نيط به و هو قار ثابت فيعود طريقه إلى الاحتمال دميثاً، و عذره في الأعضاء - عند نفسه - واضحاً جميلاً.جعلنا الله ممن يقيم لطبيعته المعاذير في الأقصار عن الرذائل، كما يقيم الحجيج عليها في القصور عن الفضائل، و لا جعلنا ممن يمهد لنفسه العلل في هجران الخير لصعوبة طريقه. و يخرج لها الأسباب في إتيان الشر لإعتنانه، و اتفاق عروضه، و قد قال الشاعر:
فلا تعذريني في الإساءة إنه ... شرار الرجال من يسيء فيعذر
و تجزع نفس المرء من سب مرةٍ ... و تسمع ألفا مثلها ثم تصبر
و قال آخر:
و عذرك في القبائح مستتب ... و ليس الناس كلهم يلام
و قال العبدي:
عذرك عندي لك مبسوط ... و الذنب عن مثلك محطوط
ليس بمسخوط فعال امرئٍ ... كل الذي يأتيه مسخوط
و ينشد أصحاب المعاني:
فخذ القليل من اللئيم و سبه ... إن اللئيم بما أتى معذور

قالوا: و ليس هذا العذر في شيء، و إنما يريد أن اللئيم يسب بما يأتيه فيجعل وسما على وجهه كالعذار و قد يجوز أن يكون من العذر، و تأويله ذم اللئيم فإنه عند نفسه معذور، فذلك أوجب للوم عليه، لأنه لو استقصر فعله لدل على أنه أعطى قليلاً من نية مكثرة لو استطاعت.و قال المكتفي أبو محمد علي بن أحمد - لما كان كاتبه معه بالري أحمد بن أبي الأصبغ يكاتب عبد الله بن سليمان بن وهب بأخباره، فينهيها إلى أبيه المعتضد، فلما اجتمعا عاتبه المعتضد، قال فلم أزل أقارب و أباعد حتى صدقني عن المخبر له، و زال ما في نفسه، فقالت:
و لما رأيت العذر يظلم وجهه ... و لم يبق إلا أن أقول فأكذبا
خلطت بحق باطلا فتشبها ... و جئت من الباب الذي كان أصوبا
و نحو من هذا قول علي بن الجهم بن بدر - مولى بني سامة بن لؤى و هو يدعا " ؟ " فيهم صميماً:
و فتى ضاقت مذاهبه ... ضاق ذرعاً بالذي صنعا
جعل الإقرار جنته ... حين رام العذر فامتنعا
و قال آخر في ذم المعاذير، و نسبها إلى الأكاذيب:
جد لي بغفرانك من قبل أن ... أخضع بالعذر و أن ارغبا
فالعذر لا يسلم من زخرف ال ... كذب، و ما أنشط أن أكذبا
و كتب إلي بعض عمال السلطان معتذراً من تأخر كتابه عني بأن قال: فإن رأيت أن تسامحني بما في غضون اعتذار المعتذر فعلت إن شاء الله تعالى. و قال قائل: زاد على هؤلاء كلهم في حسن القول و جودة المعنى:
إياك و الأمر الذي إن توسعت ... موارده ضاقت عليك المصادر
فلما حسن أن يعذر المرء نفسه ... و ليس من سائر الناس عاذر
و أشعر منه و أحكم كعب الغنوي إذ يقول:
لا تعذرن الدهر صاحب ريبةٍ ... فسان آتٍ أمر سوء، و عاذره
و من هذا الجنس - و إن لم يكن من النوع نفسه - قول تميم بن أُبيَّ بن مقبل عوف بن حنيف بن العجلان بن عبد الله بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة - و قد أحسن فيه ما شاء:
يا حر أمسى سواد الرأس خالطه ... شيب القذال اختلاط الصفو بالكدر
يا حر من يعتذر من أن بلم به ... ريب الزمان فإني غير معتذر
فأما الكلام الذي يستحق قضية الحسن عندي، و لعله كذاك عند غيري فشعر أنشدنيه أبو مسلم عن ابن دريد عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي لبعض القيسيين:
يا سلم لا أقري التعذر نازلي ... و الذم ينزل ساحة المعتذر
و لقد علمت إذا الرياح تناوحت ... أطناب بيتك في الزمان الأغبر
إني لأبسط للضيوف تحيتي ... و أشب ضوء النار للمتنور
و تنال بالمال القليل براعتي ... قحماً تضيق بها ذراع المكثر
و هذا البيت الأخير عجب.
و المعاذير كما قال الله من الأدهان " ؟ " و من الرياء و النفاق و هي مع ذلك ربما أردت، و ربما كان الصدق أنجى منها في العاجل، فأما في الآجل فكلما.
و عرض الحجاج قوماً من الخوارج للقتل فقال أحدهم: إن لي عليك حقاً أيها الأمير. قال وما هو؟ قال: آني حفظت غيبك، و ذلك أنني كنت في مجلس أبن الأشعث فسبك و ذكر أمك فقلت :مهلاً إن أبويه كانا كريمين سريين، و لكن ما شئت فيه فقل. و استشهد برجل من الأسرى، فشهد له، فقال الحجاج للشاهد: فما منعك أن تقول قوله؟ قال: قديم بغضي لك. قال: أطلقوا هذا لحقه، و هذا لصدقه.
فأما البدوي فإنه جعل المعاذير من أفعال المريب فقال:
و ربت منطقٍ حسن أحيلت ... معايبه فعد من الذنوب
فلا عذري يرد علي شيئاً ... و كر العذر من فعل المريب
فبذنبي حاضر لا شك في فيه ... لسامعه، و عذري بالمغيب
و هذا البيت الأخير تمثل به عبد الحميد بن يحيى العامري صاحب البلاغة، و رئيس هذه الصناعة. و يكفيك من مذمة العذر أنهم أشقوا منه اسماً لشكاسة الخلق، و لظهور البخل، فقالوا: رجل عذور إذا كان سيئ الخلق كثير الاعتذار عند المنع، قالت الشاعرة:
إذا نزل الأضياف كان عذوراً ... على الحي حتى تستقل مراجله

و حسبك من نقيصة العذر أنه و الملامة مقترنان، و أنه لا يوجد إلا مع التثريب في مكان و اللوم الذي هو رديفه و متكلفه هو الموت عند العقلاء، و لا سيما إذا ورد من العقلاء، و يعجبنيس قول البدوي:
وإني أحب الخلد لو أستطيعه ... و كالخلد عندي أن أموت و لم ألم
و مثله قول الحادرة:
فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم ... بأحسابنا إن الثناء هو الخلد
و المعاذير صفو الكذب، كما أن الحجج صفو الحق و ذاك أنه ليس يخلص في العذر من الأكاذيب إلا أشبهها بالحق، و لا يخلص في الحجة من الحق إلا أبعده شبهاً من الباطل، هذا إذا كانت حجة على الحقيقة، و كانت نتيجة عن مقدمات صادقة، فأما اللحن بإسكات الخصم و اللدد يوم المقامة و الحفل، فقد يكون بالحق و الباطل كما قال الشاعر - و هو مليح ابن أم غلاقٍ الأعيوي من أسدٍ، و لها خبر ليس هذا موضعه:
برئت إلى الرحمن من كل صاحب ... أصاحبه إلا حماس بن ثامل
و ظني به يوم السماطين أنه ... سينجو بحق، أو سينجو بباطل
و حِماس بن ثامل بن الشمردل بن تميم بن برثن بن منقذ بن أعيا - و أسمه الحارث - بن طريف بن عمرو بن الحارث بن ثعلبة هو القائل:
و مستنبح في لجِّ ليلٍ دعوته ... بمشبوبةٍ في رأس صمدٍ مقابلِ
فقلت له: أقبل، فإنك راشد ... و إن على النار الندى و ابن ثاملِ
و له شعر كثير، و كان جده الشمردل مذكوراً بحسن الشعر، و سنستقصي ذلك كله في موضعه في كتاب أسد - إن شاء الله.
و قد كنت قلت - و أستغفر الله - :
و أعتسف الخصم الألد بمنطقي ... فيبلغ ما لا يبلغ الحق باطلي
بحيث جفاني الأقربون و كلهم ... شهيد، و أضحي ناصري مثل خاذلي
لدى ملك يكمي لخصمي نصرةً ... و أعيا غلته ختل ثبتٍ مماجلِ
إذا اتصلت آراؤه سهم حجةً ... تمهل أو يرمي به في المقاتلِ
فلا عند أكثاف الرمية صامت ... و لا في ضجاج اللغو أول قائلِ
و لي أيضاً في نحو ذلك:
يا رب خصم قد تركت ذماءه ... و كأنما شفت له أرماسهُ
من بعد ما قد كان يطفح قوله ... بدداً و ينغض في المقادم رأسهُ
بجدال ذي غرب ألد، كأنما ... يذكى بشعلةٍ قوله نبراسهُ
في موقف كالحرب تهتضم الفتى ... فيه جبانته، و ينفع بأسهُ
و قال رسول الله ( لرجلين: " لعل أحدكما أن يكون ألحن بحجته من الآخر، فمن حكمت له بغير حقه فإنما أقطع له قطعةً من النار - أو كما قال( - فخرجا فتراضيا بينهما أراد ( أن يؤدب أمته بإشعار المقضي عليه أن ليس مغلوباً من غلبة الحق، و بإعلام المقضي له أن ليس غالباً من غلبه الباطل، و بذلك يقع التباذل، و في التباذل التناصف، و في التناصف التصادق، و هو المذهب المحبوب عند الله و أصفيائه - جعلنا الله من المرضيين عنده أقوالاً و أفعالاً، و من المعفوّ لهم أقوالاً و أفعالاً.

و أعلم - حفظك الله - أن طالب الحق حيث يلاقي مذهبه، و محب العدل إذا جمع عليه غرضه ليس يحب الحق لذاته، و لا يبغي التناصف على جهته، و إنما يريد موافقة المراد أين سلك، و يحب مواتاة النُّجح كيف سهل، و مورد الحق و مورد الباطل عنده سيان، بعد أن يتناوله آرابه، و يقضي أو طاره، فأبعد من هذا الشك ما استطعت، و أهرب بنفسك من هذا الشوب كيف أردت، و أعلم علماً يقيناً أن الأمر الذي يسرك، و الأمر الذي يسؤك إذا كان منزعهما من العدل، و مصدرهما عن حكمة الحكم فكلاهما حق نقي و كلاهما عدل صحيح. و إنهما يسقيان بماء واحد، و يرجعان إلى أصل جامع، فلا تفرق بينهما بالهوى و لا تخرق إلتئامهما بطاعة الغضب، و لا تنسبهما لعلات و هما من الأعيان، و لا تحرمهما فضيلة التشابه و هما صنوان، فقد سمعت الله عز و جل حمد قوماً فقال: (و لم يفرقوا بين أحد من رسله) و الحق من كلماته، و العدل من أسمائه، و هو لمفرقهما أشد أرصاحاً " ؟ " و من ممحقهما أبعد رضواناً، لأن الرسل حملة الحق، و بالحق عظموا و بالحق شرفوا، فموضع الإساءة من المسرب أغلظ من موضعها في المشرف، و داعي السخط في المعظِّم أقوى منه في المعظَّم، و لعلي أجمع بتكرير هذا الوعظ بين الأجر في تعريفك، و بين النفع في إذكاري - و التوفيق من الله.
سر - أيدك الله - فينا بسيرتنا، و أقضِ علينا بقضائنا: فأول راض سنةً من يسيرها.
و قد علمت مجازاة عبد الله بن هارون المأمون لسهل بن هارون عن كتابه في البخل، بالبخل عليه، ليريه أنه قدَّ جوابه من مسلَّته، و قد سدَّ مطالع حججه، لأنه منعه في معرض التنويل، و زرى على رأيه في شبه التفضيل، فكذلك فأعمل فينا بالعدل الذي جلوناه، و اجعلنا أول من يفوز به منك، و أول من أظهرته فيه من قوى نفسك، و أنظر في هذا الكتاب ذاكراً لهذا الإيصاء، و معتقداً لهذا الفعل، و هو كتاب صنعناه لكل أديب أحب أن يكون مذهبه خاصاً و محضره بين أهل العلم مهيباً، و أراد أن يحسن الدلالة على اتساع معلومه، و ينقلب عن المجلس إذا ألم به و الألسن مشتجرةً بوصفه، و همم أهل الطلب معقودةً بأثره، فإن الذي تضمنه ثمن للإجلال، و داعية للهيبة و رائد صادق في حسن المعرفة.
و كان باعثي على تصنيفه أني رأيت أشعار العرب، و انتظامها كل مثل الحكيم، و كل معنى بديع، فرأيت أن جمع ذلك و تهذيبه و اختياره و تأليفه يجمع بين النفع بما فيه من الأدب الذي يفتق اللسان، و يستقدم الجبان، و بين النفع بما فيه من الدلالة على معجز القرآن، إذ كان يتبحر ألفاظ هؤلاء القوم، و المعرفة بمعادن ألفاظهم، و بمنازع أغراضهم يعلم معجز القرآن علماً حسياً ذاتياً.
و أنا أرى أن علم العالم أن القرآن معجز من طريق القياس و الاستدلال، و من طريق الحس و الإدراك أشرف و أعلى من علم العالم بإعجازه من طريق القياس بالتقليد لغيره، و الاعتبار بالفصحاء الذين تقدموه و كانوا حجة عليه، و لا أرى أن الإعجاز إنما هو بالصرفة لا غير ، كما يعتقده قليل من الناس بل أرى أن الإعجاز إنما هو بنوعية ذلك النظم، و بإعجازه من التمكين و الحول، و أن الصرفة أيدته و كانت في الرفد بمنزله الخوافي من القوادم، و استقصاء هذا الشوط من الكلام يطول، و لعل الله أن يوفقنا لتجريد كتاب مفرد في معناه. فعزمت لما رأيت هذا المرآى على كتاب أجمع فيه المختار من أشعار العرب، و المهذب من أخبارها و بلاغتها، فرأيته ينتهي من الطول إلى حد يفيض على لمع المعارف، و يستغرق نكت الفوايد، و الكثرة إملال، و كأن الإطالة تقيم عذر المعرض عن العلم، و تبسط حجة التارك لتدبر الكتب، فقصدت إلى هؤلاء الشعراء الأربعة المثبتين في الطبقة الأولى

و هم أمرؤ القيس و النابغة و زهير و الأعشى، فجمعت إلى أسم كل شاعر منهم أسماء من يشاكله، و أخبرت عن قبيلة كل واحد من الأصل و المضاف، بمختار أشعارها و محاسن أخبارها، فتهيا لي من الشعراء زيِّد على ستين شاعراً، و إذا ورد المختار من أشعار قبائل هؤلاء على وفور عددهم مع ما يتعلق بهم من ملح الأناشيد، وطرف المقاطيع، و معارف الأخبار، كان جمهور علم العرب من أخبارها و أشعارها و أنسابها مع لهوةٍ من غرائب اللغة التي تجمع بين الأغراب و الإحسان، إذ كان الغريب حوشيُّ لا يستعمل، و عاديُّ لا يطلب، و لو أنني اقتصرت على أسماء هؤلاء الشعراء لكان غريباً عجيباً، لأنه لا شيء أحسن و لا آنق من أن يجري ذكر امرئِ القيس فنذكر بضعة عشر شاعراً على هذا الاسم، و نذهب في ملح أخبارهم و بارع أشعارهم، و كذلك في النوابغ و الأزاهر، فأما العشو فنحو ثلاثين شاعراً، و لكنني لو فعلت ذلك لما تعديت الدلالة على شدة بحثي و طول استثارتي مدافن هذه العلوم، دون إيراد ما يغزر به إمتاع القارئ و يكون ثروة للحافظ المذاكر، كما صنع أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح - رحمه الله - فإن صنع كتاب " العمرين " فأتى بإشارات دالةٍ على معرفته دون أن يقرن بذلك ما يلذ الناظر بعلمه، و لم أظن أنني بقيت في الاختيار متعللاً، لأنني كنت أختار البارع من أبيات القصيدة، ثم ألقيها جانباً مدة أيام، و أعاود النظر فيها برأي سالم، و باختيار شابِّ واعٍ، فأختار من ذلك المختار ما أرى إيراده، فيكون إبريزنارين.
و اعتمادنا في تفسير الغريب موافقة أغراض المتوسط في الأدب، إذ كان المبتدئ إلى غير هذا الكتاب أحوج، إلا في مواضع، رأينا أن تفسيرها و إن كانت معروفة شرك لذكر فائدة لا نرى إدماج ذكرها فنكون في ذلك كما قال البدوي:
و أمضي إلى الأرض التي من ورائكم ... لأعذر في إتيانكم حين أرجع
و كما قال الأخر:
وما بي حب الرمل لكن بي هوى ... و يغريك بالشيء البعيد الحبائب
و كذلك فعلنا في مسارق الشعراء، فأنا لم نعرض منها إلا لما تكون الفائدة في المعرفة به دون المعرفة باستراقه، أو الاستراق منه.
و ألغينا الأسانيد خيفة التطويل إلا في أحد ثلاثة مواضع: إما خلاف نورده، و غفل نحضره، فنحتاج إلى إسناد يعضده، و إما أثر شرف روايةً في نفوسنا، و كان من أماثل من أدركناه في زماننا فحسبنا أن التخفيف بحذفه لا يبلغ ثمن العطل من التحلي بذكره، و إما فائدةٍ كان موقعها منَّا لطيفاً، و موردها عندنا غريباً، فرأينا أن الإغماض عن ذكر من أستفدناها منه خلل في المروءة، و شعبة من كفر النعمة، و غمط لإحسان لسنا أغنياء عن أمثاله، و لا مكتفين دون ما نستأنف من أشكاله، فقد حدثني أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ إنه كتب إليه أبو عبد الله النيسابوري أنه سمع أبا العباس محمد بن يعقوب الأصم يحكي عن العباس أبن محمد الدوري أنه سمع أبا عبيد القاسم بن سلام يقول: من شكر العلم ذكرك الفائدة منسوبةً إلى من أفادك إياها أو كما قال.
و أغنانا عن سياقة الأسانيد كلها طريقتنا في الإتقان و ما نحن من 0000إيثار شدة 000 الصحيح من السقيم.
و ينبغي لك يا قارئ الكتاب إن كنت تحب الشعر أن تعتده مختار أشعار القبائل، فإن كنت تحب الأخبار تمثلته مؤلفاً في سير الجاهلية و الإسلام و مقصوداً بالأغرب فالأغرب من المعارف و الآثار، و إن كنت تحب اللغة تصورته كتاباً مرتبطاً " 0000 " من عقائلها، و من الشواهد عليها، و إن كنت تحب النسب - و هو أصعب علوم العرب - احتسبته سياقة جماهير الأنساب، و ذكر الجمل من معارف الأشراف، و أيقن أنك لو أردت أن تصنف منه مئين من الكتب لأمكنك، لأنك تأتي إلى أخبار إياس بن معاوية - مثلاً - فتجد في بابه من أخباره عند ذكر مزينة ما لو أفردته مؤلفاً لما كان معيباً، على إقراري بالعجز دون الغاية، إذ كانت الكتب التي جمعها أسلافي ذهبت جميعاً بالشام، و كان مدة إستيافي النظر و الجمع إلى حين تصنيف هذا الكتاب يقصر عن الاستيعاب، مع ما استفزع هذه المدة من أيام الصبا، التي عذرتني في قلة الحزم و الإصابة، لأن كتبنا ضاعت و سنِيّ عشر سنين، و صنفت هذا الكتاب و أنا مستقبل الخامسة و العشرين.

أسأل الله تعالى أن يرزقني برَّ ما أُصنفه من هذا الكتاب و غيره في تخليده لذكرى، و احتسابه بين أهل العلم غيبي، و قيامه بخلافة لساني و محضري، و مع ذلك كله فأنا فقير من القارئ إلى بسط العذر، و إصلاح المختل، و لمِّ الشعث، و لعلي أزيد في هذا المصنف على طول الأيام ما امتد العمر، و ما أتضل الفراغ و إن أقامت الرغبة و إن ثبتت الدواعي و إن نفقت الصناعة، و إن استقام الأمر، و إن شاء الله.
و الحمد لله رب العالمين و صلواته على سيد المرسلين محمد و آله الطاهرين.

فصل في ذكر اشتقاق " العرب "
رأينا أنه مما يحتاج إلى تقديمه، ونحن في إيراده كالنائبين عن أبي بكر محمد بن دريد - رحمه الله - لأنه مما كان يجب أن يستقصيه في أول كتابه المصنف في اشتقاق الأسماء العربية، و بالله التوفيق.
الذي أراه أن العرب سميت بهذا الاسم لإفصاحهم باللغة، و إيضاحهم سبيل البلاغة، من قولك: أعربت الشَّيءَ، أو عن الشيء، إذا ابنته أو أبنت عنه، و عربت عن فلان: أبنت عنه، و عربت الفارسية: أبنتها، و قال أبو عبيد في حديث رسول الله ( " الثيب يعرب عنها لسانها، و البكر تستأمر في نفسها " و قد روى: " يعرب عنها " و هو قول الفراء، و بذلك الحديث الأخر في الذي قتل رجلاً يقول لا إله إلا الله، فقال القاتل: إنما قالها متعوذاً. فقال النبي ( : " فهلا شققت عن قلبه " ؟! فقال الرجل: هل كان يبين لي في ذلك شيئاً؟ فقال النبي: " فإنما كان يعرب عما في قلبه لسانه " . و منه حديث رووه عن إبراهيم التيمي الفقيه، و هو إبراهيم بن يزيد بن شريك، بن تيم بن عبد مناة بن أدّ، قال: كانوا يستحبون أن يلقنوا الصبي حين يعرب أن يقول: لا إله إلا الله، سبع مرار، و أعرب الرجل بحجته إذا أفصح عنها، و عرب: إذا فصح فلم يلحن، و المعرب: الفصيح اللسان، و العربي مثله، و المعرب: الذي له خيل عراب، و الذي يعرف الخيل العراب أيضاً يقال له معرب، و منه إعراب النحو، لإبانته مقاصد الألفاظ، و إزالته شبهة الالتباس، و منه العربون و العربان لأنه إبانة عن موافقة الشيءِ المشترى لمشتريه، و صحة عزمه على وزن الثمن فيه، و منه في الحديث: " سنأتي سنون مغريات مكلحات " أي مبينات للجدب، و أحسبه في حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. و العربرب و العبربر: السماق لبيان حمضه و حذاقة طعمه.
و مما يقوي ذلك أن يعرب بن قحطان إنما سمي يعرب لأنه أول من عدل لسانه من السريانية إلى العربية في قول القحطانية، و قولنا للأمة التي يقع فيها الأعراب: عرب، كقولنا: فلان ضارب، إخباراً بأن الضرب وقع منه، لأنا لا نرى أن الأسماء مشتقة من الأفعال، على ما يذهب إليه قوم يخالفهم البصريون، بل نرى أن الأسماء و الأفعال مشتقة من المصادر، على أنه قد يكون في الأسماء ما يشتق من الاسم دون المصدر، على حد قولك: أستحجر الطين، و أستنوق الجمل، و تأله الرجل، فعل الأفعال المقربة إلى الإله، كما قال: سبحن و استرجعن من تألَّهي و استقصينا ذلك كله في مواضعه من غير هذا الكتاب، و بالله التوفيق. هذا أحسن ما يفسر به اشتقاق العرب عندي، و لو كنا نقتصر على ما نتيقن صحته لكفانا هذا الوجه، إلا أنا لإيثار ناشفاء صدر القارئ و ترك الاختيار في أقوال الخلف نورد ما يحضرنا ذكره من الوجوه في اشتقاق العرب و هي ثلاثة عشر وجهاً: فالأول ما ذكرته.
و الثاني: أن العربي منسوب إلى العرب، و العرب جمع عارب، كالغيب جمع غائب، و العارب الذي أتى عربة و هي جزيرة العرب، كما يقال: جلس فهو جالس إذا أتى جلساً، و هي نجد، و غار فهو غائر إذا أتى الغور.
و العرب أيضاً جمع عارب كحايل و حول، و غائط و غوط، إلا أنه لا ينسب إلى العرب، لا يقال في كلامهم عربي، و كان العرب ورد مطابقة للعجم، كما أن العرب بازاء العجم، و كما يقال خُشْبٌ و خَشَبُ.

و العجم اسم للجنس، و له اشتقاق يطول ذكره في هذا الموضع، و العجم جمع أعجم. و العرب و إن كان جمعاً كما ذكرناه فإنهم لم يروا أن يتصرفوا فيه بواحد يوردونه له، لأنهم لو قالوا: عارب لجاز أن يدل على أنه فاعل فعلاً من أحد الأقوال التي ذكرناها أن اشتقاق العرب يتوجه منها، و لخرج عن أن يكون دلالة على نسبه، إلى أن يصير دلالة على فعله، فاستغنوا عن ذلك بالنسبة إليه فقالوا: عربيُّ. و قال أبن دريد في مصدره: يقال عربيٌ بين العرابة و العروبة و قد سموا بعربي كما سموا برومي و في ضبة شاعر محسن يقال له رومي بن شريك، و في و في بني عبد الدار رجل يقال له أبو الروم عبد مناف بن عمير العبدري. و ممن أسمه عربي: عربيَّ بن منكث أحد بني عبيد الرماح بن معد بن عدنان، و عبيد بن معد هؤلاء انقسموا قسمين: ففرقة دخلت في مزينة، و فرقة دخلت في كنانة و التي دخلت في كنانة هي التي يقال لها عبيد الرماح، و أبن عربي هذا: إبراهيم بن عربي، و كان مكرماً عند بني أمية، و السبب في ذلك أن أمه كانت فاطمة بنت شريك بن عبدة بن مغيث بن الحد بن عجلان بن حارثة بن ضبيعة بن حرام بن جعل بن عمرو بن جثم بن ودم بن ذبيان بن هميم بن ذهل بن هنيئ أبن بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، و شريك هو الذي يعرف بشريك بن سحماء، و سحماء أمه، و هي في قول بعضهم: سحماء بنت عبد الله الليثية، و قال آخرون هي يمانية. و شريك هو الذي اتهمه عويمر العجلاني من الأنصار بامرأته فنزل بسببها اللعان، في حديث طويل ليس هذا موضعه، فلما كان يوم دار عثمان ضرب مروان بن الحكم و سعيد بن العاص فسقطا، فوثبت فاطمة بنت شريك فأدخلت مروان بيتا فأفلت، فكان بنو مروان يحفظون إبراهيم بن عربي لذلك و ولاه عبد الملك اليمامة و أعمالها، فتزوج بنت طلبة بن قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد ين مقاعس - و هو الحارث - بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، و أوفد إبراهيم مقاتل بن طلبة إلى عبد الملك و معه أشراف من تميم و عامر بن صعصعة، و كتب إلى الحجاب أن يحسنوا أذنه فأذن له أول الوفد، فلما دخل على عبد الملك أدناه و أكرمه فقال:
و فضَّلني عند الخليفة أنني ... عشية وافت عامر و تميم
و جدت أبي عند الإمام مقدَّما ... لكل أناس حادث و قديم
فقال رجل من عبشمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم:
لو لا حر قدمته لابن منكتٍ ... مقلم ناب الاسكتين أزومُ
لما كنت عند الباب أول داخل ... عشية وافت عامر و تميم
و كان إبراهيم اسود، ففيه يقول البعيث - و اسمه خداش بن بشر بن أبي خالد،و قد يقال: بشر بن خالد بغير كنية بن بينة بن قرط بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم:
ترى منبر العبد اللئيم كأنما ... ثلاثة غربانٍ عليه وقوعُ
و في هذه القصيدة يقول:
و إن لها جاراً إذا ما دعوته ... تحرد عاري الاشجعين منيع
أغر إذا ما شد عقداً لذمةٍ ... حماها و طير في الدماء كروع
و سنقصي - إن شاء الله - ذكر البعيث عند ذكر ضبة بنت البعيث فإنها كانت شاعرةً، و هي التي تقول ترثي أباها، و كان لما مات نعاه رجل من عكلٍ:
نعاه لنا العكلي لا دردره ... فيا ليته كانت به النعل زلت
فلن تسمعي صوت البعيث ممارياً ... إذا ما خصومات الرجال تعلت
و إبراهيم هذا هو الذي استعداه منازل بن فرعان بن الأعرف من بني عبد منبه أبن عبادة بن النزال بن مرة بن عبيدٍ، أخوه منقر بن عبيد على أبنه خليج بن منازل و قال:
تظلمني حقي خليج و عقني ... على حين صارت كالحني عظامي
رجاء لغولٍ من حرامٍ كأنما ... تسعر في بيتي حريق ضرام
يعني إن أبنه تزوج امرأة من حرام بن كعب بن ربيعة بن سعد بن زيد مناة بن تميم:
لعمري لقد ربيته فرحاً به ... فلا يفرحن بعدي أمرؤ بغلام
- في أبيات - فأراد إبراهيم بن عربي ضرب خليج فقال له: أصلح الله الأمير لا تعجل عليَّ!! أتعرف هذا؟! منازل بن فرعان الذي يقول فيه أبوه:
جزت رحم بيني و بين منازلٍ ... جزاء مسيء يفتر طالبه

تعمد حقي ظالماً و لوى يدي ... لوى يده الله الذي هو غالبه
أ أن أرعشت كفا أبيك و أصبحت ... يداك يدي ليث فإنك ضاربة
في أبيات كثيرة، فرفع عنه إبراهيم الضرب و قال لأبيه: عققت فعققت.
و قد كان في التابعين رجل يقال له أبو سلمة الزبير بن عربي البصري، و النضر بن عربي أيضاً حراني يروي عن عكرمة، و حسين بن محمد بن عربي من أصحاب شعبة، و غيرها هؤلاء ممن لم نعمد لإحصاء اسمه.
و نعود إلى سبيلنا الأول فمن شاهد على أن عربة اسم جزيرة العرب ما أنشده هشام الكلبي في كتابه المسمى " عربة " لأبي طالب عم رسول الله (، و اسمه عبد مناف بن عبد المطلب، و اسمه شيبة بن هاشم و اسمه عمرو بن عبد مناف، و اسمه المغيرة، بن قصي، و اسمه زيد، ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر، و هو جماع قريش، من ليس من ولد النضر فليس من قريش - بن كنانة بن خزيمة بن مدركة و اسمه عمرو، بن الياس أبن مضر بن نزار ين معد بن عدنان:
و عربة أرض لا يحل حرامها ... من الناس غير الشوتري القنابل
الشوتري: الجريء، و منه قول غالب العكلي:
بني كليب ساقكم جد شقي ... حتى رماكم عند آصال العشى
بمطرهم في الشباب شوتري
و القنابل: الضخم الجسم، و قيل العظيم الرأس، و أنا أرى أن هذا البيت يدل على غير ما استشهد به هشام، لأنه يدل على مكة فقط، و هشام أعرف. و قال أبو سفيان الأكلبي، و اسمه أنس بن مدرك من أكلب بن ربيعة بن عفرس بن حلف بن أفتل - و هو خثعم - بن أنمار بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، و قيل: هو أكلب بن ربيعة بن نزار، و أنهم دخلوا بحلف فصاروا معهم:
أبونا رسول الله و أبن خليله ... بعربة بوانا فنعم المركب
أبونا الذي لم تركب الخيل قبله ... و لم يدر شيخ قبله كيف تركب
و قال ابن منقذ الثوري من ثور أطحل بن عبد مناة بن أد بن طابخة.
لنا إبل يطمث الذل نيبها ... بعربة مأواها بقرنٍ بأبطحا
و لو أن قومي طاوعني سراتهم ... أمرتهم الأمر الذي كان أريحا
و قال أسيد بن الحلاحل:
و عربة أرض جد في الشر أهلها ... كما جد في شرب النقاخ ظماء
و قال أسيد أيضاً:
إذا ما القمر الثريا ... لثالثة فقد ذهب الشتاء
و تمت مدةٌ، و وفت عهود ... و بان الود و اتصل الجلاء
و بست بالتهام شامخات ... على أثباجها شجر و ماء
و رجت باحة العربات رجاً ... ترقرق في مناكبها الدماء
و قولهم: ما بالدار عريب من هذا، كأنهم قالوا: ما بها قوم من العرب و عريب جمع عارب، كعزيب جمع عازب، و يجوز أن يكون عريب اسماً واحداً غير جمع، و يكون بمعنى معربٍ، كما يقال: نذير بمعنى منذر، فكأنهم قالوا: ما بالدار أحد يعرب و لا يصفح، كما يقال: ما بها داع و لا مجيب.
و أما عريب بن زيد بن كهلان و غيره ممن اسمه عريب على فعيل فيجوز فيه الوجهان جميعاً. و يحوز أن يكون جمعاً سمي به رجل مثل كلاب و سباع، و يكون واحداً، و قد يستعملون عرباً أيضاً بالتنكير، لأنهم يقولون: ما بهذا الدار عرب، كما يقولون: ما بها ناس، أو: ما بها أحد، و ما نزل هذا الموضع عرب، كما يقولون: ما نزل هذا الموضع ناس.
و قال عمرو بن معاوية بن المنتفق بن عامر بن عقيل - و قيل أن بين المنتفق و بين معاوية أبا آخر و الله أعلم:
تهادي قريش في دمشق لطيمتي ... و تترك أصحابي، و ما ذاك بالعدل
فإني على هول الجنان لنازل ... منازل لم تنزل بها عرب قبلي

في أبيات يخاطب بها معاوية بن أبي سفيان، و كان صاحب الصوائف له غير مرة. و ولاه أرمينة و أذربيجان، و ولاه الاهواز، ثم غضب عليه و أغرمه. و كنا أغفلنا في صدر الكلام تفسير جزيرة العرب و حدودها عند ذكرنا عربة خوفاً من تفرط نظام القول و تكدير مهنإ الفائدة، و نحن نذكره، و نبين اختلاف أهل العلم فيه، و نبدأ بقول أبي جعفر محمد بن حبيب مولى بني هاشم و الذي بلغنا عنه أن جزيرة العرب خمسة أقسام، و هي الحجاز و تهامة و نجد و العروض و اليمن، قال: و ذلك أن جبل السراة - و هو أعظم جبال العرب - أقبل من قعر اليمن حتى بلغ أطراف بوادي الشام، فسمت العرب سراته حجازا لأنه حجز بين الغور و نجد. و كذلك تسمي العرب كل جبل يحتجز بين أرضين حجازاً، قال حربث أبن عتاب بن مطر بن كعب بن عوف بن عنين بن غوث بن نابل بن نبهان - و اسمه أسود - بن عمرو بن الغوث بن طيء - و هو جلهمة - بن أددٍ:
لنا نسوةٌ لم يجر فيهن مقسما ... خميس و لا بعد التساهم مربع
حماهن من نبهان جمع عرموم ... و صم العوالي و الحجاز الممنع
يرى خارجياً لا يزال إذا بدا ... تشير لهم عين إليه و إصبع
يعني بالحجاز هاهنا جبل طيءٍ، و الخارج عنى به أنه ظهر و بدا للعيون.
قال: وسمت ما خلف ذلك الجبل في غربيه إلى أسياف البحر من بلاد الاشعرين و عك و كنانة و غيرها و دونها إلى ذات عرق و الجحفة و ما صاقبها و غار من أرضها: الغور غور تهامة، تجمع تهامة ذلك كله.
قال: وسعت ما دون الجبل في شرقيه من الصحارى النجد إلى أطراف العراق و السماوة و ما يليها: نجداً، و يسمى جلساً أيضاً. إلا في قول أبي عبد الله محمد بن الأعرابي مولى مجالد،و مجالد مولى المنصور أبي جعفر فإنه ذكر أن المدينة هي جلس دون ما سواها، و ذلك لارتفاعها عن الغور، و انخفاضها عن نجد، ذهب أبو عبد الله إلى أنها سميت بذلك جلس لانخفاضها، و قد يجوز أن تكون سميت جلساً لارتفاعها من قولهم: ناقة جلس، أي كوماء مشرفة قال مرة بن محكام السعدي:
فصاف السيف منها ساق متليةً ... جلس فصادف منها ساقها عطبا
و قال غيلان - و هو شاهد في الغريب - : يدعن الجلس نحلاً قتالها أي يتركن الناقة الضخمة ناحلة ضئيلة الجسم لشدة السير، و القتال و النفس. قال: و سموا بلاد اليمامة و البحرين و ما والاها - و فيها نجد و غور لقربهما من البحار و انخفاض مواضع فيها و مسايل أودية بها - العروض، و سموا ما خلف بلاد مذحج تثليث و ما دونها و ما قاربها إلى صنعاء و ما والاها من البلاد إلى حضرموت و الشحر و عمان و ما يليها إلى اليمن: اليمن اسماً جامعاً لذلك كله. هذا قول أبي جعفر، و عليه معولي في هذا المعنى.
و كان الهيثم بن عدي يحكي عن مجالد عن عامر أنه قال: سألته عن جزبرة العرب فقال: ما بين القادسية الى حضرموت. و قال معمر بن المثنى: جزيرة العرب ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن في الطول، و أما العرض فما بين رمل يبرين إلى منقطع السماوة. و قال الأصمعي: جزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول، و أما العرض فمن جدة و ما والاها من ساحل البحر إلى اطرار الشام، و إلى هذا القول كان يذهب أبو عبيد القاسم بن سلام في تفسير حديث رسول الله ( وعلى آله أنه أمر بإخراج اليهود و النصارى من جزيرة العرب. قال أبو عبيد: و إنما أستجاز عمر بن الخطاب إخراج أهل نجران من اليمن و كانوا نصارى إلى سواد العراق، و أجلى أهل خيبر إلى الشام و كانوا يهوداً من أجل هذا الحديث.

و أما الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي فكان يذكر عن مالك الفقيه و هو مالك بن أنس بن مالك بم أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن ذي أصبح - و إليه تنسب السياط الأصبحية - و اسمه الحارث بن مالك بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير - و اسمه العرنجج بن سبأ - و أسمه عبد شمس، أبن يشجب بن يعرب بن قحطان، و قد قيل في نسبه قول آخر، و هذا أصح و أثبت من طريق الكلبي، و لا بأس عند ذكر مالك يذكر نسب منازعيه الرئاسة من الشافعي و أبي حنيفة، فأما الشافعي فهو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافعي - و إليه ينسب - ابن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف.
و أما أبو حنيفة فهو النعمان بن ثابت مولى بني تيم الله بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، ذكر ذلك ابن أبي خيثمة و هو الذي يروى عنه أبو عبد الله محمد بن داود ابن الجراح - رحمه الله - وقد قيل انه ليس له عرق في العرب. و لا ولاء أيضاً، و أنه يدعي ولاء بني تيم الله، و ذكر أبو عبد الرحمن المعري قال: قال لي أبو حنيفة ممن أنت؟ قلت: من أهل دورق. قال: ما يمنعك أن تعتزي إلى بعض أحياء العرب فهكذا كنت، حتى إعتزيت إلى هذا الحي من بكر بن وائل، فوجدتهم حي صدق، و الله أعلم بالصحيح.
و ما أعرف في الثلاثة من يروى له شعر إلا الشافعي، فإن أبا بكر محمد بن شعيب الصيرفي القاضي الحلبي - رحمه الله - أنشدني قال: أنشدني بن أبي العقب الدمشقي بإسناد وصله إلى الشافعي، للشافعي:
يا راكباً قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاع خيفها و الناهضِ
سحراً إذا قاض الحجيج إلى منى ... دفعاً كملتطم الفرات الفائضِ
إن كان رفضاً حبُّ آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
فقال الزبير عن مالك: إن جزيرة العرب المدينة، و اسمها طيبة، و قد تسمى بأسماء غير ذلك منها طيبة و طابة، و يثرب و العذراء و جابرة و يندد و الدار، قال الله عز و جل: (و الَّذينَ تَبَوَّأوا الدَّارَ و الإيمان) و يحتج قائل هذا بقول عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى ابن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب، و قد قال له كعب: إنك تموت شهيداً. فقال: من أين و أنا في جزيرة العرب؟! و إنما نُحِلَت هذا الاسم من أجل أنه كان بنو عبيل بن عوص أخوة عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام، ثم نزلها بعدهم بنو عمليق بن يلمع بن عابر بن أشليحا بن لوذ بن سام بن نوح عليه السلام، ثم نزلها بعدهم قوم من عاد بن عوص، و كل هؤلاء من القبائل القديمة التي تدعى العرب العاربة، و هي عاد و عبيل أبناء عوص، و ثمود و جديس ابنا غاثار بن ارم، و طسم و عمليق و جاسم و أميم بنو يلمع بن عابر.
و روى أبو أسامة: أَميم - بفتح الهمزة - و غيره قال: أُميم - بضمها - و حضرموت و السلف و الموذ، بنو يقطان بن عابر، و جدهم بن عامر بن سابن يقطان بن عابر بن حمير، فهم فيهم، قالوا: فأقام أولئك القوم من عاد بيثرب برهة، حتى جاءهم قوم من الأزد - و اسم الأزد دراء بوزن فعال، و يقال فيه: الأسد بالسين، و ذكر يعقوب أنه أفصح في الزاي و النسابون يقولون: إن الأسد إنما سمي الأسد لكثرة إسدائه المعروف، و هذا اشتقاق لا يصح عند أهل النظر، و الصحيح في اشتقاق ما أخبرني به أسامة عن رجاله قال: العسد و الأسد و الأزد هذه الثلاث كلمات معناها كلها الفتل قال: و الأزد يكون أيضاً بمعنى العزد، و هو النكاح. فنفى الأزديون العاديين عن يثرب و تدبرها، و أقاموا بها، و في ذلك يقول شاعر من الخزرج ثم أحد بني زريق في قصيدة طويلة يصف قومه:
ملوكاً على الناس لم يملكوا ... من الدهر يوماً كحل القسم
فأنبوا بعادٍ و أشياعها ... ثمود و بعض بقايا ارم
بيثرب قد شيدوا في النخيل ... خصوناً و دجن فيها النعم
و فيما أشتهوا من عصير القطاف ... و العيش رخو، على غيرهم

فساروا إليهم بأثقالهم على كل فحل هجانٍ قطم
فما راعهم غير معج الخيول ... و الزحف من خلفهم قد دهم
فابنا بسادتهم و النساء ... رغماً، و أموالهم تُقتسم
ورثانا مساكنهم بعدهم ... فكنا ملوكاً بها لم نرم
و قد استقصيت ذكر هذه القبائل و أصل نقلها و مناهي أمورها في موضعه من هذا الكتاب، و بالله التوفيق.
و إنما نعني بجزيرة العرب محلها الأقدم، و مركز بيضهم الأول، لأنهم بع ذلك تفسحوا و حازوا كثيراً من الأرض خارجاً من هذه الجزيرة، ألا ترى إلى قول الأخنس بن شهاب - و سيأتي نسبه و خبره مستقصى في كتاب تغلب إن شاء الله:
لكل أناس من معد غمارة ... عروض إليها يلجأون و جانبُ
لكيز لها البحران و السيف كله ... و إن يأتها بأس من الهند كاربُ
تطاير على أعجاز حوش كأنها ... جهام أراق ماءه فهو آيبُ
- أبو عمرو الشيباني: يطيروا - لكيز: بن أقصى بن عبد القيس بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة ابن نزار.
و بكر لها طهر العراق و إن تشا ... يحل دونها من اليمامة جانبُ
يعني بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أقصى بن جديلة بن أسد بن ربيعة ابن نزار، و من قبائل بكر: يشكر، و زمان و شيبان و عجل و لخم و بنو قيس بن ثعلبة و غيرهم.
و صارت تميم بين قف و رملة ... لها من حبال منتاى و مذهبُ
و كلب لها خبث فرملة عالجٍ ... إلى الحرة الرجلاء حيث تحابُ
في الكلام على نسب كلب طويل، و نحن نذكره في موضعه إن شاء الله.
و غسان حي عزهم في سواهم ... يجالد عنهم مقنب و كتائب
- يعني أنهم عمال الروم - قد شرحنا نسب غسان في غير هذا الموضع من كتاب كندة، و بالله التوفيق.
و بهراء حي قد علمنا مكانهم ... لهم شرك حول الرصافة لاحبُ
بهراء بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، زهط المقداد بن عمرو.
و غارت إياد في السواد و دونها ... برازيق عجم تبتغي من تضارب
يعني إياد بن نزار بن معد، و كان يقال لهم الطبق لشدة إطباقهم بالشر و العُرام على الناس، و منهم قيل: وافق شنٌّ طبقةً، يعنون شنَّ بن أقصى بن عبد قيس كذا قال الكلبي:
و لخم ملوك الناس تجبى إليهم ... إذا قال منهم قائل فهو واجبُ
لخم بن عدي بن الحارث بن أددٍ، و كان اسم لخم مالك، و من لخم بنو نصر قوم النعمان بن المنذر ملك الحيرة، و سنستقصي هذا في موضعه إن شاء الله.
و نحن أناس لا حجاز بأرضنا ... مع الغيث ما نلقى و من هو غالبُ
يعني أنا مصحرون لا نخاف أحداً، نكون مع الغيث حيث أغن و مع الغلب حيث عن، و مثل نحو من هذا القول قول ذباب بن معاوية العكلي:
و نحن أناس لا حجاز بأرضنا ... نلوذ به إلا السيوف البواترُ
و قال سويد بن كراع العكلي و قال اللغويون: إن كراع اسم أمه، و إن اسم أبيه عمرو أو عمير، الشك مني:
و نحن أناس لا حجاز بأرضنا ... نلوذ به إلا السيوف القواطعُ
و لم يبق منا القتل إلا عصابة ... تطاعن عن أحسابنا و تقارعُ
و أبيض لا يشترى بشيءٍ أفاته ... أسنّتنا و النقع أغبر ساطعُ
تركنا عليه قصدتي سمهريةٍ ... و جريان سيفٍ سلَّه إذ تُماصعُ
و في هذا البيت الرابع غرض حسن، و معنى بديع، و يشبه قول ناجية بن الأسود الجرمي، و كان بعض السلاطين جلده، فأخذ سيفه من عنقه و ضربه به:
و لما علاني بالقطيع علوته ... و بالكف صافٍ كالعقيقة قاطعُ
فطار بكفي نصله و رياسه ... و في جيد سعدٍ غمدهُ و الرصائعُ
و في نحو من هذا يقول ابن زيانة التميمي - زيابة بوزن فعالة مشددة كذا فرآنا على جماعة من الأشياخ، و روى محمد بن داود بن الجراح عن رجاله: ابن زيانة بوزن فعالة تخفيفا ً - و الزيابة الفأرة - و في المثل: أسرق من زيابة، يعنون به الفأرة، و لا أحسب أبا عبد الله محمد بن داود إلا و قد أوهم في هذه اللفظة، لأن الرجل يقول في شعره:
أنا ابن زيابة إن تدعني ... آتيك و الظن على الكاذب

قال محمد بن داود: و اسمه عمرو بن الحارث بن همام أحد بني تيم الله ابن ثعلبة، و البيت الذي أردنا إنشاده لمشابهته ما تقدم قوله:
و الله لو لاقيته خالداً ... لآب سيفانا مع الغالب
و الثالث: - من و جوه اشتقاق العرب - أنه مأخذه من العرب و هي النفوس، و أحدثها عربهٌ، مثل قصبةٍ و قصبٍ و أنشدنني أبو أسامة لابن ميادة الرماح بن أبرد المري:
لما أتيتك أرجو فضل نائلكم ... نفحتني نفحة طابت لها العربُ
و قال: العرب هاهنا النفوس.
و يكون وجه هذا الاشتقاق على معنيين: أحدهما: أنهم من الخلق بمنزلة النفس من الجسم، و ثانيهما: أنهم أعز الخليقة نفوساً، و المعروف ما انفردوا به من صلابة الأكباد و قوه الأرواح و عزة النفوس أشهر من أن نطلب عليه شاهداً، و منه قول شاعرهم:
لا شيء أحسن منها إذ تودعنا ... و جيبها برشاش الدمع مغتسل
يبكي علينا و لا نبكي على أحد ... لنحن أغلظ أكباداً من الابل
و قائل هذا الشعر قدير بن منيع، أو أبوه منيع بن معاوية بن فروة ابن الاحمس بن عبدة بن خليفة بن جرول بن منقرٍ، خلاف هذا الشعر أنشدني لهدبة بن خشرم بن كرز بن أبي حية بن الاحسم بن عامر بن ثعلبة بن قرة بن خنبس بن عمرو بن ثعلبة بن عبد الله بن ذبيان بن الحارث بن سعد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة:
باتوا وأتبعهم عيناً مملاة ... دمعاً و ما ذاك إلا الشوق و الطرب
نبكي عليهم و لا يبكون فرقتنا ... أنا و جيراننا من جيرة عجب
و ليس بالمطرح في إباء النفس قول إبراهيم بن إسماعيل بن يسار بن فيروز أبن باذام، مولى بني تيم بن مرة:
و نفسي النفس تأبى أن أواتيها ... على الصغار و تأبى أن تواتيني
من نفس إبليس شقت في حميتها ... لا نفي آدم في عطفٍ و في لين
و كان أبوه إسماعيل شاعراً في زمن عبد الملك و والده. و لمصنف الكاتب شعر في الإبا قد أطاع هواه فورده و هو:
قارعت الأيام مني امرأ ... قد أعلق المجد بامراسه
تستنزل النجدة من رأيه ... و يستدر العز من باسه
أروع لا ينحط عن تيهه ... و السيف مسلول على رأسه
و لعلي بن محمد بن يوسف جد أبي شعر يقول فيه:
و إني على الإقتار همة ... لها مسلك بين المجرة و النسر
أؤمل نفسي لا أؤمل غيرها ... من الناس أو يأتي الغنا و هو ذو صغر
و قد أنشدوني لشاعر من قريش، قريش الأندلس شعراً يقول فيه:
و لو صدت نجوم الليل عني ... كصدك ما نظرت إلى السماء
و كيف تظن نخوة عبشمي ... تكون فيه قلب مزيقياءٍ
و لما قدمناه من التفسير سموا يوم الجمعة العروبة لاستكمال خلق النفوس و غيرها من المخلوقات فيه على ما يذكره رواة مبتدأ العالم. و من ذلك أيضاً قيل له: الجمعة، لأن فيه اجتماع المخلوقات. و مما يدل على شرف هذا اليوم و استحقاقه لهذا الاسم أن الأيام تسمي بأسماء مشتقة لها من العدد في أكثر اللغات غيره، فأنه خص باسم عليه و قال رسول الله ( لما قيل له: إن السبت لليهود و الأحد للنصارى: " نحن الآخرون السابقون " يعني الآخرون زماناً و السابقون يوماً، و يروى أن رياح بن الربيع التميمي أخا حنظلة الذي يدعى بحنظلة الكتاب، و هو حنظلة ابن الربيع بن صيفي بن رياح بن الحارث بن مخاشن بن جهور بن غوى بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم - قال لرسول الله ( : للنصارى يوم و لليهود يوم، فلو كان لنا يا رسول الله يوم!! فنزلت سورة الجمعة.و يقال: عروبة بلا ألف و لام، و أنشد أهل اللغة: يوماً كيوم عروبة المتطاول.
و يرون أن تعريفه بنفسه أفصح من تعريفه بالألف و اللام على انه قد جاء في الشعر الفصيح، و قال الأعشي الكبير:
فبات عذوباً للسماء كأنما ... يوائم رهطاً للعروبة صيَّما
يوائم: يشابه. و في المثل: لولا الوئام هلك الأنام - يعني لولا تشبههم بالكرام. وقد يقال فيها: العروب - بلا هاء - قال عباية بن شكس العنزي ثم الهزاني:
أنا العنزي بن الأسود الذي بهم ... أسامي إذا ساميت أو أتبحجُ

هم أسروا يوم العروب ابن طالم ... و أردوا مريئاً فهو للشق مجنحُ
و يروى: الغروب، و الأول أثبت.
و إذ قد فسرنا عروبة فالوجه اتباعه بتفسير بقية الأسماء العربية للحاجة إلى ذلك. فأولها: الأحد، و اسمه عندهم أول، لأنه أول الأيام، و لذلك أيضاً سمي الأحد، لأن منه ابتداء العدد، و أصله واحد، و أبدل من الواو ألفاً استثقالاً للابتداء بالواو، و قال نابغة ذبيان:
كأن رحلي و قد زال النهار بنا ... بذي الجليل على مستأنسٍ وحدِ
و يجمع على آحاد و أوحاد، و مثله أناة و وناة للجارية الجميلة الخريدة فأما الأناة الاسم من التأني فلا يكون إلا بالالف لأن أصلها من تأنيت، تفعلت بمعنى تنظرت الشيء إذا آن، أي حان و دنا وقته، و منه قول يحيى بن يعمر الوشقي - من وشقة بوزن فعلة - بن عوف بن بكر بن يشكر بن عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان: أي مالٍ أديتَ زكاته فقد ذهب أبلته، قال أبو عبيدة: أصله وبلته - أي شره و مضرته - مأخوذ من الوبيل، و هو الضار.
و يسمى يوم الاثنين أهون، لأنه مكروه عندهم، و لكنه أهون طيرة، و أيسر كراهية من يوم الأربعاء، ويسمى أوهد أيضاً مشتقاً من الوهدة و هي الانحطاط، لانخفاض العدد من الأول إلى الثاني.
و يسمى الثلاثاء جباراً لأنه هدر لا يكره و لا يستحب، و كذلك كل ما لم يعتد به قيل له جباراً، و من هاهنا قيل ذهب دمه جباراً أي هدراً. قال الأفوه - واسمه صلاءة بن عمرو أبن عوف بن منبه بن أود بم صعب بن سعد العشيرة بن مالك بن أددٍ، قال ابن الكلبي: أود ابن معد بن عدنان و إنما انتقلوا فقالوا: أود بن صعب - :
حكم الدهر علينا أنه ... ظلف ما نال منا و جبار
جبار: يعني هدراً و منه: جرح العجماء جبار، و أصله من جبرت العظم و كأن هذه الأشياء السهلة الهنية يلغى ذكرها جبراً للمسلم، و اعتماداً لشمل الصلح، و يقال: جبرت العظم، فجبر هو، قال العجاج: قد جبر الدين الإله فجبر و منه الجباير الاسورة، شبهوها بحبائر العظم الكسير، و واحدها جبارة، و قال الأعشى: و أرتاك كفاً في الخضا - ب و معصما ملء الجبارة و جمعها جبائر و أنشد الخليل في كتاب " العين " و هو مليح:
و تناولت كفها ... فاتقت بالجبائر
ثم قالت و استضحكت: ... هكذا غير صاغر
و أما الظلف فهو الهدر أيضاً قال اللغويون: الظلف شبه الأخذ للشيء و منه الظلف و قد جاء الظليف بوزن فعيل بمعنى الظلف، قال رجل من بني ربيعة بن ذهل بن شيبان، يصف رجلاً منهم عقر فرسه لضيفه:
هو العاقر الحواء ليلة لم يصب ... لأضيافه إلا الشريعة في اللبد
فقال: كلوها في ظليف فإنني ... سأورثها من وارثٍ باخل بعدي
و يسمى الأربعاء دبارا لشدة ثقله عليهم، و تقرير الطيرة منه في نفوسهم منه، يرون أن المزوج فيه لا يلقى خيراً و المبضع لا يصادف ربحاً، و المسافر لا يصيب نجحاً، مأخوذ من الدبرة، و هي الهزيمة يقال: كانت الدبرة على بني فلان 0000الهزيمة. و من0000 الدبري.
و يسمى الخميس مونسا، لخفته على قلوبهم،و طلاقته عندهم. و رشاد من يفعل فيه فعلاً و يمن من يطلب فيه أمراً، و هو كذلك في الإسلام، قد كان رسول الله ( يتبرك به و يحب السفر فيه. و قال شاعر قديم:
فلو أنه أغنى لكنت لخندف ... على اليأس حتى ملها العمر تندب
إذا مونس لاحت خراطيم شمسه ... بكت غدوة حتى ترى الشمس تغرب
يعني ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة المسماة بخندف أم ولد الياس بن مضر، و كان مات يوم الخميس فكانت تبكي كل خميس من الغدوة إلى الليل، و نستورد الخبر و الشعر، بالشرح من هذا القول في موضعه إن ساء الله. و يسمى الجمعة عروبة - و قد مر تفسيره.
و يسمى السبت شيار مشتقاً من الشارة و هي الحسن و الجمال لبركته عندهم، ألا ترى إلى قول رسول الله ( : " بورك لأمتي في بكورها، يوم سبتها و خميسها " أو كما قال. و قد روى بعض أهل النقل: " اللهم بارك لأمتي في بكورها " فقط دون الاقتصار على السبت و الخميس.

أخبرني أبو مسلم قال أنبأنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن بكر المعروف بابن حمدون البالسي حدثنا بباليس سنة إحدى و ثلاثين و ثلاثمائة قال حدثني عماي إبراهيم و جعفر أبنا محمد بن بكر قال " ؟ " أنبانا إبراهيم بن مهدي عن علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن أسحق عن النعمان بن سعد عن علي عليه السلام أنه قال: قال رسول الله ( : " اللهم بارك لأمتي في بكورها " و هذا أشبه بما روي عنه ( من التسوية بين الأيام بما في جميعها من البركة و الإحسان.
ومن هذا المعنى يقال هو أشور منه أي أحسن منه، قال كبد الحصاة العجلي - و اسمه عمرو بن قيس - :
صبرت و بعض الجهل ما يتذكر ... و صبرك عن ليلى أعف و أشور
و عداك عنها نأيها و مشيبة ... من الحراب لا يصلى بها المعتذر
أعف و أشور: أراد أحسن و أجمل، كذا حكي لنا في اشتقاق شيار عن العرب أنفسها، و في هذا الاشتقاق بعض النظر، لأنه لو كان من الشارة لكان شوار مثل شوار البيت و أصل الشارة شورة، و انقلبت الواو ألفاً لتحركها و انفتاح ما قبلها، على أصل القوم، و لذلك جاء: أعف و أشور بالواو منه، و أنشد ثعلب: أفز عنها كل مستشير أي كل طالب للشارة و الجمال، و منه الشوران الزعفران لجمال لونه و إشراق منظره. و منه يقال: شار الدابة يشورها شوراً إذا عرضها و أظهر محاسنها، و يقال للمكان الذي يكون فيه ذلك المشوار، و إلى هذا تذهب العامة في قولها لفلان نشوار - بالنون - و النشوار ليس من هذا في شيء، و هو ما يلقيه الدابة من فضلات علفه على نواحي آريه، و ما دري كيف يجيء شيار من هذا و أصله الواو، على أن أبا بكر أبن دريد قد قال: إن الشير بالياء على وزن فعل فخفف، من قولهم: شير و صبر إذا كان حسن الصورة و الشارة مثل قولهم: ميت و قيل هو تخفيف و قيل و ميت، فيجوز أن يكون شيار جمعه، لأن فعالاً في جمع فعل باب مطرد، مثل عذب و عذب و جبال و جبل، و من ذلك قولهم: جاءت الإبل شياراً، و جاءت الخيل شياراً، إذا جاءت سمانا حسانا. و قال عمرو بن عدي بن معدي كرب بن عبد الله بن عصم بن عمرو منبه - و هو زبيد الأصغر - بن ربيعة بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن منبه بن سعد العشيرة:
أ عباس لو كانت شيار جيادنا ... بتثليث ما ناصيت بعدي الاحامسا
فيكونون سموا اليوم باسم جامع، و هو سائغ، حسن، و كان أبو الحر عبيد الله بن حفص التغلبي يقول: إن الشيار من الاضداد يكون خيار الشيء و حسنه، و يكون رديئه و عفنه، و روى أن رجلاً من العرب ذم رجلا فقال: و الله ما أطعمني إلا خبر شيار، يعني خبزاً عطناً. و إن كان هذا ثبتاً فيجوز أن يكون السبت سمي شياراً لأنه آخر الأيام في الخلق، و لأن العطن إنما يكون من تأخر مدة الشيء و طول عهده، و أهل اللغة ينشدون هذين البيتين:
أومل أن أعيش و إن يومي ... بأول أو بأهون أو جبار
أو التالي دبار فإنه أفته ... فمونس أو عروبة أو شيار
و قال بعض أهل العلم: إنهما مصنوعان، و دليل ذلك تكلفهما و منع ما يستحق الصرف من أسمائهما.
و السبت نفسه معناه لأن الأعمال انفطعت، و الخليفة تمت يوم الجمعة، فكان يوم السبت منفصلا منقطعاً، أو لأنه قطعة من الدهر.
و في السبت و جوه عدة يطول بإيرادها القول.
و لولا خوف شتات الغرض لذهبنا شوطا في تفسير الشهور و السنة و العام و الحول و العصر، و الشتاء و الصيف و الربيع و الخريف، و الليل و النهار، و الساعة و الإنى، و غير ذلك من تفصيل الزمان. و لعل أكثره أن يرد مبدداً في أثناء التصنيف، و بالله التوفيق.
و القول الرابع: أنه مشتق من العرب و هو حسن العشرة و جمال الخليقة. و من ذلك العروب للمرأة الحسنة الخلق، و المحببة لزوجها، المتحببة إليه، المتجردة في التبعل له، قال الله عز و جل: (أبكار عرباً أتراباً) و هي جمع عروب. و قال الأعمش: - سلمان بن مهران الأسدي - : كنت أسمعهم يقولون: عرباً بالتخفيف مثل الرسل الكتب. و لغة بكر و تميم التخفيف في مثل هذه الأشياء، و الوجه التثقيل، و عليه جاءت القراءات. و قال الشاعر في العروب أنشده محمد بن زياد:
و عروب غير فاحشةٍ ... قد ملكنا ودها حقيا
ثم آلت لا تكلمنا ... كل حي معقب عقبا
و قال أوس بن حجر:

و قد لهوت بمثل الريم آنسةٍ ... تصبي الحليم عروب غير مكلاح
و يقال أيضاً في معنى عروب: عربة بوزن فعلةٍ مكسورة العين، ذكر أبو عبيد، و كون وزنها فعلة يصح أن المصدر العرب محركاً، و يكون وجه هذا الاشتقاق أنهم لكرم أخلاقهم، و اتساع جودهم و بشرهم لعارفيهم سموا بذلك. و قد سموا عرابة، و هو عرابة بن أوس الأوسي، و سنستقصي ذكره عند ذكر الشماخ من كتاب " ذبيان " إن شاء الله. و قد كنوا بأبي عروبة، و في عنزة رجل يقال له أبو عروبة بن شاس من بني جلان و كان شاعراً فاتكا. و أغار الحطم - و اسمه شريح بن ضبيعة بن شرحبيل بن عمرو بن مرئد بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة - على بهراء، فأصاب منهم رجلاً شريفاً فأسره، و كان معه ناس من عنزة، منهم أبو عروبة، فقتل أخ لأبي عروبة، فقالوا لأخيه: ما تدع هذا الأسير؟! آلا تقتله بأخيك؟ فشد عليه أبو عروبة فقتله، فأخذه الحطم فأوثقه في القد فكان الأسير، فقال في ذلك أبو عروبة.
غادرت ثأري مضرجاً بدمٍ ... و لم تغلني مقالة الحطم
و قال في أبيات يهجو بها الحطم:
يبيت يثني أيره فوق فخذه ... إذا فلت أسرى أصبح المرء باركا
واستغاث أبو عروبة و هو في قدة بعباد بن مرثد بن عمرو بن مرثد بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، و عمل إليه أبياتا منها:
يا من لهم يبيت الليل يكلوني ... كأنه موفق بالنبل يرميني
من ذا أعوذ به منه فيمنعني ... و لن أعوذ بذي رجلين ممحون
يعني نفسه - و ممحون محبوس - فلم يصنع شيئاً فأتاه أبجر بن جابر العجلي فاشتراه بمائةٍ من الإبل و اعتقه فقال:
قولا لأبجر و المعروف نافلة ... عندي و عمد بني عمي و أعمامي
رأبت ما لم يكن حي ليرأبه ... إلا الهمام على بوسي و النعام
فالله يجزيك عما لم تجاز به ... و عن شوابك أصهار و أرحام
و قال أبو عروبة أيضاً:
رضينا بعجل في اللقاء فوارساً ... إذا أزمات الموت حبت حياتها
يسود عجلاً صبرها برمحها ... و يحمدها مضرورها و عنانتها
و قد كان بحران بأخرة رجل محدث من بقية أهل الإسناد يقال له أبو عروبة الحراني، و اسمه الحسين بن محمد بن مودود، و كان أبو الفضل الوزير - رحمه الله - يذكر لنا أن أباه سمع منه شيئاً كثيراً، و كان أبو الفضل نفسه - رحمه الله - يروى عنه شيئاً كثيراً بالمكاتبة و الإجازة، و قد كان سعيد بن عروبة أحد المصنفين الثقات، و سعيد يكنى أبا النضر، و أسم أبى عروبة مهران مولى بني يشكر. و كان سعيد يروى عن سعيد عن قتادة بن دعامة السدوسي و حدثني الحسن أبن عبد الصمد بن الحسين بن يوسف عن أبيه عن أحمد بن إبراهيم الأشناني عن أحمد بن عبيد النحوي عن الواقدي عن قيس بن ربيع الأسدي عن السدي عن أبي مالك قال: لم يؤمن مع لوط أحد من الناس ألا بنتان له يقال لأكبر هما رية و الصغرى عروبة.
و القول الخامس: انه مشتق من العرب و هو فساد المعدة يقال: عربت معدته نعرب عرباً، مثل ذربت تذرب ذرباً، ذكره أبن دريد و الجماعة و أنشدوا: لا يشتكي معدته من العرب و يكون وجه هذا الاشتقاق أنهم لحدة شوكتهم و خشونة ملمسهم و صرامة بأسهم أشجوا جميع الأمم المخالفة لهم، و كانوا فيهم بمنزلة هذا الداء من المعدة في مبالغته أذاها و إضراره بها. و القول السادس: أنه مشتق من العرب و هو الفجور و الفساد، قال أبن الأعرابي أبو عبد الله، و أنشد شاهداً عليه:
فما خلف من أم عمران سلفع ... من السود ورهاء العنان عروب
قال: أراد فاجرة فاسدة، فأما كون مصدره على فعل فليس مما يوجبه القياس إلا أن أبا عمر الزاهد ذكره مسنداً عن أبن الأعرابي، و الشعر للأقرع بن معاذ بن سنان بن حزن بن عامر أبن سلمة الخبر بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن الناس، و اسم الأقرع الأشيم و قيل: الأشم و إنما سمي الأقرع بقوله، و أول القصيدة التي البيت الشاهد منها:
ألا حبذا ريح الغضاحين زعزعت ... بقضبانه بعد الطلال جنوب
و قد قال أبو الحسن علي بن حازم النحوي اللحياني: هي العاشق الغلمة.

و قال يحيى بن زياد بن عبد الله الفراء: هي الغنجة، فأطافا بالمعنى الذي صرح به أبو عبد الله و هو الفجور، و من ذلك سمي النكاح الأعراب. و قال أبن عباس في قوله: فلا رفث و لا فسوق قال الرفث الذي ذكر هاهنا التعريض بذكر النكاح، قال أبن عباس: و هو العرابة في كلام العرب. يقال عربت و أعربت إذا أفشحت. قال روبة بن عبد الله العجاج: و العرب في عفافةٍ و إعراب أراد بالعرب المتحببات إلى الأزواج، و الإعراب من الفاحش، فمعناه أنه يقول: يجمعن العفافة عند الغرباء، و الإفحاش عند الأزوج كما قال الفرزدق:
يأنس عند بعولهن إذا خلوا ... و إذا هم خرجوا فهن خفار
و منه قول أبي محمد عطاء بن أبي رباح: أنه كره الأعراب للمحرم، يوميء به إلى النكاح،.
و يكون اشتقاق اسم العرب من هذا المعنى و هو الفجور أنهم عاملوا الناس في الجعجعة بهم و الغلظة عليهم معامله الفجار، فسموا بذلك و أن لم يكونوا فجاراً، و على مثل هذا فسر بعض المفسرين قول الله عز و جل: ( يخادعون الله و الذين آمنوا، و ما يخدعون إلا أنفسهم و ما يشعرون) و قال: معنى " يخادعون " يفعلون أفعال المخادعين، و إن لم تكن الخديعة واقعةً منهم، إذ كان أصل الخدع إخفاء الشيء، و الله تخفى عليه خافية، هذا قول بعض أهل العلم و الله أعلم بكتابه. و على نحو منه فسر صاحب اللواء:
حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا فما إن من حديث و لا صال
و ذلك أنه لما كان من شأن الفاجر أن يغلظ يمينه، و يؤكد أليته حلف لها أمرؤ القيس كيمين الفاجر، و أن لم يكن فاجراً في قسمه، و يوضح ذلك أنه قال بعد هذا البيت:
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالا على حال
فقد صح ما أقسم عليه من نومهم، و بطل أن يكون في يمينه، و لم يبق إلا حمله على الوجه الذي ذكرناه، و كذلك هؤلاء فعلوا أفعالاً ساء موقعها عند من فعلوها معه من أعدائهم سوءاً شابهوا به أفعال الفجار و إن لم يكونوا فجاراً، و يجوز أن يكون محمولاً على أصل الفجور و هو الظهور و البروز و منه: في فلان فجر، أي كرم ظاهر و جود فائق، و يكونون سموا بذلك ليرزوهم عن الأمم و ظهورهم على الطوائف. و القول السابع: أنه مشتق من العرب و هو مصدر عرب الجرح يعرب عرباً، إذا بقيت له آثار بعد البرء، عن أبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري، و يكون وجه هذا الاشتقاق أنهم لبروز أفعالهم و بقاء آثارهم و خلود نكايتهم لأعدائهم سموا بذلك.
و القول الثامن: أنه مشتق من العرب و هو كثرة الماء، و منه بئر عربة إذا كثر ماؤها، ذكره ابن حبيب، و استشهد بقول طفيل الغنوي:
و لا أكون و كاء الزاد أحسبه ... لقد علمت بأن الزاد مأكول
و لا أقول وجم الماء ذو عرب ... من الحرارة: أن الماء مشغول
و قال محمد بن زياد الإعرابي أيضاً: يقال: ماء عرب و نهر عرب و بئر عربة، كله يراد به كثرة الماء.
و لهذا الاشتقاق وجوه: إحداها أنهم لاشتباه حسن أفعالها و وجدان الكرم في كافتهم سموا بذلك، وقد قيل في المثل: أشبه به من الماء بالماء.
و ثانيهما: أنهم لكرم أنسابهم وخلوص أعراقهم وصفاء أصولهم سموا بذلك، كما قيل للحصان الصحيحة النسب من النساء: ماء السماء. و كما يقال: حصان كماء المزن.
و ثالثها: أنهم لاستغنائهم بأنفسهم. و اكتفائهم دون الحاجة إلى غيرهم و تحيزهم بتدبير أموالهم عن أكثر أغراض سواهم سموا بذلك، لأن الماء يوصف بالغنى عن الأشياء و بحاجتها إليه كما قال سهل بن هارون بن راهبون البليغ - رحمه الله، في بعض حكمه، يصف بعض الملوك في جلالة قدره، و استغنائه عن آراء اتباعه و عن مساعي أعوانه - : كالماء الذي ليس به إلى شيءٍ حاجة، و لكل شيء إليه أمس الضرورة.
و رابعها: أنهم لما أحيوه من الأرض الميتة، و أقاموه من الأعلام الدارسة، و أهلوه من القفار العازبة، سموا بذلك، تشبيهاً بالماء الذي به حياة كل شيء قال الله عز و جل: (و جعلنا من الماءِ كلَّ شيءٍ حيٍّ).
و القول التاسع: أنه مشتق من العرب، و هو النشاط قال النابغة الذبياني:
و الخيل تمزع عرباً في أعنتها ... كالطير تنجو من الشؤبوب ذي البردِ

و قد رواه الناس قاطبة بالغين معجمة إلا أن الخليل أورده في باب العين، وقد نوزع فيه، و وجه هذا الاشتقاق أنهم سموا بذلك لنشاطهم إلى إحراز المآثر، و تسرعهم إلى معونة الثائر و إجابة دعاء الجار المجرور، و اشتياقهم إلى اغتنام الثناء، و إدراك مناقب الكرماء، كما قال شاعرهم:
و مستنبحٍ قال الصدى مثل قوله ... حضأتُ له ناراً لها حطبٌ جزلُ
و قمت إليه مسرعاً فغنمته ... مخافة قومي أن يفوزوا به قبلُ
و القول العاشر: أنه مشق من العرب و هو يبيس البهمى، و أحدتها عربة و قال أبو زياد - و هو يزيد بن عبد الله بن الحارث بن همام بن دهر بن ربيعة بن عمرو بن نفاثة بن عبد الله بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة - إن البهمى خير أحرار البقل رطباً و يابساً.
و وجه هذا الاشتقاق أنهم سموا بذلك لأنهم من البشر بمنزلة البهمى من البقل. و يكون فيه وجه آخر أقوى من هذا و هو أن يبيس البهمى هو سفاها، و العرب تضرب به المثل في حدة شوكه، و تذلق غربه، حتى أنهم يسمونه نصالاً، قال القحيف العقيلي:
على كل ذيال أطار نسيله ... عياب الحيا و الخصب حتى تفيلا
رعى الروض و القربان حتى إذا رأى ... نصال السفا من حيث ركبن نصلا
و قال الآخر، و أنشده ابن الأعرابي: إذا استنصل الهيف السفا برحت به عراقية الأقياظ نجد المرابع فيكونون سموا بذلك لحدة شجاعتهم، و نفوذ عزائمهم، و قد قيل في العرب إنه بالغينمعجمة، و العين أثبت.
و القول الحادي عشر: أنه مأخوذ من التعريب، و هو الجبه بالغلط و الرد، و منه قول عمر: ما لكم إذا رأيتم الرجل يخرق أعراض الناس أن لا تعربوا عليه؟ فقالوا: نخاف لسانه. قال ذلك أدنى أن لا تكونوا شهداء، رواه أبو عبيد و ابن الأعرابي و غيرهما. و معنى تعربوا عليه أي تردونه، و تدفعون قوله. و قال أوس بن حجر:
ومثل ابن عثم إن ذحول تذكرت ... و قتلي تياس عن صلاح تعربُ
ابن عثم: أحد بني جشم بن سعد. و تياس: أرض التقت فيها بنو سعد و بنو عمرو و كانت المعلاة لبني عمرو، قوم أوس يقول: فمثل هذه القتلى يمنع تذكره من الصلح.
و يكون وجه هذا الاشتقاق أنهم سموا بذلك لأنهم يردون حكومة الظالم، و يعصون أمر الغاشم.
و القول الثاني عشر: أنه مشتق من العبة، و هو النهر الشديد الجري، عن ابن دريد. و وجه هذا الاشتقاق أنهم شبهوا بالماء الجاري في قوة مسيله. و أعتياص رده و جره ما وجد في جريته.
فأما العربة لهذه المنصوبات على دجلة و الفرات فمولد، إلا أن ثعلبة قد ذكره و صححه و قال: سميت بذلك من العربة و هو الشديد الجري من الأنهار، و لذلك لسرعة مدارها و اتصال جريانها.
و القول الثالث عشر: أنه مشتق من التعريب، و هو مداواة للخيل بالنار، تسمى التبزيغ، و سميت العرب من ذلك لبلوغهم في شفاء الصدور بدرك الثأر، و إحكام ما عقدوه من عهد و ذمام مبلغ الكي الذي هو آخر الأدوية و أصعبها.
و الأعراب جمع العرب. كالأعزاب جمع العزب، و لكن الشعراء استعملته بعد ذلك على اللفيف و سواد القبائل، ألا ترى إلى قول مكيث بن معاوية الكلبي - و قيل: مكيث بالضم - .
و ما أسل الأعراب أرجو به الغنا ... و لو سلبت مالي سنون سوالبُ
و قول الأشهب العكلي:
يسموننا الأعراب و العرب اسمنا ... و نحن نسميهم رقاب المزاودِ
و قال أبو فرعون السائل العدوي من عدي بن عبد مناة بن أد بن طابخة - واسمه شاكر ابن :
و لست بسائل الأعراب شيئاً ... حمدت الله إذ لم يأكلوني
و قد كنا ذكرنا مصدر عربي، فأما أعرابي فمصدره الأعرابية، قال بعض الشعراء:
و إني لأهذي بالأوانس كالدمى ... و إني بأطراف القنا للعوبُ
و إني على ما كان من أجنبيتي ... و لوثة أعرابيتي لأديبُ
و أذكرني هذان البيتان بيتين لأبي الشغب العبسي:
لعمرك إني يوم راح ابن كوكب ... لصب و إني للهوى لغلوبُ
و إني على بعض الأناة و رسلتي ... لأبعد ما يرجو الفتى لطلوبُ
فصل في اشتقاق اللغة

رأيناه كالتوام لما قدمناه من اشتقاق العرب. في الحاجة إليه، و في النيابة عن أبي بكر رحمه الله بإيراده، و كثير ما يجري التساؤل بين أهل العلم عن هذه الكلمة و ما رأيت فيها لأحد من العلماء المتقدمين و لا المتأخرين قولاً شافياً و الله الموفق.
قال الحسين بن علي: لسنا نشك في أن المقصد باسم العرب معنى واحد من المعاني التي ذكرناها، و كذلك اللغة، لأن واضع الكلمة إنما يقصد بها الإخبار عن المعنى. فإن استردفت معنى آخر كان رجحاناً، و لكن لما كان الحقيقة المقصد خافياً عنا كنا مضطرين إلى حشد الأقوال لتطيب أنفسنا بأن الصواب في جملة واحدة مما أوردناه، و على هذا الاعتبار ففي اشتقاق اللغة سبعة أقوال: فالقول الأول: أنها من لغيت بالشيء الغي إذا أولعت و أغريت به. قال الفراء: يقال لغيت بالكلام أقوله، و لغي بالماء يشربه، إذا أولع به، وردده، و لغيت بمصاحبة فلان إذا لهجت به. و قال أبن الأعرابي أيضاً: لغى به و لكى به إذا لهج به. و قال أبو عبيد في " غريب المصنف " . عن الكسائي: لغيت بالماء ألغى إذا لزمت شربه، أو نحوا من هذا اللفظ.
و في وزنهما قولان أحدهما أن أصلها كانت لُغية عن وزن فُعلة، فحذفت الياء تخفيفاً و بنيت الكلمة على النقص مع نظرائها جماعة الألفاظ، فإن قال قائل: فما بالهم لم يحذفوا الياء من دجية واحدة الدجى، و حكمه حكم لغيه؟ فجوابه: أن القياس إنما يطرد في الأصول و الفروع المطرود عليها، فأما الحذف فإنما هو تخفيف، و فاعل التخفيف بالخيار فيه، إن شاء حذف و إن شاء أقر، و ذلك على حسب المواقع في كثرة الاستعمال العاذرة في طلب الاختصار. و القول الآخر أن وزنها فعلة، و أصلها لغية، فانقلبت الياء ألفاً لتحريكها، و انفتاح ما قبلها، و إنما كان الحكم حرفي المد و اللين أن ينقلب كل واحد منهما ألفاً إذا تحرك و انفتح ما قبله، لأن أخف أحواله أن يسكن، و ما قبله منه، أما سكونه فلان به تمكن المد فيه، و إما كون ما قبله منه فليلاحمه و يعينه و لا ينافره فما يراد به من مده و لينه و أوسط أحواله أن يسكن، ما قبله ليس منه، و أثقل أحواله أن يتحرك و ما قبله ليس منه، فيجري مجرى الحروف الصحاح، و تفارق صفته المطلوبة فيه بحركته التي تزيله عن اللبن. و بقلة مساعدة ما قبله له، و مشاكلته إياه، فإذا جاء حرف المد متحركاً وما قبله ليس منه، جاء على أثقل أحواله، فيقلب ألفاً لينتقل إلى أخف أحواله، و هو سكونه و ما قبله منه، فلما صار لغاة آنسهم هذا التغير بتغير آخر، فحذفوا الألف تخفيفاً، و لأن هذا الوزن قليل في الأسماء المفردة، و إنما هو من صيغ الجموع، مثل قضاة ورماة، فصار لغة كما ترى. و من عادتهم أن يتبعوا نقص التغير نقصاً. ألا ترى إلى قولهم ليس و أصلها ليس، بوزن فعل، فكان قياسهم يوجب أن تنقلب الياء ألفاً لتحركها و انفتاح ما قبلها فيقال: لاس، ما انقلبت ياء بيع فقيل: باع، فلما وجدوها قد خالفت في التصرف، و لزمت باباً واحداً، و هو صيغة الماضي لعلة أخرى لا نرى الإطالة بذكرها في هذا الموضع، آنسهم ذلك بتغيرها ثانياً، و جراهم على ركوب الخلاف بها عودا بعد بدءٍ، فقالوا فيها: ليس، و فارقوا بها أخواتها و لم يقولوا: لاس، مثل زال و صار، و هو فعل من الليس، و هو الشدة و الشجاعة، و كأن تقدير قولهم: ليس زيد قائماً، و امتنع و صعب أن يكون زيد قائماً، هذا على رأي النحويين. فأما أهل اللغة فيحكون عن الخليل أنه قال: ليس إنما أصله لا أيس، لأن أيس عنده لفظة يخبر بها عن الموجود، فإذا قالوا: لا أيس فكأنهم قالوا: لا موجود، فثقل عليهم فقالوا: ليس، و الأيس في كلام العرب التأثير، فأخبره به المتكلمون عن الموجود، لأن الموجود لا بد أن يكون له أثر أو تأثير أو نحو ذلك. و قال الأصمعي في كتاب " نظائر الأفعال " : آسه ييئسة أيساً إذا ثر فيه، و منه أيسه يويسه بوزن فعله، يفعله مشدداً، و أنشد يعقوب:
إن كانت جلمود صخر لا أؤيسه ... أوقد عليه فأحميه فينصدع
إن قناني لنبع لا يؤيسها ... عض الثقاف و لا دهن و لا نارُ

و قال أبو خلدة اليشكري - بخاء مفتوحة معجمة من فوق واحدة - قال أبو بكر ابن دريد: و من غير ذلك فقد أخطأ، و هو ابن عبيد بن منقذ بن حجر بن عبد الله بن سلمة بن حبيب بن عدي بن جشم بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر بن وائل:
ما يسر الله من خير قنعت به ... و لا أموت على ما فاتني جزعا
و لا يؤنس من عودي خوالقه ... إذا المغمز منها لان أو خضعا
خوالقه: الأحداث التي تملسه، و الأخلق: الأملس.
و يكون وجه هذا الاشتقاق إنها أعنى اللغة، لما كان أهلها ملازمين لها، و كانت قد صارت كالسمة لهم، و الشيء اللاصق بهم، كانوا كأنهم قد أغروا بملازمتها، و أوزعوا الدؤوب عليها، و كانت هي للصوقها بصفاتهم كالمغراة أيضاً بهم، فلهذا جاز فيها فعله بتحريك العين، لأن فعله اسم فاعل، مثل ضربة لفاعل الضرب و حفظة للحافظ.
و القول الثاني: أنها من اللغو، و هو النطق، و منه سميت لواغي الناس، أي أصواتهم و منطقهم، و هذا من المصادر التي جاءت على فواعل، و هي قليلة، مثل قولهم سمعي رواغي الإبل، و ثواغي الشاة، يعني رغاءها و ثغاءها. قال حميد بن عبد الله بن عامر بن أبي ربيعة بن نهيك ابن هلال بن عامر بن صعصعة، و قد قال بعض النسابين في نسبه قولاً آخر،و هذا أحب إلي لأني رأيت أبا علي الهجري يرويه عن شيوخه من الأعراب و كان الهجري أعلم المتأخرين بالنسب، و غير الهجري أيضاً يروي عن أبي عمرو و غيره من الروات:
رعين المرار الجون من كل باطن ... دميث جمادى كلها و المحرما
إلى النيرو العلباء حتى تبدلت ... مكان رواغيها الصريف المسدما
و يقول: استبدلت عوض الرغاء الذي منها يأتي ضراً و هزلاً الذي يأتي سميناً و أشرا.
و قواضي الديفان: يراد به قضاؤه. قال أبو وجزة يزيد بن عبيدة من بني سعد أبن بكر من هوزان:
وإذا قطمتهم قطمت علاقماً ... و قواضي الذيفان فما تقطمْ
و النواطق: يعنون به النطق. قال كعب بن زهير المزني:
و أدركت ما قد قال قبلي لدهره ... زهير و إن يهلك تخلَّد نواطقهْ
و الأوامر و النواهي: يعنون الأمر و النهي، كذا قال اللغويون.
و قد يجوز أن يكون لواغي جمع لاغية، و كذلك كله يجوز أن يكون جمعاً، و الأوامر و النواهي يذهب به إلى العزمات و الإرادات إلا أن الأول محفوظ القوم.
و من اللغو المنطق قول الله عز و جل: ( و قال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه). قال الخليل: معناه من اختلاط الكلام، و الله اعلم بكتابه و منه في الحديث: " من قال في الجمعة صه، فقد لغا " أي تكلم، كذا قال الخليل أيضاً. و مثله قول ثعلبة أبن صعير بن خزاعي بن مازن بن عمرو بن تميم بن مرِّ بن أدَّ.
أسمي ما يدريك أن رب فتية ... بيضٍ الوجوه ذوي ندى و مآثر
باكرتهم بسباء جونٍ ذارع ... قبل الصباح و قبل لغو الطائر
أي قبل تنطق الطيور، و يقال منه: لغت الطيور و الناس أيضاً تلغو، و لغيت تلغى إذا نطقت و سمع نطقها، و قال عبد المسيح بن عسلة، أخو بني مرة بن همام بن مرة بن ذهل أبن شيبان - وقد رويت لغيره و هي له أثبت عند المفضل بن محمد بن يعلي الضَّبيِّ:
و عازب قد على التهويل جنبته ... لا تنفع النعل في رقراقه الحافي
صبحته صاحباً كالسيد معتدلاً ... كأن جُوُّجُوُّهُ مداك أصداف
- جعل المداك من صدف لأنه أحسن له و أكثر إشراقاً.
باكرته قبل أن تلغى عصافره ... مستخفياً صاحبي و غيره الخافي
لا ينفع الوحش منه أن تحذره ... كأنه معلق منه بخطاف
إذا أواضع منه مرَّ منتحياً ... مرَّ الأتي على برديِّه الطافي
و هذا الشعر من حسان أبيات المعاني.
و يقال أيضاً للصوت اللَّغا مقصور، يكتب بالألف مثل اللَّغو قال الجعدي:
و عادية مثل الجراد وزعتها ... لها قيروان خلفها متكتب
كأنَّ قطا العين التي فوق ضارج ... خلاف لغا أصواتها حين تقرب

شبه لغط القطا باختلاف أصوات الخيل، و خلاف هاهنا بمعنى اختلاف، و يقال: هذه لغتهم التي يلغون بها أي ينطقون بها كما يقال هذه لعبتهم التي يلعبون بها، و وزنها على ذلك فعلة اصلها لغوة، فلما وجدوا الواو متحركة قبلها ساكن وجب ثبوتها و ذلك مستكره عندهم لنقصان فضيلتها به، و ذلك أنها إذا تحركت نقص المد فيها، و ثقلت زيادة على ثقلها، فاحتيل في تغيرها بأن حركوا العين قبلها، فلما تحركت العين، انقلبت الواو ألفاً فصارت لغات، فحذفوا الألف تخفيفاً على المذهب المتقدم في الجراءة على 00 بالتغيير، فصارت لغة، و أهل اللغة يقولون حذفت الواو للنقص، و يقتصرون من الاعتدال على هذا القول.
و القول الثالث: إنها مشتقة من اللَّغو، و هو الذي لا يعبر لقلته، و لا يحتسب لدقته، أو لخروجه على غير جهة الاعتماد من فاعله كما قال الله عز و جل: (لا يؤاخذكم الله باللَّغو في إيمانكم) ما لم تقصدوه و تعتمدوه، و الله اعلم بكتابه. و قال المثقب العبدي - و اسمه عائذ و قيل عايذ الله، و كلاهما مروي، بن محصن بن ثعلبة بن وائلة بن عدي بن عوف 000بن عذوة بن 000 بن نكرة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس - :
هل عند غانٍ لفوادٍ صد ... من نهلة في اليوم أو في غد؟
يجزي بها الجازون عنى و لو ... يمنع شربي لسقتني يدي
هل عندها سقياً لذي غلةٍ ... إلا بما قالت فلم يوجد
إلا ببدري ذهب خالصٍ ... كل صباح آخر المسند
من مال من يجبي و يجبى له ... سبعون قنطاراً من العسجد
أو مائة يجعل أولادها ... لغوا و عرض المئة الجلمد
و منه ألغيت هذا الباب من الحساب، إذا تركته فلم تعده، و قال غيلان يهجو هشام بن قيس المرئي أحد بني امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم:
يعد الناسبون إلى تميمٍ ... بيوت الحي أربعة كبارا
يعدون الرباب لها و سعداً ... و عمراً ثم حنظله الخيارا
و يسقط بينها المرئي لغوا ... كما لغيت في الدية الحوارا
لغواً: أي ساقطاً لا يعد كما تسقط الفصلان في الديات.
و قال عمرو بن أحمر الباهلي:
يظل رعاؤها يلغون منها ... و لو عدت نظائر أو جمارا
و الجمار: الجماعة. يقول: يسقطون منها ما هو نظير للجيد المختار، و يسقطون الجماعة لا يبالون بها، فاللغة لما طرح بها ما سواها و عطلت ما كان من اللغات قبلها، سميت بذلك، كما يقال لهوة للشيء الذي يلهى به، و لعبة للشيء الذي يلعب به، لأن اللعبة آلة للعب، كما أن اللغة آله لإلغاء ما قبلها من اللغات.
و القول الرابع: أنها مشتقة من اللغو، و هو الباطل، قال الله عز و جل: (و إذا مروا باللغو مروا كراما) قال الخليل: و هو الباطل، قال و منه قول الله عز و جل: ( لا تسمع فيها لاغية) أي كلمة باطل فاحشة، و الله أعلم بكتابه.
و اللغا مقصور يكتب بالألف مثل اللغو، قال العجاج:
فالحمد لله العلي الأعظم ... ذي الجبروت و الجلال الأفخم
و رب كل كافر و مسلم ... و رب أسراب حجيج كظم
عن اللغا و رفث التكلم
يعني عن الباطل. و وجه الاشتقاق أن هذه اللغة أبطلت ما قبلها، و جعلته كالمحال الذي لا يقال، و الباطل الذي لا يسمع، و معناه قريب من معنى الفصل الذي قبله، و هما جميعاً في التصريف يجريان مجرى الباب الذي قبلهما، و يغنيان به عن شرح تصريفهما.
و القول الخامس: أنها مشتقة من النغي و هو الكلام. قال أبو عبيد: يقال أبو عبيد: يقال سمعت منه نغية، و هو الكلام الحسن، و أبدلت من النون لام، و بني منه لغية على وزن فعلة، و إبدال اللام من النون كثير من كلامهم، مثل لمق الكتاب و نمقه - و هتن و هتل، و أدكن و أدكل - من الألوان - و غير ذلك مما لو ذهبنا إلى استقصائه لاحتاج إلى جزء مفرد نجرده له، و يكون وزنها فعلة و أصلها لغية، و يجري أمرها مجرى لغوة من اللغو، و على ذلك التعليل بعينه، و ذاكرت أبا أسامة بهذا الوجه لما عن لي فأعجبه.

و القول السادس: أنها مشتقة من لاغ الشيء يلوغه لوغاً إذا أراده في فمه ثم لفظه - عن ابن دريد - و يقال أيضاً: سائغ لائغ، و يقال: سيغ ليغ - عن ابن الأعرابي - و يكون وزنها فعلة، و أصلها لوغة، فاستثقلت ثلاث ضمات متتابعات، لأن الواو بمنزله ضمتين، فحذفت إستخفافاً، فصار لغة. و وجه هذا الاشتقاق أنها لصحة أوزانها و اعتدال أقسامها، و أصالة آراء الناطقين بها لا تخرج الكلمة منها إلا بعد ترو و نظر و نظر و تفكير، و أنها تلجلج و تردد قبل إرسالها. و تزم عند صحة العزم على إنفاذها، كما قال شداد بن أوس: ما تكلمت بكلمة كذا وكذا حتى أخطمها و أزمها.
فإن قيل: لو كان أصلها لوغة لكان جمعها على لوغ؟! ففي ذلك أجوبة: أولها ما صدرنا به هذا الفصل من الاعتذار لما نرده، و التنبيه على أنه لا بد أن يكون بعضه مخالفاً لما قصد به واضعه.
و الثاني : أنه يجوز أ، يكون مجموعاً على لغاً قياساً به على نظائره في اللفظ، فإن الشيء يحمل على المشاكلة الظاهرة كثيراً، مثل ما قلب الفند الزماني شهل بن ربيعة بن زمان بن مالك بن صعب بن علي بن بكر بن وائل فقال:
أيا تملك يا تملي ... ذريني و ذري عذلي
فثوبان جديدان ... وأرخي شرك النعلِ
و مني نظرة بعدي ... و مني نظرة قبلي
و نبلي وفقاها ك - عراقيب قطاً طُحلِ أراد بفقاها جمع فوقة، و كان ينبغي أن يقول: فوق فقلب كما ترى.
و قال يزيد بن زياد بن ربيعة بن مفرغ الحميري في مثله: لقد نزع المغيرة نزع سوءٍ و عرق في الفقا سهماً قصيراً و الثالث: أن جمع اللغة - فيما ذكره الخليل - لغات و لغين، و لم يأت فيه بلغى، فعدم السماع قد كفانا مؤونة ما يعترض به علينا طريق القياس.
و قال ابن دريد: إن العرب تختار أن تجري الأعراب على التاء من اللغات، و على ذلك قول أهل الكوفة، و ذكر الكسائي أنه سمع العرب تقول: سمعت لغاتهم، و البصريون، يمنعون ذلك أشد المنع و يقولون: إن اطرد هذا في المعتل اطرد في الصحيح، و انتقصت به الأصل.
و القول السابع: أنها مشتقة من الولغ، و هو ورود السبع و الذئب و الكلب الماء. و وجه هذا الاشتقاق أن ولغ الذئب متصل منتظم، و لذلك قال حاجز الأزدي اللص:
بغزوٍ مثل ولغ الذئب حتى ... يبوء بصاحبي ثأر منيمُ
يبوء بصاحبي أو يقتلوني قتيل ماجد بطل كيمُ و قال آخر:
نقاذف بالغارات عبساً و طيئاً ... و قد هربت منا تميم و مذحجُ
بغزوٍ كولغ الذئب غادٍ و رايحٍ و سيرٍ كصدر السيف لا يتعوجُ و قال ثعلب في " أماليه " : يقال هو في خيرٍ كولغ الذئب أي دائم متصل انتهى. فكأنها لا تساق نظامها و أتزان ألفاظها تجيء مسرودةً منضودةً، لا تفصل بينها فترة عيَّ، و لا تنحو بها هجنة هذرٍ، كما أن ولغ الذئب نسق واحد، كعد الحساب السريع، و كحظ الكاتب الوشيك، و وزنها على هذا فعلة، و أصلها ولغة، و هم يستثقلون حركة الواو بالفتح، فيقلبونها لذلك يقولون في واحدٍ: أحد، و بالكسر فيقلبونها يقولون في وسادة إسادة، و ينتهي بهم استثقال الحركة على الواو أن يسقطوا الكلمة بالواجدة، و يتخذوا غيرها عنها عوضاً مثل ما أهملوا الكلام بودد و ودع، و استغنوا عنهما بترك، فكيف إذا اتفق أن حركة الواو بالضمة، و هي أثقل الحركات على جميع الحروف و على الواو خاصة، فنقلوا حركة الواو إلى اللام فبقيت الواو ساكنة، و ليس يبتدأ بساكن، فحذفوها فصار لغة - كما ترى

فإن قيل: إن النسبة إلى اللغة بلغوي يبطل هذا لأنه كان يجب أن يقول: ولغي؟ فجوابه ما ذكرناه في مقدمة الفصل، على أنه يجوز أن تكون النسبة جاءت مقلوبة مثل لعمري و رعملي، و يكون غرضهم في قلبها عند الجميع شيئين: أحدهما أن لا يبتدأ بالواو مضمومة، و الثاني: لكيلا يفجا السمع تغير بين المنسوب و المنسوب إليه في أول الاسم و مقدمه، و المقدم هو المهم عندهم، و المقلوب في كلام العرب مما يجوز القياس عليه لكثرته، قال أبو عبيد القاسم بن سلام في " غريب الحديث " : إن رجلاً سأل رسول الله ( فقال أنا نصيب هوامي لإل. فقال ( : " ضالة المؤمن - أو المسلم - حرق النار " و فسره أبو عبيد فقال: الهوامي الضوال، و اتبع ذلك شرحاً طويلاً ثم قال: و ليس هذا من الهوائم في شيء، لأن الهوائم جمع هائم، إلا أن تجعله من المقلوب مثل قولك: جذب و جبذ و ضب. فتبين لنا بهذا القول أنه يجوز القياس عليه، و تأمل كلامه يغنينا عن إطالة القول في معناه. و بالله التوفيق.
بسم الله الرحمن الرحيم القسم الأول من كتاب " أدب الخواص " في ذكر الشعراء المراقسة: الباب الأول: - من هذا القسم في ذكر امرئ القيس الأكبر صاحب اللواء و ذكر قبيلته كندة.

فصل جعلناه مقدمة لهذا الباب، نذكر فيه الكلام على لفظة " امرئ القيس " من طرق النحو و اللغة، و بالله التوفيق. قالوا: يقال مَرء - بوزن فعل - و مُرءٌ - بالضم فيه - و أنثاه مرأة، و قد تحذف الهمزة و تلقى حركتها على الساكن الذي قبلها فيقال: مَرَةٌ، و قد يقال: مراة. قالوا: و هو أبعد اللغات. و يقال: هذا مرء و رأيت مرأ، و مررت بمرءٍ، و قد روي أنه يقال: هذا مرء و رأيت مرأ، و مررت بمرءٍ، فتجعل حركة الميم تابعة للإعراب، و ذلك لضعف الهمزة عن تحمل الإعراب فجعلوا الميم تابعة لها، لتقوا بذلك، و تخطوا إلى الميم دون الراء لئلا تخرج إلى الثقل بتحريك عينه، و هم يهربون إلى تسكين المحرك لثقله، و يقال في تثنيه: مران و مرآن، و في تثنيته مؤنثه: مرأتان و مرتان و مراتان جمع له من لفظه، ما حكى عن أبي سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري - مولى جميلة بنت قبط بن يزيد بن عمرو بن حديدة بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن الأزد، و جميلة هذا زوج مالك بن أنس بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب أبن عامر بن غنم بن عدي بن النجار - و إنما سمي النجار لأنه ضرب رجلاً فقيل: كأنما نجره - و هو تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة - أنه قال في بعض قصصه: يا أيها المروون، فجمعه على أصله، ذكر ذلك عنه أبو محمد جعفر بن درستويه النحوي في " شرح الفصيح " و يقال على هذا في جمع المرأة مرآتٍ، فأما امرؤ و امرأة فمنتقل عن أصله بألف وصلةٍ، و نحن نحتاج إلى مزيد في شرحه، و ذلك أنه اسم، و ألف الوصل من خواص الأفعال، لأنه يعرض فيها ما يحتاج لأجله اليها، و هو أن المستقبل كان من حقه أن يكون مفتوح الأول على قياس ماضيه فيقال: يعمل و يصنع، فثقل عليهم توالي أربع حركات، و لم يكن إلى إسكان الأول سبيل، لتعذر الابتداء بالساكن، و لا إلى إسكان الثالث لأنه عين الفعل،و بحركته يعرف اختلاف الأبنية، و لا إلى إسكان الرابع لأنه مركز الإعراب، فأسكنوا الثاني إذ كان لا يمنع من تسكينه مانع، فصار يعمل، فلما احتاجوا إلى الأمر حذفوا حرف المضارعة الذي هو الياء المخبرة عن فاعل غائب لغناهم عنها، و ذلك أنها علامة الاستقبال و الأمر لا يكون إلا مستقبلاً، لا يجوز أن تأمر بماضٍِ فأغنت هذه النصبة عن حرف الاستقبال، مع طلبهم التخفيف،فبقيت فاء الفعل ساكنةً، و ليس يجوز الابتداء بساكنٍ فاحتاجوا إلى الهمزة ليتوصلوا بها إلى النطق بالساكن، إلا أن يكون معتلاً أو مدغماً، فيكون اعتلاله أو إدغامه قد حرك أوله، و الرباعي و ما وراءه من الأبنية يجري هذا المجرى، و التأمل له مع هذا المثال الذي أوردناه يغني عن استقرائه، و قصدوا الهمزة لعلتين: إحداهما أنها أول مخرجا، فكانت أول شيء ليقيم من الحروف عند الاستقراء، و العلة الثانية: تيسر حذفها عند الأدراج، و سميت الهمزة ألفاً لأنها تنقلب إلى الألف قوال " راس " و أصله " رأس " و قد تنقلب ياء في قولك " ذيب " و قد تنقلب واواً في قولك " سرو " إذا لينت " السرو " و هو البقية، ومنه سائره - مهموزاً - أي أخذت بقيته - و الناس كثيراً ما يغلطون هاهنا فيخبرون بسائره عن جميعه، و ذلك خطأ، وأصله ما بينته لك.

و علة أخرى في تسمية همزة الوصل ألفاً و هي أن الهمزة - كما قلنا - في أول المخارج، و الألف فهي أول الحروف المرتبة للمعجم، فكان بينهما بذلك مناسبة أوجبت الاشتراك في التسمية، و لذلك خصت الهمزة باسمها دون الواو و الياء، و قد ينقلبان عنها. و مما قد يسأل عنه أنه يقال: كيف كانت صورة عند إحضارها؟! و هل كانت متحرك أو ساكنة؟ فإن كانت متحركة فبما إذن استحقت الحركة، لأن الحروف كلها حقها أن تجيء مرسلة عطلا حتى تستحق الحركة بعد ذلك بأحد الأسباب الموجبة؟ و إن كانت ساكنة فكيف يتوصل بالساكن إلى النطق بالساكن؟ و الجواب عن هذا أنها أحضرت ساكنة في نية المتحرك، لأنهم قصدوا بها الابتداء، فوجب لها بهذا القصد شيء من الحراك و وجب عليها بأنها لم تبتدأ بها بعد السكون، فكانت في منزلة بين ذينك، وهي السكون بنية الحركة، فلما ألصقوها بالكلمة حركوها إلى الكسر، و إنما كانت بشريطة التقاء الساكنين " 000 " لأن تحريك التقاء الساكنين بناء، و وجدوا الفتحة و الضمة و يكونان للإعراب و البناء، و رأوا أن الكسرة لا تكون إلا للبناء فاختاروها لذلك، و لعلل غيره يطول ذكرها.و قد تجيء ألف الوصل مضمومة في الفعل الذي عينه مضمومة مثل " يقتل " و العلة في ذلك أن ألف الوصل لو جاءت هاهنا مكسورة لكان اللسان ينتقل من كسر إلى ضم، لأن فاء الفعل الساكنة حاجز غير حصين فينقل، مع أنه يكون بمنزله " فعل " و ليس هذا من أبنيتهم، و عدلوا إلى الضمة دون الفتحة لئلا يلتبس بإخبارك عن نفسك إذا جئت به على الوقف فقلت: " أقتل " و إذا أدرجت سقطت ألف الوصل للغنى عنها بلقاء الساكن متحركاً مما قبله، فلما كانت ألف الوصل من لواحق الأفعال لم يستحقها من الأسماء إلا ما شابهها، و هي أسماء قلائل، جانست الأفعال في حذف الأواخر شيء يلزم الأفعال لكونها متصرفة متقلبة في قواليب الأمثلة، و كانت أواخرها أخص به لا " 000 " التعبير بها من جهة كون الإعراب فيها، و لتطرقه في الجزم عليها، فلما جانست هذه الأسماء استحقت 000 لمشاركة في بعض الخصائص، فزيدت فيها ألف الوصل، مع دعاء الحاجة إلى ذلك في بعضها أن يكون أولها. فمن تلك الأسماء امرؤ، وكان أصله مرء بوزن فعل، و الدليل على ذلك تصغيرهم إياه على مريءٍ، بوزن فعيلٍ، و قال الشاعر - و يمر خبره مستقصى في باب هلهل إن شاء الله - :
قتلنا مريء القيس غصباً بربه ... بواءً و أطلقنا إليهم مهلهلاً

و قد سموا بمريءٍ، وفي دليل من عبد القيس رجل اسمه مريء، و في الأنصار من الخزرج رجلان اسم كل واحد منها مريء، و ليس بشاهد لنا لأنه تصغير مرءٍ، قبل إدخال ألف الوصل، و لذلك لم نسق أنسابهم، فوقعت الهمزة لام الفعل و هي تعتل كاعتلال حروف المد اللين، مع ما فيها من الضعف بكونها أخيراً، و من الاستعداد للتغيير بالتخفيف و غيره، فقل احتمالها للإعراب، و كان ضعفها و عجزها من الإعراب الذي هو حلي الكلمة و قيم معناها كعمدها، و حضورها عندهم كمغيبها، فعدوا هذا الاسم مما آخره محذوف، و رأوا أنه يستحق شيئاً من آلات الفعال لمشابهته إياها بهذا النقص، فأعطوه ألف الوصل في أوله، بعد أن اسكنوا فاءه التي هي الميم، ليزيد عذرهم بياناً في إدخال ألف الوصل، و ليكون مورد ألف الوصل على الميم ساكنة كموردها على فاء الفعل الساكنة، و لتستوفي في هذا التعويض الذي أعطته كلية المشاكلة. و حركوا الراء لعلتين: إحداهما أنهم لما أسكنوا الميم - كما قلنا - لم يجز بقاء الراء ساكنه لئلا يلتقي ساكنان، و ليس يسوغ ذلك في النطق. و الثانية:الاحتزاز من تطرق التغيير على الهمزة بكونها متحركة قبلها ساكن. و اختلف بعد ذلك في حركة الراء. فبعض العرب يلزمها الفتح، فيقول: رأيت امرأً، و هذا امرأً، و مررت بامرئٍ، و يقول إنه لما اضطر إلى تحريكها ذهب بها إلى الفتح لأن أخف الحركات. و بعضهم - و هو الأكثر الأشهر - يجعل الراء تابعة للإعراب الواقع على الهمزة، فيقول: هذا امرؤ، و رأيت امرأً، و مررت بامرئٍ، و ذلك لأن الهمزة على ما قدمنا من الضعف، فعضدوها بمشاركة الراء لها، و تحملها الإعراب معها، و من أجل هذا لم يضموا الألف في قولهم: هذا امرؤ، و لم يتبعوها ضمة الراء، كما ضموضها في قولك: " أقتل " اتباعاً لضمة التاء، و ذلك لأن الراء ليست الضمة لازمة لها، و إنما هي أحد وجوه تصاريفها. و بعض الناس يرى أن الإعراب واقع على الراء، و إن حركة الهمزة مفحمة لا يعتد بها مثل قولهم: يا طلحة أقبل، و هم يريدون: يا طلح أقبل. و لو أرادوا المناداة باسمه من غير ترخيم لقالوا: يا طلحة أقبل، بضم الهاء على حكم الاسم المفرد، و هذا القول غير طائل في قولهم: امروء، من أجل أنه يحصل الأعراب في وسط الاسم، و ذلك لا يتمكن في كلامهم، و العلة في ذلك أنه لا يكون في أوله من أجل استحقاق الأول للحركة، إذ كان لا يقع الابتداء بساكنٍ، فلما استحق الحركة اللازمة كان بمنزلة ما استحق البناء فلم يعربوه في أوله، لأن الإعراب يتغير و ينتقل، و من رأيهم أن يبنوه، و لم يجز أن يعربوه في وسطه لئلا يختل نظام الأبنية، فلم يبق غير آخر فأعربوه فيه، و وجه آخر: أن الإعراب يستحقه الاسم بعد تمام الاسمية فيه، فكان الوجه على هذا أن يعرب في آخره على نحو قولهم: امرؤ، و اتباعهم الراء حركه الهمزة، أجروا قولهم ابنم، و قد استقصينا شرحه بعلله و شواهده في غير هذا الكتاب.
و أما قولنا: امرأة فحركت الراء بالفتح، لأنه أخف الحركات، و تحصنت عن أن تتبع حركة الإعراب، لأن الهمزة استغنت عن حرف يعينها في حمل الإعراب، لانتقاله عنها إلى الهاء الموردة للتأنيث مع استفادتها - أعني الهمزة - بعض القوة لتوسطها و احتجازها عن التطرف بالهاء التي بعدها. و الكلام في هذه المسألة يتسع لأكثر مما قلناه، و لكنا نرى الاختصار.
و إذا نسبوا إلى امرئ القيس قالوا: امرئي بوزن امرعي بكسر الراء، و اقتصروا بالراء على الكسر لمكان ياءي النسبة و استدعائهما الكسر في المشاكلة، هذا القياس عند أبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، مولى بني الحارث بن كعب، من مذحج، و عند عامة النحويين، و الذي تكلمت به العرب مرئي، بوزن مرعي، و هو عند أهل العربية على الشذوذ، و قال ذو الرمة غيلان بن عقبة بن بهيشٍ - بالشين معجمة - بن مسعود بن حارثة بن عمرو بن ربيعة بن ساعدة بن كعب بن عوف بن ثعلبة بن ربيعة بن ملكان - في قضاعة ملكان و في السكون ملكان و الباقي كله ملكان - بن عدي بن عبد مناة بن ادبن طابخة - و اسمه عامر - بن الياس بن مضر، في هجائه هشام بن قيس المرئي:
و يسقط بينها المرئي لغواً كما ... ألغيت في الدية الحوارا
إذا رئية ولدت غلاما ... فألام ناشيء نشيغ المحارا

و كرر ذكر المرئي في أبيات كثيرة لا نرى الإطالة بإنشادها، و يجوز أن تنشد بالتخفيف فتكون ألزم لطريق القياس، على أنه منسوب إلى مرءٍ من قولك مرء القيس.
قال أبو بكر الأنباري: يجوز في اللفظ به أربع صيغ: تقول هذا أمرؤ القيس - بضم الراء - و هذا امرؤ القيس - بفتح الراء - و هذا مرء القيس - بفتح الميم و تسكين الراء - و هذا مرء القيس - بتسكين الراء و صم الميم - فيقال على هذا: المرئي، و ليس يخل بالوزن إلا أن السماع في هذا البيت و في غيره من كلامهم مرئي - بالتحريك - و لعلهم حركوه خيفة التباسه بقولهم: رجل مرئي، أي منظور إليه، و مرئي أيضاً من رايته إذا أصبت رئته، مثل: قلبته إذا أصيب قلبه، و مثل قولهم: قتله، و إنما يعنون أصبت قاتله أي نفسه، و القتال النفس قال الشاعر: يدعن الجلس نحلا قتالها و في نحو منه قولهم: بحت بالشيء، إنما يعنون به أظهرت ما في بوحي، و البوح النفس و قال أبو جعفر محمد بن حبيب مولى بني هاشم: كل امرئ القيس في العرب فالنسبة إليه مرئي كما جاء في شعر غيلان إلا صاحب اللواء فإن النسبة إليه مرقسي، مثل عبشمي و عبدري.
و جمله القول اللغوي في هذه الكلمة أن المرء الرجل و المرأة تأنيثه، و أصل هذا الباب الجري، فيقال: امرأة كما يقال: جارية، لأنها تجري في نمو و شباب، و كذلك الرجل أيضاً، ومنه الشيء المريء، يراد به الذي يجري في مجاريه و يسوغ أن يقصد مصدره المراءة، بوزن المراغة، و يقال: مرأ الطعام يمرأ مراءة، كما يقال: قمأت الماشية تقمأ قماءة، و مرو الرجل يمرو، كما يقال: قمو الرجل يقمو، عن محمد بن زياد الأعرابي. و يقال: استمرأت الطعام و هذا يمريء الطعام أي يسهل جريه و ينفذه، و منه المريء من الحلق، و هو المسترط، الذي يجري فيه الطعام و الشراب إلى المعدة، و جمعه أمرئة على أفعلة، و مرؤ - بوزن فعل مضموم الفاء و العين - و أبو أسامة يروي هذا الحرف في " غريب المصف " مشدداً غير مهموز قال: هو المري، و كأنه من مريت الضرع أي مسحته و لينته، و سهلت مجاري اللبن فيه. قال أبو أسامة: و قد روي المريء مهموزاً و هو جائز حسن، فأما أبو الحسن ثابت فرواه بالهمز لا غير، و قال أبو عبد الله بن الأعرابي في كتابه الذي سماه بكتاب " الإبل " : المري - غير مهموز - التي تحلب على غير ولد، و إنما سميت مرياً لأنها تمري بالأيدي فلا تكون مرياً و معها ولدها.
و يقال هنيئاً مريئاً: أي جارياً لذيذاً سائغاً قال الله عز و جل (فكلوه هنيئاً مريئاً) و قال كُثير بن عبد الرحمن - بن الأسود بن عامر بن عويمر بن مخلد بن سعيدة بن سبيع بن جعثمة بن سعد بن مليح بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو مزيقباء بن عامر ماء السماء بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن الأزد - و كان يقال له: أبن أبي جمعة ينسب إلى جدة من قبل أمه و هو أبو جمعة الأشيم بن خالد بن عبيد بن مشبر بن رياح بن سالم بن غاضرة أبن حبشية، و قد رأيت بخطوط رؤساء من أشياخ النسب حبشية - مشدد الياء و الأول أثبت - و هو قول ابن حبيب. و الحبشية النملة الكبيرة، و حبشية هو ابن كعب بن عمرو و كعب أخو مليح بن عمرو - :
هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامر ... لعزة من أعراضنا ما استحلت
و قد قيل في نسب كثير قول آخر ما يضرنا ذكره: كان بعض قوم كثير يقولون: أنهم من ولد الصلت بن النضر بن كنانة، و في ذلك يقول كثير:
أليس أبي بالنضر أم ليس أسرني ... بكل هجان من بني النصر أزهارا؟
إذا ما قطعنا من قريش عصابة ... فأي قسي تحمل النبل ميسرا؟
لبسنا ثياب العصب فأختلط السدى ... بنا و بهم و الحضرمي المخضرا
فإن لم تكونوا من بني النضر فاتركوا ... أراكاً بأذناب الفوائج أخضرا
قال هذا الشعر يخاطب به أبا علقمة ميسر بن حدير بن علقمة بن أبي الجون - و اسم أبي الجون عبد العزى - بن سعد بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس بن حرام بن حبشية بن كعب فقال ميسرة يرد عليه في رواية النسابة الهاشمي من أهل حلب، و قال غيره: إنها للحوص - :
لعمري لقد جاء العراق كثير ... بأحدوثة من وحيه المتكذب
اتزعم أني من كنانة والدي ... و ما لي من أم هناك و لا أب

و لما ذكر العراق لأن عبد الملك كان دعا كثيراً إلى هذا النسب فأجابه، و أجابته خزاعة الحجاز فسار كثير إلى خزاعة العراق يدعونهم فأبوا، و بلغ ذلك الأحوص - أو ميسرة - فقال هذا الشعر، و روى زبير بن بكار عن رجاله أن كثيراً ينسب نفسه و قومه إلى النضر بن كنانة، و قال لأبي علقمة ميسرة:
أبا علقم أكرم كنانة إنهم ... مواليك إن أمر نبابك مقلق
بنو النضر ترمي من ورائك بالحصا ... أولو حسب فيهم حفاظ و مصدق
إذا ركبوا ثارت عليك عجاجة ... و بالأرض من وقع الأسنة أولق
هم ملوكهم من تهامة منزلاً ... و لولاهم كنتم أباء يحرق
فلا تكفرن قوماً عززت بعزهم ... أبا علقم فالكفر بالريق يشرق
في أبيات. قل الزبير: فأجابه الأحوص بن عبد الله بن محمد بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح - اسم أبي الأقلح قيس - بن عصمة بن مالك بن أمة بن ضبيعة بن زيد ب مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس.
فإنك لو أعذرت أو قلت شبهة ... لذي الحق فيها و المخاصم مغلق
عذرناك أو قلنا: صدقت و إنما ... يصدق بالأقوال من كان يصدق
ستأبى بنو عمرٍو عليك و ينتهي ... بهم حسب في جذم غسان و معرق
يعني بني عمرو مزيقاء
و إنك لا عمراً أباك حفظته ... و لا النضر إذ ضيعت شيخك تلحق
فأصبحت كالمهريق فضلة مائه ... لباقي سراب بالملا يترقرق
و جميع أهل العلم بالنسب يقولون: إن الصلت بن النضر درج، و يباطلون دعوى كثيرٍ.
و قد قال آخرون:إن خزاعة من ولد قمعة و هو عمير بن الياس بن مضر، و أحسب أن القتبي روى ذلك، و الأول هو الصحيح. و كثير يكنى أبا صخر، و كان ينسب إلى عزة بنت جميل أبن حفص بن اياس بن عبد العزى بن حاجب بن غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة.
و نعود إلى سبيلنا الأولى. و قال عبد الله بن همام أحد بني مرة بن صعصعة أبن معاوية بن بكر بن هوزان بن منصور بن عكرمة بن خفصة بن قيس بن الناس بالنون و هو عيلان بن مضر. و أم ولد مرة بن صعصعة سلول بنت ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكاية أبن صعب بن علي بن بكر بن وايل فإليها ينسبون:
اشرب شرابك و انعم غير محسود ... و اكسره بالماء لا تعض أبن مسعود
إن الأمير له في الخمر مأربة ... فأشرب هنيئاً مريئاً غير تصريد
و يعني عامر بن مسعود بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لوي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. و كان اسم جمح بن عمرو تيماً، و اسم أخيه سهم بن عمرو زيداً، فقعدت يوماً أمهما الألوف بنت عدي بن كعب بن لؤي بن غالب، و معهما أترجة من ذهب، و قيل من فضة، فدحت بها و قال لأبيها: استبقا إليها فمن أخذها فهي له. فأخذها سهم. فقالت: كأنك و الله يا زيد سهم مرق من رميته، و كأن شيئاً جمح بك عنها يا تيم، فسمي هذا جمح و سمي هذا سهماً.
و عامر بن مسعود هذا كان يلقب دحروجة الجعل لقصره، و في ذلك يقول عبد الله بن همام السلولي:
واشف الأرامل من دحروجة الجعلِ
و اصطلح أهل الكوفة على عامر بن مسعود عند موت يزيد بن معاوية، و هرب عبد الله بن زياد، فأمروه عليهم، فأقره عبد الله بن زيد اشهراً ثم عزل، و خطب أهل الكوفة في أيام إمارته عليهم فقال: إن لكل قوم أشربة و لذات فاطلبوها في مظانها، و عليكم بما يجمل منها و يحل، و اكسروا شرابها بالماء، و تواروا عني بهذه الجدارات فلذلك قال عبد الله بن همام الشعر المتدم، و قال فيه غيره من الشعر:
من ذا يحزم ماء المزن خالطه ... في قعر خابية ماء العناقيد
إني لأكره تشديد الرواة لنا فيها و يعجبني قول ابن مسعود و لما بلغ ابن مسعود قول عبد الله بن همام قال: قطع الله لسانه عدل الحمار فقد أساء القول. ذهب إلى قول الأخطل:
بئس الفوارس عند مختلف القنا ... عدلا الحمار محاربٌ و سلولُ
و قال آخر - أنشدنيه محمد بن الحسين عن إسحاق بن إسماعيل الطاهري عن المبرد - :
كل هنيئاً و ما شربت مريئاً ... ثم قم صاغراً فغير كريم

لا اُحب النديم يومض بالعين ... إذا ما انتشى لعرس النيم
و المروؤة مصدر المرء كالرجولة مصدر رجل، و قال الفراء: أنه سمع إعرابياً قيل له: فلان امرؤ سوءٍ فقال: و ما رأيت من مروؤة سوئه؟ و لا فرق عندي بين أن يقال: في فلان مروؤة و بين أن يقال: فيه رجولة، أو فيه إنسانية، إلا أن المروؤة قد نقات عن أصلها الذي وضعت له إلى صفات خاصة.
و قد أحكمنا أمره وضع الأسماء و نقلها في كتاب غير هذا.
و اختلف الناس بعد في المروؤة، و أحسن الأقوال فيها ما أخبرنا به عن أمير المؤمنين على - صلوات الله عليه - إنه قال: المروؤة موصوفة في كتاب الله عز و جل حيث يقول: (إنَّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ و الإحسانِ، و إِيتاء ذي القربى، و ينهى عن الفحشاءِ و المنكرِ و البغي) و قال السمي القاضي: المروؤة أن لا تصنع شيئاً في السر تستحيي منه في العلانية. و قال الحسن بن سهل - و أحسن - : نعم العون على المروؤة احتشام العامة. و الكلام في هذا طويل لا يقتضيه هذا الموضع.
و يقال للرجل: مريء إذا كان ذا مروؤة، على وزن فعيل، كما يقال له: رجيل، إذا كان ذا رجولة، قال عبد الله بن غويث الفقيمي - من فقيم بن جرير بن دارم - :
وقد علم الجاني الفقيمي أننا ... مصاليط حمالون عنه مثي الدم
و لا يمنع الإصرام منا مروؤة ال ... مرئ و لا أكرومة المتكرم
و منه يقال: أمرؤ القيس، أي رجل القيس، و القيس الشدة، قال الشاعر - أنشدنيه أبو أسامة - :
و أنت على الأعداء قيسٌ و نجدةٌ ... و للطارق العاني هشامٌ و نوفلُ
النوفل: كثرة العطاء، و الهشام نحوه، و ما أعرف قائل البيت إلى اليوم، الذي أعرفه أبيات لحريث بن عناب الطائي يقول فيها:
إلى طلحة الفياض أعلمت نصها ... تخب برجلي تارة ثم ترقل
إذا ما أتاه سائل عن جنابه ... يكون شفيعه هشام و نوفل
في شعر طويل يمدح به طلحة بن عبد الله بن عوف و هو أبن أخي عبد الرحمن بن عوف، و قد استقصينا أنسابهم في مواضعها من كتابنا الكبير.و أخبروني بعض أهل البحث أنه وجد الفراء يقول في بعض كتبه: أن القيس الذهب، و أن امرأ القيس قيل له ذلك على معنى كالتفضيل له، و القيس مصدر قاس يقيس قيساً مثل القياس.
و قال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري رحمه الله: فيه وجوهاً " ؟ " ثلاثة غير هذه قال: القيس العرد و هو الذكر، و القيس الجوع، و القيس مثل الريس و هو التبخر. و من الناس من يقول: أن امرأ القيس لقب، و أن اسم امرئ القيس بن حجر حندج، و الحندج الرملة، 0000 قال غيلان:
تبسسن عن غر كأن رضابها ... ندى الرمل مجته الذهاب القوالس
على أقحوان في حناديج حرة ... يناصي حشاها عانك متكاوس
و لا يبعد هذا عندي، لأنني أرى امرأ القيس اسماً مستعملاً عند أهل العرب للشريف و الدنيء، و هو كعبد القيس، بل أكثر استعمالاً. و قال ثعلب: امرؤ القيس بمنزلة عبد الرحمن و عبد الله، و لو أحصينا كلَّ من اسمه امرؤ القيس لطال، و إنما غرضنا من قال الشعر فقط. و الله الموفق.
فصل في نسب امرئ القيس بن حجر و هو المقدم على جميع المراقسة، و غيرهم من الشعراء. قال: اسمه حندج و لقبه امرؤ القيس، و الصحيح عندي أن اسمه امرؤ القيس، و كنيته أبو الحارث في قول أبن دريد. و قال غيره " 0000 " و قال آخرون: أبو عمرو و قال آخرون: أبو بهشة باسم بنته. و قول أبن دريد اثبت الأقوال عندي.
و كان يقال له ذو القروح و ذو القرح، و في ذلك يقول عيينة بن مرداس بن شميخ الكعبي كعب بن عمرو بن تميم:
علا الشيب أخداني و خلَّى مكانه ... أبو طمحان و أبن أمِّ داود
و ذو القرح فاخترت القوافي و بعده ... تراث ثمود الأولين و عادِ
أبو الطمحان القيني حنضلة بن الشرقي، و أبن أم داود: أبو داود الأياديُّ، حارثة أبن الحجاج الشاعرين المعروفين. و في عقيل رجل يقال له ذو القرح، و هو كعب بن خفاجة، و اسم خفاجة معاوية بن عمرو بن عقيل.
و كان يدعى امرؤ القيس الملك الضِّلِّيل، و للبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب في ذلك قول مشهور، و لا نرى التثقيل بذكره.

قالوا: و هو امرؤ القيس بن حجر الملك الذي قتلته بنو اسد ابن الحارث الملك، بن عمرو المقصور، الذي اقتصر به على ملك أبيه عن يعقوب بن السكيت و قال أحمد بن عبيد: إنما سمي المقصور لأنه قصر على ملك أبيه و جده، كأنه كرهه فملك شاء أو أبى ابن حجر الأكبر، و هو آكل المرار و في تسميته بذلك أقوال: قال أبو نصر: إنما سمي آكل المرار لأنه غضب غضبة فجعل يأكل المرار، و هو نبت شديد المرارة و لا يحس به من غضبه، و قيل: إنما سمي بذلك لكبره، و المتكبر كأنه مقلص الشفة. و قال أبن دريد إنما سمي بذلك لأنه كان أفوه، و البعير إذا اكل المرار تقلص مشفراه، فشبه به و هو لقبه، و قال أحمد بن عبيد و غيره: إنما سمي بذلك لأن ملكاً من ملوك اليمن أسر امرأته و قال قوم: بنته فقال لها: ما ظنك بحجر؟ فقالت: كأنك به و قد طلع عليك كأنه جمل آكل مرار. قال: و الجمل إذا أكل المرار أزبدَ، و قيل: بل أرادت كشره عن أسنانه. و هو حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية و النسابون يسمونه بكندي الأصغر بن ثور بن مرتع و سمي مرتعاً لأنه كان يأتيه الرجل يسأله أن يقطع له من أرضه قطيعة ليرتع فيها سائمته من أبله و غنمه فيرتعه و اسمه عمرو بن معاوية بن كندي و هو كندة و هما اسمان له، قالوا: لأنه كند أباه أي عقه و كفره و قال: بل كنَّد على أخيه فقتله و اصل الكند القطع، و قال الله عز و جل: ( إن الإنسان لربه لكنود) أي قطوع لما بينه و بينه بالكفر. نعوذ بالله من سخطه، و من حرمان توفيقه، و مع هذا التأويل فالله أعلم بكتابه.
و قال الأعشي الكبير:
احدث لها تحدث لوصلك إنها ... كند لوصل الزائر المعتاد
أي قطاعة و قال أيضاً:
اميطي تميطي بطب الفؤاد ... و صول حبالٍ و كنَّادها
أي قطاعها و قال أيضاً:
و لكن لا يصيد إذا رماها ... و لا تصتاد عاتية كنود
أي قطوع للوصل. و قال سوار بن قطن الهميمي بن هميم بن عبد العزي بن يقدم بن عنترة بن ربيعة و يقال: إن هميم من قسرٍ من بجيلة، و رأيت أبن الكلبي يثبت ذلك و الأول اشهر:
سأل حنيفة يوم وقعتنا ... بنحاة إذ جاروا عن القصد
و تيمَّموا بأمر يمامتهم ... و تكندوا غدرا على عمد
تكندوا: أي أبطنوا الغدر و الكفر و قد سميت العرب بكندي غير هذا، و في طيء فارس جليل، يقال له كندي بن حارثة بن لام بن عمرو بن طريف بن عمرو بن ثمامة بن مالك بن جدعا مقصور مثل سكرى، و اسم جدعا لوذان بن ذهل بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن قطرة بن طيء، و في طيء أيضاً كندة بن الضحاك بن هذيم بن خبأ بن الصهو بن باعث بن خويص و باعث هو الذي أغار على إبل امرئ القيس، و سيرد خبره و نسبه إن شاء الله.
و أسم كندة ثور بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن ادد، و أم مرة مدلة بنت ذي منجشان بن كلَّة بن ردمان بن حمير كذا قال الكلبي و غيره، و ما يحضرني صلة نسبها، و الذي اذكره أن في حمير ردمان بن وائل بن رعين بن زيد بن شهل و كنت رأيته بخط شبل بن بكير النسابة في عدة مواضع، شهل معجمةً ثلاثاً من فوق، و لا أدري ما صحة ذلك.
و كان أدد تزوج بها فولدت له مرة هذا و نبتاً و هو الأشعر و تزوج بعدها أختها دلة بنت ذي منجشان فولدت جلهمة ين أدد، و هو طيء، و مالك بن أدد. و دلة هذه هي التي يقال لها مذحج، باسم اكمة ولدت ابنيها عليها، و قال أبن الأعرابي في ذلك قولاً اعجب إلي من هذا القول، و ذاك أنه قال: اذحجت على ولدها فسميت بمذحج لذلك، و اذحجت: لزمت عند ابن الأعرابي، و غيره من اللغويين يقول: ذحجته الريح إذا جرته من موضع إلى موضع، و الذحج عندهم مثل السحج. و أدد هو أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبا و أسمه عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان. قال هشام الكلبي: ذكر بعض النساب أن كندة بن ثور بن عفير بن معاوية بن حيدة بن معد بن عدنان، و يحتجون بقول امرئ القيس:
تالله لا يذهب شيخي باطلاً ... خير معدُّ حسباً و نائلاً
و من غير هذه الرواية: يا خير شيخٍ حسباً و نائلاً

و قال آخرون أن كندة من ولد عامر بن ربيعة بن نزار بن معد، قالوا: و لذلك كانت محلة كندة و ربيعة و دارهما في الجاهلية الجهلاء واحدة، و مناخهم في المواسم معاً، و كانوا متحالفين، متعاقدين، و مما يحقق هذا عندهم قول أبى طالب بن عبد المطلب:
00 - 00 إذ ترمي 0000 عشيها ... يجوزها حجاج بكر بن وائلِ
حليفان شداً عقد ما اختلفا له ... و ردا عليه عاطفات الوسائلِ
قالوا: يعني بعاطفات الوسائل هاهنا الأرحام، و الله اعلم بالصحيح، و أم امرئ القيس في قول الحذاق من رواة الشعر فاطمة بنت ربيعة، أخت مهلهل بن ربيعة. فأما النسابون فقالوا: أمه قتيلة بنت يزيد بن امرئ القيس بن عمرو بن حجر الأكبر و الله أعلم.
فصل: يتعلق بهذا الفصل المفرد لذكر نسب امرئ القيس: ذكرنا عند ذكر ذي القرح لقب امرئ القيس عيينة بن مرداس الذي يقول فيه:
و ذي القرح فاخترت القوافي بعده ... تراث ثمود الأولين و عاد
و علمنا أن قارئ الكتاب ستتطلع نفسه إلى الوقوف على مقدار هذا الشاعر من الشعر لسعة دعواه، و تجاوزه مداه فأوردنا أبياتاً من شعره ليستدل بها على قدره، و بالله التوفيق.
قال عيينة بن مرداس بن شنيخ الكعبي كعب بن عمرو بن تميم و يقال له أبن فسوة و إنما قيل له ذلك لأنه كان في قومه رجل آخر يقال له أبن فسوة فأتى عيينة فباعه اللقب فاشتراه منه فلصق به و قال ذلك الرجل:
حول مولانا عليه اسم أمنا ... ألا رب مولى ناقص غير زائد
أ عاذل إن اهلك فلم اقض لذة ... من الدين و الإسلام و المرء تالف
من البيض أجياداً كأن خدودها ... دنانير يجلوها لتنفق شائف
و أنّا لقوامون وسط رحالنا ... إلى الصف قارٍ في الإناء و لاحف
و لا ننكر الأضياف إن ينزلوا بنا ... و كل كريم للنزالة عارف
و من قوله يهجوا بني سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة،و كان نزل عليهم بأرضهم و هي زمُّ فلم يحمدهم:
إذا ما لقيت الحيَّ سعد بن مالك ... على زمَّ فأرحل خائفاً أو تقدم
أناس أجارونا فكان جوارهم ... شعاعاً كلحم الجازر المتقسم
و من قوله:
نحن إلى برق بنعمان بعد ما ... مضت أربع يعددن من أول الشهر
فحنت حنيناً مثله هيج الذي ... به الشوق مشغوف الفؤاد و ما يدري
و من قوله و كان هجاءً خبيثاً يذم عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بقصيدة أولها:
ذكرت لبرق آخر الليل ضوءه ... يضيء حبيَّ المنجد المتغوِّر
يسور و يرقى في رواءٍ غمامه ... ركام تصداه الجنوب و تمتري
إذا سنحت نجدية برحت لها ... صباً فأدرَّت و دق اوطف ممطر
ثم قال:
أتيت أبن عباس أرجِّى حباءه ... فلم يرج معروفي، و لم يخش منكر
و قال لبوابيه: لا تدخلنَّه ... و سدُّوا خصاص الباب من كل منظر
و تسمع أصوات الخصوم وراءه ... كصوت الحمام في القليب المغور
و لو كنت من زهران لم تقص حاجتي ... و لكنني مولى جميل بن معمر
أتيح لعبد الله يوم لقيته ... شميلة ترمى بالحديث المفتر
و ما أنا إذ زاحمت مصراع بابه ... بذي ضولة فانٍ و لا بحزور
فليت قلوصي عربت أو رحلتها ... إلى حسن في داره و أبن جعفر
إلى معشر لا يخصفون نعالهم ... و لا يلبسون السِّبت ما لم يخصَّر
و ما زلت في التَّسيار حتى أنختها ... إلى أبن رسول الأمة المتخير
و قامت تصدى في العقال فواجهت ... بي الصبح وردا كالرداء المحبَّر
فما قمت حتى راعني ثوباؤها ... و صوت مناد بالصلاة مكبِّر

زهران بن كعب بن الحارث بن عبد الله بن نصر بن الأزد. و كان أبن عباس تزوج شميلة بنت أبي حناءة بن أبي ازيهر حليف قريش بن أنيس بن الخيسق بن مالك بن كعب بن سعد بن كعب بن الغطريف الأصغر و هو الحارث بن عبد الله بن عامر و هو الغطريف بن بكر بن يشكر بن مبشر بن صعب بن دهمان بن نصر بن زهران، و كان أعداد أبي ازيهر في دوس، فكان يقال له الدوسي، فكانت شميلة هذه عند مجاشع بن مسعود السلمي من بني سمَّال بن عوف.
" 0000000000000000 " " 0000000000000 " و يقال له محرق لأنه حرق بني تميم. ينسب إلى هند، عمه امرئ القيس، و هي هند بنت الحارث بن عمرو بن الحارث الملك بن عمرو بن حجر الأكبر.
و هو عمرو بن المنذر ذي القرنين المعزو إلى أمه ماء السماء، و هو المنذر بن امرئ القيس و أبوه امرؤ القيس يقال له محرق، و هو أول من عذب بالنار في قول الكلبي و امرؤ القيس بن النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو، و هو الذي يقال له: كبر عمرو عن الطوق هذا أول من تنصر من ملوك آل نصر في قول محمد بن جرير بن عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن مسعود بن مالك بن عمم بن تمارة بن لخم و اسمه مالك بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد.
و عمرو بن هند هو عم أبي قابوس النعمان بن المنذر، لأن هنداً ولدت للمنذر ابن امرئ القيس عمراً أبا المنذر و والد النعمان.
و قد قيل: انهم من ولد قنص بن معد، و كان هاشمينا الحلبي النسابة يقول:عمرو بن قنص بن معد. و الحكاية عن جبير لعمر في ذلك معروفة، لم نر الإطالة بها. و كان محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي يقول: قنص بضم القاف و النون.
و كان السبب في نكاح المنذر ذي القرنين هند بنت الحارث أن قباذ لما ملك و هو قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور بن يزدجرد الأثيم بن نيسابور ذي الأكتاف بن هرمس بن نرسي بن بهرام الأوسط بن بهرام الأكبر بن هرمز البطل بن سابور الجند بن أردشير بابكان سمي بذلك لكثرة من يسمي في عصره بابك، و اردشير بابكان هو أردشير بن بابك بن ساسان بن بهمن " الملك الأعظم " بن اسفيدياذ و قال محمد بن جرير: اسفنديار و هو الملقب بالشديد بن بشتاشيب و يقال: استاسف، و على زمانه ظهر زردشت الذي تزعم المجوس أنه نبيًّ، و روى المؤرخون أنه كان أثيراً عند بعض تلاميذ أرميا النبيّ عليه السلام فكذب عليه و خافه فدعا عليه فبرص، و لحق ببلاد أذربيجان، فشرع بها دين المجوسية، و تبعه قوم كثير ممن هناك، و قال لي أبي عن أبيه أنه زردشت بن بورشسم، و أن ماني الذي ينسب إليه المانوية هو ماني بن فتق، و يشتاشب هو ابن لهراسب بن قيوجي بن كيمش بن كيباشين بن كيانية و قيل: كينة بن كيقباذ بن زاب، و قيل زاع بن توذكاب بن ماني شوى بن توذر بن منوشهر بن منشحورجر و قيل: منشحوريز بن تبرك بن نبروسنج بن بابريح، بن ثرت بن فزرش بن زش بن فركون بن كرزك أو كوزك بن جوزك بن ايرح بن أفريذون بن أثفيان بن جم شيد بن ويجهان بن إيشتجهذ بن أوشهنج بن فرواك بن سامك بن نرسي بن جيومرث و يفسر ذلك حيٍّ ناطق ميت، فالحي " جي " و الناطق " يو " و الميت " مرث " و قد يسمى كلشاة، و تفسير ذلك فيما قيل: ملك الطين.
و إلى جيممرث يرجع نسب الفرس كله، و الفرس تزعم أنه آدم أبو البشر عليه السلام و نسابُ العرب يزعمون أنه حامر بن يافث بن نوح عليه السلام. و حامر غير مذكور في التوراة، و الذي خبرني به أهل العلم بها أنها دلت على أن الفرس من ولد يافث محماً و أن في أولاد يافث ولد اسمه ثيراس، يقول المفسرون أنه الفرس، و أن الفرس ولده، و لعله حامر بالعربية أو بلغة أخرى. فأما هشام بن محمد فقال: ولد فارسور بن سام بن نوح عليه السلام بيرس به سميت فارس. و قال آخرون: الفرس ولد فارص بن يهوذا بن يعقوب عليه السلام فأما جرير بن عطية فإنه نسب الفرس و الروم إلى إسحاق فقال:
و أبناء إسحاق الليوث إذا ارتدوا ... محامل موت لابسين السنورا
إذا أفتخروا عدواً الصهبذ منهم و كسرى و آل الهرمزان و قيصرا و الله أعلم بالصحيح.

فكان قباذ لما ملك ضعيفاً فوثبت ربيعة على عامله بالحيرة، و هو النعمان بن الأسود بن المنذر بن النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن عديّ، فخرج منهم هارباً حتى نزل بأياد، فمات فيهم، و كان معه المنذر بن ماء السماء، و هو أقرب منه في قُعدُدِ النسب، و سنذكر نسب أمه و خبرها بعد هذا الفصل إن شاء الله و كان مع المنذر بن ماء السماء ابنه عمرو بن هند.
و انطلقت ربيعة إلى كندة و كان الناس في الأول يقولون: إن كندة من ربيعة على ما قدمنا ذكره فجاءوا بالحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار فملكوه على بكر بن وائل، و حشدوا له، و قاتلوا معه، فظهر على ما كانت العرب تسكن من أرض العراق، و أبى قباذ لضعفه أن يمد المنذر بجيش فكتب إلى الحارث بن عمرو إنني في غير قومي، و أنت أحق من كنفي فحوله إليه، و زوجه ابنته هند بنت الحارث فولدت له عمراً المذكور، و منذراً في قول هانئ بن المنذر البهيلي النسابة و قابوساً في قول غيره.
فلما هلك قباذ و ملك ابنه كسرى و هو أنو شروان ملك المنذر بن ماء السماء على الحيرة، فأساء مكافأة بني آكل المرار، و طلبهم و سفك دماءهم، و جرى من ذلك ما ذكرناه في موضعه.
و المنذر بن ماء السماء هو الذي قتله الحارث بن أبي شمر الغساني، و جرى من أولاد الحارث أعمام امرئ القيس ما سنذكره في موضعه إن شاء الله.
و ملكت بنو أسد عليها حجر بن الحارث بن عمرو، و قيل: إن أباه كان ملكه عليها و هو أشبه، و تمليك ربيعة للحارث بن عمرو عليها قول خراش بن إسماعيل العجلي، و غيره يقول: إن قباذ هو الذي ملك الحارث بن عمرو على العرب، و ليس ذلك بثبت.